الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 576

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 576 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 264332 / تحميل: 11787
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

بأنّنا سنذهب إلى مكّة هذا العام ، بل في المستقبل القريب. (وهذا ما حصل بالفعل).

الاعتراض الذي يمكن أن يرد على هذا التّفسير ، هو أنّ سورة بني إسرائيل من السور المكّية ، بينما حادثة الحديبية وقعت في العام السّادس للهجرة المباركة!!

ج : مجموعة من المفسّرين الشيعة والسنة ، نقلوا أنّ هذه الرؤيا إشارة للحادثة المعروفة والتي رأى فيها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المنام أن عددا من القرود تصعد منبره وتنزل منه (تنزو على منبرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) ، وقد حزنصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كثيرا لهذا الأمر بحيث لم ير ضاحكا من بعدها إلّا قليلا (وقد تمّ تفسير هذه القرود التي تنزو على منبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببني أمية الذين جلسوا مكان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الواحد تلو الآخر ، يقلّد بعضهم بعضا ، وكانوا ممسوخي الشخصية ، وقد جلبوا الفساد للحكومة الإسلامية ، وخلافة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ).

ونقل هذه الرّواية (الفخر الرازي) في التّفسير الكبير ، و (القرطبي) في تفسيره الجامع و (الطبرسي) في مجمع البيان ، وغيرهم.

ويقول الفيض الكاشاني في تفسير الصافي ، بأنّ هذه الرّواية من الرّوايات المعروفة في أوساط العامّة والخاصّة.

ثمة إشارة نلاحظ فيها ، إنّ التفاسير الثلاثة هذه في «الرؤيا» من الممكن أن تشترك جميعا في تفسير الآية ، ولكن التّفسير الثّاني كما أشرنا ـ لا ينطبق مع مكّية السورة. وبالنسبة للمقصود من الشجرة الملعونة فقد واجهتنا أيضا مجموعة من التفاسير التي يمكن أن نجمل القول بها في الآراء الآتية :

أ: الشجرة الملعونة التي ورد ذكرها في القرآن هي (شجرة الزقوم) وهي الشّجرة التي تنمو في الجحيم طبقا للآية (٦٤) من سورة الصافات في قوله تعالى( إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ ) ولهذه الشجرة طعم مج ومؤذ ، وثمارها طعام

٤١

للمذنبين طبقا للآيات ٤٣ ـ ٤٦ من سورة الدخان( إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ ، طَعامُ الْأَثِيمِ ، كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ ، كَغَلْيِ الْحَمِيمِ ) وطعامها ليس كطعام الدنيا بل يشبه المعدن المذاب بالحرارة والذي يغلي في الأحشاء. وسيرد تفسيرها بشكل كامل في تفسير الآيات من سورة الدخان إن شاء الله.

إنّ شجرة الزقوم ـ بدون شك ـ لا تشبه أشجار الدنيا أبدا ، ولهذا السبب فإنّها تنمو في النار ، وطبيعي أنّنا لا ندرك هذه الأمور المتعلقة بالعالم الآخر إلّا على شكل أشباح وتصورات ذهنية.

لقد استهزأ المشركون بهذه التعابير والأوصاف القرآنية بسبب من جهلهم وعدم معرفتهم وعنادهم ، فأبو جهل ـ مثلا ـ كان يقول : إنّ محمّدا يهددكم بنار تحرق الأحجار، ثمّ يقول بعد ذلك بأنّ في النار أشجارا تنمو!

وينقل عن أبي جهل ـ أيضا ـ أنّه كان يهيئ التمر والسمن ويأكل منه ثمّ يقول لأصحابه : كلوا من هذا فإنّه الزقوم. (نقلا عن روح المعاني في تفسير الآية).

لهذا السبب فإنّ القرآن يعتبر الشجرة الملعونة في الآيات التي نبحثها ، وسيلة لاختبار الناس ، إذ كان المشركون يستهزئون بها ، بينما استيقنها المؤمنون الحقيقيون الذين كانوا يؤمنون بها.

ويمكن أن يطرح على هذا التّفسير السؤال الآتي : إنّ شجرة الزقوم لم تطرح في القرآن بعنوان الشجرة المعلونة؟

في الإجابة على ذلك نقول : يمكن أن يكون المقصود هو اللعن آكليها. بالإضافة إلى ذلك إنّه ما من شيء بعد رحمة الله سوى اللعن ، وطبيعي جدا أنّ مثل هذه الشجرة بعيدة جدّا عن رحمة الله.

ب : الشجرة الملعونة ، هم اليهود البغاة ، إذ أنّهم يشبهون الشجرة ذات الفروع والأوراق الكثيرة ، ولكنّهم مطرودون من مقام الرحمة الإلهية.

ج : جاء في الكثير من تفاسير الشيعة والسنة أنّ الشجرة الملعونة هم بنو

٤٢

أمية.

ينقل الفخر الرازي في تفسيره رواية في هذا المجال عن ابن عباس الذي أدرك الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واشتهر في التاريخ الإسلامي بكونه مفسرا للقرآن الكريم.

هذا التّفسير يتلاءم من جهة مع الرّواية التي ذكرناها أعلاه بخصوص رؤيا الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو أيضا يتلاءم مع الحديث المنقول عن عائشة والتي التفتت فيه إلى مروان وقالت له : «لعن الله أباك وأنت في صلبه ، فأنت بعض من لعنه الله»(١) .

ولكن مرّة أخرى يطرح هذا السؤال : في أي مكان من القرآن تمّ لعن بني أمية باعتبارهم الشجرة الخبيثة؟

في الجواب نقول : لقد تمّ ذلك في الآية (٢٦) من سورة إبراهيم عند الحديث عن الشجرة الخبيثة( وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ ) . وذلك للمفهوم الواسع للشجرة الخبيثة ، ولما ورد من روايات في تفسيرها بأنّ المقصود منها هم بنو أميّة ، ثمّ إنّ (الخبيثة) تقترن من حيث المعنى ب (الملعونة)(٢) .

وجدير بالذكر هنا ، أنّ الكثير من هذه التّفاسير أو كلّها لا تتعارض فيما بينها ، ومن الممكن أن تكون (الشجرة الملعونة) في القرآن إشارة إلى أي مجموعة منافقة وخبيثة ومطرودة من رحمة الله تعالى ومقام الربوبية ، خصوصا تلك المجاميع مثل بني أمية واليهود قساة القلب ، والمعاندين وكل الذين يسيرون على خطاهم. وشجرة الزقوم في القيامة تمثل الأشجار الخبيثة في العالم الآخر ، وكل هذه الأشجار الخبيثة (المجاميع المعنية) هي لاختبار وتمحيص المؤمنين الصادقين في الحياة الدنيا.

إنّ اليهود الذين سيطروا اليوم ـ زورا وغصبا ـ على المقدسات الإسلامية

__________________

(١) تفسير القرطبي ، المجلد السّادس ، ص ٣٩٠٢ ؛ وتفسير الفخر الرازي ، المجلد ٢٠ ، ص ٢٣٧.

(٢) يراجع تفسير نور الثقلين ، المجلد الثاني ، ص ٥٣٨.

٤٣

والذين يشعلون نار الفتنة والحرب في كل زاوية من زوايا العالم ، ويفتعلون العديد من الجرائم والمظالم بحق الشعوب ، إضافة إلى المنافقين الذين يتعاملون معهم تعاملا سياسيا وغير سياسي، وكذلك كل المتسلطين الذين يسيرون على خطى بني أمية في البلاد الإسلامية ، ويقفون ضدّ الإسلام ، ويبعدون المخلصين والمؤمنين من حركه المجتمع ، ويقومون بتسليط المجرمين والخبثاء على رقاب الناس ، ويقتلون أهل الحق والمجاهدين ، ويفتحون المجال لبقايا الجاهلية في استلام الأمور والتحكّم بالمقدرات إنّ هؤلاء جميعا هم فروع وأغصان وأوراق هذه الشجرة الخبيثة المعلونة ، وهم علامات اختبار ومواقع امتحان للمؤمنين ولعامّة الناس في هذه الحياة الدنيا.

٢ ـ أعذار منكري الإعجاز

إنّ بعض الجهلة والغافلين في عصرنا الحاضر ، يقولون : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم تكن لديه من معجزة سوى القرآن الكريم ، ويقدمون مختلف الحجج من أجل إثبات أقوالهم ودعاواهم ، وممّا يحتجون به قوله تعالى :( وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ ) حيث يعتبرونها دليلا على أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يأت بمعجزة ، بخلاف باقي الأنبياء السابقين.

ولكن العجيب في أمر هؤلاء أنّهم التزموا بأوّل الآية وتركوا آخرها ، حيث تقول نهاية الآية( وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً ) هذا التعبير القرآني يوضح أنّ المعجزات تقع على نوعين :

القسم الأوّل : المعجزات التي لها ضرورة لإثبات صدق دعوة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتشوق المؤمنين ، وتخوّف المنكرين للنّبوة.

