الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 576

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 576 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 264275 / تحميل: 11786
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

وعنده حقة، أخذت منه، وأعطي معها شاتين أو عشرين درهما. فإن وجبت عليه حقة، وعنده جذعة، أخذت منه، وردّ عليه شاتان أو عشرون درهما.

فأمّا زكاة البقر، فليس في شي‌ء منها زكاة، الى أن تبلغ ثلاثين. فإذا بلغت ذلك، كان فيها تبيع حولي. ثمَّ ليس فيما زاد عليها شي‌ء، الى أن تبلغ أربعين. فإذا بلغت ذلك، كان فيها مسنّة. وكلّ ما زاد على ذلك، كان هذا حكمه: في كلّ ثلاثين تبيع أو تبيعة، وفي كل أربعين مسنّة.

وأمّا الغنم، فليس فيها زكاة، الى أن تبلغ أربعين. فإذا بلغت ذلك، كان فيها شاة. ثمَّ ليس فيها شي‌ء، الى أن تبلغ مائة وعشرين. فإذا بلغت ذلك، وزادت واحدة، كان فيها شاتان الى أن تبلغ مائتين. فإذا بلغت وزادت واحدة، كان فيها ثلاث شياه الى أن تبلغ ثلاثمائة. فإذا بلغت ذلك، وزادت واحدة، كان فيها أربع شياه. ثمَّ تترك هذه العبرة فيما زاد عليه، وأخذ من كلّ مائة شاة.

وأمّا الخيل إذا كانت عتاقا كان على كلّ واحدة منها في في كلّ سنة ديناران. وإن كانت براذين كان على كلّ واحدة منها دينار واحد. ومن حصل عنده من كلّ جنس تجب فيه الزّكاة أقلّ من النّصاب الذي فيه الزّكاة، وإن كان لو جمع لكان أكثر من النّصاب والنّصابين، لم يكن عليه شي‌ء، حتى

١٨١

يبلغ كلّ جنس منه، الحدّ الذي تجب فيه الزّكاة. ولو أنّ إنسانا ملك من المواشي ما تجب فيه الزّكاة، وإن كانت في مواضع متفرّقة، وجب عليه فيها الزّكاة. وإن وجد في موضع واحد من المواشي ما تجب فيه الزكاة لملّاك جماعة لم يكن عليهم فيها شي‌ء على حال. ولا بأس أن يخرج الإنسان ما يجب عليه من الزّكاة من غير الجنس الذي يجب عليه فيه بقيمته. وإن أخرج من الجنس، كان أفضل.

باب الوقت الذي تجب فيه الزكاة

لا زكاة في الذّهب والفضّة حتّى يحول عليهما الحول بعد حصولهما في الملك. فان كان مع إنسان مال أقلّ ممّا تجب فيه الزّكاة، ثمَّ أصاب تمام النّصاب في وسط السّنة، فليس عليه فيه الزّكاة حتّى يحول الحول على القدر الذي تجب فيه الزّكاة. وإذا استهلّ هلال الشّهر الثّاني عشر، فقد حال على المال الحول، ووجبت فيه الزّكاة. فإن أخرج الإنسان المال عن ملكه قبل استهلال الثّاني عشر، سقط عنه فرض الزّكاة. وإن أخرجه من ملكه بعد دخول الشّهر الثّاني عشر، وجبت عليه الزّكاة، وكانت في ذمّته الى أن يخرج منه.

وأمّا الحنطة والشّعير والتّمر والزّبيب، فوقت الزّكاة فيها حين حصولها بعد الحصاد والجذاذ والصّرام، ثمَّ ليس فيها

١٨٢

بعد ذلك شي‌ء، وإن حال عليها حول، إلّا أن تباع بذهب أو فضّة، وحال عليهما الحول، فتجب حينئذ فيه الزّكاة.

وأمّا الإبل والبقر والغنم، فليس في شي‌ء منها زكاة، حتّى يحول عليها الحول من يوم يملكها. وكلّ ما لم يحل عليه الحول من صغار الإبل والبقر والغنم، لا تجب فيه الزّكاة. ولا يجوز تقديم الزّكاة قبل حلول وقتها. فإن حضر مستحقّ لها قبل وجوب الزّكاة، جاز أن يعطى شيئا ويجعل قرضا عليه. فإذا جاء الوقت، وهو على تلك الصّفة من استحقاقه لها، احتسب له من الزّكاة. وإن كان قد استغنى، أو تغيّرت صفته التي يستحقّ بها الزّكاة، لم يجزئ ذلك عن الزّكاة، وكان على صاحب المال أن يخرجها من الرأس.

وإذا حال الحول فعلى الإنسان أن يخرج ما يجب عليه على الفور ولا يؤخّره. فإن عدم المستحقّ له، عزله عن ماله، وانتظر به المستحق. فإن حضرته الوفاة، وصى به أن يخرج عنه. وإذا عزل ما يجب عليه من الزّكاة، فلا بأس أن يفرّقه ما بينه وبين شهر وشهرين، ولا يجعل ذلك أكثر منه. وما روي عنهمعليهم‌السلام ، من الأخبار في جواز تقديم الزّكاة وتأخيرها، فالوجه فيه ما قدّمناه في أنّ ما يقدّم منه يجعل قرضا، ويعتبر فيه ما ذكرناه، وما يؤخّر منه إنّما يؤخّر انتظار المستحق، فأمّا مع وجوده، فالأفضل إخراجه إليه على البدار حسب ما قدّمناه.

١٨٣

باب مستحق الزكاة وأقل ما يعطى وأكثر

الذي يستحق الزّكاة هم الثّمانية أصناف الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن: وهم الفقراء، والمساكين، والعاملون عليها، و( الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ ) ، والغارمون،( وَفِي سَبِيلِ اللهِ ) ، وابن السّبيل.

فأمّا الفقير فهو الذي له بلغة من العيش. والمسكين الذي لا شي‌ء معه. وأمّا العاملون عليها فهم الذين يسعون في جباية الصّدقات.

وأمّا المؤلّفة فهم الذين يتألّفون ويستمالون إلى الجهاد.

(وَفِي الرِّقابِ ) وهم المكاتبون والمماليك الذين يكونون تحت الشّدة العظيمة. وقد روي أنّ من وجبت عليه كفّارة عتق رقبة في ظهار أو قتل خطإ وغير ذلك، ولا يكون عنده، يشترى عنه ويعتق.

والغارمون هم الذين ركبتهم الدّيون في غير معصية ولا فساد.

( وَفِي سَبِيلِ اللهِ ) وهو الجهاد.

وابن السّبيل وهو المنقطع به. وقيل أيضا: إنّه الضّيف الذي ينزل بالإنسان ويكون محتاجا في الحال، وإن كان له يسار في بلده وموطنه.

١٨٤

فإذا كان الإمام ظاهرا، أو من نصبه الإمام حاصلا، فتحمل الزّكاة إليه، ليفرّقها على هذه الثّمانية الأصناف. ويقسم بينهم على حسب ما يراه. ولا يلزمه أن يجعل لكل صنف جزءا من ثمانية، بل يجوز أن يفضّل بعضهم على بعض، إذا كثرت طائفة منهم وقلّت آخرون.

وإذا لم يكن الإمام ظاهرا، ولا من نصبه الإمام حاصلا، فرّقت الزّكاة في خمسة أصناف من الذين ذكرناهم، وهم الفقراء والمساكين( وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ ) وابن السّبيل. ويسقط سهم( الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ) وسهم السّعاة وسهم الجهاد، لأنّ هؤلاء لا يوجدون إلّا مع ظهور الإمام. لأن الْمُؤَلَّفَةَ( قُلُوبُهُمْ ) إنّما يتألّفهم الإمام ليجاهدوا معه، والسّعاة أيضا إنّما يكونون من قبله في جميع الزّكوات، والجهاد أيضا إنّما يكون به أو بمن نصبه. فإذا لم يكن هو ظاهرا ولا من نصبه، فرّق فيمن عداهم.

والذين يفرّق فيهم الزّكاة ينبغي أن يحصل لهم مع الصّفات التي ذكرناها أن يكونوا عارفين بالحقّ معتقدين له. فإن لم يكونوا كذلك، فلا يجوز أن يعطوا الزّكاة. فمن أعطى زكاته لمن لا يعرف الحق، لم يجزئه، وكان عليه الإعادة. ولو أنّ مخالفا أخرج زكاته الى أهل نحلته، ثمَّ استبصر، كان عليه إعادة الزّكاة. ولا يجوز أن يعطى الزّكاة من أهل المعرفة إلّا أهل السّتر والصّلاح. فأمّا الفسّاق وشرّاب

١٨٥

الخمور فلا يجوز أن يعطوا منها شيئا. ولا بأس أن تعطي الزّكاة أطفال المؤمنين. ولا تعطى أطفال المشركين.

