الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 576

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 576 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 264389 / تحميل: 11788
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

ان علق الامر بزوال علة النهى... إلى غير ذلك (والتحقيق) أنه لا مجال للتشبث بموارد الاستعمال فانه قل مورد منها يكون خاليا عن قرينة على الوجوب أو الاباحة أو التبعية، ومع فرض التجريد عنها لم يظهر بعد كون عقيب الحظر موجبا لظهورها في غير ما تكون ظاهرة فيه غاية الامر يكون موجبا لاجمالها غير ظاهرة في واحد منها الا بقرينة أخرى كما أشرنا (المبحث الثامن) الحق أن صيغة الامر مطلقا لا دلالة لها على المرة ولا التكرار، فان المنصرف عنها ليس الا طلب إيجاد الطبيعة المأمور بها فلا دلالة لها على أحدهما لا بهيئتها ولا بمادتها، والاكتفاء بالمرة فانما هو

______________________________

(قوله: إن علق النهي بزوال) كما في قوله تعالى: فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين، وقوله تعالى: فإذا تطهرن فأتوهن، وقوله تعالى: وإذا حللتم فاصطادوا (قوله: لا مجال للتشبث) اشارة إلى إبطال استدلال بعضهم على مدعاه ببعض موارد الاستعمال كالايات المتقدمة (وحاصله) أن الكلام في المقام في أن وقوع الامر عقيب الحظر هل هو من القرائن العامة التي لا يجوز العدول عن مقتضاها إلا بدليل الموجبة لظهور الصيغة في الاباحة مطلقا أو الوجوب أو رجوع الحكم السابق على النهي أو غير ذلك ؟ والاستعمال لا يدل على شئ من ذلك لامكان استناد الظهور فيه إلى قرينة خاصة غير الوقوع عقيب الحظر فلا يصح الاستناد إليه في اثبات الدعوى (قوله: ومع فرض) يعني لو فرض التجريد عن القرائن الخاصة لم يظهر أن الوقوع عقيب الحظر من القرائن الموجبة لظهور الصيغة في غير الوجوب الذي تكون ظاهرة فيه لولا الوقوع عقيب الحظر (قوله: لاجمالها) وعليه فلا تحمل على الوجوب بناء على وضعها له الا بناء على كون حجية أصالة عدم القرينة من باب التعبد لا من باب حجية الظهور

المرة والتكرار

(قوله: مطلقا) يعنى حيث لا يقيد بمرة أو تكرار (قوله: على المرة والتكرار) سيأتي منه شرحهما (قوله: لا بهيئتها ولا بمادتها) إذ

١٨١

لحصول الامتثال بها في الامر بالطبيعة كما لا يخفى (ثم) لا يذهب عليك أن الاتفاق على أن المصدر المجرد عن اللام والتنوين لا يدل الا على الماهية - على ما حكاه السكاكي - لا يوجب كون النزاع ههنا في الهيئة - كما في الفصول - فانه غفلة وذهول عن أن كون المصدر كذلك لا يوجب الاتفاق على أن مادة الصيغة لا تدل إلا على الماهية، ضرورة أن المصدر ليس مادة لسائر المشتقات بل هو صيغة مثلها

______________________________

الهيئة موضوعة وضع الحروف للنسبة الخاصة والمادة موضوعة لصرف الماهية لا بشرط، وكل من المرة والتكرار خارج عن مدلولهما (قوله: لحصول الامتثال) إذ الامتثال يحصل بوجود المأمور به فإذا كان المأمور به صرف الطبيعة وكان يتحقق بالمرة كانت امتثالا للامر، ومنه يظهر بطلان استدلال القائل بالمرة بصدق الامتثال بها (قوله: لا يذهب عليك) قال في الفصول: الحق أن هيئة الامر لا دلالة لها على مرة ولا على تكرار... إلى أن قال: وانما حررنا النزاع في الهيئة لنص جماعة عليه، ولان الاكثر حرروا النزاع في الصيغة وهي ظاهرة بل صريحة فيها، ولانه لا كلام في أن المادة وهي المصدر المجرد عن اللام والتنوين لا تدل الا على الماهية من حيث هي على ما حكى السكاكي وفاقهم عليه... الخ فأشكل عليه المصنف (ره) بان الاتفاق على عدم دلالة المصدر المجرد الا على الماهية لا يدل على كون النزاع في المقام في الهيئة لا في المادة إذ المصدر ليس مادة للمشتقات التي منها صيغة الامر بل هو مشتق مثلها، والمادة هي الامر المشترك بينه وبينها حسبما حققه (أقول): ما في الفصول يرجع إلى أمرين أحدهما أن المصدر مادة للمشتقات وثانيهما ان الاتفاق على عدم دلالته على المرة والتكرار يقتضي الاتفاق على عدم دلالة مادة (افعل) عليه ويكون النزاع في مدلول الهيئة أما الاول فيمكن أن يكون جاريا على المشهور، وأما الثاني فلا غبار عليه لان المصدر إذا لم يدل على المرة والتكرار دل ذلك عدم دلالة مادته عليهما فيصح الاستدلال به على عدم دلالة مادة (افعل) عليهما فيلزم الاتفاق على الاول الاتفاق على الاخير (قوله: غفلة وذهول) قد عرفت أنه في محله (قوله: ضرورة أن)

١٨٢

كيف وقد عرفت في باب المشتق مباينة المصدر وسائر المشتقات بحسب المعنى ؟ فكيف بمعناه يكون مادة لها ؟ فعليه يمكن دعوى اعتبار المرة أو التكرار في مادتها كما لا يخفى (إن قلت): فما معنى ما اشتهر من كون المصدر أصلا في الكلام (قلت): - مع أنه محل الخلاف - معناه أن الذى وضع اولا بالوضع الشخصي ثم بملاحظته وضع نوعيا أو شخصيا ساير الصيغ التى تناسبه مما جمعه معه مادة لفظ متصورة في كل منها ومنه بصورة ومعنى كذلك، هو المصدر أو الفعل فافهم (ثم) المراد بالمرة والتكرار هل هو الدفعة والدفعات أو الفرد والافراد ؟ والتحقيق أن يقعا بكلا المعنيين محل النزاع

______________________________

هذا لا يثبت الاشكال على الفصول إلا من جهة ظهور كلامه في كون المصدر مادة للمشتقات، وقد عرفت إمكان حمله على الاصطلاح المشهوري (قوله: فعليه يمكن) قد عرفت أنه لا يمكن (قوله: مع أنه محل) هذا لا دخل له في دفع السؤال إذ قول الكوفيين: ان الفعل هو الاصل في الاشتقاق أءكد في توجه الاشكال فتأمل (قوله: معناه أن) إذا كان هذا معنى كلامهم فليكن هو معنى كلام الفصول (قوله: جمعه معه) الضمير الاول راجع إلى (ما) التي هي عبارة عن سائر الصيغ والثاني راجع إلى (الذي) ويمكن العكس (قوله: ومعنى) معطوف على قوله: لفظ، يعني ومادة معنى متصورة في كل منها ومنه (قوله: هو المصدر) خبر أن (قوله: أو الفعل فافهم) لعله اشارة إلى وجوب حمل كلامهم على ما ذكر بقرينة دعوى الكوفيين ان الفعل هو الاصل إذ لا يراد منه أن الفعل مادة للمشتقات بالمعنى الحقيقي " ثم " ان الموجود في بعض النسخ الضرب على لفظة: وهو أولى (قوله: الدفعة والدفعات) الفرق بين الدفعة والفرد أن الدفعة تصدق على الافراد المتعددة الموجودة في وقت واحد ولا يصدق عليها أنها فرد واحد، وأن الفرد الموجود تدريجا مثل الكلام الممتد المتصل فرد واحد وليس دفعة فبينهما عموم من وجه كما بين الافراد والدفعات ايضا (قوله: والتحقيق أن يقعا) الذي استظهره في الفصول أن النزاع

١٨٣

وان كان لفظهما ظاهرا في المعنى الاول (وتوهم) أنه لو أريد بالمرة الفرد لكان الانسب بل اللازم أن يجعل هذا المبحث تتمة للمبحث الآتي من أن الامر هل يتعلق بالطبيعة أو بالفرد ؟ فيقال عند ذلك: وعلى تقدير تعلقه بالفرد هل يقتضي التعلق بالفرد الواحد أو المتعدد أو لا يقتضي شيئا منهما ؟ ولم يحتج إلى إفراد كل منهما بالبحث - كما فعلوه - وأما لو أريد بها الدفعة فلا علقة بين المسألتين كما لا يخفى (فاسد) لعدم العلقة بينهما لو أريد بها الفرد أيضا فان الطلب - على القول بالطبيعة - إنما يتعلق بها باعتبار وجودها في الخارج ضرورة أن الطبيعة من حيث هي

______________________________

*

فيهما بالمعنى الاول، ونسب إلى القوانين كونه فيهما بالمعنى الثاني، والظاهر ان مراد المصنف (ره) امكان كون النزاع فيهما بالمعنيين لا تحقق النزاع فيهما بهما معا إذ ليس له وجه ظاهر (قوله: وان كان لفظهما) هذا من القرائن التي اعتمد عليها في الفصول لاثبات ما استظهره (قوله: وتوهم انه لو أريد) هذا التوهم للفصول والباعث له عليه ظهور لفظ الفرد المذكور في المسألتين بمعنى واحد وهو ما يقابل الطبيعة (قوله: فاسد لعدم العلقة) حاصله أن المراد بالفرد هنا غير المراد به في تلك المسألة إذ المراد به في تلك المسألة ما يتقوم بالخصوصية المميزة له عن بقية الافراد والمراد به هنا الوجود الواحد للمأمور به فان كان المأمور به هو الطبيعة يقع النزاع في أن صيغة الامر تدل على وجوب وجود واحد للطبيعة أو وجود متعدد لها أو مطلق وجودها فيتأتى النزاع على القول بتعلق الامر بالطبيعة بعين ما يتأتى به على القول بتعلقه بالفرد، والقرينة على إرادة هذا المعنى من الفرد جعله في قبال الدفعة (قوله: باعتبار وجودها) هذا ذكره المصنف (رحمه الله) تمهيدا لتأتي النزاع على القولين لا ردا على الفصول إذ لم يتوهم خلافه في الفصول كما يشهد به دعواه تأتي النزاع على القولين بناء على كون المراد الدفعة إذ لا يخفى أن القائل بالطبيعة لو كان مراده الطبيعة من حيث هي لا معنى لتأتى النزاع في المقام بكل معنى (قوله: ضرورة ان الطبيعة من) قد يقال: الماهية

١٨٤

ليست الا هي لا مطلوبة ولا غير مطلوبة، وبهذا الاعتبار كانت مرددة بين المرة والتكرار بكلا المعنيين فيصح النزاع في دلالة الصيغة على المرة والتكرار بالمعنيين وعدمها، أما بالمعنى الاول فواضح، وأما بالمعنى الثاني فلوضوح أن المراد من الفرد أو الافراد وجود واحد أو وجودات، وإنما عبر بالفرد لان وجود الطبيعة في الخارج هو الفرد غاية الامر خصوصيته وتشخصه - على القول بتعلق الامر بالطبايع - يلازم المطلوب وخارج عنه بخلاف القول بتعلقه بالافراد فانه مما يقومه (تنبيه) لا إشكال - بناء على القول بالمرة - في الامتثال وأنه لا مجال للاتيان بالمأمور به ثانيا على أن يكون أيضا به الامتثال فانه من الامتثال بعد الامتثال (وأما) على المختار من دلالته على طلب الطبيعة من دون دلالة على المرة ولا على التكرار فلا يخلو الحال إما أن لا يكون هناك إطلاق الصيغة في مقام البيان بل في مقام الاهمال أو الاجمال