القسم الثّاني : المعجزات التي لها جانب اقتراحي ، أي إنّها تصدر من اقتراحات المعاندين وتنطلق من أمزجة ذوي الأعذار ، وفي تأريخ الأنبياء

٤٤

نماذج عديدة لهذه المعجزات ، التي وقع بعضها فعلا ، إلّا أنّ المنكرين والذين سبق لهم اقتراح هذه المعجزات كشرط لإيمانهم ، بقوا على إنكارهم ولم يؤمنوا بعد وقوع المعجزة ، لذلك أصيبوا بالبلاء والعذاب الإلهي. (لأنّه وقعت المعجزة المقترحة ولم يؤمن بها من اقترحها وطلبها فإنّه سيستحق العقاب الإلهي السريع).

بناء على ذلك ، فما نشاهده في الآية أعلاه والتي تخص الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما هي نفي للنوع الثّاني من المعجزات ، وليس للنوع الأوّل ، الذي يعتبر ملازما للنّبوة وضروريا لها.

صحيح أنّ القرآن يعتبر لوحده معجزة خالدة ، ويمكنه لوحده اثبات دعوى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (إذا لم تكن معه معجزة أخرى) ، ولكن ـ بدون شك ـ فإنّ القرآن يعتبر معجزة معنوية ، وهو أفضل شاهد بالنسبة لأهل الفكر ، ولكن لا يمكن إنكار أهمية أن تكون مع هذه المعجزة ، معجزات مادية محسوسة بالنسبة للأفراد العاديين وعموم الناس ، خاصّة وأن القرآن يتحدث مرارا عن مثل هذه المعجزات التي وقعت للأنبياء السابقين ، وهذا الحديث يعتبر ـ بحدّ ذاته ـ سببا في أن يطالب الناس رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتقديم المعجزات التي تقع على منوال معجزات الأنبياء السابقين ، خصوصا وأنّ الناس كانوا يقولون لرسول الإسلام : كيف تدعي بأنّك أفضل الأنبياء وخاتمهم ولا تستطيع أن تقدّم لنا أصغر معجزة من معجزاتهم. (!!!)؟

إنّ أفضل جواب لهذا التساؤل هو مجيء رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنماذج من معجزات الأنبياء السابقين ، والتواريخ الإسلامية المتواترة تؤكّد بأنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد جاء بمثل هذه المعجزات.

ففي القرآن تواجهنا نماذج لهذه المعجزات ، مثل التنبؤ بحوادث مختلفة ، أو نصرة الملائكة لجيش الإسلام على الأعداء ، وأمور خارقة أخرى لا سيما ما كان يقع في الحروب الإسلامية.

٤٥

٣ ـ ما العلاقة بين المنكرين سابقا والمنكرين لا حقا؟

قد يطرح أحيانا هذا السؤال حيث يبيّن القرآن ـ في الآيات أعلاه ـ أنّ السابقين اقترحوا معجزات معيّنة ثمّ لم يؤمنوا بعد وقوعها ، بل استمروا في تكذيبهم وإنكارهم وعنادهم، لذا فقد أصبح هذا سببا لعدم إجابة مقترحاتكم.

والسؤال هنا : هل أنّ تكذيب السابقين يكون سببا لحرمان الأجيال اللاحقة ، أي كيف يؤخذ هؤلاء بجريرة أولئك؟

الجواب على هذا السؤال واضح من خلال ما ذكرناه أعلاه ، حيث يسود هذا التعبير ويروج في أوساطنا ، إذ نقول ـ مثلا ـ لأحدهم : لا نستطيع أن نسلّم بحججك ، فإذا سأل الطرف الآخر : لماذا؟ فإنّنا نقول له : إنّ هناك سوابق كثيرة لهذا العمل ، فهناك من قدّم اقتراحات إلّا أنّهم لم يستسلموا للحق لما جاءهم ، لذا فإنّ وضعكم وظروفكم تشابه أولئك. إضافة لذلك ، فإنّكم توافقون أولئك الأقوام على أساليبهم ، بل وتدعمونها ، وأثبتم عمليا أنّكم لا ترغبون في البحث عن الحق والحقيقة ، بل إنّ هدفكم هو مجرّد العناد والتحجج والبقاء في طور المعاذير ، ثمّ تتبعون ذلك كلّه بالعناد والمكابرة والإنكار ، لذا فإنّ الرضوخ إلى مقترحاتكم وإجابتها لا معنى له.

فهؤلاء القوم ـ مثلا ـ عند ما أخبرهم الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ أهل النّار يأكلون من شجرة تسمّى (زقوم) وتخرج في أصل الجحيم ولها أوصاف معينة ، بدأوا بالسخرية والاستهزاء ـ كما ذكرنا سابقا ـ فالبعض منهم كان يقول : إنّ الزقوم هو التمر والسمن ، وبعض كان يقول : كيف تنمو الأشجار في الجحيم المستعر من الحجارة؟ في حين أن المعنى واضح ولا يحتاج إلى مثل هذه المكابرة والعناد ، إذ أنّ الشجرة المقصودة لا تشبه أشجار هذه الدنيا.

* * *

٤٦

الآيات

( وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (٦١) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (٦٢) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (٦٣) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (٦٤) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (٦٥) )

التّفسير

مكر إبليس :

هذه الآيات تشير إلى قضية امتناع إبليس عن إطاعة أمر الله في السجود لآدمعليه‌السلام ،والعاقبة السيئة التي انتهى إليها.

إنّ طرح هذه القضية بعد ما ذكر عن المشركين المعاندين هو إشارة ـ في

٤٧

الواقع ـ إلى أنّ الشيطان يعتبر نموذجا كاملا للاستكبار والكفر والعصيان. ثمّ انظروا إلى أين وصلت عاقبته ، لذا فإنّ من يتبعه سيصير إلى نفس العاقبة.

إضافة إلى ذلك ، فإنّ إصرار الضالين عميان القلوب على مخالفة الحق ، لا يعتبر مدعاة للعجب والدهشة ، لأنّ الشيطان استطاع ـ وفقا لما يستفاد من هذه الآيات ـ أن يغويهم بواسطة عدّة طرق ، وفي الواقع حقق فيهم قولته( لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) .

الآية تقول :( وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ ) . لقد قلنا سابقا في نهاية الآيات الخاصّة بخلق آدمعليه‌السلام : إنّ هذه السجدة التي أمر الله تعالى بها هي في الحقيقة نوع من الخضوع والتواضع بسبب عظمة خلق آدمعليه‌السلام وتميزه عن سائر الموجودات ، أو هي سجود للخالق جلّ وعلا في قبال خلقه لهذا المخلوق المتميز.

وقلنا هناك أيضا : إنّ إبليس وبرغم ذكره هنا ـ استثناء ـ مع الملائكة ، إلّا أنّه ـ بشهادة القرآن ـ لم يكن من الملائكة ، بل كان مخلوقا ماديا ومن الجن ، وقد أصبح في صف الملائكة بسبب عبادته لله.

على كل حال ، فقد سيطر الكبر والغرور على إبليس وتحكّمت الأنانية في عقله ، ظنا منه بأنّ التراب والطين اللذان يعتبران مصدرا لكل الخيرات ومنبعا للحياة أقل شأنا وأهمية عن النّار ، لذا اعترض على الخالق جلّ وعلا وقال :( قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً ) .

ولكنّه عند ما طرد ـ إلى الأبد ـ من حضرة الساحة الإلهية بسبب استكباره وطغيانه في مقابل أمر الله له ، قال :( قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً ) .(١)

__________________

(١) ذهب المفسّرين إلى إنّ حرف الكاف في كلمة (أرأيتك) زائد ، أو هو حرف للخطاب وقد جاء للتأكيد ، وجملة

٤٨

«أحتنكن» مشتقّة من «احتناك» وهي تعني قطع جذور شيء ما ، لذا فعند ما يأكل الجراد المزروعات تقول العرب : احتنك الجراد الزرع ، لذا فإنّ هذا القول يشير إلى أن إبليس سيحرف كل بني آدم عن طريق الله وطاعته ، إلّا القليل منهم.

ويحتمل أن تكون كلمة (احتنكن) مشتقة من (حنك) وهي المنطقة التي تحت البلعوم ، فعند ما يوضع الحبل في رقبة الحيوان تقول العرب (احتنك الدابة) ، وفي الواقع ، فإنّ الشيطان يريد أن يقول بأنّه سيضع حبل الوسوسة في أعناق الناس ويجرهم إلى طريق الغواية والضلال.

وهكذا كان ، فقد أعطي الشيطان إمكانية البقاء والفعالية حتى يتحقق الاختبار للجميع ، ويكون وجوده سببا لتمحيص واختبار المؤمنين الحقيقيين لأنّ الإنسان يشتدّ عزمه عند ما تهاجمه الحوادث ويقوى عوده في مواجهة الأعداء ، لذلك قالت الآية :( قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً ) . وبهذه الوسيلة للاختبار ينكشف الفاشل من الناجح في الامتحان الإلهي الكبير.

ثمّ ذكرت الآيات بعد ذلك ـ بأسلوب جميل ـ الطرق التي ينفذ منها الشيطان والأساليب التي يستخدمها في الوسوسة والإغواء فقالت :

( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ .)

( وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ .)

( وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ .)

( وَعِدْهُمْ .)

ثمّ يجيء التحذير الإلهي :( وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً .)

