الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 576

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 576
المشاهدات: 251275
تحميل: 10856


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 576 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 251275 / تحميل: 10856
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 9

مؤلف:
العربية

«سورة طه»

فضل سورة طه

وردت روايات عديدة حول عظمة وأهمية هذه السورة في المصادر الإسلامية.

فعن النّبي الأكرم اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن الله تعالى قرأ طه ويس قبل أن يخلق آدم بألفي عام ، فلمّا سمعت الملائكة القرآن قالوا : طوبى لأمّة ينزل هذا عليها ، وطوبى لأجواف تحمل هذا ، وطوبى لألسن تكلّم بهذا»(1) .

وفي حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «لا تدعوا قراءة سورة طه ، فإنّ الله يحبّها ، ويحبّ من قرأها ، ومن أدمن قراءتها أعطاه الله يوم القيامة كتابه بيمينه ، ولم يحاسبه بما عمل في الإسلام ، وأعطي في الآخرة من الأجر حتى يرضى»(2) .

وفي حديث آخر عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأها أعطي يوم القيامة ثواب المهاجرين والأنصار»(3) .

ونرى من اللازم أن نكرر هذه الحقيقة ، وهي أنّ كل هذه المكافئات والهبات العظيمة التي وصلت إلينا عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّةعليهم‌السلام مقابل تلاوة سور القرآن ، لا تعني ولا تريد أن كل هذه النتائج تعود على الإنسان بالتلاوة فقط ، بل المراد أن

__________________

(1) مجمع البيان ، الجزء 7 ، ص 1.

(2) تفسير النور الثقلين ، الجزء 3 ، ص 367.

(3) مجمع البيان ، ج 7 ، ص 1.

٥٢١

تكون التلاوة مقدمة للتفكر والتدبر ، التفكر الذي تتجلى آثاره في كل أعمال وأقوال الإنسان ، وإذا أخذنا المحتوى الإجمالي لهذه السورة بنظر الإعتبار ، فإننا سنرى أنّ للرّوايات تناسبا كاملا مع محتوى هذه السورة.

محتوى السّورة

إنّ سورة (طه) برأي جميع المفسّرين نزلت في مكّة ، وأكثر ما يتحدث محتواها عن المبدأ والمعاد كسائر السور المكّية ، ويذكر نتائج التوحيد وتعاسات الشرك.

في القسم الأوّل ، تشير هذه السورة إشارة قصيرة إلى عظمة القرآن ، وبعض صفات الله الجلالية والجمالية.

أمّا قسم الثّاني الذي يتضمّن أكثر من ثمانين آية ـ فيتحدث عن قصة موسىعليه‌السلام ، من حين بعثته ، إلى نهوضه لمقارعة فرعون الجبار وأعوانه ، إلى مواجهة السحرة وإيمانهم. ثمّ إغراق الله فرعون وأتباعه بصورة إعجازية ، ونجاة موسى والذين آمنوا به.

ثمّ تبيّن حادثة عبادة بني إسرائيل للعجل ، والمواجهة بين هارون وموسى وبين بني إسرائيل.

وفي القسم الثّالث جاءت بعض المسائل حول المعاد ، وجانب من خصوصيات القيامة.

وفي القسم الرّابع الحديث عن القرآن وعظمته.

وفي القسم الخامس تصف الآيات قصّة آدم وحواء في الجنّة ، ثمّ حادثة وسوسة إبليس، وأخيرا هبوطهما إلى الأرض.

وفي القسم الأخير ، تبيّن السورة المواعظ والنصائح ، لكل المؤمنين ، مع توجيه الخطاب في كثير من الآيات إلى نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

* * *

٥٢٢

الآيات

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ )

( طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (7) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8) )

سبب النّزول

وردت روايات كثيرة في سبب نزول الآيات الأولى من هذه السورة ، يستفاد من مجموعها أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد نزول الوحي والقرآن كان يعبد الله كثيرا ، وخاصّة أنّه كان يكثر القيام والوقوف في العبادة حتى تورمت قدماه ، وكان من شدّة التعب أحيانا يستند في وقوفه على أحدى قدميه ، ثمّ يستند على الأخرى حينا آخر ، وحينا على كعب قدمه ، وآخر على أصابع رجله(1) ، فنزلت الآيات المذكورة وأمرت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يحمل نفسه كل هذا التعب والمشقّة.

__________________

(1) لمزيد الاطلاع على هذه الرّوايات ، راجع : تفسير نور الثقلين ، والدر المنثور ، بداية سورة طه.

