الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 576

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 576 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 264384 / تحميل: 11788
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

وهذه النظرية اختارها ابن البطريق (ت ٥٣٣ ـ ٦٠٠ هـ)(١) ، ووافقه عليها غيره .

وإذا ثبت أنّ معنى المولى هو الأولى بالشيء ، يكون ذلك هو المراد من آية الولاية ؛ لأنّه المعنى الوحداني والأصل للفظ الولي ، وتختلف الموارد بحسبها ، فيكون مفاد آية الولاية مفاد قوله تعالى :( النّبِيّ أَوْلَى‏ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) (٢) ، الأولى بالتصرّف ، ويشهد لذلك ما نقله ابن منظور في لسان العرب ، عن ابن الأثر قوله : ( وكأن الولاية تشعر بالتدبير والقدرة والفعل ، وما لم يجتمع ذلك فيها لم ينطلق عليه اسم الوالي )(٣) ، وقريب من هذا المعنى ما ذكره بعض اللغويين في معاجمهم اللغوية .

الاستدلال على المستوى القرآني :

إنّ الآية المباركة :( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا ) تضمّنت دلالات وافرة لإثبات المطلوب ، ومراعاة للاختصار نكتفي بالإشارة المفهمة لبعض منها :

١ – إنّ صيغة التعبير في الآية الشريفة جعلت الولاية بمعنى واحد ، حيث قال :( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللهُ و ) فلو كانت ولاية الله تعالى تختلف عن ولاية( الّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) لكان الأنسب في التعبير أن تفرد بالذكر ولاية أخرى للمؤمنين ؛ لكي تحول

ـــــــــــــ

(١) عمدة عيون الأخبار ، ابن البطريق : ص ١١٤ ـ ١١٥ .

(٢) الأحزاب : ٦ .

(٣) لسان العرب : ابن منظور : ج ١٥ ص ٤٠٧ ؛ النهاية في غريب الحديث ، ابن الأثير : ج ٥ ص ٢٢٧ .

٦١

دون وقوع الالتباس ، نظير قوله تعالى :( قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ) (١) ، فكرّر لفظ الإيمان في الموضعين ؛ بسبب تكرّر معنى الإيمان وتغايره فيهما .

إذن لابد أن تكون الولاية في الآية المباركة بمعنى واحد في جميع الموارد التي ذكرت فيها ، وهي الأصالة لله تعالى ، وبالتبع لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وللذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون .

وولاية الله تعالى في الآية المباركة ولاية عامّة وشاملة لولاية التصرف ، والتدبير ، والنصرة وغيرها ، قال تعالى حكاية عن نبيّه يوسفعليه‌السلام :( أنت وليّي في الدّنيا والآخرة ) (٢) ، وقال عزّ وجلّ :( فَمَا لَهُ مِن وَلِيّ مِن بَعْدِهِ ) (٣) ، وغيرها من الآيات الدالة على ذلك .

٢ ـ إنّ الولاية التي هي بالأصل لله عزّ وجلّ جعلها لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتبع ، فلرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الولاية العامّة على الأمة ، من الحكم فيهم ، والقضاء في جميع شؤونهم ، وعلى الأمة التسليم والطاعة المطلقة بلا ضيق أو حرج ، كما في قوله تعالى :( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ ) (٤) ، وقوله تعالى :( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (٥) .

خصوصاً وإنّنا لا نجد القرآن يعدّ النبي ناصراً للمؤمنين ولا في آية واحدة .

ـــــــــــــ

(١) التوبة : ٦١ .

(٢) يوسف : ١٠١ .

(٣) الشورى : ٤٤ .

(٤) النساء : ٥٩ .

(٥) الأحزاب : ٣٦ .

٦٢

وهذا المعنى من الولاية الثابتة لله تعالى ورسوله ، عُطفت عليه ولاية :( الذين آمنوا ) ، وهذا يعني أنّ الولاية في الجميع واحدة ؛ لوحدة السياق وهي ثابتة لله عزّ وجلّ بالأصالة ، ولرسوله وللذين آمنوا بالتبع والتفضّل والامتنان .

إذن الولاية الثابتة في الآية لعليعليه‌السلام هي ولاية التصرّف ، وإنّ معنى الولي في الآية تعني الأولى بالتصرّف ، وممّا يؤكّد ذلك مجيء لفظ ( وليّكم ) مفرداً ونسب إلى الجميع بمعنى واحد ، والوجه الذي ذكره المفسّرون لذلك هو أنّ الولاية ذات معنى واحد ، لله تعالى أصالة ولغيره بالتبع .

الاستدلال على المستوى الروائي :

هناك عدّة من القرائن والشواهد الروائية لإثبات المطلوب :

أوّلاً : لو كانت الولاية الثابتة لعلي بن أبي طالبعليه‌السلام بمعنى النصرة ، لما وجد فيها مزيد عناية ومزيّة ومدح لعليعليه‌السلام ؛ لأنّها موجودة بين جميع المؤمنين :( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضَهُمْ أَولِياءُ بَعْضٍ ) (١) ، وعليعليه‌السلام كان متصفاً بهذه المحبّة والنصرة للمؤمنين منذ أن رضع ثدي الإيمان مع صنوه المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولكن لو أمعنّا النظر في الروايات الواردة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عقيب

ـــــــــــــ

(١) التوبة : ٧١ .

٦٣

نزول آية الولاية ، لوجدنا أنها تثبت مويّة ومنقبة عظيمة لعليعليه‌السلام ، ففي الرواية أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال بعد نزول الآية :( الحمد لله الذي أتمّ لعلي نعمه ، وهيّأ لعلي بفضل الله إيّاه ) (١) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد نزول الآية أيضاً :( مَن كنت مولاه فعلي مولاه ، اللّهمّ والِ مَن والاه وعاد مَن عاداه ) (٢) ، إذاً في الآية الكريمة مزيد عناية تفترق عن تولّي المؤمنين بعضهم لبعض ، وليس تلك المزيّة العظيمة إلاّ ولاية التصرّف والإمرة .

ثانياً : إنّ الولاية التي خصّها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليعليه‌السلام يوم غدير خم ، هي ولاية تدبير وتصرّف ؛ لأنّها نفس ولاية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا ما نلمسه من كيفية إعلان الولاية من قِبلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث قال :( ألست أولى بكم من أنفسكم ) ، وهذه الولاية ـ التي هي ولاية تصرّف ـ هي نفسها الولاية التي تثبتها الآية الشريفة :( إنّما وليّكم ... ) لعليعليه‌السلام .

من هنا نجد أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عقّب ـ بعد نزول آية الولاية في حقّ عليعليه‌السلام ـ بقوله :( مَن كنت مولاه فعلي مولاه اللّهم والِ مَن والاه وعاد مَن عاداه ) ،

ـــــــــــــ

(١) الدر المنثور ، السيوطي : ج ٣ ص ١٠٦ .

(٢) مسند أحمد : ج ١ ص ٨٤ ، ص ١١٨ ، ص ١١٩ ، ص ١٥٢ ، ص ٣٣١ ، ج ٤ ص ٢٨١ ، ص ٣٧٠ ، ص ٣٧٢ ، ج ٥ ص ٣٤٧ ، ص ٣٦٦ ، ص ٣٧٠ ، سنن ابن ماجه : ج ١ ، ص ٤٣ ح ١١٦ ؛ الترمذي : ج ٥ ص ٢٩٧ ؛ المستدرك ، الحاكم النيسابوري : ج ٣ ص ١٠٩ ـ ١١٦ ، ص ١٣٤ ، ص ٣٧١ ، ص ٥٣٣ ؛ مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج ٧ ص ١٧ ، ج ٩ ص ١٠٤ ـ ص ١٠٨ ص ١٦٤ ؛ وقال فيه : ( عن سعيد بن وهب رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح ) ؛ فتح الباري : ج ٧ ص ٦١؛ وقال فيه : ( فقد أخرجه الترمذي والنسائي وهو كثير الطرق جداً ، وقد استوعبها ابن عقدة في كتاب مفرد ، وكثير من أسانيدها صحاح وحسان ) ؛ صحيح ابن حبان : ج ١٥ ص ٣٧٦ وما بعد ، وغير ذلك من المصادر الكثيرة جداً ؛ فراجع .

٦٤

وهذا يكشف عن كون الولاية ولاية تصرّف ، لا سيّما إذا أخذنا بنظر الاعتبار ذلك الحشد المتنوع من الروايات الذي يؤكّد على علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، ويقرن طاعته بطاعة الله ورسوله ، كل ذلك يكشف عن أن ولايتهعليه‌السلام هي ولاية التصرّف ، وأنّه الأولى بالتصرّف ؛ لذا قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حق عليعليه‌السلام :( مَن أطاعني فقد أطاع الله ، ومَن عصاني فقد عصى الله ، ومَن أطاعك فقد أطاعني ، ومَن عصاك فقد عصاني ) ، قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه(١) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( مَن يريد أن يحيا حياتي ويموت موتي ويسكن جنّة الخلد التي وعدني ربّي ؛ فليتولّ علي بن أبي طالب فإنّه لن يخرجكم من هدى ولن يدخلكم في ضلالة ) ، قال الحاكم أيضاً : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه(٢) .

وعن عبد الرحمان بن عثمان قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو آخذ بضبع علي بن أبي طالب ، وهو يقول : (هذا أمير البررة ، قاتل الفجرة ، منصور مَن نصره مخذول مَن خذله ، ثم مدّ بها صوته ) ، قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه(٣) .

وغيرها الكثير من الروايات التي تشاركها بالمضمون ذاته .

ثالثاً : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلب من الله تعالى أن يشدّ عضده بأخيه

ـــــــــــــ

(١) المستدرك على الصحيحين ، الحاكم النيسابوري : ج٣ ص ١٢٨ ، تاريخ مدينة دمشق : ابن عساكر : ٤٢ : ص ٣٠٧ .

(٢) المستدرك على الصحيحين ، الحاكم النيسابوري : ج ٣ ص ١٢٨ ـ ١٢٩ .

