الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل6%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 576

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 576 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 264374 / تحميل: 11788
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

محمّد البدر، آخر أئمة الزيديّة، فليرجع إلى كتابنا (بحوث في الملل والنحل). (1)

فكما قامت للزيديّة دولة في المغرب واليمن، فهكذا قامت دولة زيديّة في طبرستان بين الأعوام (250 - 360هـ)؛ حيث ظهر الحسن بن زيد بن محمّد بن إسماعيل بن زيد بن الحسين في طبرستان أيّام المستعين الله، وتمكّن من بسط نفوذه على طبرستان وجُرجان، وقام بعده أخوه محمّد بن زيد، ودخل بلاد الديلم عام 277هـ، ثُمَّ ملك طبرستان بعد ذلك الناصر للحق الحسن بن عليّ المعروف بالأطروش، وجاء بعده الحسن بن القاسم، وبعده محمّد بن الحسن بن القاسم المتوفّى 360هـ.

هذه إلمامة موجزة وضعتها أمام القارئ عن ثوّارهم ودولهم.

عقائد الزيديّة

لم يكن زيد الشهيد صاحب نهج كلامي ولا فقهي، فلو كان يقول بالعدل والتوحيد ويكافح الجبر والتشبيه، فلأجل أنّه ورثهما عن آبائه (عليهم السّلام)، وإن كان يفتي في مورد أو موارد، فهو يصدر عن الحديث الّذي يرويه عن آبائه.

نعم، جاء بعد زيد مفكّرون وعاة، وهم بين دعاة للمذهب، أو بناة للدولة في اليمن وطبرستان، فساهموا في إرساء مذهب باسم المذهب الزيدي، متفتّحين في الأُصول والعقائد مع المعتزلة، وفي الفقه وكيفيّة الاستنباط مع الحنفيّة، ولكن الصلة بين ما كان عليه زيد الشهيد في الأُصول والفروع وما أرساه

____________________

(1) بحوث في الملل والنحل: 7/371 - 386.

٢٤١

هؤلاء في مجالي العقيدة والشريعة منقطعة إلاّ في القليل منهما.

ولا أُغالي إذا قلت: إنّ المذهب الزيدي مذهب ممزوج ومنتزع من مذاهب مختلفة في مجالي العقيدة والشريعة، ساقتهم إلى ذلك الظروف السائدة عليهم، وصار مطبوعاً بطابع مذهب زيد، وإن لم يكن له صلة بزيد إلاّ في القسم القليل.

ومن ثَمَّ التقت الزيديّة في العدل والتوحيد مع شيعة أهل البيت جميعاً، إذ شعارهم في جميع الظروف والأدوار رفض الجبر والتشبيه، والجميع في التديّن بذينك الأصلين عيال على الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام)، كما أنّهم التقوا في الأُصول الثلاثة: ـ

1 - الوعد والوعيد.

2 - المنزلة بين المنزلتين.

3 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. - مع المعتزلة حيث أدخلوا هذه الأُصول في مذهبهم ورتّبوا عليه:

1 - خلود مرتكب الكبيرة في النار إذا مات بلا توبة، وحرمانه من الشفاعة؛ لأنّها للعدول دون الفسّاق.

2 - الشفاعة؛ بمعنى ترفيع الدرجة، لا الحطّ من الذنوب.

3 - الفاسق في منزلة بين المنزلتين؛ فهو عندهم لا مؤمن ولا كافر بل فاسق.

فاستنتجوا الأمرين الأوّلين من الأصل الأوّل، والثالث من الأصل الثاني.

٢٤٢

وأمّا الأصل الثالث، فهو ليس من خصائص الاعتزال، ولا الزيديّة، بل يشاركهم الإماميّة. هذه عقائدهم في الأُصول.

وأمّا الفروع فقد التفّت الزيديّة حول القياس والاستحسان والإجماع، وجعلوا الثالث بما هو هو حجّة، كما قالوا بحجيّة قول الصحابي وفعله، وبذلك صاروا أكثر فِرق الشيعة انفتاحاً على أهل السنّة.

ولكن العلامة الفارقة والنقطة الشاخصة الّتي تميّز هذا المذاهب عمّا سواه من المذاهب، ويسوقهم إلى الانفتاح على الإماميّة والإسماعيليّة، هو القول بإمامة عليّ والحسنين بالنصّ الجليّ أو الخفيّ عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، والقول بأنّ تقدّم غيرهم عليهم كان خطأ وباطلاً.

وها نحن نأتي برؤوس عقائدهم الّتي يلتقون في بعضها مع المعتزلة والإماميّة:

1 - صفاته سبحانه عين ذاته، خلافاً للأشاعرة.

2 - إنّ الله سبحانه لا يُرى ولا تجوز عليه الرؤية.

3 - العقل يدرك حسن الأشياء وقبحها.

4 - الله سبحانه مريد بإرادة حادثة.

5 - إنّه سبحانه متكلّم بكلام، وكلامه سبحانه فعله: وهو الحروف والأصوات.

6 - أفعال العباد ليست مخلوقة لله سبحانه.

7 - تكليف ما يطاق قبيح، خلافاً للمجبّرة والأشاعرة.

8 - المعاصي ليس بقضاء الله.

٢٤٣

9 - الإمامة تجب شرعاً لا عقلاً، خلافاً للإمامية.

10 - النصّ على إمامة زيد والحسنين عند الأكثريّة.

11 - القضاء في فدك صحيح، خلافاً للإماميّة.

12 - خطأ المتقدّمين على عليّ في الخلافة قطعيّ.

13 - خطأ طلحة والزبير وعائشة قطعيّ.

14 - توبة الناكثين صحيحة.

15 - معاوية بن أبي سفيان فاسق لبغيه لم تثبت توبته.

هذه رؤوس عقائد الزيديّة استخرجناها من كتاب (القلائد في تصحيح الاعتقاد)، المطبوع في مقدّمة البحر الزخّار. (1)

فرق الزيديّة:

قد ذكر مؤرّخو العقائد للزيديّة فِرقاً، بين مقتصر على الثلاث، وإلى مفيض إلى ست، وإلى ثمان، منهم: الجاروديّة والسليمانيّة والبتريّة والنعيميّة، إلى غير ذلك من الفِرق، وبما أنّ هذه الفِرق كلّها قد بادت وذهبت أدراج الريح، مع بقاء الزيديّة في اليمن، ولا يوجد اليوم في اليمن بين الزيديّة من المفاهيم الكلاميّة المنسوبة إلى الفِرق كالجاروديّة أو السليمانيّة أو البتريّة أو الصالحيّة إلاّ مفهوم واحد، وهو المفهوم العام الّذي تعرفت عليه، وهو القول بإمامة زيد والخروج

____________________

(1) البحر الزخّار: 52 - 96.

٢٤٤

على الظلمة، واستحقاق الإمامة بالطلب والفضل، لا بالوراثة، مع القول بتفضيل عليّ - كرم الله وجهه - وأولويتّه بالإمامة، وقصرها من بعده في البطنين الحسن والحسين.

وأمّا أسماء تلك الفِرق والعقائد المنسوب إليهم، فلا توجد اليوم إلاّ في بطون الكتب والمؤلَّفات في الفِرق الإسلاميّة كالمِلل والنحل ونحوها، فإذا كان الحال في اليمن كما ذكره الفضيل شرف الدين، فالبحث عن هذه الفِرق من ناحية إيجابيّاتها وسلبيّاتها ليس مهمّاً بعد ما أبادهم الدهر، وإنّما اللاّزم دراسة المفهوم الجامع بين فِرقهم.

٢٤٥

15

الإسماعيليّة

الإسماعيليّة فِرقة من الشيعة القائلة بأنّ الإمامة بالتنصيص من النبيّ أو الإمام القائم مقامه، غير أنّ هناك خلافاً بين الزيديّة والإماميّة والإسماعيليّة في عدد الأئمّة ومفهوم التنصيص.

فالأئمّة المنصوصة خلافتهم وإمامتهم بعد النبيّ عند الزيديّة لا يتجاوز عن الثلاثة: عليّ أمير المؤمنين (عليه السّلام)، والسبطين الكريمين: الحسن والحسين (عليهما السّلام)، وبشهادة الأخير أغلقت دائرة التنصيص وجاءت مرحلة الانتخاب بالبيعة كما تقدم.

وأمّا الأئمّة المنصوصون عند الإماميّة فاثنا عشر إماماً آخرهم غائبهم يظهره الله سبحانه عندما يشاء، وقد حوّل أمر الأُمّة - في زمان غيبته - إلى الفقيه العارف بالأحكام والسنن والواقف على مصالح المسلمين على النحو المقرّر في كتبهم وتآليفهم.

وأمّا الإمامة عند الإسماعيليّة فهي تنتقل عندهم من الآباء إلى الأبناء، ويكون انتقالها عن طريق الميلاد الطبيعي، فيكون ذلك بمثابة نصّ من الأب بتعيين الابن، وإذا كان للأب عدّة أبناء فهو بما أُوتي من معرفة خارقة للعادة يستطيع أن يعرف من هو الإمام الّذي وقع عليه النص، فالقول بأنّ الإمامة عندهم بالوراثة أولى من القول بالتنصيص.

٢٤٦

وعلى كلّ حال فهذه الفِرقة منشقّة عن الشيعة، معتقدة بإمامة إسماعيل بن جعفر بن الإمام الصادق (عليه السّلام)، وإليك نبذة مختصرة عن سيرة إسماعيل بن جعفر الصادق (عليه السّلام) (110 - 145هـ).