٥٢٣

التّفسير

لا تجهد نفسك إلى هذا الحد :

مرّة أخرى نواجه الحروف المقطعة في بداية هذه السورة ، والتي تثير حبّ الاستطاع لدى الإنسان :

لقد بحثنا في تفسير الحروف المقطعة في القرآن في بداية ثلاث سور بحثا كافيا(1) ، غير أنّنا نرى أن من اللازم أن نضيف هنا هذا المبحث ، وهو أن من الممكن أن يكون لكل هذه الحروف المقطعة ـ أو على الأقل لقسم منها ـ معان ومفاهيم خاصّة ، تماما كالكلمة الواحدة التي تتضمّن محتوى معينا.

إنّنا نلاقي في كثير من الرّوايات وكلمات المفسّرين في بداية هذه السورة وسورة «يس» هذا البحث ، وهو أن «طه» تعني : يا رجل ، ونرى كلمة «طه» في بعض شعر العرب أيضا ، ولها معنى شبيه ب (يا رجل) أو قريب منه ، ويمكن أن تعود هذه الأشعار إلى بداية ظهور الإسلام ، أو إلى ما قبل الإسلام(2) .

وقد نقل لنا أحد المطلعين أن بعض علماء الغرب الملمين بالدراسات الإسلامية ، يعممون هذه النظرية على كل الحروف المقطعة في القرآن ، ويعتقدون أن الحروف المقطعة في بداية كل سورة هي كلمة لها معنى خاص ، أصبح بعضها متروكا مع مرور الزمن ، ووصل إلينا البعض ، وإلّا فإنّ من المستبعد أن مشركي العرب يسمعون الحروف المقطعة ولا يفهمون منها شيئا ، ولا يدركون لها معنى ، ثمّ لا نراهم يسخرون ولا يستهزءون منها ، في حين أنّه لا يرى ولا يلاحظ في أي من التواريخ أنّ هؤلاء الحمقى المتتبعين للعيوب والهفوات قد اتخذوا الحروف المقطعة وسيلة للقيام بردود فعل ضدها وضد الإسلام.

وطبعا من الصعب قبول هذا الرأي بصورة عامّة ، وبالنسبة إلى كل حروف

__________________

(1) بداية سورة البقرة وآل عمران والأعراف من التّفسير الأمثل.

(2) تفسير مجمع البيان ، ذيل الآية مورد البحث.

٥٢٤

القرآن المقطعة ، إلّا أنّه يمكن قبوله في البعض منها ، وقد بحث هذا الموضوع أيضا في الكتب الإسلامية.

وممّا يلفت النظر ، وهو أنّنا نقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «إنّ طه من أسماء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومعناه : يا طالب الحق الهادي إليه» ويظهر من هذا الحديث أنّ طه مركب من حرفين رمزيين ، فالطاء إشارة إلى طالب الحق ، والهاء إلى الهادي إليه ، ونحن نعلم أن استعمال الحروف الرمزية وعلامات الاختصار فيما مضى وفي يومنا هذا أمر طبيعي وكثير الاستعمال ، خاصّة في عصرنا الحاضر فإنّه كثير التداول والاستعمال جدّا.

وآخر كلام في هذا الباب هو أنّ (طه) ك (يس) قد أصبحت تدريجيا وبمرور الزمان اسما خاصا للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حتى أنّهم يسمون آل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آل طه أيضا ، وعبّر عن الإمام المهدي عجل الله فرجه في دعاء الندبة ب (يا بن طه).

ثمّ تقول الآية :( ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى ) فصحيح أن العبادة والتقرب إلى الله عن طريق مناجاته من أفضل العبادات ، إلّا أنّ لكل عمل حسابا ومقدارا ، وللعبادة أيضا مقدارها ، فلا يجب أن تجهد نفسك بالعبادة حتى تتورم قدماك ، وبالتالي ستضعف قوتك وتعجز عن التبليغ والجهاد.

وينبغي الالتفات إلى أن «تشقى» مأخوذة من مادة الشقاء ضد السعادة ، إلّا أنّ هذه المادة ، وكما يقول الراغب في المفردات ، تأتي أحيانا بمعنى المشقّة والتعب ، والمراد في الآية هذا المعنى ، كما يحكون ذلك أيضا في أسباب النّزول.

ثمّ تبيّن الآية الأخرى الهدف من نزول القرآن فتقول :( إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى ) .إنّ التعبير بـ «تذكرة» من جهة ، وب «من يخشى» من جهة أخرى يشير إلى واقع لا يمكن إنكاره ، وهو : إن التذكرة توحي بأن أسس ومقومات كل التعليمات الإلهية موجودة في أعماق روح الإنسان وطبيعته ، وتعليمات الأنبياء تجعلها مثمرة ، وتوصلها إلى حد النضج ، كما نذكّر أحيانا بمطلب وأمر ما.

٥٢٥

لا نقول : إنّ الإنسان كان يعلم كل العلوم من قبل وزالت من ذاكرته ، وإن أثر التعليم في هذا العالم هو التذكير فحسب ـ كما ينقلون ذلك عن أفلاطون ـ بل نقول : إنّ مادتها الأصلية قد أخفيت في طينة الآدمي (دققوا ذلك).

