الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 576

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 576 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 264169 / تحميل: 11780
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

(الأغناء المترفين) وتقريبه للمجموعة الثّانية (الفقراء المؤمنين) شكّل مجتمعا توحيديا بمعنى الكلمة ، مجتمعا تفجّرت فيه الطاقات الكامنة ، وأصبحت فيه معايير الشخصية والقيم والنبوغ ، هي التقوى والعلم والإيمان والجهاد والعمل الصالح.

واليوم ما لم نسع لبناء مثل هذا المجتمع والاقتداء بالنموذج الإسلامي الذي شيّده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عهده ، وبدون نبذ الفكر الطبقي من العقول عن طريق التعليم والتربية وتدوين القوانين الصحيحة والسهر على تنفيذها بدقّة ـ بالرغم من رفض الاستكبار العالمي وتعويقه لذلك ـ فسوف لن نملك مجتمعا إنسانيا سليما أبدا.

2 ـ المقارنة بين الحياة في هذا العالم وعالم الآخرة :

لقد قلنا مرارا : إنّ تجسّد الأعمال هو من أهم القضايا المرتبطة بالمعاد. يجب أن نعلم أنّ ما هو موجود في ذلك العالم هو انعكاس واسع ومتكامل لهذا العالم ، فأعمالنا وأفكارنا وأساليبنا الاجتماعية وصفاتنا الأخلاقية المختلفة سوف تتجسّم وتتجسّد أمامنا في ذلك العالم وستبقى قرينة لنا دائما.

الآيات ـ أعلاه ـ دليل حي على هذه الحقيقة ، فالمترفون الظالمون الذين كانوا يعيشون في هذه الدنيا في ظل سرادق عالية ، وكانوا سكارى بهواهم ، وسعوا إلى فصل كل شيء يخصّهم عن المؤمنين الفقراء ، هؤلاء يملكون في ذلك العالم أيضا (سرادق) ولكنّها من النار الحارقة ، لأنّ الظلم في حقيقته نار حارقة تحرق الحياة وتذروا آمال المستضعفين المظلومين.

هناك يشربون من شراب يجسّد باطن شراب الدنيا ، وهو بالنسبة للظالمين الطغاة شراب من دماء قلوب المحرومين ، ومثل هذا الشراب يقدّم للظالمين في ذلك العالم ، وهو لا يحرق أمعاءهم وأحشاءهم فحسب ، بل يكون كالمعدن

٢٦١

المذاب الذي يشوي الوجوه قبل شربه من شدّة حرارته.

وعلى العكس من ذلك أولئك الذين تركوا الشهوات في سبيل حفظ طهارة وجودهم ورعاية أصول العدالة ، والذين اقتنعوا بحياة بسيطة ، وتحمّلوا كل الصعوبات والمنغصات في هذه الدنيا من أجل تنفيذ أصول العدالة هؤلاء تنتظرهم هناك بساتين الجنّة مع الأنهار الجارية ، وأفضل أنواع الزينة وأفخر الألبسة ، وأحبّ المجالس. وهذا في الواقع تجسيد لنياتهم النزيهة حيث كانوا يريدون كل الخير لجميع عباد الله.

3 ـ العلاقة بين عبادة الهوى والغفلة عن الله

الروح الإنسانية تخضع إمّا لله تعالى أو للأهواء ، حيث لا يمكن الجمع بين الإثنين ، فعبادة الأهواء أساس الغفلة عن الله وعبادة الله ، عبادة الهوى هي سبب الابتعاد عن جميع الأصول الأخلاقية ؛ وأخيرا فإنّ عبادة الهوى تدخل الإنسان في ذاته وتبعده عن جميع حقائق العالم.

إنّ الإنسان الذي يعبد هواه لا يفكّر إلّا في إشباع شهواته ، ولا يوجد لديه معنى للفتوّة والعفو والإيثار والتضحية والشيم المعنوية الأخرى.

وقد أوضحت الآيات محل البحت الربط والعلاقة بين الإثنين بشكل جلي في قوله تعالى :( وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ) .

لقد طرحت الآية أوّلا (الغفلة) عن الله تعالى ، ثمّ ذكرت بعدها (أتباع الهوى) ، والطريف أنّ نتيجة هذا الأمر هو الإفراط وبالشكل المطلق الذي ذكرته الآية.

لماذا يكون عابد الهوى مصابا بالإفراط دائما؟

قد يكون السبب أنّ الطبيعة الإنسانية تتجه في الملذات المادية نحو الزيادة دوما ، فالذي كان يشعر بالنشوة بمقدار معين من المخدرات ، لا يكفيه نفس

٢٦٢

المقدار في اليوم التالي لبلوغ نفس درجة النشوة ، بل عليه زيادة الكمية بالتدريج ، والشخص الذي كان يكفيه في السابق قصر واحد مجهّز بجميع الإمكانات وبمساحه عدة آلاف بين الأمتار ، يصبح اليوم إحساسه بهذا القصر عاديا ، فينشد الزيادة. وهكذا في جميع مصاديق الهوى والشهوة حيث أنّها دائما تنشد الزيادة حتى تهلك الإنسان نفسه.

4 ـ ملابس الزينة في العالم الآخر

قد يطرح البعض هذا السؤال : لقد ذمّ الله تعالى الزينة والتزيّن في القرآن بالنسبة لهذه الحياة ، إلّا أنّه يعد المؤمنين بمثل هذه الأمور في ذلك العالم ، إذ تنص الآيات على الذهب وملابس الحرير والإستبرق والسرر المساند الجميلة؟

قبل الإجابة على هذا السؤال ينبغي أن نوضّح بأنّنا لا نوافق على توجيه هذه الكلمات على أنّها كناية عن مفاهيم معنوية ويفسّرون الآيات على هذا الأساس ، لقد تعلمنا من القرآن الكريم أنّ المعاد ذو جانبين : معاد روحاني ومعاد جسماني.

وعلى هذا الأساس ، فإنّ لذات ذلك العالم يجب أن تكون موجودة في المجالين ، واللذات الروحية ـ طبعا ـ لا يمكن مقايستها باللذات الجسمية. ولكن لا بدّ من الاعتراف بأنّنا لا نعرف من نعم ذلك العالم سوى أشباح بعيدة ، ونسمع كلاما يشير إليها.

لماذا؟ لأنّ نسبة ذلك العالم إلى عالمنا هذا كنسبة عالمنا إلى عالم الجنين في بطن الأم ، فإذا قدّر للأم أن تقيم رابطة بينها وبين الجنين ، فلا يسعها إلّا أن توضح للجنين بالإشارات جمال هذه الدنيا بشمسها الساطعة وقمرها المنير ، والعيون الفوّارة ، والبساتين والورود وما شابهها ، حيث لا توجد ألفاظ كافية لتبيان كل هذه المفاهيم للجنين في رحم الأم كي يفهمها ويستوعبها.

كذلك فإنّ النعم المادية والمعنوية لعالم الآخرة لا يمكن توضيحها لنا بشكل

٢٦٣

كامل ونحن محاصرون في أبعاد رحم هذه الدنيا.

ومع وضوح هذه المقدمة نجيب على السؤال ونقول : إن ذم الله عز اسمه لحياة الزينة والترف في هذه الدنيا يعود إلى أن محدودية هذا العالم تسبب أن تقترن الزينة والترف مع أنواع الظلم والانحراف الذي يكون بدوره سببا للغفلة والانقطاع عن الله.

إنّ الاختلافات التي تبرز خلال هذا الطريق ستكون سببا للحقد والحسد والعداوة والبغضاء ، وأخيرا إراقة الدماء والحروب.

أمّا في ذلك العالم اللامحدود من جميع الجهات ، فإنّ الحصول على هذه الزينة لا يسبّب مشكلة ولا يكون سببا للتمييز والحرمان ، ولا للحقد والنفرة ، ولا يبعد الإنسان عن الله في ذلك المحيط المملوء بالمعنويات حيث لا حسد ولا تنافس ولا كبر ولا غرور تؤدي ابتعاد خلق الله عن الله ، كما في زينة الحياة الدنيا.

فإذا كان الحال كذلك فلما ذا يحرم أهل الجنة من هذه المواهب والعطايا الإلهية التي هي لذّات جسمية إلى جانب كونها مواهب معنوية كبيرة!

5 ـ الاقتراب من الأثرياء بسبب ثروتهم :

الدرس الآخر الذي نتعلمه من الآيات الآنفة ، هو أنّه يجب علينا أن لا نمتنع عن إرشاد وتوجيه هذه المجموعة ـ أو تلك ـ بسبب كونها ثرية أو ذات حياة مرّفهة ، بل إنّ الشيء المذموم هو أن نذهب لهؤلاء لأجل ثروتهم ودنياهم المادية ، ونصبح مصداقا لقوله تعالى :( تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا ) أمّا إذا كان الهدف هو الهداية والإرشاد ، أو حتى الاستفادة من إمكانياتهم من أجل تنفيذ النشاطات الإيجابية والمهمّة اجتماعيا ، فانّ مثل هذا الهدف لا يعتبر غير مذموم وحسب ، بل هو واجب.

