الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل6%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 576

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 576 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 264393 / تحميل: 11789
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

للآية ، بأن أحد المشركين ـ واسمه العاص بن وائل ـ قد منع أجيره أجره ـ والظاهر أنّه كان مسلما ـ وقال متهكما : إن كان ما يقوله محمّد حقا فنحن أولى من غيرنا بنعم الجنّة ، وسندفع أجر هذا العامل بالكامل هناك! فنزلت هذه الآية وقالت : إنّ الجنّة مختصة بمن كان تقيا.

* * *

٤٨١

الآيتان

( وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) )

سبب النّزول

ذكر جماعة من المفسّرين في سبب نزول هاتين الآيتين ، أنّ الوحي انقطع أيّاما ، ولم يأت جبرئيل رسول الوحي الإلهي إلى النّبي ، فلمّا انقضت هذه المدّة قال له : قال عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما منعك أن تزورنا أكثر ممّا تزورنا» ، فنزلت الآية :( وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ) (1) .

التّفسير

الطاعة التّامة :

بالرّغم من أن لهذه الآية سبب نزول ذكر أعلاه ، إلّا أنّ هذا لا يكون مانعا من

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 3 ، ص 352 ، عن مجمع البيان ، وتفسير القرطبي ، الجزء 11 ، ص 416 ، وذيل الآية مورد البحث باختلاف يسير.

٤٨٢

أن يكون لها ارتباطا منطقيا بالآيات السابقة ، لأنّها تأكيد على أنّ كل ما أتى به جبرئيل من الآيات السابقة قد بلغه عن الله بدون زيادة أو نقصان ، ولا شيء من عنده ، فتتحدث الآية الأولى على لسان رسول الوحي فتقول :( وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ) فكل شيء منه، ونحن عباد وضعنا أرواحنا وقلوبنا على الأكف( لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ ) والخلاصة : فإنّ الماضي والحاضر والمستقبل ، وهنا وهناك وكل مكان ، والدنيا والآخرة والبرزخ ، كل ذلك متعلق بذات الله المقدسة.

وقد ذكر بعض المفسّرين لجملة( لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ ) آراء عديدة بلغت أحيانا أحد عشر قولا ما ذكرنا أعلاه هو أنسبها جميعا كما يبدو

ثمّ تضيف الآية : إن كل ذلك بأمر ربّك( رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما ) فإذا كان الأمر كذلك ، وكل الخطوط تنتهي إليه( فَاعْبُدْهُ ) عبادة مقترنة بالتوحيد والإخلاص. ولما كان هذا الطريق ـ طريق العبودية والطاعة وعبادة الله الخالصة ـ مليء بالمشاكل والمصاعب ، فقد أضافت( وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ ) ، وتقول في آخر جملة :( هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ) .

وهذه الجملة في الواقع ، دليل على ما جاء في الجملة السابقة ، يعني : هل لذاته المقدسة شريك ومثيل حتى تمد يدك اليه وتعبده؟

إنّ كلمة (سمي) وإن كانت تعني «المشترك في الاسم» ، إلّا أن من الواضح أنّ المراد هنا ليس الاسم فقط ، بل محتوى الاسم ، أي : هل تعلم أحدا غير الله خالقا رازقا ، محييا مميتا ، قادرا على كل شيء ، وظاهرا على كل شيء؟

* * *

٤٨٣

الآيات

( وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70) )

سبب النّزول

الآيات الأولى ـ على رأي جماعة من المفسّرين ـ نزلت في شأن «أبي بن خلف» ، أو «الوليد بن المغيرة» ، حيث أخذوا قطعة من عظم منخور ، ففتوه بأيديهم ونثروه في الهواء حتى تطايرت كل ذرة منه إلى جهة ، وقالوا انظروا إلى محمّد الذي يظن أن الله يحيينا بعد موتنا وتلاشي عظامنا مثل هذا العظم! إن هذا شيء غير ممكن أبدا. فنزلت هذه الآيات وأجابتهم ، جوابا قاطعا ، جوابا مفيدا ومعلما لكل البشر ، وفي جميع القرون والأعصار.

٤٨٤

التّفسير

حال أهل النّار :

مرّت في الآيات السابقة بحوث عديدة حول القيامة والجنّة والجحيم ، وتتحدث هذه الآيات التي نبحثها حول نفس الموضوع ، فتعيد الآية الأولى أقوال منكري المعاد ، فتقول:( وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا ) .

هذا الاستفهام استفهام إنكاري طبعا ، أي إنّ هذا الشيء غير ممكن. أمّا التعبير بالإنسان (وخاصّة مع ألف ولام الجنس) ، مع أنّه كان من المناسب أن يذكر الكافر محله ـ فربّما كان من جهة أن هذا السؤال مخفي في طبع كل إنسان في البداية بزيادة ونقيصة ، وبسماع مسألة الحياة بعد الموت سترتسم في ذهنه علامة الاستفهام فورا.

ثمّ يجيبهم مباشرة بنفس التعبير( أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً ) . ويمكن أن يكون التعبير بـ «الإنسان» هنا أيضا إشارة إلى أن الإنسان مع ذلك الاستعداد والذكاء الذي منحه الله إيّاه ، يجب أن لا يجلس ساكتا أمام هذا السؤال ، بل يجب أن يجيب عليه بتذكر الخلق الأوّل ، وإلّا فإنّه لم يستعمل حقيقة إنسانيته.

إنّ هذه الآيات ـ ككثير من الآيات المرتبطة بالمعاد ـ تؤكّد على المعنى الجسماني ، وإلّا فإذا كان القرار أن تبقى الروح فقط ، ولا وجود لرجوع الجسم إلى الحياة ، فلا مكان ولا معنى لذلك السؤال ، ولا لهذا الجواب.

على كل حال ، فقد استعمل القرآن هذا المنطق لإثبات المعاد هنا ، وقد جاء في مواضع أخرى من القرآن أيضا ، ومن جملتها في أواخر سورة يس ، حيث طرح الأمر بنفس تعبير الإنسان :( أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ

٤٨٥

يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) (1) (2) .

بعض المفسّرين طرح هنا سؤالا ، وهو أن هذا الدليل إذا كان صحيحا ، بأنّ كل شخص إذا ما عمل عملا فإنّه قادر على إعادته ، فلما ذا نقوم بأعمال ثمّ نعجز عن تكرارها أحيانا؟ فمثلا قد ننشد قطعة شعرية رائعة جدّا ، أو نكتب بخط جميل جدّا ، غير أنّنا بعد ذلك نجتهد في الإتيان بمثله ولكن دون جدوى.

الجواب هو : صحيح أنّنا نقوم بأعمالنا بإرادة واختيار ، إلّا أن هناك سلسلة من الأمور غير الإرادية تؤثر في أفعالنا الخاصّة أحيانا ، فإنّ حركة واهتزاز يدنا غير المحسوس يؤثر أحيانا في دقة شكل الحروف. إضافة إلى أن قدرتنا واستعدادنا ليسا متساويين دائما ، فقد تعرض أحيانا عوامل تعبئ كل قوانا الداخلية ، ونستطيع أن نبدع في الأعمال ونأتي بأعلاها، إلّا أنّ هذه الدوافع تكون ضعيفة أحيانا ، فلا تستجمع كل الطاقات ، ولذلك فإن العمل الثّاني لا ينفذ بدقة وجودة العمل الأوّل.

إلّا أنّ الله الذي لا تنتهي قدرته ، لا تثار حوله هذه المسائل ، ولا تقاس قدرته على أعمالنا وقدراتنا ، فإنّه إذا عمل عملا فإنّه يستطيع إعادته بعينه بدون زيادة أو نقصان.

ثمّ تهدد الآية التالية منكري المعاد ، والمجرمين الكافرين :( فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ) .

إنّ هذه الآية توحي بأنّ محكمة الأفراد الكافرين والمجرمين قريبة من جهنم! والتعبير بـ «جثيا» ـ مع العلم أن جثي جمع جاثي ، وهو الذي يجثو على ركبتيه ـ ربّما كان إشارة إلى ضعف وعجز وذلة هؤلاء ، حتى أنّهم لا قدرة لهم على الوقوف أحيانا.

__________________

(1) يس ، 77 ـ 79.

(2) لقد بحثنا حول هذا الدليل في ذيل الآية (29) من الأعراف تحت عنوان (أقصر دليل لإثبات المعاد).

٤٨٦

ولهذه الكلمة معاني أخرى أيضا ، فمن جملتها أنّهم فسروا «جثيا» بمعنى جماعة جماعة ، وبعضهم فسّرها بمعنى الكثرة وازدحام بعضهم على بعض كتراكم التراب والحجارة ، إلّا أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب والأشهر.

ولما كانت الأولويات تلاحظ في تلك المحكمة العادلة ، فإنّ الآية التالية تقول :( ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا ) (1) ونبدأ بحسابهم أوّلا ، فإنّهم عتوا عتوا نسوا معه كل مواهب الله الرحمان ، وجنحوا إلى التمرد والعصيان وإظهار الوقاحة أمام ولي نعمتهم! أجل ، إن هؤلاء أحق من الجميع بالجحيم.

