الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 576

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 576 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 264323 / تحميل: 11787
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

يبغضني إلّا منافق ولا يُحبّني إلّا مؤمن.١

وقد أعرب عن ذلك الإمام عليّ بن الحسينعليهما‌السلام في خطبته في جامع دمشق، عند ما صعد المنبر وعرَّف نفسه فحمد الله وأثنىٰ عليه، ثمّ خطب خطبة أبكى منها العيون، وأوجل منها القلوب، ثمّ قال:

« أيّها الناس أُعطينا ستّاً وفُضِّلنا بسبع، أُعطينا: العلم، والحلم، والسماحة، والفصاحة، والشجاعة، والمحبَّة في قلوب المؤمنين ».٢

ولا عجب في أنّه تبارك وتعالى سمّاهم كوثراً أي الخير الكثير، وقال:( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) قال الرازي: الكوثر: أولاده، لأنّ هذه السورة إنّما نزلت ردّاً على من عابهعليه‌السلام بعدم الأولاد، فالمعنى أنّه يعطيه نسلاً يبقون على مرّ الزمان، فانظر كم قتل من أهل البيتعليهم‌السلام ، ثم العالم ممتلئ منهم ولم يبق من بني أُميّة في الدنيا أحد يُعبأ به، ثمّ انظر كم كان فيها من الأكابر من العلماء كالباقر والصادق والكاظم والرضاعليهم‌السلام .٣

إنّ محبة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للحسينعليه‌السلام لم تكن محبة نابعة من حبّه لنسَبه بل كان واقفاً على ما يبلغ إليه ولده الحسينعليه‌السلام في الفضل والكمال والشهادة في سبيله، ونجاة الأُمّة من مخالب الظلم، والثورة على الظلم والطغيان، وهناك كلام للعلّامة المجلسي يقول :

إنّ محبة المقربين لأولادهم وأقربائهم وأحبّائهم ليست من جهة الدواعي

__________________

١. مسند أحمد: ١ / ٨٤، إلى غير ذلك من المصادر المتوفرة.

٢. بحار الأنوار: ٤٥ / ١٣٨.

٣. تفسير الفخر الرازي: ٣٢ / ١٢٤.

٢٢١

النفسانية والشهوات البشرية، بل تجرّدوا عن جميع ذلك وأخلصوا حُبَّهم، و وُدَّهم لله. وحُبّهم لغير الله إنّما يرجع إلى حبهم له، ولذا لم يحب يعقوب من سائر أولاده مثل ما أحبّ يوسفعليه‌السلام منهم، ولجهلهم بسبب حبّه له نسبوه إلى الضلال، وقالوا: نحن عصبة، ونحن أحقّ بأن نكون محبوبين له، لأنّا أقوياء على تمشية ما يريده من أُمور الدنيا، ففرط حبّه يوسف إنّما كان لحب الله تعالى له واصطفائه إيّاه فمحبوب المحبوب محبوب.١

__________________

١. سفينة البحار: ١ / ٤٩٦، مادة حبب.

٢٢٢

من سمات أهل البيت:

٣

استجابة دعائهم :

الابتهال إلى الله وطلب الخير منه أو طلب دفع الشرِّ ومغفرة الذنوب، أمر مرغوب، يقوم به الإنسان تارة بنفسه، وأُخرى يتوصل إليه بدعاء الغير.

واستجابة الدعاء رهن خرق الحجب والوصول إليه سبحانه، حتى يكون الدعاء مصداقاً لقوله سبحانه:( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) ١ وليس كلّ دعاء مستجاباً وصاعداً إليه سبحانه، فانّ لاستجابة الدعاء شروطاً مختلفة قلّما تجتمع في دعاء الإنسان العادي.

نعم هناك أُناس مطهّرون من الذنوب يكون دعاؤهم صاعداً إلى الله سبحانه ومستجاباً قطعاً، ولذلك حثَّ سبحانه المسلمين على التشرّف بحضرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطلب الاستغفار منه، قال سبحانه:( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ) .٢

وقال سبحانه:( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ

__________________

١. غافر: ٦٠.

٢. آل عمران: ٦٥.

٢٢٣

وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ ) .١

ولذلك طلب أبناء يعقوب من أبيهم أن يستغفر لهم كما يحكيه قوله سبحانه:( قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ) .٢

ويظهر ممّا جرى بين النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووفد نجران من المحاجَّة والمباهلة أنّ أهل البيت إذا أمَّنوا علىٰ دعاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يُستجاب دعاءه، فقد وفد نصارى نجران على الرسول وطلبوا منه المحاجَّة، فحاجَّهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببرهان عقلي تشير إليه الآية المباركة:( إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فيَكُونُ ) .٣

فقد قارعهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا البيان البليغ الذي لا يرتاب فيه ذو مرية، حيث كان نصارىٰ نجران يحتجّون ببنوّة المسيح بولادته بلا أب فوافاهم الجواب: « بأنّ مثل المسيح كمثل آدم، إذ لم يكن للثاني أب ولا أُمّ مع أنّه لم يكن ابناً لله سبحانه » وأولى منه أن لا يكون المسيح ابناً له.

ولـمّا أُفحموا في المحاجَّة التجأوا إلى المباهلة والملاعنة، وهي وإن كانت دائرة بين الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورجال النصارى، لكن عمَّت الدعوة للأبناء والنساء، للدلالة على اطمئنان الداعي بصدق دعوته وكونه على الحقّ، وذلك لما أودع الله سبحانه في قلب الإنسان من محبة الأولاد والشفقة عليهم، فتراه يقيهم بنفسه ويركب الأهوال والاخطار دونهم، ولذلك قدَّم سبحانه في الآية المباركة الأبناء على النساء، وقال:( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ

__________________

١. المنافقون: ٥.

٢. يوسف: ٩٧.

٣. آل عمران: ٥٩.

٢٢٤

أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) .١

وإنَّ إتيانه سبحانه بلفظ الأبناء بصيغة الجمع يعرب عن أنّ طرف الدعوى لم يكن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحده بل أبناؤه ونساؤه، ولذلك عدَّتهم الآية نفس النبي ونساء النبي وأبناءه من بين رجال الأُمة ونسائهم وأبنائهم.

ثمّ إنّ المفسرين قد ساقوا قصة المباهلة بشكل مبسوط منهم صاحب الكشّاف، قال: لـمـّا دعاهم إلى المباهلة، قالوا: حتى نرجع وننظر.

فلّما تخالوا قالوا للعاقب، وكان ذا رأيهم: يا عبد المسيح ما ترى ؟ فقال: والله لقد عرفتم يامعشر النصارى أنّ محمّداً نبيّ مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم، والله ما باهل قوم نبيّاً قطُّ، فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ولئن فعلتم لتهلكنّ، فإن أبيتم إلّا إِلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه، فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم.

فأتوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد غدا محتضناً الحسين، آخذاً بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه، وعليٌّ خلفها، وهو يقول: « إذا أنا دعوت فأمِّنوا ».

فقال أُسقف نجران: يا معشر النصارى ! إنّي لأرى وجوهاً لو شاء الله أن يُزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها فلا تباهلوا فتُهلكوا، ولا يبقىٰ على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة، فقالوا: يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهلك، وأن نقرّك على دينك، ونثبت على ديننا. قال: « فإذا أبيتم المباهلة، فأسلموا، يكن لكم ما للمسلمين، وعليكم ما عليهم ».

__________________

١. آل عمران: ٦١.

٢٢٥

فأبوا. قال: « فإنّي أُناجزكم »، فقالوا: ما لنا بحرب العرب طاقة، ولكن نصالحك على أن لا تغزونا، ولا تخيفنا، ولا تردُّنا عن ديننا، على أن نؤدّي إليك كلّ عام ألفي حلّة، ألف في صفر، وألف في رجب، وثلاثين درعاً عادية من حديد، فصالحهم على ذلك.

وقال: « والذي نفسي بيده أنّ الهلاك قد تدلّى على أهل نجران، ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي ناراً، ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على رؤوس الشجر، ولما حال الحول على النصارى كلّهم حتى يهلكوا ».

