الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 576

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 576 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 264390 / تحميل: 11788
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

تخصيص الفعل بالإيجاد في وقت دون آخر أو بإيقاعه على وجه دونَ وجه.

ويدلّ على ثبوت الإرادة له - تعالى - بالمعنى المطلق أنّ العالم حادث، فتخصيصُ إيجاده بوقتٍ دونَ ما قبله وما بعده، مع جوازهما، يفتقرُ إلى المخصّص، وليس القدرة، لتساوي نسبتها، ولا العلم لتبعيته، فهو الإرادةُ، ولأنّ تخصيص ما وجد بالإيجاد دونَ غيره من المقدورات يستدعي مخصّصاً هو الإرادةُ.

ويدلّ على إثبات إرادة الفعل منّا أمرُه بالطّاعة، ونهيه عن المعصية، وهما يستلزمان الإرادة والكراهة، خلافاً للأشعريّة الّذين أثبتوا الطلبَ مغايراً للإرادة، لعدم تعقّله، وإلزامُهم بتمهيد عذر السيّد الضّارب عبده للمخالفة إذا أمره مشتركٌ.

المطلب السّادس: في أنّه - تعالى - مُدرِكٌ

اتّفق المسلمون على أنّه - تعالى - سميع بصيرٌ، واختلفوا، فقال أبو الحسين والكعبيّ والأوائل: إنّ معناه علمه بالمسموعات والمبصرات، لاستحالة أن يكونَ هو الإحساسَ بالحواس ولا ما عداه غير العلم، لأنّه غيرُ معقول، وسيأتي أنّه - تعالى - عالم بكلّ معلوم، وللسّمع.

وأثبت الجُبائيّان والأشعريّ والسّيّد المرتضى والخوارزميّ أمراً زائداً على العلم، لأنّ إدراكنا زائدٌ على علمنا؛ للفرق بينَ العلم عندَ المشاهدة وبينه

١٤١

عندَ عدمها. والمقتضي لذلك كونُ المدرك حيّاً، والله - تعالى - حيٌّ، فإدراكه زائد، والمقدّماتُ ضعيفةٌ.

ثمّ استدلّوا على ثبوته بأنّه - تعالى - حيّ، فيصحُّ أن يتّصف بالسّمع والبصر، وكلّ من صحّ اتّصافه بصفة وجب أن يتّصف بها أو بضدّها، وضدّها نقصٌ، وهو على الله - تعالى - مُحال.

والحقّ استنادُ ذلك إلى النّقل، ولا يجبُ صحّةُ اتّصاف الحيّ بالسّمع والبصر، فإنّ أكثرَ الهوامّ والسّمك لا سمعَ لها، والعقربُ والخُلَدُ (1) لا بصرَ لهما. والدّيدان (2) وكثيرٌ من الهوامّ لا سمَ لها ولا بصرَ. فلو لم يمتنع اتّصاف تلك الأنواع بالسّمع والبصر لما خلا جميعُ أشخاصها منهما. (3)

وإذا جاز أن يكونَ بعضُ فصول الأنواع مزيلاً لتلك الصّحة بطلت الكليّة. ولا يجبُ اتّصاف الشّيء بأحد الضّدّين كالشّفاف. نعم يجبُ أن يتصف القابل للصّفة بها أو بعدمها، ونمنع كونَ ضدّهما نقصاً في حقّه تعالى.

والقياسُ باطلٌ، على أنّ حياته - تعالى - مخالفةٌ لحياتنا. ولا يجبُ العموميّةُ، لانتفاء القابليّة، كما أنّ حياتنا مصحّحةٌ للشهوة والنّفرة دونَ حياته تعالى.

____________________

(1) ج: الجراد.

(2) ج: الدّيران.

(3) ج: منها.

١٤٢

المطلب السّابع: في أنّه - تعالى - متكلّمٌ

اتّفق المسلمون على ذلك، لقوله تعالى، ( وَكَلّمَ اللّهُ مُوسَى‏ تَكْلِيماً ) (1) ، ولا دورَ؛ لأنه إثباتٌ لكلامه - تعالى - بإخبار الرّسول المعلوم صدقه بالمعجزة، ولأنّه قادرٌ على كلّ مقدور.

واختلفوا، فعندَ المعتزلة، أنّه خلق في أجسام جماديّة أصواتاً دالّةً على معان مخصوصة، فهو متكلّمٌ بهذا المعنى.

والأشاعرة جوّزوا ذلك، لكن اثبتوا معنىً نفسانيّاً قائماً بذات المتكلّم مغايراً للعلم والإرادة. يدلُّ عليه هذه الحروف والأصواتُ وأنّه قديمٌ في حقّه - تعالى - واحدٌ ليس بأمر ولا نهي ولا خبر؛ لأنّه حيّ يصحّ اتّصافه بالكلام. فلو لم يكن موصوفاً به كان متّصفاً بضدّه، وهو نقصٌ.

ولأنّ أفعاله - تعالى - لمّا جاز عليها التّقدّم والتّأخّرُ أثبتنا الإرادةَ المخصّصةَ، (2) وأفعالُ العباد متردّدةٌ بينَ الحظر والإباحة وغيرهما من الأحكام فلابدّ من مخصّص غير الإرادة، لأنّه قد يأمر بما لا يريدُ وبالعكس، فهو الكلام الّذي هو الطلبُ النّفسانيّ، ولأنّه مَلِك مُطاعٌ، فله الأمرُ والنّهيُ.

اعترضت (3) المعتزلة: بأنّ الاستدلال على الإثبات (4) فرع تصوّر المستدل عليه. وما ذكرتموه غيرُ متصور ويمنع صحة اتّصافه تعالى به،

____________________

(1) النساء: 4/162.

(2) ج: اثبت إرادة مخصوصة.

(3) ألف: اعترض.

(4) ج: إتيان/ ب: إثبات ممنوع وما التزموه.

١٤٣

ويمنع وجوب الاتّصاف بأحدهما وكون الضّدّ نقصاً، بل ثبوته نقصٌ، إذ أمرُ المعدوم ونهيُه وإخباره سفهٌ. والأحكام عقليّةٌ لا سمعيّةٌ فالمُخصّص إمّا الصّفات أو الوجوه والاعتبارات الّتي تقع عليها الأفعال، ويقبح الأمر بما لا يريدُ.

وتمهيدُ العذر في قتل العبد بإيجاد صورةٍ، الأمر، وهو مشترك بين الطلب والإرادة. والمُطاعُ إن عنوا به نفوذَ قدرته في جميع الممكنات فهو حقٌّ، وإن عنوا ما طلبوه منعناه.

المطلب الثّامنُ: في أحكام هذه الصّفات وهي إحدى عشر بحثاً

ألف - ذهب جماعة من المعتزلة والأشاعرة إلى أنّ هذه الصّفات وجوديّةٌ وإلاّ لصحّ حملُها على المعدوم. والملازمةُ ممنوعةٌ، فإنّ كثيراً من العدميّات يمتنعُ حملهُ على المعدوم، وعندَ الأوائل وأبي الحسين أنّها ليست وجوديّةً. وإلاّ لزم تعدّدُ القدماء.

ب - هي نفسُ الذّات في الخارج وإن كانت زائدةً في التّعقّل، وهو اختيارُ الأوائل وأبي الحسين، لما تقدّم، ولأنّ الوجود لو كان زائداً كان ممكناً، لأنّه وصفٌ للماهيّة، فلا يكونُ واجباً، هذا خُلفٌ. ولأنّ مؤثّره إمّا الماهيّةُ لا بشرط الوجود، فالمعدومُ مؤثّر في الموجود أو بشرطه، (1) فيتسلسل (2) أو يدور أو غيرها، فيفتقر إلى الغير.

____________________

(1) ج: لشرطه.

(2) ألف: فتسلسل.

١٤٤

وعندَ جماعة من المعتزلة والأشاعرة أنّها زائدةٌ، للمغايرة بينَ قولنا: واجب الوجود موجودٌ، وبين قولنا: إنّه قادرٌ. وللاستفادة بكلّ منهما، بخلاف قولنا: واجبُ الوجود واجبُ الوجود؛ ولأنّا قد نعلمُ الذّات ونشكّ (1) في الصّفات، وكلّ ذلك يدلٌّ على المغايرة الذّهنيّة.