الإمام الأوّل للدعوة الإسماعيليّة:

إنّ إسماعيل هو الإمام الأوّل والمؤسّس للمذهب، فوالده الإمام الصادق (عليه السّلام) غنيّ عن التعريف وفضله أشهر من أن يُذكر، وأُمّه فاطمة بنت الحسين بن عليّ بن الحسين الّتي أنجبت أولاداً ثلاثة هم:

1 - إسماعيل بن جعفر.

2 - عبد الله بن جعفر.

3 - أُم فروة.

وكان إسماعيل أكبرهم، وكان أبو عبد الله (عليه السّلام) شديد المحبّة له والبرَّ به والإشفاق عليه، مات في حياة أبيه (عليه السلام) (بالعريض) وحمل على رقاب الرّجال إلى أبيه بالمدينة حتّى دفنه بالبقيع. (1)

استشهاد الإمام الصادق (عليه السّلام) على موته:

كان الإمام الصادق حريصاً على إفهام الشيعة بأنّ الإمامة لم تُكتب لإسماعيل، فليس هو من خلفاء الرسول الاثني عشر الّذين كُتبت لهم الخلافة والإمامة بأمر السماء وإبلاغ الرسول الأعظم.

____________________

(1) إرشاد المفيد: 284.

٢٤٧

ومن الدواعي الّتي ساعدت على بثّ بذر الشبهة والشكّ في نفوس الشيعة في ذلك اليوم؛ هو ما اشتهر من أنّ الإمامة للولد الأكبر، وكان إسماعيل أكبر أولاده، فكانت أماني الشيعة معقودة عليه، ولأجل ذلك تركّزت جهود الإمام الصادق (عليه السّلام) على معالجة الوضع واجتثاث جذور تلك الشبهة وأنّ الإمامة لغيره، فتراه تارة ينصّ على ذلك، بقوله وكلامه، وأُخرى بالاستشهاد على موت إسماعيل وأنّه قد انتقل إلى رحمة الله ولن يصلح للقيادة والإمامة.

وإليك نموذجاً يؤيّد النهج الّذي انتهجه الإمام لتحقيق غرضه في إزالة تلك الشبهة.

روى النعماني عن زرارة بن أعين، أنّه قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السّلام) وعند يمينه سيّد ولده موسى (عليه السّلام) وقدّامه مرقد مغطّى، فقال لي: «يا زرارة جئني بداود بن كثير الرقي وحمران وأبي بصير» ودخل عليه المفضّل بن عمر، فخرجت فأحضرت من أمرني بإحضاره، ولم يزل الناس يدخلون واحداً إثر واحد حتّى صرنا في البيت ثلاثين رجلا.

فلمّا حشد المجلس قال: «يا داود اكشف لي عن وجه إسماعيل»، فكشف عن وجهه، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «يا داود أحيٌّ هو أم ميّت؟» ، قال داود: يا مولاي هو ميّت، فجعل يعرض ذلك على رجل رجل، حتّى أتى على آخر من في المجلس، وانتهى عليهم بأسرهم، وكل يقول: هو ميّت يا مولاي، فقال: «اللّهم اشهد» ثُمَّ أمر بغسله وحنوطه، وإدراجه في أثوابه.

فلمّا فرغ منه قال للمفضّل: (يا مفضّل أحسر عن وجهه)، فحسر عن وجهه، فقال: «أحيُّ هو أم ميّت؟» فقال له: ميّت، قال(عليه السّلام): «اللّهم اشهد عليهم» ، ثُمَّ

٢٤٨

حمل إلى قبره، فلمّا وضع في لحده، قال: «يا مفضّل اكشف عن وجهه»، وقال للجماعة: (أحيّ هو أم ميّت؟)، قلنا له: ميّت، فقال: «اللّهم اشهد، واشهدوا فانّه سيرتاب المبطلون، يريدون إطفاء نور الله بأفواههم - ثُمَّ أومأ إلى موسى - والله متمّ نوره ولو كره المشركون»، ثُمَّ حثونا عليه التراب، ثُمَّ أعاد علينا القول، فقال: «الميّت، المحنّط، المكفّن المدفون في هذا اللحد من هو؟» قلنا: إسماعيل، قال: «اللّهم اشهد». ثُمَّ أخذ بيد موسى (عليه السّلام) وقال: «هو حقّ، والحقّ منه، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها». (1)

هل كان عمل الإمام تغطية لستره؟

إنّ الإسماعيليّة تدّعي أنّ ما قام به الإمام الصادق (عليه السّلام) كان تغطية؛ لستره عن أعين العباسيّين، الّذين كانوا يطاردونه بسبب نشاطه المتزايد في نشر التعاليم الّتي اعتبرتها الدولة العباسيّة منافية لقوانينها. والمعروف أنّه توجّه إلى سلمية ومنها إلى دمشق فعلم به عامل الخليفة، وهذا ما جعله يغادرها إلى البصرة ليعيش فيها متستّراً بقيّة حياته.

مات في البصرة سنة 143هـ، وكان أخوه موسى بن جعفر الكاظم حجاباً عليه، أمّا وليّ عهده محمّد فكان له من العمر أربع عشرة سنة عند موته. (2)

ما ذكره أُسطورة حاكتها يدُ الخيال، ولم يكن الإمام الصادق (عليه السّلام) ولا أصحابه الأجلاّء، ممّن تتلمذوا في مدرسة الحركات السريّة، حتّى يفتعل موت ابنه بمرأى ومسمع من الناس وهو بعد حيّ يرزق، ولم يكن عامل الخليفة

____________________

(1) غيبة النعماني: 327، الحديث 8، ولاحظ؛ بحار الأنوار: 48/21.

(2) عارف تامر: الإمامة في الإسلام: 180.

٢٤٩

بالمدينة المنوّرة بليداً، يكتفي بالتمويه، حتّى يتسلّم المحضر ويبعث به إلى دار الخلافة العبّاسيّة.

والظاهر أنّ إصرارهم بعدم موت إسماعيل في حياة أبيه جعفر الصادق (عليه السّلام)، لأجل تصحيح إمامة ابنه عبد الله بن إسماعيل؛ حتّى يتسنّى له أخذ الإمامة من أبيه الحيّ بعد حياة الإمام الصادق (عليه السّلام).

لكن الحقّ أنّه توفّي أيّام حياة أبيه، بشهادة الأخبار المتضافرة الّتي تعرّفت عليها، وهل يمكن إغفال أُمّة كبيرة وفيهم جواسيس الخليفة وعمّالها؟!، وستْر رحيل إسماعيل إلى البصرة بتمثيل جنازة بطريقة مسرحيّة يُعلن بها موته، فإنّه منهج وأُسلوب السياسيّين المخادعين، المعروفين بالتخطيط والمؤامرة، ومن يريد تفسير فعل الإمام عن هذا الطريق فهو من هؤلاء الجماعة (وكلّ إناء بالّذي فيه ينضح). وأين هذا من وضع الجنازة مرّات وكشف وجهه والاستشهاد على موته وكتابة الشهادة على كفنه؟!

والتاريخ يشهد على أنّه لم يكن لإسماعيل ولا لولَده الإمام الثاني، أيّة دعوة في زمان أبي جعفر المنصور ولا ولَده المهدي العبّاسي، بشهادة أنّ ابن المفضّل كتب كتاباً ذكر فيه صنوف الفِرق، ثُمَّ قرأ الكتاب على الناس، فلم يذكر فيه شيئاً من تلك الفِرقة مع أنّه ذكر سائر الفِرق الشيعيّة البائدة.

والحق إنّ إسماعيل كان رجلاً ثقة، محبوباً للوالد، وتوفّي في حياة والده وهو عنه راض، ولم تكن له أي دعوة للإمامة، ولم تظهر أي دعوة باسمه أيّام خلافة المهدي العبّاسي الّذي توفّي عام 169هـ، وقد مضى على وفاة الإمام الصادق (عليه السّلام) إحدى وعشرون سنة.

٢٥٠

الخطوط العريضة للمذهب الإسماعيلي

إنّ للمذهب الإسماعيلي آراء وعقائداً:

الأُولى: انتماؤهم إلى بيت الوحي والرسالة:

كانت الدعوة الإسماعيليّة يوم نشوئها دعوة بسيطة لا تتبنّى سوى: إمامة المسلمين، وخلافة الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) واستلام الحكم من العباسيّين بحجة ظلمهم وتعسّفهم، غير أنّ دعوة بهذه السذاجة لا يُكتب لها البقاء إلاّ باستخدام عوامل تضمن لها البقاء، وتستقطب أهواء الناس وميولهم.

ومن تلك العوامل الّتي لها رصيد شعبي كبير هو ادّعاء انتماء أئمّتهم إلى بيت الوحي والرسالة وكونهم من ذريّة الرسول وأبناء بنته الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السّلام)، وكان المسلمون منذ عهد الرسول يتعاطفون مع أهل بيت النبيّ، وقد كانت محبّتهم وموالاتهم شعار كلّ مسلم واع.

وممّا يشير إلى ذلك أنّ الثورات الّتي نشبت ضد الأُمويّين كانت تحمل شعار حبّ أهل البيت (عليهم السّلام) والاقتداء بهم والتفاني دونهم، ومن هذا المنطلق صارت الإسماعيليّة تفتخر بانتماء أئمّتهم إلى النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، حتّى إذا تسلّموا مقاليد الحكم وقامت دولتهم اشتهروا بالفاطميّين، وكانت التسمية يومذاك تهزّ المشاعر وتجذب العواطف بحجّة أنّ الأبناء يرثون ما للآباء من الفضائل والمآثر، وأنّ

٢٥١

تكريم ذريّة الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) تكريم له (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فشتّان ما بين بيت أُسّس بنيانه على تقوى من الله ورضوانه وبيت أُسّس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم.