وعن عائشة أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج وعليه مرط مرجل من شعر أسود، فجاء الحسن فأدخله، ثمّ جاء الحسين فأدخله، ثمّ فاطمة، ثمّ عليٌّ، ثمّ قال:( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) .١

الشاهد على استجابة دعائهم أمران:

أ: قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أنا دعوت فأمّنوا، فكان دعاء النبي يصعد بتأمينهم، وأيُّ مقام أعلى وأنبل من أن يكون دعاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صاعداً بفضل دعائهم.

ب: قول أُسقف نجران: « إنّي لأرىٰ وجوهاً لو شاء الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها » والضمير يرجع إلى الوجوه، أي لأزاله بدعائهم أو لأزاله بالقسم على الله بهم، وقد أيَّد القول الثاني ابن البطريق في « العمدة » حيث قال: المباهلة بهم تصدق دعوى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، فقد صار إبطال محاجَّة أهل نجران في القرآن الكريم بالقسم على الله بهم.٢

__________________

١. الكشّاف: ١ / ٣٢٦ - ٣٢٧، ط عام ١٣٦٧ ه‍.

٢. العمدة: ٢٤٣.

٢٢٦

وقد تركت مباهلة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته أثراً بالغاً في نفوس المسلمين، يشهد عليها ما أخرجه مسلم في صحيحه عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً، فقال: ما يمنعك أن تسبَّ أباتراب ؟ فقال: أما ما ذكرت ثلاثاً قالهنّ له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، فلن أسبَّه، لأن تكون لي واحدة منهنّ أحبّ إليّ من حمر النعم.

سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول له وقد خلفه في بعض مغازيه، فقال له عليُّ: يا رسول الله، خلّفتني مع النساء والصبيان ؟ فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم: أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبوّة بعدي ؟

وسمعته يوم خيبر، يقول: لأُعطينّ الراية رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله.

قال: فتطاولنا لها، فقال: ادعوا لي عليّاً، فأُتي به أرمد العين، فبصق في عينيه، ودفع الراية إليه، ففتح الله على يديه.

ولما نزلت هذه الآية:( فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ) دعا رسول الله عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً، وقال: أللّهم هؤلاء أهل بيتي.١

__________________

١. صحيح مسلم: ٧ / ١٢٠، باب فضائل عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام .

٢٢٧

من سمات أهل البيتعليهم‌السلام

٤

ابتغاء مرضاة الله تعالى ٰ

الإنسان الكامل، هو الذي لا يفعل شيئاً ولا يتركه إلّا لابتغاء مرضاة الله تبارك وتعالى، فيصل في سلوكه ورياضاته الدينيَّة إلىٰ مكان تفنىٰ فيه كلّ الدوافع والحوافز إلّا داع واحد وهو طلب رضا الله تبارك وتعالى، فإذا بلغ هذه الدرجة فقد بلغ الذروة من الكمال الإنساني، وربَّما يبلغ الإنسان في ظل الرضا درجة لا يتمنّى وقوع ما لم يقع، أو عدم ما وقع، وإلى ذلك المقام يشير الحكيم السبزواري بما في منظومته:

وبهجة بما قضى الله رضا

وذو الرضا بما قضى ما اعترضا

أعظم باب الله، في الرضا وُعي١

وخازن الجنّة رضواناً دُعي

فقرا على الغنى صبورٌ ارتضى

وذان سيّان لصاحب الرضا

عن عارف عُمّر سبعين سنة

إن لم يقل رأساً لأشيا كائنة

يا ليت لم تقع ولا لما ارتفع

مما هو المرغوب ليته وقع٢

__________________

١. إشارة إلى ما روي أنّ الرضا باب الله الأعظم.

٢. شرح منظومة السبزواري: ٣٥٢.

٢٢٨

وممَّن يمثل ذلك المقام في الأُمّة الإسلامية هو إمام العارفين وسيد المتّقين عليٌّ أمير المؤمنينعليه‌السلام فهو في عامَّة مواقفه، في جهاده ونضاله، وعزلته وقعوده في بيته، وفي تسنّمه منصَّة الخلافة بإصرار من الأُمّة، فهو في كلّ هذه الأحوال والمواقف، لا همّ له إلّا طلب رضوانه تعالى.

وقد صرح الإمام بذلك عندما طلب منه تسلّم مقاليد الخلافة، فقال: « أما والذي فلق الحبَّة وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر، وقيام الحجّة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء ألّا يقارُّوا على كظّة ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز ».١

وقد تجلّت هذه الخصلة في عليٍّعليه‌السلام حين مبيته في فراش النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

روى المحدّثون أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لـمّا أراد الهجرة خلّف عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام بمكّة لقضاء ديونه وردّ الودائع التي كانت عنده، وأمره ليلة خرج إلى الغار وقد أحاط المشركون بالدار أن ينام على فراشه فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له: يا عليُّ اتَّشح ببردي الحضرمي الأخضر، ثمّ نم على فراشي، فانّه لا يخلص إليك منهم مكروه، إن شاء الله عزّ وجلّ، ففعل ذلكعليه‌السلام فأوحى الله عزّ وجلّ إلى جبرئيل وميكائيلعليهما‌السلام إنّي قد آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر، فأيّكما يؤثر صاحبه بالحياة ؟، فاختار كلاهما الحياة، فأوحى الله عزّ وجلّ إليهما: ألا كنتما مثل عليّ بن أبي طالب، آخيت بينه وبين محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنام على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة، اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوّه، فنزلا فكان جبرئيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه.

__________________

١. نهج البلاغة: الخطبة ٣.

٢٢٩

فقال جبرئيل: بَخٍّ بَخٍّ مَن مثلك يابن أبي طالب ؟ يباهي الله بك الملائكة، فأنزل الله تعالى على رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو متوجِّه إلى المدينة في شأن عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام: ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ ) .١

وقد نقل غير واحد نزول الآية في حقّ عليٍّعليه‌السلام .

وقال ابن عباس: أنشدني أمير المؤمنين شعراً قاله في تلك الليلة:

وقيت بنفسي من وطئ الحصا

وأكرم خلق طاف بالبيت والحجر

وبتُّ أُراعي منهم ما يسوءني

وقد‌صبَّرت نفسي على‌القتل والأسر

وبات رسول الله في الغار آمناً

ومازال في حفظ الإله وفي الستر٢

وإلى هذه الفضيلة الرابية وغيرها يشير حسّان بن ثابت في شعره عند مدح عليٍّعليه‌السلام :

من ذا بخاتمه تصدَّق راكعا

وأسرّها في نفسه إسرارا

من كان بات على فراش محمّد

ومحمد اسرى يؤم الغارا

من كان في القرآن سمّي

في تسع آيات تلين غزارا٣

محاولة طمس الحقيقة لولا

إنّ عظمة هذه الفضيلة وأهميّة هذا العمل التضحويّ العظيم، دفعت بكبار علماء الإسلام إلى اعتبارها واحدة من أكبر فضائل الإمام عليّعليه‌السلام، وإلى أن

__________________

١. البقرة: ٢٠٧.

٢. شواهد التنزيل: ١ / ١٣٠ ؛ أُسد الغابة: ٤ / ٢٥.

٣. سبط ابن الجوزي: تذكرة الخواصّ: ٢٥، ط عام ١٤٠١ ه‍.

٢٣٠

يَصِفُوا بها عليّاً بالفداء والبذل والإيثار، وإلى أن يعتبروا نزول الآية المذكورة في شأنه من المسلّمات، كلّ ما بلغ الحديث في التفسير والتاريخ إليها.١

إنّ هذه الحقيقة لا تنسي أبداً، فإنّه من الممكن إخفاء وجه الواقع والتعتيم عليه بعض الوقت إلّا أنّه سرعان ما تمزّق أشعةُ الحقيقة الساطعة حجبَ الأوهام، وتخرج شمس الحقيقة من وراء الغيوم.

إنّ معاداة معاوية لأهل بيت النبوّة وبخاصّة للإمام أمير المؤمنين عليٍّعليه‌السلام ممّا لا يمكن النقاش فيه.