ج - هذه الصّفات أزليّةٌ وإلاّ لافتقرت إلى مؤثّر، فإن كان ذاته دار، وإن كان غيره افتقر إلى غيره، ولأنّ تأثيره في غيره يستلزم ثبوتها، فهي ثابتة قبل علّتها.

د - هذه الصّفات ذاتيّةٌ عندَ المعتزلة والأوائل، لامتناع استنادها إلى غير ذاته، لما تقدّم، وعندَ الأشعريّة أنّها معلّلةٌ بالمعاني، فهو قادرٌ بقدرة، عالمٌ بعلم، حيّ بحياة، إلى غير ذلك من الصّفات.

قال نفاةُ (الأحوال) منهم إنّ العلمَ نفس العالميّة، والقدرة نفس القادريّة، وهما صفتان زائدتان على الذات وقال مثبتوها: إنّ عالميّته - تعالى - صفةٌ معلّلةٌ بمعنى قائم به، وهو العلم.

هـ - إرادته إمّا نفسُ الدّاعي، كما تقدّم، أو أمرٌ زائدٌ عليه مستندٌ إلى ذاته، كاختيار النّجّار، (2) خلافاً للجمهور. وعند الجبّائيين أنّه مريدٌ بإرادةٍ حادثةٍ لا في محلّ؛ إذ لو كان مريداً لذاته لعمّت إرادته، كالعلم، فيريدُ الضّدّين، أو لإرادةٍ قديمةٍ لزم ثبوتُ القدماء، أو لإرادة حادثة في ذاته كان محلاًّ

____________________

(1) ألف: نشكّل.

(2) ب: كاختيار المختار.

١٤٥

للحوادث، أو في غيره. فإن كان حيّاً رجع حكمها إليه، وإلاّ استحال حلولها فيه، ووجودُ إرادة لا في محلّ غيرُ معقول.

و - خبره - تعالى - صدقٌ، لقبح الكذب عقلاً، فلا يصدر عنه، ولأنّ الكذبَ إن كان قديماً استحال منه الصّدق، والتّالي باطل، للعلم بإمكان صدور الصّدق من العالم بالشّيء. والأخيرُ دليل الأشاعرة ولا يتمّ، لبنائه على أنّ الكلامَ القديمَ هو عين الخبر، وأنّه خبرٌ واحدٌ، ولعدم دلالته على صدق الألفاظ.

ز - قدرته - تعالى - تتعلّقُ بكلّ مقدور، للتّساوي في العلّة الّتي هي الإمكانُ. ومنع الأوائل من صدور اثنين عنه، لأنّه بسيط، ولا يتأتّى في القادر لو صح. ومنع الثّنويّةُ والمجوس من صدور الشّرّ عنه، وإلاّ كان (1) شرّيراً. فعند المجوس فاعلُ الخير يزدانُ وفاعل الشّرّ أهرمن. وعنوا بهما ملكاً وشيطاناً، واللهُ - منزّهٌ عن فعل الخير والشرّ. والمانويّةُ تسند ذلك (2) إلى النّور والظّلمة وكذا الدّيصانيّة.

وعند جميعهم أنّ الخيّر هو الّذي يكون جميع أفعاله خيراً، والشّرّيرَ هو الّذي يكون جميع أفعاله شرّاً. والخيرُ والشّرّ لا يكونان لذاتهما خيراً وشرّاً، بل بالإضافة إلى غيرهما. وإذا أمكن أن يكون شيء واحد بالقياس إلى واحد خيراً وبالقياس إلى غيره شرّاً أمكن أن يكونَ فاعل ذلك الشّيء واحداً.

____________________

(1) ج: لكان.

(2) ج: يستندونهما/ ب: يستند وكذا.

١٤٦

ومنع النّظامُ من قدرته على القبيح، لأنّه محالٌ، لدلالته على الجهل أو الحاجة. والاستحالة من جهة الدّاعي، لا من حيث القدرة.

ومنع عَبّاد من قدرته على ما علم وقوعه أو عدمه لوجوبه أو امتناعه وهو ينفي القدرة، والعلمُ تابعٌ.

ومنع البلخيُّ من قدرته على مثل مقدور العبد؛ لأنه إمّا طاعةٌ أو سفهٌ، وهما وصفان لا يقتضيان المخالفة الذّاتيّة.

ومنع الجُبائيّان من قدرته على عين مقدور العبد، لامتناع اجتماع قدرتين على مقدور واحد؛ لأنّه إن وقع بهما استغنى بكلّ منهما عن الآخر، وإن لم يقع بهما كان المانعُ هو وقوعه بالآخر، فيقع بهما حال ما لا يقعُ بهما وإن وقع بأحدهما لم يكن الآخر قادراً، والأخيرة ممنوعةٌ.

ح - علمُه - تعالى - متعلّقٌ بكلّ معلوم، لأنّه حيّ، فيصحّ أن يعلم كلّ معلوم. فلو اختصّ تعلقه بالبعض افتقر إلى مخصّص، وهو محال ولأنّه يصحُّ أن يعلم كلّ معلوم، فيجب، لأنّها صفةٌ نفسيّةٌ متى صحّت وجبت.

وبيانُ المقدّم، أنّه حيٌّ، وهو يصحّ أن يعلم كلّ معلوم، لأنّ الحيّ هو الّذي لا يستحيل أن يعلم. ونسبةُ الصّحّة إلى الكلّ واحدةٌ.

وبعض الأوائل منع من علمه بذاته، لأنّه إضافةٌ فيستدعي المغايرة. وينتقضُ بعلمنا بأنفسنا.

ومنهم من منع علمه بغيره، لاستحالة حلول صور في ذاته. ويُنتقضُ

١٤٧

بعلم الواحد بنفسه، ولأنّه إضافةٌ، لا صورةٌ، ولأنّ الصّدور (1) عنه أبلغ في الحصول من الصّورة المنتزعة الصّادرة عن العاقل لمشاركة المعقول، ثم تلك الصّورة تعلمُ بذاتها، فهنا أولى.

ومنهم من منع من علمه بالجزئيّات من حيث هي متغيّرةٌ إلاّ على وجه كلّيّ، فلا يعلم أنّ المتغيّر وقع أو سيقع؛ لأنّه عند عدمه إن بقى العلمُ لزم الجهل، وإلاّ كان متغيّراً.

وأجاب بعضهم بأنّ العلم بأنّ الشّيء سيوجد هو غير العلم بالوجود حينَ الوجود.

وهو غلطٌ، لاستدعاء العلم المطابقةَ، بل الحقُّ أنّ التّغيّرَ في الإضافات كتغيّر المقدور المستلزم تغيّر إضافة القدرة، لا القدرة.

ط - وجوبُ وجوده لذاته يقتضي امتناعَ عدمه في وقتٍ مّا. فهو قديمٌ أزليّ باقٍ سرمديٌّ. وبقاؤه لذاته لا لبقاء يقوم به، خلافاً للأشعريّ، وإلاّ افتقر في وجوده إلى غيره، هذا خُلفٌ. ولأنّ بقاءه باق فيتسلسل أو يدور إن بقى بالغير أو بالذّات، وإن بقى لذاته كان أولى بالذّاتيّة.

والتّحقيق أنّ البقاء يراد به امتناع خروج الذّات الثّابتة عن ثبوتها (2) ومفارقة الوجود لأكثر من زمان واحد بعدَ الزّمان الأوّل، والأوّل ثابتٌ في حقّه تعالى، لا زائدَ عليها. والثّاني منتفٍ، (3) لأنّه لا يعقلُ فيما لا يكونُ فانياً. (4)

____________________

(1) ج: المصدور.

(2) ج: ثباتها.

(3) ب: مفتقرٌ.

(4) ب، ج: زمانياً.

١٤٨

كما أنّ الحكم بأنّ الكلّ أعظم من الجزء لا يمكن وقوعه في زمان أو في جميع الأزمنة، كما لا يقال إنّه واقعٌ في مكان أو في جميع الأمكنة. وهو بناءً على أنّ التّغيّر يستدعي الزّمان.