إنّ تعبير «من يخشى» يبيّن أن نوعا من الإحساس بالمسؤولية ، والذي سمّاه القرآن بالخشية ، إذا لم يكن موجودا في الإنسان ، فسوف لا يقبل الحقائق ، لأنّ قابلية القابل شرط في حمل ونمو كل بذرة وحبة. وهذا التعبير في الحقيقة شبيه بما نقرؤه في أوّل سورة البقرة:( هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) .

ثمّ تتطرق الآيات إلى التعريف بالله تعالى المنزل للقرآن ، لتتضح عظمة القرآن من خلال معرفته ، فتقول :( تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى ) (1) .

إنّ هذا التعبير في الحقيقة إشارة إلى ابتداء وانتهاء نزول القرآن ، انتهاؤه إلى الأرض وابتداؤه من السماوات ، وإذا لم تصف هنا كلمة «وما بينهما» ـ كما في بعض الآيات الأخرى من القرآن ـ فربّما كان لهذا السبب ، وهو أنّ الهدف كان بيان الابتداء والانتهاء.

على كل حال ، فإنّ من المعلوم أنّ الله الذي عمت قدرته وتدبيره وحكمته كل أرجاء الأرض السماء ، إذا أنزل كتابا ، فكم سيكون غني المحتوى ، وجنيّ الثمر؟!

ثمّ تستمر في تعريف الله المنزل للقرآن فتقول :( الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ) وكما قلنا سابقا في تفسير الآية :( ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ) (2) ، فإنّ كلمة عرش تقال للشيء الذي له سقف ، وأحيانا تطلق على نفس السقف ، أو على الأسرة المرتفعة القوائم كأسرة وكراسي السلاطين ، وفي قصة سليمان نقرأ :

__________________

(1) هناك بحث بين المفسّرين في محل (تنزيلا) من الإعراب ، غير أن الأصح أنّها مفعول مطلق لفعل مجهول محذوف ، وكان التقدير : نزل تنزيلا ممن خلق الأرض.

(2) الأعراف ، 54.

٥٢٦

( أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها ) (1) .

من البديهي أنّ الله سبحانه ليس له عرش ، ولا محكومة كحكام البشر ، بل المراد من عرش الله كل عالم الوجود الذي يعتبر عرشه ، وبناء على هذا فإنّ قوله تعالى :( اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ) كناية عن تسلط الله ، وإحاطته الكاملة بعالم الوجود ، ونفوذ أمره وتدبيره في جميع أنحاء العالم.

وأساسا فإنّ كلمة «عرش» في لغة العرب ، كناية عن القدرة غالبا ، فنقول مثلا: إن فلانا قد أنزلوه من العرش ، أو أزاحوه عنه ، فهذا يعني أنّهم قد أنهوا حكمه وقدرته ، أو نقول : ثل عرشه.

وعلى كل حال ، فإنّ من السخف أن يتوهم الإنسان من هذا التعبير جسمية الله سبحانه.

ثمّ تتحدث عن مالكية الله بعد حاكميته فتقول :( لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى ) .

«الثرى» في الأصل بمعنى التراب الرطب ، ولما كانت قشرة الأرض ـ فقط ـ هي التي تجف نتيجة لأشعة الشمس وهبوب الرياح ، وتبقى الطبقة السفلى ـ غالبا ـ رطبة ، فإنّه يقال لهذه الطبقة : ثرى ، وعلى هذا فإن( وَما تَحْتَ الثَّرى ) تعني أعماق الأرض وجوفها ، وكلها مملوكة لمالك الملك وخالق عالم الوجود.

إلى هنا بينت ثلاثة أركان من أركان صفات الله : الركن الأوّل : «خالقيته» ، والثّاني: «حاكميته» ، والثّالث : «مالكيته».

وأشارت الآية التالية إلى الرّكن الرّابع ، أي : «العالمية» ، فقالت : «( وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى ) . وهناك نقاش وبحث بين المفسّرين في المراد من «أخفى» هنا :

فذهب بعضهم إلى أنّ السر هو أن يتحدث إنسان مع آخر بصورة خفية ،

__________________

(1) النمل ، 38.

٥٢٧

وأخفى : هو أن يحتفظ الإنسان بذلك القول والأمر في قلبه ولا يحدث به أحدا.

وذهب آخرون : إن «السر» هو ما أضمره الإنسان في قلبه ، و «أخفى» هو الذي لم يخطر على باله ، إلّا أنّ الله سبحانه مطلع عليه وعالم به.

وقال ثالث : إنّ «السر» هو ما يقوم به الإنسان من عمل في الخفاء ، وأخفى:هي النية التي في قلبه.