فقد أراد هذا الطاغية من خلال تطميع بعض صحابة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يلوّث صفحات التاريخ اللّامعة ويخفي حقائقه بوضع الأكاذيب، ولكنّه لم يحرز في هذا السبيل نجاحاً.

فقد عمد « سمرة بن جندب » الذي أدرك عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ انضمّ بعد وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى بلاط معاوية بالشام، عمد إلى تحريف الحقائق مقابل أموال أخذها من الجهاز الأموي، الحاقد على أهل البيت.

فقد طلب منه معاوية بإصرار أن يرقى المنبر ويكذّب نزول هذه الآية في شأن عليٍّعليه‌السلام، ويقول للناس أنّها نزلت في حقّ قاتل عليٍّ ( أي عبد الرحمٰن بن ملجم المرادي )، ويأخذ في مقابل هذه الأُكذوبة الكبرى، وهذا الاختلاق الفضيع - الذي أهلك به دينه ـ، مائة ألف درهم.

فلم يقبل « سمرة » بهذا المقدار ولكن معاوية زاد له في المبلغ حتى بلغ أربعمائة ألف درهم، فقبل الرجل بذلك، فقام بتحريف الحقائق الثابتة، مسوَّداً

__________________

١. الغدير: ٢ / ٤٨.

٢٣١

بذلك صفحته السوداء أكثر من ذي قبل، وذلك عندما رقى المنبر وفعل ما طلب منه معاوية.١

وقبل السامعون البسطاء قوله، ولم يخطر ببال أحد منهم أبداً أنّ ( عبد الرحمٰن بن ملجم ) اليمنيّ لم يكن يوم نزول الآية في الحجاز بل لعلّه لم يكن قد وُلِد بعد آنذاك. فكيف يصحّ ؟!

ولكن الحقيقة لا يمكن أن تخفى بمثل هذه الحجب الواهية، ولا يمكن أن تُنسىٰ بمثل هذه المحاولات العنكبوتية الرخيصة.

فقد زالت حكومة معاوية وهلك أعوانها، واندثرت آثار الاختلاق والافتعال الذي وقع في عهدها المشؤوم، وطلعت شمس الحقيقة من وراء حُجبُ الجهل والافتراء مرة أُخرى، واعترف أغلبُ المفسِّرين الأجلّة والمحدّثين الأفاضل - في العصور والأدوار المختلفة - بأنّ الآية المذكورة نزلت في « ليلة المبيت » في بذل عليٍّعليه‌السلام ومفاداته النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنفسه.

__________________

١. لاحظ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ٤ / ٧٣.

٢٣٢

من سمات أهل البيتعليهم‌السلام

٥

الإيثار

إنّه سبحانه تبارك وتعالى وصف الإيثار في كتابه الكريم، وهو من صفات الكرام حيث يقدِّمون الغير على أنفسهم، يقول سبحانه في وصف الأنصار:( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) .١

كما أنّه سبحانه أمر بالوفاء بالنذر، قال سبحانه:( مَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ ) ٢ ، وقال سبحانه:( ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ) .٣

وفي الوقت نفسه ندب إلى الخوف من عذابه، يقول سبحانه:( يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ ) ٤ وقال سبحانه:( وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ

__________________

١. الحشر: ٩.

٢. البقرة: ٢٧٠.

٣. الحجّ: ٢٩.

٤. النور: ٣٧.

٢٣٣

أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ ) .١

ما ذكرنا من الصفات الثلاث هي من أبرز الصفات التي يتحلّىٰ بها أولياؤه سبحانه، ونجد هذه الصفات مجتمعة في أهل البيتعليهم‌السلام في سورة واحدة، يقول سبحانه:

( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا *وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا *إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا *إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ) .٢

فقوله سبحانه:( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ ) إشارة إلى إيثارهم الغير على أنفسهم، والضمير في( عَلَىٰ حُبِّهِ ) يرجع إلى الطعام أي انّهم مع حبّهم للطعام قدَّموا المسكين على أنفسهم، كما أنّ قوله:( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ) إشارة إلى صلابتهم في طريق إقامة الفرائض.

ثمّ قوله:( وَيَخَافُونَ يَوْمًا ) إشارة إلى خوفهم من عذابه سبحانه يوم القيامة.

وقد نقل أكثر المفسرين لو لم نقل كلّهم، أنّ الآيات نزلت في حقّ أهل البيتعليهم‌السلام .

روي عن ابن عباس ( رض ) أنّ الحسن والحسينعليهما‌السلام مرضا فعادهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أُناس معه، فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولدك، فنذر عليٌّ وفاطمة وفضّة جاريةٌ لهما، إن شفاهما الله تعالى أن يصوموا ثلاثة أيام، فشفيا وما

__________________

١. الرعد: ٢١.

٢. الإنسان: ٧ - ١٠.

٢٣٤

معهم شيء، فاستقرض عليٌّعليه‌السلام من شمعون الخيبري اليهودي ثلاثة أصوع من شعير، فطحنت فاطمة صاعاً واختبزت خمسة أقراص علىٰ عددهم ووضعوها بين أيديهم ليفطروا، فوقف عليهم سائل، فقال: السّلام عليكم أهل بيت محمّد مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنّة، فآثروه وباتوا ولم يذوقوا إلّا الماء وأصبحوا صائمين.

فلمّا أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فآثروه، وجاءهم أسير في الثالثة، ففعلوا مثل ذلك فلما أصبحوا أخذ عليٌّعليه‌السلام بيد الحسن والحسينعليهما‌السلام ودخلوا على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا أبصرهم، وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع، قال: ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم، وقام فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها قد التصق بطنها بظهرها وغارت عيناها فساءه ذلك.

فنزل جبرئيلعليه‌السلام وقال: خذها يا محمّد هنّأك الله في أهل بيتك، فأقرأه السورة.١

روى السيوطي في الدر المنثور، وقال: أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله:( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ ) الآية، قال: نزلت هذه الآية في عليِّ بن أبي طالب وفاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .٢

ورواه الثعلبي في تفسيره، وقال: نزلت في عليِّ بن أبي طالب وفاطمةعليهما‌السلام وفي جاريتهما فضّة، ثمّ ذكر القصّة على النحو الذي سردناه لكن بصورة مبسطة.

وقال: وذهب محمّد بن علي صاحب الغزالي على ما ذكره الثعلبي في كتابه

__________________

١. الكشّاف: ٣ / ٢٩٧ ؛ تفسير الفخر الرازي: ٣٠ / ٢٤٤.

٢. الدّر المنثور: ٨ / ٣٧١، تفسير سورة الإنسان.

٢٣٥

المعروف بـ‍ « البلغة » انّهمعليهم‌السلام نزلتعليهم‌السلام مائدة من السماء فأكلوا منها سبعة أيّام، وحديث المائدة ونزولها عليهم في جواب ذلك مذكور في سائر الكتب.١

وقد سرد سبب نزول هذه الآية في حقّ أهل البيتعليهم‌السلام غير واحد من أئمّة الحديث.٢

__________________

١. العُمدة: ٢ / ٤٠٧ - ٤١٠.

٢. شواهد التنزيل: ٢ / ٤٠٥ - ٤٠٨ ؛ أُسد الغابة: ٥ / ٥٣٠ ؛ مناقب ابن المغازلي: ٢٧٢.

٢٣٦

من سمات أهل البيتعليهم‌السلام

٦

هم خير البريّة

إنّ خير الناس في منطق القرآن الكريم من آمن بالله ورسوله وعرف خالقه ومنعمه، وقد قال سبحانه:( لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى المَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَٰئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ ) .١

وهذه الصفات المذكورة في الآية تجدها، متمثلة في أهل البيتعليهم‌السلام شهد على ذلك سيرتهم، ولذلك صاروا خير البرية.

أخرج الطبري في تفسير قوله سبحانه:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) .٢ باسناده عن أبي الجارود، عن محمد بن علي، قال: قال

__________________

١. البقرة: ١٧٧.

٢. البيّنة: ٧.