ي - قدرتُه، علمه؛ وإرادته كافيةٌ في الإيجاد، لوجوبه عند اجتماعهما، خلافاً لبعض الحنفيّة، حيث أثبتوا التّكوين صفة أزليّة لله تعالى. والمكوّن محدث، لقوله تعالى: ( إِنّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (1) فـ (كن) متقدّمٌ على (الكون)، وهو المسمّى بالأمر، والكلمة والتّكوين والاختراع والإيجاد والخلق، ولأنّ القدرة مؤثّرةٌ في صحّة وجود المقدور، والتّكوين مؤثّر في نفس وجوده.

وهو غلطٌ، لأنّ التّكوين إن كان قديماً لزم قدم الأثر، لأنّه نسبةٌ، وإن كان محدثاً تسلسل. وقوله (كن) لا يدلّ على إثبات صفة زائدة على القدرة، والقدرةُ لا تأثيرَ لها في صحّة الوجود، لأنّها ذاتيّةٌ للممكن.

يا - أثبت الأشعري (اليد) صفةً وراء القدرة، و(الوجه) صفةً وراء الوجود، و(الاستواء) صفةً أُخرى. وأثبت القاضي (2) إدراكَ الشّمّ والذّوق واللّمس ثلاثَ صفاتٍ. وأثبت عبد الله بن سعيد (القدم) صفةً مغايرةً للبقاء، و

____________________

(1) يس: 36/82.

(2) هو أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد المعروف بقاضي القضاة، من أئمة المعتزلة، له مصنّفات منها: شرح الأُصول الخمسة، تنزيه القرآن من المطاعن، المغني، مات سنة 415هـ. الأعلام: 3/273.

١٤٩

(الرّحمة) و(الكرم) و(الرّضا) صفاتٍ غيرَ الإرادة. ولا دليل على شيء من ذلك.

وجزم آخرون بنفي ما زاد على السّبعة، لأنّا كلّفنا بالمعرفة، وإنّما تحصل بمعرفة الصّفات، فلابُدّ من طريق، وليس إلاّ الاستدلال بالآثار والتّنزيه عن النّقصان، وإنّما يدلاّن على السّبعة، ونمنع من التّكليف بكمال المعرفة.

١٥٠

الفصل الثّاني

في الصّفات السّلبيّة

وفيه مطالبُ [اثنا عشر]:

[المطلب] الأوّل: في أنّه - تعالى - ليس بمتحيّز

اتّفق العقلاء عليه، خلافاً للمجسّمة، لأنّ كلّ متحيّز لا ينفكّ عن الحركة أو السّكون، فيكون مُحدَثاً، ولأنّه حينئذ إمّا جسمٌ فيكون مركّباً فيكون حادثاً أو جزءاً لا يتجزّأ، وهو غير معقول، لامتناع اتّصاف مثل ذلك بالقدرة والعلم غير المتناهيين، ولأنّه لو كان جسماً لكان مركّباً. فالعلمُ الحاصل لأحد الجزأين ليس هو الحاصل للآخر، فيتعدد الآلهةُ. والظواهر متأوّلةٌ، وعجزُ الوهم لا يعارضُ القطع العقليّ.

المطلب الثّاني: في أنّه - تعالى - لا يحلّ في غيره

المعقول من الحلول قيامُ موجود بموجود آخر على سبيل التّبعيّة بشرط امتناع قيامه بذاته. وهو محالٌ في حقّ واجب الوجود، ولقضاء العقل بأنّ الغنيّ عن المحلّ يستحيلُ حلوله فيه. فإن كان حالاًّ في الأزل لزم قدم المحلّ، وإن لم يكن تجدّدت الحاجة، ولأنّ حلول الشّيء في غيره إنّما

١٥١

يتصوّر لو كان الحالُّ إنّما يتعيّنُ بواسطة المحلّ، وواجب الوجود لا يتعيّنُ بغيره.

وعندَ بعض النّصارى، أنّه - تعالى - حالٌّ في المسيح. وعند الصّوفيّة أنّه - تعالى - حالٌّ في (1) العارفين. والكلّ محالٌّ، فهو إذن ليس بعرض ولا صورة، لافتقارهما إلى المحلّ.

المطلب الثّالث: في أنّه - تعالى - مخالفٌ لغيره لذاته

ذهب أبو هاشم إلى أنّ ذاته - تعالى - مساويةٌ لسائر الذّوات في الذّاتيّة، ويخالفها بحالة توجبُ الأحوال الأربعة، أعني الحييّة والعالميّة والقادريّة والموجوديّة. وهي الحالة الإلهيّة لأنّ مفهومَ الذّات هو ما يصحّ أن يعلم ويُخبر عنه. وهو غلطٌ؛ لأنّ هذا المفهوم (2) أمرٌ اعتباريٌّ ليس نفسَ الحقائق الثّابتة في الأعيان، بل من المعقولات الثّانية.

ولا يمكن تساوي كلّ الذّوات، لأنّ اختصاصَ بعضها بما يوجب المخالفة إن لم يكن لمرجّح كان ترجيحاً لأحد طرفي الممكن، لا لمرجّح، وإلاّ تسلسل.

____________________

(1) ج: حالٌّ في الأبدان العارفين.

(2) ج: هذا المفهوم ليس أمر اعتباري.

١٥٢

المطلب الرّابع: في أنّه - تعالى - غيرُ مركّب

كلُّ مركّب ممكنٌ، لأنّه يفتقرُ (1) إلى جزئه، وجزؤه غيره، وكلّ مفتقرٍ ممكنٌ، وواجبُ الوجود ليس بممكن، فليس له أجزاءُ ماهيّة، أعني المادّة والصّورة، ولا عقليّة، أعني الجنس والفصل، ولا مقداريّة؛ ولا يتركّب عنه غيره، فليس جنساً ولا فصلاً ولا نوعاً يندرج تحته أفرادٌ، ولا يتركّب عنه غيره، إذ يستحيل أن ينفعل عن غيره.

المطلب الخامس: في أنّه - تعالى - لا يتحدُ بغيره

اتفق العقلاء من المتكلّمين والحكماء إلى (2) امتناع الاتّحاد، إلاّ فرفوريوس والرّئيس في بعض كتبه، لأنّ الشّيئين بعدَ الاتّحاد إن بقيا موجودين فهما اثنان لا واحدٌ، وإن عُدما فلا اتّحادَ، بل حدث ثالثٌ، وإن عُدم أحدهما لم يتّحد المعدوم بالموجود. وهذا حكمٌ عامٌّ في كلّ الماهيّات. نعم قد يقال: الاتّحادُ بالمجاز على صيرورة شيء شيئاً آخر بأن يخلعُ صورته ويلبس الأخرى، كما يقال: صار الماء هواءً؛ أو بأن يحدث للأجزاء مزاج (3) وهيئة زائدة على الآخر كما يقال: صار العفصُ والزّاجُ حِبراً، وهو منفيٌّ (4) عن واجب الوجود - تعالى -؛ لاستحالة خروجه عن

____________________

(1) ج: مفتقر.

(2) ج: على.

(3) ب، ج: امتزاجاً.

(4) ج: منتفٍ.

١٥٣

حقيقته وعدم أمر زائد عليها وامتناع تركّبه من غيره أو معه.

وقالت النّصارى باتّحاد الأقانيم الثّلاثة: الأب والابن وروح القدس، واتّحد ناسوتُ المسيح باللاّهوت.

والصّوفيّةُ قالوا: أنّه - تعالى - يتّحدُ بالعارفين. والكلُّ غيرُ معقول.

المطلب السادس: في أنّه - تعالى - ليس في جهة

اتفق العقلاء عليه إلاّ المجسّمة والكرّاميّة، لأنّه ليس بمتحيّز ولا حالّ في المتحيّز، فلا يكون في جهة بالضّرورة، ولأنّ الكائن في الجهة لا ينفكّ عن الأكوان بالضّرورة، فيكون مُحدَثاً، وواجبُ الوجود ليس بمُحدَث؛ ولأنّ مكانه مساو لسائر الأمكنة، فاختصاصه به ترجيحٌ عن غير مرجّح، ويلزمُ قِدَم المكان أو حلول المجرّد في مكان بعدَ إن لم يكن. وهو غير معقول.

وأصحابُ أبي عبد الله ابن الكرّام ذهب بعضهم إلى أنّه في جهةٍ فوق العرش لا نهاية لها، والبُعد بينه وبينَ العرش غيرُ متناه أيضاً. وقال بعضهم متناهٍ. والكلّ خطأٌ، لما تقدّم، ولأنّ العالم كرةٌ.

