الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 576

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 576 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 264205 / تحميل: 11783
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

ويمكن ان تكون الجملة( وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ ) لها علاقة بالبرق الذي يصنع هذه الغيوم المليئة بالمياه.

الآية الاخرى تشير الى صوت الرعد الذي يتزامن مع البرق( وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ ) (1) .

نعم ، فهذا الصوت المدوّي في عالم الطبيعة يضرب به المثل ، فهو مع البرق في خدمة هدف واحد ولهما منافع متعدّدة كما أشرنا إليها ، ويقومان بعملية التسبيح ، وبعبارة اخرى فالرعد لسان حال البرق يحكي عن عظمة الخالق وعن نظام التكوين. فهو كتاب معنوي ، وقصيدة غرّاء ، ولوحة جميلة وجذّابة ، نظام محكم ومنظّم ومحسوب بدقّة ، وبلسان حاله يتحدّث عن علم ومهارة وذوق الكاتب والرسام والمعمار ويحمده ويثني عليه ، كلّ ذرّات هذا العالم لها اسرار ونظام دقيق. وتحكي عن تنزيه الله وخلوّه من النقص والعيوب (وهل التسبيح غير ذلك؟!).

وتتحدّث عن قدرته وحكمته (وهل الحمد غير بيان صفات الكمال؟!).

وقد احتمل بعض الفلاسفة انّ لكلّ ذرّات هذا العالم نوعا من العقل والشعور ، فهي من خلال هذا العقل تسبّح الله وتقدّسه ، ليس بلسان الحال فقط ، بل بلسان المقال ايضا.

وليس الرعد وسائر اجزاء العالم تسبّح بحمده تعالى ، بل حتّى الملائكة( وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ) (2) فهم يخافون من تقصيرهم في تنفيذ الأوامر الملقاة على عاتقهم ، وبالتالي فهم يخشون العقاب الالهي ، ونحن نعلم انّ الخوف يصيب أولئك الذين يحسّون بمسؤولياتهم ووظائفهم خوف بنّاء يحثّ الشخص على

__________________

(1) للتوضيح اكثر في معنيي التسبيح والتقديس للكائنات سيأتي في ذيل الآية( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) الاسراء ، 44.

(2) يقول الشيخ الطوسيرحمه‌الله في تفسيره التبيان : الخيفة بيان لحالة الشخص امّا الخوف فمصدر.

٣٦١

السعي والحركة.

وللتوضيح اكثر في مجال البرق والرعد تشير الآية الى الصاعقة( وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ ) ومع كلّ ذلك ـ وبمشاهدة آيات العظمة الالهية في عالم التكوين من السّماء والأرض والنباتات والأشجار والبرق والرعد وأمثالها ، وفي قدرة الإنسان الحقيرة تجاه هذه الحوادث ، حتّى في مقابل واحدة منها مثل شرارة البرق ـ نرى انّ هناك جماعة جاهلة تجادل في الله( وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ ) .

«المحال» في الأصل «الحيلة» بمعنى التدبير السرّي وغير الظاهر ، فالذي له القدرة على هذا التدبير يمتلك العلم والحكمة العالية ، ولهذا السبب يستطيع ان ينتصر على أعدائه ولا يمكن الفرار من حكومته.

وذكر المفسّرون وجوها عديدة في تفسير( شَدِيدُ الْمِحالِ ) فتارة بمعنى «شديد القوّة» ، او «شديد العذاب» ، او «شديد القدرة» او «شديد الأخذ»(1) .

الآية الاخيرة تشير الى مطلبين :

الاوّل : قوله تعالى :( لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِ ) فهو يستجيب لدعواتنا ، وهو عالم بدعاء العباد وقادر على قضاء حوائجهم ، ولهذا السبب يكون دعاؤنا ايّاه وطلبنا منه حقّا ، وليس باطلا.

ولكن دعاء الأصنام باطل( وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ ) نعم هكذا في دعوة الباطل ليست اكثر من وهم ، لانّ ما يقولونه من علم وقدرة الأصنام ما هو الّا أوهام وخيال ، او ليس الحقّ هو عين الواقع واصل الخير والبركة؟ والباطل هو الوهم واصل الشرّ والفساد؟ ولتصوير هذا الموضوع يضرب لنا القرآن الكريم مثالا حيّا ورائعا يقول :( إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ

__________________

(1) فسر البعض «المحال» من «المحل ، الماحل» بمعنى المكر والجدال والتصميم على العقوبة ، ولكن ما أشرنا اليه أعلاه هو الصحيح ، والتفسيران قريبا المعنى.

٣٦٢

فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ ) . فهل يستطيع احد ان يجلس على بئر ويطلب الماء بإشارة يد ليبلغ الماء فاه؟ هذا العمل لا يصدر الّا من انسان مجنون!

وتحتمل الآية تفسيرا آخر ، فهي تشبّه المشركين كمن بسط كفّه في الماء ليتجمع فوقها الماء ، وعند خروجها من الماء لم يجد فيها شيئا منه لانّ الماء يتسرّب من بين أصابع الكفّ المفتوحة.

وهناك تفسير ثالث وهو انّ المشركين ـ لحلّ مشاكلهم ـ كانوا يلجأون الى الأصنام ، فمثلهم مثل الذي يحتفظ بالماء في يده ، هل يحفظ الماء في يد؟! وهناك مثل معروف بين العرب لمن يسعى بدون فائدة يقال له : هو كقابض الماء باليد ، ويقول الشاعر :

فأصبحت فيما كان بيني وبينها

من الودّ مثل القابض الماء باليد

ولكنّنا نعتقد انّ التّفسير الاوّل أوضح!

وللتأكيد على هذا الحديث يأتي في نهاية الآية قوله تعالى :( وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ ) وايّ ضلال اكبر من ان يسعى الإنسان ويجتهد في السبيل الضالّ ولكنّه لا يصل الى مقاصده. ولا يحصل على شيء نتيجة تعبه وجهده.

الآية الأخيرة من هذه المجموعة ، ولكي تبرهن كيف انّ المشركين ضلّوا الطريق تقول :( وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ ) .

* * *

بحوث

1 ـ ما هو المقصود من سجود الكائنات؟

السجدة في هذه الموارد تعني الخضوع والتسليم ، فإنّ جميع الملائكة

٣٦٣

والناس ذوي العقول والأفكار متواضعين لله وخاضعين لأوامره ، وهناك نوعان من السجود ، سجود تكويني وهو انّ الكلّ خاضعون ومسلّمون للقوانين الطبيعيّة مثل الحياة والممات والمرض و و ، والبعض منهم له سجود تشريعي بالاضافة الى السجود التكويني ، فهم بميلهم وإرادتهم يسجدون لله.

2 ـ ما هو معنى( طَوْعاً وَكَرْهاً ) ؟

عبارة( طَوْعاً وَكَرْهاً ) يمكن ان تكون اشارة الى انّ المؤمنين خاضعون لله بميلهم وإرادتهم ، وامّا غير المؤمنين فهم خاضعون كذلك للقوانين الطبيعيّة التي تسير بأمر الله ان شاؤوا وان أبوا.

و (الكره) بضمّ الكاف تعني الكراهية في داخل الإنسان ، و (كره) بفتح الكاف ما حمل عليه الإنسان من خارج نفسه ، وبما انّ الأشخاص غير المؤمنين مقهورون للعوامل الخارجية وللقوانين الطبيعيّة ، استعمل القرآن (كره) بفتح الكاف.

ويحتمل في تفسير( طَوْعاً وَكَرْهاً ) انّ المقصود من «طوعا» هو التوافق والميل الفطري والطبيعي بين الإنسان والأسباب الطبيعيّة (مثل حبّ اي انسان للحياة) والمقصود من «كرها» هو ما فرض على الإنسان من الخارج مثل موت أحد الأشخاص بسبب المرض او اي عامل طبيعي آخر.

3 ـ ما هو معنى كلمة الظلال؟

«الظّلال» جمع «ظل» واستعمال هذه الكلمة في الآية يشير الى انّ المقصود في السجود ليس فقط السجود التشريعي ، فظلال الكائنات ليست خاضعة لارادتهم واختيارهم ، بل هو تسليم لقانون الضوء ، وعلى هذا يكون سجودهم تكويني ، يعني التسليم لقوانين الطبيعيّة.

٣٦٤

وطبيعي ليس المقصود من «الظلال» انّ جميع ما في السّماوات والأرض لها وجود مادّي كي يكون لها ظلال ، ولكن الآية تشير الى تلك الأشياء التي لها ظلال ، فمثلا يقال : انّ جمعا من العلماء وأبنائهم شاركوا في المجلس الكذائي ، وليس المقصود هنا انّ لكلّ العلماء أبناء «فتدبّر».

وعلى ايّة حال فإنّ الظلّ امر عدمي ، وهو ليس اكثر من فقدان النّور ، ولكن له آثارا ووجودا بسبب النّور المحيط به ، ولعلّ الآية تشير الى هذه النقطة ، وهي انّه حتّى الظلال خاضعة لله.

