الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل6%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 576

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 576 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 264188 / تحميل: 11782
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

الصدق مَنجاة

ما أكثر الأفراد الذين التزموا الصدق، في المواقع الحرجة، والمآزق الشديدة؛ وكان ذلك سبب خلاصهم.

لا يجهل أحد، مدى الجرائم التي قام بها الحَجَّاج بن يوسف الثقفي، والدماء التي أراقها بغير حَقٍّ.

وفي يوم مِن الأيَّام، جيء بجماعة مِن أصحاب عبد الرحمان مأسورين، وكان قد صمَّم على قتلهم جميعاً، فقام أحدهم واستأذن الأمير في الكلام، ثمَّ قال:

إنَّ لي عليك حَقَّاً! فأنقذني وفاءً لذلك الحَقَّ.

قال الحَجَّاج: وما هو؟

قال: كان عبد الرحمان يسبُّك في بعض الأيَّام، فقمت ودافعت عنك.

قال الحَجَّاج: ألك شهود؟

فقام أحد الأُسارى وأيَّد دعوى الرجل، فأطلقه الحَجَّاج، ثمَّ التفت إلى الشاهد، وقال له: ولماذا لم تُدافع عنِّي في ذلك المجلس؟

أجاب الشاهد - في أتمِّ صراحة ـ: لأنِّي كنت أكرهك.

فقال الحَجَّاج: أطلقوا سراحه لصدقه (1) .

____________________

(1) الطفل، ج1.

٤١

احِفظ الله يَحفظك

خطب الحَجَّاج مَرَّة فأطال، فقام رجل فقال: الصلاة، فإنَّ الوقت لا ينتظرك، والرَّبَّ لا يعذرك، فأمر بحبسه، فأتاه قومه، وزعموا أنَّه مجنون، وسألوه أنْ يُخلِّي سبيله، فقال: إنْ أقرَّ بالجنون خلَّيت سبيله.

فقيل له، فقال: مَعاذ الله، لا أزعم أنَّ الله ابتلاني، وقد عافاني.

فبلغ ذلك الحَجَّاج فعفا عنه لصدقه (1) .

____________________

(1) الطفل، ج1.

٤٢

المَنطق السليم

بلغ المنصور الدوانيقي، أنَّ مَبْلغاً ضَخماً مِن أموال بني أُميَّة مُودعة عند رجل، فأمر الربيع بإحضاره.

يقول الربيع: فأحضرت الرجل، وأخذته إلى مجلس المنصور.

فقال له المنصور: بلغني أنَّ أموال بَني أُميَّة مودَعة عندك، ويجب أنْ تُسلِّمني إيَّاها بأجمعها.

فقال الرجل: هل الخليفة وارث الأُمويِّين؟!

فأجاب: كلاَّ.

فقال: هل الخليفة وصيُّ الأُمويِّين؟!

فقال المنصور: كلاَّ.

فقال الرجل: فكيف تُطالبني بأموال بَني أُميَّة؟!

فأطرق المنصور بُرهةً، ثمَّ قال: إنَّ الأُمويِّين ظلموا المسلمين، وانتهكوا حُقوقهم، وغصبوا أموال المسلمين وأودعوها في بيت المال.

فقال الرجل: إنَّ الأُمويِّين امتلكوا أموالاً كثيرة، كانت خاصَّة بهم، وعلى الخليفة أنْ يُقيم شاهداً عدلاً، على أنَّ الأموال التي في يدي لبَني أُميَّة، هي مِن الأموال التي غصبوها وابتزُّوها مِن غير حَقٍّ.

فكَّر المنصور ساعة، ثمَّ قال للربيع: إنَّ الرجل يصدق.

فابتسم بوجهه، وقال له: ألك حاجة؟!

قال الرجل: لي حاجتان:

٤٣

الأُولى: أنْ تأمر بإيصال هذه الرسالة إلى أهلي بأسرع وقت؛ حتَّى يهدأ اضطرابهم، ويذهب رَوعهم.

والثانية: أنْ تأمر بإحضار مَن أبلغك بهذا الخبر؛ فو الله، لا توجد عندي لبَني أُميَّة وديعة أصلاً، وعندما أُحضرت بين يدي الخليفة، وعلمت بالأمر، تصوَّرت أنِّي لو تكلَّمت بهذه الصورة كان خلاصي أسهل.

فأمر المنصور الربيع بإحضار المُخبِر.

وعندما حضر نظر إليه الرجل نظرة، ثمَّ قال: إنَّه عبدي سَرَق مِنِّي ثلاثة آلاف دينار وهرب.

فأغلظ المنصور في الحديث مع الغلام، وأيَّد الغلام كلام سيِّده في أتمِّ الخَجَل، وقال: إنِّي اختلقت هذه التُّهمة لأنجو مِن القَبض عليَّ.

هنا رَقَّ قلب المنصور لحال العبد، وطلب مِن سيِّده أنْ يعفو عنه، فقال الرجل: عفوت عنه، وسأُعطيه ثلاثة آلاف أُخرى، فتعجَّب المنصور مِن كرامة الرجل وعظمته.

وكلَّما ذُكِر اسمه كان يقول: لم أرَ مثل هذا الرجل (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٤٤

النبي أولى بالمسلمين مِن أنفسهم

وزَّع رسول الله غنائم حُنين - تبعاً لمصالح مُعيَّنة - على المُهاجرين فقط، ولم يُعط الأنصار سَهماً واحداً...

ولمَّا كان الأنصار قد بذلوا جهوداً عظيمة، في رُفعة لواء الإسلام، وخدمات جليلة في نُصرة هذا الدين؛ فقد غَضب بعضهم مِن هذا التصرُّف، وحملوه على التحقير والإهانة، فبلغ الخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأمر بأنْ يُجمع الأنصار في مكان ما، وأن لا يشترك معهم غيرهم في ذلك المجلس، ثمَّ حضر هو وعلي (عليهما السلام)، وجلسا في وسط الأنصار، ثمَّ قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم: (أُريد أنْ أسألكم عن بعض الأمور فأجيبوني عليها).

قال الأنصار: سَلْ، يا رسول الله.

قال لهم: (ألم تكونوا في ضَلال مُبين، وهداكم الله بيَّ؟).

قالوا: بلى يا رسول الله.

قال: (ألم تكونوا على شَفا حُفرة مِن الهلاك والنار، والله أنقذكم بيَّ؟).

قالوا: بلى.

قال: (ألم يكن بعضكم عدوَّ بعض، فألَّف الله بين قلوبكم على يديَّ؟).

قالوا: بلى.

فسكت لحظة، ثمَّ قال لهم: (لماذا لا تُجيبونني بأعمالكم؟).

قالوا: ما نقول؟!

قال: (أما لو شِئتم لقُلتم: وأنت قد جئتنا طريداً فآويناك، وجئتنا خائفاً فآمنَّاك، وجئتنا مُكَذَّباً فصدَّقناك...).

هذه الكلمات الصادرة عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) أفهمت الأنصار

٤٥

أنه لا يُنكَر فضلهم، ولا يُنسى جهودهم، ولم يكن ما صدر منه تِجاههم صادراً عن احتقار أو إهانة...

ولذلك فقد أثَّر فيهم هذا الكلام تأثيراً بالغاً، وارتفعت أصواتهم بالبُكاء، ثمَّ قالوا له: هذه أموالنا بين يديك، فإنَّ شِئت فاقسمها على قومك، وبهذا أظهروا ندمهم على غضبهم واستغفروه.

فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (اللَّهمَّ اغفر للأنصار، ولأبنا الأنصار، ولأبناء أبناء الأنصار) (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٤٦

الكريم يَسأل عن الكريم

في إحدى الغزوات، كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يُصلِّي في مُعسكره، فمَرَّ بالمُعسكر عِدَّة رجال مِن المسلمين، وتوقَّفوا ساعة، وسألوا بعض الصحابة عن حال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ودعوا له، ثمَّ اعتذروا مِن عدم تمكُّنهم مِن انتظار النبي حتَّى يفرغ مِن الصلاة فيُسلِّموا عليه؛ لأنَّهم كانوا على عَجلٍ، ومضوا إلى سبيلهم. فانفتل رسول الله (صلى الله عليه وآله) مُغضباً، ثم قال لهم: (يقف عليكم الركب ويسألونكم عنِّي، ويُبلِّغوني السلام، ولا تعرضون عليهم الطعام!).