__________________

(أرأيتك) بمعنى (أخبرني) جوابها محذوف وتقديرها (أخبرني عن هذا الذي كرمته عليّ ، لم كرمته عليّ وقد خلقتني من نار؟). ولكن هناك احتمال آخر ، وهو أنّ (أرأيت) هي في نفس معناها الأصلي ولا يوجد محذوف في الجملة ، وبشكل عام تعطي هذا المعنى : هل لاحظت هذا الموجود الذي فضلته عليّ ، فإذا أبقيتني على قيد الحياة سترى بأنّي سأضل أكثر أبنائه. (احتمال الثّاني أوفق في تركيب الآية ومعناها).

٤٩

ثمّ اعلم أيّها الشيطان :( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً ) .

* * *

بحوث

١ ـ في معاني الكلمات

«استفزز» مشتقة من «استفزاز» وهي تعني الإثارة ؛ الإثارة السريعة والعادية ، ولكنّ الكلمة في الأصل تعني قطع شيء ما ، فالعرب تقول «تفزّز الثوب» إذا تقطّع أو انفصلت منه قطعة.

واستعمال هذه الكلمة هنا للدلالة على تحريك الشخص وإثارته لينقطع عن الحق يتوجه نحو الباطل.

«اجلب» مأخوذ من «إجلاب» وفي الأصل من «جلبة» وهي تعني الصرخة الشديدة ، والإجلاب تعني الطرد مع الأصوات والصرخات. وأمّا النهي عن «الجلب» الوارد في الرّوايات فهو إمّا أن يعني أنّ الذي يذهب إلى المزارع لجمع الزكاة يجب عليه أن لا يصيح ويصرخ بحيث يخيف الأحياء ، أو أنّه يعني أنّ على المتسابقين عند سباق الخيل أن لا يصرخوا في وجوه الخيل الأخرى لتكون لهم الأسبقية.

«خيل» لها معنيان ، فهي تعني «الخيول» وأيضا تعني (الخيالة) ، أمّا في هذه الآية فقد وردت للتدليل على المعنى الثّاني.

أمّا «رجل» فهي تعني معكوس (الخيالة) أي (جيش الرجّالة والمشاة) وبهذا يتكون جيش الشيطان من (الخيالة والرجّالة) من جنسه أو من غير جنسه ، وهذا يعني أنّ البعض يتأثر بسرعة بغواية الشيطان ويصبح من أعوانه ومساعديه

٥٠

فهؤلاء كالخيّالة. أمّا البعض الآخر فيتأثر ببطء وعلى مهل كالمشاة والرجّالة(١) !

٢ ـ وسائل الشيطان المختلفة في الوسوسة والإغواء

بالرغم من أنّ المخاطب في الآيات أعلاه هو الشيطان ، وأنّ الله جلّ جلاله يتوعده ويقول له : افعل كل ما تريده في سبيل غواية الناس ، واستخدم كل طرقك في ذلك ، إلّا أنّ هذا الوعيد ـ في الواقع ـ هو تهديد وتنبيه لنا نحن بني الإنسان حتى نعرف الطرق التي ينفذ منها الشيطان والوسائل التي يستخدمها في وساوسه وإغوائه.

الطريف في الأمر أنّ الآيات القرآنية أعلاه تشير إلى أربعة طرق وأساليب مهمّة وأساسية من أساليب الشيطان ، وتقول للإنسان : عليك بمراقبة نفسك من خلال الجوانب الأربعة هذه :

أ: البرامج التبليغية التي تجد دلالتها في التعبير القرآني( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ) حيث اعتبر بعض المفسّرين أنّها تعني ـ فقط ـ أنغام الموسيقي الشهوانية المثيرة ، والأغاني المبتذلة ، ولكن هذا المعنى يتسع حتى يشمل جميع البرامج الدعائية التي تقود للانحراف والتي تستخدم ـ عادة ـ الأجهزة الصوتية والسمعية.

لهذا فإنّ أوّل برامج الشيطان هو الاستفادة من هذه الأجهزة. هذه القضية تتوضح في زماننا هذا أكثر ، لأنّ عالمنا اليوم هو عالم الأمواج الراديوية ، وعالم الدعاية والتبليغ الواسع ، سواء كان على الصعيد السمعي أو البصري. حيث أنّ الشياطين وأحزابهم في الشرق والغرب يعتمدون على هذه الأجهزة ويخصصون قسما كبيرا من ميزانيتهم للصرف في هذا الطريق حتى يستعمروا عبيد الله ، ويحرفوهم عن طريق الحق والاستقلال ، ويزيغوا بهم عن طريق الهداية والإيمان

__________________

(١) في معاني المفردات تراجع مفردات الراغب ، ومجمع البيان.

٥١

والتقوى ، ويجعلون منهم عبيدا تابعين لا حول لهم ولا قوة.

ب : الاستفادة من القوة العسكرية : وهذا لا يخص زماننا حيث أنّ الشياطين يستخدمون القوّة العسكرية لأجل الحصول على مناطق للنفوذ. إنّ الأداة العسكرية تعتبر أداة خطرة لكل الظالمين والمستكبرين في العالم. فهؤلاء وفي لحظة واحدة يصرخون في قواتهم العسكرية ويرسلونها إلى المناطق التي تحاول الحصول على حريتها واستقلالها وتسعى إلى الاعتماد بقوات على قدراتها الخاصّة.

وفي عصرنا الحاضر نرى أنّهم نظّموا ما يسمونه بقوات (التدخل السريع) والذي هو نفس مفهوم (الإجلاب) القرآني ، وهذا يعني أنّهم جعلوا جزءا من قواتهم العسكرية على شكل قوات خاصّة كي يستطيعوا إرسالها في أسرع وقت إلى أي منطقة من مناطق العالم تتعرض فيها مصالحهم غير المشروعة للخطر ، لكي يقضوا بواسطة هذه القوات على أي حركة تطالب بالحق وتنادي بالاستقلال.

وقبل أن تصل القوات السريعة الخاصّة هذه ، يكون هؤلاء قد هيأوا الأرضية بواسطة جواسيسهم الماهرين ، والذين هم في الواقع كناية عن جيش المشاة (الرجّالة).

إنّ هؤلاء في مخططاتهم هذه قد غفلوا عن أنّ الله سبحانه وتعالى قد وعد أولياءه الحقيقيين ـ في نفس هذه الآيات ـ بأنّ الشيطان وجيشه لا يستطيع أن يسيطر عليهم.

ج : البرامج الاقتصادية ذات الظاهر الإنساني : من أساليب الشيطان الأخرى المؤثرة في النفوذ والغواية ، هي المشاركة في الأموال والأنفس ، وهنا نرى أيضا : أنّ بعض المفسّرين يخصص هذه المشاركة ب (الربا). أمّا المشاركة في الأولاد فيحصر معناها بـ «الأولاد غير الشرعين»(١) .

__________________

(١) وردت روايات متعدّدة في أنّ مشاركة الشيطان في الأولاد تعني الأبناء غير الشرعيين ، أو المنعقدة نطفتهم من مال حرام ، أو انعقاد النطفة في لحظة غفلة الوالدين عن الخالق ، ولكن ـ كما قلنا مرّات ـ إنّ هذه التفاسير تبيّن جانبا من المصداق الواضح وهي ليست دليلا على حصر المعنى. (راجع تفسير نور الثقلين ، المجلد الثّالث ، صفحة ١٨٤).

٥٢

في حين أنّ هاتين الكلمتين لهما معاني أوسع ، إذ تشمل جميع الأموال المستحصلة عن طريق الحرام ، والأبناء غير الشرعيين وغيرهم. فمثلا في زماننا الحاضر نشاهد أنّ الشياطين المستكبرين يقترحون دائما استثمار وتأسيس الشركات ، وإيجاد مختلف المصانع والمصالح الاقتصادية في الدول الضعيفة ، وتحت غطاء هذه الشركات تتم مختلف أشكال النشاطات الخطرة والضارّة بالبلد المستضعف ، حيث يرسل الشياطين جواسيسهم تحت عنوان خبراء فنيين أو مستشارين اقتصاديين أو مهندسين تقنيين ، ويقوم هؤلاء جميعا بامتصاص خيرات البلد الذين هم فيه بأبرع الحيل وأظرفها ، ويقفون حائلا بين البلد وبين تحقيقه لاستقلاله الاقتصادي على بنية اقتصادية تحتية حقيقية.

وعن طريق تأسيس المدارس والجامعات والمكتبات والمستشفيات والمراكز السياحية ، فإنّهم يشاركون هذه الدول الضعيفة في أبنائها حيث يحاولون أن يستميلوا هؤلاء نحوهم ، وأحيانا عن طريق توفير (المنح الدراسية) لشباب ، فإنّهم يقومون (بجلبهم) نحو ثقافتهم ويشاركونهم في أفكارهم ، وما يترتب على ذلك من فساد العقيدة.

ومن الأساليب الرائجة والمخربة لهؤلاء الشياطين إيجاد مراكز الفساد تحت غطاء الفنادق العالمية وإيجاد المناطق الترفيهية ودور السينما والافلام المبتذلة وأمثال ذلك ، حيث لا تكون هذه الوسائل أدوات لترويج الفحشاء وزيادة أولاد الزنا فحسب ، بل تؤدي إلى انحراف جيل الشباب وتميّعهم وتغرّبهم ، وتصنع منهم أشخاصا فاقدين للإرادة. وكلما أمعنا النظر في دسائسهم ومكرهم تكشفت لنا الأخطار الكبيرة الكامنة في هذه الوساوس الشيطانية.