* * *

٢٦٤

الآيات

( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36) )

التّفسير

تجسيد لموقف المستكبرين من المستضعفين :

في الآيات السابقة رأينا كيف أنّ عبيد الدنيا كانوا يحاولون الابتعاد في كل شيء عن رجال الحق وأهله المستضعفين ، ثمّ عرّفتنا الآيات جزاءهم في الحياة الأخرى.

الآيات التي نبحثها تشير إلى حادثة اثنين من الأصدقاء أو الإخوة الذين

٢٦٥

يعتبر كل واحد منهم نموذجا لإحدى المجموعتين ، ويوضحان طريقة تفكير وقول وعمل هاتين المجموعتين.

في البداية تخاطب الآيات الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتقول :( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً ) .

البستان والمزرعة كان فيهما كل شيء : العنب والتمر والحنطة وباقي الحبوب ، لقد كانت مزرعة كاملة ومكفية من كل شيء :( كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً ) .

والأهم من ذلك هو توفّر الماء الذي يعتبر سر الحياة ، وأمرا مهمّا لا غنى للبستان والمزرعة عنه ، وقد كان الماء بقدر كاف :( وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً ) .

على هذا الأساس كانت لصاحب البستان كل أنواع الثمار :( وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ ) .

ولأنّ الدنيا قد استهوته فقد أصيب بالغرور لضعف شخصيته ورأي أن الإحساس العميق بالأفضلية والتعالي على الآخرين ، حيث التفت وهو بهذه الحالة إلى صاحبه :( فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً ) .

بناء على هذا فأنا أملك قوّة إنسانية كبيرة وعندي مال وثروة ، وأنا أملك ـ أيضا ـ نفوذا وموقعا اجتماعيا ، أمّا أنت (والخطاب لصاحبه) فما ذا تستطيع أن تقول ، وهل لديك ما تتكلم عنه؟!

لقد تضخّم هذا الإحساس ونما تدريجيا ـ كما هو حاله ـ ووصل صاحب البستان إلى حالة بدأ يظن معها أنّ هذه الثروة والمال والجاه والنفوذ إنّما هي أمور أبديّة ، فدخل بغرور إلى بستانه (في حين أنّه لا يعلم بأنّه يظلم نفسه) ونظر إلى أشجاره الخضراء التي كادت أغصانها أن تنحني من شدّة ثقل الثمر ، وسمع صوت الماء الذي يجري في النهر القريب من البستان والذي كان يسقي أشجاره ، وبغفلة قال : لا أظن أن يفنى هذا البستان ، وبلسان الآية وتصوير القرآن الكريم :( وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً ) .

٢٦٦

بل عمد إلى ما هو أكثر من هذا ، إذ بما أنّ الخلود في هذا العالم بتعارض مع البعث والمعاد ، لذا فقد فكّر في إنكار القيامة وقال :( وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً ) وهذا كلام يعكس وهم قائلة وتمنياته!

ثمّ أضاف! حتى لو فرضنا وجود القيامة فإنّي بموقعي ووجاهتي سأحصل عند ربّي ـ إذا ذهبت إليه ـ على مقام وموقع أفضل. لقد كان غارقا في أوهامه( وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً ) .

لقد أخذ صاحب البستان ضمن الحالة النفسية التي يعيشها والتي صورها القرآن الكريم ، يضيف إلى نفسه في كل فترة وهما بعد آخر من أمثال ما حكت عنه الآيات آنفا ، وعند هذا الحد انبرى له صديقه المؤمن وأجابه بكلمات يشرحهما لنا القرآن الكريم.

* * *

٢٦٧

الآيات

( قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41) )

التّفسير

جواب المؤمن :

هذه الآيات هي ردّ على ما نسجه من أوهام ذلك الغني المغرور العديم الإيمان ، نسمعها تجري على لسان صاحبه المؤمن.

لقد بدأ الكلام بعد أن ظلّ صامتا يستمع إلى كلام ذلك الرجل ذي الأفق الضيق والفكر المحدود ، حتى ينتهي من كلامه ، ثمّ قال له :( قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ

٢٦٨

يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً ) .

وهنا قد يثار هذا السؤال ، وهو : إنّ كلام ذلك الرجل المغرور المتكبر الذي مرّ ذكره في الآيات الآنفة ، لم يصرّح فيه بإنكار الحق جلّ وعلا ، في حين أنّ جواب الإنسان المؤمن ركزّ فيه أوّلا على إنكاره للخالق!؟ لذلك فإنّه وجّه نظره أوّلا إلى قضية خلق الإنسان التي هي من أبرز أدلة التوحيد والتوجّه نحو الخالق العالم القادر. الله الذي خلق الإنسان من تراب ، حيث امتصت جذور الأشجار المواد الغذائية الموجودة في الأرض ، والأشجار بدورها أصبحت طعاما للحيوانات ، والإنسان استفاد من هذا النبات ولحم الحيوان ، وانعقدت نطفته من هذه المواد ، ثمّ سلكت النطفة طريق التكامل في رحم الأم حتى تحوّلت إلى إنسان كامل ، الإنسان الذي هو أفضل من جميع موجودات الأرض ، فهو يفكّر ويصمّم ويسخّر كلّ شيء لأجله.

نعم ، إنّ هذا التراب عديم الأهمية يتحوّل إلى هذا الموجود العجيب ، مع هذه الأجهزة المعقدة الموجودة في جسم الإنسان وروحه ، وهذا من الدلائل العظيمة على التوحيد.

وفي الجواب على السؤال المثار ذكر المفسّرون تفاسير معتدّدة نجملها فيما يلي :

1 ـ قالت مجموعة منهم : بما أنّ هذا الرجل المغرور أنكر بصراحة المعاد والبعث أو شكك فيه ، فإنّه يلزم من ذلك إنكار الخالق ، لأنّ منكر المعاد الجسماني ينكر في الواقع قدرة الله ، ولا يصدّق بأنّ هذا التراب المتلاشي سوف تعود له الحياة مرّة أخرى ، لذا فإنّ الرجل المؤمن مع ذكره للخلق الأوّل من تراب ، ثمّ من نطفة ، ثمّ بإشارته للمراحل الأخرى ـ أراد أن يلفت نظره إلى القدرة غير المتناهية للخالق حتى يعلم بأنّ قضية المعاد يمكن مشاهدتها هنا وتمثّلها بأعيننا في واقع هذه الأرض.

٢٦٩

2 ـ وقال آخرون : إنّ شركه وكفره كانا بسبب ما رآه لنفسه من استقلال في المالكية وما تصوره من دوام وأبدية هذه الملكية.

3 ـ الاحتمال الثّالث أنّه لا يبعد أن يكون الرجل قد أنكر الخالق في بعض كلامه ولم يذكر القرآن هذا المقطع من كلامه. وقد يتوضح الأمر بقرينة جواب الرجل المؤمن ، لذا نرى في الآية التي بعدها أنّ الرجل المؤمن قال لصاحب البستان ما مضمونه : إن كنت أنكرت وجود خالقك وسلكت طريق الشرك ، إلّا أنّني لا أفعل ذلك أبدا.

على أي حال ، ثمّة علاقة واضحة تربط بين الاحتمالات الثلاثة ، ويمكن أن يكون كلام الرجل المؤمن الموحّد إشارة الى هذه الاحتمالات جميعا.

ثمّ عمد الرجل الموحّد المؤمن إلى تحطيم كفر وغرور ذلك الرجل (صاحب البستان) فقال :( لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي ) (1) . وإنّي أفتخر بهذا الإعتقاد وأتباهى به ، إنّك تفتخر بأنّك تملك بستانا ومزرعة وفواكه وماءا كثيرا ؛ إلّا أنّني أفتخر بأنّ الله ربّي ، إنّه خالقي ورازقي؛إنّك تتباهى بدنياك وأنا أفتخر بعقيدتي وإيماني وتوحيدي :( وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً ) .

وبعد أن أشار إلى قضية التوحيد والشرك اللذين يعتبران من أهم المسائل المصيرية ، جدّد لومه لصاحبه قائلا :( وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ ) (2) .

فلما ذا لا تعتبر كل هذه النعم من الخالق جلّ وعلا ، ولماذا لم تشكره عليها. ولماذا لم تقل :( لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ ) .

فإذا كنت قد هيّأت الأرض وبذرت البذور وزرعت الغرس وربيت الأشجار ، وفعلت كلّ شيء في وقته المناسب حتى وصل الأمر إلى ما وصل إليه ؛

__________________

(1) كلمة (لكنّا) في الأصل كانت (لكن إنّ) ثمّ دمجت وأصبحت هكذا.

(2) جمله( ما شاءَ اللهُ ) لها محذوف إذ تكون مع التقدير : ما شاء الله كان ، أو : ما شاء الله ، فإنّ هذا هو الشيء الذي يريده الله.

٢٧٠

فإنّ كل هذه الأمور هي من قدرة الخالق جلّ وعلا ، وقد وضع سبحانه وتعالى الوسائل والإمكانات تحت تصرفك ، حيث أنّك لا تملك شيئا من عندك ، وبدونه تكون لا شيء!

