الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 576

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 576 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 264195 / تحميل: 11782
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

بأنّنا سنذهب إلى مكّة هذا العام ، بل في المستقبل القريب. (وهذا ما حصل بالفعل).

الاعتراض الذي يمكن أن يرد على هذا التّفسير ، هو أنّ سورة بني إسرائيل من السور المكّية ، بينما حادثة الحديبية وقعت في العام السّادس للهجرة المباركة!!

ج : مجموعة من المفسّرين الشيعة والسنة ، نقلوا أنّ هذه الرؤيا إشارة للحادثة المعروفة والتي رأى فيها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المنام أن عددا من القرود تصعد منبره وتنزل منه (تنزو على منبرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) ، وقد حزنصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كثيرا لهذا الأمر بحيث لم ير ضاحكا من بعدها إلّا قليلا (وقد تمّ تفسير هذه القرود التي تنزو على منبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببني أمية الذين جلسوا مكان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الواحد تلو الآخر ، يقلّد بعضهم بعضا ، وكانوا ممسوخي الشخصية ، وقد جلبوا الفساد للحكومة الإسلامية ، وخلافة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ).

ونقل هذه الرّواية (الفخر الرازي) في التّفسير الكبير ، و (القرطبي) في تفسيره الجامع و (الطبرسي) في مجمع البيان ، وغيرهم.

ويقول الفيض الكاشاني في تفسير الصافي ، بأنّ هذه الرّواية من الرّوايات المعروفة في أوساط العامّة والخاصّة.

ثمة إشارة نلاحظ فيها ، إنّ التفاسير الثلاثة هذه في «الرؤيا» من الممكن أن تشترك جميعا في تفسير الآية ، ولكن التّفسير الثّاني كما أشرنا ـ لا ينطبق مع مكّية السورة. وبالنسبة للمقصود من الشجرة الملعونة فقد واجهتنا أيضا مجموعة من التفاسير التي يمكن أن نجمل القول بها في الآراء الآتية :

أ: الشجرة الملعونة التي ورد ذكرها في القرآن هي (شجرة الزقوم) وهي الشّجرة التي تنمو في الجحيم طبقا للآية (٦٤) من سورة الصافات في قوله تعالى( إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ ) ولهذه الشجرة طعم مج ومؤذ ، وثمارها طعام

٤١

للمذنبين طبقا للآيات ٤٣ ـ ٤٦ من سورة الدخان( إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ ، طَعامُ الْأَثِيمِ ، كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ ، كَغَلْيِ الْحَمِيمِ ) وطعامها ليس كطعام الدنيا بل يشبه المعدن المذاب بالحرارة والذي يغلي في الأحشاء. وسيرد تفسيرها بشكل كامل في تفسير الآيات من سورة الدخان إن شاء الله.

إنّ شجرة الزقوم ـ بدون شك ـ لا تشبه أشجار الدنيا أبدا ، ولهذا السبب فإنّها تنمو في النار ، وطبيعي أنّنا لا ندرك هذه الأمور المتعلقة بالعالم الآخر إلّا على شكل أشباح وتصورات ذهنية.

لقد استهزأ المشركون بهذه التعابير والأوصاف القرآنية بسبب من جهلهم وعدم معرفتهم وعنادهم ، فأبو جهل ـ مثلا ـ كان يقول : إنّ محمّدا يهددكم بنار تحرق الأحجار، ثمّ يقول بعد ذلك بأنّ في النار أشجارا تنمو!

وينقل عن أبي جهل ـ أيضا ـ أنّه كان يهيئ التمر والسمن ويأكل منه ثمّ يقول لأصحابه : كلوا من هذا فإنّه الزقوم. (نقلا عن روح المعاني في تفسير الآية).

لهذا السبب فإنّ القرآن يعتبر الشجرة الملعونة في الآيات التي نبحثها ، وسيلة لاختبار الناس ، إذ كان المشركون يستهزئون بها ، بينما استيقنها المؤمنون الحقيقيون الذين كانوا يؤمنون بها.

ويمكن أن يطرح على هذا التّفسير السؤال الآتي : إنّ شجرة الزقوم لم تطرح في القرآن بعنوان الشجرة المعلونة؟

في الإجابة على ذلك نقول : يمكن أن يكون المقصود هو اللعن آكليها. بالإضافة إلى ذلك إنّه ما من شيء بعد رحمة الله سوى اللعن ، وطبيعي جدا أنّ مثل هذه الشجرة بعيدة جدّا عن رحمة الله.

ب : الشجرة الملعونة ، هم اليهود البغاة ، إذ أنّهم يشبهون الشجرة ذات الفروع والأوراق الكثيرة ، ولكنّهم مطرودون من مقام الرحمة الإلهية.

ج : جاء في الكثير من تفاسير الشيعة والسنة أنّ الشجرة الملعونة هم بنو

٤٢

أمية.

ينقل الفخر الرازي في تفسيره رواية في هذا المجال عن ابن عباس الذي أدرك الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واشتهر في التاريخ الإسلامي بكونه مفسرا للقرآن الكريم.

هذا التّفسير يتلاءم من جهة مع الرّواية التي ذكرناها أعلاه بخصوص رؤيا الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو أيضا يتلاءم مع الحديث المنقول عن عائشة والتي التفتت فيه إلى مروان وقالت له : «لعن الله أباك وأنت في صلبه ، فأنت بعض من لعنه الله»(١) .

ولكن مرّة أخرى يطرح هذا السؤال : في أي مكان من القرآن تمّ لعن بني أمية باعتبارهم الشجرة الخبيثة؟

في الجواب نقول : لقد تمّ ذلك في الآية (٢٦) من سورة إبراهيم عند الحديث عن الشجرة الخبيثة( وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ ) . وذلك للمفهوم الواسع للشجرة الخبيثة ، ولما ورد من روايات في تفسيرها بأنّ المقصود منها هم بنو أميّة ، ثمّ إنّ (الخبيثة) تقترن من حيث المعنى ب (الملعونة)(٢) .

وجدير بالذكر هنا ، أنّ الكثير من هذه التّفاسير أو كلّها لا تتعارض فيما بينها ، ومن الممكن أن تكون (الشجرة الملعونة) في القرآن إشارة إلى أي مجموعة منافقة وخبيثة ومطرودة من رحمة الله تعالى ومقام الربوبية ، خصوصا تلك المجاميع مثل بني أمية واليهود قساة القلب ، والمعاندين وكل الذين يسيرون على خطاهم. وشجرة الزقوم في القيامة تمثل الأشجار الخبيثة في العالم الآخر ، وكل هذه الأشجار الخبيثة (المجاميع المعنية) هي لاختبار وتمحيص المؤمنين الصادقين في الحياة الدنيا.

إنّ اليهود الذين سيطروا اليوم ـ زورا وغصبا ـ على المقدسات الإسلامية

__________________

(١) تفسير القرطبي ، المجلد السّادس ، ص ٣٩٠٢ ؛ وتفسير الفخر الرازي ، المجلد ٢٠ ، ص ٢٣٧.

(٢) يراجع تفسير نور الثقلين ، المجلد الثاني ، ص ٥٣٨.

٤٣

والذين يشعلون نار الفتنة والحرب في كل زاوية من زوايا العالم ، ويفتعلون العديد من الجرائم والمظالم بحق الشعوب ، إضافة إلى المنافقين الذين يتعاملون معهم تعاملا سياسيا وغير سياسي، وكذلك كل المتسلطين الذين يسيرون على خطى بني أمية في البلاد الإسلامية ، ويقفون ضدّ الإسلام ، ويبعدون المخلصين والمؤمنين من حركه المجتمع ، ويقومون بتسليط المجرمين والخبثاء على رقاب الناس ، ويقتلون أهل الحق والمجاهدين ، ويفتحون المجال لبقايا الجاهلية في استلام الأمور والتحكّم بالمقدرات إنّ هؤلاء جميعا هم فروع وأغصان وأوراق هذه الشجرة الخبيثة المعلونة ، وهم علامات اختبار ومواقع امتحان للمؤمنين ولعامّة الناس في هذه الحياة الدنيا.

٢ ـ أعذار منكري الإعجاز

إنّ بعض الجهلة والغافلين في عصرنا الحاضر ، يقولون : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم تكن لديه من معجزة سوى القرآن الكريم ، ويقدمون مختلف الحجج من أجل إثبات أقوالهم ودعاواهم ، وممّا يحتجون به قوله تعالى :( وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ ) حيث يعتبرونها دليلا على أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يأت بمعجزة ، بخلاف باقي الأنبياء السابقين.

ولكن العجيب في أمر هؤلاء أنّهم التزموا بأوّل الآية وتركوا آخرها ، حيث تقول نهاية الآية( وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً ) هذا التعبير القرآني يوضح أنّ المعجزات تقع على نوعين :

القسم الأوّل : المعجزات التي لها ضرورة لإثبات صدق دعوة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتشوق المؤمنين ، وتخوّف المنكرين للنّبوة.

القسم الثّاني : المعجزات التي لها جانب اقتراحي ، أي إنّها تصدر من اقتراحات المعاندين وتنطلق من أمزجة ذوي الأعذار ، وفي تأريخ الأنبياء

٤٤

نماذج عديدة لهذه المعجزات ، التي وقع بعضها فعلا ، إلّا أنّ المنكرين والذين سبق لهم اقتراح هذه المعجزات كشرط لإيمانهم ، بقوا على إنكارهم ولم يؤمنوا بعد وقوع المعجزة ، لذلك أصيبوا بالبلاء والعذاب الإلهي. (لأنّه وقعت المعجزة المقترحة ولم يؤمن بها من اقترحها وطلبها فإنّه سيستحق العقاب الإلهي السريع).

بناء على ذلك ، فما نشاهده في الآية أعلاه والتي تخص الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما هي نفي للنوع الثّاني من المعجزات ، وليس للنوع الأوّل ، الذي يعتبر ملازما للنّبوة وضروريا لها.

صحيح أنّ القرآن يعتبر لوحده معجزة خالدة ، ويمكنه لوحده اثبات دعوى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (إذا لم تكن معه معجزة أخرى) ، ولكن ـ بدون شك ـ فإنّ القرآن يعتبر معجزة معنوية ، وهو أفضل شاهد بالنسبة لأهل الفكر ، ولكن لا يمكن إنكار أهمية أن تكون مع هذه المعجزة ، معجزات مادية محسوسة بالنسبة للأفراد العاديين وعموم الناس ، خاصّة وأن القرآن يتحدث مرارا عن مثل هذه المعجزات التي وقعت للأنبياء السابقين ، وهذا الحديث يعتبر ـ بحدّ ذاته ـ سببا في أن يطالب الناس رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتقديم المعجزات التي تقع على منوال معجزات الأنبياء السابقين ، خصوصا وأنّ الناس كانوا يقولون لرسول الإسلام : كيف تدعي بأنّك أفضل الأنبياء وخاتمهم ولا تستطيع أن تقدّم لنا أصغر معجزة من معجزاتهم. (!!!)؟

إنّ أفضل جواب لهذا التساؤل هو مجيء رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنماذج من معجزات الأنبياء السابقين ، والتواريخ الإسلامية المتواترة تؤكّد بأنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد جاء بمثل هذه المعجزات.