ثمَّ أخذ يتحدَّث عن جعفر الطيار، وعظمة نفسه، وكمال أدبه، واحترامه للآخرين... (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٤٧

مَن كانت أفعاله كريمة اتَّبعه الناس

ليست فضيلة احترام الناس، وتكريمهم في الشريعة الإسلاميَّة الغرَّاء، خاصَّة بالمسلمين فيما بينهم فقط، فإنَّ غير المسلمين أيضاً، كانوا ينالون هذا الاحترام والتكريم مِن المسلمين، فقد تصاحب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) مع رجل ذِمِّيٍّ خارج الكوفة، في أيَّام حكومته، وكان الذِمِّيُّ لا يعرف الإمام، فقال له: أين تُريد يا عبد الله؟

قال الإمام علي (عليه السلام): (أُريد الكوفة).

ولمَّا وصلا إلى مُفترق الطُّرق المؤدِّية إلى الكوفة، توجَّه الذِّمِّيِّ إلى الطريق الذي يُريده، وانفصل عن الإمام (عليه السلام)... ولكنَّه لم يَخطُ أكثر مِن بِضع خُطوات، حتَّى شاهد أمراً عَدَّه غريباً؛ فقد رأى أنَّ صاحبه الذي كان قاصداً الكوفة، ترك طريقه وشايعه قليلاً. فسأله ألست تقصد الكوفة؟

قال الإمام: (بلى؟).

قال الذِّمِّيُّ: (ذلك هو الطريق المؤدِّي إلى الكوفة).

قال الإمام: (أعلم ذلك).

سأل الذِّمِّيُّ باستغراب: ولماذا تركت طريقك؟

قال الإمام (عليه السلام): (هذا مِن تمام حُسن الصُّحبة، أنْ يُشيِّع الرجل صاحبه هُنيَّهة إذا فارقه، وكذلك أمرنا نبيِّنا).

قال الذِّمِّيُّ: هكذا أمر نبيُّكم؟!

قال الإمام: (أجلْ).

٤٨

قال الذِّمِّيُّ: لا جَرَمَ، أنَّما تبعه مَن تبعه لأفعاله الكريمة.

ثمَّ ترك طريقه الذي كان يقصده، وتوجَّه مع الإمام (عليه السلام) إلى الكوفة، وهما يتحدَّثان عن الإسلام وتعاليمه العظيمة، فأسلم الرجل (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٤٩

انزل عن مِنبر أبي!

زيد بن علي، عن أبيه: (إنَّ الحسين بن علي (عليهما السلام) أتى عمر بن الخطاب، وهو على المنبر يوم الجمعة، فقال: انزل عن مِنبر أبي، فبكى عمر، ثم قال: صدقت - يا بُني - مِنبر أبيك لا منبر أبي. وقام عليٌّ (عليه السلام).

وقال: ما هو - والله - عن رأيي.

قال: صدقت! والله، ما اتَّهمتك يا أبا الحسن).

هذا دليل على أنَّ عمر أيضاً، كان يعرف أنَّ الحسين ذو شخصيَّة مُمتازة، وله إرادة مُستقلَّة، وليس كلامه صادراً عن تلقين مِن أبيه، بل هو نِتاج فِكره (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٥٠

يَفرُّ مَن أخطأ!

قصد المأمون بغداد بعد وفاة الإمام الرضا (عليه السلام)، وخرج يوماً للصيد، فمَرَّ في أثناء الطريق برَهط مِن الأطفال يلعبون، ومحمد بن علي الجواد (عليه السلام) معهم، وكان عمره يومئذٍ إحدى عشرة سنة فما حوله... فلمَّا رآه الأطفال فرُّوا، بينما وقف الجواد (عليه السلام) في مكانه ولم يَفرَّ. مِمَّا أثار تَعجُّب المأمون؛ فسأله:

لماذا لم تلحق بالأطفال حين فرُّوا؟

ـ يا أمير المؤمنين، لم يكن بالطريق ضِيقٌ لأوسِّعه عليك بذهابي، ولم يكن لي جريمة فأخشاها، وظنِّي بك حَسنٌ أنَّك لا تضرب مَن لا ذنب له فوقفت.

تعجَّب المأمون مِن هذه الكلمات الحكيمة، والمنطق الموزون، والنبرات المُتَّزنة للطفل فسأله: ما اسمك؟

ـ محمد.

ـ محمد ابن مَن؟

ابن عليٍّ الرضا...

عند ذاك ترحَّم المأمون على الرضا (عليه السلام)، ثمَّ ذهب لشأنه (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٥١

رِفقاً بالحسين!

روي عن أُمِّ الفضل زوجة العباس بن عبد المطلب، مُرضعة الحسين (عليه السلام) أنَّها قالت: أخذ مِنِّي رسول الله (صلى الله عليه وآله) حسيناً أيَّام رضاعه، فحمله فأراق شيئاً على ثوبه، فأخذتُه بعنف حتَّى بكى. فقال (صلى الله عليه وآله): (مَهلاً يا أُمَّ الفضل، إنَّ هذا مِمَّا يُطهِّره الماء، فأيُّ شيء يُزيل هذا الغبار عن قلب الحسين؟!) (1).

____________________

(1) الطفل، ج2.

٥٢

كرهت أنْ أُعجِّله!

دعا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى صلاة، والحسن مُتعلِّق، فوضعه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى جانبه وصلَّى، فلمَّا سجد أطال السجود، فرفعت رأسي مِن بين القوم، فإذا الحسن على كتف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلمَّا سلَّم قال له القوم: يا رسول الله، لقد سَجدت في صلاتك هذه سَجدةً ما كنت تسجدها! كأنَّما يوحى إليك؟!

فقال: (لم يوحَ إليَّ، ولكنَّ ابني كان على كتفي، فكرهت أنْ أُعجِّله حتَّى نزل).

هذا العمل مِن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تجاه ولده الصغير، أمام ملأٍ مِن الناس، نموذج بارز مِن سلوكه في تكريم الطفل.

إنَّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عمل أقصى ما يُمكن مِن احترام الطفل، في إطالته سجدته، وأرشد الناس ضمناً إلى كيفيَّة بناء الشخصيَّة عند الطفل (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٥٣

تكريم الطفل

عن الإمام الصادق (عليه السلام)، أنَّه قال: (صلَّى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالناس الظهر، فخفَّف في الرَّكعتين الأخيرتين.

فلمَّا انصرف قال له الناس: هل حدث في الصلاة شيء؟!

قال: وما ذاك؟

قالوا: خفَّفت في الرَّكعتين الأخيرتين.

فقال لهم: أما سمعتم صُراخ الصبي؟!).

هكذا نجد النبي العظيم، يُطيل في سجدته تكريماً للطفل تارة، ويُخفِّف في صلاته تكريماً للطفل أيضاً تارة أُخرى، وهو في كلتا الحالتين، يُريد التأكيد في احترام شخصيَّة الصبي، وتعليم المسلمين طريق ذلك (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٥٤

هلاَّ ساويتَ بينهما؟!

نظر النبي (صلى الله عليه وآله) إلى رجل له ابنان، فقبَّل أحدهما وترك الآخر.

فقال النبي (صلى الله عليه وآله): (فهلاَّ ساويت بينهما!).

وفي حديث آخر: (اعدلوا بين أولادكم، كما تُحبُّون أنْ يعدلوا بينكم).