٢٣٧

النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم: « أنت يا عليُّ وشيعتك ».١

روى الخوارزمي عن جابر قال: كنّا عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأقبل عليّ بن أبي طالب، فقال رسول الله: « قد أتاكم أخي » ثمّ التفت إلى الكعبة فضربها بيده، ثمّ قال: « والذي نفسي بيده إنّ هذا وشيعته هم الفائزون يوم القيامة »، ثمّ قال: « إنّه أوّلكم إيماناً معي، وأوفاكم بعهد الله، وأقومكم بأمر الله، وأعدلكم في الرعيّة، وأقسمكم بالسويّة، وأعظمكم عند الله مزيّة »، قال: وفي ذلك الوقت نزلت فيه:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) ، وكان أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أقبل عليٌّ، قالوا: قد جاء خير البرية.٢

وروى أيضاً من طريق الحافظ ابن مردويه، عن يزيد بن شراحيل الأنصاري، كاتب عليّعليه‌السلام، قال: سمعت عليّاً يقول: « حدَّثني رسول الله وأنا مُسْنده إلى صدري، فقال أي عليّ ! ألم تسمع قول الله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) ؟ أنت وشيعتك، وموعدي وموعدكم الحوض إذا جاءت الأُمم للحساب تُدعون غرّاً محجّلين ».٣

وأرسل ابن الصباغ المالكي في فصوله عن ابن عباس، قال: لـمّا نزلت هذه الآية، قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليٍّعليه‌السلام: « أنت وشيعتك تأتي يوم القيامة، أنت وهم راضين مرضيين، ويأتي أعداؤك غضاباً مقمحين ».٤

__________________

١. تفسير الطبري: ٣٠ / ١٤٦.

٢. المناقب للخوارزمي: ١١١ برقم ١٢٠.

٣. المناقب للخوارزمي: ٢٦٥ برقم ٢٤٧.

٤. الفصول: ١٢٢.

٢٣٨

من سمات أهل البيتعليهم‌السلام

٧

أهل البيتعليهم‌السلام ورثة الكتاب

اختلفت الأُمّة الإسلامية بعد رحيل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أمر الخلافة - وإن كان اللائق بها عدم الاختلاف فيها، للنصوص الصحيحة الصادرة عنه في مختلف الموارد - وقد استقصينا البحث فيها في مبحث الإمامة من هذا الجزء.

والذي نركِّز عليه في هذا البحث هو تبيين المرجع العلمي بعد رحيله - سواء أكانت الخلافة لمن نصَّ عليه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في يوم الغدير أو من اختاره بعض الصحابة في سقيفة بني ساعدة ـ.

والمراد من المرجع العلمي مَن ترجع إليه الأُمّة في أُصول الدين وفروعه، ويصدر عنهم في تفسير القرآن وتبيين غوامضه، ويستفهم منه أسئلة الحوادث المستجدَّة.

يقول سبحانه:( وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ *ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ

٢٣٩

الْكَبِيرُ ) .١

المراد من الكتاب في قوله:( أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ ) هو القرآن بلا شكّ وكونه حقّاً لأجل براهين قطعية تُثبت أنّه منزل من ربّه فانّ قوانينه تنسجم مع الفطرة الإنسانية، والقصص الواردة فيها مصونة من الأساطير، والمجموع خالٍ من التناقض إلى غير ذلك من القرائن الدالة على أنّه حقّ. ومع ذلك هو مصدِّق لما بين يدي الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الكتاب السماوي.

هذا هو مفاد الآية الأُولى.

ثمّ إنّه سبحانه يقول:( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ ) المراد من الكتاب هو القرآن: لأنَّ اللاّم للعهد الذكري أي الكتاب المذكور في الآية المتقدمة، والوراثة عبارة عمّا يستحصله الإنسان بلا مشقة وجهد، والوارث لهذا الكتاب هم الذين أُشير إليهم بقوله:( الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) ، فلو قلنا بأنّ« من » للتبيين فيكون الوارث هو الأُمة الإسلامية جميعاً، ولو قلنا: إنّ« مِن » للتبعيض فيكون الوارث جماعة خاصة ورثوا الكتاب.

والظاهر هو التبيين كما في قولنا:( وَسَلامٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَىٰ ) .٢

ولكن الأُمة الإسلامية صاروا على أقسام ثلاثة:

أ: ظالم لنفسه: الَّذين قصَّروا في وظيفتهم في حفظ الكتاب والعمل بأحكامه، وفي الحقيقة ظلموا أنفسهم، فلذلك صاروا ظالمين لأنفسهم.

ب: مقتصد: الذين أدُّوا وظيفتهم في الحفظ والعمل لكن لا بنحو كامل

__________________

١. فاطر: ٣١ - ٣٢.

٢. النمل: ٥٩.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

الملفت للنظر ، أنّ آزر لم يكن راغبا حتى في أن يجري إنكار الأصنام أو مخالفتها وتحقيرها على لسانه ، بل إنّه قال : أراغب أنت عن هذه الآلهة؟ حتى لا تهان الأصنام! هذا أولا.

ثانيا : إنّه عند ما هدد إبراهيم ، هدده بالرجم ، ذلك التهديد المؤكّد الذي يستفاد من لام ونون التوكيد الثقيلة في «لأرجمنّك» ومن المعلوم أن الرجم من أشد وأسوء أنواع القتل.

ثالثا : إنّه لم يكتف بهذا التهديد المشروط ، بل إنّه اعتبر إبراهيم في تلك الحال وجودا لا يحتمل ، وقال له( اهْجُرْنِي مَلِيًّا ) أي ابتعد عني دائما ، وإلى الأبد (كلمة «مليا» ـ حسب قول الراغب في المفردات ـ أخذت من مادة الإملاء ، أي الإمهال الطويل ، وهي تعني هنا أن ابتعد عني لمدّة طويلة ، أو على الدوام).

وهذا التعبير المحقّر جدّا لا يستعمله إلّا الأشخاص الأجلاف والقساة ضد مخالفيهم.

بعض المفسّرين لا يرى أن جملة «لأرجمنّك» تعني الرمي بالحجارة ، بل اعتقد أنّها تعني تشويه السمعة والاتهام ، إلّا أن هذا التّفسير يبدو بعيدا ، وملاحظة سائر آيات القرآن ـ التي وردت بهذا التعبير ـ شاهد على ما قلناه.

لكن ، ورغم كل ذلك ، فقد سيطر إبراهيم على أعصابه ، كبقية الأنبياء والقادة الإلهيين ، ومقابل هذه الغلظة والحدّة وقف بكل سمو وعظمة ، و( قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ ) .

إنّ هذا السلام يمكن أن يكون سلام التوديع ، وأن إبراهيم بقوله :( سَلامٌ عَلَيْكَ ) وما يأتي بعده من كلام يقصد ترك آزر. ويمكن أن يكون سلاما يقال لفض النزاع ، كما نقرأ ذلك في الآية (٥٥) من سورة القصص :( لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ ) .

ثمّ أضاف :( سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا ) . إن إبراهيم في الواقع قابل

٤٦١

خشونة وتهديد آزر بالعكس ، ووعده بالاستغفار وطلب مغفرة الله له.

وهنا يطرح سؤال ، وهو : لماذا وعد إبراهيم آزر بالاستغفار مع أنا نعلم أن آزر لم يؤمن أبدا ، ولا يجوز الاستغفار للمشركين طبقا لصريح الآية (١١٣) من سورة التوبة؟

وقد ذكرنا جواب هذا السؤال بصورة مفصلة في ذيل تلك الآية في سورة التوبة.

ثمّ يقول :( وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ) أي الأصنام( وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا ) .

تبيّن هذه الآية من جهة أدب إبراهيم في مقابل آزر الذي قال : «اهجرني» فقبل إبراهيم ذلك. ومن جهة أخرى فإنّها تبيّن حزمه في عقيدته ، فإنّ ابتعادي هذا عنك لم يكن من أجل حيادي عن اعتقادي الراسخ بالتوحيد ، بل لأنّك لا تملك الأهلية لتقبل الحق ، ولذلك فإني سأثبت على اعتقادي.

ويقول بصورة ضمنية بأنّي إذا دعوت ربّي فإنّه سيجيب دعوتي ، أمّا أنتم المساكين الذين تدعون من هو أكثر مسكنة منكم ، فلا يستجاب دعاؤكم مطلقا ، بل ولا يسمع كلامكم أبدا.