ففي القرآن تواجهنا نماذج لهذه المعجزات ، مثل التنبؤ بحوادث مختلفة ، أو نصرة الملائكة لجيش الإسلام على الأعداء ، وأمور خارقة أخرى لا سيما ما كان يقع في الحروب الإسلامية.

٤٥

٣ ـ ما العلاقة بين المنكرين سابقا والمنكرين لا حقا؟

قد يطرح أحيانا هذا السؤال حيث يبيّن القرآن ـ في الآيات أعلاه ـ أنّ السابقين اقترحوا معجزات معيّنة ثمّ لم يؤمنوا بعد وقوعها ، بل استمروا في تكذيبهم وإنكارهم وعنادهم، لذا فقد أصبح هذا سببا لعدم إجابة مقترحاتكم.

والسؤال هنا : هل أنّ تكذيب السابقين يكون سببا لحرمان الأجيال اللاحقة ، أي كيف يؤخذ هؤلاء بجريرة أولئك؟

الجواب على هذا السؤال واضح من خلال ما ذكرناه أعلاه ، حيث يسود هذا التعبير ويروج في أوساطنا ، إذ نقول ـ مثلا ـ لأحدهم : لا نستطيع أن نسلّم بحججك ، فإذا سأل الطرف الآخر : لماذا؟ فإنّنا نقول له : إنّ هناك سوابق كثيرة لهذا العمل ، فهناك من قدّم اقتراحات إلّا أنّهم لم يستسلموا للحق لما جاءهم ، لذا فإنّ وضعكم وظروفكم تشابه أولئك. إضافة لذلك ، فإنّكم توافقون أولئك الأقوام على أساليبهم ، بل وتدعمونها ، وأثبتم عمليا أنّكم لا ترغبون في البحث عن الحق والحقيقة ، بل إنّ هدفكم هو مجرّد العناد والتحجج والبقاء في طور المعاذير ، ثمّ تتبعون ذلك كلّه بالعناد والمكابرة والإنكار ، لذا فإنّ الرضوخ إلى مقترحاتكم وإجابتها لا معنى له.

فهؤلاء القوم ـ مثلا ـ عند ما أخبرهم الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ أهل النّار يأكلون من شجرة تسمّى (زقوم) وتخرج في أصل الجحيم ولها أوصاف معينة ، بدأوا بالسخرية والاستهزاء ـ كما ذكرنا سابقا ـ فالبعض منهم كان يقول : إنّ الزقوم هو التمر والسمن ، وبعض كان يقول : كيف تنمو الأشجار في الجحيم المستعر من الحجارة؟ في حين أن المعنى واضح ولا يحتاج إلى مثل هذه المكابرة والعناد ، إذ أنّ الشجرة المقصودة لا تشبه أشجار هذه الدنيا.

* * *

٤٦

الآيات

( وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (٦١) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (٦٢) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (٦٣) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (٦٤) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (٦٥) )

التّفسير

مكر إبليس :

هذه الآيات تشير إلى قضية امتناع إبليس عن إطاعة أمر الله في السجود لآدمعليه‌السلام ،والعاقبة السيئة التي انتهى إليها.

إنّ طرح هذه القضية بعد ما ذكر عن المشركين المعاندين هو إشارة ـ في

٤٧

الواقع ـ إلى أنّ الشيطان يعتبر نموذجا كاملا للاستكبار والكفر والعصيان. ثمّ انظروا إلى أين وصلت عاقبته ، لذا فإنّ من يتبعه سيصير إلى نفس العاقبة.

إضافة إلى ذلك ، فإنّ إصرار الضالين عميان القلوب على مخالفة الحق ، لا يعتبر مدعاة للعجب والدهشة ، لأنّ الشيطان استطاع ـ وفقا لما يستفاد من هذه الآيات ـ أن يغويهم بواسطة عدّة طرق ، وفي الواقع حقق فيهم قولته( لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) .

الآية تقول :( وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ ) . لقد قلنا سابقا في نهاية الآيات الخاصّة بخلق آدمعليه‌السلام : إنّ هذه السجدة التي أمر الله تعالى بها هي في الحقيقة نوع من الخضوع والتواضع بسبب عظمة خلق آدمعليه‌السلام وتميزه عن سائر الموجودات ، أو هي سجود للخالق جلّ وعلا في قبال خلقه لهذا المخلوق المتميز.

وقلنا هناك أيضا : إنّ إبليس وبرغم ذكره هنا ـ استثناء ـ مع الملائكة ، إلّا أنّه ـ بشهادة القرآن ـ لم يكن من الملائكة ، بل كان مخلوقا ماديا ومن الجن ، وقد أصبح في صف الملائكة بسبب عبادته لله.

على كل حال ، فقد سيطر الكبر والغرور على إبليس وتحكّمت الأنانية في عقله ، ظنا منه بأنّ التراب والطين اللذان يعتبران مصدرا لكل الخيرات ومنبعا للحياة أقل شأنا وأهمية عن النّار ، لذا اعترض على الخالق جلّ وعلا وقال :( قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً ) .

ولكنّه عند ما طرد ـ إلى الأبد ـ من حضرة الساحة الإلهية بسبب استكباره وطغيانه في مقابل أمر الله له ، قال :( قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً ) .(١)

__________________

(١) ذهب المفسّرين إلى إنّ حرف الكاف في كلمة (أرأيتك) زائد ، أو هو حرف للخطاب وقد جاء للتأكيد ، وجملة

٤٨

«أحتنكن» مشتقّة من «احتناك» وهي تعني قطع جذور شيء ما ، لذا فعند ما يأكل الجراد المزروعات تقول العرب : احتنك الجراد الزرع ، لذا فإنّ هذا القول يشير إلى أن إبليس سيحرف كل بني آدم عن طريق الله وطاعته ، إلّا القليل منهم.

ويحتمل أن تكون كلمة (احتنكن) مشتقة من (حنك) وهي المنطقة التي تحت البلعوم ، فعند ما يوضع الحبل في رقبة الحيوان تقول العرب (احتنك الدابة) ، وفي الواقع ، فإنّ الشيطان يريد أن يقول بأنّه سيضع حبل الوسوسة في أعناق الناس ويجرهم إلى طريق الغواية والضلال.

وهكذا كان ، فقد أعطي الشيطان إمكانية البقاء والفعالية حتى يتحقق الاختبار للجميع ، ويكون وجوده سببا لتمحيص واختبار المؤمنين الحقيقيين لأنّ الإنسان يشتدّ عزمه عند ما تهاجمه الحوادث ويقوى عوده في مواجهة الأعداء ، لذلك قالت الآية :( قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً ) . وبهذه الوسيلة للاختبار ينكشف الفاشل من الناجح في الامتحان الإلهي الكبير.

ثمّ ذكرت الآيات بعد ذلك ـ بأسلوب جميل ـ الطرق التي ينفذ منها الشيطان والأساليب التي يستخدمها في الوسوسة والإغواء فقالت :

( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ .)

( وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ .)

( وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ .)

( وَعِدْهُمْ .)

ثمّ يجيء التحذير الإلهي :( وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً .)

__________________

(أرأيتك) بمعنى (أخبرني) جوابها محذوف وتقديرها (أخبرني عن هذا الذي كرمته عليّ ، لم كرمته عليّ وقد خلقتني من نار؟). ولكن هناك احتمال آخر ، وهو أنّ (أرأيت) هي في نفس معناها الأصلي ولا يوجد محذوف في الجملة ، وبشكل عام تعطي هذا المعنى : هل لاحظت هذا الموجود الذي فضلته عليّ ، فإذا أبقيتني على قيد الحياة سترى بأنّي سأضل أكثر أبنائه. (احتمال الثّاني أوفق في تركيب الآية ومعناها).

٤٩

ثمّ اعلم أيّها الشيطان :( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً ) .

* * *

بحوث

١ ـ في معاني الكلمات

«استفزز» مشتقة من «استفزاز» وهي تعني الإثارة ؛ الإثارة السريعة والعادية ، ولكنّ الكلمة في الأصل تعني قطع شيء ما ، فالعرب تقول «تفزّز الثوب» إذا تقطّع أو انفصلت منه قطعة.

واستعمال هذه الكلمة هنا للدلالة على تحريك الشخص وإثارته لينقطع عن الحق يتوجه نحو الباطل.

«اجلب» مأخوذ من «إجلاب» وفي الأصل من «جلبة» وهي تعني الصرخة الشديدة ، والإجلاب تعني الطرد مع الأصوات والصرخات. وأمّا النهي عن «الجلب» الوارد في الرّوايات فهو إمّا أن يعني أنّ الذي يذهب إلى المزارع لجمع الزكاة يجب عليه أن لا يصيح ويصرخ بحيث يخيف الأحياء ، أو أنّه يعني أنّ على المتسابقين عند سباق الخيل أن لا يصرخوا في وجوه الخيل الأخرى لتكون لهم الأسبقية.

«خيل» لها معنيان ، فهي تعني «الخيول» وأيضا تعني (الخيالة) ، أمّا في هذه الآية فقد وردت للتدليل على المعنى الثّاني.

أمّا «رجل» فهي تعني معكوس (الخيالة) أي (جيش الرجّالة والمشاة) وبهذا يتكون جيش الشيطان من (الخيالة والرجّالة) من جنسه أو من غير جنسه ، وهذا يعني أنّ البعض يتأثر بسرعة بغواية الشيطان ويصبح من أعوانه ومساعديه

٥٠

فهؤلاء كالخيّالة. أمّا البعض الآخر فيتأثر ببطء وعلى مهل كالمشاة والرجّالة(١) !

٢ ـ وسائل الشيطان المختلفة في الوسوسة والإغواء

بالرغم من أنّ المخاطب في الآيات أعلاه هو الشيطان ، وأنّ الله جلّ جلاله يتوعده ويقول له : افعل كل ما تريده في سبيل غواية الناس ، واستخدم كل طرقك في ذلك ، إلّا أنّ هذا الوعيد ـ في الواقع ـ هو تهديد وتنبيه لنا نحن بني الإنسان حتى نعرف الطرق التي ينفذ منها الشيطان والوسائل التي يستخدمها في وساوسه وإغوائه.

الطريف في الأمر أنّ الآيات القرآنية أعلاه تشير إلى أربعة طرق وأساليب مهمّة وأساسية من أساليب الشيطان ، وتقول للإنسان : عليك بمراقبة نفسك من خلال الجوانب الأربعة هذه :

أ: البرامج التبليغية التي تجد دلالتها في التعبير القرآني( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ) حيث اعتبر بعض المفسّرين أنّها تعني ـ فقط ـ أنغام الموسيقي الشهوانية المثيرة ، والأغاني المبتذلة ، ولكن هذا المعنى يتسع حتى يشمل جميع البرامج الدعائية التي تقود للانحراف والتي تستخدم ـ عادة ـ الأجهزة الصوتية والسمعية.