ثمّ تؤكّد على هذا المعنى مرّة أخرى فتقول :( ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا ) فسنختار هؤلاء بدقة ، وسوف لا يقع أي اشتباه في هذا الإختيار.

(صلي) مصدر يعطي معنى إشعال النار وإيقادها ، كما يعني حرق الشيء بالنّار.

* * *

__________________

(1) «الشيعة» في الأصل بمعنى الجماعة التي يتعاون أفرادها للقيام بعمل ما ، وانتخاب هذا التعبير في الآية يمكن أن يكون إشارة إلى أن العتاة المردة والضالين الكافرين كانوا يتعاونون في طريق الطغيان ، ونحن سنحاسب هؤلاء أوّلا ، لأنّهم أكثر تمردا وعصيانا من الجميع.

٤٨٧

الآيتان

( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72) )

التّفسير

الجميع يردون جهنم!

تستمر الآيات في بحث خصائص القيامة والثواب والعقاب ، وأشارت في البداية إلى مسألة يثير سماعها الحيرة والعجب لدى أغلب الناس ، فتقول :( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ) فجميع الناس سيدخلون جهنم بدون استثناء لأنّه أمر حتمي.

( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا ) فنتركهم فيها جالسين على الركب من الضعف والذّل.

وهناك بحث مفصل بين المفسّرين في تفسير هاتين الآيتين حول المراد من «الورود» في جملة( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها ) .

فيرى بعض المفسّرين أنّ «الورود» هنا بمعنى الاقتراب والإشراف ، أي إن جميع الناس بدون استثناء ـ المحسن منهم والمسيء ـ يأتون إلى جانب جهنم للحساب ، أو لمشاهدة مصير المسيئين النهائي ، ثمّ ينجي الله المتقين ، ويدع

٤٨٨

الظالمين فيها. وقد استدل هؤلاء لدعم هذا التّفسير بالآية (23) من سورة القصص :( وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ ) حيث أن للورود هنا نفس المعنى.

والتّفسير الثّاني الذي اختاره أكثر المفسّرين ، هو أن الورود هنا بمعنى الدخول ، وعلى هذا الأساس فإنّ كل الناس بدون استثناء ـ محسنهم ومسيئهم ـ يدخلون جهنم ، إلّا أنّها ستكون بردا وسلاما على المحسنين ، كحال نار نمرود على إبراهيم( يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ ) ، لأنّ النّار ليست من سنخ هؤلاء الصالحين ، فقد تفر منهم وتبتعد عنهم ، إلّا أنّها تناسب الجهنميين فهم بالنسبة للجحيم كالمادة القابلة للاشتعال ، فما أن تمسهم النار حتى يشتعلوا.

وبغض النظر عن فلسفة هذا العمل ، والتي سنشرحها فيما بعد ـ إن شاء الله تعالى ـ فإنّ ممّا لا شك في أنّ ظاهر الآية يلائم وينسجم مع التّفسير الثاني ، لأنّ المعنى الأصلي للورود هو الدخول ، وغيره يحتاج إلى قرينة. إضافة إلى أن جملة( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ) وكذلك جملة( وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها ) كلتاهما شاهدتان على هذا المعنى. علاوة على الرّوايات المتعددة الواصلة إلينا في تفسير الآية التي تؤيد هذا المعنى ، ومن جملتها :

روي عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنّ رجلا سأله عن هذه الآية ، فأشار جابر بإصبعيه إلى أذنيه وقال : صمتا إن لم أكن سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «الورود الدّخول ، لا يبقى بر ولا فاجر إلّا يدخلها ، فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم ، حتى أن للنّار ـ أو قال لجهنم ـ ضجيجا من بردها ، ثمّ ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا»(1) .

وفي حديث آخر عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تقول النّار للمؤمن يوم القيامة : جز يا مؤمن ، فقد أطفأ نورك لهبي»(2) !

__________________

(1) نور الثقلين ، الجزء 3 ، ص 353.

(2) المصدر السّابق.

٤٨٩

ويستفاد هذا المعنى أيضا من بعض الرّوايات الأخرى. وكذلك التعبير العميق المعنى للصراط ، والذي ورد في روايات متعددة بأنّه جسر على جهنم ، وأنّه أدق من الشعرة وأحد من السيف ، هذا التعبير شاهد آخر على هذا التّفسير(1) .

أمّا ما يقوله البعض من أن الآية (101) من سورة الأنبياء :( أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ ) دليل على التّفسير الأوّل ، فلا يبدو صحيحا ، لأن هذه الآية مرتبطة بمحل إقامة ومقر المؤمنين الدائمي ، حتى أنّنا نقرأ في الآية التالية لهذه الآية :( لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها ) فإذا كان الورود في آية البحث بمعنى الاقتراب ، فهي غير مناسبة لكلمة( مُبْعَدُونَ ) ولا لجملة( لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها ) .

جواب عن سؤال :

السؤال الوحيد الذي يبقى هنا ، هو : ما هي الحكمة هذا العمل؟ وهل أن المؤمنين لا يرون أذى ولا عذابا من هذا العمل؟

إنّ الإجابة على هذا السؤال ـ التي وردت في الرّوايات حول كلا الشقين ـ ستتضح بقليل من الدقة.

إنّ مشاهدة جهنم وعذابها في الحقيقة ، ستكون مقدمة لكي يلتذ المؤمنون بنعم الجنة بأعلى مراتب اللذة ، لأن أحدا لا يعرف قدر العافية حتى يبتلى بمصيبة (وبضدها تتمايز الأشياء) فهناك لا يبتلى المؤمنون بمصيبة ، بل يشاهدون المصيبة على المسرح فقط ، وكما قرأنا في الرّوايات السابقة ، فإنّ النّار تصبح بردا وسلاما على هؤلاء ، ويطغى نورهم على نورها ويخمده.

إضافة إلى أنّ هؤلاء يمرون على النار بكل سرعة بحيث لا يرى عليهم أدنى أثر ، كما

روي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال في حديث : «يرد الناس ثمّ يصدون بأعمالهم ،

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 5 ، ص 572 ذيل آية( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ) الفجر ، 14.

٤٩٠

فأوّلهم كلمع البرق ، ثمّ كمر الريح ، ثمّ كحضر الفرس ، ثمّ كالراكب ، ثمّ كشد الرجل ، ثمّ كمشيه»(1) .

وإذا تجاوزنا ذلك ، فإنّ أهل النّار أيضا سيلقون عذابا أشد من رؤية هذا المشهد ، وأن أهل الجنّة يمرون بتلك السرعة وهم يبقون في النّار ، وبهذا سيتّضح جواب كلا السؤالين.

* * *

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 3 ، ص 353.

٤٩١

الآيات

( وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (74) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (75) وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) )

التّفسير

هذه الآيات تتابع ما مر في الآيات السابقة في الحديث عن الظالمين الذين لا إيمان لهم ، وتتعرض لجانب آخر من منطق هؤلاء الظالمين ومصيرهم.

ومن المعلوم أنّ أوّل جماعة آمنت بالرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا من المستضعفين الطاهري القلوب ، والذين خلت أيديهم من مال الدنيا ومغرياتها هؤلاء المحرومون هم الذين جاءت الأديان الإلهية من أجل إنقاذهم من قبضة

٤٩٢

الظالمين الجائرين بلال وسلمان ، وعمار ، وخباب ، وسمية ، وأمثالهم مصاديق بارزة لهؤلاء المؤمنين المظلومين.

ولما كان المعيار في المجتمع الجاهلي في ذلك الزمان ـ وكذا في كل مجتمع جاهلي آخر ـ هو الذهب والزينة والمال والمقام والمنصب والهيئة الظاهرية ، فكان الأثرياء الظالمون ، كالنضر بن الحارث وأمثاله يفتخرون على المؤمنين الفقراء بذلك ويقولون : إنّ علامة شخصيتنا معنا ، وعلامة عدم شخصيتكم فقركم ومحروميتكم ، وهذا بنفسه دليل على أحقيتنا وباطلكم! كما يقول القرآن الكريم في أول آيه من الآيات مورد البحث :( وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا ) .

خاصّة وأنّنا نقرأ في الرّوايات الإسلامية أن هؤلاء الأشراف المترفين كانوا يلبسون أجمل ملابسهم ، ويتزينون بأبهى زينة ، ويتبخترون أمام أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكانوا ينظرون إليهم نظرة تحقير واستهزاء نعم ، هذه طريقة هذه الطبقة في كل عصر وزمان.

«النديّ» أخذت في الأصل من (الندى) أي الرطوبة ، ثمّ جاءت بمعنى الأفراد الفصحاء والخطباء ، لأن أحد شروط القدرة على التكلم امتلاك القدر الكافي من اللعاب ، ولذلك فإن (نديّ) تعني المجالسة والتحدث ، بل يقال للمجلس الذي يجتمعون فيه للأنس والسمر ، أو يجلسون فيه للتشاور : نادي ، ومن هذا أخذت (دار الندوة) وهي المحل الذي كان في مكّة ، وكان يجتمع فيه زعماؤها للتشاور.

