الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 576

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 576 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 264185 / تحميل: 11782
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

الصغيرة (الحصى).

«قاصف» بمعنى المحطّم ، وهي هنا تشير إلى العاصفة الشديدة التي تقلع كل شيء من مكانه.

«تبيع» بمعنى تابع ، وهي تشير هنا إلى الشخص الذي ينهض للمطالبة بالدم ، وثمن الدم والثأر ويستمر في ذلك.

* * *

٦١

الآيات

( وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (٧٠) يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٧٢) )

التّفسير

الإنسان سيّد الموجودات :

إنّ واحدة من أبرز طرق الهداية والتربية ، هي التنويه بشخصية الإنسان ومكانته ومواهبه ، لذا فإنّ القرآن الكريم وبعد بحوثه عن المشركين والمنحرفين في الآيات السابقة ، يقوم هنا بتبيان الشخصية الممتازة للإنسان والمواهب التي منحها إيّاها ربّ العالمين ، لكي لا يلوّث الإنسان جوهره الثمين ، ولا يبيع نفسه بثمن بخس ، حيث يقول تعالى( وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ ) .

ثمّ تشير الآيات القرآنية إلى ثلاثة أقسام من المواهب الإلهية التي حباها الله لبني البشر، هذه المواهب هي أوّلا :( وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ) .

٦٢

ثمّ قوله تعالى :( وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ) ومع الالتفات إلى سعة مفهوم (الطيب) الذي يشمل كل موجود طيب وطاهر تتّضح عظمة وشمولية هذه النعمة الإلهية الكبيرة.

أمّا القسم الثّالث من المواهب فينص عليه قوله تعالى :( وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً ) .

* * *

بحوث

أوّلا : وسيلة النقل أوّل نعمة للإنسان

الملاحظة التي تلفت النظر هنا ، هي : لماذا اختار الله قضية الحركة على اليابسة وفي البحار ، وأشار إليها أوّلا من بين جميع المواهب الأخرى التي وهبها للإنسان؟

قد يكون ذلك بسبب أنّ الاستفادة من الطيبات وأنواع الأرزاق لا يحدث بدون الحركة ، حيث أنّ حركة الإنسان على سطح الكرة الأرضية تحتاج إلى وسيلة نقل ، إذ أنّ الحركة هي مقدمة لأي بركة.

أو أنّ السبب قد يكون لإظهار سلطة الإنسان على الكرة الأرضية الواسعة بما في ذلك البحار والصحاري. إذ أنّ لكل نوع من أنواع الموجودات سلطة على جزء محدود من الأرض ، أمّا الإنسان فإنّه يحكم الكرة الأرضية ببحارها وصحاريها وهوائها.

ثانيا ، تكريم الإنسان من قبل الخالق

بأي شيء كرّم الله الإنسان؟ الآية تقول بشكل مجمل( وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ ) .

بين المفسّرين كلام كثير عن مصداق هذا التكريم ، فالبعض يعز والسبب لقوّة

٦٣

العقل والمنطق والاستعدادات المختلفة وحرية الإرادة. أمّا البعض الآخر فيعز وذلك إلى الجسم المتزن والجسد العمودي ، والبعض يربط ذلك بالأصابع التي يستطيع الإنسان القيام بواسطتها بمختلف الأعمال الدقيقة ، وأيضا تمنحه القدرة على الكتابة.

والبعض يعتقد أنّ التكريم يعود إلى أنّ الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يأكل طعامه بيده.

وهناك من يقول : إنّ السبب يعود إلى سلطة الإنسان على جميع الكائنات الأرضية.

وهناك من المفسّرين من يعزو التكريم إلى قدرة الإنسان على معرفة الله ، والقدرة أيضا على إطاعة أوامره.

لكن من الواضح أنّ جميع هذه المواهب موجودة في الإنسان ولا يوجد تضاد بينها ، لذا فإنّ تكريم الخالق لهذا المخلوق الكريم يتجلّى من خلال جميع هذه المواهب وغيرها.

خلاصة القول : إنّ الإنسان له امتيازات كثيرة على باقي المخلوقات ، وهذه الامتيازات الواحدة منها أعظم من الأخرى ، فمضافا إلى الامتيازات الجسمية ، فإنّ روح الإنسان لها مجموعة واسعة من الاستعدادات والقدرات الكبيرة التي توهله لطي مسيرة التكامل بشكل غير محدود.

ثالثا : الفرق بين (كرّمنا) و (فضّلنا)

هناك آراء كثيرة حول التفاوت بين (كرّمنا) و (فضّلنا) فالبعض يقول : إنّ (كرّمنا) هي إشارة إلى المواهب التي أعطاها الله ذاتا للإنسان ، بينما (فضّلنا) إشارة إلى الفضائل التي اكتسبها الإنسان بسبب توفيق الله.

هناك احتمال قوي بأنّ (كرّمنا) إشارة إلى الجوانب المادية ، أمّا (فضّلنا) فهي

٦٤

إشارة إلى المواهب المعنوية ، لأنّ كلمة (فضّلنا) غالبا ما تأتي في القرآن بهذا المعنى.

رابعا : ما معنى كلمة (كثير) في الآية؟

بعض المفسّرين يعتبرون الآية الآنفة دليلا على أفضلية الملائكة على بني الإنسان ، فالقرآن يقول بأنّ الإنسان مفضّل على أكثر المخلوقات ، وتبقى مجموعة لا يكون الإنسان أفضل منها ، وهذه المجموعة ليست سوى الملائكة.

ولكن بملاحظة آيات خلق آدم وسجود الملائكة وتعليمهم (الأسماء) من قبل آدم ، لا يبقى شك في أنّ الإنسان أفضل من الملائكة.

لذا فإنّ كلمة (كثير) تعني هنا (جميع). وكما يقول المفسّر الكبير الشّيخ الطبرسي في مجمع البيان ، فإنّ استخدام كلمة (كثير) بمعنى (جميع) يعتبر عاديا وواردا في القرآن الكريم وفي لغة العرب.

وهكذا يكون معنى الجملة حسب تفسير الطبرسي لها هو : «إنّا فضلناهم على من خلقناهم ، وهم كثير».

فالقرآن يقول عن الشياطين في الآية (٢٢٣) من سورة الشعراء :( وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ ) بينما من البديهي أنّ كل الشياطين كاذبين وليس أكثرهم ، وإنّما استخدمت الآية (كثير) بمعنى (الجميع).

على أي حال ، إذا اعتبرنا المعنى خلافا للظاهر ، فإنّ آيات خلق الإنسان ستكون قرينة واضحة لذلك.

خامسا : لماذا كان الإنسان أفضل المخلوقات؟

لا يعد الجواب على هذا السؤال معقدا ، إذ أنّنا نعلم أنّ الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يتكون من قوى مختلفة ، مادية ومعنوية ، جسمية وروحية ، وينمو

٦٥

وسط المتضادات ، وله استعدادات غير محدودة للتكامل والتقدّم.

وهناك حديث معروف للإمام عليعليه‌السلام وهو شاهد على ما نقول ، إذ يقول فيهعليه‌السلام : «إنّ اللهعزوجل ركّب في الملائكة عقلا بلا شهوة ، وركّب في البهائم شهوة بلا عقل ، وركّب في بني آدم كلتيهما ، فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة ، ومن غلبت شهوته عقله فهو شرّ من البهائم»(١) .

وهنا يبقى سؤال واحد : هل أنّ جميع البشر أفضل من الملائكة ، في حين يوجد بين البشر الكفار والمجرمون والظالمون ، وهؤلاء يعتبرون من أسوأ خلق الله بعبارة أخرى : هل أنّ كلمة (بني آدم) في الآية تنطبق على جميع البشر أم على قسم منهم؟

يمكن تلخيص الإجابة على هذا السؤال في جملة واحدة هي : نعم جميع البشر أفضل، ولكن بالقوة والاستعداد ، يعني أنّ الجميع يملك الأرضية ليكون أفضل ، ولكنّهم إذا لم يستفيدوا من هذه الأرضية والقابلية المودعة فيهم ، وسقطوا في الهاوية ، فإنّ ذلك يكون بسببهم ويعود عليهم فقط.