لهذا فإنّ أوّل برامج الشيطان هو الاستفادة من هذه الأجهزة. هذه القضية تتوضح في زماننا هذا أكثر ، لأنّ عالمنا اليوم هو عالم الأمواج الراديوية ، وعالم الدعاية والتبليغ الواسع ، سواء كان على الصعيد السمعي أو البصري. حيث أنّ الشياطين وأحزابهم في الشرق والغرب يعتمدون على هذه الأجهزة ويخصصون قسما كبيرا من ميزانيتهم للصرف في هذا الطريق حتى يستعمروا عبيد الله ، ويحرفوهم عن طريق الحق والاستقلال ، ويزيغوا بهم عن طريق الهداية والإيمان

__________________

(١) في معاني المفردات تراجع مفردات الراغب ، ومجمع البيان.

٥١

والتقوى ، ويجعلون منهم عبيدا تابعين لا حول لهم ولا قوة.

ب : الاستفادة من القوة العسكرية : وهذا لا يخص زماننا حيث أنّ الشياطين يستخدمون القوّة العسكرية لأجل الحصول على مناطق للنفوذ. إنّ الأداة العسكرية تعتبر أداة خطرة لكل الظالمين والمستكبرين في العالم. فهؤلاء وفي لحظة واحدة يصرخون في قواتهم العسكرية ويرسلونها إلى المناطق التي تحاول الحصول على حريتها واستقلالها وتسعى إلى الاعتماد بقوات على قدراتها الخاصّة.

وفي عصرنا الحاضر نرى أنّهم نظّموا ما يسمونه بقوات (التدخل السريع) والذي هو نفس مفهوم (الإجلاب) القرآني ، وهذا يعني أنّهم جعلوا جزءا من قواتهم العسكرية على شكل قوات خاصّة كي يستطيعوا إرسالها في أسرع وقت إلى أي منطقة من مناطق العالم تتعرض فيها مصالحهم غير المشروعة للخطر ، لكي يقضوا بواسطة هذه القوات على أي حركة تطالب بالحق وتنادي بالاستقلال.

وقبل أن تصل القوات السريعة الخاصّة هذه ، يكون هؤلاء قد هيأوا الأرضية بواسطة جواسيسهم الماهرين ، والذين هم في الواقع كناية عن جيش المشاة (الرجّالة).

إنّ هؤلاء في مخططاتهم هذه قد غفلوا عن أنّ الله سبحانه وتعالى قد وعد أولياءه الحقيقيين ـ في نفس هذه الآيات ـ بأنّ الشيطان وجيشه لا يستطيع أن يسيطر عليهم.

ج : البرامج الاقتصادية ذات الظاهر الإنساني : من أساليب الشيطان الأخرى المؤثرة في النفوذ والغواية ، هي المشاركة في الأموال والأنفس ، وهنا نرى أيضا : أنّ بعض المفسّرين يخصص هذه المشاركة ب (الربا). أمّا المشاركة في الأولاد فيحصر معناها بـ «الأولاد غير الشرعين»(١) .

__________________

(١) وردت روايات متعدّدة في أنّ مشاركة الشيطان في الأولاد تعني الأبناء غير الشرعيين ، أو المنعقدة نطفتهم من مال حرام ، أو انعقاد النطفة في لحظة غفلة الوالدين عن الخالق ، ولكن ـ كما قلنا مرّات ـ إنّ هذه التفاسير تبيّن جانبا من المصداق الواضح وهي ليست دليلا على حصر المعنى. (راجع تفسير نور الثقلين ، المجلد الثّالث ، صفحة ١٨٤).

٥٢

في حين أنّ هاتين الكلمتين لهما معاني أوسع ، إذ تشمل جميع الأموال المستحصلة عن طريق الحرام ، والأبناء غير الشرعيين وغيرهم. فمثلا في زماننا الحاضر نشاهد أنّ الشياطين المستكبرين يقترحون دائما استثمار وتأسيس الشركات ، وإيجاد مختلف المصانع والمصالح الاقتصادية في الدول الضعيفة ، وتحت غطاء هذه الشركات تتم مختلف أشكال النشاطات الخطرة والضارّة بالبلد المستضعف ، حيث يرسل الشياطين جواسيسهم تحت عنوان خبراء فنيين أو مستشارين اقتصاديين أو مهندسين تقنيين ، ويقوم هؤلاء جميعا بامتصاص خيرات البلد الذين هم فيه بأبرع الحيل وأظرفها ، ويقفون حائلا بين البلد وبين تحقيقه لاستقلاله الاقتصادي على بنية اقتصادية تحتية حقيقية.

وعن طريق تأسيس المدارس والجامعات والمكتبات والمستشفيات والمراكز السياحية ، فإنّهم يشاركون هذه الدول الضعيفة في أبنائها حيث يحاولون أن يستميلوا هؤلاء نحوهم ، وأحيانا عن طريق توفير (المنح الدراسية) لشباب ، فإنّهم يقومون (بجلبهم) نحو ثقافتهم ويشاركونهم في أفكارهم ، وما يترتب على ذلك من فساد العقيدة.

ومن الأساليب الرائجة والمخربة لهؤلاء الشياطين إيجاد مراكز الفساد تحت غطاء الفنادق العالمية وإيجاد المناطق الترفيهية ودور السينما والافلام المبتذلة وأمثال ذلك ، حيث لا تكون هذه الوسائل أدوات لترويج الفحشاء وزيادة أولاد الزنا فحسب ، بل تؤدي إلى انحراف جيل الشباب وتميّعهم وتغرّبهم ، وتصنع منهم أشخاصا فاقدين للإرادة. وكلما أمعنا النظر في دسائسهم ومكرهم تكشفت لنا الأخطار الكبيرة الكامنة في هذه الوساوس الشيطانية.

د : برامج التخريب النفسي : من البرامج الأخرى التي يتبعها الشياطين ،

٥٣

الاستفادة من الوعود والأمنيات الكاذبة التي يطلقونها بمختلف الحيل ، فهؤلاء الشياطين يعدّون مجموعة ماهرة ومتمكنة من علماء النفس لغواية الناس البسطاء منهم والأذكياء ، كلا بما يناسب وضعه ، ففي بعض الأحيان يصورون لهم حالهم بأنّهم سيصبحون قريبا من الدول المتمدنة والكبيرة ، أو أنّ شبابهم لا مثيل له ، ويستطيع الشباب في بلدانهم أن يصل من خلال إتباعه برامجهم إلى أوج العظمة ، وهكذا في بلدانهم يغرقوهم في هذه الخيالات الواهية التي تتلخّص في جملة( وَعِدْهُمْ ) .

في أحيان أخرى يسلك الشياطين طريقا معكوسة ، إذ يصوّرون للبلد بأنّه لا يستطيع مطلقا مواجهة القوى الكبرى ، وأنّهم متأخرون عن هذه القوى بمائة عام أو أكثر ، وبهذا الأسلوب تزرع المبررات النفسية لاستمرار التخلف وعدم انطلاق جهود البلد الضعيف نحو العمل والبناء الحقيقي.

بالطبع هذه القصّة لها بدايات بعيدة ، وطرق نفوذ الشيطان فيها لا تنحصر بواحد أو اثنتين.

ولكنّ (عباد الله) الحقيقيين والمخلصين ، وبالاتكاء على الوعد القرآني القاطع بالنصر ، والذي تضمنته هذه الآيات ، سيقومون بمحاربة الشياطين ولا يسمحون بالتردد يساور أنفسهم ، وهم يعلمون ـ برغم الأصوات الكثيرة للشياطين ـ أنّهم سينتصرون ، وإنّهم بصبرهم وصمودهم وبإيمانهم وتوكلهم على الله سوف يفشلون الخطط الشيطانية ، وذلك قوله تعالى :( وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً ) .

٣ ـ أمّا لماذا خلق الله الشيطان؟ فقد بحثنا ذلك في الآية (٣٩) من سورة البقرة. وفيما يخص وساوس الشيطان وأشكالها ولبوساتها ، ومعنى الشيطان في القرآن ، فقد بحثنا كل ذلك في ذيل الآية (١٣) من سورة الأعراف. والآية (٣٩) من سورة البقرة من هذا التّفسير.

* * *

٥٤

الآيات

( رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٦٦) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (٦٧) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (٦٨) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (٦٩) )

التّفسير

لماذا الكفران مع كلّ هذه النعم؟

هذه الآيات تابعت البحوث السابقة في مجال التوحيد ومحاربة الشرك ، ودخلت في البحث من خلال طريقين مختلفين ، هما : طريق الاستدلال والبرهان ، وطريق الوجدان ومخاطبة الإنسان من الداخل.

ففي البداية تشير الآية إلى التوحيد الاستدلالي فتقول :( رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي

٥٥

لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ ) .

طبعا هناك أنظمة لأجل حركة الفلك في البحار ، فمن جانب ينبغي وجود الماء بشكل يصلح لمسير السفن ، ومن جانب آخر لا بدّ من توفر بعض الأشياء التي تكون أخف من الماء كي يمكن لها أن تطفو على سطحه ، وإذا كانت أثقل فيمكن صناعتها بشكل بحيث تكون أخف من الماء وتستطيع أن تتحمّل وزن الأحمال الثقيلة والأعداد الكثيرة من البشر. ومن جانب ثالث يلزم وجود القوّة المحرّكة والّتي كان الهواء يمثلها في السابق ، حيث كان البحّارة يستفيدون من حركة التيارات الهوائية فوق المحيطات والبحار لتحديد أوقات وسرعة واتجاه السفن ، واليوم يستفاد من طاقة البخار وأشكال الطاقة الأخرى في حركة السفن.

من جانب آخر ينبغي وجود أسلوب لتحديد الطرق ، وهذا الأسلوب كان سابقا يعتمد على الشمس والنجوم في السماء ، أمّا اليوم فإنّ السفن تستفيد من البوصلات والخرائط والإحداثيات الدقيقة. على أي حال ، إذا لم تتوافر هذه الشروط الأربعة ولم يكن ثمّة تنسيق بينها فإنّ حركة السفن تصبح أمرا مستحيلا ، ولا يكون الإنسان قادرا على الاستفادة من هذه الوسيلة المهمّة.

تعلمون ـ طبعا ـ بأنّ السفن تعتبر أضخم وسيلة لحمل الإنسان ، واليوم فإنّ هناك من السفن العملاقة ما يكون بعضها بمساحة مدينة صغيرة.

ثمّ يضيف تعالى :( لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ) . حتى تساعدكم في أسفاركم ونقل أموالكم وتجارتكم وتعينكم في كل ما يخص أمور دنياكم ودينكم. أمّا لماذا؟ فلأنّ الله تبارك وتعالى( إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً ) .

من هذا التوحيد الاستدلالى والذي يعكس جانبا صغيرا من نظام الخلق ، وعلم وقدرة وحكمة الخالق جلّ وعلا ، تنتقل الآية إلى أسلوب الاستدلال الفطري فتقول : لا تنسوا( وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ ) .

أن يضل أي شيء من دون الله ، لأنّ ضرر البحر إذا وقع ، كالطوفان وغيره

٥٦

يذهب بكل الحواجز وأستار التقليد والتعصّب اللاصقة على صفاء الفطرة الإنسانية،لينكشف نور الفطرة الذي هو نور التوحيد والإيمان والعبودية لله دون غيره.