وقد يعبر عن السخاء والبذل والعطاء ب (الندى)(1) وهذه الآية يمكن أن تكون إشارة إلى كل هذه المعاني ، أي : إنّ مجلس أنسنا أجمل من مجلسكم ، وإن مالنا وثروتنا وزينتنا ولباسنا أبهى وأروع ، وإن كلامنا وأشعارنا الفصيحة والبليغة

__________________

(1) مفردات الراغب ، مادة (ندى).

٤٩٣

أبلغ وأحسن!

إلّا أنّ القرآن الكريم يجيب هؤلاء بجواب منطقي ومستدل تماما ، وفي الوقت نفسه قاطع ومفحم ، فيقول : كأن هؤلاء قد نسوا تاريخ البشر ، ولم ينظروا كم دمرنا من الأقوام السابقين عند تمردهم وعصيانهم :( وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً ) (1) فهل استطاعت أموالهم وثروتهم ، ومجالسهم الفاسقة ، وملابسهم الفاخرة ، وصورهم الجميلة أن تمنع العذاب الإلهي وتقف أمامه؟ وإذا كانت هذه الأمور دليلا على شخصيتهم ومنزلتهم عند الله ، فلما ذا ابتلوا بهذا المصير المشؤوم؟

إنّ زخارف الدنيا وبهارجها متزلزلة إلى حدّ أنّها تتلاشى وتزول بمجرّد أن يهب عليها أدنى نسيم هادئ.

«القرن» ـ كما قلنا سابقا في ما مرّ في ذيل الآية (6) من سورة الأنعام ـ تعني عادة الزمان الطويل ، لكن لما كانت قد أخذت من مادة الاقتران ، أي الاقتراب ، فإنّها تقال أيضا للقوم والأناس المجتمعين في زمان واحد.

ثمّ تحذرهم تحذيرا آخر ، بأن لا تظنوا أيّها الظالمون الكافرون أنّ مالكم وثروتكم هذه رحمة ، بل كثيرا ما تكون دليلا على العذاب الإلهي :( قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا. حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ ) إي إمّا العذاب في هذه الدنيا ، وإمّا عذاب الآخرة( فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً ) .

في الحقيقة ، إنّ مثل هؤلاء الأفراد الذين لا يمكن هدايتهم (والملاحظ أن القرآن يقول :( مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ ) وهو إشارة إلى الاستمرار في الضلال) من

__________________

(1) (الأثاث) بمعنى المتاع وزينة الدنيا ، و (رئي) بمعنى الهيئة والمنظر.

٤٩٤

أجل أن يروا العقاب الإلهي الشديد ، فإنّ الله سبحانه يجعلهم أحيانا يغوصون ويغرقون في النعم لتصبح سببا لغرورهم ، كما تكون سببا لنزول العذاب عليهم ، فإنّ سلب النعم عنهم حينئذ سيجعل لوعة العذاب أشد. وهذا هو ما ذكر في بعض آيات القرآن بعنوان عقاب «الاستدراج»(1) .

جملة( فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا ) وإن كانت بصيغة الأمر ، إلّا أنّها بمعنى الخبر ، فمعناها : إنّ الله يمهل هؤلاء ويديهم عليهم النعم.

وقد فسرها بعض المفسّرين بنفس معنى الأمر أيضا ، وأنّه يعني هنا اللعنة ، أو وجوب مثل هذا العمل والمعاملة على الله. إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو هو الأقرب.

وكلمة (العذاب) بقرينة وقوعها في مقابل (الساعة) فإنّها إشارة إلى العقوبات الإلهية في عالم الدنيا ، عقوبات كطوفان نوح ، والزلزلة ، والحجارة السماوية التي نزلت على قوم لوط. أو العقوبات التي أصيبوا بها على يد المؤمنين والمقاتلين في جبهات الحق ، كما نقرأ في الآية (14) من سورة التوبة :( قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ ) .

«الساعة» هنا إمّا بمعنى نهاية الدنيا ، أو العذاب الإلهي في القيامة. ويبدو لنا أن المعنى الثّاني هو الأنسب.

هذه عاقبة ومصير الظالمين المخدوعين بزخرف الدنيا وزبرجها ، أمّا أولئك الذين آمنوا واهتدوا ، فإنّ الله يزيدهم هدى وإيمانا( وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً ) .

من البديهي أن للهداية درجات ، فإذا طوى الإنسان درجاتها الأولى فإنّ الله يأخذه بيده ويرفعه إلى درجات أعلى ، وكما أنّ الشجرة المثمرة تقطع كل يوم

__________________

(1) راجع ذيل الآيات 182 ، 183 من سورة الأعراف.

٤٩٥

مرحلة جديدة إلى التكامل والإيناع ، فكذلك المهتدون يرتقون كل يوم مراق أعلى في ظل الإيمان والأعمال الصالحة التي يعملونها.

وفي النهاية تجيب الآية هؤلاء الذين اعتمدوا على زينة الدنيا السريعة الزوال ، وجعلوها وسيلة للتفاخر على الآخرين ، فتقول :( وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا ) (1) .

* * *

__________________

(1) «مردّ» ـ على وزن نمدّ بتشديد الدال ـ إمّا مصدر بمعنى الرّد والإرجاع ، أو اسم مكان بمعنى محل الرجوع، والمراد منه هنا الجنّة ، إلّا أنّ الاحتمال الأوّل أوفق لمعنى الآية.

٤٩٦

الآيات

( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) )

التّفسير

تفكير خرافي ومنحرف :

يعتقد بعض الناس أنّ الإيمان والطهارة والتقوى لا تناسبهم ، وأنّها السبب في أن تدبر الدنيا عنهم ، أمّا إذا خرجوا من دائرة الإيمان والتقوى فإنّ الدنيا ستقبل عليهم ، وتزيد ثروتهم وأموالهم!

إنّ هذا النوع من التفكير ، سواء كان نابعا من البساطة واتباع الخرافات ، أو أنّه غطاء وتستّر للفرار من تحمل المسؤوليات والتعهدات الإلهية ، فهو تفكير خاطئ وخطير.

لقد رأينا عبدة الأوهام هؤلاء يجعلون أحيانا من كثرة أموال وثروات

٤٩٧

الأفراد غير المؤمنين ، وفقر وحرمان جماعة من المؤمنين ، دليلا لإثبات هذه الخرفة ، في حين أنّه لا الأموال التي تصل إلى الإنسان عن طريق الظلم والكفر وترك أسس التقوى تبعث على الفخر ، ولا الإيمان والتقوى يكونان سدا ومانعا في طريق النشاطات المشروعة والمباحة مطلقا.

على كل حال ، فقد كان في عصر النّبي ـ وكذلك في عصرنا ـ أفراد جاهلون يظنون هذه الظنون والأوهام ، أو كانوا يتظاهرون بها على الأقل ، فيتحدث القرآن ـ كمواصلة للبحث الذي بيّنه سابقا حول مصير الكفار والظالمين ـ في الآيات مورد البحث عن طريقة التفكير هذه وعاقبتها ، فيقول في أوّل آية من هذه الآيات :( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً ) (1) .

ثمّ يجيبهم القرآن الكريم :( أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً ) فإنّ الذي يستطيع أن يتكهن بمثل هذا التكهن ، ويقول بوجود علاقة بين الكفر والغنى وامتلاك الأموال والأولاد ، مطلّع على الغيب ، لأنا لا نرى أيّ علاقة بين هاتين المسألتين ، أو يكون قد أخذ عهدا من الله سبحانه ، وهذا الكلام أيضا لا معنى له.

ثمّ يضيف بلهجة حادة : إنّ الأمر ليس كذلك ، ولا يمكن أن يكون الكفر أساسا لزيادة مال وولد أحد مطلقا :( كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ ) .

أجل ، فإنّ هذا الكلام الذي لا أساس له قد يكون سببا في انحراف بعض البسطاء ، وسيثبت كل ذلك في صحيفة أعمال هؤلاء( وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا ) .

هذه الجملة قد تكون إشارة إلى العذاب المستمر الخالد ، كما يحتمل أيضا أن

__________________

(1) نقل بعض المفسّرين سببا لنزول الآية وهو : إنّ أحد المؤمنين ـ واسمه خباب ـ كان يطلب أحد المشركين ـ واسمه العاص بن وائل ، فقال المدين مستهزئا : إذا وجدت مالا وولدا في عالم الآخرة فسأؤدي دينك.

إلّا أنّ سبب النّزول هذا لا يناسب الآية التي نبحثها ظاهرا ، خاصّة وأنّ الكلام عن الولد هنا ، ونحن نعلم أنّ الولد في عالم الآخرة غير مطروح للبحث. إضافة إلى أن الآيات التالية تقول بصراحة :( نَرِثُهُ ما يَقُولُ ) ويتّضح من هذا التعبير أنّ المقصود أموال الدنيا لا الأموال في الآخرة.