ولا يجوز أن يعطي الإنسان زكاته لمن تلزمه النّفقة عليه مثل الوالدين والولد والجدّ والجدة والزّوجة والمملوك. ولا بأس أن يعطي من عدا هؤلاء من الأهل والقرابات من الأخ والأخت وأولادهما والعمّ والخال والعمّة والخالة وأولادهم.

والأفضل أن لا يعدل بالزّكاة عن القريب مع حاجتهم الى ذلك الى البعيد. فإن جعل للقريب قسط، وللبعيد قسط، كان أفضل.

ومتى لم يجد من تجب عليه الزّكاة مستحقّا لها، عزلها من ماله، وانتظر بها مستحقّها، فإن لم يكن في بلده من يستحقّها فلا بأس أن يبعث بها إلى بلد آخر. فإن أصيبت الزّكاة في الطّريق أو هلكت، فقد أجزأ عنه. وإن كان قد وجد في بلده لها مستحقا، فلم يعطه، وآثر من يكون في بلد آخر، كان ضامنا لها، إن هلكت، ووجب عليه إعادتها.

ومن وصّي بإخراج زكاة، أو أعطي شيئا منها ليفرّقه على مستحقيه، فوجده، ولم يعطه. بل أخّره، ثمَّ هلك، كان ضامنا للمال.

ولا تحلّ الصّدقة الواجبة في الأموال لبني هاشم قاطبة. وهم الذين ينتسبون إلى أمير المؤمنين،عليه‌السلام ، وجعفر

١٨٦

ابن أبي طالب، وعقيل بن أبي طالب، وعبّاس بن عبد المطّلب. فامّا ما عدا صدقة الأموال، فلا بأس أن يعطوا إيّاها. ولا بأس أن تعطي صدقة الأموال مواليهم. ولا بأس أن يعطي بعضهم بعضا صدقة الأموال. وإنّما يحرم عليهم صدقة من ليس من نسبهم.

وهذا كلّه إنّما يكون في حال توسّعهم ووصولهم إلى مستحقّهم من الأخماس. فإذا كانوا ممنوعين من ذلك ومحتاجين إلى ما يستعينون به على أحوالهم، فلا بأس أن يعطوا زكاة الأموال رخصة لهم في ذلك عند الاضطرار.

ولا يجوز أن تعطى الزّكاة لمحترف يقدر على اكتساب ما يقوم بأوده وأود عياله. فإن كانت حرفته لا تقوم به، جاز له أن يأخذ ما يتّسع به على أهله. ومن ملك خمسين درهما يقدر أن يتعيّش بها بقدر ما يحتاج إليه في نفقته، لم يجز له أن يأخذ الزكاة. وإن كان معه سبعمائة درهم، وهو لا يحسن أن يتعيّش بها، جاز له أن يقبل الزّكاة، ويخرج هو ما يجب عليه فيما يملكه من الزّكاة، فيتّسع به على عياله. ومن ملك دارا يسكنها وخادما يخدمه، جاز له أن يقبل الزّكاة. فإن كانت داره دار غلّة تكفيه ولعياله، لم يجز له أن يقبل الزّكاة فإن لم يكن له في غلّتها كفاية، جاز له أن يقبل الزّكاة.

وينبغي أن تعطي زكاة الذّهب والفضّة للفقراء والمساكين

١٨٧

المعروفين بذلك، وتعطي زكاة الإبل والبقر والغنم أهل التّجمّل.

فإن عرفت من يستحقّ الزّكاة، وهو يستحيي من التعرّض لذلك، ولا يؤثر إن تعرفه، جاز لك أن تعطيه الزّكاة وإن لم تعرفه أنّه منها، وقد أجزأت عنك.

وإذا كان على إنسان دين، ولا يقدر على قضائه، وهو مستحقّ لها، جاز لك أن تقاصّه من الزّكاة. وكذلك إن كان الدّين على ميّت، جاز لك أن تقاصّه منها. وإن كان على أخيك المؤمن دين، وقد مات، جاز لك أن تقضي عنه من الزّكاة. وكذلك إن كان الدين على والدك أو والدتك أو ولدك، جاز لك أن تقضيه عنهم من الزّكاة.

فإذا لم تجد مستحقا للزّكاة، ووجدت مملوكا يباع، جاز لك أن تشتريه من الزّكاة وتعتقه. فإن أصاب بعد ذلك مالا، ولا وارث له، كان ميراثه لأرباب الزّكاة. وكذلك لا بأس مع وجود المستحقّ أن يشتري مملوكا ويعتقه، إذا كان مؤمنا، وكان في ضرّ وشدّة. فإن كان بخلاف ذلك، لم يجز ذلك على حال.

ومن أعطى غيره زكاة الأموال ليفرقها على مستحقها، وكان مستحقّا للزّكاة، جاز له أن يأخذ منها بقدر ما يعطي غيره. اللهمّ إلّا أن يعيّن له على أقوام بأعيانهم. فإنّه لا يجوز

١٨٨

له حينئذ أن يأخذ منها شيئا، ولا أن يعدل عنهم الى غيرهم.

وأقلّ ما يعطي الفقير من الزّكاة خمسة دراهم أو نصف دينار. وهو أوّل ما يجب في النّصاب الأوّل. فأمّا ما زاد على ذلك، فلا بأس أن يعطى كلّ واحد ما يجب في نصاب نصاب، وهو درهم إن كان من الدراهم، أو عشر دينار إن كان من الدّنانير، وليس لأكثره حد. ولا بأس أن يعطي الرّجل زكاته لواحد يغنيه بذلك.

باب وجوب زكاة الفطرة ومن تجب عليه

الفطرة واجبة على كلّ حر بالغ مالك لما تجب عليه فيه زكاة المال. ويلزمه أن يخرج عنه وعن جميع من يعوله من ولد ووالد وزوجة ومملوك ومملوكة، مسلما كان أو ذمّيّا، صغيرا كان أو كبيرا. فإن كان لزوجته مملوك في عياله، أو يكون عنده ضيف يفطر معه في شهر رمضان، وجب عليه أيضا أن يخرج عنهما الفطرة. وإن رزق ولدا في شهر رمضان، وجب عليه أيضا أن يخرج عنه. فإن ولد المولود ليلة الفطر أو يوم العيد قبل صلاة العيد، لم يجب عليه إخراج الفطرة عنه فرضا واجبا. ويستحبّ له أن يخرج ندبا واستحبابا.

وكذلك من أسلم ليلة الفطر قبل الصّلاة، يستحبّ له أن يخرج زكاة الفطرة، وليس ذلك بفرض. فإن كان إسلامه

١٨٩

قبل ذلك، وجب عليه إخراج الفطرة. ومن لا يملك ما يجب عليه فيه الزّكاة، يستحبّ له أن يخرج زكاة الفطرة أيضا عن نفسه وعن جميع من يعوله. فإن كان ممّن يحلّ له أخذ الفطرة أخذها ثمَّ أخرجها عن نفسه وعن عياله. فإن كان به إليها حاجة، فليدر ذلك على من يعوله. حتّى ينتهي إلى آخرهم، ثمَّ يخرج رأسا واحدا إلى غيرهم، وقد أجزأ عنهم كلّهم.

باب ما يجوز إخراجه في الفطرة ومقدار ما يجب منه

أفضل ما يخرجه الإنسان في زكاة الفطرة التّمر ثمَّ الزّبيب. ويجوز إخراج الحنطة والشّعير والأرزّ والأقط واللّبن. والأصل في ذلك أن يخرج كلّ أحد ممّا يغلب على قوته في أكثر الأحوال.

فأمّا أهل مكّة والمدينة وأطراف الشّام واليمامة والبحرين والعراقين وفارس والأهواز وكرمان، فينبغي لهم أن يخرجوا التّمر. وعلى أوساط الشّام ومرو من خراسان والريّ، أن يخرجوا الزّبيب. وعلى أهل الجزيرة والموصل والجبال كلّها وخراسان، أن يخرجوا الحنطة والشّعير، وعلى أهل طبرستان الأرز، وعلى أهل مصر البرّ. ومن سكن البوادي من الأعراب فعليهم الأقط، فإذا عدموه، كان عليهم اللّبن.