ثمّ يقول له : ليس من المهم أن أكون أقل منك مالا وولدا :( إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً ) .

( فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ ) .

وليس فقط أن يعطيني أفضل ممّا عندك ، بل ويرسل صاعقة من السماء على بستانك، فتصبح الأرض الخضراء أرض محروقة جرداء :( وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً ) .

أو أنّه سبحانه وتعالى يعطي أوامره إلى الأرض كي تمنعك الماء :( أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً ) .

«حسبان» على وزن «لقمان» وهي في الأصل مأخوذة من كلمة «حساب» ، ثمّ وردت بعد ذلك بمعنى السهام التي تحسب عند رميها ، وتأتي أيضا بمعنى الجزاء المرتبط بحساب الأشخاص ، وهذا هو ما تشير إليه الآية أعلاه.

«صعيد» تعني القشرة التي فوق الأرض. وهي في الأصل مأخوذة من كلمة صعود.

«زلق» بمعنى الأرض الملساء بدون أي نباتات بحيث أنّ قدم الإنسان تنزلق عليها (الطريف ما يقوم به الإنسان اليوم حيث تتمّ عملية تثبيت الأرض والرمال المتحركة ، ومنع القرى من الاندثار تحت هذه الرمال عند هبوب العواصف الرملية ، وذلك من خلال زراعتها بالنباتات والأشجار ، أو ـ كما يصطلح عليه ـ إخراجها من حال الزلق والانزلاق).

في الواقع ، إنّ الرجل المؤمن والموحّد حذّر صديقه المغرور أن لا يطمأن لهذه النعم ، لأنّها جميعا في طريقها إلى الزوال وهي غير قابلة للاعتماد.

٢٧١

إنّه أراد أن يقول لصاحبه : لقد رأيت بعينيك ـ أو على الأقل سمعت بأذنك ـ كيف أنّ الصواعق السماوية جعلت من البساتين والبيوت والمزروعات ـ وخلال لحظة واحدة ـ تلّا من التراب والدمار وأصبحت أرضهم يابسة عديمة الماء والكلأ.

وأيضا سمعت أو رأيت بقيام هزة أرضية تطمس الأنهار وتجفّف العيون ، بحيث تكون غير قابلة للإصلاح والترميم.

وبمعرفتك لكل هذ الأمور فلم هذا الغرور؟!

أنت الذي شاهدت أو سمعت كل هذا، فلم هذا الانشداد للأرض والهوى؟

ثمّ لماذا تقول : لا أعتقد أن تزول هذه النعم وأنّها باقية وخالدة ؛ فلما ذا هذا الجهل والبلاهة!!!؟

* * *

٢٧٢

الآيات

( وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (43) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44) )

التّفسير

العاقبة السوداء :

أخيرا انتهى الحوار بين الرجلين دون أن يؤثر الشخص الموحّد المؤمن في أعماق الغني المغرور ، الذين رجع إلى بيته وهو يعيش نفس الحالة الروحية والفكرية ، وغافل أنّ الأوامر الإلهية قد صدرت بإبادة بساتينه ومزروعاته الخضراء ، وأنّه وجب أن ينال جزاء غروره وشركه في هذه الدنيا ، لتكون عاقبته عبرة للآخرين.

ويحتمل أنّ العذاب الإلهي قد نزل في تلك اللحظة من الليل عند ما خيّم الظلام ، على شكل صاعقة مميتة أو عاصفة هو جاء مخيفة ، أو على شكل زلزال مخرّب ومدمّر. وأيّا كان فقد دمّرت هذه البساتين الجميلة والأشجار العالية

٢٧٣

والزرع المثمر ، حيث أحاط العذاب الإلهي بتلك المحصولات من كل جانب :( وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ ) .

«أحيط» مشتقّة من «إحاطة» وهي في هذه الموارد تأتي بمعنى (العذاب الشامل) الذي تكون نتيجته الإبادة الكاملة.

وعند الصباح جاء صاحب البستان وتدور في رأسه الأحلام العديدة ليتفقد ويستفيد من محصولات البستان ، ولكنّه قبل أن يقترب منه واجهه منظر مدهش وموحش ، بحيث أنّ فمه بقي مفتوحا من شدة التعجّب ، وعيناه توقفتا عن الحركة والاستدارة.

لم يكن يعلم بأنّ هذا المنظر يشاهده في النوم أم في اليقظة! الأشجار جميعها ساقطة على التراب ، النباتات مدمّرة ، وليس ثمّة أي أثر للحياة هناك!

كان الأمر بشكل وكأنّه لم يكن هناك بستان ولا أراضي مزروعة ، كانت أصوات (البوم) ـ فقط ـ تدوي في هذه الخرائب ، قلبه بدأ ينبض بقوّة ، بهت لونه ، يبس الماء في فمه ، وتحطّم الكبرياء والغرور اللذان كانا يثقلان نفسه وعقله.

كأنّه صحا من نوم عميق :( فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها ) .

وفي هذه اللحظة ندم على أقواله وأفكاره الباطلة :( وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً ) .

والأكثر حزنا وأسفا بالنسبة له هو ما أصبح عليه من الوحدة في مقابل كل هذه المصائب والابتلاءات :( وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ ) .

ولأنّه فقد ما كان يملكه من رأس المال ولم يبقي لديه شيء آخر ، فإنّ مصيره :( وَما كانَ مُنْتَصِراً ) .

لقد انهارت جميع آماله وظنونه الممزوجة بالغرور ، لقد أدت الحادثة إلى انتهاء كل شيء ، فهو من جانب كان يقول : إنّي لا أصدق بأنّ هذه الثروة العظيمة

٢٧٤

من الممكن أن تفنى ، إلّا أنّني رأيت فناءها بعيني!

ومن جانب آخر فقد كان يتعامل مع رفيقه المؤمن بكبر ويقول : إنّني أقوى منك وأكثر أنصارا ومالا ، ولكنّه بعد هذه الحادثة اكتشف أن لا أحد ينصره!

ومن جانب ثالث فإنّه كان يعتمد على قوته وقدرته الذاتية ، ويعتقد بأنّ غير قدرته محدودة ، لكنّه بعد هذه الحادثة ، وبعد أن لم يكن بمقدوره الحصول على شيء ، انتبه إلى خطئه الكبير ، لأنّه لم يعد يتملك شيئا يعوضه جانبا من تلك الخسارة الكبرى.

وعادة ، فإنّ الأصدقاء الذين يلتفون حول الإنسان لأجل المال والثروة مثلهم كمثل الذباب حول الحلوى ، وقد يفكّر الإنسان أحيانا بالاعتماد عليهم في الأيّام الصعبة ، ولكن عند ما يصاب فيما يملك يتفرق هؤلاء الخلّان من حوله ، لأنّ صداقتهم له لم تكن لرابط معنوي ، بل كانت لأسباب مادية ، فإذا زالت هذه الأسباب انتفت الرفقة!

وهكذا انتهي كل شيء ولا ينفع الندم ، لأنّ مثل هذه اليقظة الإجبارية التي تحدث عند نزول الابتلاءات العظيمة يمكن ملاحظتها حتى عند أمثال فرعون ونمرود ، وهي بلا قيمة ، لهذا فإنّها لا تؤثّر على حال من ينتبه.

صحيح أنّه ذكر عبارة( لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً ) وهي نفس الجملة التي كان قد قالها له صديقه المؤمن ، إلّا أنّ المؤمن قالها في حالة السلامة وعدم الابتلاء ، بينما ردّدها صاحب البستان في وقت الضيق والبلاء.

( هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِ ) نعم ، لقد اتضح أنّ جميع النعم منه تعالى ، وأنّ كل ما يريده تعالى يكون طوع إرادته ، وأنّه بدون الاعتماد على لطفه لا يمكن إنجاز عمل :( هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً ) .

إذن ، لو أراد الإنسان أن يحب أحدا ويعتمد على شيء ما ، أو يأمل بهديه من

٢٧٥

شخص ما ، فمن الأفضل أن يكون الله سبحانه محط أنظاره ، وموقع آماله ، ومن الأفضل أن يتعلق بلطفه تعالى وإحسانه.

* * *

بحثان

1 ـ غرور الثروة

في هذه القصّة نشاهد تجسيدا حيا لما نطلق عليه اسم غرور الثروة ، وقد عرفنا أنّ هذا الغرور ينتهي أخيرا إلى الشرك والكفر. فعند ما يصل الأفراد الذين يعيشون حياتهم بلا غاية وهدف إيماني إلى منزلة معينة من القدرة المالية أو الوجاهة الاجتماعية ، فإنّهم في الغالب يصابون بالغرور. وفي البداية يسعون إلى التفاخر بإمكاناتهم على الآخرين ويعتبرونها وسيلة تفوّق ، ويرون من التفاف أصحاب المصالح حولهم دليلا على محبوبيتهم ، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك بقوله :( أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً ) .

ويتبدّل حبّ هؤلاء للدنيا تدريجيا بفكرة الخلود فيها :( ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً ) .