وقال رابع : إن (السر) يعني أسرار الناس ، و (أخفى) هي الأسرار التي في ذات الله المقدسة.

في حديث عن الإمامين الباقر والصادقعليهما‌السلام : «السر ما أخفيته في نفسك ، وأخفى ما خطر ببالك ثمّ أنسيته»(1) . إنّ هذه الحديث يمكن أن يكون إشارة إلى أن ما يتعلمه الإنسان يودع في مخزن الحافظة ، غاية الأمر أن ارتباط الإنسان قد ينقطع أحيانا مع زاوية من هذا المخزن ، فتنتج حالة النسيان ، ولذلك فإنّه إذا ما تذكر ذلك المنسي بطريقة ما، فسيرى هذا المطلب واضحا ومعروفا لديه ، وبناء على هذا فإن ما ينساه الإنسان هو أخفى أسراره التي أخفيت في زوايا الحافظة ، وقطع ارتباطه بها بصورة مؤقتة ، أو دائمة.

ولكن لا مانع على كل حال من أن تجمع كل هذه التفاسير التي ذكرت أعلاه في مفهوم الكلمة ومعناها الواسع. وعلى هذا فقد رسمت صورة واضحة عن علم الله اللامتناهي، وعرف منزل القرآن من مجموع الآيات أعلاه معرفة إجمالية في الأبعاد الأربعة : الخلقة ، والحكومة ، والمالكية ، والعلم.

والآية التالية ربّما تشير إلى ما ذكرنا :( اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ) . وكما قلنا في تفسير الآية (80) من سورة الأعراف ، فإنّ التعبير بالأسماء الحسنى قد ورد مرارا وتكرارا في الآيات القرآنية ، وفي كتب الحديث ومن البديهي أن كل أسماء الله حسنة ، ولكن لما كانت لبعض أسماء الله وصفاته أهمية أكبر ، فقد

__________________

(1) مجمع البيان ، ذيل الآية مورد البحث.

٥٢٨

سمّيت بالأسماء الحسنى.

ونقرأ في كثير من الرّوايات التي وصلتنا عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّةعليهم‌السلام أن لله (99) اسما ، وكل من دعاه بهذه الأسماء يستجاب دعاؤه ، وكل من أحصاها فهو من أهل الجنّة. ويلاحظ هذا المضمون أيضا في مراجع الحديث المعروفة عند أهل السنة أيضا.

ويبدو أنّ المراد من إحصاء هذه الأسماء هو التخلق بصفاتها ، لا مجرّد ذكر ألفاظها ، ولا شك أن من تخلق بصفة العالم والقادر ، أو الرحيم والغفور وأمثالها ، وسطعت في وجوده أشعة وقبسات من هذه الصفات الإلهية العظيمة ، فإنّه من أهل الجنة ، وممن يستجاب دعاؤه.

ولمزيد الإيضاح راجع الآية (180) من سورة الأعراف من هذا التّفسير.

* * *

٥٢٩

الآيات

( وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (10) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13) إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (16) )

التّفسير

نار في الجانب الآخر من الصحراء!

من هنا تبدأ قصّة نبي الله الكبير موسىعليه‌السلام ، وتفصيل الجوانب المهمّة من هذه القصة المليئة بالأحداث سيأتي في أكثر من ثمانين آية ، لتكون تهدئة ومواساة وتسلية لخاطر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين الذين كانوا يعانون خلال تلك الفترة في

٥٣٠

مكّة ضغوطا شديدة من الأعداء ، ليعلموا أن هذه القوى الشيطانية لا طاقة لها في مقاومة قدرة الله ، وأنّ كل هذه الخطط والمؤامرات رسم على الماء.

وكذلك ليعتبروا بهذه الواقعة المليئة بالعبر والمواعظ ، ويستمروا في طريقهم في توحيد الله وعبادته ، ومحاربة فراعنة وسحرة كل عصر وزمان ، وكذلك مجاهدة الانحرافات الداخلية والرغبات المنحرفة تلك العبر التي تستطيع أن يكون دليلا ومرشدا لهم في مسيرتهم الجهادية.

ويمكن تقسيم مجموع الآيات التي تحدثت عن موسى وبني إسرائيل والفراعنة في هذه السورة إلى أربعة أقسام :

القسم الأوّل : يتحدث عن بداية نبوة موسى وبعثته ، وأوّل ومضات الوحي ، وبتعبير آخر : فإنّ البحث يدور حول مرحلة قصيرة المدة غنية المحتوى وقضاها موسى في الوادي المقدس في تلك الصحراء المظلمة المقفرة.

القسم الثّاني : يتحدث عن دعوة موسى وأخيه هارون لفرعون ـ وملئه ـ إلى دين التوحيد ، ثمّ اشتباكهما بالأعداء.