(٣) المستدرك على الصحيحين ، الحاكم النيسابوري : ج ٣ ص ١٢٩ .

٦٥

عليعليه‌السلام ، كما شدّ الله تعالى عضد موسىعليه‌السلام بأخيه هارونعليه‌السلام ، فنزلت الآية :( إنّما وليّكم ) بشرى لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بجعل عليعليه‌السلام وليّاً وخليفة من بعده ، وهذا يدلل على أنّ الولاية لعليعليه‌السلام لم تكن مجرّد نصرة ومحبّة ، بل كانت ولاية أولوية بالأمر بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما هو الحال في هارونعليه‌السلام ، باعتبار أولويته بالأمر والإمرة بعد موسىعليه‌السلام ، عندما خلّفه في قومه .

رابعاً : احتجاج أمير المؤمنينعليه‌السلام على أولويته بالأمر بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بآية الولاية ، حيث قالعليه‌السلام مخاطباً لجمع من الصحابة في مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( أنشدكم الله : أتعلمون حيث نزلت : ( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) ، وحيث نزلت : ( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) ، وحيث نزلت : ( وَلَمْ يَتّخِذُوا مِن دُونِ اللهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ) ، قال الناس : يا رسول الله : أخاصّة في بعض المؤمنين ، أم عامة لجميعهم ؟ فأمر الله عزّ وجل نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعلمهم ولاة أمرهم ، وأن يفسّر لهم من الولاية ما فسّر لهم من صلاتهم ، وزكاتهم ، وحجّهم ، فنصبني للناس بغدير خم ) (١) وهذا يكشف عن كون المراد بالآية هو الأولى .

وبذلك يتحصّل أنّ معنى الولي هو الأولى بالتصرّف ، وأنّ الآية بصدد جعل الولاية لعليعليه‌السلام بعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ـــــــــــــ

(١) المناقب ، ابن المغازلي الشافعي : ص ٢٢٢ ، فرائد السمطين : ج ١ ص ٣١٢ ، ينابيع المودّة للقندوزي : ج ١ ص ٣٤٦ ، شواهد التنزيل ، الحسكاني : ج ٢ ص ٢٩٥ ، فرائد السمطين : ج ١ ص ٣١٢ .

٦٦

كيف تستدلّ الشيعة بشأن النزول ؟

الشبهة :

الشيعة يستدلّون بشأن نزول آية الولاية على الإمامة ؟

الجواب :

بعد أن أطبقت الأمّة وأجمع المحدّثون والمفسّرون على نزول الآية المباركة في الإمام عليعليه‌السلام مع صراحة الآية في إثبات الولاية ، ومباركة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للإمام عليعليه‌السلام بقوله :( الحمد لله الذي أتمّ لعلي النعمة ) ، لا يبقى أي مجال لمثل هذه التشكيكات والشبهات ، سواء كان الاستدلال بالآية استدلالاً مباشراً ، أم كان عن طريق شأن النزول ، الذي هو عبارة عن الأحاديث المتواترة والصحيحة والصريحة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي أمرنا الله تعالى بالتمسّك بها بقوله :( وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (١) ، وعليه فلا ينبغي التهاون والتقليل من شأن هذه الأحاديث القطعيّة ، كما يظهر ذلك من كلام صاحب الشبهة .

ويمكن أن نحقق استيعاباً جيداً لمسألة ولاية علي بن أبي طالبعليه‌السلام ؛ وذلك من خلال الآيات القرآنية والنصوص النبوية التي تعرّضت لبيان هذا المعنى ، فضلاً عمّا أشاعته آية الولاية من مناخ سائد حيال هذه المسألة ، من تقديم التهاني والتبريكات من قِبل الصحابة إلى عليعليه‌السلام الصحابة وإنشاد الشعر والمديح بهذه المناسبة العظيمة ، وهذا يكفي لسدّ كل منافذ الريب والتشكيك ، ومعالجة ما يطرأ على الأذهان من التباسات .

ـــــــــــــ

(١) الحشر : ٧ .

٦٧

الخلاصة

لا مجال لمثل هذه التشكيكات ، بعد أن أجمعت الأمة على نزول الآية في شأن عليعليه‌السلام ، وسواء كان الاستدلال بالآية ذاتها أم من طريق شأن النزول الثابت قطعاً كونه بخصوص عليعليه‌السلام فهو يثبت المطلوب ، ولا معنى للإصغاء لمثل هذه الأوهام .

المعروف أنّ عليّاً فقير فكيف يتصدّق ؟

الشبهة :

إنّ علياً كان فقيراً فكيف يتصدّق بالخاتم إيتاءً للزكاة ؟

الجواب :

ما أكثر المدّعيات التي تُرفع من دون أي دليل ولا برهان يدعمها ، ومن أغرب المدّعيات التي تُثار للتشكيك في صحّة نزول آية الولاية في الإمام عليعليه‌السلام هذا الإشكال الآنف الذكر ، إلا أنّنا توخّياً لدرء مثل هذه التشكيكات التي تطرأ على بعض الأذهان نقول :

أوّلاً : إنّ لفظ الزكاة لغةً شامل لكل إنفاق لوجه الله تعالى ، ونلمس هذا المعنى في عدّة من الآيات المباركة ، وكقوله تعالى:( وَأَوْصَانِي بِالصّلاَةِ وَالزّكَاةِ مَادُمْتُ حَيّاً ) (١) ، وكذا ما قاله القرآن بحق إبراهيم وإسحاق ويعقوبعليهم‌السلام :( وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزّكَاةِ ) (٢) ، وغيرها من الآيات التي تشاركها في المضمون ، ومن المعلوم أنّه ليس في شرائعهمعليهم‌السلام الزكاة المالية المصطلحة في الإسلام .

ـــــــــــــ

(١) مريم : ٣١ .

(٢) الأنبياء : ٧٣ .

٦٨

ومن هنا فقد استعمل القرآن لفظ الزكاة في الآية الشريفة بمعناها اللغوي الشامل لكل إنفاق لوجه الله تعالى أي الزكاة المستحبّة ( زكاة تطوّع ) ؛ ولذا نرى أنّ الجصاص ـ في أحكام القرآن ـ فهم أنّ المراد بالزكاة في الآية ، هي زكاة التطوّع ، حيث قال : ( قوله تعالى :( وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) ، يدلّ على أنّ صدقة التطوّع تسمّى زكاة ؛ لأنّ عليّاً تصدّق بخاتمه تطوّعاً ، وهو نظير قوله تعالى :( وَما آتَيْتُم مِن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ) (١) .

ثانياً : لو فرضنا أنّ المراد من الزكاة في الآية هي الزكاة الواجبة ، فليس من الغريب أن يمتلك الإمام عليعليه‌السلام أوّل نصاب من مال الزكاة وهو مقدار (٢٠٠ درهم) ، ومَن ملك ذلك لا يعدّ غنيّاً ، ولا يُطلق عليه اسم الغني شرعاً .

ثالثاً : بعد أن ثبت نزول الآية في الإمام عليعليه‌السلام بإجماع الأمة واتفاق المفسّرين والمحدّثين ، ولم ينكر أحد على الإمام عليعليه‌السلام تصدّقه بالخاتم ، وإنّما الكل فهم المزيّة والكرامة لهعليه‌السلام لا يبقى أي مجال للإنكار والتشكيك .

ومن هنا نلاحظ أنّ الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بادر المباركة للإمام عليعليه‌السلام عقيب نزول الآية الكريمة ، وقام الشعراء بإنشاء القصائد الطافحة بالمديح والثناء على الإمام عليعليه‌السلام ، كل ذلك نتيجة طبيعية للمناخ الذي أشاعته الآية في أوساط المسلمين ، من إثبات الولاية للإمام عليعليه‌السلام ، فإذا ثبت نزول الآية في الإمام عليعليه‌السلام بالدلائل والبيّنات القاطعة لا معنى للاستنكار والتشكيك ، خصوصاً وأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حمد الله على هذه النعمة التي اتمّها لعليعليه‌السلام ، وبارك الصحابة بأقوالهم وأشعارهم للإمام عليعليه‌السلام تلك المنقبة .

ـــــــــــــ

(١) أحكام القرآن ، الجصاص : ج ٢ ص ٥٥٨ .

٦٩

الخلاصة

١ – إنّ لفظ الزكاة شامل لكلّ إنفاق لوجه الله تعالى واستعملها القرآن بذلك .

٢ ـ لو سلّمنا أنّ لفظ الزكاة في الآية استعمل في الزكاة الواجبة التي هي أقلّ نصابها ٢٠٠ درهم ، فإنّ مَن يملك هذا المبلغ لا يُعدّ غنيّاً شرعاً .

٣ – قام الإجماع على نزول آية الولاية في حق الإمام عليعليه‌السلام ، ولم ينكر أحد آنذاك ما استنكره صاحب الشبهة ، بل أنشد الشعر والمديح والثناء على الإمام عليعليه‌السلام ، مع مباركة الصحابة .

آية البلاغ تدلّ على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يبلّغ سابقاً

الشبهة :

إنّ استدلال الشيعة بآية البلاغ على الإمامة يبطل كل الاستدلالات السابقة التي يستدلّون بها ؛ لأنّ آية البلاغ مدنية ، فتدل على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يبلّغ سابقاً .