الثانية: تأويل الظواهر:

إنّ تأويل الظواهر وإرجاعها إلى خلاف ما يتبادر منها في عرف المتشرّعة هي السمة البارزة الثانية للدعوة الإسماعيليّة، وهي إحدى الدعائم الأساسيّة؛ بحيث لو انسلخت الدعوة عن التأويل واكتفت بالظواهر لم تتميّز عن سائر الفِرق الشيعيّة إلاّ بصرف الإمامة عن الإمام الكاظم (عليه السّلام) إلى أخيه إسماعيل بن جعفر، وقد بنوا على هذه الدعامة مذهبهم في مجالي العقيدة والشريعة، وخصوصاً فيما يرجع إلى تفسير الإمامة وتصنيفها إلى أصناف.

إنّ تأويل الظواهر والتلاعب بآيات الذكر الحكيم وتفسيرها بالأهواء والميول جعل المذهب الإسماعيلي يتطوّر مع تطوّر الزمان، ويتكيّف بمكيّفاته، ولا ترى الدعوة أمامها أي مانع من مماشاة المستجدات وإن كانت على خلاف الشارع أو الضرورة الدينيّة.

الثالثة: تطعيم مذهبهم بالمسائل الفلسفيّة:

إنّ ظاهرة الجمود على النصوص والظواهر ورفض العقل في مجالات العقائد، كانت من أهم ميّزات العصر العبّاسي، هذه الظاهرة ولّدت رد فعل عند أئمّة الإسماعيليّة، فانجرفوا في تيّارات المسائل الفلسفيّة وجعلوها من صميم

٢٥٢

الدّين وجذوره، وانقلب المذهب إلى منهج فلسفي يتطوّر مع تطوّر الزمن، ويتبنّى أُصولاً لا تجد منها في الشريعة الإسلاميّة عيناً ولا أثراً.

يقول المؤرّخ الإسماعيلي المعاصر مصطفى غالب: إنّ كلمة (إسماعيليّة) كانت في بادئ الأمر تدلّ على أنّها من إحدى الفِرق الشيعيّة المعتدلة، لكنّها صارت مع تطوّر الزمن حركة عقليّة تدلّ على أصحاب مذاهب دينيّة مختلفة، وأحزاب سياسيّة واجتماعيّة متعدّدة، وآراء فلسفيّة وعلميّة متنوّعة. (1)

الرابعة: تنظيم الدعوة:

ظهرت الدعوة الإسماعيليّة في ظروف ساد فيها سلطان العبّاسيّين شرق الأرض وغربها، ونشروا في كلِّ بقعة جواسيس وعيوناً ينقلون الأخبار إلى مركز الخلافة الإسلاميّة، ففي مثل هذه الظروف العصيبة لا يُكتب النجاح لكلّ دعوة تقوم ضدّ السلطة إلاّ إذا امتلكت تنظيماً وتخطيطاً متقناً يضمن استمرارها، ويصون دعاتها وأتباعها من حبائل النظام الحاكم وكشف أسرارهم.

وقد وقف الدعاة على خطورة الموقف، وأحسّوا بلزوم إتقان التخطيط والتنظيم، وبلغوا فيه الذروة؛ بحيث لو قُورنت مع أحدث التنظيمات الحزبيّة العصريّة، لفاقتها وكانت لهم القدح المعلّى في هذا المضمار، وقد ابتكروا أساليب دقيقة يقف عليها من سبر تراجمهم وقرأ تاريخهم، ولم يكتفوا بذلك فحسب بل جعلوا تنظيمات الدعوة من صميم العقيدة وفلسفتها.

____________________

(1) تاريخ الدعوة الإسماعيليّة: 14.

٢٥٣

الخامسة: تربية الفدائيّين للدفاع عن المذهب:

إنّ الأقلّية المعارضة من أجل الحفاظ على كيانها لا مناص لها من تربية فدائيّين مضحّين بأنفسهم في سبيل الدعوة؛ لصيانة أئمتهم ودعاتهم من تعرّض الأعداء، فينتقون من العناصر المخلصة المعروفة بالتضحية والإقدام، والشجاعة النادرة، والجرأة الخارقة ويكلّفون بالتضحيات الجسديّة، وتنفيذ أوامر الإمام أو نائبه، وإليك هذا النموذج:

في سنة 500 هـ فكّر فخر الملك بن نظام وزير السلطان سنجر، أن يُهاجم قلاع الإسماعيليّة، فأوفد إليه الحسن بن الصباح أحد فدائيّيه فقتله بطعنة خنجر، ولقد كانت قلاعه في حصار مستمر من قبل السلجوقيّين.

السادسة: كتمان الوثائق:

إنّ استعراض تاريخ الدعوات الباطنيّة السرّيّة وتنظيماتها رهن الوقوف على وثائقها ومصادرها الّتي تنير الدرب لاستجلاء كنهها، وكشف حقيقتها وما غمض من رموزها ومصطلحاتها، ولكن للأسف الشديد أنّ الإسماعيليّة كتموا وثائقهم وكتاباتهم ومؤلّفاتهم وكلّ شيء يعود لهم، ولم يبذلوها لأحد سواهم، فصار البحث عن الإسماعيليّة بطوائفها أمراً مستعصياً، إلاّ أن يستند الباحث إلى كتب خصومهم وما قيل فيهم، ومن المعلوم أنّ القضاء في حقّ طائفة استناداً إلى كلمات مخالفيهم خارج عن أدب البحث النزيه.

٢٥٤

السابعة: الأئمّة المستورون والظاهرون:

إنّ الإسماعيليّة أعطت للإمامة مركزاً شامخاً، وصنّفوا الإمامة إلى رُتب ودرجات، وزوّدوها بصلاحيّات واختصاصات واسعة، غير أنّ المهمَّ هنا الإشارة إلى تصنيفهم الإمام إلى مستور دخل كهف الاستتار، وظاهر يملك جاهاً وسلطاناً في المجتمع، فالأئمّة المستورون هم الّذين نشروا الدعوة سرّاً وكتماناً، وهم:

1 - إسماعيل بن جعفر الصادق (عليه السّلام) (110 - 145هـ).

2 - محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (الحبيب) (132 - 193هـ)، ولد في المدينة المنوّرة وتسلّم شؤون الإمامة واستتر عن الأنظار خشية وقوعه بيد الأعداء. ولقّب بالإمام المكتوم لأنّه لم يعلن دعوته وأخذ في بسطها خفية.

3 - عبد الله بن محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (الوافي) (179 - 212هـ)، ولد في مدينة محمّد آباد، وتولّى الإمامة عام 193هـ بعد وفاة أبيه، وسكن السلمية عام 194هـ مصطَحباً بعدد من أتباعه؛ وهو الّذي نظّم الدعوة تنظيماً دقيقاً.

4 - أحمد بن عبد الله بن محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (التقي) (198 - 265هـ)، وتولّى الإمامة عام 212هـ، سكن السلمية سرّاً حيث أصبحت مركزاً لنشر الدعوة.

5 - الحسين بن أحمد بن عبد الله بن محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (الرضي) (212 - 289هـ) تولّى الإمامة عام 265هـ، ويقال أنّه اتّخذ عبد الله بن ميمون القدّاح حجّة له وحجاباً عليه.

٢٥٥

الأئمّة الظاهرون:

6 - عبيد الله المهدي (260 - 322هـ) والمعروف بين الإسماعيليّة أنّ عبيد الله المهدي الّذي هاجر إلى المغرب وأسّس هناك الدولة الفاطميّة كان ابتداءً لعهد الأئمّة الظاهرين الّذين جهروا بالدعوة وأخرجوها عن الاستتار.

7 - محمّد بن عبيد الله القائم بأمر الله (280 - 334هـ)، ولد بالسلمية، ارتحل مع أبيه عبيد الله المهدي إلى المغرب وعهد إليه بالإمامة من بعده.

8 - إسماعيل المنصور بالله (303 - 346هـ)، ولد بالقيروان، تسلّم شؤون الإمامة بعد وفاة أبيه سنة 334هـ.

9 - معد بن إسماعيل المعزّ لدين الله (319 - 365هـ)، مؤسس الدولة الفاطميّة في مصر.

10 - نزار بن معد العزيز بالله (344 - 386هـ)، ولي العهد بمصر سنة 365هـ، واستقلّ بالأمر بعد وفاة أبيه، وكانت خلافته إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفاً.

11 - منصور بن نزار الحاكم بأمر الله (375 - 411هـ)، بويع بالخلافة سنة 386هـ وكان عمره أحد عشر عاماً ونصف العام، وهو من الشخصيّات القليلة الّتي لم تتجلّ شخصيّته بوضوح، وقام بأعمال إصلاحيّة زعم مناوئوه أنّها من البدع.

وأمّا عن مصير الحاكم، فمجمل القول فيه أنّه فُقد في سنة 411هـ، ولم يُعلم مصيره، وحامت حول كيفيّة اغتياله أساطير لا تتلاءم مع الحاكم المقتدر.

٢٥٦

وبعد اختفائه انشقّت فِرقة من الإسماعيليّة ذهبت إلى إلوهيّة الحاكم وغيبته، وهم المعروفون اليوم بـ (الدروز) يقطنون لبنان.

12 - عليّ بن منصور الظاهر لإعزاز دين الله (395 - 427هـ)، بويع بالخلافة وعمره ستة عشر عاماً، وشنّ حرباً على الدروز محاولاً إرجاعهم إلى العقيدة الفاطميّة الأصيلة.