نعم في هذه اللحظات ، في لحظات الضرّ ينقطع الإنسان عن جميع المعبودات التصورية والوهمية والخيالية التي سبق وأن أعطاها قوّة بسبب أوهامه ، وتمحى من ذهنه فاعليتها ووجودها وتتلاشى وتذوب تماما كما يذوب الجليد في شمس الصيف ولا يبقى حين ذاك سوى نور الأنوار نور الله جلّ جلاله.

إنّ الآية تعبّر عن قانون عام ، عرفه كلّ من جرّب ذلك ، حيث تؤدي المشاكل والصعوبات الحادة التي يمرّ بها الإنسان ـ ويصل السكين العظم ـ إلى الغاء كل الأسباب الظاهرية التي كان يتعلق بها الإنسان ، وتنعدم فاعلية العلل المادية التي كان يتشبث بها ، وتنقطع كل الأسباب ، إلّا السبب الذي يصل الإنسان بمصدر العلم والقدرة المطلقتين ، والذي هو ـ لوحده سبحانه وتعالى ـ قادر على حال أعقد المشكلات ليس مهمّا هنا ما الذي نسمّي فيه هذه الحالة ، وإنّما المهم أنّ نعلم أن قلب الإنسان في هذه الحالة ينفتح على الأمل بالخلاص ، وتغمر القلب بنور خاص لطيف. وهذه المنعطفات هي واحدة من أقرب الطرق إلى الله ، إنّها طريق ينبع من داخل الروح ومن سويداء القلب.(١)

ثمّ تضيف الآية :( فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً ) .

مرّة أخرى تغطي حجب الغرور والغفلة والتعصب هذا النور الإلهي ، ويغطي غبار العصيان والذنوب وملاهي الحياة المادية فطرة الإنسان ووجدانه.

ولكن هل تظنون أنّ الله لا يستطيع أن ينزل بكم عقابه الشديد وأنتم على

__________________

(١) طالع الشّرح الكامل للتوحيد الفطري في كتاب (خالق العالم) ، ولا حظه أيضا في نهاية الآية (١٤) من سورة النحل حيث أشرنا إلى هذه المسألة.

٥٧

اليابسة وفي قلب الحصاري والبراري؟

لذلك تقول الآية( أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ ) ثمّ أضافت :( أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً ) ، حيث تغشيكم عاصفة محمّلة بالحصى والحجارة وتدفنكم تحتها ولا تجدون من ينقذكم منها (وفي ذلك من العذاب ما هو أشدّ من الغرق في البحر).

إنّ المتجولين في الصحاري وأهل البوادي يدركون أكثر من غيرهم رهبة هذا التهديد الرّباني والوعيد القرآني ، إذ يعرفون كيف تؤدي ثورة الكثبان الرملية في الصحراء إلى دفع الرمال والأحجار إلى غير مواقعها لتشكّل تلالا تدفن في ثناياها وبطونها قوافل الجمال ومن عليها.

بعد ذلك تضيف الآية مذكّرة أمثال هؤلاء بأنّكم هل تظنون أنّ هذه هي المرّة الأخيرة التي تحتاجون فيها إلى السفر في البحر :( أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً ) ، أي لا أحد حينئذ يطالب بدمكم ويثأر لكم منّا.

* * *

بحوث

١ ـ الشّخصية المتقلّبة

إنّ الكثير من الناس لا يذكرون الله إلّا عند بروز المشاكل. وينسونه في الرخاء ، إنّ نسيان الله في حياة هؤلاء هو القاعدة والأصل ، أي أنّه صار طبيعة ، ثانية لهؤلاء ، لذا فإنّ ذكر الله بالنسبة لهؤلاء والالتفات إلى وقائع الحياة الحقّة تعتبر حالة استثنائية في وجودهم ، تحتاج في حضورها إلى عوامل إضافية ، فما دامت هذه العوامل الإضافية موجودة فهم يذكرون الله ، أمّا إذا زالت فسوف يرجعون إلى طبيعتهم المنحرفة وينسون الله.

٥٨

والخلاصة ، أنّنا لا نجد من الناس بصورة عامّة من لا يلجأ إلى الله ولا يخضع له عند ما تضغطه المشاكل الحادّة والصعبة ، ولكن ينبغي أن نعرف أن الوعي وذكر الله تعالى في مثل هذه الظروف في مثل هذه والذي نستطيع أن نصفه بالوعي الإجباري ، هو وعي عديم الفائدة.

إنّ المؤمنين والمسلمين الحقيقيين ، يذكرون الله في الراحة والبلاء والسلامة والمرض والفقر والغنى ، في السجن وعلى كرسي الحكم ، وفي أي وضع كان. إنّ تغيير الأوضاع وتبدّل الحالات لا يغيّر هؤلاء. إنّ أرواحهم كبيرة بحيث تستوعب كل هذه الأمور ، مثلهم في ذلك علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، حيث كانت عبادته وزهده ومتابعته لأمور الفقراء لا تختلف عند وجوده في السلطة ، أو عند ما كان جليس بيته.

أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام ـ يقول في وصف المتقين : «نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالتي نزلت في الرخاء»(١) .

وخلاصة القول : إنّ الإيمان والارتباط بالله وعبادته والتوسل به والتوبة إليه والتسليم له سبحانه وتعالى ، كل هذه الأمور تكون مهمّة وثمينة وذات أثر عند ما تكون دائمية وثابتة ، أمّا الإيمان الموسمي والتوبة والعبادات الموسمية ، والتي تفرضها حالات خاصّة يمرّ بها الإنسان ويبغي من خلالها جلب بعض المنافع له ، فليس لها أثر ولا قيمة. والآيات القرآنية توبخ أمثال هؤلاء الأشخاص دائما.

٢ ـ لا يمكن الهروب من حكومة الله

البعض يتوجه إلى الله (مثل عبدة الأصنام في الجاهلية) عند ما يكون في وسط البحر أو عند ما يكون على هاوية السقوط والخطر أو في حال مرض

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة رقم ١٩٣.

٥٩

شديد ، في حين أنّنا إذا فكّرنا بشكل صحيح نرى أنّ الإنسان معرض للخطر والضرر في كل الأزمنة والحالات والأوقات ، فالبحر والبر والصحراء والمرض والهاوية وغيرها ، هي في الواقع متساوية الخطورة. إنّ هزة أرضية واحدة يمكنها أن تدمّر بيتنا الآمن الهاديء ، وإنّ تخثرا بسيطا في الدم يمكنه أن يغلق مسير الدم في الشريان الأبهر فيؤثر على القلب أو على الدماغ فتحدث السكتة القلبية أو الدماغية ، وبعد ثانية واحدة يكون الموت هو المصير المحتوم. مع وجود كل هذه الأمور نعلم أنّ الغفلة عن الله تعالى كم هي مجانبة للصواب!!

قد يقوم هنا أنصار نظرية تعليل الإيمان ـ والدين بشكل عام ـ على أساس الخوف، بتبرير هذه الحالة بقولهم : طالما أنّ الخوف في الإنسان غريزي وفطري ، فإنّ خوفه من العوامل الطبيعية يجعل الإنسان يتوجه نحو الخالق. ومثل هذه الحالات والأوضاع التي تحدثت عنها الآيات تدعم هذا التصوّر وتعضده.

الآيات القرآنية أجابت على هذه الأوهام ، إذ أبانت أنّ القرآن لم يجعل ـ أبدا ـ معرفة الخالق قائمة على هذه الأمور ، بل إنّ الأساس هو قراءة في نظام الكون والوجود ومعرفة الله تعالى من خلال هذا الخلق. وحتى في الآيات أعلاه نرى أنّها ذكرت أوّلا الإيمان الاستدلالي قبل ذكر التوحيد والإيمان الفطري ، وفي الواقع فإنّها تعتبر هذه الحوادث بمثابة تذكير بالخالق لا من أجل معرفته ، إذ أن معرفته لطلاب الحق تتوضح من خلال أسلوب الاستدلال وعن طريق الفطرة.

ثالثا : معاني الكلمات

«يزجي» مأخوذة من «إزجاء» وهي تعني تحريك شيء ما بشكل مستمر.

«حاصب» تعني الهواء الذي يحرّك معه الأحجار الصغيرة ثمّ تضرب الواحدة بعد الأخرى مكانا معينا ، وهي مشتقّة أصلا من (حصباء) التي تعني الأحجار

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

من طرق أهل السنّة عن ابن عبّاس.

قوله: إنّ إبراهيم نظر إلى جيفة إلى قوله فقال: يا ربّ أرني الخ، بيان للشبهة الّتي دعته إلى السؤال وهى تفرّق أجزاء الجسد بعد الموت تفرّقاً يؤدّي إلى تغيّرها وانتقالها إلى أمكنة وحالات متنوّعة لا يبقى معها من الأصل شئ.

فإن قلت: ظاهر الرواية: أنّ الشبهة كانت هي شبهة الآكل والمأكول، حيث اشتملت على وثوب بعضها على بعض، وأكل بعضها بعضاً، ثمّ فرّعت على ذلك تعجّب إبراهيم وسؤاله.

قلت: الشبهة شبهتان - إحداهما - تفرّق أجزاء الجسد وفناء أصلها من الصور والأعراض وبالجملة عدم بقائها حتّى تتميّز وتركبها الحياة - وثانيتهما - صيرورة أجزاء بعض الحيوان جزء من بدن بعض آخر فيؤدّي إلى استحالة إحياء الحيوانين ببدنيهما تامّين معاً لأنّ المفروض أنّ بعض بدن أحدهما بعينه بعض لبدن الآخر، فكلّ واحد منهما اُعيد تامّاً بقي الآخر ناقصاً لا يقبل الإعادة، وهذه هي شبهة الآكل والمأكول.

وما أجاب الله سبحانه به - وهو تبعيّة البدن للروح - وإن كان وافياً لدفع الشبهتين جميعاً، إلّا أنّ الّذي أمر به إبراهيم على ما تحكيه الآية لا يتضمّن مادّة شبهة الآكل والمأكول، وهو أكل بعض الحيوان بعضاً، بل إنّما تشتمل على تفرّق الأجزاء واختلاطها وتغيّر صورها وحالاتها، وهذه مادّة الشبهة الاُولى، فالآية إنّما تتعرّض لدفعها وإن كانت الشبهتان مشتركتين في الاندفاع بما اُجيب به في الآية كما مرّ، وما اشتملت عليه الرواية من أكل البعض للبعض غير مقصود في تفسير الآية.

قولهعليه‌السلام فأخذ إبراهيم الطاووس والديك والحمام والغراب، وفي بعض الروايات أنّ الطيور كانت هي النسر والبطّ والطاووس والديك، رواه الصدوق في العيون عن الرضاعليه‌السلام ونقل عن مجاهد وابن جريح وعطاء وابن زيد، وفي بعضها أنّها الهدهد والصرد والطاووس والغراب، رواه العيّاشيّ عن صالح بن سهل عن الصادقعليه‌السلام وفي بعضها: أنّها النعامة والطاووس والوزّة والديك، رواه العيّاشيّ عن معروف بن خرّبوذ

٤٠١

عن الباقرعليه‌السلام ونقل عن ابن عبّاس، وروي من طرق أهل السنّة عن ابن عبّاس أيضاً: أنّها الغرنوق والطاووس والديك والحمامة، والّذي تشترك فيه جميع الروايات والأقوال: الطاووس.