وبالرغم من أنّ أفضلية الإنسان هي في المجالات المعنوية والإنسانية ، ولكن بعض العلماء ذكر أنّ الإنسان قد يكون أقوى من سائر الإحياء حتى من جهة القوّة الجسمية بالرغم من أنّه يعتبر ضعيفا في مناحي أخرى.

«الكسيس كاريل» مؤلف كتاب (الإنسان ذلك المجهول) يقول في كتابه واصفا قدرات الإنسان : «انّ جسم الإنسان من المتانة والإحكام والدّقة بحيث أنّه يقاوم كل أشكال التعب والعقبات التي يتعرض لها الوجود الإنساني من قلّة غذاء ، وسهر وتعب ، وهموم زائدة ، وأشكال المرض والألم والمعاناة ، وهو في ثباته ومقاومته للأشكال الآنفة يبدي استعدادا استثنائيا يبعث على الحيرة والعجب ، حتى أنّنا نستطيع أن نقول : إنّ الوجود الإنساني في تكوينه الروحي

__________________

(١) نور الثقلين ، المجلد الثّالث ، صفحة ١٨٨.

٦٦

والجسدي هو أثبت الموجودات من ذوي الأرواح وأكثرها نشاطا واستعدادا في مضمار الفاعلية الفكرية والجسدية التي يتضمّنها والتي أدّت إلى تشييد المدنية الراهنة بكل مظاهرها»(١) .

الآية التي بعدها تشير إلى موهبة أخرى من المواهب الإلهية التي حباها الله للإنسان ، ورتّبت عليه المسؤوليات الثقيلة بسبب هذه المواهب.

ففي البداية تشير الآية إلى قضية القيادة ودورها في مستقبل البشر فتقول :( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ ) يعني أنّ الذين اعتقدوا بقيادة الأنبياء وأوصيائهم ومن ينوب عنهم في كل زمان وعصر ، سوف يكونون مع قادتهم ويحشرون معهم ، أمّا الذين انتخبوا الشيطان وأئمّة الضلال والظالمين والمستكبرين قادة لهم ، فإنّهم سيكونون معهم ويحشرون معهم.

خلاصة القول : إنّ الارتباط بين القيادة والأتباع في هذا العالم سوف ينعكس بشكل كامل في العالم الآخر ، وطبقا لهذا الأمر سيتم تحديد الفرق الناجية ، والأخرى التي تستحق العذاب.

بالرغم من أنّ بعض المفسّرين قد حصر كلمة (إمام) ب (الأنبياء) والبعض الآخر حصرها بمعنى (الكتب السماوية) والبعض الثّالث ب (العلماء) ، إلّا أنّ من الواضع أنّ كلمة (إمام) في هذا المكان لها معنى أوسع ، وتشمل أية قيادة سواء تمثّلت بالأنبياء أو أئمّة الهدى أو العلماء أو الكتاب والسنة. ويدخل في معنى الكلمة أيضا أئمّة الكفر والضلال ، وبهذا الترتيب فإنّ كل إنسان سيسلك في الاخرة مسار القائد الذي انتخبه لنفسه في الدنيا اماما وقائدا.

هذا التعبير والإشارة إلى دور الإمامة وكونها من أسباب تكامل الإنسان ، يعتبر في نفس الوقت تحذيرا لكل البشرية كي تدقق في انتخاب القيادة ، ولا تعطي أزمّة وجودها الفكري والحياتي بيد أي شخص كان.

__________________

(١) الإنسان ذلك المجهول ، الكسيس كارل ، ص ٧٣ ـ ٧٤.

٦٧

ثمّ تقسم الآية الناس يوم القيامة إلى قسمين :( فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ) (١) . أمّا القسم الآخر فهو : من كان في الدنيا أعمى القلب :( وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى ) . وطبيعي أن يكون هؤلاء العميان القلب أضل من جميع المخلوقات( وَأَضَلُّ سَبِيلاً ) فهؤلاء لا يوفقون في هذه الدنيا لسلوك طريق الهداية ، ولا هم في الآخرة من أصحاب الجنّة والسعادة ، لأنّهم أغمضوا عيونهم عن جميع الحقائق وحرّموا أنفسهم من رؤية الحق وآيات الله وكل ما يؤدي إلى هدايتهم ، ويقود إلى خلاصهم من المواهب العظيمة التي أعطاهم الله إيّاها ، ولأنّ الآخرة هي صورة منعكسة لوجود الإنسان في هذه الدنيا ، إذن ليس ثمّة من عجب في أن يحشر هؤلاء العميان بنفس الصورة في يوم الحشر والقيامة.

* * *

بحوث

١ ـ دور القيادة في حياة البشر

الحياة الاجتماعية للبشر في الدنيا لا يمكن أن تنفصل عن القيادة أو أن تستغني عنها، لأنّ تحديد مسير مجموعة معينة يحتاج دائما إلى قيادة ، وعادة لا يمكن سلوك طريق التكامل بدون وجود قيادة ، وهذا هو سر إرسال الأنبياء وانتخاب الأوصياء لهم.

وفي علوم العقائد والكلام ، يستفاد أيضا من (قاعدة اللطف) في إثبات لزوم بعث الأنبياء ولزوم وجود الإمام في كل زمان ، وذلك لأهمية دور القائد في تنظيم المجتمع ، ومنع الانحرافات ، وبنفس المقدار الذي يقوم به القائد الإلهي والعالم

__________________

(١) (فتيل) تعني الخيط الرقيق الموجود في شق نوى التمر ، وفي المقابل فإن (نقير) تعني مؤخرة نوى التمر ، بينما تعني (قطمير) الطبقة الرقيقة التي تغطي نوى التمر. وكل هذه التعابير كناية عن الشيء الصغير جدّا والحقير.

٦٨

والصالح بإيصال الإنسان إلى هدفه النهائي بشكل سهل وسريع ، فإنّ التسليم لقيادة أئمّة الكفر والضلال والانقياد لهم يؤديان بالإنسان إلى الهاوية والشقاء.

وفي تفسير هذه الآية تتضمّن المصادر الإسلامية أحاديث متعدّدة توضح مفهومها وتبيّن الغرض من الإمامة.

ففي حديث تنقله الشيعة والسنة عن الإمام علي بن موسى الرّضاعليه‌السلام بأسناد صحيحة أنّه نقل عن آبائه عن جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حول تفسير هذه الآية قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يدعى كل أناس بإمام زمانهم وكتاب ربّهم وسنة نبيّهم».(١)

ونقرأ عن الإمام جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام قوله : «ألا تحمدون الله! إذا كان يوم القيامة فدعي كل قوم إلى من يتولونه ودعينا إلى رسول الله وفزعتم إلينا فإلى أين ترون يذهب بكم؟ إلى الجنّة وربّ الكعبة ـ قالها ثلاثا».(٢)

٢ ـ تكريم بني آدم

(بني آدم) وردت في القرآن الكريم كعنوان للإنسان مقرونة بالمدح والاحترام ، في حين أنّ كلمة (إنسان) ذكرت مع صفات مثل : ظلوم ، جهول ، هلوع ، ضعيف ، طاغي ، وما شابهها من الأوصاف. وهذا يدل على أن بني آدم صفة للإنسان المتربي ، أو على الأقل الذي له استعدادات إيجابية (إن افتخار آدم وتفضيله على الملائكة يؤيد هذا المعنى لبني آدم). في حين أنّ كلمة (إنسان) وردت بشكل مطلق ، وأحيانا تشير إلى الصفات السلبية.

لذا فإنّ الآيات التي نبحثها استخدمت كلمة (بني آدم) لأنّ الحديث فيها هو عن الكرامة وأفضلية الإنسان. (هناك بحث مفصل حول معنى الإنسان في القرآن الكريم يمكن مراجعته في تفسيرنا هذا ذيل الآية ١١ من سورة يونس).

__________________

(١) مجمع البيان عند تفسير الآية.

(٢) المصدر السّابق.