لقد وفى إبراهيم بقوله ، وثبت على عقيدته بكل صلابة وصمود ، وكان دائما ينادي بالتوحيد ، بالرغم من أن كل ذلك المجتمع الفاسد في ذلك اليوم قد وقف ضده وثار عليه ، إلّا أنّه لم يبق وحده في النهاية ، فقد وجد أتباعا كثيرين على مر القرون والأعصار ، بحيث أنّ كل الموحدين وعباد الله في العالم يفتخرون بوجوده.

يقول القرآن الكريم :( فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا ) فالبرغم من أن الفترة التي وهب الله بها لإبراهيم إسحاق ، ثمّ يعقوب ـ ابن إسحاق ـ قد استغرقت زمنا طويلا ، إلّا أنّ هذه

٤٦٢

الموهبة العظيمة ـ حيث وهبه ولدا كإسحاق ، وحفيدا كيعقوب ، وكل منهما كان نبيّا سامي المقام ـ كانت نتيجة صبر إبراهيمعليه‌السلام واستقامته التي أظهرها في طريق محاربة الأصنام ، واعتزال المنهج الباطل والابتعاد عنه.

وإضافة إلى ذلك( وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا ) تلك الرحمة الخاصّة بالمخلصين والمخلصين ، والرجال المجاهدين في سبيل الله. وأخيرا( وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا ) .

إنّ هذا في الحقيقة إجابة لطلب ودعاء إبراهيم الذي جاء في الآية (٨٤) من سورة الشعراء :( وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ) فإنّ أولئك كانوا يريدون طرد وإبعاد إبراهيم وأسرته من المجتمع الإنساني ، بحيث لا يبقى لهم أي أثر أو خبر ، وينسون إلى الأبد. إلّا أن الذي حدث بالعكس ، فإنّ الله سبحانه قد رفع ذكرهم نتيجة إيثارهم وتضحيتهم واستقامتهم في أداء الرسالة التي كانت ملقاة على عاتقهم ، وجعل أسماءهم تجري على ألسنة شعوب العالم ، ويعرفون كأسوة ونموذج في معرفة الله والجهاد والطهارة والتقوى والمقارعة للباطل.

إنّ «اللسان» في مثل هذه الموارد يعني الذكر الذي يذكر به الإنسان بين الناس ، وعند ما نضيف إليه كلمة صدق ، ونقول : «لسان صدق» فإنّه يعني الذكر الحسن والذكرى الطيبة بين الناس ، وإذا ما ضممنا إليها «عليّا» التي تعني العالي والبارز ، فإنّها ستعني الذكرى الجميلة جدّا التي تبقى بين الناس عن شخص ما.

ومن المعلوم أن إبراهيم لا يريد بهذا الطلب أن يحقق أمنية في قلبه ، بل كان هدفه أن لا يستطيع الأعداء أن يجعلوا تاريخ حياته ، الذي كان تربويا خارقا للعادة ، في بوتقة النسيان ، وأن يمحوا ذكره من الأذهان إلى الأبد ، وهو الأنموذج والأسوة الدائمة للبشرية.

ونقرأ في رواية عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام : «لسان الصدق للمرء يجعله الله

٤٦٣

في الناس ، خير من المال يأكله ويورثه»(١) وبغض النظر عن الجوانب المعنوية ، فإنّ حسن السمعة والذكر الحسن بين الناس يمكن أن يكون أحيانا رأس مال عظيم للإنسان ولأولاده ، وأمامنا شواهد حية على ذلك.

وهنا يمكن أن يبرز سؤال ، وهو : كيف لم تذكر هنا موهبة وجود إسماعيل ، مع أن اسم يعقوب ، حفيد إبراهيم ، قد ذكر صريحا؟ وفي مكان آخر من القرآن ذكر وجود إسماعيل ضمن مواهب إبراهيم ، هناك حيث تقول الآية على لسان إبراهيم :( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ ) (٢) .

الجواب أنّه بالإضافة إلى أن اسم إسماعيل قد ورد مستقلا بعد آيتين أو ثلاث ، وقد ذكر فيها بعض صفاته البارزة ، إلّا أنّ المقصود هذه الآية هو بيان استمرار النّبوة في أسرة إبراهيم ، وتوضح كيف أن حسن سمعته وذكره الحسن وتاريخه الحافل قد تحقق بواسطة الأنبياء من أسرته ، والذين جاؤوا الواحد تلو الآخرين ، ومن المعلوم أن كثيرا من الأنبياء هم من أسرة إسحاق ويعقوب على مر الأعصار والقرون ، وإن كان قد ولد من ذرية إسماعيل أعظم الأنبياء ، أي نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أن استمرار النبوة كان في أولاد يعقوب ، ولذلك نقرأ في الآية (٢٧) من سورة العنكبوت ،( وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ ) .

* * *

__________________

(١) أصول الكافي ، حسب نقل تفسير نور الثقلين ، الجزء ٣ ، ص ٣٣٩.

(٢) إبراهيم ، ٣٩.

٤٦٤

الآيات

( وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥٣) )

التّفسير

موسى النّبي المخلص :

في هذه الآيات الثلاث إشارة قصيرة إلى موسىعليه‌السلام ـ وهو من ذرية إبراهيمعليه‌السلام وموهبة من مواهب ذلك الرجل العظيم ـ حيث سار على خطاه.

وتوجه الآية الخطاب إلى الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتقول :( وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى ) ثمّ تذكر خمس مواهب وصفات من المواهب التي أعطيت لهذا النّبي الكبير :

١ ـ إنّه وصل في طاعته وعبوديته لله إلى حد( إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً ) ولا ريب أن الذي يصل إلى هذه المرتبة سيكون مصونا من خطر الانحراف والتلوث ، لأنّ الشيطان رغم كل إصراره على إضلال عباد الله ، يعترف هو نفسه بعدم قدرته على إضلال المخلصين :( قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ

٤٦٥

الْمُخْلَصِينَ ) (١) .

٢ ـ( وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا ) فحقيقة الرسالة أن تلقى مهمّة على عاتق شخص ، وهو مسئول عن أدائها وإبلاغها ، وهذا المقام كان لجميع الأنبياء المأمورين بالدعوة.

إن ذكر كونه «نبيّا» هنا إشارة إلى علو مقام ورفعة شأن هذا النّبي العظيم ، لأنّ هذه اللفظة في الأصل مأخوذة من (النّبوة) على وزن (نغمة) وتعني رفعة المقام وعلوه. ولها ـ طبعا ـ أصل آخر من (نبأ) بمعنى الخبر ، لأنّ النّبي يتلقى الخبر الإلهي ، ويخبر به الآخرين ، إلّا أن المعنى الأوّل هو الأنسب هنا.

٣ ـ وأشارت الآية التالية إلى بداية رسالة موسى ، فقالت :( وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ ) ففي تلك الليلة المظلمة الموحشة ، حيث قطع موسى صحارى مدين متوجها إلى مصر ، أخذ زوجته الطلق وألم الولادة ، وكان البرد شديدا ، فكان يبحث عن شعلة نار، وفجأة سطع نور من بعيد ، وسمع نداء يبلغه رسالة الله ، وكان هذا أعظم وسام وألذ لحظة في حياته.

٤ ـ إضافة إلى ذلك( وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا ) (٢) فإنّ النداء كان موهبة ، والتكلم موهبة أخرى.

٥ ـ وأخيرا( وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا ) ليكون معينه ونصيره.

* * *

__________________

(١) سورة ص ، ٨٢ ـ ٨٣.

(٢) «النجي» بمعنى المناجي ، أي الشخص الذي يهمس في أذن الآخر ، وهنا ينادي الله موسى من بعيد ، ولما اقترب ناجاه. ومن المعلوم أن الله سبحانه ليس له لسان ولا مكان ، بل يوجد الأمواج الصوتية في الفضاء ، ويتكلم مع عبد كموسى.