قولهعليه‌السلام : وفرّقهن على عشرة جبال، كون الجبال عشرة ممّا اتّفقت عليه الأخبار المأثورة عن أئمّة أهل البيت وقيل إنّها كانت أربعة وقيل سبعة.

وفي العيون مسنداً عن عليّ بن محمّد بن الجهم قال حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا عليّ بن موسى فقال له المأمون: يا بن رسول الله أليس من قولك: إنّ الأنبياء معصومون؟ قال: بلى فسأله عن آيات من القرآن، فكان فيما سأله أن قال له فأخبرني عن قول الله: ربّ أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي، قال الرضا: إنّ الله تبارك وتعالى كان أوحى إلى إبراهيم: أنّي متّخذ من عبادي خليلاً إن سألني إحياء الموتى أجبته فوقع في قلب إبراهيم أنّه ذلك الخليل فقال: ربّ أرني كيف تحيي الموتى؟ قال أو لم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي بالخلّة، الحديث.

اقول: وقد تقدّم في أخبار جنّة آدم كلام في عليّ بن محمّد بن الجهم وفي هذه الرواية الّتي رواها عن الرضاعليه‌السلام فارجع.

واعلم: أنّ الرواية لا تخلو عن دلالة ما على أنّ مقام الخلّة يستلزم استجابة الدعاء، واللفظ يساعد عليه فإنّ الخلّة هي الحاجة، والخليل إنّما يسمّى خليلاً لأنّ الصداقة إذا كملت رفع الصديق حوائجة إلى صديقه، ولا معنى لرفعها مع عدم الكفاية والقضاء.

٤٠٢

( سورة البقرة آية ٢٦١ - ٢٧٤)

مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( ٢٦١ ) الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( ٢٦٢ ) قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ( ٢٦٣ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ( ٢٦٤ ) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( ٢٦٥ ) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ( ٢٦٦ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ( ٢٦٧ ) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( ٢٦٨ ) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو

٤٠٣

الْأَلْبَابِ ( ٢٦٩ ) وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ( ٢٧٠ ) إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( ٢٧١ ) لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ( ٢٧٢ ) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ( ٢٧٣ ) الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( ٢٧٤ )

( بيان)

سياق الآيات من حيث اتّحادها في بيان أمر الإنفاق، ورجوع مضامينها وأغراضها بعضها إلى بعض يعطي أنّها نزلت دفعة واحدة، وهي تحثّ المؤمنين على الإنفاق في سبيل الله تعالى، فتضرب أوّلاً مثلاً لزيادته ونموّه عند الله سبحانه: واحد بسبعمائة، وربّما زاد على ذلك بإذن الله، وثانياً مثلاً لكونه لا يتخلّف عن شأنه على أيّ حال وتنهى عن الرياء في الإنفاق وتضرب مثلاً للإنفاق ريائاً لا لوجه الله، وأنّه لا ينمو نمائاً ولا يثمر أثراً، وتنهي عن الإنفاق بالمنّ والأذى إذ يبطلان أثره ويحبطان عظيم أجره، ثمّ تأمر بأن يكون الإنفاق من طيّب المال لامن خبيثه بخلاً وشحّاً، ثمّ تعيّن المورد الّذي توضع فيه هذه الصنيعة وهو الفقراء المحضرون في سبيل الله، ثمّ تذكر ما لهذا الإنفاق من عظيم الأجر عند الله.

٤٠٤

وبالجملة الآيات تدعو إلى الإنفاق، وتبيّن أوّلاً وجهه وغرضه وهو أن يكون لله لا للناس، وثانياً صورة عمله وكيفيّته وهو أن لا يتعقّبه المنّ والأذى، وثالثاً وصف مال الإنفاق وهو أن يكون طيّباً لا خبيثاً، ورابعاً نعت مورد الإنفاق وهو أن يكون فقيراً اُحصر في سبيل الله، وخامساً ما له من عظيم الأجر عاجلاً وآجلاً.

( كلام في الإنفاق)

الإنفاق من أعظم ما يهتمّ بأمره الإسلام في أحد ركنيه وهو حقوق الناس وقد توسّل إليه بأنحاء التوسّل إيجاباً وندباً من طريق الزكاة والخمس والكفّارات الماليّة وأقسام الفدية والإنفاقات الواجبة والصدقات المندوبة، ومن طريق الوقف والسكنى والعمرى والوصايا والهبة وغير ذلك.

وإنّما يريد بذلك ارتفاع سطح معيشة الطبقة السافلة الّتي لا تستطيع رفع حوائج الحياة من غير إمداد ماليّ من غيرهم، ليقرب اُفقهم من اًفق أهل النعمة والثروة، ومن جانب آخر قد منع من تظاهر أهل الطبقة العالية بالجمال والزينة في مظاهر الحياة بما لا يقرب من المعروف ولا تناله أيدي النمط الأوسط من الناس، بالنهي عن الإسراف والتبذير ونحو ذلك.

وكان الغرض من ذلك كلّه ايجاد حياة نوعيّة متوسّطة متقرّبة الأجزاء متشابهة الأبعاض، تحيى ناموس الوحدة والمعاضدة، وتميت الإرادات المتضادّة وأضغان القلوب ومنابت الأحقاد، فإنّ القرآن يرى أنّ شأن الدين الحقّ هو تنظيم الحياة بشؤونها، وترتيبها ترتيباً يتضمّن سعادة الإنسان في العاجل والآجل، ويعيش به الإنسان في معارف حقّة، وأخلاق فاضلة، وعيشة طيّبة يتنعّم فيها بما أنعم الله عليه من النعم في الدنيا، ويدفع بها عن نفسه المكاره والنوائب ونواقص المادّة.

ولا يتمّ ذلك إلّا بالحياة الطيّبة النوعيّة المتشابهة في طيبها وصفائها، ولا يكون ذلك إلّا بإصلاح حال النوع برفع حوائجها في الحياة، ولا يكمل ذلك إلّا بالجهات

٤٠٥

الماليّة والثروة والقنية، والطريق إلى ذلك إنفاق الأفراد ممّا اقتنوه بكدّ اليمين وعرق الجبين، فإنّما المؤمنون إخوة، والأرض لله، والمال ماله.

وهذه حقيقة أثبتت السيرة النبويّة على سائرها أفضل التحيّة صحّتها واستقامتها في القرار والنماء والنتيجة في برهة من الزمان وهي زمان حياتهعليه‌السلام ونفوذ أمره.

وهي الّتي يتأسّف عليها ويشكو انحراف مجراها أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام إذ يقول: وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلّا إدباراً، والشرّ فيه إلّا إقبالاً، والشيطان في هلاك الناس إلّا طمعاً، فهذا أو ان قويت عدّته وعمّت مكيدته - وأمكنت فريسته، اضرب بطرفك حيث شئت هل تبصر إلّا فقيراً يكايد فقراً؟ أو غنيّاً بدّل نعمة الله كفراً؟ أو بخيلاً اتّخذ البخل بحقّ الله وفراً أو متمرّداً كأنّ باذنه عن سمع المواعظ وقراً؟ (نهج البلاغة).

وقد كشف توالي الأيّام عن صدق القرآن في نظريّته هذه - وهي تقريب الطبقات بإمداد الدانية بالإنفاق ومنع العالية عن الإتراف والتظاهر بالجمال - حيث إنّ الناس بعد ظهور المدنيّة الغربيّة استرسلوا في الإخلاد إلى الأرض، والإفراط في استقصاء المشتهيات الحيوانيّة واستيفاء الهوسات النفسانيّة، وأعدّوا له ما استطاعوا من قوّة، فأوجب ذلك عكوف الثروة وصفوة لذائذ الحياة على أبواب اُولي القوّة والثروة، ولم يبق بأيدي النمط الأسفل إلّا الحرمان، ولم يزل النمط الأعلى يأكل بعضه بعضاً حتّى تفرّد بسعادة الحياة المادّيّة نزر قليل من الناس وسلب حقّ الحياة من الأكثرين وهم سواد الناس، وأثار ذلك جميع الرذائل الخلقيّة من الطرفين، كلّ يعمل على شاكلته لا يبقي ولا يذر، فأنتج ذلك التقابل بين الطائفتين، واشتباك النزاع والنزال بين الفريقين، والتفاني بين الغنيّ والفقير والمنعم والمحروم والواجد والفاقد، ونشبت الحرب العالميّة الكبرى، وظهرت الشيوعيّة، وهجرت الحقيقة والفضيلة وارتحلت السكن والطمأنينة وطيب الحياة من بين النوع وهذا ما نشاهده اليوم من فساد العالم الإنسانيّ، وما يهدّد النوع بما يستقبله أعظم وأفظع.

ومن أعظم العوامل في هذا الفساد انسداد باب الإنفاق وانفتاح أبواب الرباء الّذي

٤٠٦

سيشرح الله تعالى أمره الفظيع في سبع آيات تالية لهذه الآيات أعني آيات الإنفاق ويذكر أنّ في رواجه فساد الدنيا وهو من ملاحم القرآن الكريم، وقد كان جنيناً أيّام نزول القرآن فوضعته حامل الدنيا في هذه الأيّام.

وإن شئت تصديق ما ذكرناه فتدبّر فيما ذكره سبحانه في سورة الروم إذ قال:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ - إلى ان قال -فَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ - إلى أن قال -ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ) الآيات الروم - ٣٠ - ٤٣، وللآيات نظائر في سور هود ويونس والإسراء والأنبياء وغيرها تنبئ عن هذا الشأن، سيأتي بيانها إنشاء الله.

وبالجملة هذا هو السبب فيما يترآئى من هذه الآيات أعني آيات الإنفاق من الحثّ الشديد والتأكيد البالغ في أمره.

قوله تعالى: ( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ ) الخ، المراد بسبيل الله كلّ أمر ينتهي إلى مرضاته سبحانه لغرض دينيّ فعل الفعل لأجله، فإنّ الكلمة في الآية مطلقة، وإن كانت الآية مسبوقة بآيات ذكر فيها القتال في سبيل الله، وكانت كلمة، في سبيل الله، مقارنة للجهاد في غير واحد من الآيات، فإنّ ذلك لا يوجب التخصيص وهو ظاهر.

وقد ذكروا أنّ قوله تعالى: كمثل حبّة أنبتت الخ، على تقدير قولنا كمثل من

٤٠٧

زرع حبّة أنبتت الخ فإنّ الحبّة المنبتة لسبع سنابل مثل المال الّذي اُنفق في سبيل الله لا مثل من أنفق وهو ظاهر.

وهذا الكلام وإن كان وجيهاً في نفسه لكنّ التدبّر يعطي خلاف ذلك فإنّ جلّ الأمثال المضروبة في القرآن حالها هذا الحال فهو صناعة شائعه في القرآن كقوله تعالى:( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ) البقرة - ١٧١، فإنّه مثل من يدعو الكفّار لامثل الكفّار، وقوله تعالى:( نَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ ) الآية يونس - ٢٤، وقوله تعالى:( مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ ) النور - ٣٥، وقوله تعالى في الآيات التالية لهذه الآية: فمثله كمثل صفوان الآية: وقوله تعالى: مثل الّذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنّة بربوة الآية إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة.