إنَّ الأمل الوحيد للطفل، ومبعث فرحه ونشاطه، هو عطف الوالدين وحنانهما، ولا يوجد عامل يُهدِّئ خاطر الطفل، ويبعث فيه الاطمئنان والسكينة، مِثل عَطف الوالدين، كما لا يوجد عامل يبعث فيه القَلق والاضطراب، مِثل فُقدان جزء مِن حَنان الوالدين أو جميعه.

إنَّ حسد الولد تِجاه أخيه الصغير، الذي وِلد حديثاً لا غرابة فيه؛ لأنَّه يشعر بأنَّ قِسماً مِن العناية، التي كانت مُخصَّصة له، قد سُلِبت منه، والآن لا يُستأثر باهتمام الوالدين. بلْ إنَّ الحُبَّ والحنان يجب أنْ يتوزَّع عليه وعلى أخيه الأصغر (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٥٥

التصابي مع الصبي

عن يعلى العامري: أنَّه خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى طعام دُعي إليه، فإذا هو بحسين (عليه السلام) يلعب مع الصبيان، فاستقبل النبي (صلى الله عليه وآله) أمام القوم، ثمَّ بسط يديه، فطفر الصبي ههنا مَرَّة وههنا مَرَّة أُخرى، وجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يُضاحكه حتَّى أخذه، فجعل إحدى يديه تحت ذِقنه، والأُخرى تحت قَفاه، ووضع فاه على فيه وقبَّله.

إنَّ نبيَّ الإسلام العظيم، يُعامل سِبطه بهذه المُعاملة أمام الناس؛ لكي يُرشد الناس إلى ضرورة إدخال السرور على قلوب الأطفال، وأهميَّة اللعب معهم، فضلاً عن قيامه بواجب تربوي عظيم (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٥٦

أو ما ترضى أنْ تحمل بدناً حمله الرسول؟!

عن أبي رافع، قال: كنت أُلاعب الحسن بن عليٍّ (عليهما السلام) وهو صبيٌّ بالمَداحي، فإذا أصابت مِدحاتي مِدحاته؛ قلت احملني فيقول: (ويحَك! أتركب ظهراً حمله رسول الله؟!)، فأتركه.

فإذا أصابت مُدحاته مُدحاتي قلت: لا أحملك كما لا تحملني!

فيقول: (أوَ ما ترضى أنْ تحمل بدناً حمله رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟!)، فأحمله.

مِن هذا الحديث يظهر جليَّاً إباء الحسن (عليه السلام)، وعِزَّة نفسه، وعُظم شخصيَّته.

إنَّ الطفل الذي يُربيه الإسلام في حِجره، ويُحيي شخصيَّته النفسيَّة، يعتقد بسموِّ مقامه، ولا يرضى التكلُّم بذلَّة وحقارة (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٥٧

وا حيائي مِنك يا أمير المؤمنين!

رأى الإمام علي (عليه السلام) امرأة في بعض الطُّرقات، تحمل قِربة مِن الماء، فتقدَّم لمُساعدتها، وأخذ القِربة وأوصلها إلى حيث تُريد، وفي الطريق سألها عن حالها، فقالت: إنَّ عليَّاً أرسل زوجي إلى إحدى النواحي فقُتِل، وقد خلَّف لي عِدَّة أطفال، لا أقدر على إعالتهم؛ فاضطررت للخدمة في بعض البيوت. فرجع عليٌّ (عليه السلام) وأمضى تلك الليلة في مُنتهى الانكسار والاضطراب، وعند الصباح حمل جِراباً مَملوءاً بالطعام، واتَّجه إلى دار تلك المرأة. وفي الطريق كان بعض الأشخاص يطلبون منه أنْ يَحمل عنه الجراب فيقول لهم: (مَن يحمل عني أوزاري يوم القيامة؟).

وصل إلى الدار، وطرق الباب، فقالت المرأة: مَن الطارق؟

قال: (الرجل الذي أعانك في الأمس على حمل القِربة. لقد جئتك ببعض الطعام لأطفالك).

فتحت الباب وقالت: رضي الله عنك، وحكم بيني وبين علي بن أبي طالب!

فقال لها: (أتخبزين أم تُسكِّتين الأطفال فأخبز؟).

قالت: أنا أقدر على الخبز، فقُم أنت بتسكيت الأطفال.

أخذتْ المرأة تعجن الدقيق، وأخذ عليٌّ (عليه السلام) يخلط اللَّحم بالتمر، ويُطعم الأطفال منه، وكلَّما ألقم طفلاً لقمة قال له برفق ولين: (يا بُني، اجعل علي بن أبي طالب في حِلٍّ).

ولمَّا اختمر العجين، أوقد عليٌّ (عليه السلام) التنور، وفي الأثناء دخلت امرأة تعرفه، وما أنْ رأته حتَّى صاحت بصاحبة الدار ويحَك! هذا أمير المؤمنين!

فبادرته المرأة، وهي تقول: وا حيائي منك يا أمير المؤمنين!

فقال: بلْ وا حيائي منكِ - يا أمة الله - فيما قصَّرت مِن أمرك (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٥٨

لو كنتم تؤمنون بالله ورسوله لرحمتم الصِّبيان

ورد في الحديث: أنَّ النبي (صلى الله عليه وآله) كان يُصلِّي يوماً في فِئة، والحسين صغير بالقُرب منه، فكان النبي إذا سجد جاء الحسين (عليه السلام) فركب ظهره، ثمَّ حرَّك رجليه فقال: (حَلٍ، حَلٍ!).

فإذا أراد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنْ يرفع رأسه، أخذه فوضعه إلى جانبه، فإذا سجد عاد إلى ظهره، وقال: (حَلٍ، حَلٍ!)، فلم يزل يفعل ذلك حتَّى فرغ النبي مِن صلاته.

فقال يهودي: يا محمد، إنَّكم لتفعلون بالصبيان شيئاً ما نفعله نحن.

فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (أما لو كنتم تؤمنون بالله ورسوله لرحمتم الصبيان).

قال: فإنِّي أؤمن بالله وبرسوله؛ فأسلم لمَّا رأى كرمه مع عظيم قدره (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٥٩

أين الدُّرُّ والذهب مِن سورة الفاتحة؟

كان عبد الرحمان السلمي، يُعلِّم وَلداً للإمام الحسين (عليه السلام) سورة الحمد، فعندما قرأ الطفل السورة كاملة أمام والده مَلأ الإمام فمَ مُعلِّمه دُّرَّاً، بعد أنْ أعطاه نقوداً وهدايا أُخَر. فقيل له في ذلك!

فقال (عليه السلام): (وأين يقع هذا مِن عطائه)، يعني: تعليمه (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

وهنا صدر الأمر لموسى( قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى ) (١) .

وفي الآية (٣١) من سورة القصص نقرأ :( وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ ) .

وبالرغم من أن خوف موسى هنا قد أثار التساؤل لدى بعض المفسّرين بأن هذه الحالة كيف تناسب موسى مع الشجاعة التي عهدنا لدى موسى ، وأثبتها عمليا طوال عمره عند محاربته الفراعنة؟ إضافة إلى صفات وشروط الأنبياء بصورة عامّة.

إلّا أنّ الجواب عن هذا السؤال يتّضح بملاحظة نكتة واحدة ، وهي أن من الطبيعي أن كل إنسان ، مهما كان شجاعا وغير هياب ، إذا رأى فجأة قطعة خشب تتحول إلى حية عظيمة وتتحرك بسرعة ، فلا بدّ أن يرتبك ويخاف ولو لمدّة قصيرة ويسحب نفسه جانبا توقيا ، إلّا أن يكون هذا المشهد قد تكرر أمامه مرارا ، ورد الفعل الطبيعي هذا لا يكون نقطة ضعف ضد موسى أبدا. ولا تنافي الآية (٣٩) من سورة الأحزاب حيث تقول:( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ ) فإن هذا الخوف طبيعي ومؤقت وسريع الزوال أمام حادثة لم تحدث من قبل قط ، وخارق للعادة.

ثمّ أشارت الآية التالية إلى المعجزة المهمّة الثّانية لموسى ، فأمرته :( وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى ) (٢) .