______________________________

من حيث هي ليست الا هي، ويراد منه معنى أن كل ما هو خارج عنها فليس هو هي لا عينها ولا جزؤها، وبهذا المعنى يقال: الماهية من حيث هي لا موجودة ولا معدومة ولا واحد ولا كثير ولا غيرها، وقد يقال ذلك بمعنى أن الخارج عنها ليس عارضا لها بما هي هي بل بشرط الوجود، ويختص النفي بعوارض الوجود كالكتابة والحركة وبهذا المعنى يقال: الماهية من حيث هي لا كاتبة ولا متحركة ولا لا كاتبة ولا لا متحركة، فان الكتابة لما كانت في الرتبة اللاحقة للوجود كان نقيضها هو العدم في الرتبة اللاحقة له أيضا لوحدة رتبة النقيضين فجاز ارتفاع النقيضين في غير تلك الرتبة وحيث أن الطلب ليس من عوارض الماهية من حيث هي بل بشرط الوجود صح أن يقال: الماهية من حيث هي لا مطلوبة ولا لا مطلوبة فتأمل (قوله: وبهذا الاعتبار) أي اعتبار الوجود (قوله: في الامتثال) يعني يتحقق بالمرة (قوله: من الامتثال بعد الامتثال) يعني وهو ممتنع لان الامتثال فعل المأمور به وبالامتثال الاول يسقط الامر فلا يكون فعله ثانيا امتثالا وسيجئ له

١٨٥

فالمرجع هو الاصل، وإما أن يكون اطلاقها في ذاك المقام فلا اشكال في الاكتفاء بالمرة في الامتثال، وإنما الاشكال في جواز ان لا يقتصر عليها فان لازم اطلاق الطبيعة المأمور بها هو الاتيان بها مرة أو مرارا لا لزوم الاقتصار على المرة كما لا يخفى (والتحقيق) أن قضية الاطلاق انما هو جواز الاتيان بها مرة في ضمن فرد أو افراد فيكون ايجادها في ضمنها نحوا من الامتثال كايجادها في ضمن الواحد لا جواز الاتيان بها مرة ومرات فانه مع الاتيان بها مرة لا محالة يحصل الامتثال ويسقط به الامر فيما إذا كان امتثال الامر علة تامة لحصول الغرض الاقصى بحيث يحصل بمجرده فلا يبقى معه مجال لاتيانه ثانيا بداعي امتثال آخر أو بداعي أن يكون الاتيانان امتثالا واحدا لما عرفت من حصول الموافقة باتيانها وسقوط الغرض معها وسقوط الامر بسقوطه فلا يبقى مجال لامتثاله أصلا، وأما إذا لم يكن الامتثال علة تامة لحصول الغرض

______________________________

تتمة (قوله: فالمرجع هو الاصل) يعني الاصل العملي فلو تردد الامر بين الطبيعة والتكرار فالاصل البراءة عن وجوب الزائد على المرة مع تعدد الوجود أما مع اتصاله - بناء على تحقق التكرار به - فاستصحاب الوجوب هو المرجع، ولو تردد بين الطبيعة والمرة فلا أثر للشك، ولو تردد بين المرة والتكرار والطبيعة فالحكم كما لو تردد بين الطبيعة والتكرار، وكذا لو تردد بين المرة والتكرار، وربما يختلف الاصل باختلاف تفسير المرة من حيث كونها لا بشرط أو بشرط لا فلاحظ (قوله: في ذاك المقام) أي في مقام البيان (قوله: في الاكتفاء بالمرة) لصدق الطبيعة على المرة (قوله: في جواز ان لا يقتصر) يعني في جواز الاتيان ثانيا بقصد امتثال الامر لا مجرد الاتيان ثانيا بلا قصد الامر فانه لا ريب في جوازه (قوله: أو مرارا) فيجوز الاتيان ثانيا وثالثا بقصد الامتثال (قوله: فرد أو أفراد) يعني افرادا دفعية (قوله: فانه مع الاتيان بها) هذا تعليل لعدم كون مقتضى الاطلاق جواز الاتيان زائدا على المرة، ومرجعه إلى ابداء المانع العقلي عن ثبوت

١٨٦

كما إذا أمر بالماء ليشرب أو يتوضأ فأتى به ولم يشرب أو لم يتوضأ فعلا فلا يبعد صحة تبديل الامتثال باتيان فرد آخر أحسن منه بل مطلقا كما كان له ذلك قبله على ما يأتي بيانه في الاجزاء (المبحث التاسع) الحق انه لا دلالة للصيغة

______________________________

اطلاق المذكور لان الوجود الاول إذا كان علة تامة لسقوط الغرض كان علة تامة لسقوط الامر ايضا فيمتنع كون الوجود اللاحق موضوعا للامر كي يجوز الاتيان به بقصد امتثال الامر، وإذا امتنع كون الاتيان الثاني موضوعا للامر امتنع ان يكون اطلاق الصيغة شاملا للمرة والمرات " أقول ": يمكن منع الاطلاق المذكور مع قطع النظر عن المانع العقلي وذلك لان اطلاق المادة يقتضي أن يكون المراد بها صرف الوجود الصادق على القليل والكثير وهو لا ينطبق على الوجود اللاحق فانه وجود بعد وجود لا صرف الوجود الذي هو بمعنى خرق العدم فتأمل، وأما المانع الذي ذكره فهو يتوقف على امتناع التخيير بين الاقل والاكثر بكل وجه، وسيأتي الكلام فيه (قوله: كما إذا امر بالماء ليشرب) الغرض من الامر باحضار الماء: تارة يكون مجرد تمكن الآمر من شربه ولا ريب في حصوله بمجرد احضاره، واخرى يكون هو الشرب الفعلي فيشكل الامتثال ثانيا من جهة امتناع بقاء الامر مع حصول موضوعه الذي هو صرف الاحضار، فلا بد اما من الالتزام بأن موضوع الامر ليس مطلق الاحضار بل الاحضار المترتب عليه الشرب، والباعث على هذا الالتزام لزوم المساواة عقلا بين الغرض وموضوع الامر سعة وضيقا لامتناع التفكيك بينهما، وعليه فلا يتعين الاحضار الحاصل لان يكون مأمورا به الا بعد ترتب الغرض عليه، ولازمه ان المكلف في مقام الامتثال انما يأتي بالاحضار الاول رجاء كونه مأمورا به لا بقصد ذلك، وحينئذ فللمكلف الاتيان ثانيا وثالثا بهذا القصد بعينه ولا يكون فرق بين الوجود الاول وبقية الوجودات اللاحقة في كيفية الامتثال لكن لازم ذلك القول بالمقدمة الموصلة، واما من الالتزام بأن الغرض كما يبعث إلى الامر اولا بالاحضار يبعث ثانيا إلى صرف الاحضار المنطبق على بقاء الفرد الاول واحضار فرد آخر إذ لا يتعين للدخل في

١٨٧

لا على الفور ولا على التراخي (نعم) قضية إطلاقها جواز التراخي والدليل عليه تبادر طلب ايجاد الطبيعة منها بلا دلالة على تقيدها باحدهما فلا بد في التقييد من دلالة أخرى كما ادعي دلالة غير واحد من الآيات على الفورية، وفيه منع الضرورة أن سياق آية: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) وكذا آية: (واستبقوا الخيرات) انما هو البعث نحو المسارعة إلى المغفرة والاستباق إلى الخير من دون استتباع تركهما للغضب والشر ضرورة أن تركهما لو كان مستتبعا للغضب والشر كان البعث بالتحذير عنهما أنسب كما لا يخفى " فافهم " مع لزوم كثرة تخصيصه في المستحبات وكثير من الواجبات بل أكثرها فلا بد من حمل الصيغة فيهما على خصوص الندب أو مطلق الطلب ولا يبعد دعوى استقلال العقل بحسن المسارعة والاستباق وكان ما ورد من الآيات والروايات في مقام البعث نحوه ارشادا إلى ذلك كالآيات والروايات الواردة في البعث على اصل الاطاعة فيكون الامر فيها لما يترتب على المادة بنفسها ولو لم يكن

______________________________

الغرض الفرد الاول بخصوصه بمجرد وجوده بل كما لم يتعين أولا قبل وجوده لم يتعين بعد وجوده، ولازم ذلك الالتزام باوامر طولية بحسب الزمان مادام الغرض باقيا ويكون المراد من بقاء الامر هذا المعنى لا بقاء الامر الشخصي بحدوده لامتناع بقائه بحصول موضوعه فتأمل جيدا.

الفور والتراخى

(قوله: لا على الفور ولا على) كما هو المشهور وعن الشيخ (ره) وجماعة القول بالفور، وعن السيد (ره) الاشتراك بين الفور والتراخي، وعن آخرين التوقف، والتحقيق الاول ويظهر ذلك بملاحظة ما تقدم في المرة والتكرار (قوله: قضية اطلاقها) يعني اطلاق المادة بالاضافة إلى الزمان (قوله: تبادر طلب) يعني ولو كان الوجه في التبادر مقدمات الاطلاق (قوله: ضرورة ان تركهما) يعني أن ظاهر تعليق المسارعة والاستباق بالمغفرة والخير كون تركهما

١٨٨

هناك أمر بها كما هو الشأن في الاوامر الارشادية " فافهم " (تتمة) بناء على القول بالفور فهل قضية الامر الاتيان فورا ففورا بحيث لو عصى لوجب عليه الاتيان به فورا ايضا في الزمان الثاني أولا ؟ وجهان مبنيان على أن مفاد الصيغة - على هذا القول - هو وحدة المطلوب

______________________________

لا ينافي تحقق المغفرة والخير كما هو الحال في كل فعل متعلق بمفعوله، ولازم ذلك عدم وجوب المسارعة والاستباق والا كان تركهما موجبا للغضب والشر كما هو شأن ترك الواجب وهو خلف، بل كان الانسب حينئذ أن يقال: احذروا من الغضب والشر بالمسارعة والاستباق، لا التعبير بما في الآية، إلا أن يقال: ان الغضب الحاصل بترك المسارعة لا يضاد المغفرة التي هي موضوع المسارعة فوجوب المسارعة لا ينافي كون تركها لا يؤدي إلى الغضب بل إلى المغفرة، وكذا الحال في الآية الاخرى، ولكن هذا لو سلم لا ينافي ظهور السياق فيما ذكره المصنف (ره) فتأمل جيدا (والاولى) أن يقال: المغفرة في الآية الاولى يراد منها سببها وهو الاطاعة وكما يمتنع اخذ الاطاعة قيدا للواجب الشرعي يمتنع أخذ المسارعة إليها كذلك وكما أن الامر بالاطاعة ارشادي كذلك الامر بالمسارعة فيها، مع أن الآية على تقدير دلالتها على وجوب المسارعة لا تدل على تقييد الواجب بالفورية بل هي على خلاف ذلك أدل لان مادة المسارعة إلى الشئ إنما تكون فيما هو موسع كما لا يخفى، وكذا الحال في الآية الاخرى على تقدير كون المراد من الخيرات الخيرات الاخروية كما هو الظاهر، ولعله إلى بعض ما ذكرنا اشار بقوله: فافهم (قوله: الارشادية فافهم) لعله اشارة إلى لزوم الالتزام به لما عرفت، (قوله: فهل قضية الامر) ينبغي ان يجعل الاحتمال ثلاثي الاطراف فيقال: هل ظاهر الامر الاتيان به فورا فلو تركه عصى وسقط الامر أو الاتيان به فورا على نحو لو تركه في الزمان الاول عصى في ترك الفورية وبقي الامر بصرف الطبيعة أو الاتيان به فورا ففورا فلو تركه في الزمان الاول عصى ووجب الاتيان به بعد ذلك