وعلى كل حال ، فإنّ جماعة من المفسّرين اعتبروا هذه الآية ـ بناء على سبب النّزول هذا ـ إشارة إلى الآخرة ، إلّا أنّ الحق ما قيل.

٤٩٨

تكون إشارة إلى العقوبات التي تحيط بهم في هذه الدنيا نتيجة للكفر وعدم الإيمان. ويحتمل أيضا أنّ هذه الأموال والأولاد التي هي أساس الغرور والضلال هي بنفسها عذاب مستمر لهؤلاء!

( وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ ) من الأموال والأولاد( وَيَأْتِينا فَرْداً ) .

نعم ، إنّه سيترك في النهاية كل هذه الإمكانيات والأملاك المادية ويرحل ، ويحضر في محكمة العدل الإلهية بأيد خالية ، وفي الوقت الذي اسودت فيه صحيفة أعماله من الذنوب والمعاصي ، وخلت من الحسنات هناك ، حيث يرى نتيجة أقواله الجوفاء في دار الدنيا.

وتشير الآية التالية إلى علّة أخرى في عبادة هؤلاء الأفراد للأصنام ، فتقول :( وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ) وليشفعوا لهم عند الله ، ويعينوهم في حل مشاكلهم ، لكن ، أي ظن خاطئ وخيال ساذج هذا؟!

ليس الأمر كما يظن هؤلاء أبدا ، فليست الأصنام سوف لا تكون لهم عزّا وحسب، بل ستكون منبعا لذلتهم وعذابهم ، ولهذا فإنّهم سوف ينكرون عبادتهم لها في يوم القيامة:( كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ) .

إن هذه الجملة إشارة إلى نفس ذلك المطلب الذي نقرؤه في الآية (14) من سورة فاطر :( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ) . وكذلك ما نلاحظه في الآية (6) من سورة الأحقاف :( وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً ) .

وقد احتمل بعض كبار المفسّرين أن المراد من الآية : إنّ عبدة الأصنام عند ما ترفع الحجب في القيامة ، وتتضح كل الحقائق ، ويرون أنفسهم قد فضحوا وخزوا ، فإنّهم ينكرون عبادة الأصنام ، وسيقفون ضدها ، كما نقرأ ذلك في الآية (23) من سورة الأنعام :( وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ) .

إلّا أنّ التّفسير الأوّل أنسب مع ظاهر الآية ، لأن عبّاد الأصنام كانوا يريدون

٤٩٩

أن تكون آلهتهم ومعبوداتهم عزّا لهم ، إلّا أنّهم يصبحون ضدها في النهاية.

ومن الطبيعي أن تكلم المعبودات التي لها عقل وإدراك كالملائكة والشياطين والجن واضح ومعلوم ، إلّا أنّ الآلهة الميتة التي لا روح لها ، من الممكن أن تتكلم بإذن الله وتعلن تنفرها واشمئزازها من عبدتها ومن الممكن أن يستفاد هذا التّفسير من حديث مروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام حيث قال في تفسير هذه الآية : يكون هؤلاء الذين اتخذوهم آلهة من دون الله ضدا يوم القيامة ويتبرءون منهم ومن عبادتهم إلى يوم القيامة.

والجميل في الأمر أننا نقرأ في ذيل الحديث جملة قصيرة عميقة المحتوى حول العبادة:ليس العبادة هي السجود ولا الركوع ، وإنّما هي طاعة الرجال ، من أطاع مخلوقا في معصية الخالق فقد عبده»(1) .

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 3 ، ص 357.

٥٠٠

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

وهنا صدر الأمر لموسى( قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى ) (١) .

وفي الآية (٣١) من سورة القصص نقرأ :( وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ ) .

وبالرغم من أن خوف موسى هنا قد أثار التساؤل لدى بعض المفسّرين بأن هذه الحالة كيف تناسب موسى مع الشجاعة التي عهدنا لدى موسى ، وأثبتها عمليا طوال عمره عند محاربته الفراعنة؟ إضافة إلى صفات وشروط الأنبياء بصورة عامّة.

إلّا أنّ الجواب عن هذا السؤال يتّضح بملاحظة نكتة واحدة ، وهي أن من الطبيعي أن كل إنسان ، مهما كان شجاعا وغير هياب ، إذا رأى فجأة قطعة خشب تتحول إلى حية عظيمة وتتحرك بسرعة ، فلا بدّ أن يرتبك ويخاف ولو لمدّة قصيرة ويسحب نفسه جانبا توقيا ، إلّا أن يكون هذا المشهد قد تكرر أمامه مرارا ، ورد الفعل الطبيعي هذا لا يكون نقطة ضعف ضد موسى أبدا. ولا تنافي الآية (٣٩) من سورة الأحزاب حيث تقول:( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ ) فإن هذا الخوف طبيعي ومؤقت وسريع الزوال أمام حادثة لم تحدث من قبل قط ، وخارق للعادة.

ثمّ أشارت الآية التالية إلى المعجزة المهمّة الثّانية لموسى ، فأمرته :( وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى ) (٢) .

وبالرغم من أنّ للمفسّرين في تفسير جملة( وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ ) أقوالا مختلفة ، إلّا أنّه بملاحظة الآية (٣٢) من سورة القصص ، والتي تقول :( اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ ) والآية (١٢) من سورة النمل ، والتي تقول :( وَأَدْخِلْ يَدَكَ

__________________

(١) «السيرة» ـ كما يقول الراغب في المفردات ـ بمعنى الحالة الباطنية ، سواء غريزية أو اكتسابية والبعض فسرها هنا بمعنى الهيئة والصورة.

(٢) آية منصوبة على أنها اسم حال محل الحال ، والحال لضمير مستتر في (تخرج).

٥٤١

فِي جَيْبِكَ ) سيستفاد أن موسى كان مأمورا أن يدخل يده في جيبه ويوصلها إلى تحت إبطه، لأنّ الجناح في الأصل جناح الطير ، ويمكن أن تكون هنا إشارة إلى تحت الإبط.

كلمة (بيضاء) من البياض ، وجملة( مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ) إشارة إلى أن بياض يدك ليس نتيجة مرض البرص وأمثاله ، بدليل أن لها لمعانا وبريقا خاصا يظهر في لحظة ويختفي في لحظة أخرى.

إلّا أنّه يستفاد من بعض الرّوايات أنّ يد موسى قد صارت في تلك الحالة نورانية بشكل عجيب ، وإذا كان كذلك فيجب أن نقبل أن لجملة( مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ) معنى آخر غير الذي قلناه ، أي إن لها نورانية لا عيب فيها ، فلا تؤذي عينا ، ولا يرى فيها بقعة سوداء ، ولا غير ذلك.

وتقول الآية الأخيرة ، وكنتيجة لما مر بيانه في الآيات السابقة :( لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى ) ومن المعلوم أن المراد من الآيات الكبرى هو تلكما المعجزتان المهمتان اللتان وردتا أعلاه ، وما احتمله بعض المفسّرين من أنّها إشارة إلى المعجزات التي سيضعها الله سبحانه تحت تصرف موسى فيما بعد يبدو بعيدا جدا.

* * *

بحوث

١ ـ معجزتان كبيرتان

لا شك أنّ ما ذكر أعلاه من تبدل عصا موسى إلى حية عظيمة تسعى ، وقد عبرت الآية (١٠٧) من سورة الأعراف عنها ب (ثعبان) وكذلك البريق الخاص لليد في لحظة قصيرة ثمّ رجوعها إلى الحالة الأولى ، ليس أمرا طبيعيا ، أو نادرا ، أو قليل الوقوع ، بل إن كلا الأمرين يعتبر خارقا للعادة لا يمكن أن يقع بدون

٥٤٢

الاستناد إلى قوة فوق قوة البشر ، أي قوة اللهعزوجل .

إنّ من يؤمن بالله ، ويعتقد أن علمه وقدرته غير محدودة ، لا يقدر على إنكار هذه الأمور ، أو ينسبها إلى الخرافة كالماديين.

المهم في المعجزة هو عدم استحالتها عقلا ، وهذا الأمر يصدق هنا كاملا ، فلا يوجد أي دليل عقلي على نفي تبدل العصا إلى ثعبان عظيم.

أليس العصا والحية العظيمة كانتا ترابا في الماضي السحيق؟ من الطبيعي أن المدة قد استغرقت ملايين أو مئات الملايين من السنين حتى ظهرت على شكل هذه الموجودات. لا تفاوت في هذه المسألة سواء قلنا بتكامل الأنواع أو ثبوتها ، لأن أخشاب الأشجار والحيوانات قد خلقت جميعا من التراب على كل حال. غاية ما في الأمر أن العمل الإعجازي هنا اختصر كل تلك المراحل التي كان يجب أن تطوى خلال سنين طويلة في لحظة واحدة ، وفي مدّة قصيرة جدّا ، فهل يبدو مثل هذا الأمر محالا؟

من الممكن أن أكتب باليد كتابا ضخما في سنة ، فإذا وجد شخص يستند ويعتمد على الإعجاز ويؤدي هذا العمل في ساعة أو أقل ، فإنّ هذا ليس محالا عقليا ، بل هو خارق للعادة. (دققوا ذلك).