13 - معد بن عليّ المستنصر بالله (420 - 487هـ)، بويع بالخلافة عام 427هـ، وكان له من العمر سبعة أعوام، وقد ظلّ في الحكم ستّين عاماً، وهي أطول مدّة في تاريخ الخلافة الإسلاميّة.

إلى هنا تمّت ترجمة الأئمّة الثلاثة عشر الّذين اتّفقت كلمة الإسماعيليّة على إمامتهم وخلافتهم، ولم يشذّ منهم سوى الدروز الّذين انشقوا عن الإسماعيليّة في عهد خلافة الحاكم بأمر الله، وصار وفاة المستنصر بالله سبباً لانشقاق آخر وظهور طائفتين من الإسماعيليّة، بين مستعلية تقول بإمامة أحمد المستعلي بن المستنصر بالله، ونزاريّة تقول بإمامة نزار بن المستنصر.

وسنأتي بالحديث عن الإسماعيليّة المستعلية والنزاريّة فيما يلي.

٢٥٧

الإسماعيليّة المستعلية

صارت وفاة المستنصر بالله سبباً لانشقاق الإسماعيليّة مرّة ثانية - بعد انشقاق الدروز في المرّة الأُولى - فمنهم من ذهب إلى إمامة أحمد المستعلي بن المستنصر بالله، ومنهم من ذهب إلى إمامة نزار من المستنصر بالله، وإليك الكلام في أئمّة المستعلية في هذا الفصل مقتصرين على أسمائهم وتاريخ ولادتهم ووفاتهم:

1 - الإمام أحمد بن معد بن عليّ المستعلي بالله (467 - 495هـ).

2 - الإمام منصور بن أحمد الآمر بأحكام الله (490 - 524هـ).

قال ابن خلّكان: مات الآمر بأحكام الله ولم يعقب، وربّما يقال: أنّ الآمر مات وامرأته حامل بالطيّب. فلأجل ذلك عهد الآمر بأحكام الله الخلافة إلى الحافظ، الظافر، الفائز، ثُمَّ إلى العاضد، وبما أنّ هؤلاء لم يكونوا من صلب الإمام السابق، بل كانوا من أبناء عمّه صاروا دعاة؛ حيث لم يكن في الساحة إمام، ودخلت الدعوة المستعلية بعد اختفاء الطيّب بالستر، وما تزال تنتظر عودته، وتوقّفت عن السير وراء الركب الإمامي واتّبعت نظام الدعاة المطلقين.

3 - الداعي عبد المجيد بن أبي القاسم محمّد بن المستنصر الحافظ لدين الله (467 - 544هـ).

4 - الداعي إسماعيل بن عبد المجيد الظافر بأمر الله (527 - 549 هـ).

٢٥٨

5 - الداعي عيسى بن إسماعيل الفائز بنصر الله (544 - 555هـ).

6 - عبد الله بن يوسف العاضد لدين الله (546 - 567هـ).

ثُمَّ إنّ العاضد فوّض الوزارة إلى صلاح الدين الأيّوبي الّذي بذل الأموال على أصحابه وأضعف العاضد باستنفاد ما عنده من المال، فلم يزل أمره في ازدياد وأمر العاضد في نقصان، حتّى تلاشى العاضد وانحلّ أمره، ولم يبق له سوى إقامة ذكره في الخطبة، وتتبّع صلاح الدين جُند العاضد، وأخذ دور الأمراء وإقطاعاتهم فوهبها لأصحابه، وبعث إلى أبيه وإخوته وأهله، فقدموا من الشام عليه، وعزل قُضاة مصر الشيعة، واختفى مذهب الشيعة إلى أنّ نُسي من مصر، وقد زادت المضايقات على العاضد وأهل بيته، حتّى مرض ومات وعمره إحدى وعشرون سنة إلاّ عشرة أيام، وهو آخر الخلفاء الفاطميّين بمصر، وكانت مدّتهم بالمغرب ومصر منذ قام عبيد الله المهدي إلى أن مات العاضد 272 سنة، منها بالقاهرة 208 سنين.(1)

تتابع الدعاة عند المستعلية:

قد عرفت أنّ ركب الإمامة قد توقّف عند المستعلية وانتهى الأمر إلى الدعاة الّذين تتابعوا إلى زمان 999هـ، وعند ذلك افترقت المستعلية إلى فِرقتين: داوديّة، وسليمانيّة، وذلك بعد وفاة الداعي المطلق داود بن عجب شاه، انتخبت مستعلية كجرات داود بن قطب شاه خلفاً له، ولكن اليمانيّين عارضوا ذلك وانتخبوا داعياً آخر، يُدعى سليمان بن

____________________

(1) انظر الخطط المقريزيّة: 1/358 - 359.

٢٥٩

الحسن، ويقولون: إنّ داود قد أوصى له بموجب وثيقة ما تزال محفوظة.

إنّ الداعي المطلق للفِرقة الإسماعيليّة المستعلية الداوديّة اليوم هو طاهر سيف الدّين، ويُقيم في بومباي الهند، أمّا الداعي المطلق للفِرقة المستعلية السليمانيّة فهو عليّ بن الحسين، ويقيم في مقاطعة نجران بالحجاز. (1)

جناية التاريخ على الفاطميّين:

لاشكّ أنّ كلّ دولة يرأسها غير معصوم لا تخلو من أخطاء وهفوات، وربّما تنتابها بين آونة وأُخرى حوادث وفتن تضعضع كيانها وتشرفها على الانهيار.

والدولة الفاطميّة غير مستثناة عن هذا الخط السائد؛ فقد كانت لديها زلاّت وعثرات، إلاّ أنّها قامت بأعمال ومشاريع كبيرة لا تقوم بها إلاّ الدولة المؤمنة بالله سبحانه وشريعته، كالجامع الأزهر الّذي ظلّ عبر الدهور يُنير الدرب لأكثر من ألف سنة، كما أنّهم أنشأوا جوامع كبيرة ومدارس عظيمة مذكورة في تاريخهم، وبذلك رفعوا الثقافة الإسلاميّة إلى مرتبة عالية، وتلك الأعمال جعلت لهم في قلوب الناس مكانة عالية.

غير أنّا نرى أنّ أكثر المؤرّخين يصوّرها بأنّها من أكثر العصور ظلاماً في التاريخ؛ شأنها في ذلك شأن سائر الفراعنة، وليس هذا إلاّ حدسيّات وتخمينات أخذها أصحاب أقلام السِّير والتاريخ من رُماة القول على عواهنه دون أن يُمعنوا فيه.

____________________

(1) عارف تامر: الإمامة في الإسلام: 162.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

وهنا صدر الأمر لموسى( قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى ) (١) .

وفي الآية (٣١) من سورة القصص نقرأ :( وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ ) .

وبالرغم من أن خوف موسى هنا قد أثار التساؤل لدى بعض المفسّرين بأن هذه الحالة كيف تناسب موسى مع الشجاعة التي عهدنا لدى موسى ، وأثبتها عمليا طوال عمره عند محاربته الفراعنة؟ إضافة إلى صفات وشروط الأنبياء بصورة عامّة.

إلّا أنّ الجواب عن هذا السؤال يتّضح بملاحظة نكتة واحدة ، وهي أن من الطبيعي أن كل إنسان ، مهما كان شجاعا وغير هياب ، إذا رأى فجأة قطعة خشب تتحول إلى حية عظيمة وتتحرك بسرعة ، فلا بدّ أن يرتبك ويخاف ولو لمدّة قصيرة ويسحب نفسه جانبا توقيا ، إلّا أن يكون هذا المشهد قد تكرر أمامه مرارا ، ورد الفعل الطبيعي هذا لا يكون نقطة ضعف ضد موسى أبدا. ولا تنافي الآية (٣٩) من سورة الأحزاب حيث تقول:( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ ) فإن هذا الخوف طبيعي ومؤقت وسريع الزوال أمام حادثة لم تحدث من قبل قط ، وخارق للعادة.

ثمّ أشارت الآية التالية إلى المعجزة المهمّة الثّانية لموسى ، فأمرته :( وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى ) (٢) .

وبالرغم من أنّ للمفسّرين في تفسير جملة( وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ ) أقوالا مختلفة ، إلّا أنّه بملاحظة الآية (٣٢) من سورة القصص ، والتي تقول :( اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ ) والآية (١٢) من سورة النمل ، والتي تقول :( وَأَدْخِلْ يَدَكَ

__________________

(١) «السيرة» ـ كما يقول الراغب في المفردات ـ بمعنى الحالة الباطنية ، سواء غريزية أو اكتسابية والبعض فسرها هنا بمعنى الهيئة والصورة.

(٢) آية منصوبة على أنها اسم حال محل الحال ، والحال لضمير مستتر في (تخرج).

٥٤١

فِي جَيْبِكَ ) سيستفاد أن موسى كان مأمورا أن يدخل يده في جيبه ويوصلها إلى تحت إبطه، لأنّ الجناح في الأصل جناح الطير ، ويمكن أن تكون هنا إشارة إلى تحت الإبط.

كلمة (بيضاء) من البياض ، وجملة( مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ) إشارة إلى أن بياض يدك ليس نتيجة مرض البرص وأمثاله ، بدليل أن لها لمعانا وبريقا خاصا يظهر في لحظة ويختفي في لحظة أخرى.

إلّا أنّه يستفاد من بعض الرّوايات أنّ يد موسى قد صارت في تلك الحالة نورانية بشكل عجيب ، وإذا كان كذلك فيجب أن نقبل أن لجملة( مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ) معنى آخر غير الذي قلناه ، أي إن لها نورانية لا عيب فيها ، فلا تؤذي عينا ، ولا يرى فيها بقعة سوداء ، ولا غير ذلك.