إنّ ظنّهم بخلود ثرواتهم المادية يجعلهم ينكرون المعاد للتضاد الواضح بين ما هم فيه وبين مبدأ البعث والمعاد ، فيكون لسان حالهم :( وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً ) .

والأنكى من ذلك هو أنّهم يعتبرون مقامهم ووجاهتهم في هذه الدنيا دليلا على قرب مقامهم من محضر القدس الإلهي ، فيقولون :( وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً ) .

هذه المراحل الأربع نجدها واضحة في حياة أصحاب القدرة من عبيد الدنيا ، مع فوارق نسبية فيما بينهم ، فيبدأ مسيرهم الانحرافي من الاغترار بما

٢٧٦

لديهم من قوة وقدرة ، ويتصاعد انحرافهم إلى الشرك وعبادة الأصنام والكفر وإنكار المعاد ، لأنّهم يعبدون القدرة المادية ويجعلونها صنما دون سواها.

2 ـ دروس وعبر

هذا المصير المقترن بالعبرة والذي ذكر هنا بشكل سريع يتضمّن بالإضافة إلى الدرس الآنف ، دروسا أخرى ينبغي أن نتعلمها ، وهذه الدروس هي :

أ: مهما كانت نعم الدنيا المادية كبيرة وواسعة ، فإنّها غير مطمئنة وغير ثابتة ، فصاعقة واحدة تستطيع في ليلة أو في لحظات معدودة أن تبيد البساتين والمزارع التي يكمن فيها جهد سنين طويلة من عمر الإنسان ، وتحيلها إلى تل من تراب ورماد وأرض يابسة زلقة.

إنّ زلزلة واحدة خفيفة يمكن أن تقضي على العيون الفّوارة التي هي الأصل في هذه الحياة ، بالشكل الذي لا يمكن معه ترميمها أبدا.

ب : إنّ الأصدقاء الذين يلتفون حول الإنسان بغرض الإفادة من إمكاناته المادية هم بدرجة من اللامبالاة وعلى قدر من الغدر والخيانة بحيث أنّهم يتخلّون عنه في نفس اللحظة التي تزول فيها إمكاناته المادية ويتركونه وحيدا لهمومه :( وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ ) .

هذا النوع من الأحداث الذي طالما سمعنا ورأينا له نماذج تبرهن على أنّ الإنسان لا يملك سوى التعلق بالله وحده ، وأنّ الأصدقاء الحقيقيين والأوفياء للإنسان هم الذين تصنعهم الروابط والعلائق المعنوية ، إذ يستمر ودّ هؤلاء في حال الفقر والثروة ، في الشباب والشيبة ، في الصحة والمرض ، في العز والذلة ، بل وتستمر مودّة هؤلاء إلى ما بعد الموت!

ج : لا فائدة من الصحوة بعد نزول البلاء :

لقد أشرنا مرارا إلىّ أنّ اليقظة الإجبارية لدى الإنسان ليست دليلا على يقظة

٢٧٧

داخلية حقيقية هادية ، وليست علامة على تغيير مسير الإنسان ، أو ندمه على أعماله السابقة وعلى ما كان فيها من معصية وانحراف ، بل كل ما في الأمر هو أنّ الإنسان عند ما ينزل بساحته البلاء أو يرى عمود المشنقة ، أو تحيط به أمواج البلاء والعواصف ، فهو يتأثر للحظات لا تتعدى مدة البلاء ويتخذ قرارا بتغيير مصيره ، ولكن لأنّه لا يملك أساسا متينا في أعماقه ، فإنّه بانتهاء البلاء يغفل عن صحوته هذه ويعود إلى خطّة ومسيره الأوّل.

لو تأملنا الآية (18) من سورة النساء لرأينا من خلالها أنّ أبواب التوبة تغلق أمام الإنسان عند رؤية علائم الموت ، وسبب هذا الأمر هو ما ذكرناه أعلاه.

وفي الآيات (90 ـ 91) من سورة يونس يقول القرآن حول فرعون عند ما صار مصيره إلى الغرق وعصفت به الأمواج ، فإذا به يصرخ ويقول :( آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ ) إلّا أنّ هذه التوبة ترد عليه ولا تقبل منه :( آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ ) !

د : لا الفقر دليل الذلة ولا الثروة دليل العزة :

وهذا درس آخر نتعلمه من الآيات أعلاه ، طبيعي أنّ المجتمعات المادية والمذاهب النفعية غالبا ما تتوهم بأنّ الفقر والثروة هما دليل الذلة والعزة ، لهذا السبب لاحظنا أنّ مشركي العصر الجاهلي يعجبون من يتمّ رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفقره ويقولون :( وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) (1) .

ه : أسلوب تحطيم الغرور :

عند ما تبدأ بواعث الغرور تقترب من الإنسان وتناجي أعماقه بسبب المال والمنصب، فيجب عليه أن يقطع تلك الوسوسة من جذورها ، عليه أن يتذكر ذلك اليوم الذي كان فيه ترابا لا قيمة له ، وذلك اليوم الذي كان فيه نطفة لا قيمة لها ، عليه أن يعي اللحظة التي كان فيها وليدا ضعيفا لا يقدر على الحركة.

__________________

(1) الزخرف ، 31.

٢٧٨

لاحظنا القرآن في الآيات الآنفة كيف يعيد من خلال خطاب الرجل المؤمن ، صاحب البستان إلى وضعه العادي :( أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً ) .

و: درس من عالم الطبيعة :

القرآن عند ما يصف البساتين المثمرة يقول :( وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً ) ولكنّه عند ما يتحدث عن صاحب البستان يقول :( وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ) .

يعني : أيّها الإنسان ، أنظر إلى الوجود من حولك ، ولا حظ أنّ هذه الأشجار المثمرة والزراعة المباركة كيف آتت كل ما عندها بأمانة وقدمته لك ، فلا مجال عندها للاحتكار والحسد والبخل ، فعالم الوجود هو ساحة للإيثار والبذل والعفو ، فما تمتلكه الأرض تقدمه بإيثار إلى الحيوانات والنباتات ، وتضع الأشجار والنباتات كل ثمارها ومواهبها في إختيار الإنسان والأحياء الأخرى ، وقرص الشمس يضعف يوما بعد آخر وهو يشع النور والدفء والحرارة ، الغيوم تمطر والرياح تهب ، لتتسع أمواج الحياة في كل مكان.

هذا هو نظام الوجود ، ولكنّك أيّها الإنسان تريد أن تكون سيد الوجود ومع ذلك تسحق قوانينه الثابتة البيّنة. فتكون رقعة نشاز غير متناسقة في عالم الوجود تريد أن تستحوذ على كل شيء وتصادر حقوق الآخرين!

* * *

٢٧٩

الآيتان

( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46) )

التّفسير

بداية ونهاية الحياة في لوحة حيّة :

الآيات السابقة تحدّثت عن عدم دوام نعم الدنيا ، ولأنّ إدراك هذه الحقيقة لعمر بطول (60 ـ 80) سنة يعتبر أمرا صعبا بالنسبة للأفراد العاديين ، لذا فإنّ القرآن قد جسّد هذه الحقيقة من خلال مثال حي ومعبّر كي يستيقظ الغافلون المغرورون من غفلتهم ونومهم عند ما يشاهدون تكرار هذا الأمر عدّة مرّات خلال عمرهم.

يقول تعالى :( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ ) هذه القطرات الواهبة للحياة تسقط على الجبال والصحراء ، وتعيد الحياة للبذور

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

«سورة طه»

فضل سورة طه

وردت روايات عديدة حول عظمة وأهمية هذه السورة في المصادر الإسلامية.

فعن النّبي الأكرم اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن الله تعالى قرأ طه ويس قبل أن يخلق آدم بألفي عام ، فلمّا سمعت الملائكة القرآن قالوا : طوبى لأمّة ينزل هذا عليها ، وطوبى لأجواف تحمل هذا ، وطوبى لألسن تكلّم بهذا»(١) .

وفي حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «لا تدعوا قراءة سورة طه ، فإنّ الله يحبّها ، ويحبّ من قرأها ، ومن أدمن قراءتها أعطاه الله يوم القيامة كتابه بيمينه ، ولم يحاسبه بما عمل في الإسلام ، وأعطي في الآخرة من الأجر حتى يرضى»(٢) .

وفي حديث آخر عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأها أعطي يوم القيامة ثواب المهاجرين والأنصار»(٣) .

ونرى من اللازم أن نكرر هذه الحقيقة ، وهي أنّ كل هذه المكافئات والهبات العظيمة التي وصلت إلينا عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّةعليهم‌السلام مقابل تلاوة سور القرآن ، لا تعني ولا تريد أن كل هذه النتائج تعود على الإنسان بالتلاوة فقط ، بل المراد أن

__________________

(١) مجمع البيان ، الجزء ٧ ، ص ١.

(٢) تفسير النور الثقلين ، الجزء ٣ ، ص ٣٦٧.

(٣) مجمع البيان ، ج ٧ ، ص ١.