على كل حال ، فإنّ القضاء العجول حول المعجزات ، ونسبتها ـ لا سمح الله ـ إلى الخرافات أمر بعيد عن المنطق والعقل. الشيء الوحيد الذي يحفز ويثير هذه الأفكار أحيانا ، هو أنّنا قد اعتدنا على العلل والمعلولات الطبيعية ، إلى الحد الذي اعتقدنا أنّها من الضروريات ، وكل ما يخالفها فهو مخالف للضرورة ، في حين أن هذه العلاقة بين العلة والمعلول أمر طبيعي ، وليس له صفة الضرورية ، ولا مانع من أن يظهرها عامل أقوى من الطبيعة بشكل آخر(١) .

__________________

(١) تحدثنا أيضا حول هذا الموضوع ذيل الآية (١٠٧) من سورة الأعراف.

٥٤٣

٢ ـ قابليات الأشياء الخارقة

من المسلّم أن موسى الذي اختار لنفسه عصا الرعي تلك ، لم يكن يصدق أن هذا الموجود البسيط يستطيع القيام بمثل هذا العمل العظيم بأمر الله ، ويحطم قوّة الفراعنة ، إلّا أنّ الله سبحانه قد أراه أن نفس هذه الآلة البسيطة تستطيع أن توجد مثل تلك القوة الخارقة.

إنّ هذا ـ في الواقع ـ درس لكل البشر بأن لا يستصغروا أي شيء ، فإن كثيرا من الموجودات التي ننظر إليها باحتقار تحتوي في باطنها على قدرات عظيمة نحن غافلون عنها وغير مطلعين عليها.

٣ ـ ماذا تقول التوراة حول هذا الموضوع؟

في الآيات أعلاه قرأنا أنّ موسىعليه‌السلام عند ما أخرج يده من جيبه كانت بيضاء مضيئة لا عيب فيها ، ويمكن أن تكون هذه الجملة من أجل نفي التعبير الذي يلاحظ في التوراة المحرفة ، فقد ورد في التوراة : (وقال الله له أيضا : الآن ضع يدك إلى جنبك ، فوضع يد إلى جنبه ، وأخرجها فإذا يده مبروصة كالثلج)(١) .

إن كلمة «المبروص» مأخوذة من البرص ، وهو نوع من الأمراض ، ومن المسلم أن استعمال هذا التعبير هنا خطأ وغير مناسب.

* * *

__________________

(١) التوراة ، سفر الخروج ، الفصل الرابع ، الجملة ٦.

٥٤٤

الآيات

( اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٢٤) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (٣٥) قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (٣٦) )

التّفسير

موسى وطلباته القيمة :

إلى هنا وصل موسى إلى مقام النبوة ، وتلقى معاجز مهمّة تسترعي الانتباه ، إلّا أنّه من الآن فصاعدا صدر له أمر الرسالة رسالة عظيمة وثقيلة جدّا الرسالة التي تبدأ بإبلاغ أعتى وأخطر شخص في ذلك المحيط ، فتقول الآية :( اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى ) .

أجل فمن أجل إصلاح بيئة فاسدة ، وإيجاد ثورة شاملة يجب البدء برؤوس الفساد وأئمّة الكفر أولئك الذين لهم تأثر في جميع أركان المجتمع ، ولهم حضور في كل مكان ، بأنفسهم أو أفكارهم أو أنصارهم أولئك الذين

٥٤٥

تركزت كل الوسائل والمنظمات الإعلامية والاقتصادية والسياسية في قبضتهم ، فإذا ما أصلح هؤلاء ، أو قلعت جذورهم عند عدم التمكن من إصلاحهم ، فيمكن أن يؤمن خلاص ونجاة المجتمع ، وإلّا فإنّ أي إصلاح يحدث فإنّه سطحي ومؤقت وزائل.

والملفت للنظر أن دليل وجوب الابتداء بفرعون ذكر في جملة قصيرة :( إِنَّهُ طَغى ) حيث جمع في كلمة (طغيان) كل شيء الطغيان وتجاوز الحدود في كل أبعاد الحياة ، ولذلك يقال هؤلاء الأفراد : طاغوت.

ومضافا إلى أنّ موسىعليه‌السلام لم يستوحش ولم يخف من هذه المهمّة الثقيلة الصعبة ، ولم يطلب من الله أي تخفيف في هذه المهمة ، فإنّه قد تقبلها بصدر رحب ، غاية ما في الأمر أنّه طلب من الله أسباب النصر في هذه المهمة. ولما كان أهم وأول أسباب النصر الروح الكبيرة ، والفكر الوقاد ، والعقل المقتدر ، وبعبارة أخرى : رحابة الصدر ، فقد( قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ) .

نعم إنّ أوّل رأسمال لقائد ثوري هو رحابة الصدر ، والصبر الطويل ، والصمود والثبات، والشهامة وتحمل المشاكل والمصاعب ، ولذلك فإنّنا نقرأ في حديث عن أمير المؤمنينعليه‌السلام : «آلة الرياسة سعة الصدر»(١) . وقد بحثنا الصدر ومعناه في ذيل الآية (١٢٥) من سورة الأنعام.

ولما كان هذا الطريق مليئا بالمشاكل والمصاعب التي لا يمكن تجاوزها إلّا بلطف الله ، فقد طلب موسى من الله في المرحلة الثّانية أن تيسر له أموره وأعماله ، وأن تذلل هذه العقبات التي تعترضه ، فقال :( وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ) .

ثمّ طلب موسى أن تكون له قدرة على البيان بأعلى المراتب فقال :( وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي ) فصحيح أن امتلاك الصدر الرحب أهم الأمور والأسس ، إلّا أنّ بلورة هذا الأساس تتمّ إذا وجدت القدرة على إراءته وإظهاره بصورة كاملة ،

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الحكمة ١٧٦.

٥٤٦

ولذلك فإنّ موسى بعد طلب انشرح الصدر ، ورفع الموانع والعقبات ، طلب من الله حل العقدة من لسانه.

خاصّة وأنّه بيّن علة هذا الطلب فقال :( يَفْقَهُوا قَوْلِي ) فهذه الجملة في الحقيقة تفسير للآية التي قبلها ، ومنها يتّضح أنّ المراد من حلّ عقدة اللسان لم يكن هو التلكؤ وبعض العسر في النطق الذي أصاب لسان موسىعليه‌السلام نتيجة احتراقه في مرحلة الطفولة ـ كما نقل ذلك بعض المفسّرين عن ابن عباس ـ بل المراد عقد اللسان المانعة من إدراك وفهم السامع ، أي أريد أتكلم بدرجة من الفصاحة والبلاغة والتعبير بحيث يدرك أي سامع مرادي من الكلام جيدا.

والشاهد الآخر على هذا التعبير هي الآية (٣٤) من سورة القصص :( وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً ) . واللطيف في الأمر أن «أفصح» من مادة فصيح ، وهي في الأصل كون الشيء خالصا من الشوائب ، ثمّ أطلقت على الكلام البليغ المعبر الخالي من الحشو والزيادات.

وعلى كل حال ، فإنّ القائد والقدوة والموفق والمنتصر هو الذي يمتلك إضافة إلى سعة الفكر وقدرة الروح ، بيانا أخاذا بليغا خاليا من كل أنواع الإبهام والقصور.

ولما كان إيصال هذا الحمل الثقيل ـ حمل رسالة الله ، وقيادة البشر وهدايتهم ، ومحاربة الطواغيت والجبابرة ـ إلى المحل المقصود يحتاج إلى معين ومساعد ، ولا يمكن أن يقوم به إنسان بمفرده ، فقد كان الطلب الرابع لموسى من الله هو :( وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي ) .

«الوزير» من مادة الوزر ، وهي في الأصل تعني الحمل الثقيل ، ولما كان الوزراء يتحملون كثيرا من الأحمال الثقيلة على عاتقهم ، فقد أطلق عليهم هذا الاسم ، وكذلك تطلق كلمة الوزير على المعاون والمساعد.

أمّا لماذا طلب موسى أن يكون هذا الوزير من أهله؟ فسببه واضح ، لأنّه

٥٤٧

يعرفه جيدا ، ومن جهة أخرى فإنّه أحرص من غيره ، فكم هو جيد وجميل أن يستطيع الإنسان أن يتعاون مع شخص تربطه به علائق روحية وجسمية؟!

ثمّ يشير إلى أخيه ، فيقول :( هارُونَ أَخِي ) وهارون ـ حسب نقل بعض المفسّرين ـ كان الأخ الأكبر لموسى ، وكان يكبره بثلاث سنين ، وكان طويل القامة ، جميلا بليغا ، عالي الإدراك والفهم ، وقد رحل عن الدنيا قبل وفاة موسى بثلاث سنين(١) .