المطلب السابع: في استحالة الألم واللذّة عليه تعالى

اتفق العقلاء على استحالة الألم عليه، لأنّه إدراك منافٍ، ولا منافي له تعالى. أمّا اللذّةُ فقد اتفق المسلمون على استحالتها عليه، لأنّ اللذة والألمَ

١٥٤

من توابع اعتدال المزاج وتنافره، ولا مزاجَ له - تعالى -، ولأنّ اللّذّة إن كانت قديمةً وهي داعيةٌ إلى فعل الملتذّ به وجب وجوده قبل وجوده لوجود الدّاعي وانتفاء المانع، وإن كانت حادثةً كان محلاًّ للحوادث. وفيه نظرٌ، لجواز اتّحاد داعي اللذّة والإيجاد.

والأوائل أثبتوا له لذّةً عقليّةً لا بفعله، بل باعتبار علمه بكماله، فإنّ كلّ من تصوّر في نفسه كمالاً ابتهج، كما أنّ من تصوّر نقصاناً في نفسه تألّمَ. ولمّا كان كماله - تعالى - أعظمَ الكمالات، وعلمه بكماله أتمّ العلوم استلزم ذلك أعظمَ اللّذات.

والصّغرى ممنوعةٌ والقياسُ على الشّاهد ضعيفٌ، والإجماع ينفيه.

تذنيبٌ

يستحيل اتّصافه بكلّ كيفيّة مشروطة بالوضع، كالألوان والطّعوم والرّوائح وغيرها في (1) الأعراض، لامتناع انفعاله تعالى.

المطلب الثّامن: في أنّه - تعالى - ليس محلاًّ للحوادث

اتّفق الأكثرُ عليه، خلافاً للكرّاميّة، لامتناع انفعاله في ذاته، فيمتنع التّغيّرُ عليه، ولأنّ الحادث إن كان صفةَ كمال استحال خلوّه عنها أزلاً، (2) وإلاّ

____________________

(1) ج، ب: من.

(2) ب: أوّلاً.

١٥٥

استحال اتّصافُه بها، ولأنّه لو صحّ اتّصافُه به كانت تلك الصّحّةُ لازمةً لذاته، لاستحالة عروضها، (1) وإلاّ تسلسل، فتكونُ أزليّةً. وصحّةُ الاتّصاف بالحادث تستدعي صحّة وجود الحادث أزلاً، (2) وهو محالٌ.

المطلب التاسع: في أنّه - تعالى - غنيُّ

هذا من أظهر المطالب، لأنّه واجب من جميع الجهات، وكلّ ما عداه ممكنٌ محتاجٌ إليه، فلا يُعقل احتياجُه - تعالى - إلى غيره، ولأنّ ذاتَه واجبةٌ، وصفاته نفسُ حقيقته، فيستغني في ذاته وصفاته، ولأنّه - تعالى - ليس محلاًّ للحوادث، وغيره حادثٌ، والإضافات ليست وجوديّةً.

المطلب العاشر: في أنّه غيرُ معلوم للبشر

هذا مذهبُ ضرار والغزاليّ (3) وجميع الأوائل، لأنّ المعلوم منه - تعالى - ليس إلاّ السّلوبَ، مثلُ أنّه ليس بجسم ولا عرض، أو الإضافات مثل أنّه قادرٌ عالمٌ خالقٌ رازقٌ. والحقيقةُ مغايرةٌ لذلك بالضّرورة. وعندَ جماهير المعتزلة والأشاعرة، أنّه - تعالى - معلومٌ، لأنّ وجوده معلوم، وهو نفس حقيقته، ونمنع الصّغرى.

____________________

(1) ج: عدمها.

(2) ب: أوّلاً.

(3) هو أبو حامد محمد بن محمد المعروف بالغزالي، المتوفّى 505هـ.

١٥٦

المطلب الحادي عشر: في استحالة الرّؤية عليه تعالى

الأشاعرة خالفوا جميعَ الفرق في ذلك.

أمّا المعتزلةُ والفلاسفة فظاهرٌ.

وأمّا المجسّمة، فلأنّه لو كان مجرّداً لاستحال رؤيته عندهم.

واتفق العقلاء إلاّ المجسّمة على انتفاء الرّؤية، بسبب الانطباع أو الشّعاع، عنه - تعالى -.

والأشاعرةُ قالوا، إنّا نفرقُ بينَ علمنا حالةَ فتح العين وتغميضها، وليس بالانطباع ولا الشّعاع، فهو راجعٌ إلى حالةٍ أُخرى ثابتةٍ في حقّه تعالى.

والضّرورةُ قاضيةٌ ببطلانه، لانتفاء الجهة، وكلّ مرئيّ (1) مقابلٌ أو في حكمه، ولأنّه لو كان مرئيّاً لرأيناه الآن، لانتفاء الموانع ووجود الشّرائط، إذ ليست هنا إلاّ صحّة كونه مرئيّاً وسلامة الحاسّة، ولقوله تعالى: ( لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ) (2) تمدّح به، لتخلّله بين مدحين، فإثباته نقصٌ، وهو مُحالٌ عليه تعالى، ولقوله: ( لَنْ تَرَانِي ) (3) و(لن) لنفي الأبد، وإذا انتفت في حقّ موسى (عليه السلام) فكذا غيره.

____________________

(1) ألف: كل مراى.

(2) الأنعام: 6/103.

(3) الأعراف: 7/143.

١٥٧

احتجّوا بأنّ الجوهرَ والعرضَ مرئيّان، والحكمَ المشترك لابُدّ له من علّة مشتركة، وليس إلاّ الوجود والحدوث، والأخير لا يصلحُ للعلّيّة، لأنّ جزءه عدميّ، ولقوله تعالى: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نّاضِرَةٌ * إِلَى‏ رَبّهَا نَاظِرَةٌ ) (1) ولأنّه - تعالى - علّقها على استقرار الجبل الممكن، لأنّه جسمٌ ولأنّ موسى (عليه السلام) سألها.

والجوابُ: وجودُه - تعالى - حقيقته، وهو مخالفٌ لوجودنا، فلا يجب تساويهما في الأحكام. ونمنعُ احتياج صحّة الرّؤية إلى علّة، إذ لو وجب تعليل كلّ حكمٍ تسلسل، ولأنّها عدميّةٌ، ونمنعُ تساوي صحّة رؤية الجوهر وصحّة رؤية العرض، ويجوز تعليل المشترك بعلّتين مختلفتين، ونمنع الحصرَ بوجود الإمكان، فيجوزُ أن يكونَ علّةً لإمكان الرؤية وإن كان عدميّاً.

والحدوث هو الوجودُ المسبوق، ولا يلزمُ من وجود العلّة وجود المعلول، لجواز التّوقّف على شرط أو حصول مانع. و(إلى) واحدُ (الآلاء)، أو أنّ فيها إضماراً، تقديره: (إلى نِعَم ربّها) والتّعليق على الاستقرار حالةَ الحركة، وهو محال، والسّؤالُ وقع لقوم موسى، لقوله تعالى: ( فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى‏ أَكْبَرَ مِن ذلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً ) (2) .

____________________

(1) القيامة: 75/22 - 23.

(2) النساء: 4/53.

١٥٨

المطلب الثاني عشر: في أنّه - تعالى - واحدٌ

لو كان في الوجود واجبا الوجودِ لكانا مشتركين في هذا المعنى، فإمّا أن يكونَ ذاتياً لهما، أو لأحدهما، أو عارضاً لهما. والأوّلُ يستلزم تركّبَ كلّ منهما، فيكون ممكناً. والثّاني والثالث يستلزم كلّ منهما أن لا يكونَ معروضه في ذاته واجباً.

ولا يجوز أن يكونَ الواجبُ لذاته هو المعنى المشترك خاصّةً، إذ لا وجودَ له في الخارج إلاّ مخصّصاً.