٦٩

٣ ـ دور القيادة في الإسلام

في الحديث المعروف عن الإمام محمّد بن علي الباقرعليهما‌السلام ينقل أنّه عند ما كان يتحدث عن الأركان الأساسية في الإسلام ذكر (الولاية) كخامس وأهم ركن ، في حين الصلاة التي توضح العلاقة بين الخالق والخلق ، والصيام الذي هو رمز محاربة الشهوات ، والزكاة التي تحدّد العلاقة بين الخلق والخالق ، والحج الذي يكشف الجانب الاجتماعي في الإسلام ، اعتبرت الأركان الأربعة الأساسية الأخرى. ثمّ يضيف الإمام الباقرعليه‌السلام «ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية» لماذا؟ لأنّ تنفيد الأركان الأخرى لن يتحقق إلّا في ظل هذا الأصل ، أي في ظل الولاية(١) .

ولهذا السبب بالذات روي عن الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله «من مات بغير إمام مات ميتة الجاهلية»(٢) .

التأريخ يشهد أنّ بعض الأمم تكون في الصف الأوّل بين دول العالم وأممه بسبب قيادتها العظيمة والكفوءة ، ولكن نفس الأمّة تنهار وتسقط في الهاوية ، برغم امتلاكها لنفس القوى البشرية والمصادر الأخرى ، إذا كانت قيادتها ضعيفة وغير كفوءة.

ثمّ ألم يكن عرب الجاهلية غارقين في جهلهم وفسادهم وذلتهم وانحطاطهم ، وكانوا نهشة الآكل ، بسبب عدم امتلاكهم لقائد كفوء ، ولكن ما إن ظهرت القيادة الإلهية الرّبانية المتمثلة بالهادي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى سلك نفس القوم طريق العظمة والتكامل بسرعة كبيرة بحيث أدهش العالم ، وهذا يكشف عن دور القائد في ذلك الزمان وهذا الزمان وفي كل زمان.

__________________

(١) قال الباقرعليه‌السلام «بني الإسلام على خمس ، على الصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والحج ، والولاية ، ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية» عن أصول الكافي ، ج ٢ ، ص ١٥.

(٢) عن نور الثقلين ، المجلد الثّالث ، صفحة ١٩٤ ، وكذلك مصادر أخرى.

٧٠

طبعا لقد جعل الله للبشرية قائدا لإنقاذ وهداية البشر في كل عصر وزمان ، حيث تقتضي حكمته أن لا تطبّق السعادة إلّا مع وجود ضامن تنفيذي لها. والمهم أن تتعرف المجتمعات على قيادتها وأن لا يقعوا في شباك القادة الضالين والفاسدين ، حيث تكون النجاة من مخالبهم أمرا صعبا للغاية.

وهذه هي فلسفة عقيدة الشيعة بضرورة وجود إمام معصوم في كل زمان ، كما يقول الإمام عليعليه‌السلام : «اللهم بلى لا تخلوا الأرض من قائم لله بحجّة ، إمّا ظاهرا مشهورا وإمّا خائفا مغمورا ، لئلا تبطل حجج الله وبيناته»(١) .

وهناك بحث في نهاية الآية (١٢٤) من سورة البقرة ، حول معنى الإمامة وأهميتها في دنيا الإنسان.

٤ ـ عميان القلوب

في القرآن الكريم تعابير لطيفة في وصف المشركين والظالمين ، حيث يصفهم هنا ب (الأعمى) وهذا الوصف كناية عن الحقيقة التي تقول بأنّ الحق يكون واضحا دوما وفي متناول البصر إذا كانت هناك عين بصيرة تنظر ، العين التي تشاهد آيات الله في هذا العالم الواسع ، العين التي تعتبر الدروس المكتوبة على صفحات التأريخ ؛ العين التي تشاهد عاقبة الظالمين والمستكبرين ، العين التي تنظر الحق دون غيره.

أمّا عند ما تكون هناك ستائر وحجب الجهل والغرور والتعصّب والعناد والشهوة أمام هذه العين ، فإنّها لا تستطيع مشاهدة جمال الحق بالرغم من أنّه غير محجوب بستار.

وفي حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام في تفسير الآية نقرأ : «من لم يدله خلق السماوات والأرض ، واختلاف الليل والنهار ، ودوران الفلك والشمس والقمر

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ١٤٧.

٧١

والآيات العجيبات ، على أن وراء ذلك أمر أعظم منه ، فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا»(١) .

وجاء في روايات مختلفة في تفسير هذه الآية أنّها تعني الشخص الذي يكون مستطيعا للحج ولكنّه لا يؤديه حتى نهاية عمره(٢) .

وبدون شك فإنّ هذا المعنى هو أحد مصاديق الآية وليس كلّها. وقد يكون ذكر هذا المصداق والتأكيد عليه من زاوية دفع المسلمين للمشاركة فيه لمشاهدة هذا الاجتماع الإسلامي العظيم ، بما يحويه من أسرار عبادية ومصالح سياسية تتجلى لعين الإنسان يحضر الموسم ، ويتعلم الحقائق الكثيرة والمتعدّدة منه.

وفي روايات أخرى ورد أنّ «شرّ العمى عمى القلب»(٣) .

على أي حال ـ كما قلنا سابقا ـ فإنّ عالم القيامة ، هو انعكاس لهذا العالم في كل ما يحويه وجودنا من أفكار ومواقف ومشاعر وأعمال. لذلك نقرأ في الآيات ١٢٤ ـ ١٢٦ من سورة طه ، قوله تعالى :( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً. قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى ) .

* * *

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ١٩٦.

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ١٩٦ ـ ١٩٧.

(٣) المصدر السابق.

٧٢

الآيات

( وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (٧٣) وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (٧٥) )

سبب النّزول

لقد ذكرت أسباب مختلفة لنزول هذه الآيات ، إلّا أنّ بعض هذه الأسباب لا يتلائم مع تأريخ النّزول ، وبما أن أسباب النّزول هذه قد أفاد منها بعض المنحرفين لأغراض خاصّة ، لذلك سوف نقوم هنا بذكرها جميعا :

ذكر العلّامة الطبرسي في (مجمع البيان) خمسة آراء في هذا المجال ، وهي :

الرأي الأوّل : قالت قريش للرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا ندعك تلمس الحجر الأسود حتى تحترم آلهتنا ، وقال الرّسول في قلبه : إنّ الله يعلم نفرتي من أصنامهم وإنكاري لها ، فما المانع من أن أنظر إلى هذه الآلة باحترام ظاهرا حتى يسمحوا لي باستلام الحجر الأسود. وهنا أنزل الله تبارك وتعالى الآيات أعلاه التي نهت الرّسول عن هذا الأمر.

٧٣

الرأي الثّاني : اقترحت قريش على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يترك الاستهانة بآلهتهم والاستخفاف بعقولهم ، وأن يبعد عنه العبيد من أصحابه وذوي الأصول المتواضعة ، والرائحة الكريهة ، لكي تحضر قريش مجلسهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويستمعون إليه ، فطمع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في إسلامهم ، فنزلت الآيات أعلاه تحذّر من هذا الأمر.

الرأي الثّالث : عند ما حطّم الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأصنام التي كانت موجودة في المسجد الحرام ، اقترحت قريش عليه أن يبقي الصنم الموضوع على جبل المروة قرب بيت الله ، فوافق الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في البداية على هذه الاقتراح لكي يحقق من خلاله بعض مصالح الدعوة ، إلّا أنّه بعد ذلك عدل عن هذا الأمر وأعطى أوامرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتحطيم هذا الصنم ، وعند ما نزلت الآيات أعلاه.

الرأي الرّابع : إنّ مجموعة من قبيلة (ثقيف) وفدت على النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعرضت عليه ثلاثة شروط لمبايعته ، وكان شرطهم ، الأوّل : أن لا يركعوا ولا يسجدوا عند الصلاة ، وثانيا : أن لا يحطموا أصنامهم بأيديهم بل يقوم الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك. أمّا الشرط الثّالث : فقد طلبوا فيه من رسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يسمح لهم ببقاء صنم (اللات) بينهم لمدّة سنة.