وقد كان نبيّا مرسلا كما يظهر من الآية (٤٥) من سورة المؤمنون :( ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ ) . وكذلك كانت له بصيرة بالأمور وميزانا باطنيا لتمييز الحق من الباطل ، كما ورد في الآية (٤٨) من سورة الأنبياء :( وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً ) . وأخيرا فقد كان نبيّا وهبه الله لموسى من رحمته :( وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا ) (٢) ، فقد كان يسعى جنبا إلى جنب مع أخيه في أداء هذه الرسالة الثقيلة.

صحيح أن موسىعليه‌السلام عند ما طلب ذلك من الله في تلك الليلة المظلمة في الوادي المقدس حيث حمّل الرسالة ، كان قد مضى عليه أكثر من عشر سنين بعيدا عن وطنه ، إلّا أنّ ارتباطه ـ عادة ـ بأخيه لم يقطع بصورة كاملة ، بحيث أنّه يتحدث بهذه الصراحة عنه ، ويطلب من الله أن يشاركه في هذا البرنامج الكبير.

ثمّ يبيّن موسىعليه‌السلام هدفه من تعيين هارون للوزارة والمعونة فيقول :( اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ) و «الأزر» أخذت في الأصل من مادة الإزار ، أي اللباس ، وتطلق خاصّة على اللباس الذي يشد ويعقد وسطه ، ولذلك قد تطلق هذه الكلمة على الظهر أو القوّة والقدرة لهذا السبب

ويطلب ، من أجل تكميل هذا المقصد والمطلب :( وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي )

__________________

(١) مجمع البيان ذيل الآية.

(٢) مريم ، ٥٣.

٥٤٨

فيكون شريكا في مقام الرسالة ، وفي إجراء وتنفيذ هذا البرنامج الكبير ، إلّا أنّه يتبع موسى على كل حال ، فموسى إمامه ومقتداه.

وفي النهاية يبيّن نتيجة هذه المطالب فيقول :( كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً ) وتعلم حاجاتنا جيدا ، ومطّلع على مصاعب هذا الطريق أكثر من الجميع، فنحن نطلب منك أن تعيننا على طاعتك ، وأن توفقنا وتؤيدنا في أداء واجباتنا ومسئولياتنا الملقاة على عاتقنا.

ولما كان موسى لم يهدف من طلباته المخلصة هذه إلّا الخدمة الأكثر والأكمل ، فإنّ الله سبحانه قد لبى طلباته في نفس الوقت( قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى ) .

إنّ موسى في الواقع طلب كل ما كان يلزمه في هذه اللحظات الحساسة الحاسمة التي يجلس فيها لأوّل مرّة على مائدة الضيافة الإلهية ويطأ بساطها ، والله سبحانه كان يحب ضيفه أيضا ، حيث لبّى كل طلباته وأجابه فيها في جملة قصيرة تبعث الحياة ، وبدون قيد وشرط ثمّ وبتكرار اسم موسى أكمل له الاستجابة وحلاوتها وأنزال كل إبهام عن قلبه ، وأي تشويق وافتخار أن يكرر المولى اسم العبد؟

* * *

بحوث

١ ـ شروط قيادة الثورة

لا شك أنّ تبديل البنية في نظام المجتمعات البشرية ، وتغيير القيم المادية والملحدة إلى القيم المعنوية والإنسانية ، وخاصّة إذا كان الطريق يقع في طريق الفراعنة العنودين ، ليس بالعمل الهين ، بل يحتاج إلى استعداد روحي وجسمي ، وقدرة على التفكير ، وقوة في البيان ، واستمرار الإمدادات الإلهية ، ووجود

٥٤٩

الصاحب الذي يطمأن إليه. وهذه هي الأمور التي طلبها موسىعليه‌السلام في بداية الرسالة من ربّه.

إن هذه المطالب تبيّن بنفسها أنّ موسىعليه‌السلام كان يمتلك روح الوعي والاستعداد حتى قبل النّبوة ، وتبيّن أيضا هذه الحقيقة ، وهي أنّه كان واقفا على أبعاد مسئوليته جيدا ، وكان يعلم بأنّه ماذا يجب أن يستعمل في الساحة في تلك الظروف ، وأي سلاح هو الأمضى ، ليمتلك القدرة على مقارعة الاجهزة الفرعونية ، وهذا نموذج وقدوة لكل القادة الربانيين في كل عصر وزمان ، ولكل السائرين في هذا الطريق.

٢ ـ مقارعة الطغاة

لا شك أنّ لفرعون نقاطا وصفات منحرفة كثيرة ، فقد كان كافرا ، عابدا للأصنام ، ظالما ، مستبدا وو إلّا أنّ القرآن طرح من بين كل هذه الانحرافات مسألة الطغيان( إِنَّهُ طَغى ) لأن روح الطغيان والتمرد في مقابل أمر الحق عصارة وخلاصة كل هذه الانحرافات وجامع لها.

ويتّضح بصورة ضمنية أنّ هدف الأنبياء في الدرجة الأولى هو مقارعة الطواغيت والمستكبرين ، وهذا في الواقع عكس التحليل الذي يذكره الماركسيون حول الدين تماما ، حيث زعموا أنّ الدين في خدمة الطغاة والمستعمرين الماضين.

إنّ كلام هؤلاء قد يصح في شأنه المذاهب المصطنعة التخديرية ، إلّا أنّ تاريخ الأنبياء الحقيقيين ينفي بصراحة تامة ظنون هؤلاء الواهية في شأن الأديان والمذاهب ، خاصّة وإن ثورة موسى بن عمران شاهد ناطق في هذا المجال.

٥٥٠

٣ ـ كل عمل يحتاج إلى تخطيط ووسائل

الدرس الآخر الذي نستفيد من حياة موسى وجهاده العظيم ، هو أنّه حتى الأنبياء ، ومع امتلاكهم للمعجزات ، كانوا يستعينون بالوسائل العادية الطبيعية ، من البيان البليغ والمؤثر ، ومن طاقات المؤمنين بهم الفكرية والجسمية ، في سبيل تقدم عملهم وتطوره ، فليس صحيحا أن ننتظر المعاجز في حياتنا دائما ، بل يجب تهيئة البرامج وأدوات العمل ، والاستمرار في التقدم بالطرق والوسائل الطبيعية ، فإذا ما واجهتنا عقدة ومعضلة ، فيجب أن ننتظر اللطف الإلهي هناك.

٤ ـ التسبيح والذكر

لقد جعل موسى الهدف النهائي من طلباته ـ كما في الآيات محل البحث ـ هو:( كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً ) ومعلوم أنّ التسبيح يعني تنزيه الله عن تهمة الشرك والنواقص الإمكانية ، ومعلوم أيضا أنّ مراد موسىعليه‌السلام لم يكن تكرار جملة «سبحان الله» مرارا ، بل كان الهدف إيجاد حقيقة التسبيح في ذلك المجتمع الملوث في ذلك الزمان ، فيقتلعوا الأصنام ، ويهدموا معابد الأوثان ، وتغسل الأدمغة من أفكار الشرك ، وترفع النواقص المادية والمعنوية.

وبعد تنزيه المجتمع عن هذه المفاسد ، عليهم أن يحيوا في القلوب ذكره تعالى وذكر صفاته ، ويجعلون الصفات الإلهية تشع في أرجاء المجتمع ، والتأكيد على كلمة «كثيرا»توحي بأنّه كان يريد أن يجعل هذا الأمر عاما ، وأن يخرجه من الإختصاص بدائرة محدودة.

٥ ـ الرّسول الأعظم يكرر مطالب موسى

يستفاد من الرّوايات الواردة في كتب أهل السنة والشيعة أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد طلب من الله نفس تلك المطالب التي طلبها موسىعليه‌السلام من الله من أجل تقدم عمله ،

٥٥١

مع فارق ، هو أنّه وضع اسم عليعليه‌السلام مكان اسم هارون ، وقال : «اللهم إنّي أسألك بما سألك أخي موسى أن تشرح لي صدري ، وأن تيسر لي أمري ، وأن تحل عقدة من لساني ، يفقهوا قولي ، واجعل لي وزيرا من أهلي ، عليا أخي ، أشدد به أزري ، وأشركه في أمري ، كي نسبحك كثيرا ، ونذكرك كثيرا».

وقد نقل هذا الحديث السيوطي في تفسير «الدر المنثور» ، والعلّامة الطبرسي في «مجمع البيان» ، وكثيرون وغيرهم من كبار علماء الفريقين باختلاف في العبارات.

وهذا الحديث يشبه حديث المنزلة ، حيث قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليعليه‌السلام : «ألا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبي بعدي».

وهذا الحديث قد ورد في كتب العامّة المعتمدة ، وكما قال المحدث البحراني في كتابه «غاية المرام» ؛ إنّ هذا الحديث قد ورد بمائة طريق عن أهل السنة ، وبسبعين طريق من طرق الشيعة» ، فهو معتبر إلى الحدّ الذي لا يدع أي مجال للشك فيه ، أو لإنكاره.