ولا يجوز أن يكونَ المخصّص سلبيّاً، فإنّ سلبَ الغير لا يتحصّلُ إلاّ بعدَ حصول الغير؛ ولأنّ المخالفةَ ممكنةٌ، لأنّ كلّ واحد منهما قادرٌ على جميع المقدورات، فيصحّ أن يقصد أحدهما إلى ضدّ ما قصد (1) الآخرُ، فإن حصل المُرادان، اجتمع الضّدّان، وهو محال، وان عدما كان المانع من مُراد كلّ منهما وجودَ مراد الآخر، فيلزمُ وجودهما وإن وُجِدَ أحدهما فهو الإله؛ وللسّمع.

وقالت الثّنويّةُ بقدم النّور والظلمة وكلّ خير في العالم فمن النّور، وكلّ شر فمن الظلمة، وكلٌّ منهما لا نهايةَ له في الجهات الخمس. والنّورُ حيٌّ عالمٌ والظلمةُ حيّةٌ جاهلةٌ. وسببُ حدوث العالم اختلاط أجزاء من النّور

____________________

(1) ب، ج: قصده.

١٥٩

بأجزاء من الظلمة. وأراد النّورُ الأعظم استخلاصَ تلك الأجزاء من الظلمة. فلم يمكنه إلاّ بخلق هذا العالم وخلق الأجسام النّيّرة فيه، بحيث تستخلصُ بنورها تلك الأجزاء النّورانيّة من الظلمة. فإذا خلصت فنى (1) العالم.

وهذا الكلامُ كلّه خطأ، فإنّ النّورَ عرضٌ لا يقومُ بذاته، والظلمةَ عدميّةٌ، وعدمُ التّناهي مُحالٌ، لما تقدّم.

وقال المجوسُ: إنّ للعالم صانعاً قادراً عالماً حيّاً حكيماً، سمّوه يزدان، وكلّ خير في العالم منه، وأنّه أفكر (2) لو كان لي ضدٌّ في الملك كيف تكونُ حالي معه، فحدث الشّيطانُ من تلك الفكرة، وكلّ شرّ في العالم منه، واسمه اهرمن. وبعضهم قال بقدم الشّيطان وهو ظاهر الفساد أيضاً.

وقالت النّصارى: الباري - تعالى - جوهرٌ واحدٌ ثلاثة أقانيم، أقنوم الأب وهو وجوده، وأُقنومُ الابن وهو علمه، واقنومُ روح القدس، وهو حياته.

فإن أرادوا الصّفات فلا منازعةَ إلاّ في اللّفظ، وإلاّ فهو خطأ، لما تقدّم.

____________________

(1) ج: نفى.

(2) ج: فكر.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

«وما أهل النهر منهم ببعيد» يعنيعليه‌السلام الخوارج(١) .

وفي حديث ثالث هنا إشارة خاصّة إلى الرهبان (الرجال والنساء الذين يتركون الدنيا) والمجاميع التي ابتدعت البدع من المسلمين(٢) .

وهناك قسم من الرّوايات تفسّر الآية ب (الذين ينكرون ولاية أمير المؤمنين الإمام عليعليه‌السلام )(٣) .

أليس الرهبان الذي يعيشون كل عمرهم في زاوية من الزوايا (في الدير مثلا) ويعانون أنواع الحرمان ، ويمتنعون عن الزواج والأكل والملابس الجيدة ، ويفضلون سكنى الدير على كل شيء وهم يظنون أنّ هذه الحياة تقرّبهم إلى الله ، أليس هؤلاء مصداقا واضحا للأخسرين أعمالا؟!

هل هناك مذهب أو دين إلهي يمكن أن يدعو إلى خلاف قانون العقل والفطرة ، أي يدعو الإنسان الاجتماعي إلى الابتعاد عن الحياة ، ويعتبر هذا العمل مصدرا للتقرب إلى الله تعالى؟!

إنّ الذين أوجدوا البدع في دين الله من قبيل التثليث في مقابل توحيد الله الواحد الأحد ، واعتبروا المسيح بن مريم ابن الله ، وأدخلوا خرافات أخرى في دين الله ، ظنا منهم بأنّهم يحسنون صنعا ، أليس هؤلاء وأمثالهم هم أخسر الناس؟!

ألا يعتبر خوارج «النهروان» من أخسر الناس ، وهم المجموعة الجاهلة التي ارتكبت أعظم الذنوب (مثل قتل الإمام عليعليه‌السلام ) ظنا منهم أنّ هذا الأمر سيقربهم من الله ، بل واعتبروا أنّ الجنّة مخصوصة لهم؟!

الخلاصة : إنّ الآية لها مفهوم واسع ، إذ تشمل أقواما كثيرين في السابق والحاضر والمستقبل.

__________________

(١) المصدر السّابق.

(٢) المصدر السّابق.

(٣) المصدر السّابق.

٣٨١

والآن نصل إلى هذا السؤال : ما هو مصدر هذا الانحراف الخطير؟

إنّ التعصب القوي والغرور والتكبير وحب الذات ، هي من أهم العوامل التي تقود إلى مثل هذه التصورات الخاطئة. وفي بعض الأحيان يكون التملق ، أو الانطواء على النفس لفترة معينة سببا لظهور هذه الحالة ، حيث يتصوّر الإنسان أنّ كل أعماله الخاطئة المنحرفة هي أعمال جميلة ، بحيث يشعر بالفخر والغرور والمباهاة بدلا من إحساس الخجل والشعور بالعار بسبب أعماله القبيحة. يقول القرآن في مكان آخر واصفا هذه الحالة :( أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً ) (١) وفي آيات أخرى ، نقرأ أنّ الشيطان هو الذي يزيّن للإنسان سيئاته حسنات ، ويمنيهم بالغلبة والنصر ، كما في قوله تعالى :( وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ ) (٢) .

ويقول القرآن بعد قصّة برج فرعون المعروف :( وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ ) . والآية تعليق على عمل فرعون عند ما طلب من هامان أن يبني له برجا ليطّلع بزعمه إلى إله موسى كما في الآيتين (٣٦ ـ ٣٧) من سورة غافر.

٢ ـ ماذا يعني لقاء الله؟

بالرغم من أنّ بعض أشباه العلماء يستفيدون من أمثال هذه الآيات إمكانية رؤية الخالق جلّ وعلا في العالم الآخر ، ويفسّرون لقاء الله باللقاء الحسي ، إلّا أنّه من المعلوم بداهة أنّ اللقاء الحسي يقتضي تجسيم الخالق جلّ وعلا ، والتجسيم يقتضي التحديد والحاجة ، والمحدود المحتاج يكون قابلا للفناء ، والكل يعرف ويؤمن بأنّ هذه الصفات لا تنطبق على الله تعالى.

لذا فإنّ القصد من اللقاء أو الرؤيا في الآيات القرآنية ليس الرؤية الحسية ، بل

__________________

(١) فاطر ، ٨.

(٢) الأنفال ، ٤٨.

٣٨٢

الرؤية الباطنية المعنوية.

يعني أنّ الإنسان في يوم القيامة يشاهد آثار الخالق أكثر وأفضل من أي زمان ، لذا فإنّه ينظر إليه بوضوح ، بعين القلب الواعي البصير. لهذا السبب ـ ووفقا للآيات القرآنية ـ فإنّه حتى أشد الناس إنكارا للخالق وأكثرهم عنادا ، سوف يقر يوم القيامة بوجود الخالق ، وأنّه لا مجال لإنكاره(١) .

بعض المفسّرين اعتبر هذا المفهوم (لقاء الله) مشاهدة النعم والثواب ، وأيضا العذاب والعقاب الإلهي وفي ذلك تكون كلمة الثواب والعقاب مقدّرة في الآية.

وبالرغم من أن هذان التّفسيران لا تعارض بينهما ، إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو أظهر وأوضح.

٣ ـ وزن الأعمال

ليس بنا حاجة إلى أن نفسّر قضية وزن الأعمال عن طريق تجسيم الأعمال والقول بأنّ عمل الإنسان سيتحوّل هناك إلى جسم وله وزن ، ذلك لأنّ الوزن له معنى واسع يشمل أية مقايسة ، فمثلا نقول للأشخاص عديمي الشخصية أنّهم أشخاص لا وزن لهم ، أو أنّهم أشخاص خفيفون ، ونعني بذلك ضعف شخصيتهم وليس القلّة في وزنهم الجسمي.