وتقول الآية الأخيرة ، وكنتيجة لما مر بيانه في الآيات السابقة :( لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى ) ومن المعلوم أن المراد من الآيات الكبرى هو تلكما المعجزتان المهمتان اللتان وردتا أعلاه ، وما احتمله بعض المفسّرين من أنّها إشارة إلى المعجزات التي سيضعها الله سبحانه تحت تصرف موسى فيما بعد يبدو بعيدا جدا.

* * *

بحوث

١ ـ معجزتان كبيرتان

لا شك أنّ ما ذكر أعلاه من تبدل عصا موسى إلى حية عظيمة تسعى ، وقد عبرت الآية (١٠٧) من سورة الأعراف عنها ب (ثعبان) وكذلك البريق الخاص لليد في لحظة قصيرة ثمّ رجوعها إلى الحالة الأولى ، ليس أمرا طبيعيا ، أو نادرا ، أو قليل الوقوع ، بل إن كلا الأمرين يعتبر خارقا للعادة لا يمكن أن يقع بدون

٥٤٢

الاستناد إلى قوة فوق قوة البشر ، أي قوة اللهعزوجل .

إنّ من يؤمن بالله ، ويعتقد أن علمه وقدرته غير محدودة ، لا يقدر على إنكار هذه الأمور ، أو ينسبها إلى الخرافة كالماديين.

المهم في المعجزة هو عدم استحالتها عقلا ، وهذا الأمر يصدق هنا كاملا ، فلا يوجد أي دليل عقلي على نفي تبدل العصا إلى ثعبان عظيم.

أليس العصا والحية العظيمة كانتا ترابا في الماضي السحيق؟ من الطبيعي أن المدة قد استغرقت ملايين أو مئات الملايين من السنين حتى ظهرت على شكل هذه الموجودات. لا تفاوت في هذه المسألة سواء قلنا بتكامل الأنواع أو ثبوتها ، لأن أخشاب الأشجار والحيوانات قد خلقت جميعا من التراب على كل حال. غاية ما في الأمر أن العمل الإعجازي هنا اختصر كل تلك المراحل التي كان يجب أن تطوى خلال سنين طويلة في لحظة واحدة ، وفي مدّة قصيرة جدّا ، فهل يبدو مثل هذا الأمر محالا؟

من الممكن أن أكتب باليد كتابا ضخما في سنة ، فإذا وجد شخص يستند ويعتمد على الإعجاز ويؤدي هذا العمل في ساعة أو أقل ، فإنّ هذا ليس محالا عقليا ، بل هو خارق للعادة. (دققوا ذلك).

على كل حال ، فإنّ القضاء العجول حول المعجزات ، ونسبتها ـ لا سمح الله ـ إلى الخرافات أمر بعيد عن المنطق والعقل. الشيء الوحيد الذي يحفز ويثير هذه الأفكار أحيانا ، هو أنّنا قد اعتدنا على العلل والمعلولات الطبيعية ، إلى الحد الذي اعتقدنا أنّها من الضروريات ، وكل ما يخالفها فهو مخالف للضرورة ، في حين أن هذه العلاقة بين العلة والمعلول أمر طبيعي ، وليس له صفة الضرورية ، ولا مانع من أن يظهرها عامل أقوى من الطبيعة بشكل آخر(١) .

__________________

(١) تحدثنا أيضا حول هذا الموضوع ذيل الآية (١٠٧) من سورة الأعراف.

٥٤٣

٢ ـ قابليات الأشياء الخارقة

من المسلّم أن موسى الذي اختار لنفسه عصا الرعي تلك ، لم يكن يصدق أن هذا الموجود البسيط يستطيع القيام بمثل هذا العمل العظيم بأمر الله ، ويحطم قوّة الفراعنة ، إلّا أنّ الله سبحانه قد أراه أن نفس هذه الآلة البسيطة تستطيع أن توجد مثل تلك القوة الخارقة.

إنّ هذا ـ في الواقع ـ درس لكل البشر بأن لا يستصغروا أي شيء ، فإن كثيرا من الموجودات التي ننظر إليها باحتقار تحتوي في باطنها على قدرات عظيمة نحن غافلون عنها وغير مطلعين عليها.

٣ ـ ماذا تقول التوراة حول هذا الموضوع؟

في الآيات أعلاه قرأنا أنّ موسىعليه‌السلام عند ما أخرج يده من جيبه كانت بيضاء مضيئة لا عيب فيها ، ويمكن أن تكون هذه الجملة من أجل نفي التعبير الذي يلاحظ في التوراة المحرفة ، فقد ورد في التوراة : (وقال الله له أيضا : الآن ضع يدك إلى جنبك ، فوضع يد إلى جنبه ، وأخرجها فإذا يده مبروصة كالثلج)(١) .

إن كلمة «المبروص» مأخوذة من البرص ، وهو نوع من الأمراض ، ومن المسلم أن استعمال هذا التعبير هنا خطأ وغير مناسب.

* * *

__________________

(١) التوراة ، سفر الخروج ، الفصل الرابع ، الجملة ٦.

٥٤٤

الآيات

( اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٢٤) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (٣٥) قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (٣٦) )

التّفسير

موسى وطلباته القيمة :

إلى هنا وصل موسى إلى مقام النبوة ، وتلقى معاجز مهمّة تسترعي الانتباه ، إلّا أنّه من الآن فصاعدا صدر له أمر الرسالة رسالة عظيمة وثقيلة جدّا الرسالة التي تبدأ بإبلاغ أعتى وأخطر شخص في ذلك المحيط ، فتقول الآية :( اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى ) .

أجل فمن أجل إصلاح بيئة فاسدة ، وإيجاد ثورة شاملة يجب البدء برؤوس الفساد وأئمّة الكفر أولئك الذين لهم تأثر في جميع أركان المجتمع ، ولهم حضور في كل مكان ، بأنفسهم أو أفكارهم أو أنصارهم أولئك الذين

٥٤٥

تركزت كل الوسائل والمنظمات الإعلامية والاقتصادية والسياسية في قبضتهم ، فإذا ما أصلح هؤلاء ، أو قلعت جذورهم عند عدم التمكن من إصلاحهم ، فيمكن أن يؤمن خلاص ونجاة المجتمع ، وإلّا فإنّ أي إصلاح يحدث فإنّه سطحي ومؤقت وزائل.

والملفت للنظر أن دليل وجوب الابتداء بفرعون ذكر في جملة قصيرة :( إِنَّهُ طَغى ) حيث جمع في كلمة (طغيان) كل شيء الطغيان وتجاوز الحدود في كل أبعاد الحياة ، ولذلك يقال هؤلاء الأفراد : طاغوت.

ومضافا إلى أنّ موسىعليه‌السلام لم يستوحش ولم يخف من هذه المهمّة الثقيلة الصعبة ، ولم يطلب من الله أي تخفيف في هذه المهمة ، فإنّه قد تقبلها بصدر رحب ، غاية ما في الأمر أنّه طلب من الله أسباب النصر في هذه المهمة. ولما كان أهم وأول أسباب النصر الروح الكبيرة ، والفكر الوقاد ، والعقل المقتدر ، وبعبارة أخرى : رحابة الصدر ، فقد( قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ) .

نعم إنّ أوّل رأسمال لقائد ثوري هو رحابة الصدر ، والصبر الطويل ، والصمود والثبات، والشهامة وتحمل المشاكل والمصاعب ، ولذلك فإنّنا نقرأ في حديث عن أمير المؤمنينعليه‌السلام : «آلة الرياسة سعة الصدر»(١) . وقد بحثنا الصدر ومعناه في ذيل الآية (١٢٥) من سورة الأنعام.

ولما كان هذا الطريق مليئا بالمشاكل والمصاعب التي لا يمكن تجاوزها إلّا بلطف الله ، فقد طلب موسى من الله في المرحلة الثّانية أن تيسر له أموره وأعماله ، وأن تذلل هذه العقبات التي تعترضه ، فقال :( وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ) .

ثمّ طلب موسى أن تكون له قدرة على البيان بأعلى المراتب فقال :( وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي ) فصحيح أن امتلاك الصدر الرحب أهم الأمور والأسس ، إلّا أنّ بلورة هذا الأساس تتمّ إذا وجدت القدرة على إراءته وإظهاره بصورة كاملة ،

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الحكمة ١٧٦.

٥٤٦

ولذلك فإنّ موسى بعد طلب انشرح الصدر ، ورفع الموانع والعقبات ، طلب من الله حل العقدة من لسانه.

خاصّة وأنّه بيّن علة هذا الطلب فقال :( يَفْقَهُوا قَوْلِي ) فهذه الجملة في الحقيقة تفسير للآية التي قبلها ، ومنها يتّضح أنّ المراد من حلّ عقدة اللسان لم يكن هو التلكؤ وبعض العسر في النطق الذي أصاب لسان موسىعليه‌السلام نتيجة احتراقه في مرحلة الطفولة ـ كما نقل ذلك بعض المفسّرين عن ابن عباس ـ بل المراد عقد اللسان المانعة من إدراك وفهم السامع ، أي أريد أتكلم بدرجة من الفصاحة والبلاغة والتعبير بحيث يدرك أي سامع مرادي من الكلام جيدا.