وقد بحثنا حول حديث المنزلة بحثا ضافيا في ذيل الآية (١٤٢) من سورة الأعراف ، والذي نعتبر ذكره ضروريا هنا ، هو أن بعض المفسّرين ـ كالآلوسي في «روح المعاني» ـ مع قبوله أصل الرّواية ، إلّا أنّه أشكل في دلالتها ، وقالوا : إن جملة( أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) لا تثبت غير الاشتراك في أمر إرشاد ودعوة الناس إلى الحق!

إلّا أنّ من الواضح أن مسألة الاشتراك في الإرشاد ، وبتعبير آخر : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ونشر الدين ، واجب على كل فرد من المسلمين ، وهذا لم يكن شيئا يطلبه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليعليه‌السلام إن هذا توضيح للواضحات ، ولا يمكن تفسير دعاء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك مطلقا.

ومن جهة أخرى ، فإنّا نعلم أن الأمر لم يكن الاشتراك في النّبوة ، وبناء على

٥٥٢

هذا نخلص إلى هذه النتيجة ، وهي أن المطلوب مقام خاص غير النّبوة ، وهل يمكن أن يكون إلّا الولاية الخاصّة؟! أليس ذلك هو الخلافة بالمفهوم الخاص الذي تقول به الشيعة؟ وجملة «وزيرا» أيضا تؤيد وتقوي ذلك.

وبتعبير آخر ، فإنّ هناك واجبات لا يقوم بها كل الأفراد ، وهي حفظ دين النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كل أنواع التحريف والانحراف ، وتفسير أي إبهام يبديه البعض في محتوى الدين ، وقيادة الأمّة في غيبة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعده ، والمساعدة المؤثرة جدا في تحقيق أهدافه.

إن هذا هو الشيء الذي طلبه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : «أشركه في أمري» لعليعليه‌السلام من الله سبحانه.

ومن هنا يتّضح أن وفاة هارون قبل موسى لا توجد إشكالا في هذا البحث ، لأنّ الخلافة والنيابة تكون أحيانا في زمان غيبة القائد كما تولاها هارون عند غياب موسى ، وتكون أحيانا بعد وفاته كما كان عليعليه‌السلام بعد وفاة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكلاهما لهما نفس القدر المشترك والجامع الواحد ، وإن كانت المصاديق متفاوتة. (دققوا ذلك).

* * *

٥٥٣

الآيات

( وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (٣٩) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (٤٠) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١) )

التّفسير

الربّ الرحيم :

يشير الله سبحانه في هذه الآيات إلى فصل آخر من فصول حياة موسىعليه‌السلام ، والذي يرتبط بمرحلة الطفولة ونجاته من قبضة الفراعنة. وهذا الفصل وإن كان من ناحية التسلسل التاريخي قبل فصل الرسالة والنّبوة ، إلّا أنّه ذكر كشاهد على شمول عناية اللهعزوجل لموسىعليه‌السلام من بداية عمره ، وهي في الدرجة الثّانية من

٥٥٤

الأهمية بالنسبة إلى الرسالة ، فيقول أوّلا :( وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى ) (١) .

وبعد ذكر هذا الإجمال تتطرق الآيات إلى الشرح والتفصيل ، فتقول :( إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى ) وهو إشارة إلى أنّنا قد علّمنا أمّه كل الطرق التي تنتهي إلى نجاة موسىعليه‌السلام من قبضة الفراعنة ، لأنّه يستفاد من سائر آيات القرآن أن فرعون شدّد ارهابه على بني إسرائيل للتصدّي لقوتهم وعصيانهم المحتمل ، أو أنّه ـ على رأي بعض المفسّرين والمؤرخين ـ كان قد أمر بقتل أبنائهم وإبقاء البنات للخدمة ، لكي يمنع ولادة ولد من بني إسرائيل كان قد أخبره المنجمون أنّه يثور عليه ويزيل ملكه.

من الطبيعي أن جواسيس وعيون فرعون كانوا يراقبون بشدة محلات بني إسرائيل وبيوتهم ، وكانوا لا يدعون ذكرا يولد إلّا وقتلوه.

وذهب بعض المفسّرين إلى أن فرعون كان يريد تحطيم قوّة بني إسرائيل من جهة ، وكان من جهة أخرى غير راغب في انقراض نسلهم تماما ، لأنّه كان يعتبرهم عبيدا يصلحون للخدمة ، ولذلك كان قد أمر بأنّ يتركوا الأولاد سنة ويذبحونهم سنة أخرى ، فكان أن ولد موسى في العام الذي يقتل فيه الأولاد!

على كل حال ، فإنّ هذه الأم أحسّت بأن حياة وليدها في خطر ، وإخفاؤه مؤقتا سوف لا يحل المشكلة في هذه الأثناء ألهمها الله ـ الذي رشّح هذا الطفل لثورة كبيرة ـ أن أودعيه عندنا ، وانظري كيف سنحافظ عليه ، وكيف سنرده إليك؟ فألقى في قلب الأمّ:( أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِ ) .

«اليم» هنا يعني نهر النيل العظيم الذي يطلق عليه أحيانا اسم البحر لسعته وكثرة مياهه.

__________________

(١) كما قلنا سابقا أيضا فإنّ «المنة» في الأصل من المن ، وهو يعني الأحجار الكبيرة التي كانوا يزنون بها ، ولذلك فإن كل نعمة كبيرة ونفيسة يقال عنها : إنّها منة. والمراد في الآية هو هذا المعنى ، وهذا المعنى مفهوم جميل وايجابي للمنّة ، إلّا أنّ الإنسان إذا عظّم عمله الصغير بكلامه ، وذكرّ الطرف الآخر به ، فإنّه مصداق حي للمنة السلبية المذمومة.

٥٥٥

والتعبير بـ( اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ ) ربما كان إشارة إليها أن ارفعي ولدك بكل شجاعة وبدون أي خوف أو ارتياب ، وضعيه في الصندوق ، وألقيه في نهر النيل ، ولا تدعي للخوف سبيلا إلى نفسك.

كلمة «التابوت» تعني الصندوق الخشبي ، ولا يعني دائما الصندوق الذي توضع فيه الأموات كما يظن البعض ، بل إنّه له معنى واسعا ، حيث تطلق أحيانا على الصناديق الأخرى أيضا ، كما قرأنا ذلك في قصة طالوت وجالوت في ذيل الآية (٢٤٨) من سورة البقرة(١) .

ثمّ تضيف :( فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ ) والملفت أن كلمة «عدو» قد تكررت هنا ، وهذا في الحقيقة تأكيد على عداء فرعون لله ، ولموسى وبني إسرائيل ، وأشارت إلى أن الشخص الذي انغمس إلى هذا الحد في العداء هو الذي سيتولى في النهاية تربية موسى ليعلم البشر الضعيف أنّه ليس عاجزا عن التمرد على أمر الله وحسب، بل إنّ الله سيربيه على يد عدوه وفي أحضانه! وعند ما يريد أن يفني المتمردين الظالمين فسيفنيهم ويبيدهم بأيديهم ، ويحرقهم بالنار التي يوقدونها بأنفسهم ، فأي قدرة عجيبة قدرته تعالى؟!

ولما كان موسىعليه‌السلام يجب أن يحفظ في حصن أمين في هذا الطريق المليء بالمخاطر ، فقد ألقى الله قبسا من محبّة عليه ، إلى الحد الذي لم ينظر إليه أحد إلا ويعشقه ، فلا يكف عن قتله وحسب ، بل لا يرضى أن تنقص شعرة من رأسه ، كما يقول القرآن في بقية هذه الآيات :( وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ) فأي درع عجيب هذا الحب! إنّه لا يرى بالعين ، ولكنه أقوى من الحديد والفولاذ!!

يقولون : إنّ قابلة موسى كانت من الفراعنة ، وكانت مصممة على رفع خبر ولادته إلى فرعون ، إلّا أنّه لما وقعت عينها على عين المولود الجديد ، فكأن ومضة برقت من عينه وأضاءت أعماق قلبها ، وطوّقت محبته رقبتها ، وابتعدت

__________________

(١) راجع المجلد الثّاني من التّفسير الأمثل ذيل الآية (٢٤٨) من سورة البقرة.

٥٥٦

عن رأسها كل الأفكار السيئة.

ونقرأ في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام في هذا الباب : «فلمّا وضعت أم موسى موسى نظرت إليه وحزنت عليه واغتمت وبكت وقالت : تذبح الساعة ، فعطف الله الموكلة بها عليه ، فقالت لأم موسى : مالك قد اصفر لونك؟ فقالت : أخاف أن يذبح ولدي ، فقالت : لا تخافي وكان موسى لا يراه أحد إلا أحبه» ، وكان درع المحبة هذا هو الذي حفظه تماما في بلاط فرعون.