وقد أجابهم الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن لا فائدة في دين لا ركوع ولا سجود فيه ، وأمّا تحطيم الأصنام فإذا كنتم ترغبون في القيام بذلك فافعلوا ، وإلّا فنحن نقوم به ، أمّا الاستمرار في عبادة اللات لسنة أخرى ، فلا أسمح بذلك.

بعد ذلك قام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتوضأ ، فالتفت عمر بن الخطاب وقال : ما بالكم آذيتم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّه لا يدع الأصنام في أرض العرب. إلّا أنّ ثقيف أصرّت على مطالبها ، حتى نزلت الآيات الآنفة.

الرأي الخامس : إنّ وفد ثقيف طلب من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يمهلهم سنة حتى يستلموا الهدايا المرسلة إلى الأصنام ، وبعد ذلك يكسرون الأصنام ويسلمون ، فهمّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإمهالهم وإجابتهم إلى ما أرادوا لو لا نزول الآيات أعلاه التي نهت عن إجابة طلبهم بشدّة.

٧٤

وهناك أسباب أخرى للنزول تشبه الآراء التي ذكرناها.

أقول : لا حاجة لبيان ضعف هذه الآراء إذ أنّ بطلان أكثر هذه الآراء كامن فيها ، لأنّ مجيء وفود القبائل إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطلباتهم وتحطيم الأصنام ، كل هذه الأمور إنّما تمّت بعد فتح مكّة في العام الثّامن للهجرة ، في حين أنّ هذه السورة نزلت قبل هجرة الرّسول ، وفي وقت لم يكن فيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمتلك القدرة الظاهرية التي تفرض على المشركين التواضع لمقامه ، وسوف نقوم بتوضيح أكثر لا حقّا.

* * *

التّفسير

بما أنّ الآيات السابقة كانت تبحث حول الشرك والمشركين ، لذا فإنّ الآيات التي نبحثها تحذّر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من وساوس وإغواءات هذه المجموعة ، حيث لا يجوز أن يبدي أدنى ضعف في محاربة الشرك وعبادة الأصنام ، بل يجب الاستمرار بصلابة أكبر.

في البداية تقول الآية أنّ وساوس المشركين كادت أن تؤثر فيك :( وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً ) .

ثمّ بعد ذلك تضيف أنّه لو لا نور العصمة وأنّ الله تعالى ثبّتك على الحق :( وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ) .

وأخيرا لو أنّك ركنت إليهم فسوف يكون جزاءك ضعف عذاب المشركين في الحياة الدنيا ، وضعف عذابهم في الآخرة :( إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً ) .

* * *

٧٥

بحوث

١ ـ هل أبدى الرّسول ليونة إزاء المشركين؟

بالرغم من أنّ بعض السطحيين أرادوا الاستفادة من هذه الآيات لنفي العصمة عن الأنبياء ، وقالوا أنّه طبقا للآيات أعلاه وأسباب النّزول المرتبطة بها إنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أبدى ليونة إزاء عبدة الأصنام ، وأنّ الله عاتبه على ذلك. إلّا أنّ هذه الآيات صريحة في افهام مقصودها بحيث لا تحتاج إلى شواهد أخرى على بطلان هذا النوع من التفكير ، لأنّ الآية الثّانية تقول وبصراحة :( وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ) . ومفهوم التثبيت الإلهي (والذي نعتبره بأنّه العصمة) أنّه منع رسولاللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من التوجه إلى مزالق عبدة الأصنام ، ولا يعني ظاهر الآية ـ في حال ـ أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مال إلى المشركين ، ثمّ نهي عن ذلك بوحي من الله تعالى.

وتوضيح ذلك ، إن الآية الأولى والثّانية هما في الحقيقة إشارة إلى حالتين مختلفتين للرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الحالة الأولى هي الحالة البشرية والإنسانية والتي تجلّت بشكل واضح في الآية الأولى ، وبمقتضى هذه الحالة يمكن تأثير وساوس الأعداء في الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصّة إذا كانت ثمّة مرجحات في إظهار الليونة والتوجّه إليهم ، من قبيل رغبتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أن يسلم زعماء الشرك بعد إظهار الليونة ، أو أن يمنع بذلك سفك الدماء ، والآية تكشف عن احتمال وقوع الإنسان العادي ومهما كان قويا تحت تأثير الأعداء.

أمّا الآية الثّانية فهي ذات طبيعة معنوية ، إذ هي تبيّن العصمة الإلهية ولطفه الخاص سبحانه وتعالى الذي يشمل به الأنبياء خصوصا نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينما يمر بمنعطفات ومزالق دقيقة.

والنتيجة أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالطبع البشري قد وصل إلى حافة القبول ببعض وساوس الأعداء ، إلّا أن التأييد الإلهي (العصمة) ثبته وحفظه وأنقذه من الانزلاق.

٧٦

وهذا التعبير نفسه نقرأه في سورة يوسف حيث جاء البرهان الإلهي في أدق اللحظات وأخطرها ، في مقابل الإغواء الخطير وغير الاعتيادي لامرأة العزيز ، حيث قوله تعالى في الآية (٢٤) من سورة يوسف :( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ ، كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) .

وفي اعتقادنا أنّ الآيات أعلاه ليست لا تصلح أن تكون دليلا على نفي العصمة وحسب ، بل هي واحدة من الآيات التي تدل على العصمة ، لأنّ التثبيت الإلهي هذا (والذي هو كناية عن العصمة أو التثبيت أو التثبيت الفكري والعاطفي والسلوكي) لا يخص فقط هذه الحالة ، وهذا الموقف ، بل هو يشمل الحالات المشابهة الأخرى ، وعلى هذا الأساس تعتبر الآية شاهدا على عصمة الأنبياء والقادة الإلهيين.

أمّا الآية الثالثة التي نبحثها والتي تقول :( إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً ) فهي دليل على صحة البحوث الخاصّة بعصمة الأنبياء ، حيث أنّ العصمة ليست حالة جبرية يلتزم فيها النّبي بلا ارادة منه أو وعي ، وإنّما هي توأم مع نوع من الوعي الذاتي والتي تنفذ مع الحرية ، لذا فإنّ ارتكاب ذنب في مثل هذه الحالات ليس محالا عقلا ، ولكن هذا الإيمان والوعي الخاص سوف يمنعان صدور الذنب ، فلا تتحقق المعصية عملا ، ولو فرضنا تحققها في الخارج فإنّه سينال عقوبات الجزاء الإلهي (دقق في ذلك)(١) .

٢ ـ لماذا العذاب المضاعف؟

من الواضح أنّه كلما زاد مقام الإنسان من حيث العلم والوعي والمعرفة والإيمان ، ازدادت قيمة وعمق الأعمال الخيرة التي يقوم بها ، وبدرجة نسبة

__________________

(١) يمكن ملاحظة المزيد من التفاصيل عن الموضوع في كتاب (القادة الكبار).

٧٧

الوعي العلم والمعرفة ، وطبعا سيكون ثوابها أكثر ، لذا فإنّنا نقرأ في بعض الرّوايات : (إنّ الثواب على قدر العقل)(١) .

أمّا الثواب والعقاب فسوف يزداد تبعا لهذه النسبة ، فإذا ارتكب إنسان أمّي وضعيف الإيمان ذنبا كبيرا ، فهذا ليس بالأمر العجيب ، ولهذا السبب سيكون جزاؤه أخف ، أمّا إذا قام عالم مؤمن بارتكاب ذنب صغير فإنّ جزاءه في مقابل ذلك سيكون أشد من جزاء الأمي في قبال ذنبه الكبير.

لهذا السبب بالذات نقرأ في الآيتين (٣٠ ـ ٣١) من سورة الأحزاب خطابا بهذا المضمون إلى نساء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يقول تعالى :( يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً ) .

وفي الرّوايات نقرأ هذا المفهوم : «يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد»(٢) .

هذه الآيات تشير إلى هذه الحقيقة ، فهي تقول للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا أظهرت ميلا (وحاشاه) نحو الشرك والمشركين فإنّ عقابك سيتضاعف في هذه الدنيا وفي الآخرة.