٤٦٦

بحثان

١ ـ من هو المخلص؟

قرأنا في الآيات السابقة أنّ الله سبحانه جعل موسى من العباد المخلصين ـ بفتح اللام ـ وهذا المقام عظيم جدّا كما أشرنا إلى ذلك ، مقام مقترن بالضمان الإلهي عن الانحراف ، مقام محكم لا يستطيع الشيطان اختراقه ، ولا يمكن تحصيله إلّا بالجهاد الدائم للنفس ، والطاعة المستمرة المتلاحقة لأوامر الله سبحانه.

إنّ كبار علماء الأخلاق يعتبرون هذا المقام مقاما ساميا جدّا ، ويستفاد من آيات القرآن أنّ للمخلصين امتيازات وخصائص خاصّة ، سنتطرق إليها إن شاء الله تعالى.

٢ ـ الفرق بين الرّسول والنّبي

الرّسول هو الشخص الذي ألقيت على عاتقه مهمّة أو رسالة ليبلغها ، والنّبي ـ بناء على أحد التفاسير ـ هو الشخص المطلع على الوحي الإلهي والذي يخبر بما يوحى إليه ، وبناء على تفسير آخر هو الشخص العالي المقام والسامي المرتبة ، وقد بينّا اشتقاق كلا الكلمتين ما مادتيهما. هذا من جهة اللغة.

أمّا من جهة التعبيرات القرآنية ولسان الرّوايات ، فالبعض يرى أن «الرّسول» صاحب شريعة ومأمور بابلاغها ، أي يتلقى الوحي الإلهي ثمّ يبلغه للناس ، أمّا «النّبي» فإنّه يتلقى الوحي ، إلّا أنّه ليس مكلفا بإبلاغه ، بل مكلف بأداء واجبه فقط ، أو الإجابة على أسئلة من سأله.

وبتعبير آخر فإنّ النّبي مثله كالطبيب الواعي الذي جلس في محله مستعدا لاستقبال المرضى ، فهو لا يذهب إلى المرضى ، أمّا إذا راجعه مريض فإنّه لا يمتنع عن معالجته وأداء النصح إليه. أمّا الرّسول فإنّه كالطبيب السيّار ، وبتعبير الإمام

٤٦٧

عليعليه‌السلام في نهج البلاغة عن رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «طبيب دوّار بطبه»(١) ، فهو يدور في كل مكان ، يذهب إلى المدن والقرى ، الجبال والصحارى ليجد المرضى ويشرع بعلاجهم ، فهو عين تنبع بالماء العذب وتجري نحو العطاشى ، وليس عينا يبحث عنها العطاشى.

ويستفاد من الرّوايات التي وصلت إلينا في هذا الباب ، وأوردها العلّامة الكليني في كتاب (أصول الكافي) في باب (طبقات الأنبياء والرسل) وباب (الفرق بين النّبي والرسول) أنّ «النّبي» هو الشخص الذي يرى حقائق الوحي في حال النوم فقط ، كرؤيا إبراهيم ، أو أنّه إضافة إلى النوم ، فإنّه يسمع في اليقظة أيضا صوت ملك الوحي. أمّا الرّسول فإنّه علاوة على تلقي الوحي في المنام ، وسماع صوت الملك ، فإنّه يراه أيضا(٢) .

ولا تنافي بين ما ورد في هذه الرّوايات والتّفسير الذي قلناه ، لأن من الممكن أن يكون للمهمات والمسؤوليات المتفاوتة للنبي والرّسول تأثير في طريقة تلقي الوحي ، وبتعبير آخر فإنّ كل مرحلة من المهمّة تساير مرحلة خاصّة من الوحي. (دققوا جيدا).

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٠٨.

(٢) أصول الكافي ، ج ١ ، ص ١٣٣ ـ ١٣٤ ، طبعة دار الكتب الإسلامية.

٤٦٨

الآيتان

( وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥) )

التّفسير

إسماعيل نبي صادق الوعد :

بعد ذكر إبراهيمعليه‌السلام وتضحيته ، وبعد الإشارة القصيرة إلى حياة موسىعليه‌السلام المتسامية ، يأتي الحديث عن إسماعيل ، أكبر ولد إبراهيم ، ويكمل ذكر إبراهيم بذكر ولده إسماعيل ، وبرامجه ببرامج ولده ، ويبيّن القرآن الكريم خمس صفات من صفاته البارزة التي يمكن أن تكون قدوة للجميع.

ويبدأ الكلام بخطاب الآية الشريفة للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فتقول :( وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ) .

لقد عدّت هاتان الآيتان كونه صادق الوعد ، نبيّا عالي المرتبة ، أمره بالصلاة والارتباط بالخالق ، وأمره بالزكاة وتحكيم الروابط والعلاقات بخلق الله ، وأخيرا

٤٦٩

القيام بالأعمال التي تجلب رضى الله سبحانه من صفات هذا النّبي العظيم.

وتؤكّد الآيتان على الوفاء بالعهد ، والاهتمام بتربية العائلة ، وتشيران إلى الأهمية الخاصّة لهذين التكليفين ، اللذين ذكر أحدهما قبل النّبوة والأخر بعدها مباشرة.

إنّ الإنسان ـ في الواقع ـ ما لم يكن صادقا ، فمن المستحيل أن يصل إلى مقام الرسالة السامي ، لأنّ أوّل شرط لهذه الرتبة أن يبلغ الوحي الإلهي إلى العباد بدون زيادة أو نقصان ، ولذلك فحتى الأفراد المعدودون الذين ينكرون عصمة الأنبياء في بعض الأحوال ، فإنّهم اعترفوا وأقروا بأنّ مسألة صدق النّبي شرط أساسي ، الصدق في الأخبار ، وفي الوعود، وفي كل شيء.

ونقرأ في رواية عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «إنّما سمّي إسماعيل صادق الوعد ، لأنّه وعد رجلا في مكان فانتظره في ذلك المكان سنة ، فسمّاه اللهعزوجل صادق الوعد. ثمّ قال:إنّ الرجل أتاه بعد ذلك فقال له إسماعيل : ما زلت منتظرا لك»(١) .

من البديهي أنّه ليس المراد أنّ إسماعيل قد ترك عمله وأمور حياته ، بل المراد أنّه في الوقت الذي كان يمارس أعماله كان يراقب مجيء الشخص المذكور. وقد بحثنا في مجال الوفاء بالعهد بصورة مفصلة في ذيل أوّل آية من سورة المائدة.

ومن جهة أخرى فإنّ المرحلة الأولى لتبليغ الرسالة هي الشروع من عائلة المبلغ الذين هم أقرب الناس إليه ، ولهذا فإنّ نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدأ دعوته أيضا بزوجته الغالية خديجةعليها‌السلام ، وابن عمّه عليعليه‌السلام ، ثمّ وحسب أمر( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) (٢) توجه إلى أقربائه.

وفي الآية (١٣٢) من سورة طه نقرأ أيضا :( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ

__________________

(١) أصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٨٦.

(٢) سورة الشعراء ، ٢١٤.

٤٧٠

عَلَيْها ) .

النقطة الأخرى التي تستحق الذكر هنا ، أن وصف إسماعيل بكونه مرضيا ، إشارة في الواقع إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّه قد حاز رضى الله في كل أعماله ، ولا توجد نعمة أجلّ من أن يرضى المعبود والمولى والخالق عنه ، ولهذا تقول الآية (١١٩) من سورة المائدة بعد أن بينت نعمة الجنة الخالدة لعباد الله المخلصين :( رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (١) .

* * *

__________________

(١) كان لنا بحث أكثر تفصيلا حول هذا الموضوع ذيل الآية (١١٩) من سورة المائدة من هذا التّفسير.

٤٧١

الآيات

( وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (٥٧) أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (٥٨) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (٦٠) )

التّفسير

هؤلاء أنبياء الله ، ولكن

في آخر قسم من تذكيرات هذه السورة ، جاء الحديث عن «إدريس» النّبي ، فقالت الآية أوّلا :( وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا ) و «الصديق» ـ كما قلنا سابقا ـ هو الشخص الصادق جدّا ، والمصدق بآيات الله سبحانه ، والمذعن للحق والحقيقة.