١٨٩

أو تعدده ولا يخفى أنه لو قيل بدلالتها على الفورية لما كان لها دلالة على نحو المطلوب من وحدته أو تعدده فتدبر جيدا

الفصل الثالث

الاتيان بالمأمور به على وجهه يقتضى الاجزاء في الجملة بلا شبهة، وقبل الخوض في تفصيل المقام وبيان النقض والابرام ينبغي تقديم أمور (أحدها) الظاهر ان المراد من (وجهه) في العنوان هو النهج الذى ينبغي أن يؤتى به على ذاك النهج شرعا

______________________________

فورا أيضا... وهكذا، ومبنى الاحتمال الاول ان الفورية في الزمان الاول مقومة لاصل المصلحة فتفوت بفوتها وهذا هو المراد من وحدة المطلوب، ومبنى الثاني ان يكون مصلحتان احداهما قائمة بذات الفعل مطلقا والاخرى قائمة بالفورية في الزمان الاول لا غير، ومبنى الثالث كذلك الا ان مصلحة الفورية ذات مراتب مختلفة يكون ترك الفورية في كل زمان مفوتا لمرتبة من مصلحتها لا لاصلها كما هو مبنى الثاني (قوله: أو تعدده) قد عرفت ان تعدده على نحوين يكونان مبنيين لاحتمالين (قوله: لو قيل بدلالتها على) اما لو كان الدليل على الفورية غير الصيغة فيختلف باختلاف تلك الادلة، وفي المعالم بنى القول بالسقوط على الاستناد لغير الآيتين والقول بعدمه على الاستناد اليهما، ولا يخلو من تأمل ليس هذا محل ذكره والله سبحانه اعلم، ثم انه حيث كان اطلاق يعتمد عليه في نفي الفور والتراخي فلا اشكال واما إذا لم يكن اطلاق كذلك فالمرجع الاصل فلو كان التردد بين الفور والتراخي فالواجب الجمع بين الوظيفتين للعلم الاجمالي بالتكليف باحدهما، ولو كان بين الفور والطبيعة فالمرجع اصل البراءة لو كان وجوب الفورية على نحو تعدد المطلوب ولو كان بنحو وحدة المطلوب فالحكم هو الحكم مع الشك بين الاقل والاكثر، وكذا الحكم لو كان التردد بين الطبيعة والتراخي والله سبحانه أعلم

١٩٠

وعقلا مثل أن يؤتى به بقصد التقرب في العبادة، لا خصوص الكيفية المعتبرة في المأمور به شرعا فانه عليه يكون (على وجهه) قيدا - توضيحيا - وهو بعيد - مع أنه يلزم خروج التعبديات عن حريم النزاع بناء على المختار كما تقدم من ان قصد القربة من كيفيات الاطاعة عقلا لا من قيود المأمور به شرعا، ولا الوجه المعتبر عند بعض الاصحاب فانه - مع عدم اعتباره عند المعظم، وعدم اعتباره عند من اعتبره إلا في خصوص العبادات لا مطلق الواجبات، لا وجه لاختصاصه به بالذكر على تقدير الاعتبار فلا بد من ارادة ما يندرج فيه من المعنى وهو ما ذكرناه كما لا يخفى

______________________________

الكلام في الاجزاء

(قوله: مثل ان يؤتى به) بيان للنهج اللازم عقلا بناء على خروج قصد التقرب عن موضوع الامر (قوله: لا خصوص) معطوف على النهج وفيه تعريض بما قد يظهر من عبارة التقريرات فتأملها (قوله: قيدا توضيحيا) لان ذكر المأمور به يغني عنه ثم إن كون القيد توضيحيا لازم للقائلين بأن قصد التقرب داخل في المأمور به (قوله: مع انه يلزم خروج) إذ لا إشكال في عدم الاجزاء لو كان المأمور به في العبادات فاقدا لقصد التقرب وان كان واجدا لجميع ما يعتبر فيه شرعا (قوله: بناء على المختار) أما على القول بكون قصد التقرب قيدا للمأمور به فهي داخلة في محل النزاع لدخولها في العنوان ويكون عدم الاجزاء مع فقد التقرب لعدم الاتيان بالمأمور به شرعا (قوله: ولا الوجه المعتبر) يعني الوجوب والندب (قوله: عند المعظم) فلا وجه لذكره في العنوان في كلام المعظم إلا أن يكون المقصود من ذكره الاحتياط في ذكر القيود لكنه بعيد (قوله: لا مطلق الواجبات) فلا وجه لاخذه قيدا في دعوى الاجزاء مطلقا (قوله: لاختصاصه) يعني من دون سائر القيود المعتبرة في الاطاعة مثل التقرب والتمييز إلا أن يدعى الاكتفاء به عنهما على بعض

١٩١

(ثانيها) الظاهر ان المراد من الاقتضاء ههنا الاقتضاء بنحو العلية والتأثير لا بنحو الكشف والدلالة، ولذا نسب إلى الاتيان لا إلى الصيغة (ان قلت): هذا إنما يكون كذلك بالنسبة إلى أمره وأما بالنسبة إلى أمر آخر كالاتيان بالمأمور به بالامر الاضطراري أو الظاهرى بالنسبة إلى الامر الواقعي فالنزاع في الحقيقة في دلالة دليلهما على اعتباره بنحو يفيد الاجزاء أو بنحو آخر لا يفيده (قلت): نعم لكنه لا ينافى كون النزاع فيها كان في الاقتضاء بالمعنى المتقدم غايته ان العمدة في سبب الاختلاف فيهما انما هو الخلاف في دلالة دليلهما هل انه على نحو يستقل العقل بان الاتيان به موجب للاجزاء ويؤثر فيه وعدم دلالته، ويكون النزاع فيه صغرويا أيضا بخلافه في الاجزاء بالاضافة إلى أمره فانه لا يكون الا كبرويا لو كان هناك نزاع

______________________________

التقادير فتأمل (قوله: المراد من الاقتضاء ههنا) الواقع في القوانين والفصول وغيرهما في تحرير العنوان قولهم: الامر بالشئ هل يقتضي الاجزاء أولا ؟، وحيث أن ظاهر الاقتضاء فيه الكشف والدلالة كما في قولهم: الامر يقتضي الوجوب، والنهي يقتضي التحريم، نبه المصنف (ره) على ان الاقتضاء في العنوان المذكور في المتن ليس بمعنى الكشف والدلالة بل بمعنى العلية والتأثير كما في قولهم: الامر بالشئ يقتضي النهي عن ضده، والوجه في ذلك نسبة الاقتضاء في عنوان المتن إلى الاتيان وفي عنوان غيره إلى الامر وحيث أنه لا معنى لتأثير الامر في الاجزاء وجب حمله على الدلالة يعني يدل الامر على أن موضوعه واف بتمام المصلحة بخلاف الاتيان فان تأثيره في الاجزاء ظاهر إذ لولا كونه علة لحصول الغرض لما كان مامورا به (قوله: هذا إنما يكون) يعني أن حمل الاقتضاء على العلية إنما يصح بالاضافة إلى نفس الامر المتعلق بالماتي فان إجزاءه يلازم سقوط امره لا بالنسبة إلى الامر المتعلق بغيره إذ النزاع في الحقيقة يكون في دلالة الدليل فالاقتضاء فيه بمعنى الدلالة (قوله: نعم) يعني كما ذكرت من أن النزاع في دلالة الدليل (قوله: صغرويا) صورة القياس في المقام هكذا: المأمور به

١٩٢

كما نقل عن بعض (فافهم) (ثالثها) الظاهر ان الاجزاء ههنا بمعناه لغة وهو الكفاية وان كان يختلف ما يكفى عنه فان الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي يكفى فيسقط به التعبد به ثانيا، وبالامر الاضطراري أو الظاهرى الجعلي فيسقط به القضاء لا انه يكون ههنا اصطلاحا بمعنى اسقاط التعبد أو القضاء فانه بعيد جدا

______________________________

*

بالامر الاضطراري مأمور به بالامر الواقعي - ولو تنزيلا - والمامور به بالامر الواقعي يقتضي الاجزاء، ينتج: المأمور به بالامر الاضطراري يقتضي الاجزاء. والنزاع في هذه المسألة بالنسبة إلى الامر الواقعي في الكبرى وبالنسبة إلى الامر الاضطراري في الصغرى بالنسبة إلى الامر الواقعي، وفي الكبرى بالنسبة إلى أمر نفسه والمحكم في الكبرى مطلقا العقل والمحكم في الصغرى الدليل الشرعي فإذا كان الاقتضاء في الكبرى بمعنى العلية كان في النتيجة كذلك، ومنه يظهر أن إثبات الاجزاء في الفعل الاضطراري والظاهري بالنسبة إلى الامر الواقعي يتوقف على إثبات الصغرى والكبرى معا، وفي الفعل الواقعي على اثبات نفس الكبرى لانه عينها (قوله: فافهم) يمكن ان يكون اشارة إلى ان النزاع في مثل هذه الصغرى ليس نزاعا في المسألة الاصولية لان شأن المسائل الاصولية تنقيح الكبريات وأما الصغريات فوضيفة الفقيه، ولذا لم يتعرض في هذا المبحث لصغريات الافعال الاضطرارية والظاهرية تفصيلا فلاحظ (قوله: الظاهر ان الاجزاء) قد تضمنت جملة من العبارات كون الاجزاء له معنيان (احدهما) إسقاط التعبد بالفعل ثانيا (وثانيهما) إسقاط القضاء، وأن المراد هنا أي المعنيين ؟ وقد دفع المصنف (ره) ذلك - تبعا للتقريرات - بان لفظ الاجزاء لم يستعمل في المقام إلا بمعناه اللغوي وهو الكفاية غاية الامر أن ما يكفي عند الماتي به تارة يكون هو التعبد به ثانيا فيكون مسقطا للتعبد به واخرى الامر به قضاء فيكون مسقطا للقضاء لا أن له معنى اصطلاحيا ليتردد في أنه إسقاط التعبد أو إسقاط القضاء (قوله: يكفي فيسقط) يعنى يكفي في حصول الغرض فلا يحتاج إلى التعبد به ثانيا لتحصيله (قوله: فيسقط به) يعنى يكفي أيضا في حصول

١٩٣

(رابعها) الفرق بين هذه المسألة ومسألة المرة والتكرار لا يكاد يخفى، فان البحث ههنا في ان الاتيان بما هو المأمور به يجزئ عقلا بخلافه في تلك المسألة فانه في تعيين ما هو المأمور به شرعا بحسب دلالة الصيغة بنفسها أو بدلالة اخرى (نعم) كان التكرار عملا موافقا لعدم الاجزاء لكنه لا بملاكه، وهكذا الفرق بينها وبين مسألة تبعية القضاء للاداء فان البحث في تلك المسألة في دلالة الصيغة على التبعية وعدمها بخلاف هذه المسألة فانه كما عرفت في ان الاتيان بالمأمور يجزئ عقلا عن اتيانه ثانيا اداء أو