٥٢١

تكون التلاوة مقدمة للتفكر والتدبر ، التفكر الذي تتجلى آثاره في كل أعمال وأقوال الإنسان ، وإذا أخذنا المحتوى الإجمالي لهذه السورة بنظر الإعتبار ، فإننا سنرى أنّ للرّوايات تناسبا كاملا مع محتوى هذه السورة.

محتوى السّورة

إنّ سورة (طه) برأي جميع المفسّرين نزلت في مكّة ، وأكثر ما يتحدث محتواها عن المبدأ والمعاد كسائر السور المكّية ، ويذكر نتائج التوحيد وتعاسات الشرك.

في القسم الأوّل ، تشير هذه السورة إشارة قصيرة إلى عظمة القرآن ، وبعض صفات الله الجلالية والجمالية.

أمّا قسم الثّاني الذي يتضمّن أكثر من ثمانين آية ـ فيتحدث عن قصة موسىعليه‌السلام ، من حين بعثته ، إلى نهوضه لمقارعة فرعون الجبار وأعوانه ، إلى مواجهة السحرة وإيمانهم. ثمّ إغراق الله فرعون وأتباعه بصورة إعجازية ، ونجاة موسى والذين آمنوا به.

ثمّ تبيّن حادثة عبادة بني إسرائيل للعجل ، والمواجهة بين هارون وموسى وبين بني إسرائيل.

وفي القسم الثّالث جاءت بعض المسائل حول المعاد ، وجانب من خصوصيات القيامة.

وفي القسم الرّابع الحديث عن القرآن وعظمته.

وفي القسم الخامس تصف الآيات قصّة آدم وحواء في الجنّة ، ثمّ حادثة وسوسة إبليس، وأخيرا هبوطهما إلى الأرض.

وفي القسم الأخير ، تبيّن السورة المواعظ والنصائح ، لكل المؤمنين ، مع توجيه الخطاب في كثير من الآيات إلى نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

* * *

٥٢٢

الآيات

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ )

( طه (١) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (٣) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (٤) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (٦) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (٧) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (٨) )

سبب النّزول

وردت روايات كثيرة في سبب نزول الآيات الأولى من هذه السورة ، يستفاد من مجموعها أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد نزول الوحي والقرآن كان يعبد الله كثيرا ، وخاصّة أنّه كان يكثر القيام والوقوف في العبادة حتى تورمت قدماه ، وكان من شدّة التعب أحيانا يستند في وقوفه على أحدى قدميه ، ثمّ يستند على الأخرى حينا آخر ، وحينا على كعب قدمه ، وآخر على أصابع رجله(١) ، فنزلت الآيات المذكورة وأمرت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يحمل نفسه كل هذا التعب والمشقّة.

__________________

(١) لمزيد الاطلاع على هذه الرّوايات ، راجع : تفسير نور الثقلين ، والدر المنثور ، بداية سورة طه.

٥٢٣

التّفسير

لا تجهد نفسك إلى هذا الحد :

مرّة أخرى نواجه الحروف المقطعة في بداية هذه السورة ، والتي تثير حبّ الاستطاع لدى الإنسان :

لقد بحثنا في تفسير الحروف المقطعة في القرآن في بداية ثلاث سور بحثا كافيا(١) ، غير أنّنا نرى أن من اللازم أن نضيف هنا هذا المبحث ، وهو أن من الممكن أن يكون لكل هذه الحروف المقطعة ـ أو على الأقل لقسم منها ـ معان ومفاهيم خاصّة ، تماما كالكلمة الواحدة التي تتضمّن محتوى معينا.

إنّنا نلاقي في كثير من الرّوايات وكلمات المفسّرين في بداية هذه السورة وسورة «يس» هذا البحث ، وهو أن «طه» تعني : يا رجل ، ونرى كلمة «طه» في بعض شعر العرب أيضا ، ولها معنى شبيه ب (يا رجل) أو قريب منه ، ويمكن أن تعود هذه الأشعار إلى بداية ظهور الإسلام ، أو إلى ما قبل الإسلام(٢) .

وقد نقل لنا أحد المطلعين أن بعض علماء الغرب الملمين بالدراسات الإسلامية ، يعممون هذه النظرية على كل الحروف المقطعة في القرآن ، ويعتقدون أن الحروف المقطعة في بداية كل سورة هي كلمة لها معنى خاص ، أصبح بعضها متروكا مع مرور الزمن ، ووصل إلينا البعض ، وإلّا فإنّ من المستبعد أن مشركي العرب يسمعون الحروف المقطعة ولا يفهمون منها شيئا ، ولا يدركون لها معنى ، ثمّ لا نراهم يسخرون ولا يستهزءون منها ، في حين أنّه لا يرى ولا يلاحظ في أي من التواريخ أنّ هؤلاء الحمقى المتتبعين للعيوب والهفوات قد اتخذوا الحروف المقطعة وسيلة للقيام بردود فعل ضدها وضد الإسلام.

وطبعا من الصعب قبول هذا الرأي بصورة عامّة ، وبالنسبة إلى كل حروف

__________________

(١) بداية سورة البقرة وآل عمران والأعراف من التّفسير الأمثل.

(٢) تفسير مجمع البيان ، ذيل الآية مورد البحث.

٥٢٤

القرآن المقطعة ، إلّا أنّه يمكن قبوله في البعض منها ، وقد بحث هذا الموضوع أيضا في الكتب الإسلامية.

وممّا يلفت النظر ، وهو أنّنا نقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «إنّ طه من أسماء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومعناه : يا طالب الحق الهادي إليه» ويظهر من هذا الحديث أنّ طه مركب من حرفين رمزيين ، فالطاء إشارة إلى طالب الحق ، والهاء إلى الهادي إليه ، ونحن نعلم أن استعمال الحروف الرمزية وعلامات الاختصار فيما مضى وفي يومنا هذا أمر طبيعي وكثير الاستعمال ، خاصّة في عصرنا الحاضر فإنّه كثير التداول والاستعمال جدّا.

وآخر كلام في هذا الباب هو أنّ (طه) ك (يس) قد أصبحت تدريجيا وبمرور الزمان اسما خاصا للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حتى أنّهم يسمون آل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آل طه أيضا ، وعبّر عن الإمام المهدي عجل الله فرجه في دعاء الندبة ب (يا بن طه).

ثمّ تقول الآية :( ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى ) فصحيح أن العبادة والتقرب إلى الله عن طريق مناجاته من أفضل العبادات ، إلّا أنّ لكل عمل حسابا ومقدارا ، وللعبادة أيضا مقدارها ، فلا يجب أن تجهد نفسك بالعبادة حتى تتورم قدماك ، وبالتالي ستضعف قوتك وتعجز عن التبليغ والجهاد.

وينبغي الالتفات إلى أن «تشقى» مأخوذة من مادة الشقاء ضد السعادة ، إلّا أنّ هذه المادة ، وكما يقول الراغب في المفردات ، تأتي أحيانا بمعنى المشقّة والتعب ، والمراد في الآية هذا المعنى ، كما يحكون ذلك أيضا في أسباب النّزول.

ثمّ تبيّن الآية الأخرى الهدف من نزول القرآن فتقول :( إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى ) .إنّ التعبير بـ «تذكرة» من جهة ، وب «من يخشى» من جهة أخرى يشير إلى واقع لا يمكن إنكاره ، وهو : إن التذكرة توحي بأن أسس ومقومات كل التعليمات الإلهية موجودة في أعماق روح الإنسان وطبيعته ، وتعليمات الأنبياء تجعلها مثمرة ، وتوصلها إلى حد النضج ، كما نذكّر أحيانا بمطلب وأمر ما.

٥٢٥

لا نقول : إنّ الإنسان كان يعلم كل العلوم من قبل وزالت من ذاكرته ، وإن أثر التعليم في هذا العالم هو التذكير فحسب ـ كما ينقلون ذلك عن أفلاطون ـ بل نقول : إنّ مادتها الأصلية قد أخفيت في طينة الآدمي (دققوا ذلك).

إنّ تعبير «من يخشى» يبيّن أن نوعا من الإحساس بالمسؤولية ، والذي سمّاه القرآن بالخشية ، إذا لم يكن موجودا في الإنسان ، فسوف لا يقبل الحقائق ، لأنّ قابلية القابل شرط في حمل ونمو كل بذرة وحبة. وهذا التعبير في الحقيقة شبيه بما نقرؤه في أوّل سورة البقرة:( هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) .

ثمّ تتطرق الآيات إلى التعريف بالله تعالى المنزل للقرآن ، لتتضح عظمة القرآن من خلال معرفته ، فتقول :( تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى ) (١) .

إنّ هذا التعبير في الحقيقة إشارة إلى ابتداء وانتهاء نزول القرآن ، انتهاؤه إلى الأرض وابتداؤه من السماوات ، وإذا لم تصف هنا كلمة «وما بينهما» ـ كما في بعض الآيات الأخرى من القرآن ـ فربّما كان لهذا السبب ، وهو أنّ الهدف كان بيان الابتداء والانتهاء.