الجواب :

أوّلاً : لابد أن نفهم كيفية تعاطي الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع المفاهيم والمبادئ الإسلامية المهمّة التي تمثّل الأساس في منظومة الدين الإسلامي ، والتي ينبغي التأكيد عليها من قِبلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكثر من غيرها ، ومن جملة المفاهيم الأساسية هي الإمامة ، حيث نلمس غاية الانسجام ومنتهى الملائمة بين جميع البيانات السابقة لإثبات الإمامة والتنصيص عليها ، فكل تلك المواقف والبيانات كانت تتناسب مع خطورة وأهميّة مبدأ كمبدأ الإمامة والولاية بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلابد من تأسيسه وتشييد أركانه وجعله وعياً إسلامياً عاماً ، وآية البلاغ جاءت ضمن ذلك السياق وتلك الخلفية ، فهي نزلت في ذلك الظرف لتحمل في طيّاتها العديد من الأمور المهمّة التي تتعلّق بحقيقة الإمامة ، منها :

٧٠

١ ـ أنّها جاءت لتصرّح بقضية مهمة جداً ، وهي أنّ ترك تنصيب علي بن أبي طالبعليه‌السلام للولاية مساوق لترك تبليغ الرسالة بأكملها ، وهذا ما يتجلّى واضحاً عند التأمّل في الآية :( وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ ) (١) ، وعلى ضوء ذلك تعرف السر في نزول هذه الآية المباركة في أواخر حياة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث تكشف عن أهمية الإمامة والولاية في المنظومة الدينية ، ومن هذا المنطلق يظهر لك سبب ذلك الحشد المتنوّع من النصوص القرآنية والروائية التي تؤكّد على ضرورة وأهمية موقع الإمامة في الإسلام بأجمعه ؛ ذلك لكي ينطلق الإسلام في قيادة جديدة تكون في جميع مجالاتها وآفاقها امتداداً للقيادة النبوية ، لتبقى المسيرة مستمرة والرسالة محفوظة .

وممّا يؤكّد أهمية الإمامة والولاية هو ما نجده واضحاً في أقوال الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد تبليغ مقام الولاية وتعيين الولي للناس ، حيث قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( فليبلّغ الشاهد الغائب ) (٢) ، فإنّ اهتمامهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الشديد في إيصال خطابه الشريف إلى جميع المسلمين يكشف عن خطورة الأمر ، وأنّه ممّا تتوقّف عليه ديمومة الإسلام .

بالإضافة إلى ما يكتنف الآية المباركة من القرائن الحالية الكثيرة والواضحة الدالة على أهمية هذا الأمر ، وتأثيره المباشر على مسيرة الإسلام ، كنزولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حرّ الهجير والسماء صافية ، والمسلمون واقفون على الحصباء والرمضاء التي كادت تتوقّد من حرارة الشمس ، حتى أنّه نقل الرواة من حفّاظ الحديث وأئمّة التاريخ أنّه لشدّة الحر وضع بعض الناس ثوبه على رأسه ، وبعضهم استظلّ بمركبه ، وبعضهم استظلّ بالصخور ، ونحو ذلك .

ـــــــــــــ

(١) المائدة : ٦٧ .

(٢) كما جاء ذلك في أكثر المصادر الروائية والتفسيرية التي نقلت حديث الغدير ، وقد ذكر ابن حجر أنها (قد بلغت التواتر) ، لسان الميزان ، ابن حجر العسقلاني : ج ١ ص ٣ .

٧١

وكذلك أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برجوع مَن تقدّم ، وتقدّم مَن تأخّر .

مضافاً إلى حضور ذلك الجمع الغفير من الصحابة والمسلمين الذين حضروا لأداء مناسك الحج من سائر أطراف البلاد الإسلامية ، وغير ذلك من الأمور التي تدل على خطورة الأمر وأهميته .

٢ ـ إنّ آية البلاغ التي بلّغها الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أواخر حياته ، جاءت تحمل في طيّاتها الإشارة إلى قضية مهمة جداً في الدين الإسلامي ، وهي تحديد معالم أطروحة الإمامة في الإسلام ، مؤكّدة على أنّ الإمامة شاملة لكل الأبعاد القيادية السياسية منها والحكومية والمرجعية وغيرها ، وأنّ منصب الخلافة والحكومة يمثّل أحد أبعاد الإمامة ، وهذا هو موضع النزاع مع أتباع مدرسة الخلفاء ، حيث إنّهم يختزلون دور الإمام في الحاكمية فقط ، فإذا لم يستلم الحكومة لا يكون إماماً ، على خلاف معتقد الشيعة الإمامية الاثني عشرية ، التي تعتقد أنّ منصب الحاكمية يمثّل أحد أبعاد الإمامة لا جميعها .

٣ ـ إنّ آية البلاغ جاء تبليغها بصيغة الإعلان الرسمي للولاية والإمامة والتتويج العام للإمام عليعليه‌السلام أمام المسلمين ، ويشهد لذلك كيفية التبليغ ، حيث جمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الناس وأمر أن يردّ مَن تقدم منهم ومَن تأخّر عنهم في ذلك المكان ، وجمعت لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقتاب الإبل وارتقاها آخذاً بيد أخيه عليعليه‌السلام معمّماً له أمام الملأ صادعاً بإبلاغ الولاية ، ثم إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلب بنفسه البيعة من الناس لعليعليه‌السلام ، وبادر الناس لبيعتهعليه‌السلام وسلّموا عليه بإمرة

٧٢

المؤمنين ، وهنّأوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليّاًعليه‌السلام ، وأوّل مَن تقدّم بالتهنئة والبخبخة ، أبو بكر ثم عمر بن الخطاب وعثمان و...(١) ، وقد روى الطبري في كتابه الولاية بإسناده عن زيد بن أرقم أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( قولوا أعطيناك على ذلك عهداً من أنفسنا ، وميثاقاً بألسنتنا ، وصفقة بأيدينا ، نؤدّيه إلى أولادنا وأهلنا لا نبتغي بذلك بدلا ) (٢) .

ثم استئذان حسان بن ثابت من الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لنظم أبيات في الواقعة تدل على أنّه لم يفهم من الحديث غير معنى الخلافة والولاية .

وكذلك يؤكّد كل ما قلناه احتجاج أمير المؤمنين عليعليه‌السلام بحديث الغدير في مواضع عديدة ، حيث كان يحتج على أولئك الذين تركوا وصيّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقولهعليه‌السلام : (أنشدكم بالله أمنكم مَن نصّبه رسول الله يوم غدير خُم للولاية غيري ؟ قالوا : اللهم ، لا ) ، وفي موضع آخر ( قال :أنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مَن كنت مولاه ، فعلي مولاه ، اللّهمّ والِ مَن والاه وعاد مَن عاداه ، وانصر مَن نصره ، ليبلغ الشاهد الغائب ، غيري ؟ قالوا : اللّهمّ ، لا )(٣) .

ـــــــــــــ

(١) مسند أحمد : ج ٤ ص ٢٨١ ؛ المعيار والموازنة ، الإسكافي : ص ٢١٢ ؛ المعجم الكبير ، الطبراني : ج ٥ ص ٢٠٣ ؛ فيض القدير شرح الجامع الصغير : ج ٦ ص ٢٨٢ ح ١٢٠ ؛ تذكرة الخواص ، ابن الجوزي : ص ٣٦ ؛ نظم درر السمطين : ص ١٠٩ ؛ كنز العمال ، المتقي الهندي : ج ١٣ ص ١٣٤ ؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ٥ ص ٨ ؛ المصنف لابن أبي شيبة الكوفي : ج ٧ ص ٥٠٣ ؛ شواهد التنزيل : الحاكم الحسكاني : ج ١ ص ٢٠٠ ؛ ثمار القلوب : ص ٦٣٧ ؛ وغيرها .

(٢) كتاب الولاية : محمد بن جرير الطبري : ص ٢١٤ ـ ٢١٦ .

(٣) انظر : مسند أحمد : ج ١ ص ٨٤ ؛ ج ٤ ص ٣٧٠ ؛ ج ٥ ص ٣٧٠ ؛ مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج ٩ ص ١٠٤ ، ص ١٠٧ ؛ المصنف ، أبي شيبة الكوفي : ج ٧ ص ٤٩٩ ؛ كتاب السنّة : عمرو بن أبي عاصم : ص ٥٩١ ، ص ٥٩٣ ؛ خصائص أمير المؤمنين ، النسائي : ص ٩٦ ؛ مسند أبي يعلى : ج ١ ص ٤٢٨ ـ ٤٢٩ ح ٥٦٧ ؛ ج ١١ ص ٣٠٧ ح ٦٤٢٣ ؛ المعجم الصغير : الطبراني : ج ١ ص ٦٤ ـ ٦٥ ؛ المعجم الأوسط : ج ٢ ص ٣٢٤ ؛ المعجم الكبير : ج ٥ ص ١٧١ ؛ كنز العمال ، المتقي الهندي : ج ١١ ص ٣٣٢ ؛ الصواعق المحرقة ، ابن حجر الهيتمي : ص ١٩٥ ؛ وغيرها .

٧٣

٤ ـ لم يكتف الله تبارك وتعالى بكل البيانات السابقة من النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى أنزل في ولاية عليعليه‌السلام تلك الآيات الكريمة تتلى على مرّ الأجيال بكرةً وعشيّاً ؛ ليكون المسلمون على ذكر من هذه القضية في كل حين ، وليعرفوا رشدهم والمرجع الذي يجب عليهم أن يأخذوا عنه معالم دينهم ويتبعوه في قيادته .

٥ ـ لو اقتصر في تبليغ الإمامة على تلك البيانات الخاصة للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمقتصرة على حضور بعض الصحابة ؛ لضاعت وأصبحت روايات ضعافاً ، ولما وصلت إلينا بشكل واضح ومتواتر كما جاءتنا آيات وروايات البلاغ ؛ وذلك بسبب منع تدوين حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عهد الخلفاء ، ولتولّي بني أمية وأعداء أهل البيتعليه‌السلام تدوين الحديث فيما بعد .