4 ـ ما هو معنى كلوة( الْآصالِ ) ؟

«الآصال» جمع «اصل» وهي جمع «اصيل» ومعناه آخر وقت من النهار ، ولذلك يعتبر اوّل الليل ، والغدو جمع غداة بمعنى اوّل النهار.

ورغم انّ السجود والخضوع للأشياء الكونية في مقابل الأوامر الالهيّة دائمة ومستمرّة في كلّ وقت ، ولكن ذكرها هنا في موقعين (الصبح والعشاء) امّا انّه كناية عن دوام الوقت ، فمثلا تقول : انّ فلانا يطلب العلم صباحا ومساء ، فالمقصود وهو انّه في كلّ وقت يطلب العلم ، وامّا ان يكون المقصود من الآية ما جاء في الكلام عن الظلال والتي تكون واضحة اكثر في اوّل النهار وآخره.

* * *

٣٦٥

الآية

( قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (16) )

التّفسير

لماذا عبادة الأصنام؟

كان البيان في الآيات السابقة عن معرفة الله واثبات وجوده ، وهذه الآية تبحث عن ضلال المشركين والوثنيين وتتناوله من عدّة جهات ، حيث تخاطب ـ اوّلا ـ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث تقول :( قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) ثمّ تأمر النّبي ان يجيب على السؤال قبل ان ينتظر جوابهم( قُلِ اللهُ ) ثمّ انّه يلومهم ويوبّخهم بهذه الجملة( قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا ) .

لقد بيّن ـ اوّلا ـ عن طريق ربوبيته انّه المدبّر والمالك لهذا العالم ، ولكلّ خير

٣٦٦

ونفع من جانبه ، وقادر على دفع اي شرّ وضرّ ، وهذا يعني انّكم بقبولكم لربوبيته يجب ان تطلبوا كلّ شيء من عنده لا من الأصنام العاجزة عن حلّ ايّة مشكلة لكم. ثمّ يذهب الى ابعد من ذلك حيث يقول : انّ هذه الأصنام لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرّا فكيف يمكنها ان تنفعكم او تضرّكم؟ وهم والحال هذه لا يحلّون اي عقدة لكم حتّى لو قمتم بعبادتهم ، فهؤلاء لا يستطيعون تدبير أنفسهم فما ذا ينتظر منهم؟

ثمّ يذكر مثالين واضحين وصريحين يحدّد فيها وضع الافراد الموحّدين والمشركين ، فيقول اوّلا :( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ ) فكما لا يستوي الأعمى والبصير لا يستوي المؤمن والكافر ، ولا يصحّ قياس الأصنام على الخالق جلّ وعلا.

ويقول ثانيا :( أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ ) كيف يمكن ان نساوي بين الظلام الذي يعتبر قاعدة الانحراف والضلال ، وبين النّور المرشد والباعث للحياة ، وكيف يمكن ان نجعل الأصنام التي هي الظّلمات المحضة الى جنب الله الذي هو النّور المطلق ، وما المناسبة بين الايمان والتوحيد اللذان هما نور القلب والروح ، وبين الشرك اصل الظلام؟!

ثمّ يدلل على بطلان عقيدة المشركين عن طريق آخر فيقول :( أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ) والحال ليس كذلك ، فإنّ المشركين أنفسهم لا يعتقدون بها ، فهم يعلمون انّ الله خالق كلّ شيء ، وعالم الوجود مرتبط به ، ولذلك تقول الآية :( قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) .

* * *

٣٦٧

بحوث

1 ـ الخالقية والرّبوبية يتطلّبان العبادة

يمكن ان يستفاد من الآية أعلاه انّ الخالق هو الربّ المدبّر ، لانّ الخلقة امر مستمر ودائمي ، وليس من خلق الكائنات يتركهم وشأنهم ، بل انّه تعالى يفيض بالوجود عليهم باستمرار وكلّ شيء يأخذ وجوده من ذاته المقدّسة ، وعلى هذا فنظام الخلقة وتدبير العالم كلّها بيد الله ، ولهذا السبب يكون هو النافع والضارّ. وغيره لا يملك شيء الّا منه ، فهل يوجد احد غير الله احقّ بالعبادة؟

2 ـ كيف يسأل ويجيب بنفسه؟

بالنظر الى الآية أعلاه يطرح هذا السؤال : كيف امر الله نبيّه ان يسأل المشركين : من خلق السماوات والأرض؟ وبعدها بدون ان ينتظر منهم الجواب يأمر النّبي ان يجيب هو على السؤال وبدون فاصلة يوبّخ المشركين على عبادتهم الأصنام ، اي طراز هذا في السؤال والجواب؟

ولكن مع الالتفات الى هذه النقطة يتّضح لنا الجواب وهو انّه في بعض الأحيان يكون الجواب للسؤال واضح جدّا ولا يحتاج الى الانتظار. فمثلا نسأل أحدا : هل الوقت الآن ليل ام نهار؟ وبلا فاصلة نجيب نحن على السؤال فنقول : الوقت بالتأكيد ليل. وهذه كناية لطيفة ، حيث انّ الموضوع واضح جدّا ولا يحتاج الى الانتظار للجواب ، بالاضافة الى انّ المشركين يعتقدون بخلق الله للعالم ولم يقولوا ابدا انّ الأصنام خالقة السّماء والأرض ، بل كانوا يعتقدون بشفاعتهم وقدرتهم على نفع الإنسان ودفع الضرر عنه ، ولهذا السبب كانوا يعبدوهم. وبما انّ الخالقية غير منفصلة عن الرّبوبية يمكن ان نخاطب المشركين بهذا الحديث ونقول : أنتم الذين تقولون بأنّ الله خالق ، يجب ان تعرفوا انّ الربوبية لله كذلك ،

٣٦٨

ويختصّ بالعبادة ايضا لذلك.

3 ـ العين المبصرة ونور الشمس شرطان ضروريان

يشير ظاهر المثالين (الأعمى والبصير) و (الظّلمات والنّور) الى هذه الحقيقة ، وهي انّ النظر يحتاج الى شيئين : العين المبصرة ، وشعاع الشمس ، بحيث لو انتفى واحد منهما فإنّ الرؤية لا تتحقّق ، والآن يجب ان نفكّر : كيف حال الافراد المحرومين من البصر والنّور؟ المشركون المصداق الواقعي لهذا ، فقلوبهم عمي ومحيطهم مليء بالكفر وعبادة الأصنام ، ولهذا السبب فهم في تيه وضياع. وعلى العكس فالمؤمنون بنظرهم الى الحقّ ، واستلهامهم من نور الوحي وارشادات الأنبياء عرفوا مسيرة حياتهم بوضوح.

4 ـ هل انّ خلق الله لكلّ شيء دليل على الجبر؟

استدلّ جمع من اتباع مدرسة الجبر انّ جملة( اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) في الآية أعلاه لها من السعة بحيث تشمل حتّى عمل الافراد ، فالله خالق اعمالنا ونحن غير مختارين.

يمكن ان نجيب على هذا القول بطريقين :

اوّلا : الجمل الاخرى للآية تنفي هذا الكلام ، لانّها تلوم المشركين بشكل اكيد فإذا كانت اعمالنا غير اختيارية ، فلما ذا هذا التوبيخ؟! وإذا كانت ارادة الله ان نكون مشركين فلما ذا يلومنا؟! ولماذا يسعى بالأدلّة العقليّة لتغيير مسيرتهم من الضلالة الى الهداية؟ كلّ هذا دليل على أنّ الناس أحرار في انتخاب طريقهم.

ثانيا : انّ الخالقية بالذات من مختصّات الله تعالى. ولا يتنافى مع اختيارنا في الأفعال ، لانّ ما نمتلكه من القدرة والعقل والشعور ، وحتّى الاختيار والحرية ، كلّها

٣٦٩

من عند الله ، وعلى هذا فمن جهة هو الخالق (بالنسبة لكلّ شيء وحتّى أفعالنا) ومن جهة اخرى نحن نفعل باختيارنا ، فهما في طول واحد وليس في عرض وأفق واحد ، فهو الخالق لكلّ وسائل الأفعال ، ونحن نستفيد منها في طريق الخير او الشرّ.

فمثلا الذي يؤسّس معملا لتوليد الكهرباء او لإنتاج أنابيب المياه ، يصنعها ويضعها تحت تصرّفنا ، فلا يمكن ان نستفيد من هذه الأشياء الّا بمساعدته ، ولكن بالنتيجة يكون التصميم النهائي لنا ، فيمكن ان نستفيد من الكهرباء لامداد غرفة عمليات جراحية وانقاذ مريض مشرف على الموت ، او نستخدمها في مجالس اللهو والفساد ، ويمكن ان نروي بالماء عطش انسان ونسقي وردا جميلا ، او نستخدم الماء في إغراق دور الناس وتخريبها.