٣ ـ معنى (الضعف)

يجب الانتباه إلى هذه الملاحظة ، وهي أن كلمة (ضعف) في اللغة العربية ليس المقصود بها مرّتين فقط ، بل مرّتان وعدّة مرّات أيضا.

يقول الفيروزآبادي ، (العالم اللغوي المعروف في القرن الثّامن الهجري) في

__________________

(١) أصول الكافي ، ج ١ ، كتاب العقل والجهل ، ص ٩ ، حديث ٨.

(٢) أصول الكافي ، ج ١ ، ص ٣٧.

٧٨

القاموس : يقال في بعض الأحيان «ضعف شيء معين» وهي تعني المرّتين والثلاث مرّات وما شابهها ، لأنّ هذه الكلمة تعني الإضافة غير المحدودة.

الدليل على هذا القول ، أنّ الآيات القرآنية ـ وفي خصوص الحسنات ـ تقول:( إِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها ) (١) وفي موقع آخر تقول :( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ) (٢) .

وفي الرّوايات الإسلامية ورد عن الإمام جعفر الصّادقعليه‌السلام قوله في تفسير الآية (٢٦١) من سورة البقرة : «إذا أحسن المؤمن عمله ضاعف الله عمله بكل حسنة سبعمائة ضعف ، وذلك قول الله( وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ ) (٣) .

ولكن هذا الكلام لا يمنع من أن تطلق هذه الكلمة على «التثنية» بمعنى الضعفين. أو عند ما تذكر على شكل مضاف فإنّها تعني ثلاثة أضعاف مثلا نقول : ضعف الواحد.

٤ ـ تفسير جملة( إِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً )

المشهور بين المفسّرين أنّ القرآن يعني بالآية هذه أنّك إذا أظهرت توجها للمشركين فسوف يعتبرونك صديقا لهم. إلّا أنّ بعض المفسّرين يعتبر أنّ معنى الجملة ، أن المشركين سيعتبرونك ـ يا رسول الله ـ فقيرا لهم ومحتاجا إليهم. إذ في المعنى الأوّل (خليل) مأخوذة من (خلّة) على وزن (قلّة) وتعني الصداقة. أمّا في المعنى الثّاني فإنّ (خلّة) على وزن (غلّة) وتعني العوز والفقر والحاجة. لكن من الواضح أنّ الصحيح هو المعنى الأوّل.

__________________

(١) النساء ، ٤٠.

(٢) الأنعام ، ١٦٠.

(٣) تفسير العياشي وفقا لما نقله صاحب الميزان ، ج ٢ ، ص ٤٢٤.

٧٩

٥ ـ إلهي لا تكلني إلى نفسي

في المصادر الإسلامية نقرأ أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما نزلت هذه الآيات قرأ هذا الدعاء «اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا».

وهذا الدعاء المهم لرسول الهدىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعطينا درسا مهمّا ، وهو أنّه يجب أن نذكر الله دائما ونلتجئ إليه ، ونعتمد على لطفه ، حيث أنّ الأنبياء المعصومين لم يسلموا من المزالق بدون نصرة الله وتثبيته لهم ، إذن فكيف بنا نحن مع كل ما يحيطنا من أشكال الوسوسة والإغواء الشيطاني!!

* * *

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

مجرى واحداً يدلّ الكتاب العزيز على ثبوتها دلالة لا مدفع لها إلّا ما تكلّفه بعض الناس من التأويل تحذّراً من لزوم خرق العادة و تعطّل قانون العلّيّة العامّ، و قد مرّ في الجزء الأوّل من هذا الكتاب استيفاء البحث عن الإعجاز و خرق العادة.

و بعد ذلك كلّه فالآية التالية لا تخلو عن إشعار أو دلالة على حياتهعليه‌السلام و عدم توفيه بعد.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) .( إِنْ ) نافية و المبتدأ محذوف يدلّ عليه الكلام في سياق النفي، و التقدير: و إن أحد من أهل الكتاب إلّا ليؤمننّ، و الضمير في قوله:( بِهِ ) و قوله:( يَكُونُ ) راجع إلى عيسى، و أمّا الضمير في قوله( قَبْلَ مَوْتِهِ ) ففيه خلاف.

فقد قال بعضهم: إنّ الضمير راجع إلى المقدّر من المبتدأ و هو أحد، و المعنى: و كلّ واحد من أهل الكتاب يؤمن قبل موته بعيسى أي يظهر له قبيل الموت عند الاحتضار أنّ عيسى كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و عبده حقّاً و إن كان هذا الإيمان منه إيماناً لا ينتفع به، و يكون عيسى شهيداً عليهم جميعاً يوم القيامة سواء آمنوا به إيماناً ينتفع به أو إيماناً لا ينتفع به كمن آمن به عند موته.

و يؤيّده أنّ إرجاع ضمير:( قَبْلَ مَوْتِهِ ) إلى عيسى يعود إلى ما ورد في بعض الأخبار أنّ عيسى حيّ لم يمت، و أنّه ينزل في آخر الزمان فيؤمن به أهل الكتاب من اليهود و النصارى، و هذا يوجب تخصيص عموم قوله:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ) من غير مخصّص، فإنّ مقتضى الآية على هذا التقدير أن يكون يؤمن بعيسى عند ذلك النزول من السماء الموجودون من أهل الكتاب دون المجموع منهم، ممّن وقع بين رفع عيسى و نزوله فمات و لم يدرك زمان نزوله، فهذا تخصيص لعموم الآية من غير مخصّص ظاهر.

و قد قال آخرون: إنّ الضمير راجع إلى عيسىعليه‌السلام و المراد به إيمانهم به عند نزوله في آخر الزمان من السماء، استناداً إلى الرواية كما سمعت.

هذا ما ذكروه، و الّذي ينبغي التدبّر و الإمعان فيه هو أنّ وقوع قوله:( وَ يَوْمَ

١٤١

الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) في سياق قوله:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) ظاهر في أنّ عيسى شهيد على جميعهم يوم القيامة كما أنّ جميعهم يؤمنون به قبل الموت، و قد حكى سبحانه قول عيسى في خصوص هذه الشهادة على وجه خاصّ، فقال عنه:( وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَ أَنْتَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ ) (المائدة: ١١٧).

فقصّرعليه‌السلام شهادته في أيّام حياته فيهم قبل توفّيه، و هذه الآية أعني قوله:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ) إلخ تدلّ على شهادته على جميع من يؤمن به فلو كان المؤمن به هو الجميع كان لازمه أن لا يتوفّى إلّا بعد الجميع، و هذا ينتج المعنى الثاني، و هو كونهعليه‌السلام حيّاً بعد، و يعود إليهم ثانياً حتّى يؤمنوا به. نهاية الأمر أن يقال: إنّ من لا يدرك منهم رجوعه إليهم ثانياً يؤمن به عند موته، و من أدرك ذلك آمن به إيماناً اضطراراً أو اختياراً.

على أنّ الأنسب بوقوع هذه الآية:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ ) فيما وقع فيه من السياق أعني بعد قوله تعالى:( وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ - إلى أن قال -بَلْ رَفَعَهُ الله إِلَيْهِ وَ كانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً ) أن تكون الآية في مقام بيان أنّه لم يمت و أنّه حيّ بعد إذ لا يتعلّق ببيان إيمانهم الاضطراريّ و شهادته عليهم في غير هذه الصورة غرض ظاهر.

فهذا الّذي ذكرناه يؤيّد كون المراد بإيمانهم به قبل الموت إيمانهم جميعاً به قبل موتهعليه‌السلام .

لكنّ ههنا آيات اُخر لا تخلو من إشعار بخلاف ذلك كقوله تعالى:( إِذْ قالَ الله يا عِيسى‏ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ جاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ ) (آل عمران: ٥٥) حيث يدلّ على أنّ من الكافرين بعيسى من هو باق إلى يوم القيامة، و كقوله تعالى:( وَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ) حيث إنّ ظاهره أنّه نقمة مكتوبة عليهم، فلا يؤمن مجتمعهم بما هو مجتمع اليهود أو مجتمع أهل الكتاب إلى يوم القيامة.