والجميل هنا أنّ الاية تصف الأخسرين أعمالا بأنّنا لم نضع لهم يوم القيامة ميزانا للقياس. ولكن هل تتعارض هذه الآية مع قوله تعالى في الآية (٨) من سورة الأعراف:( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ ) ؟

طبعا لا ، لأنّ الوزن يخصّ الأشخاص الذين قاموا بأعمال تستحق الوزن ، أمّا الشخص الذي لا يساوي وجوده وأعماله وأفكاره حتى جناح بعوضة ، فهل هو بحاجة إلى الوزن؟!

__________________

(١) يمكن مراجعة سورة المؤمنون ، الآية ١٠٦ فما فوق.

٣٨٣

لهذا السبب نقرأ في رواية معروفة عن النّبي قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن جناح بعوضة»(١) .

لماذا؟ لأنّ أعمال مثل هؤلاء وأفكارهم وشخصيتهم كانت في الحياة الدنيا عديمة الأهمية والفائدة.

ومن هنا يتّضح أنّ الناس هناك على عدّة أنواع هي :

١ ـ مجموعة تكون مثقلة بالحسنات والأعمال الصالحة بحيث لا تحتاج إلى الوزن والحساب في أعمالها ، بل تدخل الجنّة بدون حساب.

٢ ـ مجموعة ثانية من الذين حبطت أعمالهم ، أو ليس لهم أي عمل الصالح ، وهذه لا تحتاج إلى وزن أيضا ، بل تدخل النّار بدون حساب.

٣ ـ أمّا المجموعة الثّالثة ، فهي التي تملك السيئات والحسنات ، وهذه يشملها الوزن والحساب. وقد يكون أكثر الناس من هذه الفئة.

٤ ـ تفسير قوله تعالى :( لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً )

(حول) على وزن (علل) لها معنى مصدري وتعني التحوّل ونقل المكان ، وكما قلنا في تفسير الآيات ، فإنّ الفردوس بستان الجنة توجد فيه أفضل النعم والمواهب الإلهية ، ولهذا السبب فإنّها تعتبر أفضل مناطق ذلك العالم ، حيث أنّ الساكنين فيها لا يتمنون أبدا الانتقال منها إلى مكان آخر.

وقد يقول البعض : إنّ الحياة قد تكون هناك رتيبة وراكدة ، وهذا بحد ذاته نقص وعيب كبير فيها؟!

في الجواب نقول : ليس ثمة مانع من أن يكون التحوّل والتكامل في نفس المكان ، إذا توافرت أسباب التكامل واجتمعت هناك ، وهي ـ قطعا ـ متوافرة. وفي ظل الأعمال التي قام بها الإنسان في هذه الدنيا ، فإنّ الإنسان ـ من خلال

__________________

(١) عن تفسير مجمع البيان ، في تفسيره للآية.

٣٨٤

المواهب الإلهية هناك ـ سوف يستمر في طريق تكامله بشكل دائم ومستمر.

وسنقوم إن شاء الله بشرح أفضل لتكامل الإنسان حتى في الجنّة ، وذلك في نهاية الآيات التي تناسب الموضوع.

٥ ـ الفردوس لمن؟

قلنا : إنّ «الفردوس»(١) أفضل مناطق الجنة ، ولا يسكنه سوى المؤمنين وذوي الأعمال الصالحة ، إذا سيكون السؤال : من يسكن الأقسام الأخرى في الجنة ، إذا كانت الجنة مكانا للمؤمنين وحسب وممنوعة على غيرهم؟

في الجواب نقول : إنّ الفردوس لا تشمل كل مؤمن ذي عمل الصالح ، بل هي لمن بلغ درجة عالية من الإيمان والعمل الصالح ، وهذه المرتبة هي المعيار للوصول إلى الفردوس بالرغم من أنّ ظاهر الآية مطلق ، إلّا أنّ الانتباه إلى معنى الفردوس يقيّد الإطلاق المذكور.

لذلك عند ما تتحدث سورة المؤمنون عن صفات ورثة الفردوس فإنّها تبيّن الحد الأعلى لصفات المؤمنين والذي لا يكون موجودا عند جميع الأفراد. وهذا دليل آخر على أنّ سكنة الفردوس يملكون صفات ممتازة بالإضافة إلى شرطي الإيمان والعمل الصالح.

لذلك رأينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث سابق ، يعلمنا بأنّنا عند ما نطلب الجنّة ، فعلينا أن ندعو لنيل الفردوس بالخصوص ، لأنّها أكمل وأفضل منازل الجنّة.

وهذه إشارة إلى ضرورة أن تنصرف همة المؤمن ـ في كل الأمور ـ إلى أعلى حد ، وحتى في الجنة عليه أن لا يقنع بمراحلها الدنيا بالرغم ممّا في هذه المراحل

__________________

(١) ذهب بعض إلى أن هذه الكلمة مأخوذة من اللغة الرومية في الأصل ، وذهب آخرون الى أن جذورها حبشية انتقلت الى العربية (تفسير الفخر الرازي وتفسير مجمع البيان).

٣٨٥

من نعم ومواهب.

وطبيعي أنّ الذي يطلب هذه المنزلة من الله لا بدّ وأن يكون قد أعدّ نفسه لها ، وعليه أن يبذل كل سعيه وجهده لكسب أفضل الصفات وأرضى الأعمال.

ومن ذلك يعلم أن من يقول بأن المهم هو أن أدخل الجنّة حتى في أدنى درجة منها هو شخص يفتقد للهمة العالية للمؤمنين الحقيقيين.

* * *

٣٨٦

الآيتان

( قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (١٠٩) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (١١٠) )

سبب النّزول

عن ابن عباس قال : «قالت اليهود لما قال لهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً ) قالوا : وكيف وقد أوتينا التوراة ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا؟ فنزل قوله تعالى :( قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ ) .

وقيل أيضا : قالت اليهود : إنّك أوتيت الحكمة ، ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ، ثمّ زعمت ـ والمخاطب هنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أنّك لا علم لك بالروح؟

فأمره الله تعالى أن يجيبهم بأنّي وإن أوتيت القرآن وأوتيتم التوراة فهي بالنسبة إلى كلمات الله تعالى قليلة»(١) .

__________________

(١) تفسير القرطبي ، المجلد ١١ ـ ١٢ ، صفحة ٦٨ ـ ٦٩. وكذلك تفسير الصافي أثناء الحديث عن الآية.

٣٨٧

التّفسير

الذين يأملون لقاء الله :

الآيات أعلاه في نفس الوقت الذي تبحث بحثا مستقلا ، إلّا أنّها متصلة مع بحوث هذه السورة ، حيث أنّ كل قصة من القصص الثلاث الواردة في السورة ، تكشف الستار عن مواضيع جديدة وعجيبة ، وكأنّما القرآن يريد أن يقول في هذه الآيات : إنّ الاطلاع على قصّة أصحاب الكهف ، وموسى والخضر ، وذي القرنين ، يعتبر لا شيء إزاء علم الله غير المحدود ، لأنّ علمه سبحانه وتعالى ومعرفته تشمل كافة الكائنات وعالم الوجود في الماضي والحاضر والمستقبل.

القرآن الكريم يخاطب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أوّل آية نبحثها بقوله :( قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً ) .

«مداد» تعني الحبر ، أو أي مادة ملونة تساعد في الكتابة ، وهي في الأصل مأخوذة من «مدّ» بمعنى السحب ، حيث تتوضح خطوط الكتابة بسحب القلم(١) .

(كلمات) جمع كلمة ، وهي في الأصل تعني الألفاظ التي يتمّ التحدّث بها ، أو بعبارة أخرى : الكلمة لفظ يدل على المعنى ، وبما أنّ كل موجود من موجودات هذا العالم هو دليل على علم وقدرة الخالق ، لذا فإنّه يطلق في بعض الأحيان على كل موجود اسم (كلمة الله) ويختص هذا التعبير أكثر بالموجودات المهمّة العظيمة.، فبالنسبة للمسيح عيسىعليه‌السلام يقول القرآن الكريم :( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ ) (٢) .

__________________

(١) نقل الفخر الرازي في معنى (مداد) إضافة إلى ما ذكر معنى آخر ، وهو «الزيت» الذي يوضع في المصباح ويكون سببا للنور ، والاثنان يرجعان إلى معنى واحد.

(٢) النساء ، ١٧١.