الخلاصة

أوّلاً : إنّ تعاطي القرآن الكريم والرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع المفاهيم الأساسية في الإسلام ـ كالإمامة ـ يختلف عن غيرها من المفاهيم الأخرى ؛ ولذا نجد أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكّد عليها مراراً وشيّد أركانها ، مستثمراً كل مناسبة يمكن استثمارها في ذلك ، ومن هنا نلتمس أسباب كثرة البيانات والتصريحات المتكرّرة من الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ وذلك لكي يكون الاهتمام والتبليغ متناسباً مع أهمية ذلك الأمر ؛ ولذا نرى الانسجام والملائمة بين التبليغات النبوية ، والآيات القرآنية الواردة في هذا الصدد ، وبالخصوص آية البلاغ التي جاءت ضمن الاهتمامات القرآنية بمسألة الإمامة ، وقد حملت آية البلاغ العديد من المعطيات المهمة في مسألة الإمامة ، منها:

١ ـ إنّ الآية المباركة جاءت لتبيّن أنّ ترك تنصيب الإمام عليعليه‌السلام للولاية مساوق لترك تبليغ الرسالة بأجمعها ، كما هو واضح من قوله تعالى :( وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ ... ) وممّا يؤكّد أهمية هذا التبليغ للإمامة ملاحظة الظروف التي رافقت عملية التبليغ من شدّة الحرّ ، وأمر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برجوع المتقدّم ولحوق المتأخّر ، والجمع الغفير الذي حضرها ، كل ذلك يدل على أهمية الأمر وخطورته .

٧٤

٢ ـ إنّ تبليغ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للآية في أواخر حياته جاء مؤكّداً على بيان أطروحة الإمامة في الإسلام ، وأنّها شاملة لكل الأبعاد القيادية السياسية والدينية والحقوقية والقضائية ، وأنّ منصب الخلافة والحكومة يمثّل أحد أبعاد الإمامة ، وهذا هو محل النزاع بين السنّة والشيعة ، حيث إنّ السنّة يختزلون دور الإمام في الحاكمية فقط .

٣ ـ إنّ آية البلاغ جاءت بصيغة الإعلان الرسمي لولاية الإمام عليعليه‌السلام كما هو واضح من خلال عملية التنصيب وطريقته ومباركة الصحابة له بالولاية وإنشاء الشعر ونحوها ، وكذلك احتجاجهعليه‌السلام بحديث الغدير في مناسبات عديدة على أحقّيّتهعليه‌السلام في الخلافة .

ثانياً : إنّ الله تعالى لم يقتصر على أمر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتبليغ لولاية الإمام عليعليه‌السلام ، بل هنالك عدّة من الآيات جاءت مؤكّدة لتلك الولاية لتتلى بكرةً وعشياً على مرّ الأجيال ، وتكون شاهدة وحجّة عليهم .

ثالثاً : لو اقتصر في تبليغ الولاية على البيانات الخاصة المقتصرة على حضور بعض الصحابة ، سوف يُعرّضها ذلك للضياع ، لا سيّما مع ملاحظة منع تدوين السنّة ، أو تكون من الأخبار الضعاف ، ولذا كان تبليغها في واقعة الغدير كفيلاً بأن يجعلها تصل إلى حدّ التواتر وإجماع المسلمين ، الذي لا يمكن تجاوزه .

لا وجود لاسم علي في القرآن

الشبهة :

إنّ القرآن الكريم لم ينص على إمامة عليعليهم‌السلام وإلاّ لذكر اسمه فيه .

٧٥

تمهيد:

لكي تكون الإجابة واضحة لابد من الالتفات إلى نقطتين أساسيتين ، هما :

الأُولى : القرآن تبيان لكل شيء

لا ريب أن القرآن هو الكتاب المنزل لهداية الناس فيه تبيان كل شيء ، والسنّة النبوية مفصّلة ومبيّنة له ، قال تعالى :( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ ) (١) ، فأحدهما مكمّل للآخر ، والإسلام كلّه ، من عقائد وأحكام وسائر علومه وأُصوله موجود في القرآن الكريم ، أمّا شرحه وتفسيره وتجسيده ، فنجده في سنّة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خلال حديثه وسيرته المباركة ؛ ولذا نجد أنّ الله تعالى قرن طاعته بطاعة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما في قوله تعالى :( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) (٢) ، وقوله عزّ وجلّ :( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ) (٣) ، وكذلك قرن معصية الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمعصيته تعالى ، حيث

ـــــــــــــ

(١) النحل : ٤٤ .

(٢) النساء : ٥٩ .

(٣) الأنفال : ٢٠ .

٧٦

قال :( وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنّ لَهُ نَارَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فَيهَا أَبَداً ) (١) ، وقوله تعالى :( فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنّي بَرِي‏ءٌ مّمّا تَعْمَلُونَ ) (٢) ، وقال تعالى أيضاً :( فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّى‏ يُحَكّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُوا تَسْلِيماً ) (٣) ، وغيرها من الآيات الكريمة .

الثانية : يجب اتباع ما أمر به الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

إنّ الله تعالى لم يجعل الخيرة للمؤمنين فيما يقضي الله ورسوله به ، كما في قوله تعالى :( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً مّبِيناً ) (٤) ، وبيّن الله تعالى أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجّة على الخلق في قوله وفعله ، وأنّ الله جعله إماماً يقتدى به ، فقال تعالى :( وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (٥) ، وقال أيضاً :( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى ) (٦) ، وهذه مفردة مهمة جداً يجب الالتفات إليها جيداً .

وهناك روايات كثيرة متضافرة تؤكّد وتحث على الأخذ بسنّة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتنهى عن الإعراض عن سنّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاكتفاء بالقرآن وحده ، وكان ذلك رائجاً ومعرفاً في أقوال الصحابة وتعاملهم ، من ذلك ما ورد في صحيح البخاري عن علقمة ، عن عبد الله قال : ( لعن الله الواشمات

ـــــــــــــ

(١) الجن : ٢٣ .

(٢) الشعراء : ٢١٦ .

(٣) النساء : ٦٥ .

(٤) الأحزاب : ٣٦ .

(٥) الحشر : ٧ .

(٦) النجم : ٣ ـ ٤ .

٧٧

الموتشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن ، المغيّرات خلق الله ، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها : أم يعقوب ، فجاءت فقالت : إنّه بلغني أنّك لعنت كيت وكيت ، فقال : ومالي لا ألعن مَن لعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومَن هو في كتاب الله ، فقالت : لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول ، قال : لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه ، أما قرأت :( وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (١) ؟ قالت : بلى ، قال : فإنّه قد نهى عنه )(٢) ، وكذا وردت هذه الرواية بنصها في صحيح مسلم(٣) .

ومن الروايات التي وردت عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا المجال ، ما جاء في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه ، ومسند أحمد عن أبي عبد الله بن أبي رافع عن أبيه أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري ممّا أمرت به أو نهيت عنه فيقول : لا ندري ، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه ) (٤) ، وفي مسند أحمد بلفظ( ما أجد هذا في كتاب الله ) (٥) .

ومنها ما ورد في مسند أحمد أيضاً ، عن أبي هريرة قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لا أعرفنّ أحداً منكم أتاه عنّي حديث وهو متكئ في أريكته ،

ـــــــــــــ

(١) الحشر : ٧ .

(٢) صحيح البخاري : ج ٣ ص ٢٨٤ ح ٤٨٨٦ .

(٣) صحيح مسلم : ج ٣ ص ١٦٧٨ ح ٢١٢٥ باب تحريم فعال الواصلة والمستوصلة .

(٤) انظر : سنن أبي داود السجستاني ، باب لزوم السنّة : ج ٤ ص ٢٠٥ ح ٤٦٠٥ ؛ سنن الترمذي : ج ٤ ص ١٤٤ ح ٢٨٠١ ، كتاب العلم ؛ باب ما نهى عنه ؛ سنن ابن ماجه ، المقدّمة : ج ١ ص ٦ ـ ٧ ، باب تعظيم حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتغليظ على مَن عارضه .

(٥) مسند أحمد : ج ٦ ص ٨ .

٧٨

فيقول : أتلوا عليّ به قرآناً ) (١) ، وقال حسان بن ثابت ، كما في مقدّمة الدارمي : ( كان جبريل ينزل على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالسنّة كما ينزل عليه بالقرآن )(٢) ، إلى غير ذلك من الروايات والأقوال ، وإنّما هذه نبذة عمّا ورد في الحثّ على الأخذ بسنّة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والنهي عن مخالفته والتشديد على مَن يهمل السنّة بحجة الاكتفاء بكتاب الله .

وعلى هذا الأساس يتضح أنّ جميع أحكام الإسلام موجودة في القرآن الكريم ، إلاّ أنّه لا يمكن معرفة تفاصيلها والوقوف على حقائقها من دون الرجوع إلى سنّة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّنا في إقامة الصلاة ـ مثلاً ـ لا نعرف كيف نصلّي من دون أن نأخذ من حديث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيفيّتها وشروطها وعدد ركعاتها وسجداتها وأذكارها ومبطلاتها ، وكذلك في الحج ، حيث لا يمكن أداء مناسكه من دون الرجوع إلى سنّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستيضاح شروطه وواجباته ومواقيته وأشواط الطواف وصلاته ، وتفاصيل السعي والتقصير وسائر مناسك الحج الأخرى .

إذن لابدّ من الرجوع إلى القرآن والسنّة النبوية معاً لأخذ تعاليم الإسلام منهما ، أمّا مَن أراد الاكتفاء بالقرآن وحده دون السنّة ، فأدنى ما نقول بحقّه : إنّه جاهل بما ورد في القرآن نفسه ، الذي يدعو لإطاعة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (٣) ، وقد قال الألباني في هذا المجال : ( فحذار أيّها المسلم أن تحاول فهم القرآن مستقلاً

ـــــــــــــ

(١) مسند أحمد : ج ٢ ص ٣٦٧ ؛ سنن ابن ماجه ، المقدمة : ج ١ ص ٩ ـ ١٠ ح ٢١ ، باب تعظيم حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتغليظ على مَن عارضه .

(٢) سنن الدارمي ، المقدّمة : ج ١ ص ١٤٥ ، باب السنّة قاضية على كتاب الله .

(٣) الحشر : ٧ .

٧٩

عن السنّة ، فإنّك لن تستطيع ذلك ولو كنت في اللغة سيبويه زمانك )(١) ، فمقولة حسبنا كتاب الله مقولة مخالفة لصريح القرآن الكريم .