بل ظاهر ذيل قوله:( وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ

١٤٢

الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ) حيث إنّ ذيله يدلّ على أنّهم باقون بعد توفّي عيسىعليه‌السلام .

لكنّ الإنصاف أنّ الآيات لا تنافي ما مرّ فإنّ قوله:( وَ جاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ ) لا يدلّ على بقائهم إلى يوم القيامة على نعت أنّهم أهل الكتاب.

و كذا قوله تعالى:( بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ ) (الآية) إنّما يدلّ على أنّ الإيمان لا يستوعبهم جميعاً، و لو آمنوا في حين من الأحيان شمل الإيمان منهم قليلاً من كثير. على أنّ قوله:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) لو دلّ على إيمانهم به قبل موته فإنّما يدلّ على أصل الإيمان، و أمّا كونه إيماناً مقبولاً غير اضطراريّ فلا دلالة له على ذلك.

و كذا قوله:( فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ) (الآية) مرجع الضمير فيه إنّما هو الناس دون أهل الكتاب أو النصارى بدليل قوله تعالى في صدر الكلام:( وَ إِذْ قالَ الله يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ الله ) الآية: (المائدة: ١١٦)، و يدلّ على ذلك أيضاً أنّهعليه‌السلام من اُولي العزم من الرسل مبعوث إلى الناس كافّة، و شهادته على أعمالهم تعمّ بني إسرائيل و المؤمنين به و غيرهم.

و بالجملة، الّذي يفيده التدبّر في سياق الآيات و ما ينضمّ إليها من الآيات المربوطة بها هو أنّ عيسىعليه‌السلام لم يتوفّ بقتل أو صلب و لا بالموت حتف الأنف على نحو ما نعرفه من مصداقه - كما تقدّمت الإشارة إليه - و قد تكلّمنا بما تيسّر لنا من الكلام في قوله تعالى:( يا عِيسى‏ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ ) (آل عمران: ٥٥) في الجزء الثالث من هذا الكتاب.

و من غريب الكلام في هذا الباب ما ذكره الزمخشريّ في الكشّاف: أنّه يجوز أن يراد أنّه لا يبقى أحد من جميع أهل الكتاب إلّا ليؤمننّ به على أنّ الله يحييهم في قبورهم في ذلك الزمان، و يعلمهم نزوله، و ما اُنزل له، و يؤمنون به حين لا ينفعهم إيمانهم، و هذا قول بالرجعة.

و في معنى الآية بعض وجوه رديئة اُخرى:

١٤٣

منها: ما يظهر من الزجّاج أنّ ضمير قوله:( قَبْلَ مَوْتِهِ ) يرجع إلى الكتابيّ و أنّ معنى قوله:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) أنّ جميعهم يقولون: إنّ عيسى الّذي يظهر في آخر الزمان نحن نؤمن به.

و هذا معنى سخيف فإنّ الآيات مسوقة لبيان دعواهم قتل عيسىعليه‌السلام و صلبه و الردّ عليهم دون كفرهم به و لا يرتبط ذلك باعترافهم بظهور مسيح في آخر الزمان يحيي أمر شعب إسرائيل حتّى يذيّل به الكلام.

على أنّه لو كان المراد به ذلك لم يكن حاجة إلى ذكر قوله:( قَبْلَ مَوْتِهِ ) لارتفاع الحاجة بدونه، و كذا قوله( وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) لأنّه على هذا التقدير فضل من الكلام لا حاجة إليه.

و منها: ما ذكره بعضهم أنّ المراد بالآية: و إن من أهل الكتاب إلّا ليؤمننّ بمحمّد قبل موت ذلك الكتابيّ.

و هذا في السخافة كسابقه فإنّه لم يجر لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكر في سابق الكلام حتّى يعود إليه الضمير. و لا أنّ المقام يدلّ على ذلك، فهو قول من غير دليل. نعم، ورد هذا المعنى في بعض الروايات ممّا سيمرّ بك في البحث الروائيّ التالي لكن ذلك من باب الجري كما سنشير إليه و هذا أمر كثير الوقوع في الروايات كما لا يخفى على من تتبّع فيها.

قوله تعالى: ( فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ) الفاء للتفريع، و قد نكّر لفظ الظلم و كأنّه للدلالة على تفخيم أمره أو للإبهام، إذ لا يتعلّق على تشخيصه غرض مهمّ و هو بدل ممّا تقدّم ذكره من فجائعهم غير أنّه ليس بدل الكلّ من الكلّ كما ربّما قيل، بل بدل البعض من الكلّ، فإنّه تعالى جعل هذا الظلم منهم سبباً لتحريم الطيّبات عليهم، و لم تحرّم عليهم إلّا في شريعة موسى المنزلة في التوراة، و بها تختتم شريعة موسى، و قد ذكر فيما ذكر من فجائعهم و مظالمهم اُمور جرت و وقعت بعد ذلك كالبهتان على مريم و غير ذلك.

فالمراد بالظلم بعض ما ذكر من مظالمهم الفجيعة فهو السبب لتحريم ما حرّم

١٤٤

عليهم من الطيّبات بعد إحلالها.

ثمّ ضمّ إلى ذلك قوله:( وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ الله كَثِيراً ) و هو إعراضهم المتكرّر عن سبيل الله:( وَ أَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ وَ أَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ ) .

قوله تعالى: ( وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً ) معطوف على قوله:( حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ ) فقد استوجبوا بمظالمهم من الله جزاءين: جزاء دنيويّ عامّ و هو تحريم الطيّبات، و جزاء أخرويّ خاصّ بالكافرين منهم و هو العذاب الأليم.

قوله تعالى: ( لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَ الْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ) استثناء و استدراك من أهل الكتاب، و( الرَّاسِخُونَ ) و ما عطف عليه مبتدء و( يُؤْمِنُونَ ) خبره، و قوله:( مِنْهُمْ ) متعلّق بالراسخون و( مِنْ ) فيه تبعيضيّة.

و الظاهر أنّ( الْمُؤْمِنُونَ ) يشارك( الرَّاسِخُونَ ) في تعلّق قوله:( مِنْهُمْ ) به معنىّ و المعنى: لكن الراسخون في العلم و المؤمنون بالحقيقة من أهل الكتاب يؤمنون بك و بما اُنزل من قبلك، و يؤيّده التعليل الآتي في قوله:( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى‏ نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ) إلخ، فإنّ ظاهر الآية كما سيأتي بيان أنّهم آمنوا بك لمّا وجدوا أنّ نبوّتك و الوحي الّذي أكرمناك به يماثل الوحي الّذي جاءهم به الماضون السابقون من أنبياء الله: نوح و النبيّون من بعده، و الأنبياء من آل إبراهيم، و آل يعقوب، و آخرون ممّن لم نقصصهم عليك من غير فرق.

و هذا المعنى - كما ترى - أنسب بالمؤمنين من أهل الكتاب أن يوصفوا به دون المؤمنين من العرب الّذين وصفهم الله سبحانه بقوله:( لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ ) (يس: ٦).

و قوله:( وَ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ ) معطوف على( الرَّاسِخُونَ ) و منصوب على المدح، و مثله في العطف قوله:( وَ الْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ ) و قوله:( وَ الْمُؤْمِنُونَ بِالله وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ) مبتدء خبره قوله:( أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً ) و لو كان قوله:( وَ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ ) مرفوعاً كما نقل عن مصحف ابن مسعود كان هو و ما عطف عليه مبتدءً خبره قوله:( أُولئِكَ ) .

١٤٥

قال في المجمع: اختلف في نصب المقيمين فذهب سيبويه و البصريّون إلى أنّه نصب على المدح على تقدير أعني المقيمين الصلاة، قالوا: إذا قلت، مررت بزيد الكريم و أنت تريد أن تعرّف زيداً الكريم من زيد غير الكريم فالوجه الجرّ، و إذا أردت المدح و الثناء فإن شئت نصبت و قلت: مررت بزيد الكريم كأنّك قلت: أذكر الكريم، و إن شئت رفعت فقلت: الكريم، على تقدير هو الكريم.