وبالرغم من أنّ للمفسّرين في تفسير جملة( وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ ) أقوالا مختلفة ، إلّا أنّه بملاحظة الآية (٣٢) من سورة القصص ، والتي تقول :( اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ ) والآية (١٢) من سورة النمل ، والتي تقول :( وَأَدْخِلْ يَدَكَ

__________________

(١) «السيرة» ـ كما يقول الراغب في المفردات ـ بمعنى الحالة الباطنية ، سواء غريزية أو اكتسابية والبعض فسرها هنا بمعنى الهيئة والصورة.

(٢) آية منصوبة على أنها اسم حال محل الحال ، والحال لضمير مستتر في (تخرج).

٥٤١

فِي جَيْبِكَ ) سيستفاد أن موسى كان مأمورا أن يدخل يده في جيبه ويوصلها إلى تحت إبطه، لأنّ الجناح في الأصل جناح الطير ، ويمكن أن تكون هنا إشارة إلى تحت الإبط.

كلمة (بيضاء) من البياض ، وجملة( مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ) إشارة إلى أن بياض يدك ليس نتيجة مرض البرص وأمثاله ، بدليل أن لها لمعانا وبريقا خاصا يظهر في لحظة ويختفي في لحظة أخرى.

إلّا أنّه يستفاد من بعض الرّوايات أنّ يد موسى قد صارت في تلك الحالة نورانية بشكل عجيب ، وإذا كان كذلك فيجب أن نقبل أن لجملة( مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ) معنى آخر غير الذي قلناه ، أي إن لها نورانية لا عيب فيها ، فلا تؤذي عينا ، ولا يرى فيها بقعة سوداء ، ولا غير ذلك.

وتقول الآية الأخيرة ، وكنتيجة لما مر بيانه في الآيات السابقة :( لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى ) ومن المعلوم أن المراد من الآيات الكبرى هو تلكما المعجزتان المهمتان اللتان وردتا أعلاه ، وما احتمله بعض المفسّرين من أنّها إشارة إلى المعجزات التي سيضعها الله سبحانه تحت تصرف موسى فيما بعد يبدو بعيدا جدا.

* * *

بحوث

١ ـ معجزتان كبيرتان

لا شك أنّ ما ذكر أعلاه من تبدل عصا موسى إلى حية عظيمة تسعى ، وقد عبرت الآية (١٠٧) من سورة الأعراف عنها ب (ثعبان) وكذلك البريق الخاص لليد في لحظة قصيرة ثمّ رجوعها إلى الحالة الأولى ، ليس أمرا طبيعيا ، أو نادرا ، أو قليل الوقوع ، بل إن كلا الأمرين يعتبر خارقا للعادة لا يمكن أن يقع بدون

٥٤٢

الاستناد إلى قوة فوق قوة البشر ، أي قوة اللهعزوجل .

إنّ من يؤمن بالله ، ويعتقد أن علمه وقدرته غير محدودة ، لا يقدر على إنكار هذه الأمور ، أو ينسبها إلى الخرافة كالماديين.

المهم في المعجزة هو عدم استحالتها عقلا ، وهذا الأمر يصدق هنا كاملا ، فلا يوجد أي دليل عقلي على نفي تبدل العصا إلى ثعبان عظيم.

أليس العصا والحية العظيمة كانتا ترابا في الماضي السحيق؟ من الطبيعي أن المدة قد استغرقت ملايين أو مئات الملايين من السنين حتى ظهرت على شكل هذه الموجودات. لا تفاوت في هذه المسألة سواء قلنا بتكامل الأنواع أو ثبوتها ، لأن أخشاب الأشجار والحيوانات قد خلقت جميعا من التراب على كل حال. غاية ما في الأمر أن العمل الإعجازي هنا اختصر كل تلك المراحل التي كان يجب أن تطوى خلال سنين طويلة في لحظة واحدة ، وفي مدّة قصيرة جدّا ، فهل يبدو مثل هذا الأمر محالا؟

من الممكن أن أكتب باليد كتابا ضخما في سنة ، فإذا وجد شخص يستند ويعتمد على الإعجاز ويؤدي هذا العمل في ساعة أو أقل ، فإنّ هذا ليس محالا عقليا ، بل هو خارق للعادة. (دققوا ذلك).

على كل حال ، فإنّ القضاء العجول حول المعجزات ، ونسبتها ـ لا سمح الله ـ إلى الخرافات أمر بعيد عن المنطق والعقل. الشيء الوحيد الذي يحفز ويثير هذه الأفكار أحيانا ، هو أنّنا قد اعتدنا على العلل والمعلولات الطبيعية ، إلى الحد الذي اعتقدنا أنّها من الضروريات ، وكل ما يخالفها فهو مخالف للضرورة ، في حين أن هذه العلاقة بين العلة والمعلول أمر طبيعي ، وليس له صفة الضرورية ، ولا مانع من أن يظهرها عامل أقوى من الطبيعة بشكل آخر(١) .

__________________

(١) تحدثنا أيضا حول هذا الموضوع ذيل الآية (١٠٧) من سورة الأعراف.

٥٤٣

٢ ـ قابليات الأشياء الخارقة

من المسلّم أن موسى الذي اختار لنفسه عصا الرعي تلك ، لم يكن يصدق أن هذا الموجود البسيط يستطيع القيام بمثل هذا العمل العظيم بأمر الله ، ويحطم قوّة الفراعنة ، إلّا أنّ الله سبحانه قد أراه أن نفس هذه الآلة البسيطة تستطيع أن توجد مثل تلك القوة الخارقة.

إنّ هذا ـ في الواقع ـ درس لكل البشر بأن لا يستصغروا أي شيء ، فإن كثيرا من الموجودات التي ننظر إليها باحتقار تحتوي في باطنها على قدرات عظيمة نحن غافلون عنها وغير مطلعين عليها.

٣ ـ ماذا تقول التوراة حول هذا الموضوع؟

في الآيات أعلاه قرأنا أنّ موسىعليه‌السلام عند ما أخرج يده من جيبه كانت بيضاء مضيئة لا عيب فيها ، ويمكن أن تكون هذه الجملة من أجل نفي التعبير الذي يلاحظ في التوراة المحرفة ، فقد ورد في التوراة : (وقال الله له أيضا : الآن ضع يدك إلى جنبك ، فوضع يد إلى جنبه ، وأخرجها فإذا يده مبروصة كالثلج)(١) .

إن كلمة «المبروص» مأخوذة من البرص ، وهو نوع من الأمراض ، ومن المسلم أن استعمال هذا التعبير هنا خطأ وغير مناسب.

* * *

__________________

(١) التوراة ، سفر الخروج ، الفصل الرابع ، الجملة ٦.

٥٤٤

الآيات

( اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٢٤) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (٣٥) قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (٣٦) )

التّفسير

موسى وطلباته القيمة :

إلى هنا وصل موسى إلى مقام النبوة ، وتلقى معاجز مهمّة تسترعي الانتباه ، إلّا أنّه من الآن فصاعدا صدر له أمر الرسالة رسالة عظيمة وثقيلة جدّا الرسالة التي تبدأ بإبلاغ أعتى وأخطر شخص في ذلك المحيط ، فتقول الآية :( اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى ) .

أجل فمن أجل إصلاح بيئة فاسدة ، وإيجاد ثورة شاملة يجب البدء برؤوس الفساد وأئمّة الكفر أولئك الذين لهم تأثر في جميع أركان المجتمع ، ولهم حضور في كل مكان ، بأنفسهم أو أفكارهم أو أنصارهم أولئك الذين

٥٤٥

تركزت كل الوسائل والمنظمات الإعلامية والاقتصادية والسياسية في قبضتهم ، فإذا ما أصلح هؤلاء ، أو قلعت جذورهم عند عدم التمكن من إصلاحهم ، فيمكن أن يؤمن خلاص ونجاة المجتمع ، وإلّا فإنّ أي إصلاح يحدث فإنّه سطحي ومؤقت وزائل.