______________________________

*

الغرض فلا يثبت الامر بالقضاء ثم إن إجزاء المأمور به الواقعي لما كان بلحاظ الامر به ناسب التعبير باسقاط التعبد به ثانيا وإجزاء المأمور به بالامر الاضطراري والظاهري لما كان بلحاظ الامر به قضاء ناسب التعبير باسقاط القضاء (قوله: الفرق بين هذه) قد يتوهم أن القول بالمرة قول بالاجزاء والقول بالتكرار قول بعدم الاجزاء (قوله: بما هو المأمور به) يعني بعد الفراغ عن تعيين تمام المأمور به (قوله: فانه في تعيين) وحينئذ فيكون النزاع في الاجزاء مترتبا على النزاع في المرة والتكرار لا أن النزاع فيهما نزاع في الموضوع والنزاع فيه نزاع في الحكم (قوله: بحسب دلالة) يعني فيكون النزاع في أمر لفظي (قوله: عملا) متعلق بقوله: موافقا، يعني هما من حيث العمل سواء لكنه موقوف على أن المراد بالتكرار فعل كل فرد ممكن بعد آخر أما لو كان المراد ما يشمل تكرار الصلاة اليومية وصوم رمضان كما يقتضيه استدلال بعضهم فلا ملازمة بينهما عملا ثم إن هذا بالنسبة إلى أمره أما بالنسبة إلى أمر غيره فلا مجال للتوهم ولا للموافقة عملا (قوله: لا بملاكه) إذ ملاك عدم الاجزاء عدم وفاء المأمور به بالغرض المقصود منه وملاك التكرار عدم حصول تمام المأمور به (قوله: وهكذا الفرق) يعني قد يتوهم أن القول بعدم الاجزاء عين القول بتبعية القضاء للاداء، والقول بالاجزاء قول بعدم تبعية القضاء للاداء (قوله: فان البحث حينئذ) يعني أن البحث في تبعية القضاء للاداء بحث في ان الامر بشئ في وقت

١٩٤

قضاء أولا يجزئ فلا علقة بين المسألة والمسئلتين اصلا (إذا) عرفت هذه الامور فتحقيق المقام يستدعي البحث والكلام في موضعين (الاول) أن الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي بل بالامر الاضطراري أو الظاهري أيضا يجزئ عن التعبد به ثانيا، لاستقلال العقل بانه لا مجال مع موافقة الامر باتيان المأمور به على وجهه لاقتضائه التعبد به ثانيا. نعم لا يبعد ان يقال بأنه يكون للعبد تبديل الامتثال والتعبد به ثانيا بدلا عن التعبد به أولا لا منضما إليه كما اشرنا إليه في المسألة السابقة، وذلك فيما علم ان مجرد امتثاله لا يكون علة تامة لحصول الغرض وان كان وافيا به لو اكتفى

______________________________

*

هل يدل على لزوم فعله في خارج الوقت على تقدير عدم الاتيان به في الوقت بحيث يرجع إلى الامر به مطلقا لكونه في الوقت أولا يدل ؟ فيكون النزاع في تعيين المأمور به من حيث دلالة الامر، وأين هو من النزاع في المسألة ؟ (قوله: فلا علقة بين) أولا من جهة أن إحداهما متضمنة لتعيين نفس المأمور به والاخرى متضمنة لتعيين مقتضاه (وثانيا) من جهة أن النزاع في إحداهما لفظي وفى الاخرى عقلي " وثالثا " من جهة ان القول بعدم الاجزاء انما في ظرف الاتيان بالمأمور به والقول بالتبعية انما هو في ظرف عدم الاتيان به (قوله: بالامر الاضطراري) يعني بالاضافة إلى أمره (قوله: أو الظاهري) يعني بالاضافة إلى أمره (قوله: لاستقلال العقل بأنه) قد عرفت أن الامر الحقيقي لابد ان يكون حاكيا عن الارادة وأن الارادة حدوثا وبقاء تتوقف على العلم بالمصلحة المعبر عنها بالداعي تارة وبالغرض أخرى فالماتي به في الخارج إما أن لا يترتب عليه الغرض فلا يكون مامورا به فهو خلف أو يترتب عليه الغرض فبقاء الامر حينئذ إن كان بلا غرض فهو مستحيل كما عرفت وان كان عن غرض آخر غير الغرض الحاصل من الماتي به أولا فيلزمه أن يكون المأمور به فردين في الخارج يترتب على كل منهما غرض خاص فيكون الامر منحلا إلى أمرين يسقط كل منهما بالاتيان بمتعلقه وهو عين الاجزاء المدعى غاية الامر أنه لا يكون فعل أحدهما مسقطا لامر الآخر ومجزئا عنه ولكنه غير محل الكلام إذ الكلام - كما عرفت - في أن فعل المأمور به مجزئ عن الامر به ثانيا (قوله: لا منضما إليه)

١٩٥

به كما إذا اتى بماء امر به مولاه ليشربه فلم يشربه بعد فان الامر بحقيقته وملاكه لم يسقط بعد ولذا لو اهرق الماء واطلع عليه العبد وجب عليه اتيانه ثانيا كما لم يأت به أولا ضرورة بقاء طلبه ما لم يحصل غرضه الداعي إليه والا لما اوجب حدوثه فحينئذ يكون له الاتيان بماء آخر موافق للامر كما كان له قبل اتيانه الاول بدلا عنه. نعم فيما كان الاتيان علة تامة لحصول الغرض فلا يبقى موقع التبديل كما إذا أمر باهراق الماء في فمه لرفع عطشه فاهرقه، بل لو لم يعلم أنه من أي القبيل فله التبديل باحتمال ان لا يكون علة فله إليه السبيل، ويؤيد ذلك بل يدل عليه ما ورد من الروايات في باب اعادة من صلى فرادى جماعة وان الله تعالى يختار احبهما إليه (الموضع الثاني) وفيه مقامان (المقام الاول) في ان الاتيان بالمأمور به بالامر الاضطراري هل يجزئ عن الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي ثانيا بعد رفع الاضطرار في الوقت اعادة وفى خارجه قضاء أولا يجزئ ؟ تحقيق الكلام فيه يستدعي التكلم فيه (تارة) في بيان ما يمكن ان يقع عليه الامر الاضطراري من الانحاء وبيان ما هو قضية كل منها من الاجزاء وعدمه (وأخرى) في تعيين ما وقع عليه فاعلم انه يمكن

______________________________

*

قد يمكن أن يكون منضما إليه كما في الافراد الدفعية التى تكون امتثالا واحدا لعدم المرجح. فتأمل (قوله: وجب عليه) يعني بعين وجوبه أولا كما تقدم الكلام فيه (قوله: بدلا عنه) قد عرفت أنه يمكن أن يكون منضما إليه (قوله: فلا يبقى موقع) إذ الثاني مما يعلم بعدم ترتب الاثر عليه (قوله: ما ورد من الروايات) كرواية أبي بصير قلت لابي عبد الله (عليه السلام): أصلي ثم أدخل المسجد فتقام الصلاة وقد صليت فقال (عليه السلام): صل معهم يختار الله أحبهما إليه، ورواية هشام عنه (عليه السلام): في الرجل يصلي الصلاة وحده ثم يجد جماعة قال (عليه السلام): يصلي معهم ويجعلها الفريضة انشاء الله، ونحوها رواية حفص، وفي مرسلة الصدوق: يحسب له أفضلهما وأتمهما

١٩٦

ان يكون التكليف الاضطراري في حال الاضطرار كالتكليف الاختياري في حال الاختيار وافيا بتمام المصلحة وكافيا فيما هو المهم والغرض ويمكن ان لا يكون وافيا به كذلك بل يبقى منه شئ امكن استيفاؤه أو لا يمكن، وما أمكن كان بمقدار يجب تداركه أو يكون بمقدار يستحب، ولا يخفى انه ان كان وافيا به فيجزئ فلا يبقى مجال اصلا للتدارك لا قضاء ولا اعادة، وكذا لو لم يكن وافيا ولكن لا يمكن تداركه ولا يكاد يسوغ له البدار في هذه الصورة الا لمصلحة كانت فيه لما فيه من نقض الغرض وتفويت مقدار من المصلحة لولا مراعاة ما هو فيه من الاهم فافهم

______________________________

الامر الاضطراري

(قوله: ان يكون التكليف) يعني موضوعه (قوله: كالتكليف الاختياري) يعني كموضوعه (قوله: وما أمكن كان) يعني أن المقدار الباقي من المصلحة الذي يمكن استيفاؤه قسمان فانه تارة يكون واجب التدارك وأخرى يكون مستحب التدارك (أقول): ما لا يمكن استيفاؤه ايضا قسمان تارة يكون محرم التفويت وأخرى لا يكون كذلك فالاقسام خمسة وإنما لم يتعرض للقسمين المذكورين لعدم اختلافهما في الاجزاء وإن كانا يختلفان في جواز البدار وعدمه (قوله: ولا يخفى) شروع في حكم الاقسام من حيث الاجزاء (قوله: اصلا للتدارك) لان التدارك إنما يكون في ظرف الفوت والمفروض عدمه (قوله: ولا يكاد يسوغ) يعني حيث يكون الفائت مما يحرم تفويته أما إذا لم يكن فلا تحريم للبدار كما أن نسبة التحريم إلى البدار لا تخلو من مسامحة إذ المحرم هو تفويت ذلك المقدار والبدار ليس تفويتا ولا مقدمة له وإنما هو ملازم له فلا ينسب إليه التحريم إلا بالعرض والمجاز ولذا لم تفسد العبادة، ولعله إلى هذا اشار بقوله: فافهم (قوله: إلا لمصلحة) يعني إذا كانت مصلحة في البدار تصلح لمزاحمة المقدار الفائت لم يحرم التفويت الملازم للبدار حينئذ (قوله: لما فيه من)

١٩٧

(لا يقال): عليه فلا مجال لتشريعه ولو بشرط الانتظار لامكان استيفاء الغرض بالقضاء (فانه يقال): هذا كذلك لولا المزاحمة بمصلحة الوقت، وأما تسويغ البدار أو ايجاب الانتظار في الصورة الاولى فيدور مدار كون العمل بمجرد الاضطرار مطلقا أو بشرط الانتظار أو مع اليأس عن طرؤ الاختيار ذا مصلحة ووافيا بالغرض، وان لم يكن وافيا وقد امكن تدارك الباقي في الوقت أو مطلقا ولو بالقضاء خارج