الجواب :

بعد تلك الإطلالة السريعة نقول لصاحب الشبهة بأنّ عدم ذكر اسم عليعليه‌السلام صريحاً في القرآن يرجع إلى الأسباب التالية :

أوّلاً : عدم ذكر الاسم لحكمة إلهيّة

إنّ عدم ذكر اسم علي في القرآن لعلّه لحكمة إلهية خفيت علينا ، إذ ما قيمة عقولنا كي تحيط بكل جوانب الحكم والمصالح الإلهية ، فكم من الأمور التي قد خفيت أو أُخفيت علينا مصالحها ، قال تعالى :( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) (٢) ، والاعتراض على حكم الله تعالى خلاف التسليم والخضوع لأمره عزّ وجلّ .

ثانياً : الرسول الأكرم نصّ على إمامة عليعليه‌السلام

إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد نصّ على إمامة علي أمير المؤمنينعليه‌السلام باسمه الصريح كما في حديث الغدير المتواتر ، وحديث الدار ، وحديث المنزلة ، وغيرها في مواطن كثيرة جداً ، فإذا ثبت هذا بشكل قاطع عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو القرآن الناطق الذي لا ينطق عن الهوى ، وقد أقام الحجّة علينا بأنّ الإمام بعده عليعليه‌السلام تثبت إمامته بلا ريب ، وإذا لم يذكر القرآن اسم عليّ

ـــــــــــــ

(١) صفة صلاة النبي ، الألباني : ص ١٧١ .

(٢) المائدة : ١٠١ .

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

ملكت عليه كل مشاعره وأحاسيسه ، إلى أن قال لها هيروديس يوما : اطلبي منّي كل ما تريدين فسأحققه لك قطعا ، فقالت هيروديا : لا أريد منك إلّا رأس يحيى! لأنّه قد شوّه سمعتي وسمعتك ، وقد أصبح كل الناس يعيروننا ، فإنّ كنت تريد أن يهدأ قلبي ويسر خاطري فيجب أن تقوم بهذا العمل!

فسلّم هيروديس ـ الذي أصبح مجنونا لا يعقل من عشق هذه المرأة ـ لما أرادت من دون أن يفكر ويتنبه إلى عاقبة هذا العمل ، ولم يمض قليل من الزمن حتى أحضر رأس يحيى عند تلك المرأة الفاجرة ، إلّا أنّ عواقب هذا العمل الشنيع قد أحاطت به ، وأخذت بأطرافه في النهاية(١) .

ونقرأ في الرّوايات أن سيد الشهداء الإمام الحسينعليه‌السلام كان يقول : «إنّ من هو ان الدنيا أن يهدى رأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل» أي إن ظروفي تشابه من هذه الناحية ظروف وأحوال يحيى ، لأنّ أحد أهداف ثورتي محاربة الأعمال المخزية لطاغوت زماني يزيد.

* * *

__________________

(١) يستفاد من بعض الأناجيل وقسم من الرّوايات أنّ هيروديس قد تزوج امرأة أخيه ، وقد كان هذا الزواج ممنوعا في قانون التوراة ، وقد لامه يحيى على هذا العمل بشدّة ، ثمّ أن تلك المرأة حملت هيروديس على قتل يحيى بإغرائه بجمال بنتها. إنجيل متى باب ١٤ ، إنجيل مرقس باب ٦ ، الفقرة ١٧ وما بعدها.

٤٢١

الآيات

( وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١) )

التّفسير

ولادة عيسىعليه‌السلام :

بعد ذكر قصّة يحيىعليه‌السلام ، حولت الآيات مجرى الحديث إلى قصّة عيسىعليه‌السلام لوجود علاقة قوية وتقارب واضح جدا بين مجريات هاتين الحادثتين.

فإنّ كانت ولادة يحيى من أب كبير طاعن في السن وأم عقيم عجيبة ، فإن ولادة عيسى من أم دون أب أعجب!

٤٢٢

وإن كان الوصول إلى مقام النّبوة وبلوغ العقل الكامل ـ في مرحلة الطفولة ـ باعثا على الحيرة ومعجزا ، فإنّ التحدث في المهد عن الكتاب والنّبوة أبعث على التعجب والحيرة ، وأكثر إعجازا.

وعلى كل حال ، فإنّ كلا الأمرين آيتان على قدرة الله الكبير المتعال ، إحداهما أكبر من الأخرى ، وقد صادف أن تكون كلا الآيتين مرتبطتان بشخصين تربطهما أواصر نسب قوية ، فكل منهما قريب للآخر من ناحية النسب ، حيث أن أم يحيى كانت أخت أم مريم ، وكانت كلاهما عقيمتين وتعيشان أمل الولد الصالح.

تقول الآية الأولى :( وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا ) فقد كانت تبحث عن مكان خال من كل نوع من التشويش والضوضاء حتى لا يشغلها شيء عن مناجاتها ويصرفها ـ ولو حينا ـ عن ذكر المحبوب ، ولذلك اختارت شرقي بيت المقدس ، ذلك المعبد الكبير ، لعله يكون مكانا أكثر هدوءا ، أو أنّه كان أنظف وأنسب من جهة أشعة الشمس ونورها.

كلمة «انتبذت» أخذت من مادة (نبذ) على قول الراغب ، وهي تعني إلقاء وإبعاد الأشياء التي لا تسترعي الانتباه ، وربّما كان هذا التعبير في الآية إشارة إلى أنّ مريم قد اعتزلت بصورة متواضعة ومجهولة وخالية من كل ما يجلب الانتباه ، واختارت ذلك المكان من بيت الله للعبادة.

في هذه الأثناء من أجل أن تكمل مريم مكان خلوتها واعتكافها من كل جهة ، فإنّها( فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً ) ولم تصرح الآية بالهدف من اتّخاذ هذا الحجاب ، فهل أنّه كان من أجل أن تناجي ربّها بحرية أكبر ، وتستطيع عند خلو هذا المكان من كل ما يشغل القلب والحواس أن تتوجه إلى العبادة والدعاء؟ أو أنّها كانت تريد اتخاذه من أجل الغسل والاغتسال؟ الآية ساكتة من هذه الجهة.

على كل حال ،( فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا ) والروح أحد

٤٢٣

الملائكة العظام حيث تجسّد لمريم على شكل انسان جميل لا عيب فيه ولا نقص.

إنّ الحالة التي اعترت مريم في تلك اللحظة واضحة جدّا ، فمريم التي عاشت دائما نقية الجيب ، وتربّت في أحضان الطاهرين ، وكان يضرب بها المثل بين الناس في العفة والتقوى كم داخلها من الرعب والاضطراب عند مشاهدة هذا المنظر ، وهو دخول رجل أجنبي جميل في محل خلوتها! ولذلك فإنّها مباشرة( قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ) وكانت هذه أوّل هزّة عمّت كل وجود مريم.

إنّ ذكر اسم الرحمان ، ووصفه برحمته العامّة من جهة ، وترغيب الرجل في التقوى والامتناع عن المعصية من جهة أخرى ، كان من أجل أن يرتدع هذا الشخص المجهول إن كانت له نيّة سيئة في ارتكاب المعصية ، والأهم من ذلك كله هو الالتجاء إلى الله ، فالله الذي يلتجئ إليه الإنسان في أحلك الظروف ، ولا تقف أية قدرة أمام قدرته ، هو الذي سيحل المعضلات.

لقد كانت مريم تنتظر رد فعل ذلك الشخص المجهول بعد أن تفوهت بهذه الكلمات انتظارا مشوبا بالاضطراب والقلق الشديد ، إلّا أنّ هذه الحالة لم تطل ، فقد كلمها ذلك الشخص ، ووضّح مهمته ورسالته العظيمة( قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ ) .

لقد كانت هذه الجملة كالماء الذي يلقى على النار ، فقد طمأنت قلب مريم الطاهر،إلّا أنّ هذا الاطمئنان لم يدم طويلا ؛ لأنّه أضاف مباشرة( لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا ) .

لقد اهتز كيان ووجود مريم لدى سماع هذا الكلام ، وغاصت مرّة أخرى في قلق شديد( قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ) .

لقد كانت تفكر في تلك الحالة في الأسباب الطبيعية فقط ، وكانت تظن أن المرأة يمكن أن يكون لها ولد عن طريقين لا ثالث لهما : إمّا الزواج أو التلوّث بالرذيلة والانحراف ، وإنّي أعرف نفسي أكثر من أي شخص آخر ، فإنّي لم أختر

٤٢٤

زوجا لحد الآن ، ولم أكن امرأة منحرفة قط ، ولم يسمع لحد الآن أنّ شخصا يولد له ولد من غير هذين الطريقين!

إلّا أنّ أمواج هذا القلق المتلاطمة هدأت بسرعة عند سماع كلام آخر من رسول الله إليها ، فقد خاطب مريم بصراحة :( قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ) فأنت الواقفة على قدرتي والعالمة بها جيدا أنت التي رأيت ثمر الجنّة في فصل لا يوجد شبيه لتلك الفاكهة في الدنيا جنب محراب عبادتك. أنت التي سمعت نداء الملائكة حين شهدت بعفتك وطهارتك أنت التي تعلمين أنّ جدك آدم قد خلق من التراب ، فلما ذا هذا التعجب من سماعك هذا الخبر؟

ثمّ أضاف :( وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا ) فنحن نريد أن نبعثه للناس رحمة من عندنا ، ونجعله معجزة ، وعلى كل حال( وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا ) . فلا مجال بعد ذلك للمناقشة.

* * *

بحثان

١ ـ ما هو المراد من روح الله؟

إنّ كل المفسّرين المعروفين تقريبا فسّروا الروح هنا بأنّه جبرئيل ملك الله العظيم ، والتعبير عنه الروح لأنّه روحاني ، ووجود مفيض للحياة ، لأنّه حامل الرسالة الإلهية إلى الأنبياء وفيها حياة جميع البشر اللائقين ، وإضافة الروح هنا إلى الله دليل على عظمة وشرف هذا الروح ، حيث أنّ من أقسام الإضافة هي (الإضافة التشريفية).