* * *

٣٧٠

الآية

( أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ (17) )

التّفسير

وصف دقيق لمنظر الحقّ والباطل :

يستند القرآن الكريم ـ الذي يعتبر كتاب هداية وتربية ـ في طريقته الى الوقائع العينيّة لتقريب المفاهيم الصعبة الى أذهان الناس من خلال ضرب الأمثال الحسّية الرائعة من حياة الناس ، وهنا ـ ايضا ـ لأجل ان يجسّم حقائق الآيات السابقة التي كانت تدور حول التوحيد والشرك ، الايمان والكفر ، الحقّ والباطل ، يضرب مثلا واضحا جدّا لذلك

يقول اوّلا :( أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ) الماء عماد الحياة واصل النمو والحركة ،

٣٧١

( فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها ) تتقارب السواقي الصغيرة فيما بينها ، وتتكوّن الأنهار وتتّصل مع بعضها البعض ، فتسيل المياه من سفوح الجبال العظيمة والوديان وتجرف كلّ ما يقف امامها ، وفي هذه الأثناء يظهر الزّبد وهو ما يرى على وجه الماء كرغوة الصابون من بين أمواج الماء حيث يقول القرآن الكريم :( فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً ) .

«الرابي» من «الربو» بمعنى العالي او الطافي ، والربا بمعنى الفائدة مأخوذ من نفس هذا الأصل.

وليس ظهور الزبد منحصرا بهطول الأمطار ، بل( وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ ) (1) اي الفلزات المذابة بالنّار لصناعة أدوات الزينة منها او صناعة الوسائل اللازمة في الحياة.

بعد بيان هذا المثال بشكله الواسع لظهور الزبد ليس فقط في الماء بل حتّى للفلزات وللمتاع ، يستنتج القرآن الكريم( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ ) ثمّ يتطرّق الى شرحه فيقول :( فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ) .

فأمّا الزبد الذي لا فائدة فيه فيذهب جفاء ويصير باطلا متلاشيا ، وامّا الماء الصافي النقي المفيد فيمكث في الأرض او ينفذ الى الاعماق وتتكوّن منه العيون والآبار تروي العطاش ، وتروي الأشجار لتثمر ، والازهار لتتفتّح ، وتمنح لكلّ شيء الحياة.

وفي آخر الآية ـ للمزيد من التأكيد في مطالعة هذه الأمثال ـ يقول تعالى :( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ ) .

* * *

__________________

(1) تشير هذه الآية الى الافران التي تستعمل لصهر الفلزان ، فهذه الافران تتميّز بوجود النّار من تحتها ومن فوقها يعني نار تحت الفلز ونار فوقه ، وهذه من أفضل انواع الافران حيث تحيط بها النّار من كلّ جانب.

٣٧٢

بحوث

هذا المثال البليغ الذي عبّر عنه القرآن الكريم بألفاظ موزونة وعبارات منظّمة. وصوّر فيها الحقّ والباطل بأروع صورة ، فيه حقائق مخفيّة كثيرة ونشير هنا الى قسم منها :

1 ـ ما هي علائم معرفة الحقّ والباطل؟

يحتاج الإنسان في بعض الأحيان لمعرفة الحقّ والباطل ـ إذا أشكل عليه الأمر ـ الى علائم وأمثال حتّى يتعرّف من خلالها على الحقائق والأوهام. وقد بيّن القرآن الكريم هذه العلامات من خلال المثال أعلاه :

الف : ـ الحقّ مفيد ونافع دائما ، كالماء الصافي الذي هو اصل الحياة. امّا الباطل فلا فائدة فيه ولا نفع ، فلا الزبد الطافي على الماء يروي ظمآنا أو يسقي أشجارا ، ولا الزبد الظاهر من صهر الفلزات يمكن ان يستفاد منه للزينة او للاستعمالات الحياتية الاخرى ، وإذا استخدمت لغرض فيكون استخدامها رديئا ولا يؤخذ بنظر الاعتبار كما نستخدم نشارة الخشب للإحراق.

باء : ـ الباطل هو المستكبر والمرفّه كثير الصوت ، كثير الأقوال لكنّه فارغ من المحتوى ، امّا الحقّ فمتواضع قليل الصوت ، وكبير المعنى ، وثقيل الوزن(1) .

جيم ـ الحقّ يعتمد على ذاته دائما ، امّا الباطل فيستمدّ اعتباره من الحقّ ويسعى للتلبّس به ، كما انّ (الكذب يتلبّس بضياء الصدق) ولو فقد الكلام الصادق من العالم لما كان هناك من يصدق الكذب. ولو فقدت البضاعة السليمة من العالم لما وجد من يخدع ببضاعة مغشوشة. وعلى هذا فوجود الباطل راجع الى شعاعه الخاطف واعتباره المؤقّت الذي سرقه من الحقّ ، امّا الحقّ فهو مستند الى نفسه واعتباره منه.

__________________

(1) يقول الامام عليعليه‌السلام في وصفه أصحابه يوم الجمل «وقد ارعدوا وابرقوا ومع هذين الأمرين الفشل ، ولسنا نرعد حتّى نوقع ولا نسيل حتّى نمطر».

٣٧٣

2 ـ ما هو الزّبد؟

«الزبد» بمعنى الرغوة التي تطفوا على السائل ، والماء الصافي اقلّ رغوة ، لانّ الزبد يتكوّن بسبب اختلاط الأجسام الخارجية مع الماء ، ومن هنا يتّضح انّ الحقّ لو بقي على صفائه ونقائه لم يظهر فيه الخبث ابدا ، ولكن لامتزاجه بالمحيط الخارجي الملوّث فإنّه يكتسب منه شيئا ، فتختلط الحقيقة مع الخرافة ، والحقّ بالباطل ، والصافي بالخابط. فيظهر الزبد الباطل الى جانب الحقّ.

وهذا هو الذي يؤكّده الامام عليعليه‌السلام حيث يقول : لو انّ الباطل خلص من مزاج الحقّ لم يخف على المرتادين ، ولو انّ الحقّ خلص من لبس الباطل انقطعت عنه السن المعاندين».(1) .

يقول بعض المفسّرين انّ للآية أعلاه ثلاث امثلة : «نزول آيات القرآن» تشبيه بنزول قطرات المطر للخير ، «قلوب الناس» شبيهة بالأرض والوديان وبقدر وسعها يستفاد منها ، «وساوس الشيطان» شبيهة بالزبد الطافي على الماء ، فهذا الزبد ليس من الماء ، بل نشأ من اختلاط الماء بمواد الأرض الاخرى ، ولهذا السبب فوساوس النفس والشيطان ليست من التعاليم الالهية ، بل من تلوّث قلب الإنسان ، وعلى ايّة حال فهذه الوساوس تزول عن قلوب المؤمنين ويبقى صفاء الوحي الموجب للهداية والإرشاد.

3 ـ الاستفادة تكون بقدر الاستعداد واللياقة!

يستفاد من هذه الآية ـ ايضا ـ انّ مبدا الفيض الالهي لا يقوم على البخل والحدود الممنوعة ، كما انّ السحاب يسقط امطاره في كلّ مكان بدون قيد او

__________________

(1) نهج البلاغة ، الخطبة 50.

٣٧٤

شرط ، وتستفيد الأرض والوديان منها على قدر وسعها ، فالأرض الصغيرة تستفيد اقلّ والأرض الواسعة تستفيد اكثر ، وهكذا قلوب الناس في مقابل الفيض الالهي.

4 ـ الباطل والأوضاع المضطربة

عند ما يصل الماء الى السهل او الصحراء ويستقرّ فيها ، تبدا المواد المختلطة مع الماء بالترشّح ويذهب الزبد فيظهر الماء النقي مرّة ثانية ، وعلى هذا النحو فالباطل يبحث عن سوق مضطربة حتّى يستفيد منها ، ولكن بعد استقرار السوق وجلوس كلّ تاجر في مكانه المناسب وتحقق الالتزامات والضوابط في المجتمع ، لا يجد الباطل له مكانا فينسحب بسرعة!

5 ـ الباطل يتشكّل بأشكال مختلفة

انّ واحدة من خصائص الباطل هي انّه يغيّر لباسه من حين لآخر ، حتّى إذا عرفوه بلباسه يستطيع ان يخفي وجهه بلباس آخر ، وفي الآية أعلاه اشارة لطيفة لهذه المسألة ، حيث تقول : لا يظهر الزبد في الماء فقط ، بل يظهر حتّى في الافران المخصوصة لصهر الفلزات بشكل ولباس آخر ، وبعبارة اخرى فإنّ الحقّ والباطل موجودان في كلّ مكان كما يظهر الزبد في السوائل بالشكل المناسب لها. وعلى هذا يجب ان لا نخدع بتنوّع الوجوه وان نعرف أوجه الباطل ونطرحه جانبا.