______________________________

تعليل لعدم جواز البدار لكن عرفت أن البدار لا تفويت فيه لغرض المولى وإنما هو يلازم التفويت (قوله: فلا مجال لتشريعه) يعني إذا كان البدل الاضطراري غير واف بمصلحة المبدل الاختياري كيف جاز تشريعه ولو في آخر الوقت ؟ لان في تشريعه تفويتا للمصلحة (قوله: هذا كذلك) (أقول): تشريع الاضطراري إنما جاز لاشتماله على المصلحة مع عدم كونه مقدمة للتفويت فالمنع عن تشريعه غير ظاهر الوجه الا ان يكون المراد من تشريعه الامر بفعله في الوقت أو الاذن كذلك الملازمين للاذن في التفويت (قوله: لولا المزاحمة) يعنى انما يكون تفويت التشريع ممنوعا عنه حيث يؤدي إلى تفويت المصلحة مع عدم مزاحمتها بمصلحة أخرى وإلا فلو فرض كون خصوصية الفعل في الوقت مشتملة على مصلحة تزاحم المقدار الفائت لم يكن مانع عن تشريعه كما تقدم مثل ذلك في جواز البدار ثم إنه حيث كان في خصوصية الوقت مصلحة يتدارك بها ما يفوت جاز البدار أول الوقت إذا علم الاضطرار في تمام الوقت ولا موجب للانتظار فتأمل (قوله: في الصورة الاولى) وهي ما كان الاضطراري فيها وافيا بتمام المصلحة (قوله: الاضطرار مطلقا) وعليه يجوز البدار مطلقا (قوله: أو بشرط الانتظار) وعليه فلا يجوز البدار (قوله: أو مع اليأس) فلا يجوز البدار الا مع اليأس ثم إن هذه الاقسام لا تختص بالصورة الاولى بل تجري في الثانية أيضا إذ قد تكون خصوصية الوقت مطلقا ذات مصلحة تزاحم المقدار الفائت. وقد تكون بشرط الانتظار، وقد تكون بشرط اليأس وقد يكون بغير ذلك فيتبع كلا حكمه (قوله: وان لم يكن وافيا)

١٩٨

الوقت فان كان الباقي مما يجب تداركه فلا يجزئ فلا بد من ايجاب الاعادة أو القضاء وإلا فاستحبابه ولا مانع عن البدار في الصورتين غاية الامر يتخير في الصورة الاولى بين البدار والاتيان بعملين العمل الاضطراري في هذا الحال والعمل الاختياري بعد رفع الاضطرار أو الانتظار والاقتصار باتيان ما هو تكليف المختار، وفي الصورة الثانية يتعين عليه استحباب البدار واعادته بعد طروء الاختيار. هذا كله فيما يمكن أن يقع عليه الاضطراري من الانحاء، وأما ما وقع عليه فظاهر إطلاق دليله مثل قوله تعالى: (فان لم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا) وقوله (عليه السلام): (التراب أحد الطهورين ويكفيك عشر سنين) هو الاجزاء وعدم وجوب الاعادة أو القضاء ولا بد في ايجاب الاتيان به ثانيا من دلالة دليل بالخصوص (وبالجملة):

______________________________

*

معطوف على قوله: إن كان وافيا (قوله: فلا بد من ايجاب) لاجل تدارك الباقي (قوله: والا فاستحبابه) الظاهر أن أصل العبارة: والا فيجزئ، بمعنى عدم وجوب الاعادة والقضاء وان كان يستحب (قوله: ولا مانع عن) إذ لا تفويت فيهما (قوله: في الصورة الاولى) وهي ما يكون الباقي فيها مما يجب تداركه (قوله: وفى الصورة الثانية) وهي ما كان الباقي فيها مما يستحب تداركه (قوله: استحباب البدار) هذا الاستحباب بنحو الكلية غير ظاهر الوجه إلا أن يستند فيه إلى مثل آيتي المسارعة والاستباق فتأمل (قوله: وأما ما وقع عليه) التعرض لذلك ينبغي أن يكون في الفقه لا هنا إذ ليس لدليله ضابطة كلية فقد يختلف الدليل باختلاف قرينة الحال أو المقال من حيث الدلالة على الوفاء وعدمه وكأن مقصود المصنف (ره) الاشارة إلى ما يكون كالانموذج لادلة البدل الاضطراري (قوله: هو الاجزاء) أما اقصاء ما كان بلسان البدلية مثل: أحد الطهورين، ونحوه فظاهر، فان اطلاق البدلية يقتضي قيام البدل مقام المبدل منه بلحاظ جميع الآثار والخواص فلا بد من أن يفى بما يفي به المبدل من المصلحة بمرتبتها ويترتب عليه الاجزاء " فان قوله ": هذا الاطلاق

١٩٩

وان كان ثابتا الا انه معارض باطلاق دليل المبدل منه فانه يقتضي تعينه في جميع الاحوال ولازمه وجوب حفظ القدرة عليه الكاشف عن عدم وفاء البدل بمصلحته والا جاز تفويت القدرة عليه، وكما يمكن الجمع بينهما برفع اليد عن اطلاق دليل المبدل فيحمل على تعينه في ظرف القدرة عليه جاز رفع اليد عن اطلاق دليل البدل فيحمل على وفائه ببعض مراتب المصلحة التي يفي بها المبدل واذ لا مرجح يرجع إلى الاصل ويسقط الاطلاق عن المرجعية " قلت ": نسبة دليل البدل إلى دليل المبدل منه نسبة الحاكم إلى المحكوم لانه ناظر إليه موسع لموضوعه فيجب تقديمه عليه وجوب تقديم الحاكم على المحكوم. هذا كله بالنظر إلى طبع الكلام نفسه أما بملاحظة كون البدلية في حال الاضطرار فلا يبعد كون مقتضى الجمع العرفي كون البدل من قبيل الميسور للتام ولاجل ذلك نقول: لا يجوز تعجيز النفس اختيارا لانه تفويت للتام، فتأمل جيدا. وأما ما كان بلسان الامر فقد يشكل اطلاقه المقتضي للاجزاء إذ الامر انما يدل على وفاء موضوعه بمصلحة مصححة للامر به أما أنها عين مصلحة المبدل أو بعضها فلا يدل عليه الامر ولا يصلح لنفي وجوب الاعادة أو القضاء. نعم لو كان المتكلم في مقام بيان تمام ما له دخل في حصول الغرض المترتب على الاختياري مع عدم الامر بالاعادة أو القضاء أمكن الحكم بالاجزاء حينئذ اعتمادا على هذا الاطلاق المقامي المقدم على اطلاق دليل المبدل للحكومة، أو كون الامر واردا مورد جعل البدل فيجري فيه ما تقدم، اللهم إلا أن يقال: دليل المبدل ظاهر في التعيين في حال التمكن وعدمه ودليل البدل ظاهر في تعينه في حال عدم التمكن من المبدل وهما متنافيان للعلم بعدم تعينهما معا فيدور الامر (بين) رفع اليد عن ظهور دليل البدل في التعيين ودليل المبدل فيه بالاضافة إلى بعض مراتب المصلحة ولازمه الحكم بتعين المبدل في تحصيل تمام مرتبة الغرض والتخيير بينه وبين البدل في تحصيل بعضها ويترتب عليه عدم الاجزاء (وبين) رفع اليد عن اطلاق دليل المبدل بالاضافة إلى حالتي التمكن وعدمه وحيث أن الثاني أقرب يكون هو المتعين ولازم ذلك اشتراط وجوب المبدل بحال التمكن فيترتب

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

ملكت عليه كل مشاعره وأحاسيسه ، إلى أن قال لها هيروديس يوما : اطلبي منّي كل ما تريدين فسأحققه لك قطعا ، فقالت هيروديا : لا أريد منك إلّا رأس يحيى! لأنّه قد شوّه سمعتي وسمعتك ، وقد أصبح كل الناس يعيروننا ، فإنّ كنت تريد أن يهدأ قلبي ويسر خاطري فيجب أن تقوم بهذا العمل!

فسلّم هيروديس ـ الذي أصبح مجنونا لا يعقل من عشق هذه المرأة ـ لما أرادت من دون أن يفكر ويتنبه إلى عاقبة هذا العمل ، ولم يمض قليل من الزمن حتى أحضر رأس يحيى عند تلك المرأة الفاجرة ، إلّا أنّ عواقب هذا العمل الشنيع قد أحاطت به ، وأخذت بأطرافه في النهاية(١) .

ونقرأ في الرّوايات أن سيد الشهداء الإمام الحسينعليه‌السلام كان يقول : «إنّ من هو ان الدنيا أن يهدى رأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل» أي إن ظروفي تشابه من هذه الناحية ظروف وأحوال يحيى ، لأنّ أحد أهداف ثورتي محاربة الأعمال المخزية لطاغوت زماني يزيد.

* * *

__________________

(١) يستفاد من بعض الأناجيل وقسم من الرّوايات أنّ هيروديس قد تزوج امرأة أخيه ، وقد كان هذا الزواج ممنوعا في قانون التوراة ، وقد لامه يحيى على هذا العمل بشدّة ، ثمّ أن تلك المرأة حملت هيروديس على قتل يحيى بإغرائه بجمال بنتها. إنجيل متى باب ١٤ ، إنجيل مرقس باب ٦ ، الفقرة ١٧ وما بعدها.

٤٢١

الآيات

( وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١) )

التّفسير

ولادة عيسىعليه‌السلام :

بعد ذكر قصّة يحيىعليه‌السلام ، حولت الآيات مجرى الحديث إلى قصّة عيسىعليه‌السلام لوجود علاقة قوية وتقارب واضح جدا بين مجريات هاتين الحادثتين.

فإنّ كانت ولادة يحيى من أب كبير طاعن في السن وأم عقيم عجيبة ، فإن ولادة عيسى من أم دون أب أعجب!

٤٢٢

وإن كان الوصول إلى مقام النّبوة وبلوغ العقل الكامل ـ في مرحلة الطفولة ـ باعثا على الحيرة ومعجزا ، فإنّ التحدث في المهد عن الكتاب والنّبوة أبعث على التعجب والحيرة ، وأكثر إعجازا.

وعلى كل حال ، فإنّ كلا الأمرين آيتان على قدرة الله الكبير المتعال ، إحداهما أكبر من الأخرى ، وقد صادف أن تكون كلا الآيتين مرتبطتان بشخصين تربطهما أواصر نسب قوية ، فكل منهما قريب للآخر من ناحية النسب ، حيث أن أم يحيى كانت أخت أم مريم ، وكانت كلاهما عقيمتين وتعيشان أمل الولد الصالح.

تقول الآية الأولى :( وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا ) فقد كانت تبحث عن مكان خال من كل نوع من التشويش والضوضاء حتى لا يشغلها شيء عن مناجاتها ويصرفها ـ ولو حينا ـ عن ذكر المحبوب ، ولذلك اختارت شرقي بيت المقدس ، ذلك المعبد الكبير ، لعله يكون مكانا أكثر هدوءا ، أو أنّه كان أنظف وأنسب من جهة أشعة الشمس ونورها.

كلمة «انتبذت» أخذت من مادة (نبذ) على قول الراغب ، وهي تعني إلقاء وإبعاد الأشياء التي لا تسترعي الانتباه ، وربّما كان هذا التعبير في الآية إشارة إلى أنّ مريم قد اعتزلت بصورة متواضعة ومجهولة وخالية من كل ما يجلب الانتباه ، واختارت ذلك المكان من بيت الله للعبادة.

في هذه الأثناء من أجل أن تكمل مريم مكان خلوتها واعتكافها من كل جهة ، فإنّها( فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً ) ولم تصرح الآية بالهدف من اتّخاذ هذا الحجاب ، فهل أنّه كان من أجل أن تناجي ربّها بحرية أكبر ، وتستطيع عند خلو هذا المكان من كل ما يشغل القلب والحواس أن تتوجه إلى العبادة والدعاء؟ أو أنّها كانت تريد اتخاذه من أجل الغسل والاغتسال؟ الآية ساكتة من هذه الجهة.