ويستفاد من هذه الآية بصورة ضمنية أنّ نزول جبرئيل لم يكن مختصا بالأنبياء ، وإن كان نزوله بالوحي والشريعة والكتب السماوية منحصرا فيه ، إلّا أنّه لا مانع من أن يواجه غير الأنبياء من أجل تبليغ رسائل وأوامر أخرى ، كرسالته المذكورة إلى مريم.

٤٢٥

٢ ـ ما هو التمثل؟

«التمثل» في الأصل من «المثول» ، أي الوقوف مقابل شخص أو شيء ، ويقولون للشيء الذي يظهر بصورة أخرى : ممثلا ، وعلى هذا فإنّ قوله :( فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا ) تعني أن ذلك الملك قد ظهر بصورة إنسان.

ولا شك أنّ هذا الكلام لا يعني أن جبرئيل قد تبدل إلى إنسان شكلا وسيرة ، لأنّ مثل هذا التحول والتبدل أمر غير ممكن ، بل المراد أنّه ظهر بصورة إنسان بالرغم من أنّ سلوكه كان نفس ذلك السلوك الملائكي ، إلّا أنّ مريم التي لم تكن تعلم بالأمر في البداية ، كانت تظن أن في مقابلها إنسانا سيرة وصورة.

وتلاحظ كثيرا في الرّوايات والتواريخ كلمة «تمثل» بمعناها الواسع ، ومن جملتها : إنّ إبليس لما اجتمع المشركون في «دار الندوة» وكانوا يخططون لقتل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ظهر بصورة شيخ كبير حصيف الرأي ، يهدف إلى الخير وشرع بإغواء رؤساء قريش.

أو أنّ الدنيا وباطنها تمثلت للإمام عليعليه‌السلام على شكل امرأة في غاية الجمال والجذابية ولم تستطع أن تنفذ إليه ، وقصتها مفصّلة معروفة.

ونقرأ أيضا في الرّوايات أنّ مال الإنسان وولده وعمله تتجسم أمامه عند الموت بصورة مختلفة وخاصّة.

أو أنّ أعمال الإنسان تتجسم في القبر ويوم القيامة ، ويظهر كل منها بشكل خاص.

إن التمثّل في جميع هذه الوارد يعني أن شيئا أو شخصا يظهر بشكل آخر من ناحية الصورة والشكل فقط ، لا أن تتبدّل ماهيته وباطنة(١) .

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ١٤ ، ص ٣٧.

٤٢٦

الآيات

( فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦) )

التّفسير

مريم في عاصفة :

وأخيرا حملت مريم ، واستقر ذلك الولد الموعود في رحمها :( فَحَمَلَتْهُ ) ولم يتحدث القرآن عن كيفية نشوء وتكوّن هذا المولود ، فهل أنّ جبرئيل قد نفخ في ثوبها ، أم في فمها؟وذلك لعدم الحاجة إلى هذا البحث ، بالرغم من أنّ كلمات المفسّرين مختلفة في هذا الشأن.

وعلى كل حال ، فإنّ هذا الأمر قد تسبب في أن تبتعد عن بيت المقدس( فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا ) .

٤٢٧

لقد كانت تعيش في حالة بين الخوف والأمل ، حالة من القلق والاضطراب المشوب بالسرور ، فهي تفكر أحيانا بأن هذا الحمل سيفشو أمره في النهاية ، فالأفضل أن أبقى بعيدة عن أولئك الذين يعرفونني عدّة أيّام أو أشهر ، وأعيش في هذا المكان بصورة مجهولة ، وماذا سيحدث في النهاية؟

فمن الذي سيقتنع بأنّ امرأة لا زوج لها تحمل دون أن تكون قد تلوثت بالرذيلة؟ فما ذا سأفعل تجاه هذا الاتهام؟ والحق أنّ من المؤلم جدّا بالنسبة لفتاة كانت لسنين طويلة نموذجا وقدوة للطهارة والعفة والتقوى والورع ، ومثالا في العبادة والعبودية لله ، وكان زهاد بني إسرائيل يفتخرون بكفالتها منذ الطفولة ، وقد تربت وترعرعت في ظل نبي كبير ، وقد شاع أمر سجاياها وقداستها في كل مكان ، أن تحس في يوم ما أن كل هذا الرصيد المعنوي مهدد بالخطر ، وستكون غرضا ومرمى لاتهام يعتبر أسوء وأقبح اتهام ، وكانت هذه هي المصيبة الثّالثة التي وقعت لها.

إلّا أنّها من جهة أخرى كانت تحس أنّ هذا المولود ، نبي الله الموعود ، تحفة سماوية نفيسة ، فإنّ الله الذي بشرني بمثل هذا الغلام ، وخلقه بهذه الصورة الإعجازية كيف سيذرني وحيدة؟ فهل من المعقول أن لا يدافع عني في مقابل مثل هذا الاتهام؟ أنا التي رأيت وجربت لطفه على الدوام ، وأحسست بيد رحمته على رأسي.

وهناك بحث بين المفسّرين في مدّة حمل مريم ، بالرغم من أنّه ذكر في القرآن بصورة مخفية ومبهمة ، فبعضهم حسبه ساعة واحدة ، وآخر تسع ساعات ، وثالث ستة أشهر ، ورابع سبعة ، وآخر ثمانية ، وآخر تسعة أشهر كسائر النساء ، إلّا أن هذا الموضوع ليس له ذلك التأثير في هدف هذه القصّة. والرّوايات الواردة في هذا المجال مختلفة أيضا.

وقد اعتقد الكثيرون أنّ المكان «القصي» هو مدينة «الناصرة» وربّما بقيت

٤٢٨

في تلك المدينة بصورة دائما وقلّما خرجت منها.

ومهما كان فقد انتهت مدّة الحمل ، وبدأت لحظات تلاطم أمواج حياة مريم ، وقد دفعها ألم الولادة الشديد الذي هاج فيها إلى ترك الأماكن المعمورة والتوجه إلى الصحاري الخالية من البشر ، والقاحلة التي لا عشب فيها ولا ماء ولا مأوى.

ومع أن النساء يلجأن عادة في مثل هذه الحالة إلى المعارف والأصدقاء ليساعدوهنّ على الولادة ، إلّا أن وضع مريم لما كان استثنائيا ، ولم تكن تريد أن يرى أحد وضع حملها مطلقا ، فإنّها اتّخذت طريق الصحراء بمجرّد أن بدأ ألم الولادة ويقول القرآن في ذلك:( فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ ) .

إنّ التعبير بجذع النخلة ، وبملاحظة أن الجذع يعني بدن الشجرة ، يوحي بأنّه لم يبق من تلك الشجرة إلّا جذعها وبدنها ، أي إنّ الشجرة كانت يابسة(١) .

في هذا الحال غمر كل وجود مريم الطاهر سيل من الغم والحزن ، وأحسست بأنّ اللحظة التي كانت تخشاها قد حانت ، اللحظة التي مهما أخفيت فإنّها ستتضح هناك ، وسيتجه نحوها سيل سهام الاتهام التي سيرشقها بها الناس.

لقد كان هذا الاضطراب والصراع صعبا جدّا ، وقد أثقل كاهلها إلى الحد الذي تكلمت فيه بلا إرادة و( قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا ) .

إنّ من البديهي أنّ الخوف من التهم في المستقبل لم يكن الشيء الوحيد الذي كان يعصر قلب مريم ويقلقها ، وإن كان هذا الموضوع يشغل فكر مريم أكثر من أية مسألة أخرى ، إلّا أنّ مشاكل ومصائب أخرى كوضع الحمل لوحدها بدون قابلة وصديق ومعين في الصحاري الخالية ، وعدم وجود مكان للاستراحة ، وعدم وجود الماء للشرب ، والطعام للأكل ، وعدم وجود وسيلة لحفظ المولود الجديد ، وغير هذه الأمور كانت تهزّها من الأعماق بشدّة.

قد يتساءل البعض باعتراض : كيف أنّ مريم المؤمنة والعارفة بالتوحيد

__________________

(١) «جذع» على وزن «ذبح» في الأصل من مادة «جذع» على وزن «منع» بمعنى القطع.

٤٢٩

حيث رأت كل ذلك اللطف والإحسان الإلهي ، أجرت مثل هذه الجملة على لسانها وقالت:( يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا ) ، إلّا أنّ هؤلاء لم يدركوا أبدا حال مريم في تلك الساعة ، ولو أنّهم أصابهم شيء قليل من هذه المشاكل فإنّهم سينسون حتى أنفسهم.

إلّا أنّ هذه الحالة لم تدم طويلا ، فقد سطعت ومضة الأمل التي كانت موجودة دائما في أعماق قلبها ، وطرق سمعها صوت( فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ) وانظري إلى الأعلى كيف أن هذا الجذع اليابس قد تحول إلى نخلة مثمرة( وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً ) بالمولود الجديد( فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ) . وهذا الصوم هو المعروف بصوم السكوت.

وخلاصة الأمر ، إنّك لا تحتاجين إلى الدفاع عن نفسك ، فإنّ الذي وهبك هذا الوليد قد تعهد بمهمّة الدفاع عنك أيضا ، وعلى هذا فليهدأ روعك من كل الجهات ، ولا تدعي للهم طريقا إلى نفسك.

إن هذه الحوادث المتلاحقة التي سطعت كالشرر المضيء الوهاج في الظلام الدامس ، قد أضاءت كل أرجاء قلبها ، وألقت عليها الهدوء والاطمئنان.

* * *

بحوث

١ ـ ازدياد قوة مريم عند تراكم المشاكل

إنّ الحوادث التي مرّت على مريم في هذه المدّة القصيرة ، والمشاهد والمواقف التي تثير الإعجاب ، والتي حدثت لها بلطف الله ، كانت تهيؤها وتعدها من أجل تربية نبي من أولي العزم ، ولتستطيع أن تؤدي وظيفة الأمومة من خلال

٤٣٠

هذا الأمر الخطير على أحسن وجه.