د : برامج التخريب النفسي : من البرامج الأخرى التي يتبعها الشياطين ،

٥٣

الاستفادة من الوعود والأمنيات الكاذبة التي يطلقونها بمختلف الحيل ، فهؤلاء الشياطين يعدّون مجموعة ماهرة ومتمكنة من علماء النفس لغواية الناس البسطاء منهم والأذكياء ، كلا بما يناسب وضعه ، ففي بعض الأحيان يصورون لهم حالهم بأنّهم سيصبحون قريبا من الدول المتمدنة والكبيرة ، أو أنّ شبابهم لا مثيل له ، ويستطيع الشباب في بلدانهم أن يصل من خلال إتباعه برامجهم إلى أوج العظمة ، وهكذا في بلدانهم يغرقوهم في هذه الخيالات الواهية التي تتلخّص في جملة( وَعِدْهُمْ ) .

في أحيان أخرى يسلك الشياطين طريقا معكوسة ، إذ يصوّرون للبلد بأنّه لا يستطيع مطلقا مواجهة القوى الكبرى ، وأنّهم متأخرون عن هذه القوى بمائة عام أو أكثر ، وبهذا الأسلوب تزرع المبررات النفسية لاستمرار التخلف وعدم انطلاق جهود البلد الضعيف نحو العمل والبناء الحقيقي.

بالطبع هذه القصّة لها بدايات بعيدة ، وطرق نفوذ الشيطان فيها لا تنحصر بواحد أو اثنتين.

ولكنّ (عباد الله) الحقيقيين والمخلصين ، وبالاتكاء على الوعد القرآني القاطع بالنصر ، والذي تضمنته هذه الآيات ، سيقومون بمحاربة الشياطين ولا يسمحون بالتردد يساور أنفسهم ، وهم يعلمون ـ برغم الأصوات الكثيرة للشياطين ـ أنّهم سينتصرون ، وإنّهم بصبرهم وصمودهم وبإيمانهم وتوكلهم على الله سوف يفشلون الخطط الشيطانية ، وذلك قوله تعالى :( وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً ) .

٣ ـ أمّا لماذا خلق الله الشيطان؟ فقد بحثنا ذلك في الآية (٣٩) من سورة البقرة. وفيما يخص وساوس الشيطان وأشكالها ولبوساتها ، ومعنى الشيطان في القرآن ، فقد بحثنا كل ذلك في ذيل الآية (١٣) من سورة الأعراف. والآية (٣٩) من سورة البقرة من هذا التّفسير.

* * *

٥٤

الآيات

( رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٦٦) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (٦٧) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (٦٨) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (٦٩) )

التّفسير

لماذا الكفران مع كلّ هذه النعم؟

هذه الآيات تابعت البحوث السابقة في مجال التوحيد ومحاربة الشرك ، ودخلت في البحث من خلال طريقين مختلفين ، هما : طريق الاستدلال والبرهان ، وطريق الوجدان ومخاطبة الإنسان من الداخل.

ففي البداية تشير الآية إلى التوحيد الاستدلالي فتقول :( رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي

٥٥

لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ ) .

طبعا هناك أنظمة لأجل حركة الفلك في البحار ، فمن جانب ينبغي وجود الماء بشكل يصلح لمسير السفن ، ومن جانب آخر لا بدّ من توفر بعض الأشياء التي تكون أخف من الماء كي يمكن لها أن تطفو على سطحه ، وإذا كانت أثقل فيمكن صناعتها بشكل بحيث تكون أخف من الماء وتستطيع أن تتحمّل وزن الأحمال الثقيلة والأعداد الكثيرة من البشر. ومن جانب ثالث يلزم وجود القوّة المحرّكة والّتي كان الهواء يمثلها في السابق ، حيث كان البحّارة يستفيدون من حركة التيارات الهوائية فوق المحيطات والبحار لتحديد أوقات وسرعة واتجاه السفن ، واليوم يستفاد من طاقة البخار وأشكال الطاقة الأخرى في حركة السفن.

من جانب آخر ينبغي وجود أسلوب لتحديد الطرق ، وهذا الأسلوب كان سابقا يعتمد على الشمس والنجوم في السماء ، أمّا اليوم فإنّ السفن تستفيد من البوصلات والخرائط والإحداثيات الدقيقة. على أي حال ، إذا لم تتوافر هذه الشروط الأربعة ولم يكن ثمّة تنسيق بينها فإنّ حركة السفن تصبح أمرا مستحيلا ، ولا يكون الإنسان قادرا على الاستفادة من هذه الوسيلة المهمّة.

تعلمون ـ طبعا ـ بأنّ السفن تعتبر أضخم وسيلة لحمل الإنسان ، واليوم فإنّ هناك من السفن العملاقة ما يكون بعضها بمساحة مدينة صغيرة.

ثمّ يضيف تعالى :( لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ) . حتى تساعدكم في أسفاركم ونقل أموالكم وتجارتكم وتعينكم في كل ما يخص أمور دنياكم ودينكم. أمّا لماذا؟ فلأنّ الله تبارك وتعالى( إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً ) .

من هذا التوحيد الاستدلالى والذي يعكس جانبا صغيرا من نظام الخلق ، وعلم وقدرة وحكمة الخالق جلّ وعلا ، تنتقل الآية إلى أسلوب الاستدلال الفطري فتقول : لا تنسوا( وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ ) .

أن يضل أي شيء من دون الله ، لأنّ ضرر البحر إذا وقع ، كالطوفان وغيره

٥٦

يذهب بكل الحواجز وأستار التقليد والتعصّب اللاصقة على صفاء الفطرة الإنسانية،لينكشف نور الفطرة الذي هو نور التوحيد والإيمان والعبودية لله دون غيره.

نعم في هذه اللحظات ، في لحظات الضرّ ينقطع الإنسان عن جميع المعبودات التصورية والوهمية والخيالية التي سبق وأن أعطاها قوّة بسبب أوهامه ، وتمحى من ذهنه فاعليتها ووجودها وتتلاشى وتذوب تماما كما يذوب الجليد في شمس الصيف ولا يبقى حين ذاك سوى نور الأنوار نور الله جلّ جلاله.

إنّ الآية تعبّر عن قانون عام ، عرفه كلّ من جرّب ذلك ، حيث تؤدي المشاكل والصعوبات الحادة التي يمرّ بها الإنسان ـ ويصل السكين العظم ـ إلى الغاء كل الأسباب الظاهرية التي كان يتعلق بها الإنسان ، وتنعدم فاعلية العلل المادية التي كان يتشبث بها ، وتنقطع كل الأسباب ، إلّا السبب الذي يصل الإنسان بمصدر العلم والقدرة المطلقتين ، والذي هو ـ لوحده سبحانه وتعالى ـ قادر على حال أعقد المشكلات ليس مهمّا هنا ما الذي نسمّي فيه هذه الحالة ، وإنّما المهم أنّ نعلم أن قلب الإنسان في هذه الحالة ينفتح على الأمل بالخلاص ، وتغمر القلب بنور خاص لطيف. وهذه المنعطفات هي واحدة من أقرب الطرق إلى الله ، إنّها طريق ينبع من داخل الروح ومن سويداء القلب.(١)

ثمّ تضيف الآية :( فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً ) .

مرّة أخرى تغطي حجب الغرور والغفلة والتعصب هذا النور الإلهي ، ويغطي غبار العصيان والذنوب وملاهي الحياة المادية فطرة الإنسان ووجدانه.

ولكن هل تظنون أنّ الله لا يستطيع أن ينزل بكم عقابه الشديد وأنتم على

__________________

(١) طالع الشّرح الكامل للتوحيد الفطري في كتاب (خالق العالم) ، ولا حظه أيضا في نهاية الآية (١٤) من سورة النحل حيث أشرنا إلى هذه المسألة.

٥٧

اليابسة وفي قلب الحصاري والبراري؟

لذلك تقول الآية( أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ ) ثمّ أضافت :( أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً ) ، حيث تغشيكم عاصفة محمّلة بالحصى والحجارة وتدفنكم تحتها ولا تجدون من ينقذكم منها (وفي ذلك من العذاب ما هو أشدّ من الغرق في البحر).

إنّ المتجولين في الصحاري وأهل البوادي يدركون أكثر من غيرهم رهبة هذا التهديد الرّباني والوعيد القرآني ، إذ يعرفون كيف تؤدي ثورة الكثبان الرملية في الصحراء إلى دفع الرمال والأحجار إلى غير مواقعها لتشكّل تلالا تدفن في ثناياها وبطونها قوافل الجمال ومن عليها.

بعد ذلك تضيف الآية مذكّرة أمثال هؤلاء بأنّكم هل تظنون أنّ هذه هي المرّة الأخيرة التي تحتاجون فيها إلى السفر في البحر :( أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً ) ، أي لا أحد حينئذ يطالب بدمكم ويثأر لكم منّا.