6 ـ ارتباط البقاء بالنفع

تقول الآية :( وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ) ليس الماء فقط يبقى ويذهب الزبد الطافي عليه ، بل حتّى الفلزات تلك التي تستعمل للزينة او للمتاع

٣٧٥

يبقى الخالص منها ويذهب خبثه. وعلى هذا النحو فالناس والمدارس والمبادئ لهم حقّ الحياة على قدر منفعتهم ، وإذا ما رأينا بقاء اصحاب المبادئ الباطلة لفترة فإنّ ذلك بسبب وجود ذلك المقدار من الحقّ الذي اختلط فيه ، وبهذا المقدار له حقّ الحياة.

7 ـ كيف يطرد الحقّ الباطل؟

«الجفاء» بمعنى الإلقاء والإخراج ، ولهذا نكتة لطيفة وهي انّ الباطل يصل الى درجة لا يمكن فيها ان يحفظ نفسه ، وفي هذه اللحظة يلقى خارج المجتمع ، وهذه العملية تتمّ في حالة هيجان الحقّ ، فعند غليان الحقّ يظهر الزبد ويطفو على سطح ماء القدر ويقذف الى الخارج ، وهذا دليل على انّ الحقّ يجب ان يكون في حالة هيجان وغليان دائما حتّى يبعد الباطل عنه.

8 ـ الباطل مدين للحقّ ببقائه

كما قلنا في تفسير الآية ، فلو لم يكن الماء لما وجد الزبد ، ولا يمكن له ان يستمر ، كما انّه لولا وجود الحقّ فإنّ الباطل لا معنى له ولو لم يكن هناك اشخاص صادقون لما وقع احد تحت تأثير الافراد الخونة ولما صدّق بمكرهم ، فالشعاع الكاذب للباطل مدين في بقائه لنور الحقّ.

9 ـ صراع الحقّ والباطل مستمر

المثال الذي ضربه لنا القرآن الكريم في تجسيم الحقّ والباطل ليس مثالا محدودا في زمان ومكان معينين ، فهذا المنظر يراه الناس في جميع مناطق العالم المختلفة ، وهذا يبيّن انّ عمل الحقّ والباطل ليس مؤقتا وآنيا. وجريان الماء

٣٧٦

العذب والمالح مستمر الى نفخ الصور ، الّا إذا تحوّل المجتمع الى مجتمع مثالي (كمجتمع عصر الظهور وقيام الامام المهديعليه‌السلام ) فعنده ينتهي هذا الصراع ، وينتصر الحقّ ويطوي بساط الباطل ، وتدخل البشرية مرحلة جديدة من تاريخها ، والى ان نصل الى هذه المرحلة فالصراع مستمر بين الحقّ والباطل ، ويجب ان نحدّد موقفنا في هذا الصراع.

10 ـ تزامن الحياة مع السعي والجهاد

المثال الرائع أعلاه يوضّح هذا الأساس لحياة الناس ، وهو انّ الحياة بدون جهاد غير ممكنة ، والعزّة بدون سعي غير ممكنة ايضا ، لانّه يقول : يجب ان يذهب الناس الى المناجم لتهيئة مستلزمات حياتهم في المتاع والزينة( ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ ) . وللحصول على هذين الشيئين يجب تنقية المواد الخام من الشوائب بواسطة نيران الافران للحصول على الفلز الخالص الصالح للاستعمال ، وهذا لا يتمّ الّا من خلال السعي والمجاهدة والعناء.

وهذه هي طبيعة الحياة حيث يوجد الى جانب الورد الشوك ، والى جانب النصر توجد المصاعب والمشكلات ، وقالوا في القديم : (الكنوز في الخرائب وفوق كلّ كنز يوجد ثعبان نائم) ، فإنّ هذه الخربة والثعبان تمثّلان المشاكل والصعوبات للحصول على الموفّقية في الحياة.

ويؤكّد القرآن الكريم هذه الحقيقة وهي انّ التوفيق لا يحصل الّا بتحمّل المصاعب والمحن ، يقول جلّ وعلا في الآية (214) من سورة البقرة :( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ ) .

٣٧٧

الأمثال في القرآن :

انّ دور المثال في توضيح وتفسير الغايات له اهميّة كبيرة غير قابلة للإنكار ، ولهذا السبب لا يوجد اي علم يستغني عن ذكر المثال لاثبات وتوضيح الحقائق وتقريب معناها الى الأذهان ، وتارة ينطبق المثال مع المقصود بشكل يجعل المعاني الصعبة تنزل من السّماء الى الأرض وتكون مفهومة للجميع ، فيمكن ان يقال : انّ المثال له دور مؤثّر في مختلف الأبحاث العلمية والتربوية والاجتماعية والاخلاقية وغيرها ، ومن جملة تأثيراته :

1 ـ المثال يجعل المسائل محسوسة :

من المعلوم أنّ الإنسان يأنس بالمحسوسات أكثر ، أمّا الحقائق العلمية المعقّدة فهي بعيدة المنال. والأمثال تقرّب هذه الفواصل وتجعل الحقائق المعنوية محسوسة ، وإدراكها يسير ولذيذ.

2 ـ المثال يقرّب المعنى :

تارة يحتاج الإنسان لاثبات مسألة منطقية او عقلية الى ادلّة مختلفة ، ومع كلّ هذه الادلّة تبقى هناك نقاط مبهمة محيطة بها ، ولكن عند ذكر مثال واضح منسّق مع الغاية يقرّب المعنى ويعزّز الادلّة ويقلّل من كثرتها.

3 ـ المثال يعمّم المفاهيم

كثير من البحوث العلمية بشكلها الاصلي يفهمها الخواص فقط ، ولا يستفيد منها عامّة الناس ، ولكن عند ما يصحبها المثال تكون قابلة للفهم ، ويستفيد منها الناس على اختلاف مستوياتهم العلمية ، ولهذا فالمثال وسيلة لتعميم الفكر

٣٧٨

والثقافة.

4 ـ المثال ، يزيد في درجة التصديق :

مهما تكن الكليّات العقلية منطقية ، فإنّها لا تخلق حالة اليقين الكافية في ذهن الإنسان ، لانّ الإنسان يبحث عن اليقين في المحسوسات ، فالمثال يجعل من المسألة الذهنيّة واقعا عينيّا ، ويوضّحها في العالم الخارجي ، ولهذا السبب فإنّ له اثره في زيادة درجة تصديق المسائل وقبولها.

5 ـ المثال يخرس المعاندين :

كثيرا ما لا تنفع الادلّة العقليّة والمنطقيّة لاسكات الشخص المعاند حيث يبقى مصرّا على عناده ولكن عند ما نصب الحديث في قالب المثال نوصد الطريق عليه بحيث لا يبقى له مجال للتبرير ولا لاختلاق الاعذار. ولا بأس ان نطرح هنا بعض الامثلة حتّى نعرف مدى تأثيرها : نقرا في القرآن الكريم انّ الله سبحانه وتعالى يرد على الذين اشكلوا على ولادة السّيد المسيحعليه‌السلام كيف انّه ولد من امّ بغير أب( إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ) .(1)

لاحظوا جيدا ، فنحن مهما حاولنا ان نقول للمعاندين : انّ هذا العمل بالنسبة الى قدرة الله المطلقة لا شيء ، فمن الممكن ان يحتجّوا ايضا ، ولكن عند ما نقول لهم هل تعتقدون انّ آدم خلقه الله من تراب؟ فإنّ الله الذي له هذه القدرة كيف لا يستطيع إيجاد شخص بدون أب؟!

__________________

(1) آل عمران ، 59.

٣٧٩

وبالنسبة الى المنافقين الذين يقضون في ظلّ نفاقهم ايّاما مريحة ظاهرا ، فإنّ القرآن الكريم يضرب مثالا رائعا عن حالهم ، فيشبهّهم بالمسافرين في الصحراء فيقول( يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .(1) .

فهل يوجد أوضح من هذا الوصف للمنافق التائه في الطريق ، ليستفيد من نفاقه وعمله كي يستمرّ في حياته؟

وعند ما تقول للافراد : انّ الإنفاق يضاعفه لكم الله عدّة مرّات قد لا يستطيعون ان يفهموا هذا الحديث ، ولكن يقول القرآن الكريم :( مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ ) (2) ، وهذا المثال الواضح اقرب للإدراك.

وغالبا ما نقول : انّ الرياء لا ينفع الإنسان ، فقد يكون هذا الحديث ثقيلا على البعض ، كيف يمكن لهذا العمل ان يكون غير مفيد ، فبناء مستشفى او مدرسة حتّى لو كان بقصد الرياء لماذا ليست له قيمة عند الله؟!

ولكن يضرب الله مثالا رائعا حيث يقول :( فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً ) .(3) ولكي لا نبتعد كثيرا فالآية التي نحن بصدد تفسيرها تبحث في مجال الحقّ والباطل وتجسّم هذه المسألة بشكل دقيق ، المقدّمات والنتائج ، والصفات والخصوصيات والآثار ، وتجعلها قابلة الفهم للجميع وتسكت المعاندين ، واكثر

__________________

(1) البقرة ، 20.

(2) البقرة ، 261.