على كل حال ،( فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا ) والروح أحد

٤٢٣

الملائكة العظام حيث تجسّد لمريم على شكل انسان جميل لا عيب فيه ولا نقص.

إنّ الحالة التي اعترت مريم في تلك اللحظة واضحة جدّا ، فمريم التي عاشت دائما نقية الجيب ، وتربّت في أحضان الطاهرين ، وكان يضرب بها المثل بين الناس في العفة والتقوى كم داخلها من الرعب والاضطراب عند مشاهدة هذا المنظر ، وهو دخول رجل أجنبي جميل في محل خلوتها! ولذلك فإنّها مباشرة( قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ) وكانت هذه أوّل هزّة عمّت كل وجود مريم.

إنّ ذكر اسم الرحمان ، ووصفه برحمته العامّة من جهة ، وترغيب الرجل في التقوى والامتناع عن المعصية من جهة أخرى ، كان من أجل أن يرتدع هذا الشخص المجهول إن كانت له نيّة سيئة في ارتكاب المعصية ، والأهم من ذلك كله هو الالتجاء إلى الله ، فالله الذي يلتجئ إليه الإنسان في أحلك الظروف ، ولا تقف أية قدرة أمام قدرته ، هو الذي سيحل المعضلات.

لقد كانت مريم تنتظر رد فعل ذلك الشخص المجهول بعد أن تفوهت بهذه الكلمات انتظارا مشوبا بالاضطراب والقلق الشديد ، إلّا أنّ هذه الحالة لم تطل ، فقد كلمها ذلك الشخص ، ووضّح مهمته ورسالته العظيمة( قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ ) .

لقد كانت هذه الجملة كالماء الذي يلقى على النار ، فقد طمأنت قلب مريم الطاهر،إلّا أنّ هذا الاطمئنان لم يدم طويلا ؛ لأنّه أضاف مباشرة( لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا ) .

لقد اهتز كيان ووجود مريم لدى سماع هذا الكلام ، وغاصت مرّة أخرى في قلق شديد( قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ) .

لقد كانت تفكر في تلك الحالة في الأسباب الطبيعية فقط ، وكانت تظن أن المرأة يمكن أن يكون لها ولد عن طريقين لا ثالث لهما : إمّا الزواج أو التلوّث بالرذيلة والانحراف ، وإنّي أعرف نفسي أكثر من أي شخص آخر ، فإنّي لم أختر

٤٢٤

زوجا لحد الآن ، ولم أكن امرأة منحرفة قط ، ولم يسمع لحد الآن أنّ شخصا يولد له ولد من غير هذين الطريقين!

إلّا أنّ أمواج هذا القلق المتلاطمة هدأت بسرعة عند سماع كلام آخر من رسول الله إليها ، فقد خاطب مريم بصراحة :( قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ) فأنت الواقفة على قدرتي والعالمة بها جيدا أنت التي رأيت ثمر الجنّة في فصل لا يوجد شبيه لتلك الفاكهة في الدنيا جنب محراب عبادتك. أنت التي سمعت نداء الملائكة حين شهدت بعفتك وطهارتك أنت التي تعلمين أنّ جدك آدم قد خلق من التراب ، فلما ذا هذا التعجب من سماعك هذا الخبر؟

ثمّ أضاف :( وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا ) فنحن نريد أن نبعثه للناس رحمة من عندنا ، ونجعله معجزة ، وعلى كل حال( وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا ) . فلا مجال بعد ذلك للمناقشة.

* * *

بحثان

١ ـ ما هو المراد من روح الله؟

إنّ كل المفسّرين المعروفين تقريبا فسّروا الروح هنا بأنّه جبرئيل ملك الله العظيم ، والتعبير عنه الروح لأنّه روحاني ، ووجود مفيض للحياة ، لأنّه حامل الرسالة الإلهية إلى الأنبياء وفيها حياة جميع البشر اللائقين ، وإضافة الروح هنا إلى الله دليل على عظمة وشرف هذا الروح ، حيث أنّ من أقسام الإضافة هي (الإضافة التشريفية).

ويستفاد من هذه الآية بصورة ضمنية أنّ نزول جبرئيل لم يكن مختصا بالأنبياء ، وإن كان نزوله بالوحي والشريعة والكتب السماوية منحصرا فيه ، إلّا أنّه لا مانع من أن يواجه غير الأنبياء من أجل تبليغ رسائل وأوامر أخرى ، كرسالته المذكورة إلى مريم.

٤٢٥

٢ ـ ما هو التمثل؟

«التمثل» في الأصل من «المثول» ، أي الوقوف مقابل شخص أو شيء ، ويقولون للشيء الذي يظهر بصورة أخرى : ممثلا ، وعلى هذا فإنّ قوله :( فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا ) تعني أن ذلك الملك قد ظهر بصورة إنسان.

ولا شك أنّ هذا الكلام لا يعني أن جبرئيل قد تبدل إلى إنسان شكلا وسيرة ، لأنّ مثل هذا التحول والتبدل أمر غير ممكن ، بل المراد أنّه ظهر بصورة إنسان بالرغم من أنّ سلوكه كان نفس ذلك السلوك الملائكي ، إلّا أنّ مريم التي لم تكن تعلم بالأمر في البداية ، كانت تظن أن في مقابلها إنسانا سيرة وصورة.

وتلاحظ كثيرا في الرّوايات والتواريخ كلمة «تمثل» بمعناها الواسع ، ومن جملتها : إنّ إبليس لما اجتمع المشركون في «دار الندوة» وكانوا يخططون لقتل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ظهر بصورة شيخ كبير حصيف الرأي ، يهدف إلى الخير وشرع بإغواء رؤساء قريش.

أو أنّ الدنيا وباطنها تمثلت للإمام عليعليه‌السلام على شكل امرأة في غاية الجمال والجذابية ولم تستطع أن تنفذ إليه ، وقصتها مفصّلة معروفة.

ونقرأ أيضا في الرّوايات أنّ مال الإنسان وولده وعمله تتجسم أمامه عند الموت بصورة مختلفة وخاصّة.

أو أنّ أعمال الإنسان تتجسم في القبر ويوم القيامة ، ويظهر كل منها بشكل خاص.

إن التمثّل في جميع هذه الوارد يعني أن شيئا أو شخصا يظهر بشكل آخر من ناحية الصورة والشكل فقط ، لا أن تتبدّل ماهيته وباطنة(١) .

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ١٤ ، ص ٣٧.

٤٢٦

الآيات

( فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦) )

التّفسير

مريم في عاصفة :

وأخيرا حملت مريم ، واستقر ذلك الولد الموعود في رحمها :( فَحَمَلَتْهُ ) ولم يتحدث القرآن عن كيفية نشوء وتكوّن هذا المولود ، فهل أنّ جبرئيل قد نفخ في ثوبها ، أم في فمها؟وذلك لعدم الحاجة إلى هذا البحث ، بالرغم من أنّ كلمات المفسّرين مختلفة في هذا الشأن.

وعلى كل حال ، فإنّ هذا الأمر قد تسبب في أن تبتعد عن بيت المقدس( فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا ) .

٤٢٧

لقد كانت تعيش في حالة بين الخوف والأمل ، حالة من القلق والاضطراب المشوب بالسرور ، فهي تفكر أحيانا بأن هذا الحمل سيفشو أمره في النهاية ، فالأفضل أن أبقى بعيدة عن أولئك الذين يعرفونني عدّة أيّام أو أشهر ، وأعيش في هذا المكان بصورة مجهولة ، وماذا سيحدث في النهاية؟

فمن الذي سيقتنع بأنّ امرأة لا زوج لها تحمل دون أن تكون قد تلوثت بالرذيلة؟ فما ذا سأفعل تجاه هذا الاتهام؟ والحق أنّ من المؤلم جدّا بالنسبة لفتاة كانت لسنين طويلة نموذجا وقدوة للطهارة والعفة والتقوى والورع ، ومثالا في العبادة والعبودية لله ، وكان زهاد بني إسرائيل يفتخرون بكفالتها منذ الطفولة ، وقد تربت وترعرعت في ظل نبي كبير ، وقد شاع أمر سجاياها وقداستها في كل مكان ، أن تحس في يوم ما أن كل هذا الرصيد المعنوي مهدد بالخطر ، وستكون غرضا ومرمى لاتهام يعتبر أسوء وأقبح اتهام ، وكانت هذه هي المصيبة الثّالثة التي وقعت لها.

إلّا أنّها من جهة أخرى كانت تحس أنّ هذا المولود ، نبي الله الموعود ، تحفة سماوية نفيسة ، فإنّ الله الذي بشرني بمثل هذا الغلام ، وخلقه بهذه الصورة الإعجازية كيف سيذرني وحيدة؟ فهل من المعقول أن لا يدافع عني في مقابل مثل هذا الاتهام؟ أنا التي رأيت وجربت لطفه على الدوام ، وأحسست بيد رحمته على رأسي.

وهناك بحث بين المفسّرين في مدّة حمل مريم ، بالرغم من أنّه ذكر في القرآن بصورة مخفية ومبهمة ، فبعضهم حسبه ساعة واحدة ، وآخر تسع ساعات ، وثالث ستة أشهر ، ورابع سبعة ، وآخر ثمانية ، وآخر تسعة أشهر كسائر النساء ، إلّا أن هذا الموضوع ليس له ذلك التأثير في هدف هذه القصّة. والرّوايات الواردة في هذا المجال مختلفة أيضا.

وقد اعتقد الكثيرون أنّ المكان «القصي» هو مدينة «الناصرة» وربّما بقيت

٤٢٨

في تلك المدينة بصورة دائما وقلّما خرجت منها.

ومهما كان فقد انتهت مدّة الحمل ، وبدأت لحظات تلاطم أمواج حياة مريم ، وقد دفعها ألم الولادة الشديد الذي هاج فيها إلى ترك الأماكن المعمورة والتوجه إلى الصحاري الخالية من البشر ، والقاحلة التي لا عشب فيها ولا ماء ولا مأوى.

ومع أن النساء يلجأن عادة في مثل هذه الحالة إلى المعارف والأصدقاء ليساعدوهنّ على الولادة ، إلّا أن وضع مريم لما كان استثنائيا ، ولم تكن تريد أن يرى أحد وضع حملها مطلقا ، فإنّها اتّخذت طريق الصحراء بمجرّد أن بدأ ألم الولادة ويقول القرآن في ذلك:( فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ ) .

إنّ التعبير بجذع النخلة ، وبملاحظة أن الجذع يعني بدن الشجرة ، يوحي بأنّه لم يبق من تلك الشجرة إلّا جذعها وبدنها ، أي إنّ الشجرة كانت يابسة(١) .

في هذا الحال غمر كل وجود مريم الطاهر سيل من الغم والحزن ، وأحسست بأنّ اللحظة التي كانت تخشاها قد حانت ، اللحظة التي مهما أخفيت فإنّها ستتضح هناك ، وسيتجه نحوها سيل سهام الاتهام التي سيرشقها بها الناس.

لقد كان هذا الاضطراب والصراع صعبا جدّا ، وقد أثقل كاهلها إلى الحد الذي تكلمت فيه بلا إرادة و( قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا ) .