٣٨٨

وفي الآية التي نبحثها فإنّ (كلمة) قد استخدمت بهذا المعنى ، أي إشارة إلى موجودات عالم الوجود التي تدل كل واحدة فيه على الصفات المختلفة لله تبارك وتعالى.

وفي الحقيقة إن القرآن يلفت أنظارنا في هذه الآية إلى هذه الحقيقة وهي : لا تظنّوا أنّ عالم الوجود محدود بما تشاهدونه أو تعلمونه أو تحسّونه ، بل هو على قدر من السعة والعظمة بحيث لو أنّ البحار تتحول إلى حبر ، وتكتب صفاته وخصائصه ، فإنّها ـ أي البحار ـ ستجف قبل أن تحصي موجودات عالم الوجود.

ومن الضروري الالتفات هنا إلى أنّ كلمة البحر يراد بها الجنس وكذلك كلمة (مثل) في قوله :( وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً ) فإنّه يراد بها الجنس أيضا ، وهذه إشارة إلى أنّنا مهما أضفنا من أمثال هذه البحار إليها فإنّ الكلمات الإلهية لا تنتهي ولا تنفد.

ولهذا السبب فليس ثمّة تعارض بين هذه الآية وما ورد في سورة لقمان حيث قوله تعالى في الآية (٢٧) :( وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ ) . يعني أنّ هذه الأقلام ستتكسر والمحابر ستجف حتى آخر قطرة ، ومع ذلك فإنّ أسرار المخلوقات وحقائق عالم الوجود لا تنتهي.

وينبغي الانتباه هنا إلى أنّ الآية أعلاه في الوقت الذي تجسّد فيه سعة عالم الوجود اللامتناهية في الماضي والحاضر والمستقبل ، فإنّها توضّح ـ أيضا ـ العلم المطلق وغير المحدود للخالق جلّ وعلا ، لأنّنا نعلم أنّ الله سبحانه وتعالى يحيط علمه بما كان موجودا في عالم الوجود ، وبما سيكون موجودا. وفي الوقت الذي يعتبر فيه علم الله تعالى «علما حضوريا» فإنّه لا يفترق عن وجود هذه الموجودات. (فدقق في ذلك).

إذن نستطيع أن نقول : لو أنّ جميع المحيطات وبحار الأرض تحولت إلى

٣٨٩

حبر ومداد ، ولو أنّ كافة الأشجار تحولت إلى أقلام ، فإنّ ذلك كلّه لا يستطيع الإحاطة بما موجود في عالم الخالق جلّ وعلا.

توضيح لمفهوم اللانهاية :

يقوم القرآن الكريم بتجسيد العدد اللانهائي ويقرب معنى العلم المطلق غير المحدود لله تعالى ، ويقرب سعة عالم الوجود العظيم إلى أفكارنا. وقد استخدم القرآن في ذلك توضيحا بليغا للغاية ، وذكر أرقاما حيّة وذات روح.

ترى هل هناك أعداد حيّة وأخرى ميتة؟

نعم ، ففي الرياضيات إذا وضعت الأصفار إلى يمين العدد الصحيح فهي لا تعبّر في الواقع سوى عن أعداد ميتة لا تستطيع أن تجسّد عظمة شيء معين.

الأشخاص الذين يهتمون بالقضايا الرياضية والحسابية يعرفون أنّ العدد الواحد (كرقم واحد مثلا) لو وضع أمامه من الجهة اليمنى أصفارا بطول كيلومتر واحد ، فسيكون عدد عظيم جدّا ومحيّر ولا يمكن تصوّر عظمته ، ولكن لمن؟ للاشخاص الرياضيين لا عامّة الناس الذين لا يستطيعون تصور العظمة في هذا الرقم.

العدد الحي هو العدد الذي تنشغل أفكارنا به ، ويجسّد الحقائق كما هي ويملك روحا ولسانا وعظمة.

والقرآن الكريم بدلا من أن يقول : إنّ مخلوقات عالم الوجود تتجاوز في كثرتها الرقم الذي تقع على يمينه مئات الكيلو مترات من الأصفار ، يقول : إذا تحولت جميع الأشجار إلى أقلام ، وكل البحار إلى مواد وحبر ، فإنّ الأقلام ستتكسر ومياه البحار ستنتهي ، ولا تنتهي أسرار ورموز وحقائق عالم الوجود ، هذه الأسرار التي يحيط بها جميعا علم الله تعالى.

فكروا جيدا وتأملوا المقدار الذي يستطيع أن يكتبه القلم ، ثمّ ما هو عدد

٣٩٠

الأقلام التي يمكن صناعتها من غصن واحد صغير من شجرة معينة؟

ومعلوم أن باستطاعتنا صناعة آلاف بل حتى ملايين الأقلام من شجرة كبيرة عظيمة، ولنا أن نتصوّر الكمية من الأقلام التي يمكن صنعها من أشجار الأرض جميعا وغاباتها!

من الجهة الثّانية لنا أن نتصوّر عدد الكلمات التي يمكن كتابتها من قطرة حبر واحدة، ثمّ علينا أن نتصوّر ما نستطيع كتابته من حوض واحد ، فبحيرة واحدة ، فبحر واحد ، فمحيط ، ومن ثمّ جميع بحار الأرض ومحيطاتها!

إنّ الحصيلة ـ بلا شك ـ ستكون رقما عجيبا وخياليا!! وتتوضح عظمة المثال القرآني إذا عرفنا أنّ رقم (سبع) ليس للتحديد ، بل هو إشارة للكثرة ، ومعنى هذا الكلام أنّنا لو أضفنا لهذا العدد أضعافه من البحار ، فإنّ كلمات الله لا تنفد.

والآن لنتصور الحيوية والروح الدافقة في هذا العدد ، والشاهد الحي الذي يبعث اليقظة في روح الإنسان ، ويشغل فكره ويجعله يفكّر في آفاق اللانهاية!

إنّ العدد الذي يتضمنه المثال القرآني يحس بعظمته الجميع سواء كانوا رياضيين أو أميين.

نعم ، إنّ علم الله تعالى هو أعلى وأوسع من هذا العدد.

علم غير محدود ولا متناهي.

علم يشمل كل الوجود ، سابقا وحاضرا ومستقبلا ، وهو يضم في طياته كل الأسرار والحقائق!

الآية الثّانية في البحث والتي هي آخر آية في سورة الكهف ، عبارة عن مجموعة من الأسس والأصول للاعتقادات الدينية ، التي تتركز في التوحيد والمعاد ورسالة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . والآية في مضمونها إشارة إلى نفس المضمون الذي ورد في بداية السورة المباركة. ففي البداية تحدّثت السورة عن الله والوحي

٣٩١

والجزاء والقيامة ، والآية الأخيرة هي خلاصة لمجموع ما ورد في السورة ، التي اشتملت في قسم مهم منها على الأصول الثلاثة الآنفة باعتبارها محاور للسورة.

ولأنّ قضية النبوة قد اقترنت مع أشكال من الغلو والمبالغة على طول التأريخ ، لذا فإنّ الآية تقول :( قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَ ) .

وهذا التعبير القرآني نسف جميع الامتيازات المقرونة بالشرك التي تخرج الأنبياء من صفة البشرية إلى صفة الألوهية.

ثمّ تشير الآية إلى قضية التوحيد من بين جميع القضايا الأخرى في والوحي الالهي حيث تقول :( أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ) .

أمّا لماذا تمت الإشارة إلى هذه القضية؟ فذلك لأنّ التوحيد هو خلاصة جميع المعتقدات ، وغاية كل البرامج الفردية والاجتماعية التي تجلب السعادة للإنسان.

وفي مكان آخر ، أشرنا إلى أنّ التوحيد ليس أصلا من أصول الدين وحسب ، وإنّما هو خلاصة لجميع أصول وفروع الإسلام.

لو أردنا ـ على سبيل المثال ـ أن نشبّه التعليمات الإسلامية من الأصول والفروع على أنّها قطع من الجواهر ، عندها نستطيع أن نقول : إنّ التوحيد هو السلك والخيط الذي يربط جميع هذه القطع إلى بعضها البعض ليتشكّل من المجموع قلادة جميلة وثمينة.