(3) البقرة ، 264.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦) )

التّفسير

دعاء زكريا المستجاب :

مرّة أخرى نواجه الحروف المقطعة في بداية هذه السورة ، ولما كنّا قد بحثنا تفسير هذه الحروف المقطعة بصورة مفصلة في بداية ثلاث سور مختلفة فيما سبق ـ سورة البقرة وآل عمران والأعراف ـ فلا نرى حاجة للتكرار هنا.

ولكن ما ينبغي اضافته هنا هو وجود طائفتين من الرّوايات في المصادر الإسلامية تتعلق بالحروف المقطعة في هذه السورة.

الأولى : تقول بأن كل حرف من هذه الحروف يشير إلى اسم من أسماء الله الحسنى ، فالكاف يشير إلى الكافي ، وهو من أسماء الله الحسنى ، والهاء تشير إلى

٤٠١

الهادي ، والياء إشارة إلى الولي ، والعين إشارة إلى العالم ، والصاد إشارة إلى صادق الوعد(١) .

الثّانية : تفسر هذه الحروف المقطعة بحادثة ثورة الإمام الحسينعليه‌السلام في كربلاء ، فالكاف إشارة إلى كربلاء ، والهاء إشارة إلى هلاك عترة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والياء إشارة إلى يزيد، والعين إشارة إلى مسألة العطش ، والصاد إشارة إلى صبر وثبات الحسين وأصحابه المضحين(٢) .

وكما قلنا مرارا ، فإن لآيات القرآن أنوار معان مختلفة ، وتبيّن أحيانا مفاهيم من الماضي والمستقبل ، ومع تنوعها واختلافها فإنّه لا يوجد تناقض بينها ، في حين أننا إذا حصرنا المعنى وفسّرناه تفسيرا واحدا ، فمن الممكن أن نبتلى بإشكالات من ناحية وضع وسبب نزول الآية وزمانه.

وبعد ذكر الحروف المقطعة ، تشرع الكلمات الأولى من قصّة زكرياعليه‌السلام فتقول:( ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ) (٣) . وفي ذلك الوقت الذي كان زكرياعليه‌السلام مغتما ومتألما فيه من عدم إنجاب الولد ، توجه إلى رحمة ربّه :( إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا ) بحيث لم يسمعه أحد ، وذكر في دعائه وهن وضعف العظام باعتبارها عمود بدن الإنسان ودعامته وأقوى جزء من اجزائه :( قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ) .

إن تشبيه آثار الكبر بالشعلة التي عمت كل الرأس تشبيه جميل ، لأنّ خاصية شعلة النّار أنّها تتسع بسرعة ، وتلتهم كل ما يحيط بها.

ومن جهة ثانية فإنّ شعلة النّار لها بريق وضياء يجلب الانتباه من بعيد.

ومن ناحية ثالثة ، فإنّ النّار إذا اشتعلت في محل له ، فإنّ الشيء الذي يبقي

__________________

(١) نور الثقلين ، الجزء ٣ ، ص ٣٢٠.

(٢) المصدر السّابق.

(٣) كلمة «ذكر» خبر لمبتدأ محذوف ، وعليه فالتقدير : هذا ذكر رحمة ربّك.

٤٠٢

منه هو الرماد فقط.

لقد شبه زكريا نزول الكبر ، وبياض كل شعر رأسه باشتعال النّار ، والرماد الأبيض الذي تتركه ، وهذا التشبيه جميل وبليغ جدا.

ثمّ يضيف :( وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ) فقد عودتني دائما ـ فيما مضى ـ على استجابة أدعيتي ، ولم تحرمني منها أبدا ، والآن وقد أصبحت كبيرا وعاجزا فأجدني أحوج من السابق إلى أن تستجيب دعائي ولا تخيبّني.

إنّ الشقاء هنا بمعنى التعب والأذى أي إنّي لم أتعب ولم أتأذّ في طلباتي منك ، لأنّك كنت تقضيها بسرعة.

ثمّ يبيّن حاجته :( وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي ) أي إنّي أخشى من أقربائي أن يسلكوا سبيل الانحراف والظلم( وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) أي مرضيا عندك.

* * *

بحوث

١ ـ المراد من الإرث

لقد قدم المفسّرون الإسلاميون بحوثا كثيرة حول الإجابة عن هذا السؤال ، فالبعض يعتقد أنّ الإرث هنا يعني الإرث في الأموال ، والبعض اعتبره إشارة إلى مقام النبوة ، وبعض آخر احتمل أن يكون المراد معنى جامعا شاملا لكلا الرأيين السابقين.

وقد اختار كثير من علماء الشيعة المعنى الأوّل ، في حين ذهب جماعة من علماء العامّة إلى المعنى الثّاني ، والبعض الآخر ـ كسيد قطب في (في ظلال القرآن) ، والآلوسي في روح المعاني ـ اختاروا المعنى الثّالث.

إنّ الذين حصروا المراد في الإرث في المال استندوا إلى ظهور كلمة الإرث

٤٠٣

في هذا المعنى ، لأن هذه الكلمة إذا كانت مجرّدة عن القرائن الأخرى ، فإنّها تعني إرث الأموال ، أمّا في موارد استعمالها في بعض آيات القرآن في الأمور المعنوية ، كالآية (٣٢) من سورة فاطر :( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا ) فلوجود القرائن في مثل هذه الموارد.

إضافة إلى أنّه يستفاد من قسم من الرّوايات أن هدايا ونذورا كثيرة كانت تجلب إلى الأحبار ـ وهم علماء اليهود ـ في زمان بني إسرائيل ، وكان زكريا رئيس الأحبار(١) .

وإذا تجاوزنا ذلك ، فإن زوجة زكريا كانت من أسرة سليمان بن داود ، وبملاحظة الثروة الطائلة لسليمان بن داود ، فقد كان لها نصيب منها.

لقد كان زكريا خائفا من وقوع هذه الأموال بأيدي أناس غير صالحين ، وانتهازيين ، أو أن تقع بأيدي الفساق والفجرة ، فتكون بنفسها سببا لنشوء وانتشار الفساد في المجتمع ، لذلك طلب من ربّه أن يرزقه ولدا صالحا ليرث هذه الأموال وينظر فيها ، ويصرفها في أفضل الموارد.

الرّواية المعروفة المروية عن فاطمة الزهراءعليها‌السلام ، والتي استدلت فيها بهذه الآية من أجل استرجاع فدك ، هي شاهد آخر على هذا المدعى.

ينقل العلّامة الطبرسي في كتاب الإحتجاج عن سيدة النساءعليها‌السلام : إنّه عند ما صمم الخليفة الأوّل على منع فاطمة الزهراءعليها‌السلام فدكا ، وبلغ ذلك فاطمة ، حضرت عنده وقالت : «يا أبا بكر! أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئت شيئا فريا! أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا:إذ قال رب هب( لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ؟ ) (٢) .

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٣٢٣.

(٢) نور الثقلين ، الجزء ٣ ، ص ٣٢٤ (نقلا عن الإحتجاج).

٤٠٤

أمّا الذين يعتقدون بأن الإرث هنا هو الإرث المعنوي ، فقد تمسكوا بقرائن في نفس الآية ، أو خارجة عنها ، مثل :

١ ـ يبدو من البعيد أن نبيّا كبيرا كزكريا ، وفي ذلك السن الكبير ، يمكن أن تشغل فكره مسألة ميراث ثروته ، خاصّة وأنّه يضيف بعد جملة( يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) جملة( وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) ، ولا شك أن هذه الجملة إشارة إلى الصفات المعنوية لذلك الوارث.

٢ ـ إنّ الله سبحانه لما بشره بولادة يحيى في الآيات القادمة ، فإنّه ذكر صفات ومقامات معنوية عظيمة ، ومن جملتها مقام النبوة.

٣ ـ إن الآية (٣٨) من سورة آل عمران بينت السبب الذي دفع زكريا إلى هذا الطلب والدعاء ، وأنّه فكر في ذلك عند ما شاهد مقامات مريم حيث كان يأتيها رزقها من طعام الجنّة في محرابها بلطف الله :( هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ ) .

٤ ـ ورد في بعض الأحاديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يؤيد أن الإرث هنا يراد به الإرث المعنوي ، وخلاصة الحديث أنّ الإمام الصادقعليه‌السلام روى عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ عيسى بن مريم مرّ على قبر كان صاحبه يعذب ، ومرّ عليه في العام الثّاني فرأى صاحب ذلك القبر لا يعذب ، فسأله ربّه عن ذلك ، فأوحى الله إليه أنّه لصاحب هذا القبر ولد صالح قد أصلح طريقا وآوى يتيما ، فغفر الله له بعمل ولده. ثمّ قال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ميراث الله من عبده المؤمن ولد يعبده من بعده» ، ثمّ تلا الإمام الصادق عند نقله هذا الحديث الآية المرتبطة بزكريا :( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) (١) .

فإن قيل : إن ظاهر كلمة الإرث هو إرث الأموال.