١٩٠

ومن عدم أحد هذه الأصناف التي ذكرناها، أو أراد أن يخرج ثمنها بقيمة الوقت ذهبا أو فضة، لم يكن به بأس. وقد روي رواية أنّه يجوز أن يخرج عن كلّ رأس درهما. وقد روي أيضا أربعة دوانيق. والأحوط ما قدّمناه من أنّه يخرج قيمته بسعر الوقت.

فأمّا القدر الذي يجب إخراجه عن كلّ رأس، فصاع من أحد الأشياء التي قدّمنا ذكرها. وقدره تسعة أرطال بالعراقيّ وستّة أرطال بالمدني. وهو أربعة أمداد. والمدّ مائتان واثنان وتسعون درهما ونصف. والدرهم ستّة دوانيق. والدّانق ثماني حبّات من أوسط حبّات الشّعير. فأمّا اللّبن فمن يريد إخراجه، أجزأه أربعة أرطال بالمدنيّ أو ستّة بالعراقي.

باب الوقت الذي يجب فيه إخراج الفطرة ومن يستحقها

الوقت الذي يجب فيه إخراج الفطرة يوم الفطر قبل صلاة العيد. ولو أن إنسانا أخرجها قبل يوم العيد بيوم أو يومين أو من أوّل الشّهر الى آخره، لم يكن به بأس، غير أن الأفضل ما قدّمناه.

فإذا كان يوم الفطر، فليخرجها، ويسلّمها الى مستحقّيها فإن لم يجد لها مستحقّا، عزلها من ماله، ثمَّ يسلّمها بعد الصّلاة أو من غد يومه الى مستحقّيها. فإن وجد لها أهلا، وأخّرها،

١٩١

كان ضامنا لها، الى أن يسلّمها إلى أربابها. وإن لم يجد لها أهلا، وأخرجها من ماله، لم يكن عليه ضمان.

وينبغي أن تحمل الفطرة الى الإمام ليضعها حيث يراه. فإن لم يكن هناك إمام، حملت الى فقهاء شيعته ليفرقوها في في مواضعها. وإذا أراد الإنسان أن يتولّى ذلك بنفسه، جاز له له ذلك، غير أنّه لا يعطيها إلا لمستحقّيها.

والمستحقّ لها، هو كلّ من كان بالصّفة التي تحلّ له معها الزّكاة. وتحرم على كلّ من تحرم عليه زكاة الأموال.

ولا يجوز حمل الفطرة من بلد الى بلد. وان لم يوجد لها مستحقّ من أهل المعرفة، جاز أن تعطى المستضعفين من غيرهم.

ولا يجوز إعطاؤها لمن لا معرفة له، إلّا عند التقية أو عدم مستحقّيها من أهل المعرفة. والأفضل أن يعطي الإنسان من يخافه من غير الفطرة، ويضع الفطرة في مواضعها.

ولا يجوز أن يعطي أقلّ من زكاة رأس واحد لواحد مع الاختيار. فإن حضر جماعة محتاجون وليس هناك من الأصواع بقدر ما يصيب كلّ واحد منهم صاع، جاز أن يفرّق عليهم. ولا بأس أن يعطي الواحد صاعين أو أصواعا.

والأفضل أن لا يعدل الإنسان بالفطرة إلى الأباعد مع وجود القرابات ولا الى الأقاصي مع وجود الجيران. فإن فعل خلاف ذلك، كان تاركا فضلا، ولم يكن عليه بأس.

١٩٢

باب الجزية وأحكامها

الجزية واجبة على أهل الكتاب ممّن أبى منهم الإسلام وأذعن بها، وهم اليهود والنّصارى. والمجوس حكمهم حكم اليهود والنّصارى. وهي واجبة على جميع الأصناف المذكورة إذا كانوا بشرائط المكلّفين وتسقط عن الصّبيان والمجانين والبله والنّساء منهم. فأمّا ما عدا الأصناف المذكورة من الكفّار، فليس يجوز أن يقبل منهم إلّا الإسلام أو القتل. ومن وجبت عليه الجزية وحلّ الوقت، فأسلم قبل أن يعطيها، سقطت عنه، ولم يلزمه أداؤها.

وكلّ من وجبت عليه الجزية، فالإمام مخيّر بين أن يضعها على رءوسهم أو على أرضيهم. فإن وضعها على رءوسهم، فليس له أن يأخذ من أرضيهم شيئا. وإن وضعها على أرضيهم، فليس له أن يأخذ من رءوسهم شيئا.

وليس للجزية حدّ محدود ولا قدر موقّت. بل يأخذ الإمام منهم على قدر ما يراه من أحوالهم من الغنى والفقر بقدر ما يكونون به صاغرين.

وكان المستحقّ للجزية في عهد رسول الله،صلى‌الله‌عليه‌وآله ، المهاجرين دون غيرهم. وهي اليوم لمن قام مقامهم في نصرة الإسلام والذبّ من سائر المسلمين.

١٩٣

ولا بأس أن تؤخذ الجزية من أهل الكتاب ممّا أخذوه من ثمن الخمور والخنازير والأشياء التي لا يحلّ للمسلمين بيعها والتّصرف فيها.

باب أحكام الأرضين وما يصح التصرف فيه منها بالبيع والشرى والتملك وما لا يصح

الأرضون على أربعة أقسام:

ضرب منها يسلم أهلها عليها طوعا من قبل نفوسهم من غير قتال، فتترك في أيديهم، ويؤخذ منهم العشر أو نصف العشر، وكانت ملكا لهم، يصحّ لهم التّصرّف فيها بالبيع والشّرى والوقف وسائر أنواع التّصرف.

وهذا حكم أرضيهم إذا عمروها وقاموا بعمارتها. فإن تركوا عمارتها، وتركوها خرابا، كانت للمسلمين قاطبة. وعلى الإمام أن يقبّلها ممّن يعمّرها بما يراه من النّصف أو الثّلث أو الرّبع. وكان على المتقبّل بعد إخراج حقّ القبالة ومئونة الأرض، العشر أو نصف العشر فيما يبقى في حصّته، إذا بلغ الى الحدّ الذي يجب فيه ذلك. وهو خمسة أوسق فصاعدا حسب ما قدّمناه.

والضّرب الآخر من الأرضين، ما أخذ عنوة بالسّيف، فإنّها تكون للمسلمين بأجمعهم. وكان على الإمام أن يقبّلها

١٩٤

لمن يقوم بعمارتها بما يراه من النّصف أو الثّلث أو الرّبع. وكان على المتقبّل إخراج ما قد قبل به من حقّ الرّقبة، وفيما يبقى في يده وخاصّه العشر أو نصف العشر.

وهذا الضّرب من الأرضين لا يصحّ التّصرف فيه بالبيع والشرى والتملّك والوقف والصّدقات. وللإمام أن ينقله من متقبّل إلى غيره عند انقضاء مدّة ضمانه، وله التّصرّف فيه بحسب ما يراه من مصلحة المسلمين. وهذه الأرضون للمسلمين قاطبة، وارتفاعها يقسم فيهم كلّهم: المقاتلة، وغيرهم. فإن المقاتلة ليس لهم على جهة الخصوص إلّا ما تحويه العسكر من الغنائم.

والضّرب الثّالث كلّ أرض صالح أهلها عليها، وهي أرض الجزية، يلزمهم ما يصالحهم الإمام عليه من النّصف أو الثّلث أو الرّبع، وليس عليهم غير ذلك.

فإذا أسلم أربابها، كان حكم أرضيهم حكم أرض من أسلم طوعا ابتداء، ويسقط عنهم الصّلح، لأنه جزية بدل من جزية رءوسهم وأموالهم، وقد سقطت عنهم بالإسلام. وهذا الضّرب من الأرضين يصحّ التّصرّف فيه بالبيع والشّرى والهبة وغير ذلك من أنواع التّصرف، وكان للإمام أن يزيد وينقض ما صالحهم عليه بعد انقضاء مدّة الصّلح حسب ما يراه من زيادة الجزية ونقصانها

١٩٥

والضّرب الرّابع، كلّ أرض انجلى أهلها عنها، أو كانت مواتا فأحييت، أو كانت آجاما وغيرها ممّا لا يزرع فيها، فاستحدثت مزارع.

فإن هذه الأرضين كلّها للإمام خاصة، ليس لأحد معه فيها نصيب، وكان له التّصرّف فيها بالقبض والهبة والبيع والشّرى حسب ما يراه، وكان له أن يقبّلها بما يراه من النّصف أو الثّلث أو الرّبع، وجاز له أيضا بعد انقضاء مدّة القبالة نزعها من يد من قبّله إيّاها وتقبيلها لغيره، إلّا الأرضين التي أحييت بعد مواتها، فإن الذي أحياها أولى بالتّصرف فيها ما دام يقبلها بما يقبلها غيره. فإن أبى ذلك، كان للإمام أيضا نزعها من يده وتقبيلها لمن يراه. وعلى المتقبّل بعد إخراجه مال القبالة والمؤن فيما يحصل في حصتّه، العشر أو نصف العشر.