و قال الكسائيّ، موضع المقيمين جرّ، و هو معطوف( على ) ما من قوله:( بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ) أي و بالمقيمين الصلاة.

و قال قوم: إنّه معطوف على الهاء و الميم من قوله( مِنْهُمْ ) على معنى: لكن الراسخون في العلم منهم و من المقيمين الصلاة، و قال آخرون: إنّه معطوف على الكاف من( قَبْلِكَ ) أي ممّا أنزل من قبلك و من قبل المقيمين الصلاة.

و قيل: إنّه معطوف على الكاف في( إِلَيْكَ ) أو الكاف في قبلك. و هذه الأقوال الأخيرة لا تجوز عند البصريّين لأنّه لا يعطف بالظاهر على الضمير المجرور من غير إعادة الجارّ.

قال: و أمّا ما روي عن عروة عن عائشة قال: سألتها عن قوله:( وَ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ ) و عن قوله:( وَ الصَّابِئِينَ ) و عن قوله:( إِنْ هذانِ ) فقالت: يا ابن اُختي هذا عمل الكتاب أخطؤا في الكتاب، و ما روي عن بعضهم: أنّ في كتاب الله أشياء ستصلحها العرب بألسنتها، قالوا: و في مصحف ابن مسعود:( و المقيمون الصلاة) فممّا لا يلتفت إليه لأنّه لو كان كذلك لم يكن ليعلّمه الصحابة الناس على الغلط و هم القدوة و الّذين أخذوه عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (انتهى).

و بالجملة قوله:( لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) استثناء من أهل الكتاب من حيث لازم سؤالهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ينزّل عليهم كتاباً من السماء كما تقدّم أنّ لازم سؤالهم ذلك أن لا يكفي ما جاءهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الكتاب و الحكمة المصدّقين لما اُنزل من قبله من آيات الله على أنبيائه و رسله، في دعوتهم إلى الحقّ و إثباته، مع أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يأتهم إلّا مثل ما أتاهم به من قبله من الأنبياء، و لم يعش فيهم و لم يعاشرهم إلّا بما عاشوا به و عاشروا به كما قال

١٤٦

تعالى:( قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ ) (الأحقاف: ٩) و قال تعالى:( وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ وَ ما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَ ما كانُوا خالِدِينَ - إلى أن قال -لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَ فَلا تَعْقِلُونَ ) (الأنبياء: ١٠).

فذكر الله سبحانه في فصل من القول: إنّ هؤلاء السائلين و هم أهل الكتاب ليست عندهم سجيّة اتّباع الحقّ و لا ثبات و لا عزم و لا رأي، و كم من آية بيّنة ظلموها، و دعوة حقّ صدّوا عنها، إلّا أنّ الراسخين في العلم منهم لمّا كان عندهم ثبات على علمهم و ما وضح من الحقّ لديهم، و كذا المؤمنون حقيقة منهم لمّا كان عندهم سجيّة اتّباع الحقّ يؤمنون بما اُنزل إليك و ما اُنزل من قبلك لمّا وجدوا أنّ الّذي نزّل إليك من الوحي يماثل ما نزّل من قبلك على سائر النبيّين: نوح و من بعده.

و من هنا يظهر (أوّلاً) وجه توصيف من اتّبع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أهل الكتاب بالراسخين في العلم و المؤمنين، فإنّ الآيات السابقة تقصّ عنهم أنّهم غير راسخين فيما علموا غير مستقرّين على شي‏ء من الحقّ و إن استوثق منهم بأغلظ المواثيق، و أنّهم غير مؤمنين بآيات الله صادّون عنها و إن جاءتهم البيّنات، فهؤلاء الّذين استثناهم الله راسخون في العلم أو مؤمنون حقيقة.

و (ثانياً) وجه ذكر ما اُنزل قبلاً مع القرآن في قوله:( يؤمنون بما اُنزل إليك و ما اُنزل من قبلك ) لأنّ المقام مقام نفي الفرق بين القبيلين.

و (ثالثاً) أنّ قوله في الآية التالية:( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا ) إلخ في مقام التعليل لإيمان هؤلاء المستثنين.

قوله تعالى: ( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى‏ نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ) في مقام التعليل لقوله:( يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ) كما عرفت آنفاً. و محصّل المعنى - و الله أعلم - أنّهم آمنوا بما اُنزل إليك لأنّا لم نؤتك أمراً مبتدعاً يختصّ من الدعاوي و الجهات بما لا يوجد عند غيرك من الأنبياء السابقين، بل الأمر على نهج واحد لا اختلاف فيه، فإنّا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح و النبيّين من بعده، و نوح أوّل نبيّ

١٤٧

جاء بكتاب و شريعة، و كما أوحينا إلى إبراهيم و من بعده من آله، و هم يعرفونهم و يعرفون كيفيّة بعثتهم و دعوتهم، فمنهم من اُوتي بكتاب كداود اُوتي زبوراً و هو وحي نبويّ، و موسى اُوتي التكليم و هو وحي نبويّ، و غيرهما كإسماعيل و إسحاق و يعقوب اُرسلوا بغير كتاب، و ذلك أيضاً عن وحي نبويّ.

و يجمع الجميع أنّهم رسل مبشّرون بثواب الله منذرون بعذابه، أرسلهم الله لإتمام الحجّة على الناس ببيان ما ينفعهم و ما يضرّهم في اُخراهم و دنياهم لئلّا يكون للناس على الله حجّة بعد الرسل.

قوله تعالى: ( وَ الْأَسْباطِ) تقدّم في قوله تعالى:( وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ ) (آل عمران: ٨٤) أنّهم أنبياء من ذرّيّة يعقوب أو من أسباط بني إسرائيل.

قوله تعالى: ( وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً ) قيل إنّه بمعنى المكتوب من قولهم: زبره أي كتبه فالزبور بمعنى المزبور.

قوله تعالى: ( رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ ) أحوال ثلاثة أو الأوّل حال و الأخيران وصفان له. و قد تقدّم استيفاء البحث عن معنى إرسال الرسل و تمام الحجّة من الله على الناس، و أنّ العقل لا يغني وحده عن بعثة الأنبياء بالشرائع الإلهيّة في الكلام على قوله تعالى:( كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً ) (سورة البقرة: ٢١٣) في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

قوله تعالى: ( وَ كانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً ) و إذا كانت له العزّة المطلقة و الحكمة المطلقة استحال أن يغلبه أحد بحجّة بل له الحجّة البالغة، قال تعالى:( قُلْ فَلله الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ ) (الأنعام: ١٤٩).

قوله تعالى: ( لكِنِ الله يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَ الْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ ) ، استدراك آخر في معنى الاستثناء المنقطع من الردّ المتعلّق بسؤالهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تنزيل كتاب إليهم من السماء، فإنّ الّذي ذكر الله تعالى في ردّ سؤالهم بقوله:( فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى‏ أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ ) (إلى آخر الآيات) لازم معناه أنّ سؤالهم مردود إليهم، لأنّ ما جاء به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بوحي من ربّه لا يغاير نوعاً ما جاء به سائر النبيّين من

١٤٨

الوحي، فمن ادّعى أنّه مؤمن بما جاؤا به فعليه أن يؤمن بما جاء به من غير فرق.

ثمّ استدرك عنه بأنّ الله مع ذلك يشهد بما أنزل على نبيّه و الملائكة يشهدون و كفى بالله شهيداً.

و متن شهادته قوله:( أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ) فإنّ مجرّد النزول لا يكفي في المدّعى، لأنّ من أقسام النزول النزول بوحي من الشياطين، بأن يفسد الشيطان أمر الهداية الإلهيّة فيضع سبيلاً باطلاً مكان سبيل الله الحقّ، أو يخلط فيدخل شيئاً من الباطل في الوحي الإلهيّ الحقّ فيختلط الأمر، كما يشير إلى نفيه بقوله:( عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى‏ غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى‏ مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَ أَحْصى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ عَدَداً ) (الجنّ: ٢٨) و قال تعالى:( وَ إِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى‏ أَوْلِيائِهِمْ ) (الأنعام. ١٢١).