وهذه الأمثال المضروبة في الآيات تشترك جميعاً في أنّها اقتصر فيها على مادّة التمثيل الّذي يتقوّم بها المثل مع الإعراض عن باقي أجزاء الكلام للإيجاز.

توضيحه: أنّ المثل في الحقيقة قصّة محقّقة أو مفروضة مشابهة لاُخرى في جهاتها يؤتي بها لينتقل ذهن المخاطب من تصوّرها إلى كمال تصوّر الممثّل كقولهم: لا ناقة لي ولا جمل، وقولهم: في الصيف ضيّعت اللبن من الأمثال الّتي لها قصص محقّقة يقصد بالتمثيل تذكّر السامع لها وتطبيقها لمورد الكلام للاستيضاح، ولذا قيل: إنّ الأمثال لا تتغيّر، وكقولنا: مثل الّذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل من زرع حبّة أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مأة حبّة، وهي قصّة مفروضة خياليّة.

والمعنى الّذي يشتمل عليه المثل ويكون هو الميزان الّذي يوزن به حال الممثّل ربّما كان تمام القصّة الّتي هي المثل كما في قوله تعالى:( وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ) الآية إبراهيم - ٢٦، وقوله تعالى:( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ) الجمعة - ٥، وربّما كان بعض القصّة ممّا يتقوّم به غرض التمثيل وهو الّذي نسمّيه مادّة التمثيل، وإنّما جئ بالبعض الآخر لتتميم القصّة كما في المثال الأخير (مثال الإنفاق والحبّة) فإنّ مادّة التمثيل إنّما هي

٤٠٨

الحبة المنبتة لسبعمأة حبّة وإنّما ضممنا إليها الّذي زرع لتتميم القصّة.

وما كان من أمثال القرآن مادّة التمثيل فيه تمام المثل فإنّه وضع على ما هو عليه، وما كان منها مادّة التمثيل فيه بعض القصّة فإنّه اقتصر على مادّة التمثيل فوضعت موضع تمام القصّة لأنّ الغرض من التمثيل حاصل بذلك، على ما فيه من تنشيط ذهن السامع بفقده أمراً و وجدانه أمراً آخر مقامه يفي بالغرض منه، فهو هو بوجه وليس به بوجه، فهذا من الإيجاز بالقلب على وجه لطيف يستعمله القرآن.

قوله تعالى: ( أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ) ، السنبل معروف وهو على فنعل، قيل الأصل في معنى مادّته الستر سمّي به لأنّه يستر الحبّات الّتي تشتمل عليها في الأغلفة.

ومن أسخف الإشكال ما اُورد على الآية أنّه تمثيل بما لا تحقّق له في الخارج وهو اشتمال السنبلة على مأة حبّة، وفيه أنّ المثل كما عرفت لا يشترط فيه تحقّق مضمونة في الخارج فالأمثال التخيّليّة أكثر من أن تعدّ وتحصى، على أنّ اشتمال السنبلة على مأة حبّة وإنبات الحبّة الواحدة سبعمأة حبّة ليس بعزيز الوجود.

قوله تعالى: ( وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ، أي يزيد على سبعمأة لمن يشاء فهو الواسع لا مانع من جوده ولا محدّد لفضله كما قال تعالى:( مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ) البقرة - ٢٤٥، فأطلق الكثرة ولم يقيّدها بعدد معيّن.

وقيل: إنّ معناه أنّ الله يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء فالمضاعفة إلى سبعمأة ضعف غاية ما تدلّ عليه الآية، وفيه أنّ الجملة على هذا يقع موقع التعليل، وحقّ الكلام فيه حينئذ أن يصدّر بإنّ كقوله تعالى:( اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ) المؤمن - ٦١، وأمثال ذلك.

ولم يقيّد ما ضربه الله من المثل بالآخرة بل الكلام مطلق يشمل الدنيا كالآخرة وهو كذلك والاعتبار يساعده، فالمنفق بشئ من ماله وإن كان يخطر بباله ابتدائاً أنّ المال قد فات عنه ولم يخلّف بدلاً، لكنّه لو تأمّل قليلاً وجد أنّ المجتمع الإنسانيّ

٤٠٩

بمنزلة شخص واحد ذو أعضاء مختلفة بحسب الأسماء والأشكال لكنّها جميعاً متّحدة في غرض الحياة، مرتبطة من حيث الأثر والفائدة، فإذا فقد واحد منها نعمة الصحّة والاستقامة، وعىّ في فعله أوجب ذلك كلال الجميع في فعلها، وخسرانها في أغراضها فالعين واليد وإن كانا عضوين اثنين من حيث الاسم والفعل ظاهراً، لكنّ الخلقة إنّما جهّز الإنسان بالبصر ليميّز به الأشياء ضوئاً ولوناً وقرباً وبعداً فتتناول اليد ما يجب أن يجلبه الإنسان لنفسه، وتدفع ما يجب أن يدفعه عن نفسه، فإذا سقطت اليد عن التأثير وجب أن يتدارك الإنسان ما يفوته من عامّة فوائدها بسائر أعضائه فيقاسي أوّلاً كدّاً وتعباً لا يتحمّل عادة، وينقص من أفعال سائر الأعضاء بمقدار ما يستعملها في موضع العضو الساقط عن التأثير، وأمّا لو أصلح حال يده الفاسدة بفضل ما ادّخره لبعض الأعضاء الاُخر كان في ذلك إصلاح حال الجميع، وعاد إليه من الفائدة الحقيقيّة أضعاف ما فاته من الفضل المفيد أضعافاً ربّما زاد على المآت والاُلوف بما يورث من إصلاح حال الغير، ودفع الرذائل الّتي يمكّنها الفقر والحاجة في نفسه، وإيجاد المحبّة في قلبه، وحسن الذكر في لسانه، والنشاط في عمله، والمجتمع يربط جميع ذلك ويرجعه إلى المنفق لا محالة، ولا سيّما إذا كان الإنفاق لدفع الحوائج النوعيّة كالتعليم والتربية ونحو ذلك، فهذا حال الإنفاق.

وإذا كان الإنفاق في سبيل الله وابتغاء مرضات الله كان النماء والزيادة من لوازمه من غير تخلّف، فإنّ الإنفاق لو لم يكن لوجه الله لم يكن إلّا لفائدة عائدة إلى نفس المنفق كإنفاق الغنيّ للفقير لدفع شرّه، أو إنفاق المثري الموسر للمعسر ليدفع حاجته ويعتدل حال المجتمع فيصفو للمثري المنفق عيشه، وهذا نوع استخدام للفقير واستثمار منه لنفع نفسه، ربّما أورث في نفس الفقير أثراً سيّئاً، وربّما تراكمت الآثار وظهرت فكانت بلوى، لكنّ الإنفاق الّذي لايراد به إلّا وجه الله ولا يبتغي فيه إلّا مرضاته خال عن هذه النواقص لا يؤثّر إلّا الجميل ولا يتعقّبه إلّا الخير.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى ) الخ الإتباع اللحوق والإلحاق، قال تعالى:( فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ ) الشعراء - ٦١،

٤١٠

أي لحقوهم، وقال تعالى:( وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً ) القصص - ٤٢، أي ألحقناهم. والمنّ هو ذكر ما ينغّص المعروف كقول المنعم للمنعم عليه: أنعمت عليك بكذا وكذا ونحو ذلك، والأصل في معناه على ما قيل القطع، ومنه قوله تعالى:( لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) فصّلت - ٨، أي غير مقطوع، والأذى الضرر العاجل أو الضرر اليسير، والخوف توقّع الضرر، والحزن الغمّ الّذي يغلظ على النفس من مكروه واقع أو كالواقع.

قوله تعالى: ( قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ ) الخ المعروف من القول ما لا ينكره الناس بحسب العادة، ويختلف باختلاف الموارد، والأصل في معنى المغفرة هو الستر، والغنى مقابل الحاجة والفقر، والحلم السكوت عند المكروه من قول أو فعل.

وترجيح القول المعروف والمغفرة على صدقة يتبعها أذى ثمّ المقابلة يشهد بأنّ المراد بالقول المعروف الدعاء أو لفظ آخر جميل عند ردّ السائل إذا لم يتكلّم بما يسوء المسؤول عنه، والستر والصفح إذا شفّع سؤاله بما يسوئه وهما خير من صدقة يتبعها أذى، فإنّ أذى المنفق للمنفق عليه يدلّ على عظم إنفاقه والمال الّذي أنفقه في عينه، وتأثّره عمّا يسوئه من السؤال، وهما علّتان يجب أن تزاحا عن نفس المؤمن، فإنّ المؤمن متخلّق بأخلاق الله، والله سبحانه غنيّ لا يكبر عنده ما أنعم وجاد به، حليم لا يتعجّل في المؤاخذة على السيّئة، ولا يغضب عند كلّ جهالة، وهذا معنى ختم الآية بقوله: والله غنيّ حليم.

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم ) الخ تدلّ الآية على حبط الصدقة بلحوق المنّ والأذى، وربّما يستدلّ بها على حبط كلّ معصية أو الكبيرة خاصّة لما يسبقها من الطاعات، ولا دلالة في الآية على غير المنّ والأذى بالنسبة إلى الصدقة وقد تقدّم إشباع الكلام في الحبط.

قوله تعالى: ( كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) ، لمّا كان الخطاب للمؤمنين، والمرائي غير مؤمن كما ذكره الله سبحانه لأنّه لا يقصد بأعماله وجه الله لم يعلّق النهي بالرئاء كما علّقه على المنّ والأذى، بل إنّما شبّه المتصدّق الّذي يتبع صدقته بالمنّ والأذى بالمرائي في بطلان الصدقة، مع أنّ عمل المرائي

٤١١

باطل من رأس وعمل المانّ والمؤذي وقع أوّلاً صحيحاً ثمّ عرضه البطلان.

واتّحاد سياق الأفعال في قوله: ينفق ماله، وقوله: ولا يؤمن من دون أن يقال: ولم يؤمن يدلّ على أنّ المراد من عدم إيمان المرائي في الإنفاق بالله واليوم الآخر عدم إيمانه بدعوة الإنفاق الّذي يدعو إليها الله سبحانه، ويعد عليه جزيل الثواب، إذ لو كان يؤمن بالداعي في دعوته هذه، وبيوم القيامة الظاهر فيه الجزاء لقصد في فعله وجه الله، وأحبّ واختار جزيل الثواب، ولم يقصد به رئاء الناس، فليس المراد من عدم إيمان المرائي عدم إيمانه بالله سبحانه رأساً.

ويظهر من الآية: أنّ الرياء في عمل يستلزم عدم الإيمان بالله واليوم الآخر فيه.

قوله تعالى: ( فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ ) إلى آخر الآية، الضمير في قوله: فمثله راجع إلى الّذي ينفق ماله رئاء الناس والمثل له، والصفوان والصفا الحجر الأملس وكذا الصلد، والوابل: المطر الغزير الشديد الوقع.

والضمير في قوله: لا يقدرون راجع إلى الّذي ينفق رئائاً لأنّه في معنى الجمع، والجملة تبيّن وجه الشبه وهو الجامع بين المشبّه والمشبّه به، وقوله تعالى: والله لا يهدي القوم الكافرين بيان للحكم بوجه عامّ وهو أنّ المرائي في ريائه من مصاديق الكافر، والله لا يهدي القوم الكافرين، ولذلك أفاد معنى التعليل.