باب الخمس والغنائم

الخمس واجب في جميع ما يغنمه الإنسان.

والغنائم كلّ ما أخذ بالسّيف من أهل الحرب الذين أمر الله تعالى بقتالهم من الأموال والسّلاح والكراع والثّياب والمماليك وغيرها ممّا يحويه العسكر وممّا لم يحوه.

ويجب الخمس أيضا في جميع ما يغنمه الإنسان من أرباح

١٩٦

التّجارات والزّراعات وغير ذلك بعد إخراج مئونته ومئونة عياله.

ويجب الخمس أيضا في جميع المعادن من الذّهب والفضّة والحديد والصّفر والملح والرّصاص والنّفط والكبريت وسائر ما يتناوله اسم المعدن على اختلافها.

ويجب أيضا الخمس من الكنوز المذخورة على من وجدها، وفي العنبر وفي الغوص.

وإذا حصل مع الإنسان مال قد اختلط الحلال بالحرام، ولا يتميّز له، وأراد تطهيره، أخرج منه الخمس، وحلّ له التّصرف في الباقي. وإن تميّز له الحرام، وجب عليه إخراجه وردّه الى أربابه. ومن ورث مالا ممّن يعلم أنّه كان يجمعه من وجوه محظورة مثل الرّبا والغضب وما يجري مجراهما، ولم يتميّز له المغصوب منه ولا الرّبا، أخرج منه الخمس، واستعمل الباقي، وحلّ له التّصرف فيه.

والذمّي إذا اشترى من مسلم أرضا، وجب عليه فيها الخمس.

وجميع ما قدّمناه ذكره من الأنواع، يجب فيه الخمس قليلا كان أو كثيرا، إلّا الكنوز ومعادن الذّهب والفضّة، فإنّه لا يجب فيها الخمس إلّا إذا بلغت إلى القدر الذي يجب فيه الزّكاة.

١٩٧

والغوص لا يجب فيه الخمس إلّا إذا بلغ قيمته دينارا.

وأمّا الغلّات والأرباح فإنّه يجب فيها الخمس بعد إخراج حق السّلطان ومئونة الرّجل ومئونة عياله بقدر ما يحتاج اليه على الاقتصاد.

والكنوز إذا كانت دراهم أو دنانير، يجب فيها الخمس فيما وجد منها، إذا بلغ إلى الحدّ الّذي قدّمناه ذكره. وإن كان ممّا يحتاج الى المؤنة والنّفقة عليه، يجب فيه الخمس بعد إخراج المؤنة منه.

باب قسمة الغنائم والأخماس

كلّ ما يغنمه المسلمون من دار الحرب من جميع الأصناف التي قدّمناه ذكرها، ممّا حواه العسكر يخرج منه الخمس. وأربعة أخماس ما يبقى يقسم بين المقاتلة. وما لم يحوه العسكر من الأرضين والعقارات وغيرها من أنواع الغنائم يخرج منه الخمس، والباقي تكون للمسلمين قاطبة: مقاتليهم وغير مقاتليهم، يقسمه الامام بينهم على قدر ما يراه من مئونتهم.

والخمس يأخذه الإمام فيقسمه ستّة أقسام:

قسما لله، وقسما لرسوله، وقسما لذي القربى. فقسم الله وقسم الرّسول وقسم ذي القربى للإمام خاصّة، يصرفه في أمور نفسه وما يلزمه من مئونة غيره.

١٩٨

وسهم ليتامى آل محمّد، وسهم لمساكينهم، وسهم لأبناء سبيلهم. وليس لغيرهم شي‌ء من الأخماس. وعلى الإمام أن يقسم سهامهم فيهم على قدر كفايتهم ومئونتهم في السّنة على الاقتصاد. فإن فضل من ذلك شي‌ء، كان له خاصّة. وإن نقص كان عليه أن يتمّ من خاصّته.

وهؤلاء الذين يستحقّون الخمس، هم الذين قدّمنا ذكرهم ممّن تحرم عليهم الزّكاة، ذكرا كان أو أنثى. فإن كان هناك من أمّه من غير أولاد المذكورين، وكان أبوه منهم، حلّ له الخمس، ولم تحلّ له الزّكاة. وإن كان ممّن أبوه من غير أولادهم، وأمّه منهم، لم يحلّ له الخمس، وحلّت له الزّكاة.

باب الأنفال

الأنفال كانت لرسول الله خاصّة في حياته، وهي لمن قام مقامه بعده في أمور المسلمين. وهي كلّ أرض خربة قد باد أهلها عنها. وكلّ أرض لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب أو يسلّمونها هم بغير قتال، ورءوس الجبال وبطون الأودية والآجام والأرضون الموات التي لا أرباب لها، وصوافي الملوك وقطائعهم ممّا كان في أيديهم من غير وجه الغصب، وميراث من لا وارث له.

وله أيضا من الغنائم قبل أن تقسم: الجارية الحسناء،

١٩٩

والفرس الفاره، والثّوب المرتفع، وما أشبه ذلك ممّا لا نظير له من رقيق أو متاع.

وإذا قاتل قوم أهل حرب من غير أمر الإمام، فغنموا، كانت غنيمتهم للإمام خاصّة دون غيره.

وليس لأحد أن يتصرف فيما يستحقّه الإمام من الأنفال والأخماس إلّا بإذنه. فمن تصرّف في شي‌ء من ذلك بغير إذنه، كان عاصيا، وارتفاع ما يتصرّف فيه مردود على الإمام. وإذا تصرّف فيه بأمر الإمام، كان عليه أن يؤدي ما يصالحه الإمام عليه من نصف أو ثلث أو ربع.

هذا في حال ظهور الإمام. فأمّا في حال الغيبة، فقد رخّصوا لشيعتهم التصرّف في حقوقهم ممّا يتعلّق بالأخماس وغيرها فيما لا بدّ لهم منه من المناكح والمتاجر والمساكن. فأمّا ما عدا ذلك، فلا يجوز له التصرّف فيه على حال.

وما يستحقّونه من الأخماس في الكنوز وغيرها في حال الغيبة فقد اختلف قول أصحابنا فيه، وليس فيه نصّ معيّن إلا أنّ كلّ واحد منهم قال قولا يقتضيه الاحتياط.

فقال بعضهم: إنّه جار في حال الاستتار مجرى ما أبيح لنا من المناكح والمتاجر.

وقال قوم: إنّه يجب حفظه ما دام الإنسان حيا. فإذا حضرته الوفاة، وصّى به الى من يثق به من إخوانه المؤمنين

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦) )

التّفسير

دعاء زكريا المستجاب :

مرّة أخرى نواجه الحروف المقطعة في بداية هذه السورة ، ولما كنّا قد بحثنا تفسير هذه الحروف المقطعة بصورة مفصلة في بداية ثلاث سور مختلفة فيما سبق ـ سورة البقرة وآل عمران والأعراف ـ فلا نرى حاجة للتكرار هنا.

ولكن ما ينبغي اضافته هنا هو وجود طائفتين من الرّوايات في المصادر الإسلامية تتعلق بالحروف المقطعة في هذه السورة.

الأولى : تقول بأن كل حرف من هذه الحروف يشير إلى اسم من أسماء الله الحسنى ، فالكاف يشير إلى الكافي ، وهو من أسماء الله الحسنى ، والهاء تشير إلى

٤٠١

الهادي ، والياء إشارة إلى الولي ، والعين إشارة إلى العالم ، والصاد إشارة إلى صادق الوعد(١) .

الثّانية : تفسر هذه الحروف المقطعة بحادثة ثورة الإمام الحسينعليه‌السلام في كربلاء ، فالكاف إشارة إلى كربلاء ، والهاء إشارة إلى هلاك عترة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والياء إشارة إلى يزيد، والعين إشارة إلى مسألة العطش ، والصاد إشارة إلى صبر وثبات الحسين وأصحابه المضحين(٢) .

وكما قلنا مرارا ، فإن لآيات القرآن أنوار معان مختلفة ، وتبيّن أحيانا مفاهيم من الماضي والمستقبل ، ومع تنوعها واختلافها فإنّه لا يوجد تناقض بينها ، في حين أننا إذا حصرنا المعنى وفسّرناه تفسيرا واحدا ، فمن الممكن أن نبتلى بإشكالات من ناحية وضع وسبب نزول الآية وزمانه.