وإذا أردنا أن نشبّه التعليمات الإسلامية أصولا وفروعا بأعضاء الجسم ، فإنّ التوحيد سيكون روح الإنسان التي تهب الحياة لكافة الأعضاء.

وقد أثبتنا في بحوثنا حول المعاد والنبوة أنّ هذين الأصلين لا ينفصلان عن التوحيد. يعني : عند ما نعرف الخالق بجميع صفاته ، فإنّنا نعلم أنّ مثل هذا الخالق يجب أن يرسل الأنبياء ، وتقتضي حكمته وعدالته أن توجد محكمة عادلة وأن يكون هناك بعثا.

٣٩٢

والمسائل الاجتماعية ، وكل المجتمع الإنساني وما يرتبط به ، ينبغي أن يكون فيه شعاع من التوحيد حتى يتوحد وينتظم ويستقر.

لهذا السبب نقرأ في الأحاديث القدسية إن : «كلمة لا اله إلّا الله حصني فمن دخل حصني أمن من عذابي».

وكل منّا قد سمع أيضا أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال في بداية الإسلام : (قولوا لا إله إلّا الله تفلحوا).

الجملة الثّالثة في الآية الكريمة تشير إلى قضية البعث وتربطها بالتوحيد بواسطة (فاء التفريع) حيث تقول :( فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً ) .

بالرغم من أن لقاء الله بمعنى المشاهدة الباطنية ورؤية الذات المقدسة بعين البصيرة هو أمر ممكن في هذه الدنيا بالنسبة للمؤمنين الحقيقيين ، إلّا أنّ هذه القضية تكتسب جانبا عاما يوم القيامة بسبب مشاهدة الآثار الكبيرة والواضحة والصريحة للخالق تبارك وتعالى. لذا فإنّ القرآن استخدام هذا التعبير في خصوص يوم القيامة.

من جانب آخر ، فإنّ الإنسان الذي ينتظر أمرا معينا ، ويأمل شيئا ما ، فمن الطبيعي أن يهيء نفسه ويعدّها لاستقبال ذلك الأمر. أمّا الشخص الذي يدّعي ولا يستعد ، وينتظر ولا يعمل ، فهو في الواقع مدع كاذب لا غير.

لهذا السبب فإنّ الآية أعلاه تقول :( فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً ) وردت بصيغة الأمر ، الأمر الذي يلازمه الرجاء والأمل بانتظار لقاء الله.

وفي آخر جملة ثمّة توضيح للعمل الصالح في جملة قصيرة ، هي قوله تعالى :( وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ) .

بعبارة أخرى : لا يكون العمل صالحا ما لم تتجلى فيه حقيقة الإخلاص.

فالهدف الإلهي يعطي لعمل الإنسان عمقا ونورانية خاصّة ، ويوجهه الوجهة

٣٩٣

الصحيحة ، وعند ما نفقد الإخلاص يكون العمل ذا جنبة ظاهرية حيث يشير إلى المنافع الخاصّة ، ويفقد عمقه وأصالته ووجهته الصحيحة.

في الحقيقة إنّ العمل الصالح الذي ينبع من أهداف إلهية ، ويمتزج بالإخلاص ويتفاعل معه ، هو الذي يكون جوازا للقاء الله تبارك وتعالى.

وقد أشرنا سابقا إلى أنّ العمل الصالح له مفهوم واسع للغاية ، وهو يشمل أي برنامج مفيد وبنّاء ، فردي واجتماعي ، وفي أي قضية من قضايا الحياة.

الإخلاص أو روح العمل الصالح :

أعطت الرّوايات الإسلامية مكانة خاصّة لقضية «النية» ، والإسلام في العادة يقر بقبول الأعمال بملاحظة النية والهدف من العمل.

الحديث المشهور عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا عمل إلّا بنية» بيان واضح لهذه الحقيقة.

وبعد (النية) هناك (الإخلاص) ، فلو اقترن العمل بالإخلاص فسيكون عملا ثمينا للغاية ، وبدون الإخلاص هو لا قيمة له. والإخلاص هو أن تكون الدوافع الإنسانية خالية من أي نوع من أنواع الشوائب ، ويمكن أن نسمّي الإخلاص بـ «توحيد النية» يعني التفكير بالله وبرضاه في جميع الأمور والحالات.

والطريف في الأمر هنا هو ما ورد في سبب نزول هذه الآية من أنّ رجلا جاء إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : إنّي أتصدق وأصل الرحم ، ولا أصنع ذلك إلّا لله ، فيذكر ذلك منّي،وأحمد عليه فيسرّني ذلك ، وأعجب به. فسكت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم يقل شيئا ، فنزلت الآية :( فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ) (١) .

إنّ المقصود من هذه الرّواية ليس الفرح أو السرور اللاإرادي ، بل هي الحالة

__________________

(١) مجمع البيان في تفسير الآية. وكذلك تفسير القرطبي.

٣٩٤

التي يكون فيها الفرح والسرور هدفا لعمل الإنسان ، أو الحالة التي تؤدي إلى عدم خلوص النية.

فالعمل الخالص يعتبر مهما في الإسلام إلى الحد الذي يقول فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أخلص لله أربعين يوما فجّر الله ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه»(١) .

دعاء الختام :

إلهي ، اجعل نياتنا خالصة في جميع أعمالنا بحيث لا نفكّر بأحد سواك ، ولا نعدوك إلى غيرك واجعل ما نريده وما لا نريده تبعا لطاعتك ورضاك آمين ربّ العالمين.

نهاية سورة الكهف

__________________

(١) سفينة البحار ، ج ١ ، ص ٤٠٨.

٣٩٥
٣٩٦

سورة مريم

مكّية

وعدد آياتها ثمان وتسعون آية

٣٩٧
٣٩٨

«سورة مريم»

محتوى السورة :

لهذه السورة من جهة المحتوى عدة أقسام مهمّة :

١ ـ يشكل القسم الذي يتحدث عن قصص زكريا ومريم والمسيحعليهم‌السلام ويحيي وإبراهيمعليهما‌السلام بطل التوحيد ، وولده إسماعيل ، وإدريس وبعض آخر من كبار أنبياء الله ، الجزء الأهم في هذه السورة ، ويحتوي على أمور تربوية لها خصوصيات مهمّة.

٢ ـ الجزء الثّاني من هذه السورة ـ والذي يأتي بعد القسم الأوّل من حيث الاهمية ـ عبارة عن المسائل المرتبطة بالقيامة ، وكيفية البعث ، ومصير المجرمين ، وثواب المتقين ، وأمثال ذلك.

٣ ـ القسم الثّالث ، وهو المواعظ والنصائح التي تكمل ـ في الواقع ـ الأقسام السابقة.

٤ ـ وأخيرا ، فإنّ آخر قسم عبارة عن الإشارات المرتبطة بالقرآن ، ونفي الولد عن الله سبحانه ، ومسألة الشفاعة ، وتشكل بمجموعها برنامجا تربويا مؤثرا من أجل دفع النفوس الإنسانية إلى الإيمان والطهارة والتقوى.

فضل السورة :

روي عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأها أعطي من الأجر بعدد من صدّق

٣٩٩

بزكريا وكذب به ، ويحيي ومريم وموسى وعيسى وهارون وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل عشر حسنات ، وبعدد من ادعى لله ولدا ، وبعدد من لم يدع ولدا»(١) .

إن هذا الحديث ـ في الحقيقة ـ دعوة إلى السعي ت والجد في خطين مختلفين : خط مساندة ودعم النّبي والطاهرين والخيرين ، وخط محاربة المشركين والمنحرفين والفاسقين ، لأنا نعلم أن هذه المكافئات والعطايا الجزيلة لا تعطى لمن يتلفظ كلمات السورة بلسانه فقط ، ولا يعمل بأوامرها ، بل إن هذه الألفاظ المقدسة مقدمة للعمل.

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «من أدمن قراءة سورة مريم لم يمت في الدنيا حتى يصيب منها ما يغنيه في نفسه وماله وولده»(٢) .

إن هذا الغنى وعدم الاحتياج ـ حتما ـ قبس من وجود محتوى السورة وسريانها في أعماق روح الإنسان ، وانعكاسها من خلال أعماله وأقواله وسلوكه.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان الجزء ٣ ، ص ٥٠٠.

(٢) المصدر السابق.

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576