* * *

بحوث

١ ـ الشّخصية المتقلّبة

إنّ الكثير من الناس لا يذكرون الله إلّا عند بروز المشاكل. وينسونه في الرخاء ، إنّ نسيان الله في حياة هؤلاء هو القاعدة والأصل ، أي أنّه صار طبيعة ، ثانية لهؤلاء ، لذا فإنّ ذكر الله بالنسبة لهؤلاء والالتفات إلى وقائع الحياة الحقّة تعتبر حالة استثنائية في وجودهم ، تحتاج في حضورها إلى عوامل إضافية ، فما دامت هذه العوامل الإضافية موجودة فهم يذكرون الله ، أمّا إذا زالت فسوف يرجعون إلى طبيعتهم المنحرفة وينسون الله.

٥٨

والخلاصة ، أنّنا لا نجد من الناس بصورة عامّة من لا يلجأ إلى الله ولا يخضع له عند ما تضغطه المشاكل الحادّة والصعبة ، ولكن ينبغي أن نعرف أن الوعي وذكر الله تعالى في مثل هذه الظروف في مثل هذه والذي نستطيع أن نصفه بالوعي الإجباري ، هو وعي عديم الفائدة.

إنّ المؤمنين والمسلمين الحقيقيين ، يذكرون الله في الراحة والبلاء والسلامة والمرض والفقر والغنى ، في السجن وعلى كرسي الحكم ، وفي أي وضع كان. إنّ تغيير الأوضاع وتبدّل الحالات لا يغيّر هؤلاء. إنّ أرواحهم كبيرة بحيث تستوعب كل هذه الأمور ، مثلهم في ذلك علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، حيث كانت عبادته وزهده ومتابعته لأمور الفقراء لا تختلف عند وجوده في السلطة ، أو عند ما كان جليس بيته.

أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام ـ يقول في وصف المتقين : «نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالتي نزلت في الرخاء»(١) .

وخلاصة القول : إنّ الإيمان والارتباط بالله وعبادته والتوسل به والتوبة إليه والتسليم له سبحانه وتعالى ، كل هذه الأمور تكون مهمّة وثمينة وذات أثر عند ما تكون دائمية وثابتة ، أمّا الإيمان الموسمي والتوبة والعبادات الموسمية ، والتي تفرضها حالات خاصّة يمرّ بها الإنسان ويبغي من خلالها جلب بعض المنافع له ، فليس لها أثر ولا قيمة. والآيات القرآنية توبخ أمثال هؤلاء الأشخاص دائما.

٢ ـ لا يمكن الهروب من حكومة الله

البعض يتوجه إلى الله (مثل عبدة الأصنام في الجاهلية) عند ما يكون في وسط البحر أو عند ما يكون على هاوية السقوط والخطر أو في حال مرض

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة رقم ١٩٣.

٥٩

شديد ، في حين أنّنا إذا فكّرنا بشكل صحيح نرى أنّ الإنسان معرض للخطر والضرر في كل الأزمنة والحالات والأوقات ، فالبحر والبر والصحراء والمرض والهاوية وغيرها ، هي في الواقع متساوية الخطورة. إنّ هزة أرضية واحدة يمكنها أن تدمّر بيتنا الآمن الهاديء ، وإنّ تخثرا بسيطا في الدم يمكنه أن يغلق مسير الدم في الشريان الأبهر فيؤثر على القلب أو على الدماغ فتحدث السكتة القلبية أو الدماغية ، وبعد ثانية واحدة يكون الموت هو المصير المحتوم. مع وجود كل هذه الأمور نعلم أنّ الغفلة عن الله تعالى كم هي مجانبة للصواب!!

قد يقوم هنا أنصار نظرية تعليل الإيمان ـ والدين بشكل عام ـ على أساس الخوف، بتبرير هذه الحالة بقولهم : طالما أنّ الخوف في الإنسان غريزي وفطري ، فإنّ خوفه من العوامل الطبيعية يجعل الإنسان يتوجه نحو الخالق. ومثل هذه الحالات والأوضاع التي تحدثت عنها الآيات تدعم هذا التصوّر وتعضده.

الآيات القرآنية أجابت على هذه الأوهام ، إذ أبانت أنّ القرآن لم يجعل ـ أبدا ـ معرفة الخالق قائمة على هذه الأمور ، بل إنّ الأساس هو قراءة في نظام الكون والوجود ومعرفة الله تعالى من خلال هذا الخلق. وحتى في الآيات أعلاه نرى أنّها ذكرت أوّلا الإيمان الاستدلالي قبل ذكر التوحيد والإيمان الفطري ، وفي الواقع فإنّها تعتبر هذه الحوادث بمثابة تذكير بالخالق لا من أجل معرفته ، إذ أن معرفته لطلاب الحق تتوضح من خلال أسلوب الاستدلال وعن طريق الفطرة.

ثالثا : معاني الكلمات

«يزجي» مأخوذة من «إزجاء» وهي تعني تحريك شيء ما بشكل مستمر.

«حاصب» تعني الهواء الذي يحرّك معه الأحجار الصغيرة ثمّ تضرب الواحدة بعد الأخرى مكانا معينا ، وهي مشتقّة أصلا من (حصباء) التي تعني الأحجار

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

يقرأ في كلّ ركعة الحمد مرّة، وخمسين مرّة قل هو الله احد.

وصلاة فاطمة،عليها‌السلام ، ركعتان: يقرأ في الأولى منهما الحمد مرّة واحدة، وإنا أنزلناه مائة مرّة، وفي الثّانية الحمد مرّة وقل هو الله أحد مائة مرّة.

وصلاة جعفر أربع ركعات بثلاثمائة مرّة « سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلّا الله، والله أكبر »: يبتدئ الصّلاة، فيقرأ الحمد ويقرأ في الأولى منهما إذا زلزلت. فإذا فرغ منها، سبّح خمس عشرة مرة، ثمَّ ليركع، ويقول ذلك عشرا. فإذا رفع رأسه، قاله عشرا. فإذا سجد، قاله عشرا. فإذا رفع رأسه من السّجود، قاله عشرا. فإذا سجد الثّانية، قاله عشرا. فإذا رفع رأسه من السّجود ثانيا، قاله عشرا. فهذه خمس وسبعون مرّة. ثمَّ لينهض إلى الثّانية، وليصلّ أربع ركعات على هذا الوصف، ويقرأ في الثّانية و « العاديات »، وفي الثّالثة إذا جاء نصر الله، وفي الرّابعة قل هو الله أحد ويقول في آخر سجدة منه « يا من لبس العزّ والوقار » إلى آخر الدّعاء.

ويستحبّ أن يصلّي الإنسان يوم الغدير إذا بقي إلى الزّوال نصف ساعة بعد أن يغتسل ركعتين: يقرأ في كلّ واحدة منهما الحمد مرّة، وقل هو الله أحد عشر مرّات وآية الكرسيّ

١٤١

عشر مرّات، وإنا أنزلناه عشر مرّات. فإذا سلّم، دعا بعدهما بالدعاء المعروف.

ويستحبّ أن يصلّي الإنسان يوم المبعث، وهو اليوم السابع والعشرون من رجب، اثنتي عشرة ركعة: يقرأ في كل واحدة منهما « الحمد ويس ». فان لم يتمكّن، قرأ ما سهل عليه من السّور. فإذا فرغ منها، جلس في مكانه، وقرأ أربع مرّات سورة الحمد، وقُلْ هو اللهُ أَحد مثل ذلك، والمعوذّتين، كلّ واحدة منهما أربع مرّات. ثمَّ يقول: « سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلّا الله، والله أكبر » أربع مرّات، ويقول: « الله الله لا أشرك به شيئا » أربع مرّات.

ويستحبّ أن يصلّي ليلة النّصف من شعبان أربع ركعات: يقرأ في كلّ واحدة منهما الحمد مرّة وقل هو الله أحد مائة مرّة.

وإذا أراد الإنسان أمرا من الأمور لدينه أو دنياه، يستحبّ له أن يصلّي ركعتين: يقرأ فيهما ما شاء من السّور، ويقنت في الثّانية. فإذا سلّم: دعا بما أراد، ثمَّ ليسجد وليستخر الله في سجوده مائة مرّة، يقول: « أستخير الله في جميع أموري »، ثمَّ يمضي في حاجته.

وإذا غرض للإنسان حاجة، فليصم الأربعاء والخميس والجمعة، ثمَّ ليبرز تحت السّماء في يوم الجمعة وليصلّ

١٤٢

ركعتين، يقرأ فيهما بعد الحمد مأتي مرّة وعشر مرّات قل هو الله أحد على ترتيب صلاة التّسبيح، إلّا أنه يجعل بدل التّسبيح في صلاة جعفر، خمس عشرة مرّة قل هو الله أحد في الرّكوع والسّجود وفي جميع الأحوال. فإذا فرغ منها سأل الله حاجته.

وإذا قضيت حاجته، فليصلّ ركعتين شكرا لله تعالى: يقرأ فيهما الحمد وإِنا أَنزلناه أو سورة قُلْ هو اللهُ أَحد، ثمَّ ليشكر الله تعالى على ما أنعم في حال السّجود والرّكوع وبعد التّسليم، إن شاء الله.