وبعد ذكر الحروف المقطعة ، تشرع الكلمات الأولى من قصّة زكرياعليه‌السلام فتقول:( ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ) (٣) . وفي ذلك الوقت الذي كان زكرياعليه‌السلام مغتما ومتألما فيه من عدم إنجاب الولد ، توجه إلى رحمة ربّه :( إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا ) بحيث لم يسمعه أحد ، وذكر في دعائه وهن وضعف العظام باعتبارها عمود بدن الإنسان ودعامته وأقوى جزء من اجزائه :( قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ) .

إن تشبيه آثار الكبر بالشعلة التي عمت كل الرأس تشبيه جميل ، لأنّ خاصية شعلة النّار أنّها تتسع بسرعة ، وتلتهم كل ما يحيط بها.

ومن جهة ثانية فإنّ شعلة النّار لها بريق وضياء يجلب الانتباه من بعيد.

ومن ناحية ثالثة ، فإنّ النّار إذا اشتعلت في محل له ، فإنّ الشيء الذي يبقي

__________________

(١) نور الثقلين ، الجزء ٣ ، ص ٣٢٠.

(٢) المصدر السّابق.

(٣) كلمة «ذكر» خبر لمبتدأ محذوف ، وعليه فالتقدير : هذا ذكر رحمة ربّك.

٤٠٢

منه هو الرماد فقط.

لقد شبه زكريا نزول الكبر ، وبياض كل شعر رأسه باشتعال النّار ، والرماد الأبيض الذي تتركه ، وهذا التشبيه جميل وبليغ جدا.

ثمّ يضيف :( وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ) فقد عودتني دائما ـ فيما مضى ـ على استجابة أدعيتي ، ولم تحرمني منها أبدا ، والآن وقد أصبحت كبيرا وعاجزا فأجدني أحوج من السابق إلى أن تستجيب دعائي ولا تخيبّني.

إنّ الشقاء هنا بمعنى التعب والأذى أي إنّي لم أتعب ولم أتأذّ في طلباتي منك ، لأنّك كنت تقضيها بسرعة.

ثمّ يبيّن حاجته :( وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي ) أي إنّي أخشى من أقربائي أن يسلكوا سبيل الانحراف والظلم( وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) أي مرضيا عندك.

* * *

بحوث

١ ـ المراد من الإرث

لقد قدم المفسّرون الإسلاميون بحوثا كثيرة حول الإجابة عن هذا السؤال ، فالبعض يعتقد أنّ الإرث هنا يعني الإرث في الأموال ، والبعض اعتبره إشارة إلى مقام النبوة ، وبعض آخر احتمل أن يكون المراد معنى جامعا شاملا لكلا الرأيين السابقين.

وقد اختار كثير من علماء الشيعة المعنى الأوّل ، في حين ذهب جماعة من علماء العامّة إلى المعنى الثّاني ، والبعض الآخر ـ كسيد قطب في (في ظلال القرآن) ، والآلوسي في روح المعاني ـ اختاروا المعنى الثّالث.

إنّ الذين حصروا المراد في الإرث في المال استندوا إلى ظهور كلمة الإرث

٤٠٣

في هذا المعنى ، لأن هذه الكلمة إذا كانت مجرّدة عن القرائن الأخرى ، فإنّها تعني إرث الأموال ، أمّا في موارد استعمالها في بعض آيات القرآن في الأمور المعنوية ، كالآية (٣٢) من سورة فاطر :( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا ) فلوجود القرائن في مثل هذه الموارد.

إضافة إلى أنّه يستفاد من قسم من الرّوايات أن هدايا ونذورا كثيرة كانت تجلب إلى الأحبار ـ وهم علماء اليهود ـ في زمان بني إسرائيل ، وكان زكريا رئيس الأحبار(١) .

وإذا تجاوزنا ذلك ، فإن زوجة زكريا كانت من أسرة سليمان بن داود ، وبملاحظة الثروة الطائلة لسليمان بن داود ، فقد كان لها نصيب منها.

لقد كان زكريا خائفا من وقوع هذه الأموال بأيدي أناس غير صالحين ، وانتهازيين ، أو أن تقع بأيدي الفساق والفجرة ، فتكون بنفسها سببا لنشوء وانتشار الفساد في المجتمع ، لذلك طلب من ربّه أن يرزقه ولدا صالحا ليرث هذه الأموال وينظر فيها ، ويصرفها في أفضل الموارد.

الرّواية المعروفة المروية عن فاطمة الزهراءعليها‌السلام ، والتي استدلت فيها بهذه الآية من أجل استرجاع فدك ، هي شاهد آخر على هذا المدعى.

ينقل العلّامة الطبرسي في كتاب الإحتجاج عن سيدة النساءعليها‌السلام : إنّه عند ما صمم الخليفة الأوّل على منع فاطمة الزهراءعليها‌السلام فدكا ، وبلغ ذلك فاطمة ، حضرت عنده وقالت : «يا أبا بكر! أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئت شيئا فريا! أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا:إذ قال رب هب( لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ؟ ) (٢) .

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٣٢٣.

(٢) نور الثقلين ، الجزء ٣ ، ص ٣٢٤ (نقلا عن الإحتجاج).

٤٠٤

أمّا الذين يعتقدون بأن الإرث هنا هو الإرث المعنوي ، فقد تمسكوا بقرائن في نفس الآية ، أو خارجة عنها ، مثل :

١ ـ يبدو من البعيد أن نبيّا كبيرا كزكريا ، وفي ذلك السن الكبير ، يمكن أن تشغل فكره مسألة ميراث ثروته ، خاصّة وأنّه يضيف بعد جملة( يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) جملة( وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) ، ولا شك أن هذه الجملة إشارة إلى الصفات المعنوية لذلك الوارث.

٢ ـ إنّ الله سبحانه لما بشره بولادة يحيى في الآيات القادمة ، فإنّه ذكر صفات ومقامات معنوية عظيمة ، ومن جملتها مقام النبوة.

٣ ـ إن الآية (٣٨) من سورة آل عمران بينت السبب الذي دفع زكريا إلى هذا الطلب والدعاء ، وأنّه فكر في ذلك عند ما شاهد مقامات مريم حيث كان يأتيها رزقها من طعام الجنّة في محرابها بلطف الله :( هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ ) .

٤ ـ ورد في بعض الأحاديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يؤيد أن الإرث هنا يراد به الإرث المعنوي ، وخلاصة الحديث أنّ الإمام الصادقعليه‌السلام روى عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ عيسى بن مريم مرّ على قبر كان صاحبه يعذب ، ومرّ عليه في العام الثّاني فرأى صاحب ذلك القبر لا يعذب ، فسأله ربّه عن ذلك ، فأوحى الله إليه أنّه لصاحب هذا القبر ولد صالح قد أصلح طريقا وآوى يتيما ، فغفر الله له بعمل ولده. ثمّ قال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ميراث الله من عبده المؤمن ولد يعبده من بعده» ، ثمّ تلا الإمام الصادق عند نقله هذا الحديث الآية المرتبطة بزكريا :( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) (١) .

فإن قيل : إن ظاهر كلمة الإرث هو إرث الأموال.

فيقال في الجواب : إن هذا الظهور ليس قطعيا ، لأنّ هذه الكلمة قد استعملت

__________________

(١) نور الثقلين ، الجزء ٣ ، ص ٣٢٣ و ٣٢٤.

٤٠٥

في القرآن مرارا في الإرث المعنوي ، كالآية (٣٢) من سورة فاطر ، والآية (٥٣) من سورة المؤمن. إضافة إلى أنّنا لو فرضنا أنّها خلاف الظاهر ، فإنّ هذا الإشكال سيزول بوجود القرائن.

إلّا أنّ أنصار الرأي الأوّل يستطيعون أن يناقشوا هذه الاستدلالات ، بأنّ ما كان يشغل فكر زكريا ـ نبي الله الكبير ـ هي مسألة الأموال ، ولم تكن تشغله كمسألة شخصية ، بل باعتبارها مصدرا لفساد أو صلاح المجتمع ؛ لأنّ بني إسرائيل ـ وكما قيل أعلاه ـ كانوا يأتون بالهدايا والنذور الكثيرة إلى الأحبار فكانت تودع عند زكريا ، وربما كانت هناك أموالا متبقية من قبل زوجته التي كانت من أسرة سليمان ، ومن البديهي أن وجود شخص غير صالح يتولى هذه الأموال قد يؤدي إلى مفاسد عظيمة ، وهذا هو الذي كان يقلق زكريا.