وخلاصة معنى المثل: أنّ حال المرائي في إنفاقه رئائاً وفي ترتّب الثواب عليه كحال الحجر الأملس الّذي عليه شئ من التراب إذا اُنزل عليه وابل المطر، فإنّ المطر وخاصّة وابله هو السبب البارز لحياة الأرض واخضرارها وتزيّنها بزينة النبات، إلّا أنّ التراب إذا وقع على الصفوان الصلد لا يستقرّ في مكانه عند نزول الوابل بل يغسله الوابل ويبقى الصلد الّذي لا يجذب الماء، ولا يتربّى فيه بذر لنبات، فالوابل وإن كان من أظهر أسباب الحياة والنمو وكذا التراب لكن كون المحلّ صلداً يبطل عمل هذين السببين من غير أن يكون النقص والقصور من جانبهما فهذا حال الصلد.

وهذا حال المرائي فإنّه لمّا لم يقصد من عمله وجه الله لم يترتّب على عمله ثواب

٤١٢

وإن كان العمل كالإنفاق في سبيل الله من الأسباب البارزة لترتّب الثواب، فإنّه مسلوب الاستعداد لا يقبل قلبه الرحمة والكرامة.

وقد ظهر من الآية: أنّ قبول العمل يحتاج إلى نيّة الإخلاص وقصد وجه الله، وقد روى الفريقان عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّه قال: إنّما الأعمال بالنيّات.

قوله تعالى: ( وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ ) ، ابتغاء المرضاة هو طلب الرضاء، ويعود إلى إرادة وجه الله، فإنّ وجه الشئ هو ما يواجهك ويستقبلك به، ووجهه تعالى بالنسبه إلى عبده الّذي أمره بشئ وأراده منه هو رضائه عن فعله وامتثاله، فإنّ الآمر يستقبل المأمور أوّلاً بالأمر فإذا امتثل استقبله بالرضاء عنه، فمرضات الله عن العبد المكلّف بتكليف هو وجهه إليه، فابتغاء مرضاة الله هو إرادة وجهه عزّوجلّ.

وأمّا قوله: وتثبيتاً من أنفسهم فقد قيل: إنّ المراد التصديق واليقين. وقيل: هو التثبّت أي يتثبّتون أين يضعون أموالهم، وقيل: هو التثبّت في الإنفاق فإن كان لله أمضى، وإن كان خالطه شئ من الرياء أمسك، وقيل: التثبيت توطين النفس على طاعة الله تعالى، وقيل: هو تمكين النفس في منازل الإيمان بتعويدها على بذل المال لوجه الله. وأنت خبير بأنّ شيئاً من الأقوال لا ينطبق على الآية إلّا بتكلّف.

والّذي ينبغي أن يقال - والله العالم - في المقام: هو أنّ الله سبحانه لمّا أطلق القول أوّلاً في مدح الإنفاق في سبيل الله، وأنّ له عند الله عظيم الأجر اعترضه أن استثنى منه نوعين من الإنفاق لا يرتضيهما الله سبحانه، ولا يترتّب عليهما الثواب، وهما الإنفاق ريائاً الموجب لعدم صحّة العمل من رأس والإنفاق الّذي يتبعه منّ أو أذى فإنّه يبطل بهما وإن انعقد أوّلاً صحيحاً، وليس يعرض البطلان. لهذين النوعين إلّا من جهة عدم ابتغاء مرضاة الله فيه من رأس، أو لزوال النفس عن هذه النيّة أعني ابتغاء المرضات ثانياً بعد ما كانت عليها أوّلاً، فأراد في هذه الآية بيان حال الخاصّة من أهل الإنفاق الخالصة بعد استثناء المرائين وأهل المنّ والأذى، وهم الّذين ينفقون أموالهم

٤١٣

ابتغاء وجه الله ثمّ يقرّون أنفسهم على الثبات على هذه النيّة الطاهرة النامية من غير أن يتبعوها بما يبطل العمل ويفسده.

ومن هنا يظهر أنّ المراد بابتغاء مرضاة الله أن لا يقصد بالعمل رئاء ونحوه ممّا يجعل النيّة غير خالصة لوجه الله، وبقوله تثبيتاً من أنفسهم تثبيت الإنسان نفسه على ما نواه من النيّة الخالصة، وهو تثبيت ناش من النفس واقع على النفس. فقوله تثبيتاً تميز وكلمة من نشويّة وقوله أنفسهم في معنى الفاعل، وما في معنى المفعول مقدّر. والتقدير تثبيتاً من أنفسهم لأنفسهم، أو مفعول مطلق لفعل من مادّته.

قوله تعالى: ( كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ ) إلى آخر الآية، الأصل في مادّة ربا الزيادة، والربوة بالحركات الثلاث في الراء الأرض الجيّدة الّتي تزيد وتعلو في نموّها، والاُكّل بضمّتين ما يؤكل من الشئ والواحدة أكلة، والطلّ أضعف المطر القليل الأثر.

والغرض من المثل أنّ الإنفاق الّذي اُريد به وجه الله لا يتخلّف عن أثرها الحسن البتّة، فإنّ العناية الإلهيّة واقعة عليه متعلّقة به لانحفاظ اتّصاله بالله سبحانه وإن كانت مراتب العناية مختلفة لاختلاف درجات النيّة في الخلوص، واختلاف وزن الأعمال باختلافها، كما أنّ الجنّة الّتي في الربوة إذا أصابها المطر لم تلبث دون أن تؤتي اُكلها إيتائاً جيّداً البتّة وإن كان إيتائها مختلفاً في الجودة باختلاف المطر النازل عليه من وابل وطلّ.

ولوجود هذا الاختلاف ذيّل الكلام بقوله: والله بما تعملون بصير أي لا يشتبه عليه أمر الثواب، ولا يختلط عليه ثواب الأعمال المختلفة فيعطي ثواب هذا لذاك وثواب ذاك لهذا.

قوله تعالى: ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ) الخ، الودّ هو الحبّ وفيه معنى التمنّي، والجنّة: الشجر الكثير الملتفّ كالبستان سمّيت بذلك لأنّها تجنّ الأرض وتسترها وتقيها من ضوء الشمس ونحوه، ولذلك صحّ أن يقال: تجري من تحتها الأنهار، ولو كانت هي الأرض بما لها من الشجر مثلاً لم يصحّ ذلك

٤١٤

لإفادته خلاف المقصود، ولذلك قال تعالى في مثل الربوة وهي الأرض المعمورة:( رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ) المؤمنون - ٥٠، وكرّر في كلامه قوله: جنّات تجري من تحتها الأنهار فجعل المعين (وهو الماء) فيها لاجارياً تحتها.

ومن في قوله: من نخيل وأعناب للتبيين ويفيد معنى الغلبة دون الاستيعاب، فإنّ الجنّة والبستان وما هو من هذا القبيل إنّما يضاف إلى الجنس الغالب فيقال جنّة العنب أو جنّة من أعناب إذا كان الغالب فيها الكرم وهي لا تخلو مع ذلك من شجر شتّى، ولذلك قال تعالى ثانياً: له فيها من كلّ الثمرات.

والكبر كبر السنّ وهو الشيخوخة، والذرّيّة الأولاد، والضعفاء جمع الضعيف، وقد جمع تعالى في المثل بين إصابة الكبر ووجود الذرّيّة الضعفاء لتثبيت مسيس الحاجة القطعيّة إلى الجنّة المذكورة مع فقدان باقي الأسباب الّتي يتوصّل إليها في حفظ سعادة الحياة وتأمين المعيشة، فإنّ صاحب الجنّة لو فرض شابّاً قويّاً لأمكنه أن يستريح إلى قوّة يمينه لو اُصيبت جنّته بمصيبة، ولو فرض شيخاً هرماً من غير ذرّيّة ضعفاء لم يسوء حاله تلك المسائة لأنّه لا يرى لنفسه إلّا أيّاماً قلائل لا يبطئ عليه زوالها وانقضائها، ولو فرض ذا كبر وله أولاد أقوياء يقدرون على العمل واكتساب المعيشة أمكنهم أن يقتاتوا بما يكتسبونه، وأن يستغنوا عنها بوجه! لكن إذا اجتمع هناك الكبر والذرّيّة الضعفاء، واحترقت الجنّة انقطعت الأسباب عنهم عند ذلك، فلا صاحب الجنّة يمكنه أن يعيد لنفسه الشباب والقوّة أو الأيّام الخالية حتّى يهيّئ لنفسه نظير ما كان قد هيّأها، ولا لذرّيّته قوّة على ذلك، ولا لهم رجاء أن ترجع الجنّة بعد الاحتراق إلى ما كانت عليه من النضارة والإثمار.

والإعصار الغبار الّذي يلتفّ على نفسه بين السماء والأرض كما يلتفّ الثوب على نفسه عند العصر.

وهذا مثل ضربه الله للّذين ينفقون أموالهم ثمّ يتبعونه منّاً وأذى فيحبط عملهم ولا سبيل لهم إلى إعادة العمل الباطل إلى حال صحّته واستقامته، وانطباق المثل على الممثّل ظاهر، ورجا منهم التفكّر لأنّ أمثال هذه الأفاعيل المفسدة للأعمال إنّما تصدر

٤١٥

من الناس ومعهم حالات نفسانيّة كحبّ المال والجاه والكبر والعجب والشحّ، لا تدع للإنسان مجال التثبّت والتفكّر وتميّز النافع من الضارّ، ولو تفكّروا لتبصّروا.

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ) الخ، التيمّم هو القصد والتعمّد، والخبيث ضدّ الطيّب، وقوله: منه، متعلّق بالخبيث، وقوله: تنفقون حال من فاعل لاتيمّموا، وقوله: ولستم بآخذيه حال من فاعل تنفقون، وعامله الفعل، وقوله أن تغمضوا فيه في تأويل المصدر، واللام مقدّر على ما قيل والتقدير إلّا لإغماضكم فيه، أو المقدّر باء المصاحبة والتقدير إلّا بمصاحبة الإغماض.

ومعنى الآية ظاهر، وإنّما بيّن تعالى كيفيّة مال الإنفاق، وأنّه ينبغي أن يكون من طيّب المال لا من خبيثه الّذي لا يأخذه المنفق إلّا بإغماض، فإنّه لا يتّصف بوصف الجود والسخاء، بل يتصوّر بصورة التخلّص، فلا يفيد حبّاً للصنيعة والمعروف ولا كمالاً للنفس، ولذلك ختمها بقوله: واعلموا أنّ الله غنيّ حميد أي راقبوا في إنفاقكم غناه وحمده فهو في عين غناه يحمد إنفاقكم الحسن فأنفقوا من طيّب المال، أو أنّه غنيّ محمود لا ينبغي أن تواجهوه بما لا يليق بجلاله جلّ جلاله.