على كل حال ، فإنّ من المعلوم أنّ الله الذي عمت قدرته وتدبيره وحكمته كل أرجاء الأرض السماء ، إذا أنزل كتابا ، فكم سيكون غني المحتوى ، وجنيّ الثمر؟!

ثمّ تستمر في تعريف الله المنزل للقرآن فتقول :( الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ) وكما قلنا سابقا في تفسير الآية :( ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ) (٢) ، فإنّ كلمة عرش تقال للشيء الذي له سقف ، وأحيانا تطلق على نفس السقف ، أو على الأسرة المرتفعة القوائم كأسرة وكراسي السلاطين ، وفي قصة سليمان نقرأ :

__________________

(١) هناك بحث بين المفسّرين في محل (تنزيلا) من الإعراب ، غير أن الأصح أنّها مفعول مطلق لفعل مجهول محذوف ، وكان التقدير : نزل تنزيلا ممن خلق الأرض.

(٢) الأعراف ، ٥٤.

٥٢٦

( أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها ) (١) .

من البديهي أنّ الله سبحانه ليس له عرش ، ولا محكومة كحكام البشر ، بل المراد من عرش الله كل عالم الوجود الذي يعتبر عرشه ، وبناء على هذا فإنّ قوله تعالى :( اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ) كناية عن تسلط الله ، وإحاطته الكاملة بعالم الوجود ، ونفوذ أمره وتدبيره في جميع أنحاء العالم.

وأساسا فإنّ كلمة «عرش» في لغة العرب ، كناية عن القدرة غالبا ، فنقول مثلا: إن فلانا قد أنزلوه من العرش ، أو أزاحوه عنه ، فهذا يعني أنّهم قد أنهوا حكمه وقدرته ، أو نقول : ثل عرشه.

وعلى كل حال ، فإنّ من السخف أن يتوهم الإنسان من هذا التعبير جسمية الله سبحانه.

ثمّ تتحدث عن مالكية الله بعد حاكميته فتقول :( لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى ) .

«الثرى» في الأصل بمعنى التراب الرطب ، ولما كانت قشرة الأرض ـ فقط ـ هي التي تجف نتيجة لأشعة الشمس وهبوب الرياح ، وتبقى الطبقة السفلى ـ غالبا ـ رطبة ، فإنّه يقال لهذه الطبقة : ثرى ، وعلى هذا فإن( وَما تَحْتَ الثَّرى ) تعني أعماق الأرض وجوفها ، وكلها مملوكة لمالك الملك وخالق عالم الوجود.

إلى هنا بينت ثلاثة أركان من أركان صفات الله : الركن الأوّل : «خالقيته» ، والثّاني: «حاكميته» ، والثّالث : «مالكيته».

وأشارت الآية التالية إلى الرّكن الرّابع ، أي : «العالمية» ، فقالت : «( وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى ) . وهناك نقاش وبحث بين المفسّرين في المراد من «أخفى» هنا :

فذهب بعضهم إلى أنّ السر هو أن يتحدث إنسان مع آخر بصورة خفية ،

__________________

(١) النمل ، ٣٨.

٥٢٧

وأخفى : هو أن يحتفظ الإنسان بذلك القول والأمر في قلبه ولا يحدث به أحدا.

وذهب آخرون : إن «السر» هو ما أضمره الإنسان في قلبه ، و «أخفى» هو الذي لم يخطر على باله ، إلّا أنّ الله سبحانه مطلع عليه وعالم به.

وقال ثالث : إنّ «السر» هو ما يقوم به الإنسان من عمل في الخفاء ، وأخفى:هي النية التي في قلبه.

وقال رابع : إن (السر) يعني أسرار الناس ، و (أخفى) هي الأسرار التي في ذات الله المقدسة.

في حديث عن الإمامين الباقر والصادقعليهما‌السلام : «السر ما أخفيته في نفسك ، وأخفى ما خطر ببالك ثمّ أنسيته»(١) . إنّ هذه الحديث يمكن أن يكون إشارة إلى أن ما يتعلمه الإنسان يودع في مخزن الحافظة ، غاية الأمر أن ارتباط الإنسان قد ينقطع أحيانا مع زاوية من هذا المخزن ، فتنتج حالة النسيان ، ولذلك فإنّه إذا ما تذكر ذلك المنسي بطريقة ما، فسيرى هذا المطلب واضحا ومعروفا لديه ، وبناء على هذا فإن ما ينساه الإنسان هو أخفى أسراره التي أخفيت في زوايا الحافظة ، وقطع ارتباطه بها بصورة مؤقتة ، أو دائمة.

ولكن لا مانع على كل حال من أن تجمع كل هذه التفاسير التي ذكرت أعلاه في مفهوم الكلمة ومعناها الواسع. وعلى هذا فقد رسمت صورة واضحة عن علم الله اللامتناهي، وعرف منزل القرآن من مجموع الآيات أعلاه معرفة إجمالية في الأبعاد الأربعة : الخلقة ، والحكومة ، والمالكية ، والعلم.

والآية التالية ربّما تشير إلى ما ذكرنا :( اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ) . وكما قلنا في تفسير الآية (٨٠) من سورة الأعراف ، فإنّ التعبير بالأسماء الحسنى قد ورد مرارا وتكرارا في الآيات القرآنية ، وفي كتب الحديث ومن البديهي أن كل أسماء الله حسنة ، ولكن لما كانت لبعض أسماء الله وصفاته أهمية أكبر ، فقد

__________________

(١) مجمع البيان ، ذيل الآية مورد البحث.

٥٢٨

سمّيت بالأسماء الحسنى.

ونقرأ في كثير من الرّوايات التي وصلتنا عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّةعليهم‌السلام أن لله (٩٩) اسما ، وكل من دعاه بهذه الأسماء يستجاب دعاؤه ، وكل من أحصاها فهو من أهل الجنّة. ويلاحظ هذا المضمون أيضا في مراجع الحديث المعروفة عند أهل السنة أيضا.

ويبدو أنّ المراد من إحصاء هذه الأسماء هو التخلق بصفاتها ، لا مجرّد ذكر ألفاظها ، ولا شك أن من تخلق بصفة العالم والقادر ، أو الرحيم والغفور وأمثالها ، وسطعت في وجوده أشعة وقبسات من هذه الصفات الإلهية العظيمة ، فإنّه من أهل الجنة ، وممن يستجاب دعاؤه.

ولمزيد الإيضاح راجع الآية (١٨٠) من سورة الأعراف من هذا التّفسير.

* * *

٥٢٩

الآيات

( وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (١٠) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٢) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (١٣) إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (١٤) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (١٥) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (١٦) )

التّفسير

نار في الجانب الآخر من الصحراء!

من هنا تبدأ قصّة نبي الله الكبير موسىعليه‌السلام ، وتفصيل الجوانب المهمّة من هذه القصة المليئة بالأحداث سيأتي في أكثر من ثمانين آية ، لتكون تهدئة ومواساة وتسلية لخاطر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين الذين كانوا يعانون خلال تلك الفترة في

٥٣٠

مكّة ضغوطا شديدة من الأعداء ، ليعلموا أن هذه القوى الشيطانية لا طاقة لها في مقاومة قدرة الله ، وأنّ كل هذه الخطط والمؤامرات رسم على الماء.

وكذلك ليعتبروا بهذه الواقعة المليئة بالعبر والمواعظ ، ويستمروا في طريقهم في توحيد الله وعبادته ، ومحاربة فراعنة وسحرة كل عصر وزمان ، وكذلك مجاهدة الانحرافات الداخلية والرغبات المنحرفة تلك العبر التي تستطيع أن يكون دليلا ومرشدا لهم في مسيرتهم الجهادية.

ويمكن تقسيم مجموع الآيات التي تحدثت عن موسى وبني إسرائيل والفراعنة في هذه السورة إلى أربعة أقسام :

القسم الأوّل : يتحدث عن بداية نبوة موسى وبعثته ، وأوّل ومضات الوحي ، وبتعبير آخر : فإنّ البحث يدور حول مرحلة قصيرة المدة غنية المحتوى وقضاها موسى في الوادي المقدس في تلك الصحراء المظلمة المقفرة.

القسم الثّاني : يتحدث عن دعوة موسى وأخيه هارون لفرعون ـ وملئه ـ إلى دين التوحيد ، ثمّ اشتباكهما بالأعداء.

القسم الثّالث : يبحث عن خروج موسى وبني إسرائيل من مصر ، وكيفية نجاتهم من قبضة فرعون وأتباعه ، وغرق هؤلاء وهلاكهم.

القسم الرّابع : ويتحدث حول الاتجاهات الانحرافية الشديدة لبني إسرائيل عن دين التوحيد إلى الشرك ، وقبول وساوس السامري ، ومواجهة موسى الحازمة لهذا الانحراف.