وأمّا الصفات المعنوية التي ذكرت ليحيى في هذه الآيات والآيات الأخرى ، فإنّها تؤيد ما ذكرنا ، وتنسجم معه ، لأنّه أراد أن تقع هذه الثروة العظيمة بيد رجل صالح يستفيد منها في سبيل المجتمع.

إلّا أنّنا نعتقد بأنا إذا توصلنا من مجموع المباحث أعلاه إلى هذه النتيجة ، وهي أن للإرث هنا مفهوما ومعنى واسعا يشمل إرث الأموال كما يشمل إرث المقامات المعنوية ، فسوف لا يكون هناك مورد خلاف ، لأنّ لكل رأي قرائنه ، وإذ لاحظنا الآيات السابقة واللاحقة ومجموع الرّوايات ، فإنّ هذا التّفسير يبدو أقرب للصواب.

أمّا جملة( إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي ) فإنّها مناسبة لكلا المعنيين ، لأنّ الأشخاص الفاسدين إذ تولوا أمر هذه الأموال ، فإنّهم سيكونون مصدر قلق حقا ، وإذا وقعت زمام الأمور وقيادة الناس المعنوية بيد أناس منحرفين ، فإنّ ذلك أيضا يثير المخاوف،وعلى هذا فإنّ خوف زكريا يمكن توجيهه في كلا الصورتين. وحديث فاطمة الزهراءعليها‌السلام يناسب هذا المعنى أيضا.

٤٠٦

٢ ـ ماذا تعني كلمة «نادى»؟

في قوله تعالى( إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا ) طرح هذا السؤال بين المفسّرين ، وهو أن «نادى» تعني الدعاء بصوت عال ، في حين أن «خفيا» تعني الإخفات وخفض الصوت ، وهذان المعنيان لا يناسب أحدهما الآخر.

إلا أننا إذا علمنا أن «خفيا» لا تعني الإخفات ، بل تعني الإخفاء ، فسيكون من الممكن أن زكريا حين خلوته ، حيث لا يوجد أحد سواه ، كان ينادي ويدعو الله بصوت عال.

والبعض قال : إن طلبه هذا كان في جوف الليل حيث كان الناس يغطون في النوم(١) .

والبعض الآخر اعتبر قوله تعالى :( فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ ) التي ستأتي في الآيات التالية ، دليلا على وقوع هذا الدعاء في الخلوة(٢) .

٣ ـ( وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ )

إنّ زكريا قال :( وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) ، وذلك لأنّ زوجته كانت خالة مريم أو عيسى ، ويتصل نسبها بيعقوب ، لأنّها كانت من أسرة سليمان بن داود ، وهو من أولاد يهودا بن يعقوب(٣) .

* * *

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ج ٦ ، ذيل الآية مورد البحث.

(٢) تفسير الميزان الجزء ١٤ ، ذيل الآية.

(٣) مجمع البيان ، الجزء ٦ ، ذيل الآية.

٤٠٧

الآيات

( يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١) )

التّفسير

بلوغ زكريا أمله :

تبيّن هذه الآيات استجابة دعاء زكرياعليه‌السلام من قبل الله تعالى استجابة ممزوجة بلطفه الكريم وعنايته الخاصّة ، وتبدأ بهذه الجملة :( يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ) .

كم هو رائع وجميل أن يستجيب الله دعاء عبده بهذه الصورة ، ويطلعه

٤٠٨

ببشارته على تحقيق مراده ، وفي مقابل طلب الولد فإنّه يعطيه مولدا ذكرا ، ويسميه أيضا بنفسه ، ويضيف إلى ذلك أنّ هذا الولد قد تفرد بأمور لم يسبقه أحد بها. لأنّ قوله :( لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ) وإن كانت تعني ظاهرا بأن أحدا لم يسم باسمه لحد ولادته ، لكن لما لم يكن الاسم لوحده دليلا على شخصية أحد ، فسيصبح من المعلوم أنّ المراد من الاسم هنا هو المسمّى ، أي أحدا قبله لم يكن يمتلك هذه الامتيازات ، كما ذهب الراغب الأصفهاني إلى هذا المعنى ـ بصراحة ـ في مفرداته.

لا شك في وجود أنبياء كبار قبل يحيى ، بل وأسمى منه ، إلّا أنّه لا مانع مطلقا من أن يكون ليحيى خصوصيات تختص به ، كما ستأتي الإشارة إلى ذلك فيما بعد.

أمّا زكريا الذي كان يرى أن الأسباب الظاهرية لا تساعد على الوصول إلى مثل هذه الأمنية ، فإنّه طلب توضيحا لهذه الحالة من الله سبحانه :( قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ) .

«عاقر» في الأصل من لفظة «عقر» بمعنى الجذر والنهاية ، أو بمعنى الحبس ، وإنّما يقال للمرأة : عاقر ، لأنّ قابليتها على الولادة قد انتهت ، أو لأنّ إنجاب الأولاد محبوس عنها.

«العتيّ» تعني الشخص الذي نحل جسمه وضعف هيكله ، وهي الحالة التي تظهر على الإنسان عند شيخوخته.

إلّا أنّ زكريا سمع في جواب سؤاله قول الله سبحانه :( قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ) (١) .

إن هذه ليست بالمسألة العجيبة ، أن يولد مولود من رجل طاعن في السن

__________________

(١) المعروف بين المفسّرين أن عبارة (كذلك) هي في تقدير (الأمر كذلك). ويحتمل كذلك أن (كذلك) متعلقة بما بعدها ويصبح معناها : كذلك قال ربّك.

٤٠٩

مثلك ، وامرأة عقيم ظاهرا( وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً ) ، فإنّ الله قادر على أن يخلق كل شيء من العدم ، فلا عجب أن يتلطف عليك بولد في هذا السن وفي هذه الظروف.

ولا شك أنّ المبشر والمتكلم في الآية الأولى هو الله سبحانه ، إلّا أن البحث في أنّه هو المتكلم في الآية الثّالثة :( قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ) .

ذهب البعض بأنّ المتكلم هم الملائكة الذين كانوا واسطة لتبشير زكريا ، والآية (٣٩) من سورة آل عمران يمكن أن تكون شاهدا على ذلك :( فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى ) .

لكن الظاهر هو أنّ المتكلم في كل هذه الأحوال هو الله سبحانه ، ولا دليل ـ أو سبب ـ يدفعنا إلى تغييره عن ظاهره ، وإذا كانت الملائكة وسائط لنقل البشارة ، فلا مانع ـ أبدا ـ من أن ينسب الله أصل هذا الإعلان والبشارة إلى نفسه ، خاصّة وأنّنا نقرأ في الآية (٤٠) من سورة آل عمران :( قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ ) .

وقد سرّ زكريا وفرح كثيرا لدى سماعه هذه البشارة ، وغمر نفسه نور الأمل ، لكن لما كان هذا النداء بالنسبة إليه مصيريا ومهما جدا ، فإنّه طلب من ربّه آية على هذا العمل:( قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً ) .

لا شك أنّ زكريا كان مؤمنا بوعد الله ، وكان مطمئنا لذلك ، إلّا أنّه لزيادة الاطمئنان ـ كما أنّ إبراهيم الذي كان مؤمنا بالمعاد طلب مشاهدة صورة وكيفية المعاد في هذه الحياة ليطمئن قلبه ـ طلب من ربّه مثل هذه العلامة والآية ، فخاطبه الله :( قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا ) واشغل لسانك بذكر الله ومناجاته.

لكن ، أية آية عجيبة هذه! آية تنسجم من جهة مع حال مناجاته ودعائه ، ومن جهة أخرى فإنّها تعزله عن جميع الخلائق وتقطعه إلى الله حتى يشكر الله

٤١٠

على هذه النعمة الكبيرة ، ويتوجه إلى مناجاة الله أكثر فأكثر.

إن هذه آية واضحة على أن إنسانا يمتلك لسانا سليما ، وقدرة على كل نوع من المناجاة مع الله ، ومع ذلك لا تكون له القدرة على التحدث أمام الناس!

بعد هذه البشارة والآية الواضحة ، خرج زكريا من محراب عبادته إلى الناس ، فكلّمهم بالإشارة :( فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) لأنّ النعمة الكبيرة التي منّ الله بها على زكريا قد أخذت بأطراف القوم ، وكان لها تأثير على مصير ومستقبل كل هؤلاء ، ولهذا فقد كان من المناسب أن يهبّ الجميع لشكر الله بتسبيحه ومدحه وثنائه.