إنّ من البديهي أنّ الخوف من التهم في المستقبل لم يكن الشيء الوحيد الذي كان يعصر قلب مريم ويقلقها ، وإن كان هذا الموضوع يشغل فكر مريم أكثر من أية مسألة أخرى ، إلّا أنّ مشاكل ومصائب أخرى كوضع الحمل لوحدها بدون قابلة وصديق ومعين في الصحاري الخالية ، وعدم وجود مكان للاستراحة ، وعدم وجود الماء للشرب ، والطعام للأكل ، وعدم وجود وسيلة لحفظ المولود الجديد ، وغير هذه الأمور كانت تهزّها من الأعماق بشدّة.

قد يتساءل البعض باعتراض : كيف أنّ مريم المؤمنة والعارفة بالتوحيد

__________________

(١) «جذع» على وزن «ذبح» في الأصل من مادة «جذع» على وزن «منع» بمعنى القطع.

٤٢٩

حيث رأت كل ذلك اللطف والإحسان الإلهي ، أجرت مثل هذه الجملة على لسانها وقالت:( يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا ) ، إلّا أنّ هؤلاء لم يدركوا أبدا حال مريم في تلك الساعة ، ولو أنّهم أصابهم شيء قليل من هذه المشاكل فإنّهم سينسون حتى أنفسهم.

إلّا أنّ هذه الحالة لم تدم طويلا ، فقد سطعت ومضة الأمل التي كانت موجودة دائما في أعماق قلبها ، وطرق سمعها صوت( فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ) وانظري إلى الأعلى كيف أن هذا الجذع اليابس قد تحول إلى نخلة مثمرة( وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً ) بالمولود الجديد( فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ) . وهذا الصوم هو المعروف بصوم السكوت.

وخلاصة الأمر ، إنّك لا تحتاجين إلى الدفاع عن نفسك ، فإنّ الذي وهبك هذا الوليد قد تعهد بمهمّة الدفاع عنك أيضا ، وعلى هذا فليهدأ روعك من كل الجهات ، ولا تدعي للهم طريقا إلى نفسك.

إن هذه الحوادث المتلاحقة التي سطعت كالشرر المضيء الوهاج في الظلام الدامس ، قد أضاءت كل أرجاء قلبها ، وألقت عليها الهدوء والاطمئنان.

* * *

بحوث

١ ـ ازدياد قوة مريم عند تراكم المشاكل

إنّ الحوادث التي مرّت على مريم في هذه المدّة القصيرة ، والمشاهد والمواقف التي تثير الإعجاب ، والتي حدثت لها بلطف الله ، كانت تهيؤها وتعدها من أجل تربية نبي من أولي العزم ، ولتستطيع أن تؤدي وظيفة الأمومة من خلال

٤٣٠

هذا الأمر الخطير على أحسن وجه.

إنّ سير الأحداث صاحبها حتى آخر مرحلة ، بحيث لم يبق بينها وبين الموت إلّا خطوة واحدة ، لكن فجأة يرجع كل شيء إلى وضعه ، ويهّب كل شيء لمساعدتها ، وتخطو في محيط هادئ مطمئن من كل الجهات.

جملة( وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ) التي تأمر مريم بتحريك النخلة لتستفيد من ثمره ، أعطت درسا لها ولكل البشر ، بأن لا يكفوا عن الجد والسعي حتى في أشد لحظات الحياة وأصعبها.

إنّه جواب لأولئك الذين يسألون عن الحاجة بأنّ مريم التي وضعت حملها لتوها تقوم وتهزّ النخلة ، ألم يكن من الأولى أن يرسل الله ـ الذي ـ بعث عين الماء العذب قرب مريم تلك الشجرة اليابسة ـ نسمة وريحا تهزّ النخلة وتسقط الثمر قرب مريم؟ فما الذي حدث ، حيث أن مريم عند ما كانت سالمة صحيحة كانت تحضر الفاكهة جنب محرابها ، أمّا الآن وقد ابتليت بكل هذه المشاكل فإنّ عليها أن تقطف الثمر بنفسها؟

أجل ، إن هذا الأمر الإلهي لمريم يوضح أنّه لا بركة بدون حركة ، وبتعبير آخر ، فإن على كل إنسان أن يبذل قصارى جهده عند ظهور المشاكل ، وما وراء ذلك فعلى الله.

٢ ـ لماذا طلبت مريم الموت من الله؟

لا شك أن طلب الموت من الله عمل غير صحيح ، إلّا أنّه قد تقع حوادث في حياة الإنسان يصبح فيها طعم الحياة مرّا ، وخاصّة إذا رأى الإنسان أهدافه المقدسة أو شرفه وشخصيته مهددة بالخطر ، ولا يملك قدرة الدفاع عن نفسه أمامها ، وفي مثل هذه الظروف يتمنى الإنسان الموت للخلاص من العذاب الروحي.

٤٣١

لقد خطرت في ذهن مريم في اللحظات الأولى هذه الأفكار ، وتصورت بأن كل وجودها وكيانها وماء وجهها مهدد بالخطر أمام هؤلاء الناس الجهلاء نتيجة ولادة هذا المولود، وفي هذه اللحظات تمنت الموت ، وهذا بحد ذاته دليل على أنّها كانت تحب عفتها وطهارتها وتهتم بهما أكثر من روحها ، وتعتبر حفظ ماء وجهها أغلى من حياتها.

إلّا أنّ مثل هذه الأفكار ربّما لم تدم إلّا لحظات قصيرة جدّا ، ولما رأت ذينك المعجزتين الإلهيتين ـ انبعاث عين الماء ، وحمل النخلة اليابسة ـ زالت كل تلك الأفكار عن روحها ، وغمر قلبها نور الاطمئنان الهدوء.

٣ ـ سؤال وجواب

يسأل البعض : إنّ المعجزة إذا كانت مختصة بالأنبياء والأئمّةعليهم‌السلام ، فكيف ظهرت مثل هذه المعجزات لمريم؟

وقد اعتبر بعض المفسّرين ـ حلا لهذا الإشكال ـ هذه المعاجز جزءا من معاجز عيسى تحققت كمقدمة ، ويعبرون عن ذلك بالإرهاص.

إلّا أنّه لا حاجة لجواب كهذا أبدا ، لأنّه لا مانع مطلقا من ظهور الأمور الخارقة للعادة لغير الأنبياء والأئمّة ، وهذا هو الذي نسميه بالكرامة.

إنّ المعجزة هي عمل يقترن بالتحدي ، وتكون مقترنة بادعاء النّبوة والإمامة.

٤ ـ صوم الصمت

يدل ظاهر الآيات أعلاه على أنّ مريم كانت مأمورة بالسكوت لمصلحة ، وأن تمتنع عن الكلام بأمر الله في هذه المدّة المعينة ، حيت تتحرك شفتا وليدها عيسى بالكلام ويدافع عن عفتها ، وهذا أكثر تأثيرا من كل الجهات.

ويظهر من تعبير الآية أن نذر السكوت كان أمرا معروفا في ذلك المجتمع ،

٤٣٢

ولهذا لم يعترضوا عليها على هذا العمل. غير أنّ هذا النوع من الصوم غير جائز في شريعتنا.

ورد عن علي بن الحسينعليه‌السلام في حديث : «صوم السكوت حرام»(١) ، وذلك لاختلاف الظروف في ذلك الزمان عن ظروف زمن ظهور الإسلام.

إلّا أن أحد آداب الصوم الكامل في الإسلام أن يحفظ الإنسان لسانه من التلوّث بالمعاصي والمكروهات خلال صيامه ، وكذلك يصون عينه من الزلل والذنب ، كما نقرأ ذلك

في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام : إنّ الصوم ليس من الطعام والشراب وحده ، إن مريم قالت : إنّي نذرت للرحمن صوما ، أي صمتا ، فاحفظوا ألسنتكم ، وغضوا أبصاركم، ولا تحاسدوا ولا تنازعوا»(٢) .

٥ ـ غذاء مولد للطاقة

استفاد المفسّرون ممّا جاء صريحا في هذه الآيات ، أنّ الله سبحانه قد جعل غذاء مريم حين ولادة مولودها الرطب ، فهو من أفضل الأغذية للنساء بعد وضع الحمل ، وفي الأحاديث الإسلامية إشارة صريحة إلى ذلك أيضا : فيروي أمير المؤمنين عليعليه‌السلام عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ليكن أول ما تأكل النفساء الرطب ، فإن اللهعزوجل قال لمريمعليها‌السلام :( وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا ) (٣) .

ويستفاد من آخر الحديث أن تناول هذا الغذاء لا يؤثر ويفيد الأم فقط ، بل إنّه سيؤثر حتى في لبنها ، وحتى أن بعض الرّوايات تؤكّد على أن أفضل غذاء ودواء للحامل هو الرطب : «ما تأكل الحامل من شيء ولا تتداوى به أفضل من

__________________

(١) وسائل الشيعة ، الجزء ٧ ، ص ٣٩٠.

(٢) من لا يحضره الفقيه ، حسب نقل تفسير نور الثقلين ، الجزء ٣ ، ص ٣٣٢.

(٣) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٣٣٠.

٤٣٣

الرطب».(١)

إلّا أن من المسلّم أن الاعتدال والتوسط في كل شيء يجب أن يراعى حتى في هذه المسألة ، كما يستفاد ذلك من بعض الرّوايات الواردة في هذا المجال. ويستفاد أيضا أنّ الرطب إن لم يكن موجودا ، فلا بأس بأكل التمر المتعارف.

يقول علماء التغذية : إنّ السكر الكثير الموجود في التمر من أصح السكريات وأسلمها ، وحتى المبتلين بمرض السكر فإنّهم يستطيعون تناول التمر.

ويقول هؤلاء العلماء : إنّ في التمر (١٣) مادة حيوية ، واكتشفوا خمسة أنواع من الفيتامينات ، جمعها التمر وأظهرها على هيئة مصدر غذائي غني(٢) ، ونحن نعلم أن النساء في مثل هذه الأوضاع بحاجة شديدة إلى غذاء يولد الطاقة ومليء بالفيتامينات.

لقد ثبتت أهمية التمر بتقدم علم الطب ، ففي التمر يوجد «الكالسيوم» ، وهو عامل مهم في تقوية العظام ، وكذلك يوجد «الفسفور» وهو من العناصر الأساسية في تكوين المخ ، ويمنع من ضعف الأعصاب والتعب ، وكذلك يوجد «البوتاسيوم» الذي يسبب فقدانه في قرحة المعدة(٣) .

__________________

(١) المصدر السّابق.

(٢) من كتاب أول جامعة وآخر نبي ، الجزء ٧ ، ص ٦٥.

(٣) المصدر السابق.

٤٣٤

الآيات

( فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣) )

التّفسير

المسيح يتكلم في المهد :

وأخيرا رجعت مريمعليها‌السلام من الصحراء إلى المدينة وقد احتضنت طفلها( فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ ) فلمّا رأوا طفلا حديث الولادة بين يديها فغروا أفواههم تعجبا ، فقد كانوا يعرفون ماضي مريم الطاهر ، وكانوا قد سمعوا بتقواها وكرامتها ، فقلقوا لذلك بشدّة ، حيث وقع شك بعضهم وتعجّل آخرون في القضاء والحكم

٤٣٥

وأطلق العنان للسانه في توبيخها وملامتها ، وقالوا : إن من المؤسف هذا الانحدار مع ذلك الماضي المضيء ، ومع الأسف على تلوّث سمعه تلك الأسرة الطاهرة( قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا ) (١) .