ونعود الآن إلى الآيات مورد البحث ، والتي ترتبط بالقسم الأوّل. فهذه الآيات تقول بتعبير رقيق وجذاب :( وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى ) ؟ ومن البديهي أن هذا الاستفهام ليس هدفه تحصيل الخبر ، فهو سبحانه مطلع على جميع الأسرار ، بل هو «استفهام تقريري»، وبتعبير آخر فإنّ هذا الاستفهام ، مقدمة لبيان خبر مهم ، كما نقول في مكالماتنا اليومية حينما نريد أن نبدأ بذكر خبر مهم : أسمعت هذا

٥٣١

الخبر الذي ...؟

ثمّ تقول :( إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً ) فبملاحظة أن «القبس» يعني الشعلة القليلة التي تؤخذ من النار ، وبملاحظة أن مشاهدة النار في الصحاري تدل عادة على أن جماعة قد اجتمعوا حولها ، أو أنّهم وضعوها على مرتفع حتى لا تضل القوافل الطريق في الليل ، وأيضا بملاحظة أن «مكثوا» ـ من مادة مكث ـ تعني التوقف القصير ، فمن مجموع هذه التعابير يستفاد أن موسى وزوجته وابنه كانوا يقطعون الصحراء في ليلة ظلماء ليلة كانت مظلمة وباردة كان موسى قد ضل الطريق فيها ، فجلبت انتباهه شعلة نار من بعيد ، وبمجرد رؤيتها قال لأهله : قفوا هنا قليلا فقد رأيت نارا سأذهب إليها حتى آتيكم منها بقبس ، أو أجد الطريق بواسطة النار أو من اجتمع حولها.

ونقرأ في التواريخ أنّ موسىعليه‌السلام عند ما انتهت مدّة عقده مع «شعيب» في «مدين» ، حمل زوجته وابنه وأغنامه وسار من مدين إلى مصر ، فضلّ الطريق ، وكانت ليلة مظلمة ، فتفرقت أغنامه في الصحراء ، فأراد أن يشعل نارا في ذلك الليل البارد ليتدفأ هو وأهله ، وحاول إشعال النار فلم يفلح ، وفي هذه الأثناء عصفت بزوجته آلام الوضع!

لقد حاصره سيل من الحوادث الصعبة وفي هذه الأثناء لاح لعينيه ضياء من بعيد، إلّا أنّه لم يكن نارا ، بل كان نورا إلهيا ، وظن موسى أنّه نار ، فسعى نحوها علّه يجد من يهديه في تلك الصحراء إلى الطريق ، أو يأخذ لأهله جذوة منها(١) .

والآن لنسمع بقية الحادثة من القرآن الكريم :

( فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً ) . ويستفاد من الآية (٣٠) من سورة القصص ، أن موسى قد سمع هذا النداء

__________________

(١) مجمع البيان ، ذيل الآية مورد البحث.

٥٣٢

من جهة شجرة كانت هناك :( نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ ) يستفاد من مجموع هذين التعبيرين أن موسى لما اقترب شاهد النار في داخل الشجرة ـ ويقول المفسّرون أنّها كانت شجرة العناب ـ وهذا بنفسه كان قرينة واضحة على أن هذه النار ليست نارا عادية ، بل إنّ هذا النور الإلهي الذي ليس لم يحترق الشجرة وحسب ، بل إنّه منسجم معها ومعروف ، ألا وهو نور الحياة!

وقد هام موسى لدى سماعه هذا النداء المحيي للروح :( إِنِّي أَنَا رَبُّكَ ) وأحاطت بكل وجوده لذة لا يمكن وصفها ، فمن هذا الذي يتحدث معي؟ إنّه ربّي الذي جللني بالفخر الكلمة( رَبُّكَ ) ليعلمني بأنّي قد تربيت وترعرعت منذ نعومة أظفاري وإلى الآن في ظل رحمته وعنايته ، وأصبحت مهيئا لرحمة عظيمة.

لقد أمر أن يخلع نعليه ، لأنّه قد وضع قدمه في أرض مقدسة الأرض التي تجلى فيها النور الإلهي ، ويسمع فيها نداء الله ، ويتحمل مسئولية الرسالة ، فيجب أن يخطو في الأرض بمنتهى الخضوع والتواضع ، وهذا هو سبب خلعه النعل عن رجله.

بناء على هذا ، فإنّ البحث المفصل الذي بحثه بعض المفسّرين حول خلع النعل ـ ونقلوا أقوالا عن المفسّرين ـ يبدو زائدا. طبعا لقد نقلت روايات في باب تأويل هذه الآية سنبحثها في مقطع البحوث.

إنّ التعبير ب (طوى) إمّا لأنّ اسم تلك الأرض كان أرض طوى ، كما قال ذلك أغلب المفسّرين ، ولأن «طوى» في الأصل بمعنى الإحاطة ، وهنا كناية عن أن البركات المعنوية التي أحاطت هذه الأرض من كل جانب ، ولهذا عبر عنها في الآية (٣٠) من سورة القصص بأنّها «البقعة المباركة».

ثمّ سمع هذا الكلام من نفس المتكلم :( وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى ) ومن بعدها تلقى موسى أوّل جمله من الوحي على شكل ثلاثة أمور :( إِنَّنِي أَنَا

٥٣٣

اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ) شرعت هذه الآية في بيان أهم أصل لدعوة الأنبياء في هذه الآية ، ألا وهو مسألة التوحيد ، وبعدها ذكرت موضوع عبادة الله الواحد كثمرة لشجرة الإيمان والتوحيد ، ثمّ أصدرت له أمر الصلاة بعد ذلك ، وهي تعني أكبر عبادة وأهم ارتباط بين الخلق والخالق ، وأكثر الطرق تأثيرا في عدم الغفلة عن الذات المقدسة.

إنّ هذه الأوامر الثلاثة ، مع أمر الرسالة الذي ورد في الآية السابقة ، ومسألة المعاد التي تأتي في الآية التالية ، تشكّل مجموعة كامله ومضغوطة من أصول الدين وفروعه ، وتكملها بالأمر بالاستقامة الذي سيأتي في آخر الآيات مورد البحث.

ولما كان المعاد هو الأصل والأساس الثّاني ، فبعد ذكر التوحيد وأغصانه وفروعه ، أضافت الآية التالية :( إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى ) .

في هذه الجملة نقطتان يجب الالتفات إليهما :

الأولى : إن معنى جملة( أَكادُ أُخْفِيها ) : يقرب أن أخفي تاريخ قيام القيامة ، ولازم هذا التعبير أنّي لم أخفه من قبل ، ونحن نعلم بصريح كثير من آيات القرآن ، أن أحدا لم يطلع على تاريخ القيامة ، كما في الآية (١٨٧) من سورة الأعراف حيث نقرأ :( يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي ) .

لقد بحث المفسّرون هذا الموضوع ، فالكثير منهم يعتقد أن هذا التعبير نوع من المبالغة ومعناه : إن وقت بدء وقيام القيامة مخفي ومجهول إلى الحد الذي أكاد أخفيه حتى عن نفسي. وقد وردت في هذا الباب رواية أيضا ، ويحتمل أن هذه الفئة من المفسّرين قد اقتبسوا رأيهم من تلك الرّواية.

والتّفسير الآخر هو أن مشتقات (كاد) لا تعني دائما الاقتراب ، بل تأتي أحيانا بمعنى التأكيد ، ولذلك فإنّ بعض المفسّرين فسر (أكاد) ب (أريد) وقد جاء

٥٣٤

هذا المعنى صريحا في بعض متون اللغة(١) .

والنقطة الأخرى : إنّ علّة إخفاء تاريخ القيامة حسب الآية ، هي :( لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى ) وبتعبير آخر : فإنّ كون الساعة مخفية سيوجد نوعا من حرية العمل للجميع. ومن جهة أخرى فإن وقتها لما لم يكن معلوما بدقة ، ويحتمل أن يكون في أي وقت وساعة ، فإنّ نتيجة هذا الخفاء هي حالة الاستعداد الدائم والتقبل السريع للبرامج التربوية ، كما قالوا في فلسفة إخفاء ليلة القدر : إن المراد أن يحيى الناس كل ليالي السنة ، أو كل ليالي شهر رمضان المبارك ، ويتوجهوا إلى الله سبحانه.

وأشارت الآية الأخيرة إلى أصل أساس يضمن نتفيذ كل البرامج العقائدية والتربوية ، فتقول :( فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ ) والّا فسوف ثملك( فَتَرْدى ) فأصمد في مقابل الكافرين ووساوسهم وعراقيلهم ، ولا تدع للخوف من كثرتهم ومؤامرتهم وخططهم الخبيثة إلى قبلك سبيلا ، ولا تشك مطلقا في أحقية دعوتك وأصالة دينك نتيجة هذه الضوضاء.

الملفت للنظر أنّ جملة «لا يؤمن» وردت هنا بصيغة المضارع ، وجملة «واتبع هواه» بصيغة الماضي ، وهي في الحقيقة أشارت إلى هذه النكتة ، وهي أن عدم إيمان منكري القيامة ينبع من أتباع هوى النفس ، فهم يريدون أن يكونوا أحرارا ويفعلون ما تشتهي أنفسهم ، فأي شيء أحسن من أن ينكروا القيامة حتى لا تخدش حرية ميولهم وأهوائهم!

* * *

__________________

(١) نقرأ في قاموس اللغة ، مادة كاد : وتكون بمعنى أراد ، أكاد أخفيها : أريد.