وإذا تجاوزنا ذلك ، فإنّ بإمكان هذه الموهبة التي تعتبر إعجازا أن تحكّم أسس الإيمان في قلوب الناس ، وكانت هذه أيضا موهبة أخرى.

* * *

بحثان

١ ـ يحيىعليه‌السلام النّبي المتألّه الورع

لقد ورد اسم «يحيى» في القرآن الكريم خمس مرات ـ في سور آل عمران ، والأنعام، ومريم ، والأنبياء ـ فهو واحد من أنبياء الله الكبار ، ومن جملة امتيازاته ومختصاته أنّه وصل إلى مقام النّبوة في مرحلة الطفولة ، فإنّ الله سبحانه قد أعطاه عقلا وذكاء وقّادا ودراية واسعة في هذا العمر بحيث أصبح مؤهلا لتقبل هذا المنصب.

ومن خصائص هذا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي أشار إليها القرآن في الآية (٣٩) من سورة آل عمران ، وصفه بالحصور ، كما قلنا في ذيل تلك الآية ، فإنّ «الحصور» من مادة الحصر ، بمعنى وقوع الشخص في المحاصرة ، وهي تعني هنا ـ طبقا لبعض الرّوايات ـ الامتناع عن الزواج.

٤١١

لقد كان هذا العمل امتيازا بالنسبة له ، من جهة أنّه يبيّن نهاية العفة والطهارة ، أو أنّه كان ـ نتيجة ظروف الحياة الخاصّة ـ مضطرا إلى الأسفار المتعددة من أجل نشر الدين الإلهي والدعوة إليه ، واضطر كذلك إلى أن يعيش حياة العزوبة كعيسى بن مريمعليه‌السلام .

وهناك تفسير قريب من الصواب أيضا ، وهو أن الحصور ـ في الآية المذكورة ـ تعني الشخص الذي ترك شهوات الدنيا وملذاتها ، وهذا في الواقع مرتبة عالية من الزهد(١) .

على كل حال ، فإنّ المستفاد من المصادر الإسلامية والمسيحية أن يحيى كان بن خالة عيسى.

فقد صرّحت المصادر المسيحية بأنّ يحيى غسل المسيحعليه‌السلام غسل التعميد ، ولذلك يسمّونه (يحيى المعمد) ـ وغسل التعميد غسل خاص يغسل المسيحيون أولادهم به ، ويعتقدون أنّه يطهرهم من الذنوب ـ ولما أظهر المسيح نبوته آمن به يحيى.

لا شك أن يحيى لم يكن له كتاب سماوي خاص ، وما نقرأه في الآيات التالية من أنّه( يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ ) إشارة إلى التوراة ، وهي كتاب موسىعليه‌السلام .

وهناك جماعة يتبعون يحيى ، وينسبون له كتابا ، وربما كان (الصابئون الموحدون) من أتباع يحيى(٢) .

لقد كان بين يحيى وعيسى جوانب مشتركة ، كالزهد الخارق غير المألوف ، وترك الزواج للأسباب التي ذكرت ، وولادتهما التي تحمل طابع الإعجاز ، وكذلك

__________________

(١) لقد بحثنا مفصلا في أنّ ترك الزواج لا يمكن أن يكون فضيلة لوحده ، وأنّ قانون الإسلام يؤكّد في هذا المجال على الزواج ، في الجزء الثّاني ذيل الآية (٣٩) من آل عمران من هذا التّفسير.

(٢) أعلام القرآن ، ص ٦٦٧.

٤١٢

النسب القريب جدّا.

ويستفاد من الرّوايات الإسلامية ، أن بين الحسينعليه‌السلام ويحيىعليه‌السلام جهات مشتركة ، ولذلك فقد روي الإمام زين العابدين علي بن الحسينعليه‌السلام أنّه قال : «خرجنا مع الحسين بن عليعليه‌السلام ، فما نزل منزلا ولا رحل منه إلّا ذكر يحيى بن زكريا وقتله ، وقال : ومن هو ان الدنيا على الله أنّ رأس يحيى بن زكريا أهدي إلى بغي من بغايا بني إسرائيل»(١) .

كما أن شهادة الحسينعليه‌السلام تشبه شهادة يحيىعليه‌السلام من عدّة جهات أيضا ، وسنذكر كيفية قتل يحيى فيما بعد.

وكذلك فإنّ اسم الحسينعليه‌السلام كاسم يحيىعليه‌السلام لم يسبقه به أحد ، ومدّة حملهما كانت أقل من المعتاد.

٢ ـ ما معنى كلمة «المحراب»؟

«المحراب» محل خاص في مكان العبادة يجعل للإمام أو الوجهاء والمبرزين ، وقد ذكروا علتين لهذه التسمية :

الأولى : أنّها من مادة «حرب» ، لأنّ المحراب في الحقيقة محل لمحاربة الشيطان وهوى النفس.

والثّانية : أنّ المحراب في اللغة بمعنى مكان الصدارة في المجلس ، ولما كان مكان المحراب في صدر المعبد فقد سمي بهذا الاسم.

يقول البعض : إنّ المحراب كان عند بني إسرائيل بعكس ما هو المتعارف عندنا ، حيث كان في مكان أعلى من سطح الأرض حيث يرتقى اليه بعدّة

__________________

(١) نور الثقلين ، الجزء ٣ ، ص ٣٢٤.

٤١٣

درجات. وكانوا يحيطونه بالجدران بحيث تصعب رؤية الذين يتعبدون في داخل المحراب ، ويؤيد ذلك ما ورد في الآية :( فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ ) والتي قرأناها في الآيات محل البحث ، ومع ملاحظة كلمة «على» التي ستعمل عادة للدلالة على الجهة العليا يتّضح هذا المطلب أكثر.

* * *

٤١٤

الآيات

( يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥) )

التّفسير

صفات يحيىعليه‌السلام البارزة :

رأينا في الآيات السابقة كيف أنّ الله سبحانه منّ على زكريا عند كبره بيحيى ، وبعد ذلك فإنّ أوّل ما نلاحظه في هذه الآيات هو الأمر الإلهي المهم الذي يخاطب يحيى :( يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ ) .

المشهور بين المفسّرين أنّ المراد من الكتاب هنا هو التوراة ، حتى ادعوا الإجماع على ذلك(١) .

إلّا أنّ البعض احتمل أن يكون له كتاب خاص كزبور داود ، وهو طبعا ليس

__________________

(١) يراجع تفسير القرطبي والآلوسي في تفسير هذه الآية.

٤١٥

كتابا متضمنا لدين جديد ومذهب مستحدث(١) . غير أن الاحتمال الأوّل هو الأقوى كما يبدو.

وعلى أي حال ، فإنّ المراد من أخذ الكتاب بقوة هو إجراء وتنفيذ ما جاء في كتاب التوراة السماوي بكل حزم واقتدار وتصميم راسخ ، وإرادة حديدية ، وأن يعمل بكل ما فيه، وأن يستعين بكل القوى المادية والمعنوية في سبيل نشره وتعميمه.

إنّ من القواعد المسلّمة أنّه لا يمكن تطبيق أي كتاب ودين بدون قوة وقدرة وحزن أتباعه وأنصاره ، وهذا درس لكل المؤمنين ، وكل السالكين والسائرين في طريق الله.

يحيى وصفاته العشرة :

ثمّ أشار القرآن الكريم إلى المواهب العشرة التي منحها الله ليحيى والتي اكتسبها بتوفيق الله :

١ ـ( وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ) . وهو أمر النّبوة والعقل والذكاء والدراية.

٢ ـ( وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا ) والحنان في الأصل بمعنى الرحمة والشفقة والمحبّة وإظهار العلاقة والمودّة للآخرين.

٣ ـ( وَزَكاةً ) أي أعطيناه روحا طاهرة وزكية ، وبالرغم من أنّ المفسّرين فسروا الزكاة بمعان مختلفة ، فبعضهم فسّرها بالعمل الصالح ، وآخر بالطاعة والإخلاص ، وثالث ببر الوالدين والإحسان إليهما ، ورابع بحسن السمعة والذكر ، وخامس بطهارة الأنصار ، إلّا أنّ الظاهر هو أنّ للزكاة معنى واسعا وشاملا يتضمن كل هذه الأعمال والصفات الطاهرة الصالحة.

٤ ـ( وَكانَ تَقِيًّا ) فكان يجتنب كل ما يخالف الأوامر الالهية.

__________________

(١) يراجع تفسير الميزان في ذيل الآية.