إنّ سير الأحداث صاحبها حتى آخر مرحلة ، بحيث لم يبق بينها وبين الموت إلّا خطوة واحدة ، لكن فجأة يرجع كل شيء إلى وضعه ، ويهّب كل شيء لمساعدتها ، وتخطو في محيط هادئ مطمئن من كل الجهات.

جملة( وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ) التي تأمر مريم بتحريك النخلة لتستفيد من ثمره ، أعطت درسا لها ولكل البشر ، بأن لا يكفوا عن الجد والسعي حتى في أشد لحظات الحياة وأصعبها.

إنّه جواب لأولئك الذين يسألون عن الحاجة بأنّ مريم التي وضعت حملها لتوها تقوم وتهزّ النخلة ، ألم يكن من الأولى أن يرسل الله ـ الذي ـ بعث عين الماء العذب قرب مريم تلك الشجرة اليابسة ـ نسمة وريحا تهزّ النخلة وتسقط الثمر قرب مريم؟ فما الذي حدث ، حيث أن مريم عند ما كانت سالمة صحيحة كانت تحضر الفاكهة جنب محرابها ، أمّا الآن وقد ابتليت بكل هذه المشاكل فإنّ عليها أن تقطف الثمر بنفسها؟

أجل ، إن هذا الأمر الإلهي لمريم يوضح أنّه لا بركة بدون حركة ، وبتعبير آخر ، فإن على كل إنسان أن يبذل قصارى جهده عند ظهور المشاكل ، وما وراء ذلك فعلى الله.

٢ ـ لماذا طلبت مريم الموت من الله؟

لا شك أن طلب الموت من الله عمل غير صحيح ، إلّا أنّه قد تقع حوادث في حياة الإنسان يصبح فيها طعم الحياة مرّا ، وخاصّة إذا رأى الإنسان أهدافه المقدسة أو شرفه وشخصيته مهددة بالخطر ، ولا يملك قدرة الدفاع عن نفسه أمامها ، وفي مثل هذه الظروف يتمنى الإنسان الموت للخلاص من العذاب الروحي.

٤٣١

لقد خطرت في ذهن مريم في اللحظات الأولى هذه الأفكار ، وتصورت بأن كل وجودها وكيانها وماء وجهها مهدد بالخطر أمام هؤلاء الناس الجهلاء نتيجة ولادة هذا المولود، وفي هذه اللحظات تمنت الموت ، وهذا بحد ذاته دليل على أنّها كانت تحب عفتها وطهارتها وتهتم بهما أكثر من روحها ، وتعتبر حفظ ماء وجهها أغلى من حياتها.

إلّا أنّ مثل هذه الأفكار ربّما لم تدم إلّا لحظات قصيرة جدّا ، ولما رأت ذينك المعجزتين الإلهيتين ـ انبعاث عين الماء ، وحمل النخلة اليابسة ـ زالت كل تلك الأفكار عن روحها ، وغمر قلبها نور الاطمئنان الهدوء.

٣ ـ سؤال وجواب

يسأل البعض : إنّ المعجزة إذا كانت مختصة بالأنبياء والأئمّةعليهم‌السلام ، فكيف ظهرت مثل هذه المعجزات لمريم؟

وقد اعتبر بعض المفسّرين ـ حلا لهذا الإشكال ـ هذه المعاجز جزءا من معاجز عيسى تحققت كمقدمة ، ويعبرون عن ذلك بالإرهاص.

إلّا أنّه لا حاجة لجواب كهذا أبدا ، لأنّه لا مانع مطلقا من ظهور الأمور الخارقة للعادة لغير الأنبياء والأئمّة ، وهذا هو الذي نسميه بالكرامة.

إنّ المعجزة هي عمل يقترن بالتحدي ، وتكون مقترنة بادعاء النّبوة والإمامة.

٤ ـ صوم الصمت

يدل ظاهر الآيات أعلاه على أنّ مريم كانت مأمورة بالسكوت لمصلحة ، وأن تمتنع عن الكلام بأمر الله في هذه المدّة المعينة ، حيت تتحرك شفتا وليدها عيسى بالكلام ويدافع عن عفتها ، وهذا أكثر تأثيرا من كل الجهات.

ويظهر من تعبير الآية أن نذر السكوت كان أمرا معروفا في ذلك المجتمع ،

٤٣٢

ولهذا لم يعترضوا عليها على هذا العمل. غير أنّ هذا النوع من الصوم غير جائز في شريعتنا.

ورد عن علي بن الحسينعليه‌السلام في حديث : «صوم السكوت حرام»(١) ، وذلك لاختلاف الظروف في ذلك الزمان عن ظروف زمن ظهور الإسلام.

إلّا أن أحد آداب الصوم الكامل في الإسلام أن يحفظ الإنسان لسانه من التلوّث بالمعاصي والمكروهات خلال صيامه ، وكذلك يصون عينه من الزلل والذنب ، كما نقرأ ذلك

في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام : إنّ الصوم ليس من الطعام والشراب وحده ، إن مريم قالت : إنّي نذرت للرحمن صوما ، أي صمتا ، فاحفظوا ألسنتكم ، وغضوا أبصاركم، ولا تحاسدوا ولا تنازعوا»(٢) .

٥ ـ غذاء مولد للطاقة

استفاد المفسّرون ممّا جاء صريحا في هذه الآيات ، أنّ الله سبحانه قد جعل غذاء مريم حين ولادة مولودها الرطب ، فهو من أفضل الأغذية للنساء بعد وضع الحمل ، وفي الأحاديث الإسلامية إشارة صريحة إلى ذلك أيضا : فيروي أمير المؤمنين عليعليه‌السلام عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ليكن أول ما تأكل النفساء الرطب ، فإن اللهعزوجل قال لمريمعليها‌السلام :( وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا ) (٣) .

ويستفاد من آخر الحديث أن تناول هذا الغذاء لا يؤثر ويفيد الأم فقط ، بل إنّه سيؤثر حتى في لبنها ، وحتى أن بعض الرّوايات تؤكّد على أن أفضل غذاء ودواء للحامل هو الرطب : «ما تأكل الحامل من شيء ولا تتداوى به أفضل من

__________________

(١) وسائل الشيعة ، الجزء ٧ ، ص ٣٩٠.

(٢) من لا يحضره الفقيه ، حسب نقل تفسير نور الثقلين ، الجزء ٣ ، ص ٣٣٢.

(٣) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٣٣٠.

٤٣٣

الرطب».(١)

إلّا أن من المسلّم أن الاعتدال والتوسط في كل شيء يجب أن يراعى حتى في هذه المسألة ، كما يستفاد ذلك من بعض الرّوايات الواردة في هذا المجال. ويستفاد أيضا أنّ الرطب إن لم يكن موجودا ، فلا بأس بأكل التمر المتعارف.

يقول علماء التغذية : إنّ السكر الكثير الموجود في التمر من أصح السكريات وأسلمها ، وحتى المبتلين بمرض السكر فإنّهم يستطيعون تناول التمر.

ويقول هؤلاء العلماء : إنّ في التمر (١٣) مادة حيوية ، واكتشفوا خمسة أنواع من الفيتامينات ، جمعها التمر وأظهرها على هيئة مصدر غذائي غني(٢) ، ونحن نعلم أن النساء في مثل هذه الأوضاع بحاجة شديدة إلى غذاء يولد الطاقة ومليء بالفيتامينات.

لقد ثبتت أهمية التمر بتقدم علم الطب ، ففي التمر يوجد «الكالسيوم» ، وهو عامل مهم في تقوية العظام ، وكذلك يوجد «الفسفور» وهو من العناصر الأساسية في تكوين المخ ، ويمنع من ضعف الأعصاب والتعب ، وكذلك يوجد «البوتاسيوم» الذي يسبب فقدانه في قرحة المعدة(٣) .

__________________

(١) المصدر السّابق.

(٢) من كتاب أول جامعة وآخر نبي ، الجزء ٧ ، ص ٦٥.

(٣) المصدر السابق.

٤٣٤

الآيات

( فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣) )

التّفسير

المسيح يتكلم في المهد :

وأخيرا رجعت مريمعليها‌السلام من الصحراء إلى المدينة وقد احتضنت طفلها( فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ ) فلمّا رأوا طفلا حديث الولادة بين يديها فغروا أفواههم تعجبا ، فقد كانوا يعرفون ماضي مريم الطاهر ، وكانوا قد سمعوا بتقواها وكرامتها ، فقلقوا لذلك بشدّة ، حيث وقع شك بعضهم وتعجّل آخرون في القضاء والحكم

٤٣٥

وأطلق العنان للسانه في توبيخها وملامتها ، وقالوا : إن من المؤسف هذا الانحدار مع ذلك الماضي المضيء ، ومع الأسف على تلوّث سمعه تلك الأسرة الطاهرة( قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا ) (١) .

والبعض الآخر واجهها ، بالقول :( يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ) فمع وجود مثل هذا الأب والأم الطاهرين ، ما هذا الوضع الذي نراك عليه؟ فأي سوء رأيت في سلوك الأب وخلق الأم حتى تحيدي عن هذا الطريق؟

قولهم لمريم :( يا أُخْتَ هارُونَ ) وقع مثار الاختلاف بين المفسّرين ، لكن يبدو أنّ الأصح هو أنّ هارون رجل طاهر صالح إلى الدرجة التي يضرب به المثل بين بني إسرائيل ، فإذا أرادوا أن يصفوا شخصا بالطهارة والنزاهة ، كانوا يقولون : إنّه أخو أو أخت هارون ، وقد نقل العلّامة الطبرسي في مجمع البيان هذا المعنى في حديث قصير عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) .

وفي حديث آخر ورد كتاب سعد السعود ، عن المغيرة ، أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعثه إلى نجران لدعوتهم الى الإسلام فقالوا (معترضين على القرآن) : ألستم تقرؤون( يا أُخْتَ هارُونَ ) وبينهما كذا وكذا» (حيث تصوروا أنّ المراد هو هارون أخو موسى) فلمّا لم يستطع المغيرة جوابهم ذكر ذلك للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «ألا قلت لهم : إنّهم كانوا يسمّون بأنبيائهم والصالحين منهم»(٣) أي ينسبون الأشخاص الصالحين منهم الى الأنبياء.