القسم الثّالث : يبحث عن خروج موسى وبني إسرائيل من مصر ، وكيفية نجاتهم من قبضة فرعون وأتباعه ، وغرق هؤلاء وهلاكهم.

القسم الرّابع : ويتحدث حول الاتجاهات الانحرافية الشديدة لبني إسرائيل عن دين التوحيد إلى الشرك ، وقبول وساوس السامري ، ومواجهة موسى الحازمة لهذا الانحراف.

ونعود الآن إلى الآيات مورد البحث ، والتي ترتبط بالقسم الأوّل. فهذه الآيات تقول بتعبير رقيق وجذاب :( وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى ) ؟ ومن البديهي أن هذا الاستفهام ليس هدفه تحصيل الخبر ، فهو سبحانه مطلع على جميع الأسرار ، بل هو «استفهام تقريري»، وبتعبير آخر فإنّ هذا الاستفهام ، مقدمة لبيان خبر مهم ، كما نقول في مكالماتنا اليومية حينما نريد أن نبدأ بذكر خبر مهم : أسمعت هذا

٥٣١

الخبر الذي ...؟

ثمّ تقول :( إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً ) فبملاحظة أن «القبس» يعني الشعلة القليلة التي تؤخذ من النار ، وبملاحظة أن مشاهدة النار في الصحاري تدل عادة على أن جماعة قد اجتمعوا حولها ، أو أنّهم وضعوها على مرتفع حتى لا تضل القوافل الطريق في الليل ، وأيضا بملاحظة أن «مكثوا» ـ من مادة مكث ـ تعني التوقف القصير ، فمن مجموع هذه التعابير يستفاد أن موسى وزوجته وابنه كانوا يقطعون الصحراء في ليلة ظلماء ليلة كانت مظلمة وباردة كان موسى قد ضل الطريق فيها ، فجلبت انتباهه شعلة نار من بعيد ، وبمجرد رؤيتها قال لأهله : قفوا هنا قليلا فقد رأيت نارا سأذهب إليها حتى آتيكم منها بقبس ، أو أجد الطريق بواسطة النار أو من اجتمع حولها.

ونقرأ في التواريخ أنّ موسىعليه‌السلام عند ما انتهت مدّة عقده مع «شعيب» في «مدين» ، حمل زوجته وابنه وأغنامه وسار من مدين إلى مصر ، فضلّ الطريق ، وكانت ليلة مظلمة ، فتفرقت أغنامه في الصحراء ، فأراد أن يشعل نارا في ذلك الليل البارد ليتدفأ هو وأهله ، وحاول إشعال النار فلم يفلح ، وفي هذه الأثناء عصفت بزوجته آلام الوضع!

لقد حاصره سيل من الحوادث الصعبة وفي هذه الأثناء لاح لعينيه ضياء من بعيد، إلّا أنّه لم يكن نارا ، بل كان نورا إلهيا ، وظن موسى أنّه نار ، فسعى نحوها علّه يجد من يهديه في تلك الصحراء إلى الطريق ، أو يأخذ لأهله جذوة منها(1) .

والآن لنسمع بقية الحادثة من القرآن الكريم :

( فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً ) . ويستفاد من الآية (30) من سورة القصص ، أن موسى قد سمع هذا النداء

__________________

(1) مجمع البيان ، ذيل الآية مورد البحث.

٥٣٢

من جهة شجرة كانت هناك :( نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ ) يستفاد من مجموع هذين التعبيرين أن موسى لما اقترب شاهد النار في داخل الشجرة ـ ويقول المفسّرون أنّها كانت شجرة العناب ـ وهذا بنفسه كان قرينة واضحة على أن هذه النار ليست نارا عادية ، بل إنّ هذا النور الإلهي الذي ليس لم يحترق الشجرة وحسب ، بل إنّه منسجم معها ومعروف ، ألا وهو نور الحياة!

وقد هام موسى لدى سماعه هذا النداء المحيي للروح :( إِنِّي أَنَا رَبُّكَ ) وأحاطت بكل وجوده لذة لا يمكن وصفها ، فمن هذا الذي يتحدث معي؟ إنّه ربّي الذي جللني بالفخر الكلمة( رَبُّكَ ) ليعلمني بأنّي قد تربيت وترعرعت منذ نعومة أظفاري وإلى الآن في ظل رحمته وعنايته ، وأصبحت مهيئا لرحمة عظيمة.

لقد أمر أن يخلع نعليه ، لأنّه قد وضع قدمه في أرض مقدسة الأرض التي تجلى فيها النور الإلهي ، ويسمع فيها نداء الله ، ويتحمل مسئولية الرسالة ، فيجب أن يخطو في الأرض بمنتهى الخضوع والتواضع ، وهذا هو سبب خلعه النعل عن رجله.