فيقال في الجواب : إن هذا الظهور ليس قطعيا ، لأنّ هذه الكلمة قد استعملت

__________________

(١) نور الثقلين ، الجزء ٣ ، ص ٣٢٣ و ٣٢٤.

٤٠٥

في القرآن مرارا في الإرث المعنوي ، كالآية (٣٢) من سورة فاطر ، والآية (٥٣) من سورة المؤمن. إضافة إلى أنّنا لو فرضنا أنّها خلاف الظاهر ، فإنّ هذا الإشكال سيزول بوجود القرائن.

إلّا أنّ أنصار الرأي الأوّل يستطيعون أن يناقشوا هذه الاستدلالات ، بأنّ ما كان يشغل فكر زكريا ـ نبي الله الكبير ـ هي مسألة الأموال ، ولم تكن تشغله كمسألة شخصية ، بل باعتبارها مصدرا لفساد أو صلاح المجتمع ؛ لأنّ بني إسرائيل ـ وكما قيل أعلاه ـ كانوا يأتون بالهدايا والنذور الكثيرة إلى الأحبار فكانت تودع عند زكريا ، وربما كانت هناك أموالا متبقية من قبل زوجته التي كانت من أسرة سليمان ، ومن البديهي أن وجود شخص غير صالح يتولى هذه الأموال قد يؤدي إلى مفاسد عظيمة ، وهذا هو الذي كان يقلق زكريا.

وأمّا الصفات المعنوية التي ذكرت ليحيى في هذه الآيات والآيات الأخرى ، فإنّها تؤيد ما ذكرنا ، وتنسجم معه ، لأنّه أراد أن تقع هذه الثروة العظيمة بيد رجل صالح يستفيد منها في سبيل المجتمع.

إلّا أنّنا نعتقد بأنا إذا توصلنا من مجموع المباحث أعلاه إلى هذه النتيجة ، وهي أن للإرث هنا مفهوما ومعنى واسعا يشمل إرث الأموال كما يشمل إرث المقامات المعنوية ، فسوف لا يكون هناك مورد خلاف ، لأنّ لكل رأي قرائنه ، وإذ لاحظنا الآيات السابقة واللاحقة ومجموع الرّوايات ، فإنّ هذا التّفسير يبدو أقرب للصواب.

أمّا جملة( إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي ) فإنّها مناسبة لكلا المعنيين ، لأنّ الأشخاص الفاسدين إذ تولوا أمر هذه الأموال ، فإنّهم سيكونون مصدر قلق حقا ، وإذا وقعت زمام الأمور وقيادة الناس المعنوية بيد أناس منحرفين ، فإنّ ذلك أيضا يثير المخاوف،وعلى هذا فإنّ خوف زكريا يمكن توجيهه في كلا الصورتين. وحديث فاطمة الزهراءعليها‌السلام يناسب هذا المعنى أيضا.

٤٠٦

٢ ـ ماذا تعني كلمة «نادى»؟

في قوله تعالى( إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا ) طرح هذا السؤال بين المفسّرين ، وهو أن «نادى» تعني الدعاء بصوت عال ، في حين أن «خفيا» تعني الإخفات وخفض الصوت ، وهذان المعنيان لا يناسب أحدهما الآخر.

إلا أننا إذا علمنا أن «خفيا» لا تعني الإخفات ، بل تعني الإخفاء ، فسيكون من الممكن أن زكريا حين خلوته ، حيث لا يوجد أحد سواه ، كان ينادي ويدعو الله بصوت عال.

والبعض قال : إن طلبه هذا كان في جوف الليل حيث كان الناس يغطون في النوم(١) .

والبعض الآخر اعتبر قوله تعالى :( فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ ) التي ستأتي في الآيات التالية ، دليلا على وقوع هذا الدعاء في الخلوة(٢) .

٣ ـ( وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ )

إنّ زكريا قال :( وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) ، وذلك لأنّ زوجته كانت خالة مريم أو عيسى ، ويتصل نسبها بيعقوب ، لأنّها كانت من أسرة سليمان بن داود ، وهو من أولاد يهودا بن يعقوب(٣) .

* * *

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ج ٦ ، ذيل الآية مورد البحث.

(٢) تفسير الميزان الجزء ١٤ ، ذيل الآية.

(٣) مجمع البيان ، الجزء ٦ ، ذيل الآية.

٤٠٧

الآيات

( يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١) )

التّفسير

بلوغ زكريا أمله :

تبيّن هذه الآيات استجابة دعاء زكرياعليه‌السلام من قبل الله تعالى استجابة ممزوجة بلطفه الكريم وعنايته الخاصّة ، وتبدأ بهذه الجملة :( يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ) .

كم هو رائع وجميل أن يستجيب الله دعاء عبده بهذه الصورة ، ويطلعه

٤٠٨

ببشارته على تحقيق مراده ، وفي مقابل طلب الولد فإنّه يعطيه مولدا ذكرا ، ويسميه أيضا بنفسه ، ويضيف إلى ذلك أنّ هذا الولد قد تفرد بأمور لم يسبقه أحد بها. لأنّ قوله :( لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ) وإن كانت تعني ظاهرا بأن أحدا لم يسم باسمه لحد ولادته ، لكن لما لم يكن الاسم لوحده دليلا على شخصية أحد ، فسيصبح من المعلوم أنّ المراد من الاسم هنا هو المسمّى ، أي أحدا قبله لم يكن يمتلك هذه الامتيازات ، كما ذهب الراغب الأصفهاني إلى هذا المعنى ـ بصراحة ـ في مفرداته.

لا شك في وجود أنبياء كبار قبل يحيى ، بل وأسمى منه ، إلّا أنّه لا مانع مطلقا من أن يكون ليحيى خصوصيات تختص به ، كما ستأتي الإشارة إلى ذلك فيما بعد.

أمّا زكريا الذي كان يرى أن الأسباب الظاهرية لا تساعد على الوصول إلى مثل هذه الأمنية ، فإنّه طلب توضيحا لهذه الحالة من الله سبحانه :( قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ) .

«عاقر» في الأصل من لفظة «عقر» بمعنى الجذر والنهاية ، أو بمعنى الحبس ، وإنّما يقال للمرأة : عاقر ، لأنّ قابليتها على الولادة قد انتهت ، أو لأنّ إنجاب الأولاد محبوس عنها.

«العتيّ» تعني الشخص الذي نحل جسمه وضعف هيكله ، وهي الحالة التي تظهر على الإنسان عند شيخوخته.

إلّا أنّ زكريا سمع في جواب سؤاله قول الله سبحانه :( قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ) (١) .

إن هذه ليست بالمسألة العجيبة ، أن يولد مولود من رجل طاعن في السن

__________________

(١) المعروف بين المفسّرين أن عبارة (كذلك) هي في تقدير (الأمر كذلك). ويحتمل كذلك أن (كذلك) متعلقة بما بعدها ويصبح معناها : كذلك قال ربّك.

٤٠٩

مثلك ، وامرأة عقيم ظاهرا( وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً ) ، فإنّ الله قادر على أن يخلق كل شيء من العدم ، فلا عجب أن يتلطف عليك بولد في هذا السن وفي هذه الظروف.

ولا شك أنّ المبشر والمتكلم في الآية الأولى هو الله سبحانه ، إلّا أن البحث في أنّه هو المتكلم في الآية الثّالثة :( قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ) .

ذهب البعض بأنّ المتكلم هم الملائكة الذين كانوا واسطة لتبشير زكريا ، والآية (٣٩) من سورة آل عمران يمكن أن تكون شاهدا على ذلك :( فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى ) .

لكن الظاهر هو أنّ المتكلم في كل هذه الأحوال هو الله سبحانه ، ولا دليل ـ أو سبب ـ يدفعنا إلى تغييره عن ظاهره ، وإذا كانت الملائكة وسائط لنقل البشارة ، فلا مانع ـ أبدا ـ من أن ينسب الله أصل هذا الإعلان والبشارة إلى نفسه ، خاصّة وأنّنا نقرأ في الآية (٤٠) من سورة آل عمران :( قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ ) .

وقد سرّ زكريا وفرح كثيرا لدى سماعه هذه البشارة ، وغمر نفسه نور الأمل ، لكن لما كان هذا النداء بالنسبة إليه مصيريا ومهما جدا ، فإنّه طلب من ربّه آية على هذا العمل:( قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً ) .

لا شك أنّ زكريا كان مؤمنا بوعد الله ، وكان مطمئنا لذلك ، إلّا أنّه لزيادة الاطمئنان ـ كما أنّ إبراهيم الذي كان مؤمنا بالمعاد طلب مشاهدة صورة وكيفية المعاد في هذه الحياة ليطمئن قلبه ـ طلب من ربّه مثل هذه العلامة والآية ، فخاطبه الله :( قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا ) واشغل لسانك بذكر الله ومناجاته.