٥٣٥

بحوث

١ ـ المراد من قوله تعالى :( فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ )

وكما قلنا ، فإن ظاهر الآية أنّ موسىعليه‌السلام قد أمر بخلع نعليه احتراما لتلك الأرض المقدسة ، وأن يسير بكل خضوع وتواضع في ذلك الوادي ليسمع كلام الحق ، وأمر الرسالة.

إلّا أنّ بعض المفسّرين قالوا تبعا لبعض الرّوايات : إنّ سبب ذلك هو أن جلد ذلك النعل كان من جلد حيوان ميت.

إنّ هذا الكلام إضافة إلى أنّه يبدو بعيدا بحد ذاته ، لأنّه لا دليل على أن موسىعليه‌السلام كان يستعمل مثل هذه الجلود والنعال الملوثة ، فإن الرّواية التي رويت عن الناحية المقدسة ، صاحب الزمان ـ أرواحنا له الفداء ـ تنفي هذا التّفسير نفيا شديدا(١) . ويلاحظ في التوراة الحالية أيضا ، سفر الخروج ، الفصل الثّالث ، نفس التعبير الذي يوجد في القرآن.

البعض الآخر من الرّوايات يشير إلى تأويل الآية وبطونها : «فاخلع نعليك : أي خوفيك : خوفك من ضياع أهلك ، وخوفك من فرعون»(٢) .

وفي حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام فيما يتعلق بهذا الجانب والزمن من حياة موسىعليه‌السلام حيث يقول : «كن لما لا ترجوا أرجى منك لما ترجو ، فإن موسى بن عمران خرج ليقبس لأهله نارا فرجع إليهم وهو رسول نبي»(٣) ! وهي إشارة إلى أن الإنسان كثيرا ما يأمل أن يصل إلى شيء لكنه لا يصل إليه ، إلّا أن أشياء أهم لا أمل له في نيلها تتهيأ له بفضل الله.

وقد نقل هذا المعنى أيضا عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام (٤) .

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٣٧٣.

(٢) المصدر السابق ، ص ٣٧٤.

(٣) المصدر السابق.

(٤) سفينة البحار ، الجزء الأول ، ص ٥١٣.

٥٣٦

٢ ـ جواب عن سؤال ،

يطرح بعض المفسّرين هنا سؤالا ، وهو : كيف ومن أين علم موسى أنّ الصوت الذي يسمعه صادر من الله سبحانه وتعالى؟ ومن أين تيقن أن الله كلّفه بهذه المهمّة؟

وهذا السؤال يمكن طرحه في شأن سائر الأنبياء أيضا ، ويمكن الإجابة عنه بطريقين:الأوّل : إنّه يحصل للأنبياء في تلك الحالة نوع من المكاشفة الباطنية والإحساس الداخلي تبلغهم وتوصلهم إلى القطع واليقين الكامل ، وتزيل عنهم كل أنواع الشك والشبهة.

والثّاني : إنّ من الممكن أن تكون بداية الوحي مقترنة بأمور خارقة للعادة ، لا يمكن أن تقع وتتمّ إلا بقوة الله ، كما أن موسىعليه‌السلام شاهد النار في الشجرة الخضراء ، ومن هذا فهم أن المسألة إلهية وإعجازية.

وينبغي أن نذكّر بهذا الموضوع أيضا ، وهو أن سماع كلام الله سبحانه وبلا واسطة ، لا يعني أن لله حنجرة وصوتا ، بل إنّه يخلق بقدرته الكاملة أمواج الصوت في الفضاء ، ويتكلم مع أنبيائه عن هذا الطريق ، ولما كانت نبوة موسىعليه‌السلام قد بدأت بهذه الكيفية ، فقد لقب ب (كليم الله).

٣ ـ الصلاة أفضل وسيلة لذكر الله

أشير في الآيات ـ محل البحث ـ إلى واحدة من أهم أسرار الصلاة ، وهي أن الإنسان يحتاج في حياته في هذا العالم ـ وبسبب العوامل المؤدية إلى الغفلة ـ إلى عمل يذكّره بالله والقيامة ودعوة الأنبياء وهدف الخلق في فترات زمنية مختلفة ، كي يحفظه من الغرق في دوامة الغفلة والجهل ، وتقوم الصلاة بهذه الوظيفة المهمّة.

إنّ الإنسان يستيقظ في الصباح من النوم ذلك النوم الذي عزله عن كل

٥٣٧

موجودات العالم ، ويريد أن يبدأ نشاطه الحياتي ، فقبل كل شيء يتوجه إلى الصلاة ، ويصفي قلبه وروحه بذكر الله ، ويستمد منه القوّة والمدد ، ويستعد للجد والسعي الممتزج بالصدق والمودة.

وعند ما يغرق في زحمة الأعمال اليومية ، وتمضي عدة ساعات وقد نسي ذكر الله ، وفجأة يحين الظهر ، ويسمع صوت المؤذن : الله أكبر! حي على الصلاة! فيتوجه إلى الصلاة ويقف بين يدي ربّه ويناجيه ، وإذا كان غبار الغفلة قد استقر على قلبه فإنّه يغسله بهذه الصلاة ، ومن هنا يقول الله سبحانه لموسى في أوّل الأوامر في بداية الوحي :( وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ) .

وممّا يجلب الانتباه أنّ هذه الآية تقول :( وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ) أمّا الآية (٢٨) من سورة الرعد فتقول :( أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) والآيات (٢٧ ـ ٣٠) من سورة الفجر تقول :( يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي ) وإذا جعلنا هذه الآيات الثلاثة جنبا إلى جنب فسنفهم جيدا أن الصلاة تذكر الإنسان بالله ، وذكر الله يجعل نفسه مطمئنة ، ونفسه المطمئنة ستوصله إلى مقام العباد المخلصين والجنّة الخالدة.

* * *

٥٣٨

الآيات

( وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (١٧) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (١٨) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (١٩) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (٢٠) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (٢١) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (٢٢) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (٢٣) )

التّفسير

عصا موسى واليد البيضاء :

لا شك أنّ الأنبياء يحتاجون إلى المعجزة لإثبات ارتباطهم بالله ، وإلّا فإنّ أي واحد يستطيع أن يدعي النّبوة ، وبناء على هذا فإن معرفة الأنبياء الحقيقيين من المزيفين لا يتيسر إلّا عن طريق المعجزة. وهذه المعجزة يمكن أن تكون بذاتها دعوة وكتابا سماويا للنّبي ، ويمكن أن تكون أمورا أخرى من قبيل المعجزات الحسية والجسمية ، إضافة إلى أن المعجزة مؤثرة في نفس النّبي ، فهي تزيد من عزيمته وإيمانه وثباته.

على كل حال ، فإن موسىعليه‌السلام بعد تلقيه أمر النّبوة ، يجب أن يتلقى دليلها

٥٣٩

وسندها أيضا ، وهكذا تلقّى موسىعليه‌السلام في تلك الليلة المليئة بالذكريات والحوادث معجزتين كبيرتين من الله ، ويبيّن القرآن الكريم هذه الحادثة فيقول :( وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى ) ؟

إنّ هذا السؤال البسيط المقترن باللطف والمحبة ، إضافة إلى أنّه بثّ الطمانينة في نفس موسىعليه‌السلام الذي كان غارقا حينئذ في دوامة من الاضطراب والهيجان فإنّه كان مقدمة لحادثة مهمّة.

فأجاب موسى :( قالَ هِيَ عَصايَ ) ولما كان راغبا في أن يستمر في حديثه مع محبوبه الذي فتح الباب بوجهه لأوّل مرّة ، وربّما كان يظن أيضا أن قوله :( هِيَ عَصايَ ) غير كاف ، فأراد أن يبيّن آثارها وفوائدها فأضاف :( أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُ ) (١) ( بِها عَلى غَنَمِي ) أي أضرب بها على أغصان الشجر فتتساقط أوراقها لتأكلها الأغنام( وَلِيَ فِيها مَآرِبُ ) (٢) ( أُخْرى ) .

من المعلوم ما للعصا لأصحابها من فوائد ، فهم يستعملونها أحيانا كسلاح للدفاع عن أنفسهم أمام الحيوانات المؤذية والأعداء ، وأحيانا يصنعون منها مظلة في الصحراء تقيهم حرّ الشمس ، وأحيانا أخرى يربطون بها وعاء أو دلوا ويسحبون الماء من البئر العميق.

عل كل حال ، فإنّ موسى غط في تفكير عميق : أي سؤال هذا في هذا المجلس العظيم ، وأي جواب أعطيه؟ وماذا كانت تلك الأوامر؟ ولماذا هذا السؤال؟

وفجأة( قالَ أَلْقِها يا مُوسى فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى ) . «تسعى» من مادة السعي أي المشي السريع الذي لا يصل إلى الركض.

__________________

(١) «أهش» من مادة هشّ ـ بفتح الهاء ـ أي ضرب أوراق الشجر وتساقطها.

(٢) «مآرب» جمع مأربة ، أي الحاجة والمقصد.

٥٤٠

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576