والملفت للنظر أن دليل وجوب الابتداء بفرعون ذكر في جملة قصيرة :( إِنَّهُ طَغى ) حيث جمع في كلمة (طغيان) كل شيء الطغيان وتجاوز الحدود في كل أبعاد الحياة ، ولذلك يقال هؤلاء الأفراد : طاغوت.

ومضافا إلى أنّ موسىعليه‌السلام لم يستوحش ولم يخف من هذه المهمّة الثقيلة الصعبة ، ولم يطلب من الله أي تخفيف في هذه المهمة ، فإنّه قد تقبلها بصدر رحب ، غاية ما في الأمر أنّه طلب من الله أسباب النصر في هذه المهمة. ولما كان أهم وأول أسباب النصر الروح الكبيرة ، والفكر الوقاد ، والعقل المقتدر ، وبعبارة أخرى : رحابة الصدر ، فقد( قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ) .

نعم إنّ أوّل رأسمال لقائد ثوري هو رحابة الصدر ، والصبر الطويل ، والصمود والثبات، والشهامة وتحمل المشاكل والمصاعب ، ولذلك فإنّنا نقرأ في حديث عن أمير المؤمنينعليه‌السلام : «آلة الرياسة سعة الصدر»(١) . وقد بحثنا الصدر ومعناه في ذيل الآية (١٢٥) من سورة الأنعام.

ولما كان هذا الطريق مليئا بالمشاكل والمصاعب التي لا يمكن تجاوزها إلّا بلطف الله ، فقد طلب موسى من الله في المرحلة الثّانية أن تيسر له أموره وأعماله ، وأن تذلل هذه العقبات التي تعترضه ، فقال :( وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ) .

ثمّ طلب موسى أن تكون له قدرة على البيان بأعلى المراتب فقال :( وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي ) فصحيح أن امتلاك الصدر الرحب أهم الأمور والأسس ، إلّا أنّ بلورة هذا الأساس تتمّ إذا وجدت القدرة على إراءته وإظهاره بصورة كاملة ،

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الحكمة ١٧٦.

٥٤٦

ولذلك فإنّ موسى بعد طلب انشرح الصدر ، ورفع الموانع والعقبات ، طلب من الله حل العقدة من لسانه.

خاصّة وأنّه بيّن علة هذا الطلب فقال :( يَفْقَهُوا قَوْلِي ) فهذه الجملة في الحقيقة تفسير للآية التي قبلها ، ومنها يتّضح أنّ المراد من حلّ عقدة اللسان لم يكن هو التلكؤ وبعض العسر في النطق الذي أصاب لسان موسىعليه‌السلام نتيجة احتراقه في مرحلة الطفولة ـ كما نقل ذلك بعض المفسّرين عن ابن عباس ـ بل المراد عقد اللسان المانعة من إدراك وفهم السامع ، أي أريد أتكلم بدرجة من الفصاحة والبلاغة والتعبير بحيث يدرك أي سامع مرادي من الكلام جيدا.

والشاهد الآخر على هذا التعبير هي الآية (٣٤) من سورة القصص :( وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً ) . واللطيف في الأمر أن «أفصح» من مادة فصيح ، وهي في الأصل كون الشيء خالصا من الشوائب ، ثمّ أطلقت على الكلام البليغ المعبر الخالي من الحشو والزيادات.

وعلى كل حال ، فإنّ القائد والقدوة والموفق والمنتصر هو الذي يمتلك إضافة إلى سعة الفكر وقدرة الروح ، بيانا أخاذا بليغا خاليا من كل أنواع الإبهام والقصور.

ولما كان إيصال هذا الحمل الثقيل ـ حمل رسالة الله ، وقيادة البشر وهدايتهم ، ومحاربة الطواغيت والجبابرة ـ إلى المحل المقصود يحتاج إلى معين ومساعد ، ولا يمكن أن يقوم به إنسان بمفرده ، فقد كان الطلب الرابع لموسى من الله هو :( وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي ) .

«الوزير» من مادة الوزر ، وهي في الأصل تعني الحمل الثقيل ، ولما كان الوزراء يتحملون كثيرا من الأحمال الثقيلة على عاتقهم ، فقد أطلق عليهم هذا الاسم ، وكذلك تطلق كلمة الوزير على المعاون والمساعد.

أمّا لماذا طلب موسى أن يكون هذا الوزير من أهله؟ فسببه واضح ، لأنّه

٥٤٧

يعرفه جيدا ، ومن جهة أخرى فإنّه أحرص من غيره ، فكم هو جيد وجميل أن يستطيع الإنسان أن يتعاون مع شخص تربطه به علائق روحية وجسمية؟!

ثمّ يشير إلى أخيه ، فيقول :( هارُونَ أَخِي ) وهارون ـ حسب نقل بعض المفسّرين ـ كان الأخ الأكبر لموسى ، وكان يكبره بثلاث سنين ، وكان طويل القامة ، جميلا بليغا ، عالي الإدراك والفهم ، وقد رحل عن الدنيا قبل وفاة موسى بثلاث سنين(١) .

وقد كان نبيّا مرسلا كما يظهر من الآية (٤٥) من سورة المؤمنون :( ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ ) . وكذلك كانت له بصيرة بالأمور وميزانا باطنيا لتمييز الحق من الباطل ، كما ورد في الآية (٤٨) من سورة الأنبياء :( وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً ) . وأخيرا فقد كان نبيّا وهبه الله لموسى من رحمته :( وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا ) (٢) ، فقد كان يسعى جنبا إلى جنب مع أخيه في أداء هذه الرسالة الثقيلة.

صحيح أن موسىعليه‌السلام عند ما طلب ذلك من الله في تلك الليلة المظلمة في الوادي المقدس حيث حمّل الرسالة ، كان قد مضى عليه أكثر من عشر سنين بعيدا عن وطنه ، إلّا أنّ ارتباطه ـ عادة ـ بأخيه لم يقطع بصورة كاملة ، بحيث أنّه يتحدث بهذه الصراحة عنه ، ويطلب من الله أن يشاركه في هذا البرنامج الكبير.

ثمّ يبيّن موسىعليه‌السلام هدفه من تعيين هارون للوزارة والمعونة فيقول :( اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ) و «الأزر» أخذت في الأصل من مادة الإزار ، أي اللباس ، وتطلق خاصّة على اللباس الذي يشد ويعقد وسطه ، ولذلك قد تطلق هذه الكلمة على الظهر أو القوّة والقدرة لهذا السبب

ويطلب ، من أجل تكميل هذا المقصد والمطلب :( وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي )

__________________

(١) مجمع البيان ذيل الآية.

(٢) مريم ، ٥٣.

٥٤٨

فيكون شريكا في مقام الرسالة ، وفي إجراء وتنفيذ هذا البرنامج الكبير ، إلّا أنّه يتبع موسى على كل حال ، فموسى إمامه ومقتداه.

وفي النهاية يبيّن نتيجة هذه المطالب فيقول :( كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً ) وتعلم حاجاتنا جيدا ، ومطّلع على مصاعب هذا الطريق أكثر من الجميع، فنحن نطلب منك أن تعيننا على طاعتك ، وأن توفقنا وتؤيدنا في أداء واجباتنا ومسئولياتنا الملقاة على عاتقنا.

ولما كان موسى لم يهدف من طلباته المخلصة هذه إلّا الخدمة الأكثر والأكمل ، فإنّ الله سبحانه قد لبى طلباته في نفس الوقت( قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى ) .