٤١٦

٥ ـ( وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ ) .

٦ ـ( وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً ) فلم يكن رجلا ظالما ومتكبرا وانانيّا.

٧ ـ ولم يكن( عَصِيًّا ) ولم يقترف ذنبا ومعصية.

٨ ، ٩ ، ١٠ ـ ولما كان جامعا لكل هذه الصفات البارزة ، والأوسمة الكبيرة ، فإن الله سبحانه قد سلّم عليه في ثلاثة مواطن :( وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ ، وَيَوْمَ يَمُوتُ ، وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ) .

* * *

بحوث

١ ـ خذ الكتاب السماوي بقوة واقتدار!

إنّ لكلمة «قوة» في قوله :( يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ ) ـ كما تقدم ـ معنى واسعا جمعت فيه كل القدرات والطاقات المادية والمعنوية ، الروحية الجسمية ، وهذا بحد ذاته يبيّن ويوضح هذه الحقيقة ، وهي أنّ الدين الإلهي والإسلام والقرآن لا يمكن أن تحفظ بالضعف والتخاذل والمهادنة اللين ، بل يجب أن تصان بقوّة وتجعل في قلعة القدرة المنيعة.

إنّ المخاطب هنا وإن كان يحيى ، إلّا أنّه قد ورد هذا التعبير بالنسبة إلى غيره من الأنبياء في موارد أخرى من القرآن المجيد ، ففي الآية (١٤٥) من سورة الأعراف أمر موسى بأن يأخذ التوراة بقوة :( فَخُذْها بِقُوَّةٍ ) .

وفي الآية (٦٣ و ٩٣) من سورة البقرة يلاحظ أنّ الخطاب موجه لجميع بني إسرائيل:( خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ ) وهو يوحي بأن هذا الحكم عام يشمل الجميع ، ولا يخص شخصا أو أشخاصا معينين.

وقد ورد هذا المفهوم بتعبير آخر في الآية (٦٠) من سورة الأنفال :( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ) .

٤١٧

وعلى كل حال ، فإنّ هذه الآية تعتبر جوابا لمن يظن أنّه بالإمكان تنفيذ عمل أو تحقيق غاية من موقعه الضعف ، أو يريد حل المشاكل عن طريق المساومة في كل الظروف.

٢ ـ ثلاثة أيّام صعبة في مصير الإنسان

إنّ التعبير ب( سَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ) يبيّن أن في تاريخ حياة الإنسان وانتقاله من عالم إلى عالم آخر ثلاثة أيّام صعبة : يوم يضع قدمه في هذه الدنيا:( يَوْمَ وُلِدَ ) ويوم موته وانتقاله إلى عالم البرزخ( وَيَوْمَ يَمُوتُ ) ويوم بعثه في العالم الآخر( وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ) ولما كان من الطبيعي أن تكون هذه الأيّام مرافقة للاضطرابات والقلق ، فإنّ الله سبحانه يكتنف خاصّة عباده بسلامه وعافيته ، ويجعل هؤلاء في ظل حمايته ومنعته في هذه المراحل العسيرة الثلاثة.

وبالرغم من أنّ هذا التعبير قد ورد في القرآن في موردين فقط ، في حق يحيى وفي حق عيسىعليه‌السلام ، إلّا أنّ التعبير القرآن في شأن يحيى امتيازا خاصّا ، لأنّ المتكلم بهذا الكلام هو الله سبحانه ، في حين أنّ المسيحعليه‌السلام هو المتكلم في حق نفسه.

ومن الواضح أنّ الأفراد الذين يكونون في أوضاع وأحوال تشابه أحوال هذين العظيمين ستعمهم وتظللهم هذه السلامة.

ومن البديع أن نقرأ في رواية عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام : «إنّ أوحش ما يكون هذا الخلق في ثلاثة مواطن : يوم يلد ويخرج من بطن أمه فيرى الدنيا ، ويوم يموت فيعاين الآخرة وأهلها ، ويوم يبعث حيا فيرى أحكاما لم يرها في دار الدنيا ، وقد سلم الله على يحيىعليه‌السلام في هذه الثلاثة مواطن وآمن روعته ، فقال :

٤١٨

وسلام عليه ...»(١) .

٣ ـ النّبوة في الطفولة

صحيح أنّ مرحلة النضج العقلي للإنسان لها حدّ معين عادة ، إلّا أنّه يوجد أفراد استثنائيون بين البشر دائما ، فأي مانع من أن يختصر الله هذه المرحلة لبعض عباده لمصالح ما ، ويجعلها تتلخص في سنوات أقل؟ كما أن مرور سنة أو سنتين على الولادة أمر محتم من أجل التمكن من النطق عادة ، في حين أنّنا نعلم أنّ عيسىعليه‌السلام قد تكلم في أيّامه الأولى ، وكان كلاما عميق المحتوى من شأنه أن يصدر ـ عادة عن أناس كبار في السن ، كما سيأتي في تفسير الآيات القادمة إن شاء الله تعالى.

من هنا يتّضح عدم صحة الإشكال الذي طرحه بعض الأفراد حول بعض أئمة الشيعة ، بأنّه كيف تسلّم بعضهم أمور الإمامة في سن صغيرة؟

نطالع في رواية عن علي بن أسباط ، أحد أصحاب الإمام الجواد محمّد بن علي النقيعليه‌السلام أنّه قال : رأيت أبا جعفرعليه‌السلام وقد خرج عليّ ، فأجدت النظر إليه ، وجعلت أنظر إلى رأسه ورجليه لأصف قامته لأصحابنا بمصر ، فبينا أنا كذلك قعد فقال : «يا عليّ، إنّ الله احتج في الإمامة بمثل ما احتج به في النّبوة ، قد يقول( وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ) ، وقد يقول( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ ) و( بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ) فقد يجوز أن يؤتى الحكمة وهو صبي ، ويجوز أن يؤتى الحكمة وهو ابن أربعين»(٢) .

كما أنّ هذه الآية تتضمن جوابا مفحما لأولئك المعترضين الذين يقولون : إنّ علياعليه‌السلام لم يكن أوّل من آمن بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الرجال ، لأنّه كان ابن عشر سنين في ذلك اليوم ، ولا يقبل إيمان صبي في العاشرة من عمره!

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ٣ ، ص ٧.

(٢) نور الثقلين ، الجزء ٣ ، ص ٣٢٥.

٤١٩

ولا بأس من ذكر الرّواية الشريفة عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام ، وهي أن جماعة من الأطفال قالوا للرضاعليه‌السلام أيّام طفولته : أذهب بنا نلعب ، قال : «ما للعب خلقنا» وهذا ما أنزل الله تعالى( وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ) (١) .

يجب الالتفات إلى أن اللعب هنا هو الإشتغال بما لا فائدة فيه ، وبتعبير آخر لا هدف يطلب منه ، لكن قد يستتبع اللعب واللهو ـ أحيانا ـ هدفا منطقيا وعقلائيا ويسعى إليه ، فمن البديهي أن لهذا اللعب حكما مستثنى.

٤ ـ شهادة يحيى

لم تكن ولادة يحيى عجيبة ومذهلة لوحدها ، بل إنّ موته أيضا كان عجيبا من عدّة جهات ، وقد ذكر أغلب المؤرخين المسلمين ، وكذلك المصادر المسيحية ، مجرى هذه الشهادة على هذه النحو ، بالرغم من وجود اختلاف يسير في خصوصياتها بين هذه المراجع:

لقد أصبح يحيى ضحية للعلاقات غير الشرعية لأحد طواغيت زمانه مع أحد محارمه ، حيث تعلق «هروديس» ملك فلسطين اللاهث وراء شهواته ببنت أخته «هروديا» وهام في غرامها ، وألهب جمالها قلبه بنار العشق ، ولذلك صمم على الزواج منها!

فبلغ هذا الخبر نبي الله العظيم يحيىعليه‌السلام ، فأعلن بصراحة أنّ هذا الزواج غير شرعي ومخالف لتعليمات التوراة ، وسأقف امام مثل هذا العمل.

لقد انتشر صخب وضوضاء هذه المسألة في كل أرجاء المدينة ، وسمعت تلك الفتاة (هيروديا) بذلك ، فكانت ترى يحيى أكبر عائق في طريقها ، ولذلك صممت على الانتقام منه في فرصة مناسبة لترفع هذا المانع من طريق شهواتها وميولها ، فعمقت علاقتها بخالها ووطدتها ، وجعلت من جمالها مصيدة له ، وقد

__________________

(١) نور الثقلين ، الجزء ٣ ، ص ٣٢٥.

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576