لكن ، أية آية عجيبة هذه! آية تنسجم من جهة مع حال مناجاته ودعائه ، ومن جهة أخرى فإنّها تعزله عن جميع الخلائق وتقطعه إلى الله حتى يشكر الله

٤١٠

على هذه النعمة الكبيرة ، ويتوجه إلى مناجاة الله أكثر فأكثر.

إن هذه آية واضحة على أن إنسانا يمتلك لسانا سليما ، وقدرة على كل نوع من المناجاة مع الله ، ومع ذلك لا تكون له القدرة على التحدث أمام الناس!

بعد هذه البشارة والآية الواضحة ، خرج زكريا من محراب عبادته إلى الناس ، فكلّمهم بالإشارة :( فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) لأنّ النعمة الكبيرة التي منّ الله بها على زكريا قد أخذت بأطراف القوم ، وكان لها تأثير على مصير ومستقبل كل هؤلاء ، ولهذا فقد كان من المناسب أن يهبّ الجميع لشكر الله بتسبيحه ومدحه وثنائه.

وإذا تجاوزنا ذلك ، فإنّ بإمكان هذه الموهبة التي تعتبر إعجازا أن تحكّم أسس الإيمان في قلوب الناس ، وكانت هذه أيضا موهبة أخرى.

* * *

بحثان

١ ـ يحيىعليه‌السلام النّبي المتألّه الورع

لقد ورد اسم «يحيى» في القرآن الكريم خمس مرات ـ في سور آل عمران ، والأنعام، ومريم ، والأنبياء ـ فهو واحد من أنبياء الله الكبار ، ومن جملة امتيازاته ومختصاته أنّه وصل إلى مقام النّبوة في مرحلة الطفولة ، فإنّ الله سبحانه قد أعطاه عقلا وذكاء وقّادا ودراية واسعة في هذا العمر بحيث أصبح مؤهلا لتقبل هذا المنصب.

ومن خصائص هذا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي أشار إليها القرآن في الآية (٣٩) من سورة آل عمران ، وصفه بالحصور ، كما قلنا في ذيل تلك الآية ، فإنّ «الحصور» من مادة الحصر ، بمعنى وقوع الشخص في المحاصرة ، وهي تعني هنا ـ طبقا لبعض الرّوايات ـ الامتناع عن الزواج.

٤١١

لقد كان هذا العمل امتيازا بالنسبة له ، من جهة أنّه يبيّن نهاية العفة والطهارة ، أو أنّه كان ـ نتيجة ظروف الحياة الخاصّة ـ مضطرا إلى الأسفار المتعددة من أجل نشر الدين الإلهي والدعوة إليه ، واضطر كذلك إلى أن يعيش حياة العزوبة كعيسى بن مريمعليه‌السلام .

وهناك تفسير قريب من الصواب أيضا ، وهو أن الحصور ـ في الآية المذكورة ـ تعني الشخص الذي ترك شهوات الدنيا وملذاتها ، وهذا في الواقع مرتبة عالية من الزهد(١) .

على كل حال ، فإنّ المستفاد من المصادر الإسلامية والمسيحية أن يحيى كان بن خالة عيسى.

فقد صرّحت المصادر المسيحية بأنّ يحيى غسل المسيحعليه‌السلام غسل التعميد ، ولذلك يسمّونه (يحيى المعمد) ـ وغسل التعميد غسل خاص يغسل المسيحيون أولادهم به ، ويعتقدون أنّه يطهرهم من الذنوب ـ ولما أظهر المسيح نبوته آمن به يحيى.

لا شك أن يحيى لم يكن له كتاب سماوي خاص ، وما نقرأه في الآيات التالية من أنّه( يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ ) إشارة إلى التوراة ، وهي كتاب موسىعليه‌السلام .

وهناك جماعة يتبعون يحيى ، وينسبون له كتابا ، وربما كان (الصابئون الموحدون) من أتباع يحيى(٢) .

لقد كان بين يحيى وعيسى جوانب مشتركة ، كالزهد الخارق غير المألوف ، وترك الزواج للأسباب التي ذكرت ، وولادتهما التي تحمل طابع الإعجاز ، وكذلك

__________________

(١) لقد بحثنا مفصلا في أنّ ترك الزواج لا يمكن أن يكون فضيلة لوحده ، وأنّ قانون الإسلام يؤكّد في هذا المجال على الزواج ، في الجزء الثّاني ذيل الآية (٣٩) من آل عمران من هذا التّفسير.

(٢) أعلام القرآن ، ص ٦٦٧.

٤١٢

النسب القريب جدّا.

ويستفاد من الرّوايات الإسلامية ، أن بين الحسينعليه‌السلام ويحيىعليه‌السلام جهات مشتركة ، ولذلك فقد روي الإمام زين العابدين علي بن الحسينعليه‌السلام أنّه قال : «خرجنا مع الحسين بن عليعليه‌السلام ، فما نزل منزلا ولا رحل منه إلّا ذكر يحيى بن زكريا وقتله ، وقال : ومن هو ان الدنيا على الله أنّ رأس يحيى بن زكريا أهدي إلى بغي من بغايا بني إسرائيل»(١) .

كما أن شهادة الحسينعليه‌السلام تشبه شهادة يحيىعليه‌السلام من عدّة جهات أيضا ، وسنذكر كيفية قتل يحيى فيما بعد.

وكذلك فإنّ اسم الحسينعليه‌السلام كاسم يحيىعليه‌السلام لم يسبقه به أحد ، ومدّة حملهما كانت أقل من المعتاد.

٢ ـ ما معنى كلمة «المحراب»؟

«المحراب» محل خاص في مكان العبادة يجعل للإمام أو الوجهاء والمبرزين ، وقد ذكروا علتين لهذه التسمية :

الأولى : أنّها من مادة «حرب» ، لأنّ المحراب في الحقيقة محل لمحاربة الشيطان وهوى النفس.

والثّانية : أنّ المحراب في اللغة بمعنى مكان الصدارة في المجلس ، ولما كان مكان المحراب في صدر المعبد فقد سمي بهذا الاسم.

يقول البعض : إنّ المحراب كان عند بني إسرائيل بعكس ما هو المتعارف عندنا ، حيث كان في مكان أعلى من سطح الأرض حيث يرتقى اليه بعدّة

__________________

(١) نور الثقلين ، الجزء ٣ ، ص ٣٢٤.

٤١٣

درجات. وكانوا يحيطونه بالجدران بحيث تصعب رؤية الذين يتعبدون في داخل المحراب ، ويؤيد ذلك ما ورد في الآية :( فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ ) والتي قرأناها في الآيات محل البحث ، ومع ملاحظة كلمة «على» التي ستعمل عادة للدلالة على الجهة العليا يتّضح هذا المطلب أكثر.

* * *

٤١٤

الآيات

( يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥) )

التّفسير

صفات يحيىعليه‌السلام البارزة :

رأينا في الآيات السابقة كيف أنّ الله سبحانه منّ على زكريا عند كبره بيحيى ، وبعد ذلك فإنّ أوّل ما نلاحظه في هذه الآيات هو الأمر الإلهي المهم الذي يخاطب يحيى :( يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ ) .

المشهور بين المفسّرين أنّ المراد من الكتاب هنا هو التوراة ، حتى ادعوا الإجماع على ذلك(١) .

إلّا أنّ البعض احتمل أن يكون له كتاب خاص كزبور داود ، وهو طبعا ليس

__________________

(١) يراجع تفسير القرطبي والآلوسي في تفسير هذه الآية.

٤١٥

كتابا متضمنا لدين جديد ومذهب مستحدث(١) . غير أن الاحتمال الأوّل هو الأقوى كما يبدو.

وعلى أي حال ، فإنّ المراد من أخذ الكتاب بقوة هو إجراء وتنفيذ ما جاء في كتاب التوراة السماوي بكل حزم واقتدار وتصميم راسخ ، وإرادة حديدية ، وأن يعمل بكل ما فيه، وأن يستعين بكل القوى المادية والمعنوية في سبيل نشره وتعميمه.

إنّ من القواعد المسلّمة أنّه لا يمكن تطبيق أي كتاب ودين بدون قوة وقدرة وحزن أتباعه وأنصاره ، وهذا درس لكل المؤمنين ، وكل السالكين والسائرين في طريق الله.

يحيى وصفاته العشرة :

ثمّ أشار القرآن الكريم إلى المواهب العشرة التي منحها الله ليحيى والتي اكتسبها بتوفيق الله :

١ ـ( وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ) . وهو أمر النّبوة والعقل والذكاء والدراية.

٢ ـ( وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا ) والحنان في الأصل بمعنى الرحمة والشفقة والمحبّة وإظهار العلاقة والمودّة للآخرين.

٣ ـ( وَزَكاةً ) أي أعطيناه روحا طاهرة وزكية ، وبالرغم من أنّ المفسّرين فسروا الزكاة بمعان مختلفة ، فبعضهم فسّرها بالعمل الصالح ، وآخر بالطاعة والإخلاص ، وثالث ببر الوالدين والإحسان إليهما ، ورابع بحسن السمعة والذكر ، وخامس بطهارة الأنصار ، إلّا أنّ الظاهر هو أنّ للزكاة معنى واسعا وشاملا يتضمن كل هذه الأعمال والصفات الطاهرة الصالحة.