بناء على هذا ، فإنّ البحث المفصل الذي بحثه بعض المفسّرين حول خلع النعل ـ ونقلوا أقوالا عن المفسّرين ـ يبدو زائدا. طبعا لقد نقلت روايات في باب تأويل هذه الآية سنبحثها في مقطع البحوث.

إنّ التعبير ب (طوى) إمّا لأنّ اسم تلك الأرض كان أرض طوى ، كما قال ذلك أغلب المفسّرين ، ولأن «طوى» في الأصل بمعنى الإحاطة ، وهنا كناية عن أن البركات المعنوية التي أحاطت هذه الأرض من كل جانب ، ولهذا عبر عنها في الآية (30) من سورة القصص بأنّها «البقعة المباركة».

ثمّ سمع هذا الكلام من نفس المتكلم :( وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى ) ومن بعدها تلقى موسى أوّل جمله من الوحي على شكل ثلاثة أمور :( إِنَّنِي أَنَا

٥٣٣

اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ) شرعت هذه الآية في بيان أهم أصل لدعوة الأنبياء في هذه الآية ، ألا وهو مسألة التوحيد ، وبعدها ذكرت موضوع عبادة الله الواحد كثمرة لشجرة الإيمان والتوحيد ، ثمّ أصدرت له أمر الصلاة بعد ذلك ، وهي تعني أكبر عبادة وأهم ارتباط بين الخلق والخالق ، وأكثر الطرق تأثيرا في عدم الغفلة عن الذات المقدسة.

إنّ هذه الأوامر الثلاثة ، مع أمر الرسالة الذي ورد في الآية السابقة ، ومسألة المعاد التي تأتي في الآية التالية ، تشكّل مجموعة كامله ومضغوطة من أصول الدين وفروعه ، وتكملها بالأمر بالاستقامة الذي سيأتي في آخر الآيات مورد البحث.

ولما كان المعاد هو الأصل والأساس الثّاني ، فبعد ذكر التوحيد وأغصانه وفروعه ، أضافت الآية التالية :( إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى ) .

في هذه الجملة نقطتان يجب الالتفات إليهما :

الأولى : إن معنى جملة( أَكادُ أُخْفِيها ) : يقرب أن أخفي تاريخ قيام القيامة ، ولازم هذا التعبير أنّي لم أخفه من قبل ، ونحن نعلم بصريح كثير من آيات القرآن ، أن أحدا لم يطلع على تاريخ القيامة ، كما في الآية (187) من سورة الأعراف حيث نقرأ :( يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي ) .

لقد بحث المفسّرون هذا الموضوع ، فالكثير منهم يعتقد أن هذا التعبير نوع من المبالغة ومعناه : إن وقت بدء وقيام القيامة مخفي ومجهول إلى الحد الذي أكاد أخفيه حتى عن نفسي. وقد وردت في هذا الباب رواية أيضا ، ويحتمل أن هذه الفئة من المفسّرين قد اقتبسوا رأيهم من تلك الرّواية.

والتّفسير الآخر هو أن مشتقات (كاد) لا تعني دائما الاقتراب ، بل تأتي أحيانا بمعنى التأكيد ، ولذلك فإنّ بعض المفسّرين فسر (أكاد) ب (أريد) وقد جاء

٥٣٤

هذا المعنى صريحا في بعض متون اللغة(1) .

والنقطة الأخرى : إنّ علّة إخفاء تاريخ القيامة حسب الآية ، هي :( لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى ) وبتعبير آخر : فإنّ كون الساعة مخفية سيوجد نوعا من حرية العمل للجميع. ومن جهة أخرى فإن وقتها لما لم يكن معلوما بدقة ، ويحتمل أن يكون في أي وقت وساعة ، فإنّ نتيجة هذا الخفاء هي حالة الاستعداد الدائم والتقبل السريع للبرامج التربوية ، كما قالوا في فلسفة إخفاء ليلة القدر : إن المراد أن يحيى الناس كل ليالي السنة ، أو كل ليالي شهر رمضان المبارك ، ويتوجهوا إلى الله سبحانه.

وأشارت الآية الأخيرة إلى أصل أساس يضمن نتفيذ كل البرامج العقائدية والتربوية ، فتقول :( فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ ) والّا فسوف ثملك( فَتَرْدى ) فأصمد في مقابل الكافرين ووساوسهم وعراقيلهم ، ولا تدع للخوف من كثرتهم ومؤامرتهم وخططهم الخبيثة إلى قبلك سبيلا ، ولا تشك مطلقا في أحقية دعوتك وأصالة دينك نتيجة هذه الضوضاء.