٤٧٢

ثمّ تشير الآية إلى مقامه العالي وتقول :( وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا ) . وهناك بحث بين المفسّرين في أن المراد هل هو عظمة مقام إدريس المعنوية ، أم الارتفاع المكاني بين المفسّرين في أنّ المراد هل هو عظمة مقام إدريس المعنوية ، أم الارتفاع المكاني الحسي؟ فالبعض اعتبر ذلك ـ كما ذهبنا إليه ـ إشارة إلى المقامات المعنوية والدرجات الروحية لهذا النّبي الكبير ، والبعض الآخر يعتقد أن الله سبحانه قد رفع إدريس كالمسيح إلى السماء ، واعتبروا التعبير ب (مكان عليّ) إشارة إلى هذا.

إلّا أنّ إطلاق كلمة المكان على المقامات المعنوية أمر متداول وطبيعي ، فنحن نرى في الآية (٧٧) من سورة يوسف أنّ يوسف قد قال لإخوته العاصين :( أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً ) .

وعلى كل حال ، فإنّ إدريس واحد من أنبياء الله المكرمين ، وسيأتي شرح حاله في البحوث القادمة إن شاء الله تعالى.

ثمّ تبيّن الآية التالية بصورة جماعية عن كل الامتيازات والخصائص التي مرت في الآيات السابقة حول الأنبياء العظام وصفاتهم وحالاتهم والمواهب التي أعطاهم الله إياها ، فتقول:( أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ ) .

مع أن كل هؤلاء الأنبياء كانوا من ذرية آدم ، غير أنّهم لقربهم من أحد الأنبياء الكبار فقد سمّوا بذرية إبراهيم وإسرائيل ، وعلى هذا فإنّ المراد من ذرية آدم في هذه الآية هو إدريس، حيث كان ـ حسب المشهور ـ جدّ النّبي نوح ، والمراد من الذرية هم الذين ركبوا مع نوح في السفينة ، لأنّ إبراهيم كان من أولاد سام بن نوح.

والمراد من ذرية إبراهيم إسحاق وإسماعيل ويعقوب ، والمراد من ذرية إسرائيل : موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى ، والذين أشير في الآيات

٤٧٣

السابقة إلى حالاتهم وكثير من صفاتهم البارزة المعروفة.

ثمّ تكمل الآية هذا البحث بذكر الأتباع الحقيقيين لهؤلاء الأنبياء ، فتقول :( وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا ) (١) .

لقد اعتبر بعض المفسّرين جملة( وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا ) بيانا آخر لنفس هؤلاء الأنبياء الذين أشير إليهم في بداية هذه الآية. إلّا أنّ ما قلنا أعلاه يبدو أنّه أقرب للصواب(٢) . والشاهد على هذا الكلام الحديث المروي عن الإمام زين العابدين علي بن الحسينعليه‌السلام ، إذ قال أثناء تلاوة هذه الآية : «نحن عنينا بها»(٣) .

وليس المراد من هذه الجملة هو الحصر مطلقا ، بل هي مصداق واضح لمتبعي وأولياء الأنبياء الواقعيين ، وقد مرت بنا نماذج من مصاديق هذا البحث في التّفسير الأمثل هذا. إلّا أنّ عدم الالتفات إلى هذه الحقيقة سبب أن يقع بعض المفسّرين ـ كالآلوسي في روح المعاني ـ في خطأ حيث طعن في هذا الحديث ، وعدّه دليلا على كون أحاديث الشيعة غير معتبرة! وهذه هي نتيجة عدم الإحاطة بالمفهوم الواقعي للروايات الواردة في تفسير الآيات.

وممّا يستحق الانتباه أن الحديث في الآيات السابقة كان عن مريم ، في حين أنّها لم تكن من الأنبياء ، بل كانت داخلة في جملة( مِمَّنْ هَدَيْنا ) وتعتبر من مصاديقها ، ولها في كل زمان ومكان مصداق أو مصاديق ، ومن هنا نرى أن الآية (٦٩) من سورة النساء لم تحصر المشمولين بنعم الله بالأنبياء ، بل أضافت إليهم الصديقين والشهداء :( فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ ) وكذلك عبرت الآية (٧٥) من سورة المائدة عن مريم أم عيسى بالصديقة ، فقالت :( وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ) .

__________________

(١) سجد جمع ساجد ، وبكي جمع باك.

(٢) لأنّها إذا كانت إشارة للأنبياء السابقين ، فإنّها لا تناسب الفعل المضارع (تتلى) الذي يتعلق بالمستقبل ، إلّا أن نقدر جملة (كانوا) وأمثالها ، وهي خلاف الظاهر أيضا.

(٣) مجمع البيان ، ذيل الآية مورد البحث.

٤٧٤

ثمّ تتحدث الآيات عن جماعة انفصلوا عن دين الأنبياء المربي للإنسان ، وكانوا خلفا سيئا لم ينفذوا ما أريد منهم ، وتعدد الآية قسما من أعمالهم القبيحة ، فتقول :( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) .

(خلف) بمعنى الأولاد الطالحين ، و (خلف) بمعنى الأولاد الصالحين.

وهذه الجملة قد تكون إشارة إلى جماعة من بني إسرائيل ساروا في طريق الضلال ، فنسوا الله ، ورجحوا اتباع الشهوات على ذكر الله ، وملؤوا الدنيا فسادا ، وأخيرا ذاقوا وبال أعمالهم السيئة في الدنيا ، وسيذوقونه في الآخرة أيضا.

واحتمل المفسّرون احتمالات عديدة في أنّ المراد من (إضاعة الصلاة) هنا هل هو ترك الصلاة ، أم تأخيرها عن وقتها ، أم القيام بأعمال تضيع الصلاة في المجتمع؟ إن المعنى الأخير ـ كما يبدو ـ هو الأصح.

لماذا كان التأكيد على الصلاة ـ هنا ـ من بين كل العبادات؟

قد يكون السبب أن الصلاة ـ كما نعلم ـ سدّ يحول بين الإنسان والمعاصي ، فإذا كسر هذا السد فإن الغرق في الشهوات هو النتيجة القطعية لذلك ، وبتعبير آخر ، فكما أن الأنبياء يبدؤون في ارتقاء مراتبهم ومقاماتهم من ذكر الله ، وعند ما كانت تتلى عليهم آيات الله كانوا يخرون سجدا ويبكون ، فإن هذا الخلف الطالح بدأ انحرافهم وسقوطهم من نسيانهم ذكر الله.

ولما كان منهج القرآن في كل موضع هو فتح أبواب الرجوع إلى الإيمان والحق دائما ، فإنّه يقول هنا أيضا بعد ذكر مصير الأجيال المنحرفة :( إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً ) ، وعلى هذا فلا يعني أن الإنسان إذا غاص يوما في الشهوات فسيكتب على جبينه اليأس من رحمة الله ، بل إن طريق التوبة والرجوع مفتوح ما بقي نفس يتردد في صدر الإنسان ، وما دام الإنسان على قيد الحياة.

* * *

٤٧٥

بحثان

١ ـ من هو إدريس؟

طبقا لنقل كثير من المفسّرين ، فإنّ إدريس جدّ سيدنا نوحعليه‌السلام واسمه في التوراة (أخنوخ) وفي العربية (إدريس) ، وذهب البعض أنّه من مادة (درس) لأنّه أوّل من كتب بالقلم ، فقد كان إضافة إلى النّبوة عالما بالنجوم والحساب والهيئة ، وكان أوّل من علم البشر خياطة الملابس.

لقد تحدث القرآن عن هذا النّبي الكبير مرّتين فقط ، وبإشارة خاطفة : إحداهما هنا في هذه الآيات ، والأخرى في سورة الأنبياء الآية ٨٥ ـ ٨٦ ، وقد ذكرت حياته بصورة مفصلة في روايات مختلفة نشك في صحة أكثرها ، ولهذا السبب اكتفينا بالإشارة أعلاه.

٢ ـ من هم الذين( أَضاعُوا الصَّلاةَ )

نقرأ في حديث ورد في كثير من كتب علماء أهل السنة ، أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما تلا هذه الآية قال : «يكون خلف من بعد ستين سنة أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا ، ثمّ يكون خلف يقرءون القرآن لا يعدو تراقيهم ، ويقرأ القرآن ثلاثة : مؤمن ، منافق ، وفاجر»(١) .