باب الصلاة على الموتى

الصّلاة على الأموات فريضة. وفرضه على الكفاية، إذا قام به البعض، سقط عن الباقين. ولا يختلف الحكم في ذلك، سواء كان الميّت رجلا أو امرأة، حرّا أو عبدا، إذا كان له ستّ سنين فصاعدا، وكان على ظاهر الإسلام. فإن نقص سنّه عن ستّ سنين، لم تجب الصّلاة عليه، بل يصلّى عليه استحبابا وتقيّة.

وإذا حضر القوم للصّلاة عليه، فليتقدّم أولى النّاس به، أو من يأمره الوليّ بذلك. وإن حضر الإمام العادل، كان أولى بالصّلاة عليه. وإن حضر رجل من بني هاشم معتقد للحقّ،

١٤٣

كان أيضا أولى بالصّلاة عليه، إذا قدّمه الولي. ويستحب له تقديمه. فإن لم يفعل، فليس له أن يتقدّم للصّلاة عليه. والزّوج أحقّ بالصّلاة على المرأة من أخيها وأبيها.

وإذا كانوا جماعة، فليتقدّم الإمام ويقف الباقون خلفه صفوفا أو صفا واحدا. وإن كان فيهم نساء، فليقفن آخر الصّفوف، فلا يختلطن بالرّجال. فإن كان فيهنّ حائض، فلتقف وحدها في صفّ بارزة عنهن وعنهم. وإن كان من يصلّي على الميّت نفسين، فليتقدّم واحد ويقف الآخر خلفه سواء، ولا يقف على جنبه.

وينبغي أن يقف الإمام من الجنازة، إن كانت لرجل، عند وسطها، وان كانت لامرأة، عند صدرها. وإذا اجتمع جنازة رجل وامرأة فلتقدّم المرأة إلى القبلة، ويجعل الرّجل ممّا يليها، ويقف الإمام عند الرّجل. وان كان رجل وامرأة وصبي، فليقدّم الصّبي، ثمَّ المرأة، ثمَّ الرّجل. وإن كان معهم عبد فليقدّم أوّلا الصّبي، ثمَّ المرأة، ثمَّ العبد، ثمَّ الرّجل، ويقف الإمام عند الرّجل ويصلّي عليهم صلاة واحدة. وكذلك الحكم، إن زادوا في العدد على ما ذكرناه، ويكون على هذا ترتيبهم.

وينبغي أن يكون بين الإمام وبين الجنازة شي‌ء يسير، ولا يبعد منها. وليتحفّ عند الصّلاة عليه، ان كان عليه نعلان.

١٤٤

فإن لم يكن عليه نعل، أو كان عليه خفّ، فلا بأس أن يصلّي كذلك.

ثمَّ يرفع الإمام يده بالتّكبير، ويكبّر خمس تكبيرات، يرفع يده في أوّل تكبيرة منها حسب، ولا يرفع فيما عداها. هذا هو الأفضل. فإن رفع يده في التّكبيرات كلّها، لم يكن به بأس. وإذا كبّر الأولة، فليشهد: أن لا إله إلّا الله. وأنّ محمدا رسول الله، ثمَّ يكبّر الثّانية ويصلّي على النّبي وآله، ثمَّ يكبّر الثّالثة ويدعوا للمؤمنين، ثمَّ يكبّر الرّابعة ويدعوا للميّت إن كان مؤمنا.

فإن لم يكن كذلك، وكان ناصبا معلنا بذلك، لعنه في صلاته، وتبرّأ منه. وإن كان مستضعفا فليقل: ربنا اغفر( لِلَّذِينَ تابُوا ) إلى آخر الآية. وإن كان ممّن لا يعرف مذهبه، فليدع الله أن يحشره مع من كان يتولّاه. وإن كان طفلا فليسأل الله أن يجعله له ولأبويه فرطا. فإذا فرغ من ذلك، كبّر الخامسة.

ولا يبرح من مكانه حتّى ترفع الجنازة، فيراها على أيدي الرّجال، ومن فاته شي‌ء من التّكبيرات، فليتمّه عند فراغ الإمام من الصّلاة متتابعة. فإن رفعت الجنازة، كبّر عليها، وان كانت مرفوعة. وإن كانت قد بلغت إلى القبر، كبّر على القبر ما بقي له، وقد أجزأه. ومن كبّر تكبيرة قبل

١٤٥

الإمام، فليعدها مع الإمام.

ومن فاتته الصّلاة على الجنازة، فلا بأس أن يصلّي على القبر بعد الدّفن يوما وليلة. فإن زاد على ذلك، لم يجز الصّلاة عليه. ويكره أن يصلّي على جنازة واحدة مرّتين.

ولا بأس أن يصلّى على الجنازة أيّ وقت كان من ليل أو نهار، ما لم يكن وقت فريضة. فإن كان وقت فريضة، بدئ بالفرض ثمَّ بالصّلاة على الميّت، اللهمّ إلّا أن يكون الميّت مبطونا أو ما أشبه ذلك ممّن يخاف عليه الحوادث، فإنّه يبدأ بالصّلاة عليه، ثمَّ بصلاة الفريضة.

ولا بأس بالصّلاة على الجنائز في المساجد. وإن صلّي عليها في مواضعها المختصّة بذلك، كان أفضل. ومتى صلّي على جنازة، ثمَّ تبيّن بعد ذلك أنّها كانت مقلوبة، سوّيت، وأعيد عليها الصّلاة، ما لم يدفن. فإن دفن، فقد مضت الصّلاة.

والأفضل أن لا يصلّي الإنسان على الجنازة إلّا على طهر. فإن فاجأته جنازة، ولم يكن على طهارة، تيمّم، وصلّى عليها. فإن لم يمكنه، صلّى عليها بغير طهر. وكذلك الحكم في من كان جنبا، والمرأة إذا كانت حائضا، فإنّه لا بأس أن يصليا عليه من غير اغتسال. فإن تمكّنا من الاغتسال، اغتسلا، فإنّ ذلك أفضل.

وإذا كبّر الإمام على الجنازة تكبيرة أو تكبيرتين،

١٤٦

وأحضرت جنازة أخرى، فهو مخيّر بين أن يتمّ خمس تكبيرات على الجنازة الأولى، ثمَّ يستأنف الصّلاة على الأخرى، وبين أن يكبّر خمس تكبيرات من الموضع الذي انتهى إليه، وقد أجزأه ذلك عن الصّلاة عليهما.

فإذا حضر جماعة من النساء للصّلاة على الميّت، ليس فيهنّ رجل، فلتقف واحدة منهنّ في الوسط، والباقيات عن يمينها وشمالها ويصلّين عليها. وكذلك إذا صلّوا جماعة عراة على الجنازة، فلا يتقدّم منهم أحد، بل يقف في الوسط، ويكبّر، ويكبّر الباقون معه. فإن كان الميّت عريانا، ترك في القبر أوّلا، وغطّى سوأته، ثمَّ صلّي عليه بعد ذلك، ودفن.

١٤٧

كتاب الصيام

باب ماهية الصوم ومن يجب عليه ذلك ومن لا يجب عليه

الصوم في اللغة هو الإمساك، وهو في الشّريعة كذلك، إلا أنّه إمساك عن أشياء مخصوصة في زمان مخصوص.

والّذي يقع الإمساك عنه على ضربين: ضرب يجب الإمساك عنه، والآخر الأولى الإمساك عنه.

والذي يجب الإمساك عنه على ضربين: ضرب منهما متى لم يمسك الإنسان عنه، بطل صومه. والقسم الآخر متى لم يمسك عنه، كان مأثوما، وإن لم يبطل ذلك صومه.

فأما الذي يجب الإمساك عنه ممّا يبطل الصّوم بفعله. فهو الأكل والشّرب والجماع والارتماس في الماء والكذب على الله ورسوله وازدراد كلّ شي‌ء يفسد الصّيام والحقنة والقي‌ء على طريق العمد.

وأمّا الذي يجب الإمساك عنه، وإن لم يبطل الصّوم بفعله فهو النّظر إلى ما لا يجوز النظر اليه، والإصغاء إلى ما لا يحلّ

١٤٨

الإصغاء إليه من الغناء وقول الفحش، والكلام بما لا يسوغ التّكلّم به، ولمس ما لا يحلّ ملامسته، والمشي إلى المواضع المنهيّ عنها.

والذي الأولى الإمساك عنه، فالتّحاسد والتّنازع والمماراة وإنشاد الشعر، وما يجري مجرى ذلك ممّا نذكره من بعد في باب ما يفسد الصّيام وما لا يفسده.

والصّوم على ضربين: مفروض ومسنون.

فالمفروض على ضربين: ضرب يجب على كافّة المكلّفين مع التمكّن منه بالإطلاق. والضّرب الآخر يجب على من حصل فيه سبب وجوبه.

فالقسم الأوّل هو صوم شهر رمضان. فإنّه يلزم صيامه لسائر المكلّفين من الرّجال والنّساء والعبيد والأحرار، ويسقط فرضه عمّن ليس بكامل العقل من الصّبيان وغيرهما. ويستحبّ ان يؤخذ الصّبيان بالصّيام إذا أطافوه، وبلغوا تسع سنين وإن لم يكن ذلك واجبا عليهم. ويسقط فرض الصّيام عن العاجز عنه بمرض أو كبر أو ما يجري مجراهما ممّا سنبيّنه فيما بعد، إن شاء الله.