والشاهد الآخر على هذا التعبير هي الآية (٣٤) من سورة القصص :( وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً ) . واللطيف في الأمر أن «أفصح» من مادة فصيح ، وهي في الأصل كون الشيء خالصا من الشوائب ، ثمّ أطلقت على الكلام البليغ المعبر الخالي من الحشو والزيادات.

وعلى كل حال ، فإنّ القائد والقدوة والموفق والمنتصر هو الذي يمتلك إضافة إلى سعة الفكر وقدرة الروح ، بيانا أخاذا بليغا خاليا من كل أنواع الإبهام والقصور.

ولما كان إيصال هذا الحمل الثقيل ـ حمل رسالة الله ، وقيادة البشر وهدايتهم ، ومحاربة الطواغيت والجبابرة ـ إلى المحل المقصود يحتاج إلى معين ومساعد ، ولا يمكن أن يقوم به إنسان بمفرده ، فقد كان الطلب الرابع لموسى من الله هو :( وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي ) .

«الوزير» من مادة الوزر ، وهي في الأصل تعني الحمل الثقيل ، ولما كان الوزراء يتحملون كثيرا من الأحمال الثقيلة على عاتقهم ، فقد أطلق عليهم هذا الاسم ، وكذلك تطلق كلمة الوزير على المعاون والمساعد.

أمّا لماذا طلب موسى أن يكون هذا الوزير من أهله؟ فسببه واضح ، لأنّه

٥٤٧

يعرفه جيدا ، ومن جهة أخرى فإنّه أحرص من غيره ، فكم هو جيد وجميل أن يستطيع الإنسان أن يتعاون مع شخص تربطه به علائق روحية وجسمية؟!

ثمّ يشير إلى أخيه ، فيقول :( هارُونَ أَخِي ) وهارون ـ حسب نقل بعض المفسّرين ـ كان الأخ الأكبر لموسى ، وكان يكبره بثلاث سنين ، وكان طويل القامة ، جميلا بليغا ، عالي الإدراك والفهم ، وقد رحل عن الدنيا قبل وفاة موسى بثلاث سنين(١) .

وقد كان نبيّا مرسلا كما يظهر من الآية (٤٥) من سورة المؤمنون :( ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ ) . وكذلك كانت له بصيرة بالأمور وميزانا باطنيا لتمييز الحق من الباطل ، كما ورد في الآية (٤٨) من سورة الأنبياء :( وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً ) . وأخيرا فقد كان نبيّا وهبه الله لموسى من رحمته :( وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا ) (٢) ، فقد كان يسعى جنبا إلى جنب مع أخيه في أداء هذه الرسالة الثقيلة.

صحيح أن موسىعليه‌السلام عند ما طلب ذلك من الله في تلك الليلة المظلمة في الوادي المقدس حيث حمّل الرسالة ، كان قد مضى عليه أكثر من عشر سنين بعيدا عن وطنه ، إلّا أنّ ارتباطه ـ عادة ـ بأخيه لم يقطع بصورة كاملة ، بحيث أنّه يتحدث بهذه الصراحة عنه ، ويطلب من الله أن يشاركه في هذا البرنامج الكبير.

ثمّ يبيّن موسىعليه‌السلام هدفه من تعيين هارون للوزارة والمعونة فيقول :( اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ) و «الأزر» أخذت في الأصل من مادة الإزار ، أي اللباس ، وتطلق خاصّة على اللباس الذي يشد ويعقد وسطه ، ولذلك قد تطلق هذه الكلمة على الظهر أو القوّة والقدرة لهذا السبب

ويطلب ، من أجل تكميل هذا المقصد والمطلب :( وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي )

__________________

(١) مجمع البيان ذيل الآية.

(٢) مريم ، ٥٣.

٥٤٨

فيكون شريكا في مقام الرسالة ، وفي إجراء وتنفيذ هذا البرنامج الكبير ، إلّا أنّه يتبع موسى على كل حال ، فموسى إمامه ومقتداه.

وفي النهاية يبيّن نتيجة هذه المطالب فيقول :( كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً ) وتعلم حاجاتنا جيدا ، ومطّلع على مصاعب هذا الطريق أكثر من الجميع، فنحن نطلب منك أن تعيننا على طاعتك ، وأن توفقنا وتؤيدنا في أداء واجباتنا ومسئولياتنا الملقاة على عاتقنا.

ولما كان موسى لم يهدف من طلباته المخلصة هذه إلّا الخدمة الأكثر والأكمل ، فإنّ الله سبحانه قد لبى طلباته في نفس الوقت( قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى ) .

إنّ موسى في الواقع طلب كل ما كان يلزمه في هذه اللحظات الحساسة الحاسمة التي يجلس فيها لأوّل مرّة على مائدة الضيافة الإلهية ويطأ بساطها ، والله سبحانه كان يحب ضيفه أيضا ، حيث لبّى كل طلباته وأجابه فيها في جملة قصيرة تبعث الحياة ، وبدون قيد وشرط ثمّ وبتكرار اسم موسى أكمل له الاستجابة وحلاوتها وأنزال كل إبهام عن قلبه ، وأي تشويق وافتخار أن يكرر المولى اسم العبد؟

* * *

بحوث

١ ـ شروط قيادة الثورة

لا شك أنّ تبديل البنية في نظام المجتمعات البشرية ، وتغيير القيم المادية والملحدة إلى القيم المعنوية والإنسانية ، وخاصّة إذا كان الطريق يقع في طريق الفراعنة العنودين ، ليس بالعمل الهين ، بل يحتاج إلى استعداد روحي وجسمي ، وقدرة على التفكير ، وقوة في البيان ، واستمرار الإمدادات الإلهية ، ووجود

٥٤٩

الصاحب الذي يطمأن إليه. وهذه هي الأمور التي طلبها موسىعليه‌السلام في بداية الرسالة من ربّه.

إن هذه المطالب تبيّن بنفسها أنّ موسىعليه‌السلام كان يمتلك روح الوعي والاستعداد حتى قبل النّبوة ، وتبيّن أيضا هذه الحقيقة ، وهي أنّه كان واقفا على أبعاد مسئوليته جيدا ، وكان يعلم بأنّه ماذا يجب أن يستعمل في الساحة في تلك الظروف ، وأي سلاح هو الأمضى ، ليمتلك القدرة على مقارعة الاجهزة الفرعونية ، وهذا نموذج وقدوة لكل القادة الربانيين في كل عصر وزمان ، ولكل السائرين في هذا الطريق.

٢ ـ مقارعة الطغاة

لا شك أنّ لفرعون نقاطا وصفات منحرفة كثيرة ، فقد كان كافرا ، عابدا للأصنام ، ظالما ، مستبدا وو إلّا أنّ القرآن طرح من بين كل هذه الانحرافات مسألة الطغيان( إِنَّهُ طَغى ) لأن روح الطغيان والتمرد في مقابل أمر الحق عصارة وخلاصة كل هذه الانحرافات وجامع لها.

ويتّضح بصورة ضمنية أنّ هدف الأنبياء في الدرجة الأولى هو مقارعة الطواغيت والمستكبرين ، وهذا في الواقع عكس التحليل الذي يذكره الماركسيون حول الدين تماما ، حيث زعموا أنّ الدين في خدمة الطغاة والمستعمرين الماضين.

إنّ كلام هؤلاء قد يصح في شأنه المذاهب المصطنعة التخديرية ، إلّا أنّ تاريخ الأنبياء الحقيقيين ينفي بصراحة تامة ظنون هؤلاء الواهية في شأن الأديان والمذاهب ، خاصّة وإن ثورة موسى بن عمران شاهد ناطق في هذا المجال.

٥٥٠

٣ ـ كل عمل يحتاج إلى تخطيط ووسائل

الدرس الآخر الذي نستفيد من حياة موسى وجهاده العظيم ، هو أنّه حتى الأنبياء ، ومع امتلاكهم للمعجزات ، كانوا يستعينون بالوسائل العادية الطبيعية ، من البيان البليغ والمؤثر ، ومن طاقات المؤمنين بهم الفكرية والجسمية ، في سبيل تقدم عملهم وتطوره ، فليس صحيحا أن ننتظر المعاجز في حياتنا دائما ، بل يجب تهيئة البرامج وأدوات العمل ، والاستمرار في التقدم بالطرق والوسائل الطبيعية ، فإذا ما واجهتنا عقدة ومعضلة ، فيجب أن ننتظر اللطف الإلهي هناك.

٤ ـ التسبيح والذكر

لقد جعل موسى الهدف النهائي من طلباته ـ كما في الآيات محل البحث ـ هو:( كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً ) ومعلوم أنّ التسبيح يعني تنزيه الله عن تهمة الشرك والنواقص الإمكانية ، ومعلوم أيضا أنّ مراد موسىعليه‌السلام لم يكن تكرار جملة «سبحان الله» مرارا ، بل كان الهدف إيجاد حقيقة التسبيح في ذلك المجتمع الملوث في ذلك الزمان ، فيقتلعوا الأصنام ، ويهدموا معابد الأوثان ، وتغسل الأدمغة من أفكار الشرك ، وترفع النواقص المادية والمعنوية.

وبعد تنزيه المجتمع عن هذه المفاسد ، عليهم أن يحيوا في القلوب ذكره تعالى وذكر صفاته ، ويجعلون الصفات الإلهية تشع في أرجاء المجتمع ، والتأكيد على كلمة «كثيرا»توحي بأنّه كان يريد أن يجعل هذا الأمر عاما ، وأن يخرجه من الإختصاص بدائرة محدودة.