وتقول الآية في النهاية :( وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي ) فلا شك في أنّه لا تخفى ذرة عن علم الله في السماء ولا في الأرض ، وكل شيء حاضر بين يديه ، إلّا أنّ هذا التعبير إشارة إلى العناية الخاصّة التي أولاها الله سبحانه لموسى وتربيته.

وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين اعتقد أنّ جملة( وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي ) مقصورة على مرحلة رضاعة موسى وأمثالها ، إلّا أنّ من المعلوم أن لهذه الجملة معنى واسعا ، تدخل فيه كل أنواع التربية والعناية ، وصنع موسىعليه‌السلام من أجل حمل راية الرسالة مع عناية الله الخاصّة.

ويستفاد بوضوح من القرائن الموجودة في هذه الآيات ، والآيات المشابهة لها في القرآن، وممّا جاء في الرّوايات والتواريخ ، أنّ أمّ موسىعليه‌السلام قد ألقت الصندوق الذي كان فيه موسى وهي في حالة من الخوف والقلق ، وحملته أمواج النيل ، وأخذ قلب أم موسى يخفق من مشاهدة هذا المنظر ، إلّا أنّ الله قد ألهم قلبها أن لا يدع للهم والحزن إليه طريقا ، فهو سبحانه سيعيده إليها في النهاية سالما.

وكان قصر فرعون قد بني على جانب شط النيل ، ويحتمل أن فرعا من هذا النهر العظيم كان يمر داخل قصره ، فحملت أمواج المياه الصندوق إلى ذلك الفرع الصغير ، وبينما كان فرعون وزوجته على حافة الماء ينظرون إلى الأمواج ، وإذا بهذا الصندوق الغريب يلفت انتباههما ، فأمر جنوده أن يخرجوا الصندوق من

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٣٧٨.

٥٥٧

الماء ، فلمّا فتحوا الصندوق شاهدوا بكامل العجب مولودا جميلا فيه ، وهو شيء لم يكن بالحسبان.

وهنا تنبه فرعون إلى أن هذا الوليد ينبغي أن يكون من بني إسرائيل ، وإنما لاقى هذا المصير خوفا من جلاوزته ، فأمر بقتله ، إلّا أنّ زوجته ـ التي كانت عقيما ـ تعلقت جدّا بالطفل ، فقد نفذ النور الذي كان ينبعث من عيني الطفل إلى زوايا قلبها ، وجذبها إليه ، فضربت على يد فرعون وطلبت منه أن يصرف النظر عن قتله ، وعبرت عن هذا الطفل بأنّه( قُرَّتُ عَيْنٍ ) ، بل وتمادت في طلبها ، فطلبت منه أن يتخذاه ولدا ليكون مبعث أمل لهما ، ويكبر في أحضانهما ، وأصرّت على طلبها حتى أصابت سهامها ، وحققت ما تصبو إليه.

غير أن الطفل جاع ، وأراد لبنا ، فأخذ يبكي ويذرف الدموع ، فرق قلب امرأة فرعون لهذه الدموع والبكاء واهتز ، ولا محيص من أن يبحث الخدم عن مرضعة له ، إلّا أنّهم كلما جاؤوه بمرضعة لم يقبل ثديها ، لأن الله سبحانه كان قد قدر أن يعيده إلى أمّه ، فهب المأمورون للبحث من جديد ، وكانوا يطرقون الأبواب بحثا عن مرضع جديدة.

والآن نقرأ بقية القصة على ضوء الآيات الشريفة :

نعم يا موسى ، فإنّا كنّا قدرنا أن تتربى بأعيننا وعلمنا( إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ ) بأمر أمك لتراقب مصيرك ، فرأت جنود فرعون :( فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ ) وربّما أضافت بأن هذه المرأة لها لبن نظيف ، وأنا مطمئنة بأن هذا الرضيع سيقبلها.

فاستبشر الجنود على أمل أن يجدوا ضالتهم عن هذا الطريق ، فذهبوا معها ، فأطلعت أخت موسى ـ والتي كانت تظهر نفسها بمظهر الشخص الغريب والمجهول ـ أمّها على الأمر ، فجاءت أمّه إلى بلاط فرعون ، من دون أن تفقد سيطرتها على أعصابها ، بالرغم من أن أمواجا من الحب والأمل كانت قد أحاطت بكل قلبها ، واحتضنت الطفل ، فلمّا شم الطفل رائحة أمّه ، وكانت رائحة

٥٥٨

مألوفة لديه ، التقم ثديها كأنّه تضمن لذة الروح وحلاوتها ، واشتغل الطفل بشرب اللبن بلهفة وعشق شديدين ، فانطلقت صرخات الفرح من الحاضرين ، وبدت آثار الفرح والسرور على زوجة فرعون.

يقول البعض : إنّ فرعون تعجب من هذه الحادثة ، وقال : من أنت إذ قبل هذا الطفل لبنك في حين أنّه ردّ جميع الأخريات؟ فقالت الأم : إنّي امرأة طيبة الريح واللبن ، ولا يرفض لبني أي طفل!

عل كل حال فقد أمرها فرعون بالاهتمام بالطفل ، وأكدت زوجته كثيرا على حفظه وحراسته ، وأمرت أن يعرض عليها الطفل بين فترة وأخرى.

هنا تحقق ما قاله القرآن :( فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ ) ولتستطيع تربيته بدون خوف من جلاوزة فرعون. ويستفاد من هذه العبارة أن فرعون أودع الطفل أمه لتذهب به إلى بيتها ، إلّا أنّ من الطبيعي أن ابن عائلة فرعون! الذي تعلقت به امرأته وأحبته حبا شديدا ، يجب أن يعرض عليها بين فترة وأخرى.

ومرّت السنون والأعوام ، وتربى موسىعليه‌السلام وسط هالة من لطف الله ومحبته ، وفي محيط آمن ، وشيئا فشيئا أصبح شابا. وكان ذات يوم يمر من طريق فرأى رجلين يتشاجران ، أحدهما من بني إسرائيل والآخر من الأقباط ـ (وهم المصريون قوم فرعون) ـ ولما كان بنو إسرائيل يعيشون دائما تحت ضغط الأقباط الظالمين وأذاهم ، هبّ موسى لمعونة المظلوم الذي كان من بني إسرائيل ، ومن أجل الدفاع عنه وجه ضربة قاتلة إلى ذلك القبطي ، فقضت عليه.

فتأثر موسى مما حدث وقلق ، لأن حراس فرعون علموا في النهاية من الذي قام بعملية القتل هذه ، فنشطوا للبحث عنه ومطاردته. إلّا أنّ موسى ، وحسب إشارة بعض أصدقائه عليه ، خرج متخفيا من مصر ، وتوجه إلى مدين ، فوجد محيطا وجوا آمنا في ظل النّبي «شعيب» ، والذي سيأتي شرح حاله في تفسير

٥٥٩

سورة القصص إن شاء الله تعالى

هنا حيث يقول القرآن الكريم :( وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً ) فبعد حادثة القتل اختبرناك كثيرا والقينا بك في اتون الحوادث والشدائد( فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ) وبعد اجتياز هذا الطريق الطويل ، والاستعداد الروحي والجسمي ، والخروج من دوامة الأحداث بشموخ وانتصار فقد( جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى ) . أي حيث لاستلام مهمّة الرسالة في زمان مقدّر إلى هذا المكان.

إن كلمة «قدر» ـ برأي كثير من المفسّرين ـ تعني الزمان الذي قدر فيه أن ينتخب موسى للرسالة. إلّا أنّ البعض اعتبرها بمعنى المقدار ، كما جاء هذا المعنى في بعض الآيات القرآنية ، الآية (٢١) من سورة الحجر ، وطبقا لهذا التّفسير سيكون معنى الآية : يا موسى إنّك قد نشأت وأصبحت ـ بعد تحمل هذه المصاعب والامتحانات وعشت سنين في بيت نبي كبير كشعيب ـ ذا قدر ومقام وشخصية ، وحصلت على استعداد لتلقي الوحي.

ثمّ يضيف :( وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ) فمن أجل مهمّة تلقي الوحي الصعبة ، ومن أجل قبول الرسالة ، ومن أجل هداية العباد وإرشادهم ربّيتك واختبرتك في الحوادث الصعبة ومشاقّها ، ومنحتك القوة والقدرة ، والآن حيث ألقيت هذه المهمّة الكبرى على عاتقك ، فإنّك مؤهل من جميع الجوانب.

«اصطناع» من مادة «صنع» بمعنى الإصرار والاقدام الأكيد على إصلاح شيء (كما يراه الراغب في مفرداته). ويعني إنّني قد اصلحتك من كل الجهات وكأنني أريدك لي وهذا الكلام هو أكثر ما يمكن أن يقال في تصوير محبّة الله لهذا النّبي العظيم ، وذهب البعض أنّه يشبه ما قاله الحكماء من : إنّ الله إذا أحبّ عبدا تفقده كما يتفقد الصديق صديقه.

نهاية مجلد التّاسع

* * *

٥٦٠

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576