إنّ موسى في الواقع طلب كل ما كان يلزمه في هذه اللحظات الحساسة الحاسمة التي يجلس فيها لأوّل مرّة على مائدة الضيافة الإلهية ويطأ بساطها ، والله سبحانه كان يحب ضيفه أيضا ، حيث لبّى كل طلباته وأجابه فيها في جملة قصيرة تبعث الحياة ، وبدون قيد وشرط ثمّ وبتكرار اسم موسى أكمل له الاستجابة وحلاوتها وأنزال كل إبهام عن قلبه ، وأي تشويق وافتخار أن يكرر المولى اسم العبد؟

* * *

بحوث

١ ـ شروط قيادة الثورة

لا شك أنّ تبديل البنية في نظام المجتمعات البشرية ، وتغيير القيم المادية والملحدة إلى القيم المعنوية والإنسانية ، وخاصّة إذا كان الطريق يقع في طريق الفراعنة العنودين ، ليس بالعمل الهين ، بل يحتاج إلى استعداد روحي وجسمي ، وقدرة على التفكير ، وقوة في البيان ، واستمرار الإمدادات الإلهية ، ووجود

٥٤٩

الصاحب الذي يطمأن إليه. وهذه هي الأمور التي طلبها موسىعليه‌السلام في بداية الرسالة من ربّه.

إن هذه المطالب تبيّن بنفسها أنّ موسىعليه‌السلام كان يمتلك روح الوعي والاستعداد حتى قبل النّبوة ، وتبيّن أيضا هذه الحقيقة ، وهي أنّه كان واقفا على أبعاد مسئوليته جيدا ، وكان يعلم بأنّه ماذا يجب أن يستعمل في الساحة في تلك الظروف ، وأي سلاح هو الأمضى ، ليمتلك القدرة على مقارعة الاجهزة الفرعونية ، وهذا نموذج وقدوة لكل القادة الربانيين في كل عصر وزمان ، ولكل السائرين في هذا الطريق.

٢ ـ مقارعة الطغاة

لا شك أنّ لفرعون نقاطا وصفات منحرفة كثيرة ، فقد كان كافرا ، عابدا للأصنام ، ظالما ، مستبدا وو إلّا أنّ القرآن طرح من بين كل هذه الانحرافات مسألة الطغيان( إِنَّهُ طَغى ) لأن روح الطغيان والتمرد في مقابل أمر الحق عصارة وخلاصة كل هذه الانحرافات وجامع لها.

ويتّضح بصورة ضمنية أنّ هدف الأنبياء في الدرجة الأولى هو مقارعة الطواغيت والمستكبرين ، وهذا في الواقع عكس التحليل الذي يذكره الماركسيون حول الدين تماما ، حيث زعموا أنّ الدين في خدمة الطغاة والمستعمرين الماضين.

إنّ كلام هؤلاء قد يصح في شأنه المذاهب المصطنعة التخديرية ، إلّا أنّ تاريخ الأنبياء الحقيقيين ينفي بصراحة تامة ظنون هؤلاء الواهية في شأن الأديان والمذاهب ، خاصّة وإن ثورة موسى بن عمران شاهد ناطق في هذا المجال.

٥٥٠

٣ ـ كل عمل يحتاج إلى تخطيط ووسائل

الدرس الآخر الذي نستفيد من حياة موسى وجهاده العظيم ، هو أنّه حتى الأنبياء ، ومع امتلاكهم للمعجزات ، كانوا يستعينون بالوسائل العادية الطبيعية ، من البيان البليغ والمؤثر ، ومن طاقات المؤمنين بهم الفكرية والجسمية ، في سبيل تقدم عملهم وتطوره ، فليس صحيحا أن ننتظر المعاجز في حياتنا دائما ، بل يجب تهيئة البرامج وأدوات العمل ، والاستمرار في التقدم بالطرق والوسائل الطبيعية ، فإذا ما واجهتنا عقدة ومعضلة ، فيجب أن ننتظر اللطف الإلهي هناك.

٤ ـ التسبيح والذكر

لقد جعل موسى الهدف النهائي من طلباته ـ كما في الآيات محل البحث ـ هو:( كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً ) ومعلوم أنّ التسبيح يعني تنزيه الله عن تهمة الشرك والنواقص الإمكانية ، ومعلوم أيضا أنّ مراد موسىعليه‌السلام لم يكن تكرار جملة «سبحان الله» مرارا ، بل كان الهدف إيجاد حقيقة التسبيح في ذلك المجتمع الملوث في ذلك الزمان ، فيقتلعوا الأصنام ، ويهدموا معابد الأوثان ، وتغسل الأدمغة من أفكار الشرك ، وترفع النواقص المادية والمعنوية.

وبعد تنزيه المجتمع عن هذه المفاسد ، عليهم أن يحيوا في القلوب ذكره تعالى وذكر صفاته ، ويجعلون الصفات الإلهية تشع في أرجاء المجتمع ، والتأكيد على كلمة «كثيرا»توحي بأنّه كان يريد أن يجعل هذا الأمر عاما ، وأن يخرجه من الإختصاص بدائرة محدودة.

٥ ـ الرّسول الأعظم يكرر مطالب موسى

يستفاد من الرّوايات الواردة في كتب أهل السنة والشيعة أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد طلب من الله نفس تلك المطالب التي طلبها موسىعليه‌السلام من الله من أجل تقدم عمله ،

٥٥١

مع فارق ، هو أنّه وضع اسم عليعليه‌السلام مكان اسم هارون ، وقال : «اللهم إنّي أسألك بما سألك أخي موسى أن تشرح لي صدري ، وأن تيسر لي أمري ، وأن تحل عقدة من لساني ، يفقهوا قولي ، واجعل لي وزيرا من أهلي ، عليا أخي ، أشدد به أزري ، وأشركه في أمري ، كي نسبحك كثيرا ، ونذكرك كثيرا».

وقد نقل هذا الحديث السيوطي في تفسير «الدر المنثور» ، والعلّامة الطبرسي في «مجمع البيان» ، وكثيرون وغيرهم من كبار علماء الفريقين باختلاف في العبارات.

وهذا الحديث يشبه حديث المنزلة ، حيث قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليعليه‌السلام : «ألا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبي بعدي».

وهذا الحديث قد ورد في كتب العامّة المعتمدة ، وكما قال المحدث البحراني في كتابه «غاية المرام» ؛ إنّ هذا الحديث قد ورد بمائة طريق عن أهل السنة ، وبسبعين طريق من طرق الشيعة» ، فهو معتبر إلى الحدّ الذي لا يدع أي مجال للشك فيه ، أو لإنكاره.

وقد بحثنا حول حديث المنزلة بحثا ضافيا في ذيل الآية (١٤٢) من سورة الأعراف ، والذي نعتبر ذكره ضروريا هنا ، هو أن بعض المفسّرين ـ كالآلوسي في «روح المعاني» ـ مع قبوله أصل الرّواية ، إلّا أنّه أشكل في دلالتها ، وقالوا : إن جملة( أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) لا تثبت غير الاشتراك في أمر إرشاد ودعوة الناس إلى الحق!

إلّا أنّ من الواضح أن مسألة الاشتراك في الإرشاد ، وبتعبير آخر : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ونشر الدين ، واجب على كل فرد من المسلمين ، وهذا لم يكن شيئا يطلبه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليعليه‌السلام إن هذا توضيح للواضحات ، ولا يمكن تفسير دعاء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك مطلقا.

ومن جهة أخرى ، فإنّا نعلم أن الأمر لم يكن الاشتراك في النّبوة ، وبناء على

٥٥٢

هذا نخلص إلى هذه النتيجة ، وهي أن المطلوب مقام خاص غير النّبوة ، وهل يمكن أن يكون إلّا الولاية الخاصّة؟! أليس ذلك هو الخلافة بالمفهوم الخاص الذي تقول به الشيعة؟ وجملة «وزيرا» أيضا تؤيد وتقوي ذلك.

وبتعبير آخر ، فإنّ هناك واجبات لا يقوم بها كل الأفراد ، وهي حفظ دين النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كل أنواع التحريف والانحراف ، وتفسير أي إبهام يبديه البعض في محتوى الدين ، وقيادة الأمّة في غيبة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعده ، والمساعدة المؤثرة جدا في تحقيق أهدافه.

إن هذا هو الشيء الذي طلبه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : «أشركه في أمري» لعليعليه‌السلام من الله سبحانه.