٥ ـ الرّسول الأعظم يكرر مطالب موسى

يستفاد من الرّوايات الواردة في كتب أهل السنة والشيعة أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد طلب من الله نفس تلك المطالب التي طلبها موسىعليه‌السلام من الله من أجل تقدم عمله ،

٥٥١

مع فارق ، هو أنّه وضع اسم عليعليه‌السلام مكان اسم هارون ، وقال : «اللهم إنّي أسألك بما سألك أخي موسى أن تشرح لي صدري ، وأن تيسر لي أمري ، وأن تحل عقدة من لساني ، يفقهوا قولي ، واجعل لي وزيرا من أهلي ، عليا أخي ، أشدد به أزري ، وأشركه في أمري ، كي نسبحك كثيرا ، ونذكرك كثيرا».

وقد نقل هذا الحديث السيوطي في تفسير «الدر المنثور» ، والعلّامة الطبرسي في «مجمع البيان» ، وكثيرون وغيرهم من كبار علماء الفريقين باختلاف في العبارات.

وهذا الحديث يشبه حديث المنزلة ، حيث قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليعليه‌السلام : «ألا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبي بعدي».

وهذا الحديث قد ورد في كتب العامّة المعتمدة ، وكما قال المحدث البحراني في كتابه «غاية المرام» ؛ إنّ هذا الحديث قد ورد بمائة طريق عن أهل السنة ، وبسبعين طريق من طرق الشيعة» ، فهو معتبر إلى الحدّ الذي لا يدع أي مجال للشك فيه ، أو لإنكاره.

وقد بحثنا حول حديث المنزلة بحثا ضافيا في ذيل الآية (١٤٢) من سورة الأعراف ، والذي نعتبر ذكره ضروريا هنا ، هو أن بعض المفسّرين ـ كالآلوسي في «روح المعاني» ـ مع قبوله أصل الرّواية ، إلّا أنّه أشكل في دلالتها ، وقالوا : إن جملة( أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) لا تثبت غير الاشتراك في أمر إرشاد ودعوة الناس إلى الحق!

إلّا أنّ من الواضح أن مسألة الاشتراك في الإرشاد ، وبتعبير آخر : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ونشر الدين ، واجب على كل فرد من المسلمين ، وهذا لم يكن شيئا يطلبه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليعليه‌السلام إن هذا توضيح للواضحات ، ولا يمكن تفسير دعاء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك مطلقا.

ومن جهة أخرى ، فإنّا نعلم أن الأمر لم يكن الاشتراك في النّبوة ، وبناء على

٥٥٢

هذا نخلص إلى هذه النتيجة ، وهي أن المطلوب مقام خاص غير النّبوة ، وهل يمكن أن يكون إلّا الولاية الخاصّة؟! أليس ذلك هو الخلافة بالمفهوم الخاص الذي تقول به الشيعة؟ وجملة «وزيرا» أيضا تؤيد وتقوي ذلك.

وبتعبير آخر ، فإنّ هناك واجبات لا يقوم بها كل الأفراد ، وهي حفظ دين النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كل أنواع التحريف والانحراف ، وتفسير أي إبهام يبديه البعض في محتوى الدين ، وقيادة الأمّة في غيبة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعده ، والمساعدة المؤثرة جدا في تحقيق أهدافه.

إن هذا هو الشيء الذي طلبه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : «أشركه في أمري» لعليعليه‌السلام من الله سبحانه.

ومن هنا يتّضح أن وفاة هارون قبل موسى لا توجد إشكالا في هذا البحث ، لأنّ الخلافة والنيابة تكون أحيانا في زمان غيبة القائد كما تولاها هارون عند غياب موسى ، وتكون أحيانا بعد وفاته كما كان عليعليه‌السلام بعد وفاة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكلاهما لهما نفس القدر المشترك والجامع الواحد ، وإن كانت المصاديق متفاوتة. (دققوا ذلك).

* * *

٥٥٣

الآيات

( وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (٣٩) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (٤٠) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١) )

التّفسير

الربّ الرحيم :

يشير الله سبحانه في هذه الآيات إلى فصل آخر من فصول حياة موسىعليه‌السلام ، والذي يرتبط بمرحلة الطفولة ونجاته من قبضة الفراعنة. وهذا الفصل وإن كان من ناحية التسلسل التاريخي قبل فصل الرسالة والنّبوة ، إلّا أنّه ذكر كشاهد على شمول عناية اللهعزوجل لموسىعليه‌السلام من بداية عمره ، وهي في الدرجة الثّانية من

٥٥٤

الأهمية بالنسبة إلى الرسالة ، فيقول أوّلا :( وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى ) (١) .

وبعد ذكر هذا الإجمال تتطرق الآيات إلى الشرح والتفصيل ، فتقول :( إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى ) وهو إشارة إلى أنّنا قد علّمنا أمّه كل الطرق التي تنتهي إلى نجاة موسىعليه‌السلام من قبضة الفراعنة ، لأنّه يستفاد من سائر آيات القرآن أن فرعون شدّد ارهابه على بني إسرائيل للتصدّي لقوتهم وعصيانهم المحتمل ، أو أنّه ـ على رأي بعض المفسّرين والمؤرخين ـ كان قد أمر بقتل أبنائهم وإبقاء البنات للخدمة ، لكي يمنع ولادة ولد من بني إسرائيل كان قد أخبره المنجمون أنّه يثور عليه ويزيل ملكه.

من الطبيعي أن جواسيس وعيون فرعون كانوا يراقبون بشدة محلات بني إسرائيل وبيوتهم ، وكانوا لا يدعون ذكرا يولد إلّا وقتلوه.

وذهب بعض المفسّرين إلى أن فرعون كان يريد تحطيم قوّة بني إسرائيل من جهة ، وكان من جهة أخرى غير راغب في انقراض نسلهم تماما ، لأنّه كان يعتبرهم عبيدا يصلحون للخدمة ، ولذلك كان قد أمر بأنّ يتركوا الأولاد سنة ويذبحونهم سنة أخرى ، فكان أن ولد موسى في العام الذي يقتل فيه الأولاد!

على كل حال ، فإنّ هذه الأم أحسّت بأن حياة وليدها في خطر ، وإخفاؤه مؤقتا سوف لا يحل المشكلة في هذه الأثناء ألهمها الله ـ الذي رشّح هذا الطفل لثورة كبيرة ـ أن أودعيه عندنا ، وانظري كيف سنحافظ عليه ، وكيف سنرده إليك؟ فألقى في قلب الأمّ:( أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِ ) .

«اليم» هنا يعني نهر النيل العظيم الذي يطلق عليه أحيانا اسم البحر لسعته وكثرة مياهه.

__________________

(١) كما قلنا سابقا أيضا فإنّ «المنة» في الأصل من المن ، وهو يعني الأحجار الكبيرة التي كانوا يزنون بها ، ولذلك فإن كل نعمة كبيرة ونفيسة يقال عنها : إنّها منة. والمراد في الآية هو هذا المعنى ، وهذا المعنى مفهوم جميل وايجابي للمنّة ، إلّا أنّ الإنسان إذا عظّم عمله الصغير بكلامه ، وذكرّ الطرف الآخر به ، فإنّه مصداق حي للمنة السلبية المذمومة.

٥٥٥

والتعبير بـ( اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ ) ربما كان إشارة إليها أن ارفعي ولدك بكل شجاعة وبدون أي خوف أو ارتياب ، وضعيه في الصندوق ، وألقيه في نهر النيل ، ولا تدعي للخوف سبيلا إلى نفسك.

كلمة «التابوت» تعني الصندوق الخشبي ، ولا يعني دائما الصندوق الذي توضع فيه الأموات كما يظن البعض ، بل إنّه له معنى واسعا ، حيث تطلق أحيانا على الصناديق الأخرى أيضا ، كما قرأنا ذلك في قصة طالوت وجالوت في ذيل الآية (٢٤٨) من سورة البقرة(١) .

ثمّ تضيف :( فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ ) والملفت أن كلمة «عدو» قد تكررت هنا ، وهذا في الحقيقة تأكيد على عداء فرعون لله ، ولموسى وبني إسرائيل ، وأشارت إلى أن الشخص الذي انغمس إلى هذا الحد في العداء هو الذي سيتولى في النهاية تربية موسى ليعلم البشر الضعيف أنّه ليس عاجزا عن التمرد على أمر الله وحسب، بل إنّ الله سيربيه على يد عدوه وفي أحضانه! وعند ما يريد أن يفني المتمردين الظالمين فسيفنيهم ويبيدهم بأيديهم ، ويحرقهم بالنار التي يوقدونها بأنفسهم ، فأي قدرة عجيبة قدرته تعالى؟!

ولما كان موسىعليه‌السلام يجب أن يحفظ في حصن أمين في هذا الطريق المليء بالمخاطر ، فقد ألقى الله قبسا من محبّة عليه ، إلى الحد الذي لم ينظر إليه أحد إلا ويعشقه ، فلا يكف عن قتله وحسب ، بل لا يرضى أن تنقص شعرة من رأسه ، كما يقول القرآن في بقية هذه الآيات :( وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ) فأي درع عجيب هذا الحب! إنّه لا يرى بالعين ، ولكنه أقوى من الحديد والفولاذ!!

يقولون : إنّ قابلة موسى كانت من الفراعنة ، وكانت مصممة على رفع خبر ولادته إلى فرعون ، إلّا أنّه لما وقعت عينها على عين المولود الجديد ، فكأن ومضة برقت من عينه وأضاءت أعماق قلبها ، وطوّقت محبته رقبتها ، وابتعدت

__________________

(١) راجع المجلد الثّاني من التّفسير الأمثل ذيل الآية (٢٤٨) من سورة البقرة.