والذين يجب عليهم الصّيام على ضربين: منهم من إذا لم يصم متعمّدا، وجب عليه القضاء والكفّارة أو القضاء. ومنهم من لا يجب عليه ذلك. فالذين يجب عليهم ذلك، كل من

١٤٩

كان ظاهره ظاهر الإسلام. والذين لا يجب عليهم، هم الكفّار من سائر أصناف من خالف الإسلام. فإنه وإن كان الصّوم واجبا عليهم، فإنّما يجب بشرط الإسلام. فمتى يصوموه، لم يلزمهم. القضاء ولا الكفّارة.

والقسم الثّاني مثل صوم النّذور والكفّارات وما يجري مجراهما ونحن نبيّن كلّ ذلك في أبوابه، إن شاء الله.

باب علامة شهر رمضان وكيفية العزم عليه ووقت فرض الصوم ووقت الإفطار

علامة الشّهور رؤية الهلال مع زوال العوارض والموانع. فمتى رأيت الهلال في استقبال شهر رمضان، فصم بنيّة الفرض من الغد. فإن لم تره لتركك التّراءي له، ورؤي في البلد رؤية شائعة، وجب أيضا عليك الصّوم. فإن كان في السّماء علة، ولم يره جميع أهل البلد، ورآه خمسون نفسا، وجب أيضا الصّوم. ولا يجب الصّوم إذا رآه واحد أو اثنان، بل يلزم فرضه لمن رآه حسب، وليس على غيره شي‌ء.

ومتى كان في السّماء علة، ولم ير في البلد الهلال أصلا، ورآه خارج البلد شاهدان عدلان، وجب أيضا الصّوم. وإن لم

١٥٠

يكن هناك علة، وطلب فلم ير الهلال، لم يجب الصّوم إلّا أن يشهد خمسون نفسا من خارج البلد أنّهم رأوه.

ومتى لم ير الهلال في البلد، ولم يجي‌ء من الخارج من يخبر برؤيته، عددت من الشّهر الماضي ثلاثين يوما، وصمت بعد ذلك بنية الفرض. فان ثبت بعد ذلك بيّنة عادلة أنّه كان قد رئي الهلال قبله بيوم، قضيت يوما بدله.

والأفضل أن يصوم الإنسان يوم الشّكّ على أنّه من شعبان. فان قامت له البيّنة بعد ذلك أنّه كان من رمضان، فقد وفّق له، وأجزأ عنه، ولم يكن عليه قضاء. وإن لم يصمه، فليس عليه شي‌ء. ولا يجوز له أن يصوم ذلك اليوم على أنّه من شهر رمضان حسب ما قدّمناه، ولا أن يصومه وهو شاك فيه لا ينوي به صيام يوم من شعبان. فان صام على هذا الوجه، ثمَّ انكشف له أنّه كان من شهر رمضان، لم يجزئ عنه، وكان عليه القضاء.

والنيّة واجبة في الصّيام. ويكفي في نيّة صيام الشّهر كلّه أن ينوي في أوّل الشّهر، ويعزم على أن يصوم الشّهر كلّه. وإن جدّد النيّة في كلّ يوم على الاستيناف، كان أفضل. فإن لم يفعلها، لم يكن عليه شي‌ء. وإن نسي أن يعزم على الصّوم في أوّل الشّهر، وذكر في بعض النّهار، جدّد النّيّة، وقد أجزأه. فان لم يذكرها، وكان من عزمه قبل

١٥١

حضور الشّهر صيام الشّهر إذا حضر، فقد أجزأه أيضا. فإن لم يكن ذلك في عزمه، وجب عليه القضاء.

وإذا صام الإنسان يوم الشّكّ على أنّه من شعبان، ثمَّ علم بعد ذلك أنّه كان من شهر رمضان، فقد أجزأه. وكذلك إن كان في موضع لا طريق له إلى العلم بالشهر، فتوخّى شهرا فصامه، فوافق ذلك شهر رمضان، أو كان بعده، فقد أجزأه عن الفرض. وان انكشف له أنّه كان قد صام قبل شهر رمضان، وجب عليه استيناف الصّوم وقضاؤه.

وإذا نوى الإنسان الإفطار يوم الشّكّ، ثمَّ علم أنّه يوم من شهر رمضان، جدّد النّيّة ما بينه وبين الزّوال، وقد أجزأه، إذا لم يكن قد فعل ما يفسد الصّيام. وإن كان تناول ما يفسد الصّيام، أمسك بقيّة النّهار، وكان عليه القضاء. وإن لم يعلم الا بعد زوال الشمس، أمسك بقيّة النّهار عمّا يفسد الصّيام، وكان عليه قضاء ذلك اليوم.

والوقت الذي يجب فيه الإمساك عن الطّعام والشّراب، هو طلوع الفجر المعترض الذي يجب عنده الصّلاة، وقد بيّناه فيما مضى من الكتاب ومحلّل الأكل والشّرب إلى ذلك الوقت. فأما الجماع، فإنه محلّل إلى قبل ذلك بمقدار ما يتمكّن الإنسان من الاغتسال. فإن غلب على ظنّه، وخشي أن يلحقه الفجر قبل الغسل، لم يحلّ له ذلك.

١٥٢

ووقت الإفطار سقوط القرص. وعلامته ما قدّمناه من زوال الحمرة من جانب المشرق، وهو الوقت الذي يجب فيه الصّلاة. والأفضل أن لا يفطر الإنسان إلا بعد صلاة المغرب. فإن لم يستطع الصّبر على ذلك، صلّى الفرض، وأفطر، ثمَّ عاد، فصلّى نوافله. فإن لم يمكنه ذلك، أو كان عنده من يحتاج إلى الإفطار معه، قدّم الإفطار. فإذا فرغ منه، قام إلى الصّلاة، فصلّى المغرب.

باب ما على الصائم اجتنابه مما يفسد الصيام وما لا يفسده والفرق بين ما يلزم بفعله القضاء والكفارة وبين ما يلزم منه القضاء دون الكفارة

الذي على الصّائم اجتنابه على ضربين: ضرب يفسد الصّيام وضرب لا يفسده بل ينقضه. والذي يفسده على ضربين: ضرب منهما يجب منه القضاء والكفّارة، والضّرب الآخر يجب منه القضاء دون الكفّارة.

فأمّا الذي يفسد الصّيام ممّا يجب منه القضاء والكفّارة، فالأكل، والشّرب، وازدراد كلّ شي‌ء يقصد به إفساد الصّيام والجماع، والإمناء على جميع الوجوه، إذا كان عند ملاعبة أو ملامسة، وان لم يكن هناك جماع. والكذب على الله وعلى رسوله وعلى الأئمّةعليهم‌السلام ، متعمّدا مع الاعتقاد لكونه

١٥٣

كذبا، وشمّ الرائحة الغليظة التي تصل إلى الحلق، والارتماس في الماء، والمقام على الجنابة والاحتلام باللّيل متعمّدا إلى طلوع الفجر. وكذلك، من أصابته جنابة، ونام من غير اغتسال، ثمَّ انتبه، ثمَّ نام، ثمَّ انتبه ثانيا، ثمَّ نام إلى طلوع الفجر. فهذه الأشياء كلّها تفسد الصّيام، ويجب منها القضاء والكفّارة.

والكفّارة عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستّين مسكينا، وقضاء ذلك اليوم. أيّ ذلك فعل، فقد أجزأه. فإن لم يتمكّن، فليتصدّق بما تمكّن منه. فإن لم يتمكّن من الصّدقة، صام ثمانية عشر يوما. فإن لم يقدر، صام ما تمكّن منه. فإن لم يستطع، قضا ذلك اليوم، وليستغفر الله تعالى، وليس عليه شي‌ء. ومتى وطئ الرّجل امرأته نهارا في شهر رمضان، كان عليها أيضا القضاء والكفّارة، إن كانت طاوعته على ذلك. وإن كان أكرهها، لم يكن عليها شي‌ء، وكان عليه كفّارتان.

وأمّا الذي يفسد الصّيام ممّا يجب منه القضاء دون الكفّارة، فمن أجنب في أوّل اللّيل، ونام، ثمَّ انتبه، ولم يغتسل، فنام ثانيا، واستمرّ به النّوم الى طلوع الفجر، كان عليه القضاء، وصيام ذلك اليوم، وليس عليه كفّارة. ومن تمضمض للتبرّد دون الطّهارة، فدخل الماء حلقه، وجب عليه

١٥٤

القضاء دون الكفّارة. وكذلك من تقيّأ متعمّدا، وجب عليه القضاء دون الكفّارة. فإن ذرعه القي‌ء، لم يكن عليه شي‌ء. وليبصق بما يحصل في فيه. فإن بلعه، كان عليه القضاء.

ومن أكل أو شرب عند طلوع الفجر من غير أن يرصده، ثمَّ تبيّن بعد ذلك أنّه كان طالعا، كان عليه القضاء. فإن رصده ولم يتبيّنه لم يكن عليه شي‌ء. فإن بدأ بالأكل، فقيل له: قد طلع الفجر، فلم يمتنع، ثمَّ تبيّن بعد ذلك أنّه كان طالعا، وجب عليه القضاء. ومن قلّد غيره في أنّ الفجر لم يطلع، ثمَّ تبيّن أنّه كان طالعا، وجب عليه القضاء.