الملفت للنظر أنّ جملة «لا يؤمن» وردت هنا بصيغة المضارع ، وجملة «واتبع هواه» بصيغة الماضي ، وهي في الحقيقة أشارت إلى هذه النكتة ، وهي أن عدم إيمان منكري القيامة ينبع من أتباع هوى النفس ، فهم يريدون أن يكونوا أحرارا ويفعلون ما تشتهي أنفسهم ، فأي شيء أحسن من أن ينكروا القيامة حتى لا تخدش حرية ميولهم وأهوائهم!

* * *

__________________

(1) نقرأ في قاموس اللغة ، مادة كاد : وتكون بمعنى أراد ، أكاد أخفيها : أريد.

٥٣٥

بحوث

1 ـ المراد من قوله تعالى :( فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ )

وكما قلنا ، فإن ظاهر الآية أنّ موسىعليه‌السلام قد أمر بخلع نعليه احتراما لتلك الأرض المقدسة ، وأن يسير بكل خضوع وتواضع في ذلك الوادي ليسمع كلام الحق ، وأمر الرسالة.

إلّا أنّ بعض المفسّرين قالوا تبعا لبعض الرّوايات : إنّ سبب ذلك هو أن جلد ذلك النعل كان من جلد حيوان ميت.

إنّ هذا الكلام إضافة إلى أنّه يبدو بعيدا بحد ذاته ، لأنّه لا دليل على أن موسىعليه‌السلام كان يستعمل مثل هذه الجلود والنعال الملوثة ، فإن الرّواية التي رويت عن الناحية المقدسة ، صاحب الزمان ـ أرواحنا له الفداء ـ تنفي هذا التّفسير نفيا شديدا(1) . ويلاحظ في التوراة الحالية أيضا ، سفر الخروج ، الفصل الثّالث ، نفس التعبير الذي يوجد في القرآن.

البعض الآخر من الرّوايات يشير إلى تأويل الآية وبطونها : «فاخلع نعليك : أي خوفيك : خوفك من ضياع أهلك ، وخوفك من فرعون»(2) .

وفي حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام فيما يتعلق بهذا الجانب والزمن من حياة موسىعليه‌السلام حيث يقول : «كن لما لا ترجوا أرجى منك لما ترجو ، فإن موسى بن عمران خرج ليقبس لأهله نارا فرجع إليهم وهو رسول نبي»(3) ! وهي إشارة إلى أن الإنسان كثيرا ما يأمل أن يصل إلى شيء لكنه لا يصل إليه ، إلّا أن أشياء أهم لا أمل له في نيلها تتهيأ له بفضل الله.

وقد نقل هذا المعنى أيضا عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام (4) .

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 3 ، ص 373.

(2) المصدر السابق ، ص 374.

(3) المصدر السابق.

(4) سفينة البحار ، الجزء الأول ، ص 513.

٥٣٦

2 ـ جواب عن سؤال ،

يطرح بعض المفسّرين هنا سؤالا ، وهو : كيف ومن أين علم موسى أنّ الصوت الذي يسمعه صادر من الله سبحانه وتعالى؟ ومن أين تيقن أن الله كلّفه بهذه المهمّة؟

وهذا السؤال يمكن طرحه في شأن سائر الأنبياء أيضا ، ويمكن الإجابة عنه بطريقين:الأوّل : إنّه يحصل للأنبياء في تلك الحالة نوع من المكاشفة الباطنية والإحساس الداخلي تبلغهم وتوصلهم إلى القطع واليقين الكامل ، وتزيل عنهم كل أنواع الشك والشبهة.

والثّاني : إنّ من الممكن أن تكون بداية الوحي مقترنة بأمور خارقة للعادة ، لا يمكن أن تقع وتتمّ إلا بقوة الله ، كما أن موسىعليه‌السلام شاهد النار في الشجرة الخضراء ، ومن هذا فهم أن المسألة إلهية وإعجازية.

وينبغي أن نذكّر بهذا الموضوع أيضا ، وهو أن سماع كلام الله سبحانه وبلا واسطة ، لا يعني أن لله حنجرة وصوتا ، بل إنّه يخلق بقدرته الكاملة أمواج الصوت في الفضاء ، ويتكلم مع أنبيائه عن هذا الطريق ، ولما كانت نبوة موسىعليه‌السلام قد بدأت بهذه الكيفية ، فقد لقب ب (كليم الله).

3 ـ الصلاة أفضل وسيلة لذكر الله

أشير في الآيات ـ محل البحث ـ إلى واحدة من أهم أسرار الصلاة ، وهي أن الإنسان يحتاج في حياته في هذا العالم ـ وبسبب العوامل المؤدية إلى الغفلة ـ إلى عمل يذكّره بالله والقيامة ودعوة الأنبياء وهدف الخلق في فترات زمنية مختلفة ، كي يحفظه من الغرق في دوامة الغفلة والجهل ، وتقوم الصلاة بهذه الوظيفة المهمّة.