٤ ـ( وَكانَ تَقِيًّا ) فكان يجتنب كل ما يخالف الأوامر الالهية.

__________________

(١) يراجع تفسير الميزان في ذيل الآية.

٤١٦

٥ ـ( وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ ) .

٦ ـ( وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً ) فلم يكن رجلا ظالما ومتكبرا وانانيّا.

٧ ـ ولم يكن( عَصِيًّا ) ولم يقترف ذنبا ومعصية.

٨ ، ٩ ، ١٠ ـ ولما كان جامعا لكل هذه الصفات البارزة ، والأوسمة الكبيرة ، فإن الله سبحانه قد سلّم عليه في ثلاثة مواطن :( وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ ، وَيَوْمَ يَمُوتُ ، وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ) .

* * *

بحوث

١ ـ خذ الكتاب السماوي بقوة واقتدار!

إنّ لكلمة «قوة» في قوله :( يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ ) ـ كما تقدم ـ معنى واسعا جمعت فيه كل القدرات والطاقات المادية والمعنوية ، الروحية الجسمية ، وهذا بحد ذاته يبيّن ويوضح هذه الحقيقة ، وهي أنّ الدين الإلهي والإسلام والقرآن لا يمكن أن تحفظ بالضعف والتخاذل والمهادنة اللين ، بل يجب أن تصان بقوّة وتجعل في قلعة القدرة المنيعة.

إنّ المخاطب هنا وإن كان يحيى ، إلّا أنّه قد ورد هذا التعبير بالنسبة إلى غيره من الأنبياء في موارد أخرى من القرآن المجيد ، ففي الآية (١٤٥) من سورة الأعراف أمر موسى بأن يأخذ التوراة بقوة :( فَخُذْها بِقُوَّةٍ ) .

وفي الآية (٦٣ و ٩٣) من سورة البقرة يلاحظ أنّ الخطاب موجه لجميع بني إسرائيل:( خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ ) وهو يوحي بأن هذا الحكم عام يشمل الجميع ، ولا يخص شخصا أو أشخاصا معينين.

وقد ورد هذا المفهوم بتعبير آخر في الآية (٦٠) من سورة الأنفال :( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ) .

٤١٧

وعلى كل حال ، فإنّ هذه الآية تعتبر جوابا لمن يظن أنّه بالإمكان تنفيذ عمل أو تحقيق غاية من موقعه الضعف ، أو يريد حل المشاكل عن طريق المساومة في كل الظروف.

٢ ـ ثلاثة أيّام صعبة في مصير الإنسان

إنّ التعبير ب( سَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ) يبيّن أن في تاريخ حياة الإنسان وانتقاله من عالم إلى عالم آخر ثلاثة أيّام صعبة : يوم يضع قدمه في هذه الدنيا:( يَوْمَ وُلِدَ ) ويوم موته وانتقاله إلى عالم البرزخ( وَيَوْمَ يَمُوتُ ) ويوم بعثه في العالم الآخر( وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ) ولما كان من الطبيعي أن تكون هذه الأيّام مرافقة للاضطرابات والقلق ، فإنّ الله سبحانه يكتنف خاصّة عباده بسلامه وعافيته ، ويجعل هؤلاء في ظل حمايته ومنعته في هذه المراحل العسيرة الثلاثة.

وبالرغم من أنّ هذا التعبير قد ورد في القرآن في موردين فقط ، في حق يحيى وفي حق عيسىعليه‌السلام ، إلّا أنّ التعبير القرآن في شأن يحيى امتيازا خاصّا ، لأنّ المتكلم بهذا الكلام هو الله سبحانه ، في حين أنّ المسيحعليه‌السلام هو المتكلم في حق نفسه.

ومن الواضح أنّ الأفراد الذين يكونون في أوضاع وأحوال تشابه أحوال هذين العظيمين ستعمهم وتظللهم هذه السلامة.

ومن البديع أن نقرأ في رواية عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام : «إنّ أوحش ما يكون هذا الخلق في ثلاثة مواطن : يوم يلد ويخرج من بطن أمه فيرى الدنيا ، ويوم يموت فيعاين الآخرة وأهلها ، ويوم يبعث حيا فيرى أحكاما لم يرها في دار الدنيا ، وقد سلم الله على يحيىعليه‌السلام في هذه الثلاثة مواطن وآمن روعته ، فقال :

٤١٨

وسلام عليه ...»(١) .

٣ ـ النّبوة في الطفولة

صحيح أنّ مرحلة النضج العقلي للإنسان لها حدّ معين عادة ، إلّا أنّه يوجد أفراد استثنائيون بين البشر دائما ، فأي مانع من أن يختصر الله هذه المرحلة لبعض عباده لمصالح ما ، ويجعلها تتلخص في سنوات أقل؟ كما أن مرور سنة أو سنتين على الولادة أمر محتم من أجل التمكن من النطق عادة ، في حين أنّنا نعلم أنّ عيسىعليه‌السلام قد تكلم في أيّامه الأولى ، وكان كلاما عميق المحتوى من شأنه أن يصدر ـ عادة عن أناس كبار في السن ، كما سيأتي في تفسير الآيات القادمة إن شاء الله تعالى.

من هنا يتّضح عدم صحة الإشكال الذي طرحه بعض الأفراد حول بعض أئمة الشيعة ، بأنّه كيف تسلّم بعضهم أمور الإمامة في سن صغيرة؟

نطالع في رواية عن علي بن أسباط ، أحد أصحاب الإمام الجواد محمّد بن علي النقيعليه‌السلام أنّه قال : رأيت أبا جعفرعليه‌السلام وقد خرج عليّ ، فأجدت النظر إليه ، وجعلت أنظر إلى رأسه ورجليه لأصف قامته لأصحابنا بمصر ، فبينا أنا كذلك قعد فقال : «يا عليّ، إنّ الله احتج في الإمامة بمثل ما احتج به في النّبوة ، قد يقول( وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ) ، وقد يقول( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ ) و( بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ) فقد يجوز أن يؤتى الحكمة وهو صبي ، ويجوز أن يؤتى الحكمة وهو ابن أربعين»(٢) .

كما أنّ هذه الآية تتضمن جوابا مفحما لأولئك المعترضين الذين يقولون : إنّ علياعليه‌السلام لم يكن أوّل من آمن بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الرجال ، لأنّه كان ابن عشر سنين في ذلك اليوم ، ولا يقبل إيمان صبي في العاشرة من عمره!

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ٣ ، ص ٧.

(٢) نور الثقلين ، الجزء ٣ ، ص ٣٢٥.

٤١٩

ولا بأس من ذكر الرّواية الشريفة عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام ، وهي أن جماعة من الأطفال قالوا للرضاعليه‌السلام أيّام طفولته : أذهب بنا نلعب ، قال : «ما للعب خلقنا» وهذا ما أنزل الله تعالى( وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ) (١) .

يجب الالتفات إلى أن اللعب هنا هو الإشتغال بما لا فائدة فيه ، وبتعبير آخر لا هدف يطلب منه ، لكن قد يستتبع اللعب واللهو ـ أحيانا ـ هدفا منطقيا وعقلائيا ويسعى إليه ، فمن البديهي أن لهذا اللعب حكما مستثنى.

٤ ـ شهادة يحيى

لم تكن ولادة يحيى عجيبة ومذهلة لوحدها ، بل إنّ موته أيضا كان عجيبا من عدّة جهات ، وقد ذكر أغلب المؤرخين المسلمين ، وكذلك المصادر المسيحية ، مجرى هذه الشهادة على هذه النحو ، بالرغم من وجود اختلاف يسير في خصوصياتها بين هذه المراجع:

لقد أصبح يحيى ضحية للعلاقات غير الشرعية لأحد طواغيت زمانه مع أحد محارمه ، حيث تعلق «هروديس» ملك فلسطين اللاهث وراء شهواته ببنت أخته «هروديا» وهام في غرامها ، وألهب جمالها قلبه بنار العشق ، ولذلك صمم على الزواج منها!

فبلغ هذا الخبر نبي الله العظيم يحيىعليه‌السلام ، فأعلن بصراحة أنّ هذا الزواج غير شرعي ومخالف لتعليمات التوراة ، وسأقف امام مثل هذا العمل.

لقد انتشر صخب وضوضاء هذه المسألة في كل أرجاء المدينة ، وسمعت تلك الفتاة (هيروديا) بذلك ، فكانت ترى يحيى أكبر عائق في طريقها ، ولذلك صممت على الانتقام منه في فرصة مناسبة لترفع هذا المانع من طريق شهواتها وميولها ، فعمقت علاقتها بخالها ووطدتها ، وجعلت من جمالها مصيدة له ، وقد

__________________

(١) نور الثقلين ، الجزء ٣ ، ص ٣٢٥.

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576