قوله تعالى: ( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ ) إقامة للحجّة على أنّ اختيار خبيث المال للإنفاق ليس بخير للمنفقين بخلاف اختيار طيّبه فإنّه خير لهم، ففي النهى مصلحة أمرهم كما أنّ في المنهىّ عنه مفسدة لهم، وليس إمساكهم عن إنفاق طيّب المال وبذله إلّا لما يرونه مؤثّراً في قوام المال والثروة فتنقبض نفوسهم عن الإقدام إلى بذله بخلاف خبيثه فإنّه لا قيمة له يعنى بها فلا بأس بإنفاقه، وهذا من تسويل الشيطان يخوّف أوليائه من الفقر، مع أنّ البذل وذهاب المال والإنفاق في سبيل الله وابتغاء مرضاته مثل البذل في المعاملات لا يخلو عن العوض والربح كما مرّ، مع أنّ الّذي يغني ويقني هو الله سبحانه دون المال، قال تعالى:( وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ ) النجم - ٤٨.

وبالجملة لمّا كان إمساكهم عن بذل طيّب المال خوفاً من الفقر خطاء نبّه عليه بقوله: الشيطان يعدكم الفقر، غير أنّه وضع السبب موضع المسبّب، أعني أنّه وضع وعد الشيطان موضع خوف أنفسهم ليدلّ على أنّه خوف مضرّ لهم فإنّ الشيطان لا

٤١٦

يأمر إلّا بالباطل والضلال إمّا ابتدائاً ومن غير واسطة، وإمّا بالآخرة وبواسطة ما يظهر منه أنّه حقّ.

ولمّا كان من الممكن أن يتوهّم أنّ هذا الخوف حقّ وإن كان من ناحية الشيطان دفع ذلك بإتباع قوله: الشيطان يعدكم الفقر بقوله: ويأمركم بالفحشاءأوّلا ، فإنّ هذا الإمساك والتثاقل منهم يهيّئ في نفوسهم ملكة الإمساك وسجيّة البخل، فيؤدّي إلى ردّ أوامر الله المتعلّقة بأموالهم وهو الكفر بالله العظيم، ويؤدّي إلى إلقاء أرباب الحاجة في تهلكة الإعسار والفقر والمسكنة الّتي فيه تلف النفوس وانهتاك الأعراض وكلّ جناية وفحشاء، قال تعالى:( وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ - إلى ان قال -الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) التوبة - ٧٩.

ثمّ بإتباعه بقوله: والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليمثانياً ، فإنّ الله قد بيّن للمؤمنين: أنّ هناك حقّاً وضلالاً لا ثالث لهما، وأنّ الحقّ وهو الطريق المستقيم هو من الله سبحانه، وأنّ الضلال من الشيطان، قال تعالى:( فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ) يونس - ٣٢، وقال تعالى:( قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ) يونس - ٣٥، وقال تعالى في الشيطان:( إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ ) القصص - ١٥، والآيات جميعاً مكّيّة، وبالجملة نبّه تعالى بقوله: والله يعدكم، بأنّ هذا الخاطر الّذي يخطر ببالكم من جهة الخوف ضلال من الفكر فإنّ مغفرة الله والزيادة الّتي ذكرها في الآيات السابقة إنّما هما في البذل من طيّبات المال.

فقوله تعالى: والله يعدكم الخ، نظير قوله: الشيطان يعدكم الخ، من قبيل وضع السبب موضع المسبّب، وفيه إلقاء المقابلة بين وعد الله سبحانه الواسع العليم ووعد الشيطان، لينظر المنفقون في أمر الوعدين ويختاروا ما هو أصلح لبالهم منهما.

فحاصل حجّة الآية: أنّ اختياركم الخبيث على الطيّب إنّما هو لخوف الفقر،

٤١٧

والجهل بما يستتبعه هذا الإنفاق، أمّا خوف الفقر فهو إلقاء، شيطانيّ، ولا يريد الشيطان بكم إلّا الضلال والفحشاء فلا يجوز أن تتّبعوه، وأمّا مايستتبعه هذا الإنفاق فهو الزيادة والمغفرة اللّتان ذكرتا لكم في الآيات السابقة، وهو استتباع بالحقّ لأنّ الّذي يعدكم استتباع الإنفاق لهذه المغفرة والزيادة هو الله سبحانه ووعده حقّ، وهو واسع يسعه أن يعطي ما وعده من المغفرة والزيادة وعليم لا يجهل شيئاً ولا حالاً من شئ فوعده وعد عن علم.

قوله تعالى: ( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ) ، الإيتاء هو الإعطاء، والحكمة بكسر الحاء على فعلة بناء نوع يدلّ على نوع المعنى فمعناه النوع من الإحكام والإتقان أو نوع من الأمر المحكم المتقن الّذي لا يوجد فيه ثلمة ولا فتور، وغلب استعماله في المعلومات العقليّة الحقّة الصادقة الّتي لا تقبل البطلان والكذب البتّة.

والجملة تدلّ على أنّ البيان الّذي بيّن الله به حال الإنفاق بجمع علله وأسبابه وما يستتبعه من الأثر الصالح في حقيقة حياة الإنسان هو من الحكمة، فالحكمة هي القضايا الحقّة المطابقة للواقع من حيث اشتمالها بنحو على سعادة الإنسان كالمعارف الحقّة الإلهيّة في المبدأ والمعاد، والمعارف الّتي تشرح حقائق العالم الطبيعيّ من جهة مساسها بسعادة الإنسان كالحقائق الفطريّة الّتي هي أساس التشريعات الدينيّة.

قوله تعالى: ( وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ) ، المعنى ظاهر، وقد اُبهم فاعل الإيتاء مع أنّ الجملة السابقة عليه تدلّ على أنّه الله تبارك وتعالى ليدلّ الكلام على أنّ الحكمة بنفسها منشأ الخير الكثير فالتلبّس بها يتضمّن الخير الكثير، لامن جهة انتساب إتيانه إليه تعالى، فإنّ مجرّد انتساب الإتيان لا يوجب ذلك كإيتاء المال، قال تعالى في قارون( وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّة ِ ) إلى آخرالآيات القصص - ٧٦، وإنّما نسب إليها الخير الكثير دون الخير مطلقاً، مع ما عليه الحكمة من ارتفاع الشأن ونفاسة الأمر لأنّ الأمر مختوم بعناية الله وتوفيقه، وأمر السعادة مراعيّ بالعاقبة والخاتمة.

قوله تعالى: ( وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ) ، اللبّ هو العقل لأنّه في الإنسان

٤١٨

بمنزلة اللبّ من القشر، وعلى هذا المعنى استعمل في القرآن، وكأنّ لفظ العقل بمعناه المعروف اليوم من الأسماء المستحدثة بالغلبة ولذلك لم يستعمل في القرآن وإنّما استعمل منه الأفعال مثل يعقلون.

والتذكّر هو الانتقال من النتيجة إلى مقدّماتها، أو من الشئ إلى نتائجها، والآية تدلّ على أنّ اقتناص الحكمة يتوقّف على التذكّر، وأنّ التذكّر يتوقّف على العقل، فلا حكمة لمن لا عقل له. وقد مرّ بعض الكلام في العقل عند البحث عن ألفاظ الإدراك المستعملة في القرآن الكريم.

قوله تعالى: ( وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ ) ، أي ما دعاكم الله سبحانه إليه أو دعوتم أنفسكم إليه بإيجابه عليها بالنذر من بذل المال فلا يخفى على الله يثيب من أطاعة ويؤاخذ من ظلمه، ففيه إيماء إلى التهديد، ويؤكّده قوله تعالى: وما للظالمين من أنصار.

وفي هذه الجملة أعني قوله: وما للظالمين من أنصار، دلالةأوّلا: على أنّ المراد بالظلم هو الظلم على الفقراء والمساكين في الإمساك عن الإنفاق عليهم، وحبس حقوقهم الماليّة، لا الظلم بمعنى مطلق المعصية فإنّ في مطلق المعصية أنصاراً ومكفّرات وشفعاء كالتوبة، والاجتناب عن الكبائر، وشفعاء يوم القيامة إذا كان من حقوق الله تعالى، قال تعالى:( لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا - إلى ان قال -وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ ) الزمر - ٥٤، وقال تعالى:( إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ) النساء - ٣١، وقال تعالى:( وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ) الأنبياء - ٢٨.

ومن هنا يظهر: وجه اتيان الأنصار بصيغة الجمع فإنّ في مورد مطلق الظلم أنصاراً.

وثانياً: أنّ هذا الظلم وهو ترك الإنفاق لا يقبل التكفير ولو كان من الصغائر لقبله فهو من الكبائر، وأنّه لا يقبل التوبة، ويتأيّد بذلك ما وردت به الروايات: أنّ التوبة في حقوق الناس غير مقبولة إلّا بردّ الحقّ إلى مستحقّه، وأنّه لا يقبل الشفاعة يوم القيامة كما يدلّ عليه قوله تعالى:( أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ

٤١٩

الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ - إلى أن قال -فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) المدّثّر - ٤٨.

وثالثاً: أنّ هذا الظالم غير مرتضى عند الله إذ لا شفاعة إلّا لمن ارتضى الله دينه كما مرّ بيانه في بحث الشفاعة، ومن هنا تظهر النكتة في قوله تعالى: ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله، حيث أتى بالمرضاة ولم يقل ابتغاء وجه الله.

ورابعاً: أنّ المتناع من أصل إنفاق المال على الفقراء مع وجودهم واحتياجهم من الكبائر الموبقة، وقد عدّ تعالى الامتناع عن بعض أقسامه كالزكاة شركاً بالله وكفراً بالآخرة، قال تعالى:( وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ) فصّلت - ٧، والسورة مكّيّة ولم تكن شرّعت الزكاة المعروفة عند نزولها.

قوله تعالى: ( إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ) الخ، الإبداء هو الإظهار، والصدقات جمع صدقة، وهي مطلق الإنفاق في سبيل الله أعمّ من الواجب والمندوب وربّما يقال: إنّ الأصل في معناها الإنفاق المندوب.

وقد مدح الله سبحانه كلّاً من شقّى الترديد، لكون كلّ واحد من الشقّين ذا آثار صالحة، فأمّا إظهار الصدقة فإنّ فيه دعوة عمليّة إلى المعروف، وتشويقاً للناس إلى البذل والإنفاق، وتطييباً لنفوس الفقراء والمساكين حيث يشاهدون أنّ في المجتمع رجالاً رحماء بحالهم، وأموالاً موضوعة لرفع حوائجهم، مدّخرة ليوم بؤسهم فيؤدّي إلى زوال اليأس والقنوط عن نفوسهم، وحصول النشاط لهم في أعمالهم، واعتقاد وحدة العمل والكسب بينهم وبين الأغنياء المثرين، وفي ذلك كلّ الخير، وأمّا إخفاؤها فإنّه حينئذ يكون أبعد من الرياء والمنّ والأذى، وفيه حفظ لنفوس المحتاجين عن الخزي والمذلّة، وصون لماء وجوههم عن الابتذال، وكلائة لظاهر كرامتهم، فصدقة العلن أكثر نتاجاً، وصدقة السرّ أخلص طهارة.

ولمّا كان بناء الدين على الإخلاص وكان العمل كلّما قرب من الإخلاص كان أقرب من الفضيلة رجّح سبحانه جانب صدقة السرّ فقال: وإن تخفوها وتعطوها الفقراء فهو خير لكم فإنّ كلمة خير أفعل التفضيل، والله تعالى خبير بأعمال عباده لا يخطئ

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576