ومن شكّ في دخول اللّيل لوجود عارض في السّماء، ولم يعلم بدخول الليل، ولا غلب على ظنّه ذلك، فأفطر، ثمَّ تبيّن بعد ذلك أنّه كان نهارا، كان عليه القضاء. فإن كان قد غلب على ظنّه دخول اللّيل، ثمَّ تبيّن أنّه كان نهارا، لم يكن عليه شي‌ء.

وجميع ما قدّمناه ممّا يفسد الصّيام، ممّا يجب منه القضاء والكفّارة، أو القضاء وحده، متى فعله الإنسان ناسيا وساهيا، لم يكن عليه شي‌ء. ومتى فعله متعمّدا، وجب عليه ما قدّمناه، وكان على الإمام أن يعزّره بحسب ما يراه. فإن تعمّد الإفطار ثلاث مرّات، يرفع فيها إلى الإمام: فإن كان عالما بتحريم ذلك عليه، قتله الإمام في الثّالثة والرّابعة. وإن لم

١٥٥

يكن عالما، لم يكن عليه شي‌ء.

ويكره للصّائم الكحل إذا كان فيه مسك. وإن لم يكن فيه ذلك، لم يكن به بأس.

ولا بأس للصّائم أن يحتجم ويفتصد، إذا احتاج إلى ذلك، ما لم يخف الضّعف. فإن خاف، كره له ذلك، إلّا عند الضّرورة اليه.

ويكره له تقطير الدّهن في أذنه إلّا عند الحاجة اليه، ويكره له أن يبلّ الثّوب على جسده. ولا بأس أن يستنقع في الماء الى عنقه، ولا يرتمس فيه حسب ما قدّمناه. ويكره ذلك للنّساء. ويكره للصّائم السّعوط. وكذلك الحقنة بالجامدات. ولا يجوز له الاحتقان بالمائعات. ويكره له دخول الحمّام إذا خاف الضّعف. فإن لم يخف، فليس به بأس.

ولا بأس بالسّواك للصّائم بالرّطب منه واليابس. فان كان يابسا، فلا بأس أن يبلّه أيضا بالماء. وليحفظ نفسه من ابتلاع ما حصل في فيه من رطوبته. ويكره له شمّ النّرجس وغيره من الرّياحين. وليس كراهية شمّ النّرجس مثل الرّياحين بل هي آكد. ولا بأس أن يدّهن بالأدهان الطيّبة وغير الطيّبة. ويكره له شمّ المسك وما يجري مجراه.

ويكره للصّائم أيضا القبلة، وكذلك مباشرة النّساء وملاعبتهنّ. فإن باشرهنّ بما دون الجماع أو لاعبهن بشهوة،

١٥٦

فأمذى، لم يكن عليه شي‌ء. فإن أمنى، كان عليه ما على المجامع. فإن أمنى من غير ملامسة لسماع كلام أو نظر، لم يكن عليه شي‌ء. ولا يعود إلى ذلك.

ولا بأس للصّائم أن يزقّ الطّائر، والطّباخ أن يذوق المرق، والمرأة أن تمضغ الطّعام للصّبي ولا تبلغ شيئا من ذلك. ولا يجوز للصائم مضغ العلك. ولا بأس ان يمص الخاتم والخرز وما أشبههما.

باب حكم المريض والعاجز عن الصيام

المريض الذي لا يقدر على الصّيام أو يضرّ به، يجب عليه الإفطار، ولا يجزي عنه إن صامه، وكان عليه القضاء إذا برأ منه. فإن أفطر في أوّل النّهار، ثمَّ صحّ فيما بقي منه، أمسك تأديبا، وكان عليه القضاء.

فإن لم يصحّ المريض، ومات من مرضه الذي أفطر فيه، يستحبّ لولده الأكبر من الذّكور أن يقضي عنه ما فاته من الصّيام. وليس ذلك بواجب عليه. فإن برأ من مرضه ذلك، ولم يقض ما فاته، ثمَّ مات، وجب على وليّه القضاء عنه. وكذلك إن كان قد فاته شي‌ء من الصّيام في السفر، ثمَّ مات قبل أن يقضي، وكان متمكّنا من القضاء، وجب على وليّه أن يصوم عنه.

١٥٧

فإن فات المريض صوم شهر رمضان، واستمرّ به المرض إلى رمضان آخر، ولم يصحّ فيما بينهما، صام الحاضر، وتصدّق عن الأول عن كلّ يوم بمدين من طعام. فإن لم يمكنه فبمد منه. فان لم يتمكّن، لم يكن عليه شي‌ء، وليس عليه قضاء. فإن صحّ فيما بين الرّمضانين، ولم يقض ما عليه، وكان في عزمه القضاء قبل الرّمضان الثّاني، ثمَّ مرض، صام الثّاني، وقضى الأوّل، وليس عليه كفّارة. فإن أخّر قضاءه بعد الصحّة توانيا، وجب عليه أن يصوم الثّاني، ويتصدّق عن الأوّل ويقضيه أيضا بعد ذلك. وحكم ما زاد على الرّمضانين حكم رمضانين على السّواء. وكذلك لا يختلف الحكم في أن يكون الذي فاته الشّهر كلّه أو بعضه، بل الحكم فيه سواء.

والمريض إذا كان قد وجب عليه صيام شهرين متتابعين، ثمَّ مات، تصدّق عنه عن شهر، ويقضي عنه وليّه شهرا آخر.

والمرأة أيضا، حكمها حكم ما ذكرناه، في أنّ ما يفوتها من الصّيام بمرض أو طمث، لا يجب على أحد القضاء عنها، إلا أن تكون قد تمكّنت من القضاء، فلم تقضه، فإنّه يجب القضاء عنها. ويجب أيضا القضاء عنها ما يفوتها بالسّفر حسب ما قدّمناه في حكم الرّجال.

وحدّ المرض الذي يجب معه الإفطار، إذا علم الإنسان من

١٥٨

نفسه: أنه إن صام، زاد ذلك في مرضه، أو أضرّ به. وسواء الحكم أن يكون المرض في الجسم، أو يكون رمدا، أو وجع الأضراس. فإن عند جميع ذلك يجب الإفطار مع الخوف من الضّرر.

والشّيخ الكبير والمرأة الكبيرة، إذا عجزا عن الصّيام، أفطرا وتصدّقا عن كل يوم بمدّين من طعام. فإن لم يقدرا عليه فبمدّ منه. وكذلك الحكم فيمن يلحقه العطاش ولا يقدر معه على الصّوم. وليس على واحد منهم القضاء. والحامل المقرب والمرضع القليلة اللّبن لا بأس أن تفطرا، إذا أضرّ بهما الصّوم وتتصدّقا عن كلّ يوم وتقضيا ذلك اليوم فيما بعد.

وكلّ هؤلاء الذين ذكرنا: أنه يجوز لهم الإفطار، فليس لهم أن يأكلوا شبعا من الطعام، ولا أن يشربوا ريّا من الشراب، ولا يجوز لهم أن يواقعوا النّساء.

باب حكم من أسلم في شهر رمضان ومن بلغ فيه والمسافر إذا قدم أهله والحائض إذا طهرت والمريض إذا برأ

من أسلم في شهر رمضان، وقد مضت منه أيّام، فليس عليه قضاء شي‌ء ممّا فاته من الصّيام، وعليه صيام ما يستأنف من الأيام. وحكم اليوم الذي يسلم فيه، إن أسلم قبل طلوع الفجر، كان عليه صيام ذلك اليوم. فإن لم يصمه. كان عليه

١٥٩

القضاء. وإذا أسلم بعد طلوع الفجر، لم يجب عليه صيام ذلك اليوم، وكان عليه أن يمسك تأديبا إلى آخر النّهار.

وحكم من بلغ في شهر رمضان أيضا ذلك الحكم في أنّه يجب عليه صيام ما بقي من الأيام بعد بلوغه، وليس عليه قضاء ما قد مضى ممّا لم يكن بالغا فيه.

والمسافر إذا قدم أهله، وكان قد أفطر، فعليه أن يمسك بقيّة النّهار تأديبا، وكان عليه القضاء. فإن لم يكن قد فعل شيئا ينقض الصّوم، وجب عليه الإمساك، ولم يكن عليه القضاء. فإن طلع الفجر، وهو بعد خارج البلد، كان مخيّرا بين الإمساك ممّا ينقض الصّوم، ويدخل بلده، فيتمّ صومه ذلك اليوم، وبين أن يفطر، فإذا دخل إلى بلده، أمسك بقيّة نهاره تأديبا، ثمَّ قضاه حسب ما قدّمناه. والأفضل، إذا علم أنّه يصل إلى بلده، أن يمسك عمّا ينقض الصّيام. فإذا دخل الى بلده، تمّم صومه، ولم يكن عليه قضاء.

والحائض، إذا طهرت في وسط النّهار، أمسكت بقيّة النّهار تأديبا، وكان عليها القضاء، سواء كانت أفطرت قبل ذلك، أو لم تفطر. ويجب عليها قضاء ما فاتها من الصّيام في أيّام حيضها.

والمريض، إذا برأ من مرضه في وسط النّهار، أو قدر على الصّوم، وكان قد تناول ما يفسد الصّوم، كان عليه الإمساك

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576