٥٥٦

عن رأسها كل الأفكار السيئة.

ونقرأ في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام في هذا الباب : «فلمّا وضعت أم موسى موسى نظرت إليه وحزنت عليه واغتمت وبكت وقالت : تذبح الساعة ، فعطف الله الموكلة بها عليه ، فقالت لأم موسى : مالك قد اصفر لونك؟ فقالت : أخاف أن يذبح ولدي ، فقالت : لا تخافي وكان موسى لا يراه أحد إلا أحبه» ، وكان درع المحبة هذا هو الذي حفظه تماما في بلاط فرعون.

وتقول الآية في النهاية :( وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي ) فلا شك في أنّه لا تخفى ذرة عن علم الله في السماء ولا في الأرض ، وكل شيء حاضر بين يديه ، إلّا أنّ هذا التعبير إشارة إلى العناية الخاصّة التي أولاها الله سبحانه لموسى وتربيته.

وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين اعتقد أنّ جملة( وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي ) مقصورة على مرحلة رضاعة موسى وأمثالها ، إلّا أنّ من المعلوم أن لهذه الجملة معنى واسعا ، تدخل فيه كل أنواع التربية والعناية ، وصنع موسىعليه‌السلام من أجل حمل راية الرسالة مع عناية الله الخاصّة.

ويستفاد بوضوح من القرائن الموجودة في هذه الآيات ، والآيات المشابهة لها في القرآن، وممّا جاء في الرّوايات والتواريخ ، أنّ أمّ موسىعليه‌السلام قد ألقت الصندوق الذي كان فيه موسى وهي في حالة من الخوف والقلق ، وحملته أمواج النيل ، وأخذ قلب أم موسى يخفق من مشاهدة هذا المنظر ، إلّا أنّ الله قد ألهم قلبها أن لا يدع للهم والحزن إليه طريقا ، فهو سبحانه سيعيده إليها في النهاية سالما.

وكان قصر فرعون قد بني على جانب شط النيل ، ويحتمل أن فرعا من هذا النهر العظيم كان يمر داخل قصره ، فحملت أمواج المياه الصندوق إلى ذلك الفرع الصغير ، وبينما كان فرعون وزوجته على حافة الماء ينظرون إلى الأمواج ، وإذا بهذا الصندوق الغريب يلفت انتباههما ، فأمر جنوده أن يخرجوا الصندوق من

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٣٧٨.

٥٥٧

الماء ، فلمّا فتحوا الصندوق شاهدوا بكامل العجب مولودا جميلا فيه ، وهو شيء لم يكن بالحسبان.

وهنا تنبه فرعون إلى أن هذا الوليد ينبغي أن يكون من بني إسرائيل ، وإنما لاقى هذا المصير خوفا من جلاوزته ، فأمر بقتله ، إلّا أنّ زوجته ـ التي كانت عقيما ـ تعلقت جدّا بالطفل ، فقد نفذ النور الذي كان ينبعث من عيني الطفل إلى زوايا قلبها ، وجذبها إليه ، فضربت على يد فرعون وطلبت منه أن يصرف النظر عن قتله ، وعبرت عن هذا الطفل بأنّه( قُرَّتُ عَيْنٍ ) ، بل وتمادت في طلبها ، فطلبت منه أن يتخذاه ولدا ليكون مبعث أمل لهما ، ويكبر في أحضانهما ، وأصرّت على طلبها حتى أصابت سهامها ، وحققت ما تصبو إليه.

غير أن الطفل جاع ، وأراد لبنا ، فأخذ يبكي ويذرف الدموع ، فرق قلب امرأة فرعون لهذه الدموع والبكاء واهتز ، ولا محيص من أن يبحث الخدم عن مرضعة له ، إلّا أنّهم كلما جاؤوه بمرضعة لم يقبل ثديها ، لأن الله سبحانه كان قد قدر أن يعيده إلى أمّه ، فهب المأمورون للبحث من جديد ، وكانوا يطرقون الأبواب بحثا عن مرضع جديدة.

والآن نقرأ بقية القصة على ضوء الآيات الشريفة :

نعم يا موسى ، فإنّا كنّا قدرنا أن تتربى بأعيننا وعلمنا( إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ ) بأمر أمك لتراقب مصيرك ، فرأت جنود فرعون :( فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ ) وربّما أضافت بأن هذه المرأة لها لبن نظيف ، وأنا مطمئنة بأن هذا الرضيع سيقبلها.

فاستبشر الجنود على أمل أن يجدوا ضالتهم عن هذا الطريق ، فذهبوا معها ، فأطلعت أخت موسى ـ والتي كانت تظهر نفسها بمظهر الشخص الغريب والمجهول ـ أمّها على الأمر ، فجاءت أمّه إلى بلاط فرعون ، من دون أن تفقد سيطرتها على أعصابها ، بالرغم من أن أمواجا من الحب والأمل كانت قد أحاطت بكل قلبها ، واحتضنت الطفل ، فلمّا شم الطفل رائحة أمّه ، وكانت رائحة

٥٥٨

مألوفة لديه ، التقم ثديها كأنّه تضمن لذة الروح وحلاوتها ، واشتغل الطفل بشرب اللبن بلهفة وعشق شديدين ، فانطلقت صرخات الفرح من الحاضرين ، وبدت آثار الفرح والسرور على زوجة فرعون.

يقول البعض : إنّ فرعون تعجب من هذه الحادثة ، وقال : من أنت إذ قبل هذا الطفل لبنك في حين أنّه ردّ جميع الأخريات؟ فقالت الأم : إنّي امرأة طيبة الريح واللبن ، ولا يرفض لبني أي طفل!

عل كل حال فقد أمرها فرعون بالاهتمام بالطفل ، وأكدت زوجته كثيرا على حفظه وحراسته ، وأمرت أن يعرض عليها الطفل بين فترة وأخرى.

هنا تحقق ما قاله القرآن :( فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ ) ولتستطيع تربيته بدون خوف من جلاوزة فرعون. ويستفاد من هذه العبارة أن فرعون أودع الطفل أمه لتذهب به إلى بيتها ، إلّا أنّ من الطبيعي أن ابن عائلة فرعون! الذي تعلقت به امرأته وأحبته حبا شديدا ، يجب أن يعرض عليها بين فترة وأخرى.

ومرّت السنون والأعوام ، وتربى موسىعليه‌السلام وسط هالة من لطف الله ومحبته ، وفي محيط آمن ، وشيئا فشيئا أصبح شابا. وكان ذات يوم يمر من طريق فرأى رجلين يتشاجران ، أحدهما من بني إسرائيل والآخر من الأقباط ـ (وهم المصريون قوم فرعون) ـ ولما كان بنو إسرائيل يعيشون دائما تحت ضغط الأقباط الظالمين وأذاهم ، هبّ موسى لمعونة المظلوم الذي كان من بني إسرائيل ، ومن أجل الدفاع عنه وجه ضربة قاتلة إلى ذلك القبطي ، فقضت عليه.

فتأثر موسى مما حدث وقلق ، لأن حراس فرعون علموا في النهاية من الذي قام بعملية القتل هذه ، فنشطوا للبحث عنه ومطاردته. إلّا أنّ موسى ، وحسب إشارة بعض أصدقائه عليه ، خرج متخفيا من مصر ، وتوجه إلى مدين ، فوجد محيطا وجوا آمنا في ظل النّبي «شعيب» ، والذي سيأتي شرح حاله في تفسير

٥٥٩

سورة القصص إن شاء الله تعالى

هنا حيث يقول القرآن الكريم :( وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً ) فبعد حادثة القتل اختبرناك كثيرا والقينا بك في اتون الحوادث والشدائد( فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ) وبعد اجتياز هذا الطريق الطويل ، والاستعداد الروحي والجسمي ، والخروج من دوامة الأحداث بشموخ وانتصار فقد( جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى ) . أي حيث لاستلام مهمّة الرسالة في زمان مقدّر إلى هذا المكان.

إن كلمة «قدر» ـ برأي كثير من المفسّرين ـ تعني الزمان الذي قدر فيه أن ينتخب موسى للرسالة. إلّا أنّ البعض اعتبرها بمعنى المقدار ، كما جاء هذا المعنى في بعض الآيات القرآنية ، الآية (٢١) من سورة الحجر ، وطبقا لهذا التّفسير سيكون معنى الآية : يا موسى إنّك قد نشأت وأصبحت ـ بعد تحمل هذه المصاعب والامتحانات وعشت سنين في بيت نبي كبير كشعيب ـ ذا قدر ومقام وشخصية ، وحصلت على استعداد لتلقي الوحي.

ثمّ يضيف :( وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ) فمن أجل مهمّة تلقي الوحي الصعبة ، ومن أجل قبول الرسالة ، ومن أجل هداية العباد وإرشادهم ربّيتك واختبرتك في الحوادث الصعبة ومشاقّها ، ومنحتك القوة والقدرة ، والآن حيث ألقيت هذه المهمّة الكبرى على عاتقك ، فإنّك مؤهل من جميع الجوانب.

«اصطناع» من مادة «صنع» بمعنى الإصرار والاقدام الأكيد على إصلاح شيء (كما يراه الراغب في مفرداته). ويعني إنّني قد اصلحتك من كل الجهات وكأنني أريدك لي وهذا الكلام هو أكثر ما يمكن أن يقال في تصوير محبّة الله لهذا النّبي العظيم ، وذهب البعض أنّه يشبه ما قاله الحكماء من : إنّ الله إذا أحبّ عبدا تفقده كما يتفقد الصديق صديقه.

نهاية مجلد التّاسع

* * *

٥٦٠

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576