في هذه الساعة ، سكتت مريم بأمر الله ، والعمل الوحيد الذي قامت به ، هو أنّها أشارت إلى وليدها( فَأَشارَتْ إِلَيْهِ ) . إلّا أنّ هذا العمل جعل هؤلاء يتعجبون

__________________

(١) «فريا» بناء على قول الراغب في المفردات ـ جاءت بمعنى العظيم أو العجيب ، وفي الأصل من مادة فري، أي قص وقطع الجلد إمّا لإصلاحه أو إفساده.

(٢) نور الثقلين ، الجزء ٣ ، ص ٣٣٣.

(٣) المصدر السّابق.

٤٣٦

أكثر ، وربما حمل بعضها على السخرية ، ثمّ غضبوا فقالوا : مع قيامك بهذا العمل تسخرين من قومك أيضا؟( قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ) .

لقد بحث المفسّرون هنا وتناقشوا كثيرا في شأن كلمة «كان» الدالة على الماضي ، إلّا أنّ الظاهر هو أن هذه الكلمة تشير هنا إلى ثبوت ولزوم وصف موجود ، وبتعبير أوضح:إنّ هؤلاء قالوا لمريم : كيف نكلم طفلا كان ولا يزال في المهد؟

والشاهد على هذا المعنى آيات أخرى من القرآن ، مثل( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) سورة آل عمران ، فمن المسلم أن «كنتم» لا تعني الماضي هنا ، بل هي بيان لثبوت واستمرار هذه الصفات للمجتمع الإسلامي.

وكذلك بحثوا حول «المهد» ، فإنّ عيسى لم يكن قد وضع في المهد ، بل إنّ ظاهر الآيات هو أن مريم بمجرّد أن حضرت بين الناس ، وفي الوقت الذي كان عيسى على يديها، جرى هذا الحوار بينها وبينهم.

إلّا أنّ الالتفات إلى معنى كلمة «المهد» في لغة العرب سيوضح جواب هذا السؤال، فإنّ كلمة المهد تعني ـ كما يقول الراغب في مفرداته ـ المكان الذي يهيئونه للطفل ، سواء كان المهد ، أو حجر الأم ، أو الفراش ، والمهد والمهاد ورد كلاهما في اللغة بمعنى:المكان الممهد الموطأ ، أي : للاستراحة والنوم.

على كل حال ، فإنّ الناس قلقوا واضطربوا من سماع كلام مريم هذا ، بل وربما غضبوا وقالوا لبعضهم البعض ـ حسب بعض الرّوايات ـ : إنّ استهزاءها وسخريتها أشدّ علينا من انحرافها عن جادة العفة!

إلّا أنّ هذه الحالة لم تدم طويلا ، لأن ذلك الطفل الذي ولد حديثا قد فتح فاه وتكلم :( قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ ) ، ومفيدا من كل الجهات للعباد( وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا ) .

٤٣٧

وكذلك جعلني مطيعا ووفيا لأمي( وَبَرًّا بِوالِدَتِي ) (١) ( وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا ) .

كلمة «جبار» تطلق على الشخص الذي يعتقد بأنّ له كل الحق على الناس ولا يعتقد بأنّ لأحد عليه حقا.

وكذلك يطلقونها على الذي يضرب الناس ويقتلهم إذا غضب ، ولا يتبع ما يأمر به العقل ، أو أنّه يريد أن يسد نقصه ويغطيه بادعاء العظمة والتكبر ، وهذه كلها صفات بارزة للطواغيت المستكبرين في كل زمان(٢) .

و «الشقي» تقال للشخص الذي يهيء أسباب البلاء والعقاب لنفسه ، وبعضهم فسر ذلك بالذي لا يقبل النصيحة ، ومن المعلوم أن هذين المعنيين لا ينفصلان عن بضعهما.

ونقرأ في رواية ، أن عيسىعليه‌السلام يقول «قلبي رقيق وأنا صغير في نفسي»(٣) وهو إشارة إلى أن هذين الوصفين يقعان في مقابل الجبار والشقي.

وفي النهاية يقول هذا المولود ـ أي المسيح ـ( وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ) وكما قلنا في شرح الآيات المتعلقة بيحيىعليه‌السلام ، فإنّ هذه الأيّام الثلاثة في حياة الإنسان أيّام مصيرية خطرة ، لا تتيسر السلامة فيها إلّا بلطف الله ، ولذلك جاءت هذه الآية في حق يحيىعليه‌السلام كما وردت في شأن المسيحعليه‌السلام ، مع الاختلاف بأنّ الله هو الذي قالها في المورد الأوّل ، أمّا في المورد الثّاني فإنّ المسيح قد طلب ذلك.

* * *

__________________

(١) البر ـ بالفتح ـ بمعنى الشخص المحسن ، في حين أن البر ـ بالكسر ـ بمعنى صفة الإنسان ، وينبغي الالتفات إلى أن هذه الكلمة في الآية عطف على (مباركا) لا على الصلاة والزكاة ، والمعنى في الواقع : جعلني برا بوالدتي.

(٢) لزيادة التوضيح حول (جبار) ، وجواب هذا السؤال ، وهو أنّه كيف تكون إحدى صفات الله سبحانه أنّه جبار؟يراجع ذيل الآية (٥٩) من سورة هود من هذا التّفسير.

(٣) تفسير الفخر الرازي ، آخر الآية.

٤٣٨

بحوث

١ ـ أوضح تصوير عن ولادة عيسىعليه‌السلام

يمكن إدراك فصاحة وبلاغة القرآن الكريم ، وخاصّة في مثل هذه الموارد ، وذلك عند ملاحظة طريقة طرحه لمسألة مهمّة اختلطت بكل تلك الخرافات ، في عبارات قصيرة وعميقة، وحية ، وغنية المحتوى ، وناطقة تماما ، بحيث تطرح جانبا كل أنواع الخرافات.

الملفت للنظر أنّ الآيات المذكورة ذكرت «سبع صفات» ممتازة و «برنامجان» و «دعاء واحد».

فالصفات السبعة عبارة عن كونه «عبدا لله» وذكرها في بداية كل الصفات إشارة إلى أن أعلى وأكبر مقام يصله الإنسان هو مقام العبودية.

وبعد ذلك ، كونه «صاحب كتاب سماوي» ثمّ «مقام النبوة» (مع العلم أن مقام النبوة لا يقترن دائما بالمجيء بكتاب سماوي).

وبعد مقام العبودية والإرشاد ، ذكر كونه «مباركا» أي مفيدا لوضع المجتمع ، وفي حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام نقرأ أن معنى المبارك : «النفّاع» ، أي كثير المنفعة.

ثمّ ذكرت الآيات كونه «بارا بأمه» وفي النهاية أنّه «لم يكن جبارا شقيا» بل كان متواضعا ، عارفا بالحق ، وسعيدا.

ومن بين جميع البرنامج الالهي للإنسان تؤكّد الآية على وصية الله سبحانه بالصلاة والزكاة ، وذلك للأهمية الفائقة لهذين الأمرين ، لأنّهما رمز الارتباط بالخالق والخلق ، ويمكن تلخيص كل البرامج والأهداف الدينية والمذهبية فيهما ، لأن أحدهما يشخصّ ارتباط الإنسان بالخلق ، والآخر يشخصّ ارتباطه بالخالق.

وأمّا الدعاء الذي دعاه لنفسه ، ويرجوه فيه من ربّه في بداية عمره ، فهو أن يجعل هذه الأيّام الثلاثة سلاما عليه : يوم الولادة ، ويوم الموت ، واليوم الذي

٤٣٩

يبعث فيه ، وأن يمن عليه في هذه المراحل الثلاثة بالشعور بالأمن والطمأنينة!

٢ ـ منزلة الأم

بالرغم من أنّ المسيحعليه‌السلام قد ولد بأمر الله النافذ من امرأة بدون زوج ، إلّا أنّ ما نقرأه في الآيات ـ محل البحث ـ عن لسانه ، والذي يعدّ فيه «ضمن تعداده لميزاته وأوسمته» برّه بأمه ، دليل واضح على أهمية مقام الأم ، وهي توضح بصورة ضمنية أنّ هذا الطفل الصغير ـ الذي نطق بالإعجاز ـ كان عالما ومطلعا على أنّه ولد نموذجي بين البشر، وأنّه ولد من أمه فقط دون أن يكون للأب دخل في تكونه وولادته.

وعلى كل حال ، فبالرغم من أنّ ثقافة العصر الحاضر فيها الكثير من الحديث عن مقام ومكانة الأم ، حتى أنّه خصص يوما وسمي ب (يوم الأم) ، إلّا أن التطور الآلي ـ وللأسف الشديد ـ يقطع بسرعة علاقة الآباء والأمهات بالأولاد بحيث يلاحظ ضعف الروابط العاطفية بين هؤلاء في السنين المتقدمة من أعمارهم.

ولدينا في الإسلام روايات تثير العجب والحيرة في هذا الباب ، توصي المسلمين بالأم وتشيد بمكانتها الفائقة الأهمية ، وتأمرهم أن يسعوا عمليا ـ وليس في الكلام وحسب ـ في برّ الوالدين ، فنطالع في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «إن رجلا أتى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : يا رسول الله ، من أبرّ؟ قال : أمك ، قال : ثمّ من؟ قال : أمك ، قال : ثمّ من؟قال : أمك ، قال : ثمّ من؟ قال : أباك»(١) !

وفي حديث آخر : أن رجلا أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للجهاد ـ حيث لم يكن الجهاد واجبا عينيا ـ فقال : «ألك والدة»؟ قال : نعم ، قال : «فألزمها فإنّ الجنّة تحت قدمها»(٢) .

__________________

(١) وسائل الشيعة ، الجزء ١٥ ، ص ٢٠٧.

(٢) جامع السعادات ، ج ٢ ، ص ٢٦١.

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576