إنّ الإنسان يستيقظ في الصباح من النوم ذلك النوم الذي عزله عن كل

٥٣٧

موجودات العالم ، ويريد أن يبدأ نشاطه الحياتي ، فقبل كل شيء يتوجه إلى الصلاة ، ويصفي قلبه وروحه بذكر الله ، ويستمد منه القوّة والمدد ، ويستعد للجد والسعي الممتزج بالصدق والمودة.

وعند ما يغرق في زحمة الأعمال اليومية ، وتمضي عدة ساعات وقد نسي ذكر الله ، وفجأة يحين الظهر ، ويسمع صوت المؤذن : الله أكبر! حي على الصلاة! فيتوجه إلى الصلاة ويقف بين يدي ربّه ويناجيه ، وإذا كان غبار الغفلة قد استقر على قلبه فإنّه يغسله بهذه الصلاة ، ومن هنا يقول الله سبحانه لموسى في أوّل الأوامر في بداية الوحي :( وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ) .

وممّا يجلب الانتباه أنّ هذه الآية تقول :( وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ) أمّا الآية (28) من سورة الرعد فتقول :( أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) والآيات (27 ـ 30) من سورة الفجر تقول :( يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي ) وإذا جعلنا هذه الآيات الثلاثة جنبا إلى جنب فسنفهم جيدا أن الصلاة تذكر الإنسان بالله ، وذكر الله يجعل نفسه مطمئنة ، ونفسه المطمئنة ستوصله إلى مقام العباد المخلصين والجنّة الخالدة.

* * *

٥٣٨

الآيات

( وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (19) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (23) )

التّفسير

عصا موسى واليد البيضاء :

لا شك أنّ الأنبياء يحتاجون إلى المعجزة لإثبات ارتباطهم بالله ، وإلّا فإنّ أي واحد يستطيع أن يدعي النّبوة ، وبناء على هذا فإن معرفة الأنبياء الحقيقيين من المزيفين لا يتيسر إلّا عن طريق المعجزة. وهذه المعجزة يمكن أن تكون بذاتها دعوة وكتابا سماويا للنّبي ، ويمكن أن تكون أمورا أخرى من قبيل المعجزات الحسية والجسمية ، إضافة إلى أن المعجزة مؤثرة في نفس النّبي ، فهي تزيد من عزيمته وإيمانه وثباته.

على كل حال ، فإن موسىعليه‌السلام بعد تلقيه أمر النّبوة ، يجب أن يتلقى دليلها

٥٣٩

وسندها أيضا ، وهكذا تلقّى موسىعليه‌السلام في تلك الليلة المليئة بالذكريات والحوادث معجزتين كبيرتين من الله ، ويبيّن القرآن الكريم هذه الحادثة فيقول :( وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى ) ؟

إنّ هذا السؤال البسيط المقترن باللطف والمحبة ، إضافة إلى أنّه بثّ الطمانينة في نفس موسىعليه‌السلام الذي كان غارقا حينئذ في دوامة من الاضطراب والهيجان فإنّه كان مقدمة لحادثة مهمّة.

فأجاب موسى :( قالَ هِيَ عَصايَ ) ولما كان راغبا في أن يستمر في حديثه مع محبوبه الذي فتح الباب بوجهه لأوّل مرّة ، وربّما كان يظن أيضا أن قوله :( هِيَ عَصايَ ) غير كاف ، فأراد أن يبيّن آثارها وفوائدها فأضاف :( أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُ ) (1) ( بِها عَلى غَنَمِي ) أي أضرب بها على أغصان الشجر فتتساقط أوراقها لتأكلها الأغنام( وَلِيَ فِيها مَآرِبُ ) (2) ( أُخْرى ) .

من المعلوم ما للعصا لأصحابها من فوائد ، فهم يستعملونها أحيانا كسلاح للدفاع عن أنفسهم أمام الحيوانات المؤذية والأعداء ، وأحيانا يصنعون منها مظلة في الصحراء تقيهم حرّ الشمس ، وأحيانا أخرى يربطون بها وعاء أو دلوا ويسحبون الماء من البئر العميق.

عل كل حال ، فإنّ موسى غط في تفكير عميق : أي سؤال هذا في هذا المجلس العظيم ، وأي جواب أعطيه؟ وماذا كانت تلك الأوامر؟ ولماذا هذا السؤال؟

وفجأة( قالَ أَلْقِها يا مُوسى فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى ) . «تسعى» من مادة السعي أي المشي السريع الذي لا يصل إلى الركض.

__________________

(1) «أهش» من مادة هشّ ـ بفتح الهاء ـ أي ضرب أوراق الشجر وتساقطها.

(2) «مآرب» جمع مأربة ، أي الحاجة والمقصد.

٥٤٠