ومن هنا يتّضح أن وفاة هارون قبل موسى لا توجد إشكالا في هذا البحث ، لأنّ الخلافة والنيابة تكون أحيانا في زمان غيبة القائد كما تولاها هارون عند غياب موسى ، وتكون أحيانا بعد وفاته كما كان عليعليه‌السلام بعد وفاة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكلاهما لهما نفس القدر المشترك والجامع الواحد ، وإن كانت المصاديق متفاوتة. (دققوا ذلك).

* * *

٥٥٣

الآيات

( وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (٣٩) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (٤٠) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١) )

التّفسير

الربّ الرحيم :

يشير الله سبحانه في هذه الآيات إلى فصل آخر من فصول حياة موسىعليه‌السلام ، والذي يرتبط بمرحلة الطفولة ونجاته من قبضة الفراعنة. وهذا الفصل وإن كان من ناحية التسلسل التاريخي قبل فصل الرسالة والنّبوة ، إلّا أنّه ذكر كشاهد على شمول عناية اللهعزوجل لموسىعليه‌السلام من بداية عمره ، وهي في الدرجة الثّانية من

٥٥٤

الأهمية بالنسبة إلى الرسالة ، فيقول أوّلا :( وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى ) (١) .

وبعد ذكر هذا الإجمال تتطرق الآيات إلى الشرح والتفصيل ، فتقول :( إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى ) وهو إشارة إلى أنّنا قد علّمنا أمّه كل الطرق التي تنتهي إلى نجاة موسىعليه‌السلام من قبضة الفراعنة ، لأنّه يستفاد من سائر آيات القرآن أن فرعون شدّد ارهابه على بني إسرائيل للتصدّي لقوتهم وعصيانهم المحتمل ، أو أنّه ـ على رأي بعض المفسّرين والمؤرخين ـ كان قد أمر بقتل أبنائهم وإبقاء البنات للخدمة ، لكي يمنع ولادة ولد من بني إسرائيل كان قد أخبره المنجمون أنّه يثور عليه ويزيل ملكه.

من الطبيعي أن جواسيس وعيون فرعون كانوا يراقبون بشدة محلات بني إسرائيل وبيوتهم ، وكانوا لا يدعون ذكرا يولد إلّا وقتلوه.

وذهب بعض المفسّرين إلى أن فرعون كان يريد تحطيم قوّة بني إسرائيل من جهة ، وكان من جهة أخرى غير راغب في انقراض نسلهم تماما ، لأنّه كان يعتبرهم عبيدا يصلحون للخدمة ، ولذلك كان قد أمر بأنّ يتركوا الأولاد سنة ويذبحونهم سنة أخرى ، فكان أن ولد موسى في العام الذي يقتل فيه الأولاد!

على كل حال ، فإنّ هذه الأم أحسّت بأن حياة وليدها في خطر ، وإخفاؤه مؤقتا سوف لا يحل المشكلة في هذه الأثناء ألهمها الله ـ الذي رشّح هذا الطفل لثورة كبيرة ـ أن أودعيه عندنا ، وانظري كيف سنحافظ عليه ، وكيف سنرده إليك؟ فألقى في قلب الأمّ:( أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِ ) .

«اليم» هنا يعني نهر النيل العظيم الذي يطلق عليه أحيانا اسم البحر لسعته وكثرة مياهه.

__________________

(١) كما قلنا سابقا أيضا فإنّ «المنة» في الأصل من المن ، وهو يعني الأحجار الكبيرة التي كانوا يزنون بها ، ولذلك فإن كل نعمة كبيرة ونفيسة يقال عنها : إنّها منة. والمراد في الآية هو هذا المعنى ، وهذا المعنى مفهوم جميل وايجابي للمنّة ، إلّا أنّ الإنسان إذا عظّم عمله الصغير بكلامه ، وذكرّ الطرف الآخر به ، فإنّه مصداق حي للمنة السلبية المذمومة.

٥٥٥

والتعبير بـ( اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ ) ربما كان إشارة إليها أن ارفعي ولدك بكل شجاعة وبدون أي خوف أو ارتياب ، وضعيه في الصندوق ، وألقيه في نهر النيل ، ولا تدعي للخوف سبيلا إلى نفسك.

كلمة «التابوت» تعني الصندوق الخشبي ، ولا يعني دائما الصندوق الذي توضع فيه الأموات كما يظن البعض ، بل إنّه له معنى واسعا ، حيث تطلق أحيانا على الصناديق الأخرى أيضا ، كما قرأنا ذلك في قصة طالوت وجالوت في ذيل الآية (٢٤٨) من سورة البقرة(١) .

ثمّ تضيف :( فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ ) والملفت أن كلمة «عدو» قد تكررت هنا ، وهذا في الحقيقة تأكيد على عداء فرعون لله ، ولموسى وبني إسرائيل ، وأشارت إلى أن الشخص الذي انغمس إلى هذا الحد في العداء هو الذي سيتولى في النهاية تربية موسى ليعلم البشر الضعيف أنّه ليس عاجزا عن التمرد على أمر الله وحسب، بل إنّ الله سيربيه على يد عدوه وفي أحضانه! وعند ما يريد أن يفني المتمردين الظالمين فسيفنيهم ويبيدهم بأيديهم ، ويحرقهم بالنار التي يوقدونها بأنفسهم ، فأي قدرة عجيبة قدرته تعالى؟!

ولما كان موسىعليه‌السلام يجب أن يحفظ في حصن أمين في هذا الطريق المليء بالمخاطر ، فقد ألقى الله قبسا من محبّة عليه ، إلى الحد الذي لم ينظر إليه أحد إلا ويعشقه ، فلا يكف عن قتله وحسب ، بل لا يرضى أن تنقص شعرة من رأسه ، كما يقول القرآن في بقية هذه الآيات :( وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ) فأي درع عجيب هذا الحب! إنّه لا يرى بالعين ، ولكنه أقوى من الحديد والفولاذ!!

يقولون : إنّ قابلة موسى كانت من الفراعنة ، وكانت مصممة على رفع خبر ولادته إلى فرعون ، إلّا أنّه لما وقعت عينها على عين المولود الجديد ، فكأن ومضة برقت من عينه وأضاءت أعماق قلبها ، وطوّقت محبته رقبتها ، وابتعدت

__________________

(١) راجع المجلد الثّاني من التّفسير الأمثل ذيل الآية (٢٤٨) من سورة البقرة.

٥٥٦

عن رأسها كل الأفكار السيئة.

ونقرأ في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام في هذا الباب : «فلمّا وضعت أم موسى موسى نظرت إليه وحزنت عليه واغتمت وبكت وقالت : تذبح الساعة ، فعطف الله الموكلة بها عليه ، فقالت لأم موسى : مالك قد اصفر لونك؟ فقالت : أخاف أن يذبح ولدي ، فقالت : لا تخافي وكان موسى لا يراه أحد إلا أحبه» ، وكان درع المحبة هذا هو الذي حفظه تماما في بلاط فرعون.

وتقول الآية في النهاية :( وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي ) فلا شك في أنّه لا تخفى ذرة عن علم الله في السماء ولا في الأرض ، وكل شيء حاضر بين يديه ، إلّا أنّ هذا التعبير إشارة إلى العناية الخاصّة التي أولاها الله سبحانه لموسى وتربيته.

وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين اعتقد أنّ جملة( وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي ) مقصورة على مرحلة رضاعة موسى وأمثالها ، إلّا أنّ من المعلوم أن لهذه الجملة معنى واسعا ، تدخل فيه كل أنواع التربية والعناية ، وصنع موسىعليه‌السلام من أجل حمل راية الرسالة مع عناية الله الخاصّة.

ويستفاد بوضوح من القرائن الموجودة في هذه الآيات ، والآيات المشابهة لها في القرآن، وممّا جاء في الرّوايات والتواريخ ، أنّ أمّ موسىعليه‌السلام قد ألقت الصندوق الذي كان فيه موسى وهي في حالة من الخوف والقلق ، وحملته أمواج النيل ، وأخذ قلب أم موسى يخفق من مشاهدة هذا المنظر ، إلّا أنّ الله قد ألهم قلبها أن لا يدع للهم والحزن إليه طريقا ، فهو سبحانه سيعيده إليها في النهاية سالما.