والبعض الآخر واجهها ، بالقول :( يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ) فمع وجود مثل هذا الأب والأم الطاهرين ، ما هذا الوضع الذي نراك عليه؟ فأي سوء رأيت في سلوك الأب وخلق الأم حتى تحيدي عن هذا الطريق؟

قولهم لمريم :( يا أُخْتَ هارُونَ ) وقع مثار الاختلاف بين المفسّرين ، لكن يبدو أنّ الأصح هو أنّ هارون رجل طاهر صالح إلى الدرجة التي يضرب به المثل بين بني إسرائيل ، فإذا أرادوا أن يصفوا شخصا بالطهارة والنزاهة ، كانوا يقولون : إنّه أخو أو أخت هارون ، وقد نقل العلّامة الطبرسي في مجمع البيان هذا المعنى في حديث قصير عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) .

وفي حديث آخر ورد كتاب سعد السعود ، عن المغيرة ، أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعثه إلى نجران لدعوتهم الى الإسلام فقالوا (معترضين على القرآن) : ألستم تقرؤون( يا أُخْتَ هارُونَ ) وبينهما كذا وكذا» (حيث تصوروا أنّ المراد هو هارون أخو موسى) فلمّا لم يستطع المغيرة جوابهم ذكر ذلك للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «ألا قلت لهم : إنّهم كانوا يسمّون بأنبيائهم والصالحين منهم»(٣) أي ينسبون الأشخاص الصالحين منهم الى الأنبياء.

في هذه الساعة ، سكتت مريم بأمر الله ، والعمل الوحيد الذي قامت به ، هو أنّها أشارت إلى وليدها( فَأَشارَتْ إِلَيْهِ ) . إلّا أنّ هذا العمل جعل هؤلاء يتعجبون

__________________

(١) «فريا» بناء على قول الراغب في المفردات ـ جاءت بمعنى العظيم أو العجيب ، وفي الأصل من مادة فري، أي قص وقطع الجلد إمّا لإصلاحه أو إفساده.

(٢) نور الثقلين ، الجزء ٣ ، ص ٣٣٣.

(٣) المصدر السّابق.

٤٣٦

أكثر ، وربما حمل بعضها على السخرية ، ثمّ غضبوا فقالوا : مع قيامك بهذا العمل تسخرين من قومك أيضا؟( قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ) .

لقد بحث المفسّرون هنا وتناقشوا كثيرا في شأن كلمة «كان» الدالة على الماضي ، إلّا أنّ الظاهر هو أن هذه الكلمة تشير هنا إلى ثبوت ولزوم وصف موجود ، وبتعبير أوضح:إنّ هؤلاء قالوا لمريم : كيف نكلم طفلا كان ولا يزال في المهد؟

والشاهد على هذا المعنى آيات أخرى من القرآن ، مثل( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) سورة آل عمران ، فمن المسلم أن «كنتم» لا تعني الماضي هنا ، بل هي بيان لثبوت واستمرار هذه الصفات للمجتمع الإسلامي.

وكذلك بحثوا حول «المهد» ، فإنّ عيسى لم يكن قد وضع في المهد ، بل إنّ ظاهر الآيات هو أن مريم بمجرّد أن حضرت بين الناس ، وفي الوقت الذي كان عيسى على يديها، جرى هذا الحوار بينها وبينهم.

إلّا أنّ الالتفات إلى معنى كلمة «المهد» في لغة العرب سيوضح جواب هذا السؤال، فإنّ كلمة المهد تعني ـ كما يقول الراغب في مفرداته ـ المكان الذي يهيئونه للطفل ، سواء كان المهد ، أو حجر الأم ، أو الفراش ، والمهد والمهاد ورد كلاهما في اللغة بمعنى:المكان الممهد الموطأ ، أي : للاستراحة والنوم.

على كل حال ، فإنّ الناس قلقوا واضطربوا من سماع كلام مريم هذا ، بل وربما غضبوا وقالوا لبعضهم البعض ـ حسب بعض الرّوايات ـ : إنّ استهزاءها وسخريتها أشدّ علينا من انحرافها عن جادة العفة!

إلّا أنّ هذه الحالة لم تدم طويلا ، لأن ذلك الطفل الذي ولد حديثا قد فتح فاه وتكلم :( قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ ) ، ومفيدا من كل الجهات للعباد( وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا ) .

٤٣٧

وكذلك جعلني مطيعا ووفيا لأمي( وَبَرًّا بِوالِدَتِي ) (١) ( وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا ) .

كلمة «جبار» تطلق على الشخص الذي يعتقد بأنّ له كل الحق على الناس ولا يعتقد بأنّ لأحد عليه حقا.

وكذلك يطلقونها على الذي يضرب الناس ويقتلهم إذا غضب ، ولا يتبع ما يأمر به العقل ، أو أنّه يريد أن يسد نقصه ويغطيه بادعاء العظمة والتكبر ، وهذه كلها صفات بارزة للطواغيت المستكبرين في كل زمان(٢) .

و «الشقي» تقال للشخص الذي يهيء أسباب البلاء والعقاب لنفسه ، وبعضهم فسر ذلك بالذي لا يقبل النصيحة ، ومن المعلوم أن هذين المعنيين لا ينفصلان عن بضعهما.

ونقرأ في رواية ، أن عيسىعليه‌السلام يقول «قلبي رقيق وأنا صغير في نفسي»(٣) وهو إشارة إلى أن هذين الوصفين يقعان في مقابل الجبار والشقي.

وفي النهاية يقول هذا المولود ـ أي المسيح ـ( وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ) وكما قلنا في شرح الآيات المتعلقة بيحيىعليه‌السلام ، فإنّ هذه الأيّام الثلاثة في حياة الإنسان أيّام مصيرية خطرة ، لا تتيسر السلامة فيها إلّا بلطف الله ، ولذلك جاءت هذه الآية في حق يحيىعليه‌السلام كما وردت في شأن المسيحعليه‌السلام ، مع الاختلاف بأنّ الله هو الذي قالها في المورد الأوّل ، أمّا في المورد الثّاني فإنّ المسيح قد طلب ذلك.

* * *

__________________

(١) البر ـ بالفتح ـ بمعنى الشخص المحسن ، في حين أن البر ـ بالكسر ـ بمعنى صفة الإنسان ، وينبغي الالتفات إلى أن هذه الكلمة في الآية عطف على (مباركا) لا على الصلاة والزكاة ، والمعنى في الواقع : جعلني برا بوالدتي.

(٢) لزيادة التوضيح حول (جبار) ، وجواب هذا السؤال ، وهو أنّه كيف تكون إحدى صفات الله سبحانه أنّه جبار؟يراجع ذيل الآية (٥٩) من سورة هود من هذا التّفسير.

(٣) تفسير الفخر الرازي ، آخر الآية.

٤٣٨

بحوث

١ ـ أوضح تصوير عن ولادة عيسىعليه‌السلام

يمكن إدراك فصاحة وبلاغة القرآن الكريم ، وخاصّة في مثل هذه الموارد ، وذلك عند ملاحظة طريقة طرحه لمسألة مهمّة اختلطت بكل تلك الخرافات ، في عبارات قصيرة وعميقة، وحية ، وغنية المحتوى ، وناطقة تماما ، بحيث تطرح جانبا كل أنواع الخرافات.

الملفت للنظر أنّ الآيات المذكورة ذكرت «سبع صفات» ممتازة و «برنامجان» و «دعاء واحد».

فالصفات السبعة عبارة عن كونه «عبدا لله» وذكرها في بداية كل الصفات إشارة إلى أن أعلى وأكبر مقام يصله الإنسان هو مقام العبودية.

وبعد ذلك ، كونه «صاحب كتاب سماوي» ثمّ «مقام النبوة» (مع العلم أن مقام النبوة لا يقترن دائما بالمجيء بكتاب سماوي).

وبعد مقام العبودية والإرشاد ، ذكر كونه «مباركا» أي مفيدا لوضع المجتمع ، وفي حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام نقرأ أن معنى المبارك : «النفّاع» ، أي كثير المنفعة.

ثمّ ذكرت الآيات كونه «بارا بأمه» وفي النهاية أنّه «لم يكن جبارا شقيا» بل كان متواضعا ، عارفا بالحق ، وسعيدا.

ومن بين جميع البرنامج الالهي للإنسان تؤكّد الآية على وصية الله سبحانه بالصلاة والزكاة ، وذلك للأهمية الفائقة لهذين الأمرين ، لأنّهما رمز الارتباط بالخالق والخلق ، ويمكن تلخيص كل البرامج والأهداف الدينية والمذهبية فيهما ، لأن أحدهما يشخصّ ارتباط الإنسان بالخلق ، والآخر يشخصّ ارتباطه بالخالق.

وأمّا الدعاء الذي دعاه لنفسه ، ويرجوه فيه من ربّه في بداية عمره ، فهو أن يجعل هذه الأيّام الثلاثة سلاما عليه : يوم الولادة ، ويوم الموت ، واليوم الذي

٤٣٩

يبعث فيه ، وأن يمن عليه في هذه المراحل الثلاثة بالشعور بالأمن والطمأنينة!

٢ ـ منزلة الأم

بالرغم من أنّ المسيحعليه‌السلام قد ولد بأمر الله النافذ من امرأة بدون زوج ، إلّا أنّ ما نقرأه في الآيات ـ محل البحث ـ عن لسانه ، والذي يعدّ فيه «ضمن تعداده لميزاته وأوسمته» برّه بأمه ، دليل واضح على أهمية مقام الأم ، وهي توضح بصورة ضمنية أنّ هذا الطفل الصغير ـ الذي نطق بالإعجاز ـ كان عالما ومطلعا على أنّه ولد نموذجي بين البشر، وأنّه ولد من أمه فقط دون أن يكون للأب دخل في تكونه وولادته.

وعلى كل حال ، فبالرغم من أنّ ثقافة العصر الحاضر فيها الكثير من الحديث عن مقام ومكانة الأم ، حتى أنّه خصص يوما وسمي ب (يوم الأم) ، إلّا أن التطور الآلي ـ وللأسف الشديد ـ يقطع بسرعة علاقة الآباء والأمهات بالأولاد بحيث يلاحظ ضعف الروابط العاطفية بين هؤلاء في السنين المتقدمة من أعمارهم.

ولدينا في الإسلام روايات تثير العجب والحيرة في هذا الباب ، توصي المسلمين بالأم وتشيد بمكانتها الفائقة الأهمية ، وتأمرهم أن يسعوا عمليا ـ وليس في الكلام وحسب ـ في برّ الوالدين ، فنطالع في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «إن رجلا أتى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : يا رسول الله ، من أبرّ؟ قال : أمك ، قال : ثمّ من؟ قال : أمك ، قال : ثمّ من؟قال : أمك ، قال : ثمّ من؟ قال : أباك»(١) !

وفي حديث آخر : أن رجلا أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للجهاد ـ حيث لم يكن الجهاد واجبا عينيا ـ فقال : «ألك والدة»؟ قال : نعم ، قال : «فألزمها فإنّ الجنّة تحت قدمها»(٢) .

__________________

(١) وسائل الشيعة ، الجزء ١٥ ، ص ٢٠٧.

(٢) جامع السعادات ، ج ٢ ، ص ٢٦١.

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576