ينبغي الالتفات إلى أنّنا إذا اعتبرنا هجرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مبدأ الستين سنة ، فإنّه ينطبق تماما على الزمن الذي تربع فيه يزيد على كرسي الحكم ، واستشهد فيه سيد الشهداء الإمام الحسينعليه‌السلام وأصحابه ، ويشير الحديث بعد ذلك إلى بقية فترة بني أمية وفترة بني العباس الذين كانوا قد اقتنعوا من الإسلام بالاسم ، ومن القرآن باللفظ ، ونعوذ بالله أن نكون من هذا الخلف المنحرف.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ١٤ ، ص ٨٤.

٤٧٦

الآيات

( جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (٦٣) )

التّفسير

بعض صفات الجنّة :

وصفت الجنّة ونعمها في هذه الآيات حيث جاء ذكرها في الآيات السابقة ، فهي تصف الجنّة الموعودة بأنّها( جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا ) .

ممّا يستحق الاهتمام ويسترعي الانتباه أن الآيات السابقة التي تحدثت عن التوبة والإيمان والعمل الصالح ، جاء الوعد فيها بالجنّة بصيغة المفرد (جنة) ، أمّا هنا فقد ورد بصيغة الجمع (جنات) لأنّ الجنّة في الحقيقة متكونة من حدائق متعددة وغنية بالنعم جدّا ، وستكون تحت تصرف المؤمنين الصالحين.

إنّ وصف الجنّة ب (عدن) التي تعني الدوام والخلود ، دليل على أنّ الجنّة

٤٧٧

ليست كحدائق وبساتين هذه الدنيا ونعمها الزائلة ، لأنّ الشيء الذي يقلق الإنسان فيما يتعلق بنعم هذه الدنيا الكثيرة هو زوالها في النهاية ، إلّا أن مثل هذا القلق بالنسبة لنعم الجنّة لا معنى له(١) .

كلمة (عباده) تعني عباد الله المؤمنين ، لا جميع العباد ، والتعبير (بالغيب) الذي جاء بعدها يعني غيبته واختفاءه عن نظرهم إلّا أنّهم يؤمنون به. وفي الآية (٣٠) من سورة الفجر نقرأ أيضا :( فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي ) .

ويحتمل أيضا في معنى الغيب أنّ نعم الجنّة على هيئة لم ترها عين ، ولم تسمع بها أذن، ولم تخطر على فكر وقلب بشر ، وبكلمة واحدة : إنّها غائبة عن حسنا وإدراكنا ، عالم أسمى وأوسع من هذا العالم ، ونحن لا نرى منها إلا شبحا من بعيد بعين الروح والقلب.

ثمّ تشير بعد ذلك إلى نعمة أخرى من أكبر نعم الجنّة فتقول :( لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً ) فلا كذب ، ولا عداء ، لا تهمة ولا جرح لسان ، لا سخرية ولا حتى كلام لا فائدة فيه ، بل الشيء الوحيد الذي يسمعونه هو السلام( إِلَّا سَلاماً ) .

«السلام» بالمعنى الواسع للكلمة ، والذي يدل على سلامة الروح والفكر واللسان والسلوك والعمل.

السلام الذي جعل ذلك الجو وتلك البيئة جنة ، واقتلع كل نوع من الأذى منها.

السلام الذي هو علامة على المحيط الآمن ، المحيط الملي بالصفاء والعلاقة الحميمة والطهارة والتقوى الصلح والهدوء والاطمئنان.

وفي آيات أخرى من القرآن جاءت هذه الحقيقة أيضا بتعبيرات مختلفة ، ففي الآية (٧٣) من سورة الزمر نقرأ :( وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ ) . وفي الآية (٣٤) من سورة ق :( ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ

__________________

(١) (عدن) في اللغة بمعنى الإقامة ، وهنا تعطي هذا المعنى ، بأن ساكني تلك الجنان سيكونون مقيمين فيها دائما.

٤٧٨

الْخُلُودِ ) .

وليست الملائكة وحدها التي تحييهم ، وليسوا لوحدهم يحيى بعضهم بعضا ، بل إنّ الله سبحانه يحييهم أيضا ، كما حياتهم في الآية (٥٧) من سورة يس :( سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ) . فهل يوجد محيط أصفى وأجمل من هذا الجوّ المليء بالسلام والسلامة؟

وبعد هذه النعمة تشير الآية إلى نعمة أخرى فتقول :( وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) .

إنّ هذه الجملة تثير سؤالين :

أحدهما : هل يوجد في الجنّة صبح وليل؟

وقد جاء جواب هذا السؤال في الرّوايات هكذا : إنّ الجنّة وإن كانت دائما منيرة مضيئة ، إلّا أنّ أهلها يميزون الليل والنهار من قلة النور وزيادته.

والسؤال الآخر هو : إنّه يستفاد من آيات القرآن بوضوح أن كل ما يريده أهل الجنة من الهبات والأرزاق موجود تحت تصرفهم دائما وفي أي ساعة ، فأي رزق هذا الذي يأتيهم في الصبح والمساء فقط؟

ويمكن استخلاص جواب هذا السؤال من حديث جميل روي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يقول : «وتعطيهم طرف الهدايا من الله لمواقيت الصلاة التي كانوا يصلون فيها في الدنيا»(١) .

ويستفاد من هذا الحديث أن هذه الهدايا الممتازة التي لا يمكن بيان ماهيتها حتى بالحدس والتخمين ، نعم قيمة جدا ، تهدى إلى هؤلاء بكرة وعشيا مضافا إلى سائر نعم الجنّة.

ألا يدل تعبير الآية ، والحديث الذي ذكر ، على أنّ حياة أهل الجنّة ليست على وتيرة واحدة ، بل إن لهم في كل صباح ومساء موهبة جديدة ولطف جديد يعمهم ويشملهم!؟

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، الجزء ١٦ ، ص ١٠٣.

٤٧٩

أليس معنى هذا الكلام أنّ السير التكاملي للإنسان سيستمر هناك ، بالرغم من أنّه لا يعمل عملا ، غير أنّه سيديم سيره التكاملي بواسطة معتقداته وأعماله في هذه الدنيا؟!

وبعد الوصف الإجمالي للجنّة ونعمها المادية والمعنوية ، تعرّف الآية أهل الجنّة في جمله قصيرة ، فتقول :( تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا ) وعلى هذا فإن مفتاح باب الجنّة مع كل تلك النعم التي مرت ليس إلّا «التقوى».

وبالرغم من أنّ التعبير بـ «عبادنا» فيه إشارة إجمالية إلى الإيمان والتقوى ، غير أنّ المحل هنا لا يكتفى فيه بالإشارة الإجمالية ، بل لا بدّ من بيان هذه الحقيقة بصراحة ، بأن الجنة محل المتقين فقط.

ونواجه هنا مرّة أخرى كلمة الإرث ، والتي تطلق عادة على الأموال التي تنتقل من شخص إلى آخر بعد موته ، في حين أنّ الجنّة ليست مملوكة لأحد حتى يمكن توريثها للآخرين.

ويمكن الإجابة على هذا السؤال عن طريقين :

١ ـ إنّ الإرث من الناحية اللغوية جاء بمعنى التمليك ، ولا ينحصر بالانتقال المالي من الميت إلى الورثة.

٢ ـ إنّنا نقرأ في حديث عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما من أحد إلّا وله منزل في الجنّة ومنزل في النّار ، فأمّا الكافر فيرث المؤمن منزله من النّار ، والمؤمن يرث الكافر منزله من الجنّة»(١) .

ويلزم هنا أيضا ذكر هذه النكتة ، وهي أن الوارثة التي وردت بذلك المعنى في الحديث ليست على أساس العلاقة النسبية ، بل على أساس التقوى الدينية والعملية.

ويستفاد هذا المعنى أيضا من سبب النّزول الذي ذكره بعض المفسّرين

__________________

(١) نور الثقلين ، الجزء ٢ ، ص ٣١. وقد بحثنا في هذا الباب ذيل الآية (٤٢) من سورة الأعراف من هذا التّفسير.

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576