وكان قصر فرعون قد بني على جانب شط النيل ، ويحتمل أن فرعا من هذا النهر العظيم كان يمر داخل قصره ، فحملت أمواج المياه الصندوق إلى ذلك الفرع الصغير ، وبينما كان فرعون وزوجته على حافة الماء ينظرون إلى الأمواج ، وإذا بهذا الصندوق الغريب يلفت انتباههما ، فأمر جنوده أن يخرجوا الصندوق من

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٣٧٨.

٥٥٧

الماء ، فلمّا فتحوا الصندوق شاهدوا بكامل العجب مولودا جميلا فيه ، وهو شيء لم يكن بالحسبان.

وهنا تنبه فرعون إلى أن هذا الوليد ينبغي أن يكون من بني إسرائيل ، وإنما لاقى هذا المصير خوفا من جلاوزته ، فأمر بقتله ، إلّا أنّ زوجته ـ التي كانت عقيما ـ تعلقت جدّا بالطفل ، فقد نفذ النور الذي كان ينبعث من عيني الطفل إلى زوايا قلبها ، وجذبها إليه ، فضربت على يد فرعون وطلبت منه أن يصرف النظر عن قتله ، وعبرت عن هذا الطفل بأنّه( قُرَّتُ عَيْنٍ ) ، بل وتمادت في طلبها ، فطلبت منه أن يتخذاه ولدا ليكون مبعث أمل لهما ، ويكبر في أحضانهما ، وأصرّت على طلبها حتى أصابت سهامها ، وحققت ما تصبو إليه.

غير أن الطفل جاع ، وأراد لبنا ، فأخذ يبكي ويذرف الدموع ، فرق قلب امرأة فرعون لهذه الدموع والبكاء واهتز ، ولا محيص من أن يبحث الخدم عن مرضعة له ، إلّا أنّهم كلما جاؤوه بمرضعة لم يقبل ثديها ، لأن الله سبحانه كان قد قدر أن يعيده إلى أمّه ، فهب المأمورون للبحث من جديد ، وكانوا يطرقون الأبواب بحثا عن مرضع جديدة.

والآن نقرأ بقية القصة على ضوء الآيات الشريفة :

نعم يا موسى ، فإنّا كنّا قدرنا أن تتربى بأعيننا وعلمنا( إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ ) بأمر أمك لتراقب مصيرك ، فرأت جنود فرعون :( فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ ) وربّما أضافت بأن هذه المرأة لها لبن نظيف ، وأنا مطمئنة بأن هذا الرضيع سيقبلها.

فاستبشر الجنود على أمل أن يجدوا ضالتهم عن هذا الطريق ، فذهبوا معها ، فأطلعت أخت موسى ـ والتي كانت تظهر نفسها بمظهر الشخص الغريب والمجهول ـ أمّها على الأمر ، فجاءت أمّه إلى بلاط فرعون ، من دون أن تفقد سيطرتها على أعصابها ، بالرغم من أن أمواجا من الحب والأمل كانت قد أحاطت بكل قلبها ، واحتضنت الطفل ، فلمّا شم الطفل رائحة أمّه ، وكانت رائحة

٥٥٨

مألوفة لديه ، التقم ثديها كأنّه تضمن لذة الروح وحلاوتها ، واشتغل الطفل بشرب اللبن بلهفة وعشق شديدين ، فانطلقت صرخات الفرح من الحاضرين ، وبدت آثار الفرح والسرور على زوجة فرعون.

يقول البعض : إنّ فرعون تعجب من هذه الحادثة ، وقال : من أنت إذ قبل هذا الطفل لبنك في حين أنّه ردّ جميع الأخريات؟ فقالت الأم : إنّي امرأة طيبة الريح واللبن ، ولا يرفض لبني أي طفل!

عل كل حال فقد أمرها فرعون بالاهتمام بالطفل ، وأكدت زوجته كثيرا على حفظه وحراسته ، وأمرت أن يعرض عليها الطفل بين فترة وأخرى.

هنا تحقق ما قاله القرآن :( فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ ) ولتستطيع تربيته بدون خوف من جلاوزة فرعون. ويستفاد من هذه العبارة أن فرعون أودع الطفل أمه لتذهب به إلى بيتها ، إلّا أنّ من الطبيعي أن ابن عائلة فرعون! الذي تعلقت به امرأته وأحبته حبا شديدا ، يجب أن يعرض عليها بين فترة وأخرى.

ومرّت السنون والأعوام ، وتربى موسىعليه‌السلام وسط هالة من لطف الله ومحبته ، وفي محيط آمن ، وشيئا فشيئا أصبح شابا. وكان ذات يوم يمر من طريق فرأى رجلين يتشاجران ، أحدهما من بني إسرائيل والآخر من الأقباط ـ (وهم المصريون قوم فرعون) ـ ولما كان بنو إسرائيل يعيشون دائما تحت ضغط الأقباط الظالمين وأذاهم ، هبّ موسى لمعونة المظلوم الذي كان من بني إسرائيل ، ومن أجل الدفاع عنه وجه ضربة قاتلة إلى ذلك القبطي ، فقضت عليه.

فتأثر موسى مما حدث وقلق ، لأن حراس فرعون علموا في النهاية من الذي قام بعملية القتل هذه ، فنشطوا للبحث عنه ومطاردته. إلّا أنّ موسى ، وحسب إشارة بعض أصدقائه عليه ، خرج متخفيا من مصر ، وتوجه إلى مدين ، فوجد محيطا وجوا آمنا في ظل النّبي «شعيب» ، والذي سيأتي شرح حاله في تفسير

٥٥٩

سورة القصص إن شاء الله تعالى

هنا حيث يقول القرآن الكريم :( وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً ) فبعد حادثة القتل اختبرناك كثيرا والقينا بك في اتون الحوادث والشدائد( فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ) وبعد اجتياز هذا الطريق الطويل ، والاستعداد الروحي والجسمي ، والخروج من دوامة الأحداث بشموخ وانتصار فقد( جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى ) . أي حيث لاستلام مهمّة الرسالة في زمان مقدّر إلى هذا المكان.

إن كلمة «قدر» ـ برأي كثير من المفسّرين ـ تعني الزمان الذي قدر فيه أن ينتخب موسى للرسالة. إلّا أنّ البعض اعتبرها بمعنى المقدار ، كما جاء هذا المعنى في بعض الآيات القرآنية ، الآية (٢١) من سورة الحجر ، وطبقا لهذا التّفسير سيكون معنى الآية : يا موسى إنّك قد نشأت وأصبحت ـ بعد تحمل هذه المصاعب والامتحانات وعشت سنين في بيت نبي كبير كشعيب ـ ذا قدر ومقام وشخصية ، وحصلت على استعداد لتلقي الوحي.

ثمّ يضيف :( وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ) فمن أجل مهمّة تلقي الوحي الصعبة ، ومن أجل قبول الرسالة ، ومن أجل هداية العباد وإرشادهم ربّيتك واختبرتك في الحوادث الصعبة ومشاقّها ، ومنحتك القوة والقدرة ، والآن حيث ألقيت هذه المهمّة الكبرى على عاتقك ، فإنّك مؤهل من جميع الجوانب.

«اصطناع» من مادة «صنع» بمعنى الإصرار والاقدام الأكيد على إصلاح شيء (كما يراه الراغب في مفرداته). ويعني إنّني قد اصلحتك من كل الجهات وكأنني أريدك لي وهذا الكلام هو أكثر ما يمكن أن يقال في تصوير محبّة الله لهذا النّبي العظيم ، وذهب البعض أنّه يشبه ما قاله الحكماء من : إنّ الله إذا أحبّ عبدا تفقده كما يتفقد الصديق صديقه.

نهاية مجلد التّاسع

* * *

٥٦٠

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576