و بالجملة فالشهادة على مجرّد النزول أو الإنزال لا يخرج الدعوى عن حال الإبهام لكن تقييده بقوله:( بِعِلْمِهِ ) يوضح المراد كلّ الوضوح، و يفيد أنّ الله سبحانه أنزله إلى رسوله و هو يعلم ما ذا ينزل، و يحيط به و يحفظه من كيد الشياطين.

و إذا كانت الشهادة على الإنزال و الإنزال إنّما هو بواسطة الملائكة كما يدلّ عليه قوله تعالى:( مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى‏ قَلْبِكَ ) (البقرة: ٩٧) و قال تعالى في وصف هذا الملك المكرّم:( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ) (التكوير: ٢١) فدلّ على أنّ تحت أمره ملائكة اُخرى و هم الّذين ذكرهم إذ قال:( كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ ) (عبس: ١٦).

و بالجملة لكون الملائكة وسائط في الإنزال فهم أيضاً شهداء كما أنّه تعالى شهيد و كفى بالله شهيداً.

و الدليل على شهادته تعالى ما أنزله في كتابه من آيات التحدّي كقوله تعالى:( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى‏ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ) (إسراء: ٨٨) و قوله:( أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ

١٤٩

عِنْدِ غَيْرِ الله لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ) (النساء: ٨٢)، و قوله:( فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ الله ) (يونس. ٣٨).

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ الله قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً ) لمّا ذكر تعالى الحجّة البالغة في رسالة نبيّه و نزول كتابه من عندالله، و أنّه من سنخ الوحي الّذي اُوحي إلى النبيّين من قبله و أنّه مقرون بشهادته و شهادة ملائكته و كفى به شهيداً حقّق ضلال من كفر به و أعرض عنه كائنا من كان من أهل الكتاب.

و في الآية تبديل الكتاب الّذي كان الكلام في نزوله من عندالله بسبيل الله حيث قال:( وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ الله ) و فيه إيجاز لطيف كأنّه قيل: إنّ الّذين كفروا و صدّوا عن هذا الكتاب و الوحي الّذي يتضمّنه فقد كفروا و صدّوا عن سبيل الله و الّذين كفروا و صدّوا عن سبيل الله إلخ.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ ) إلخ تحقيق و تثبيت آخر مقامه التأكيد من الآية السابقة، و على هذا يكون المراد بالظلم هو الصدّ عن سبيل الله كما هو ظاهر.

و يمكن أن يكون الآية في مقام التعليل بالنسبة إلى الآية السابقة، يبيّن فيها وجه ضلالهم البعيد و المعنى ظاهر.

( بحث روائي)

و في تفسير البرهان، في قوله تعالى:( وَ قَوْلِهِمْ عَلى‏ مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً ) عن ابن بابويه بإسناده عن علقمة عن الصادقعليه‌السلام في حديث قال: أ لم ينسبوا مريم بنت عمران إلى أنّها حملت بصبيّ من رجل نجّار اسمه يوسف؟

و في تفسير القمّيّ، في قوله تعالى:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) (الآية): قال: حدّثني أبي، عن القاسم بن محمّد عن سليمان بن داود المنقريّ، عن أبي حمزة، عن شهر بن حوشب: قال لي الحجّاج: يا شهر آية في كتاب الله قد أعيتني فقلت: أيّها الأمير أيّة آية هي؟ فقال: قوله:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) و الله

١٥٠

إنّي لأمر باليهوديّ و النصرانيّ فيضرب عنقه ثمّ أرمقه بعيني فما أراه يحرّك شفتيه حتّى يخمد، فقلت: أصلح الله الأمير ليس على ما أوّلت قال: كيف هو: قلت: إنّ عيسى ينزل قبل يوم القيامة إلى الدنيا، فلا يبقى أهل ملّة يهوديّ و لا غيره إلّا آمن به قبل موته، و يصلّي خلف المهديّ قال: ويحك أنّى لك هذا؟ و من أين جئت به؟ فقلت: حدّثني به محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالبعليهم‌السلام فقال: و الله جئت بها من عين صافية.

و في الدرّ المنثور: أخرج ابن المنذر عن شهر بن حوشب قال: قال لي الحجّاج: يا شهر آية من كتاب الله ما قرأتها إلّا اعترض في نفسي منها شي‏ء قال الله:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) و إنّي اُوتي بالاُسارى فأضرب أعناقهم و لا أسمعهم يقولون شيئاً، فقلت: رفعت إليك على غير وجهها، إنّ النصرانيّ إذا خرجت روحه ضربته الملائكة من قبله و من دبره و قالوا: أي خبيث إنّ المسيح الّذي زعمت أنّه الله أو ابن الله أو ثالث ثلاثة عبدالله و روحه و كلمته فيؤمن حين لا ينفعه إيمانه، و إنّ اليهوديّ إذا خرجت نفسه ضربته الملائكة من قبله و من دبره، و قالوا: أي خبيث إنّ المسيح الّذي زعمت أنّك قتلته، عبدالله و روحه فيؤمن به حين لا ينفعه الإيمان، فإذا كان عند نزول عيسى آمنت به أحياؤهم كما آمنت به موتاهم: فقال: من أين أخذتها؟ فقلت: من محمّد بن عليّ قال: لقد أخذتها من معدنها. قال شهر: و أيم الله ما حدّثنيه إلّا اُمّ سلمة، و لكنّي اُحببت أن اُغيظه.

أقول: و رواه أيضاً ملخّصاً عن عبد بن حميد و ابن المنذر، عن شهر بن حوشب، عن محمّد بن عليّ بن أبي طالب و هو ابن الحنفيّة، و الظاهر أنّه روى عن محمّد بن عليّ، ثمّ اختلف الرواة في تشخيص ابن الحنفيّة أو الباقرعليه‌السلام ، و الرواية - كما ترى - تؤيّد ما قدّمناه في بيان معنى الآية.

و فيه، أخرج أحمد و البخاريّ و مسلم و البيهقيّ في الأسماء و الصفات قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم و إمامكم منكم؟.

و فيه: أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يوشك أن

١٥١

ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً يقتل الدجّال، و يقتل الخنزير، و يكسر الصليب، و يضع الجزية، و يقبض المال، و تكون السجدة واحدة لله ربّ العالمين، و اقرؤا إن شئتم:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) موت عيسى بن مريم. ثمّ يعيدها أبو هريرة ثلاث مرّات.

أقول: و الروايات في نزول عيسىعليه‌السلام عند ظهور المهديّعليه‌السلام مستفيضة من طرق أهل السنّة، و كذا من طرق الشيعة عن النبيّ و الأئمّة من أهل بيته عليهم الصلاة و السلام.

و في تفسير العيّاشيّ، عن الحارث بن مغيرة: عن أبي عبداللهعليه‌السلام في قول الله:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) قال: هو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

أقول: ظاهره و إن كان مخالفاً لظاهر سياق الآيات المتعرّضة لأمر عيسىعليه‌السلام لكن يمكن أن يراد به بيان جري القرآن، بمعنى أنّه بعد ما بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و جاء بكتاب و شريعة ناسخة لشريعة عيسى كان على كلّ كتابيّ أن يؤمن به و يؤمن بعيسى و من قبله في ضمن الإيمان به، فلو انكشف لكتابيّ عند الاحتضار مثلاً حقّيّة رسالة عيسى بعد بعثة رسول الله محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّما ينكشف في ضمن انكشاف حقّيّة رسالة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإيمان كلّ كتابيّ لعيسىعليه‌السلام إنّما يعدّ إيماناً إذا آمن بمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصالة و بعيسىعليه‌السلام تبعاً، فالّذي يؤمن به كلّ كتابيّ حقيقة و يكون عليهم يوم القيامة شهيداً هو محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد بعثته، و إن كان عيسىعليه‌السلام كذلك أيضاً فلا منافاة، و الخبر التالي لا يخلو من ظهور مّا في هذا المعنى.

و فيه، عن ابن سنان عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله في عيسى:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) فقال: إيمان أهل الكتاب إنّما هو لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و فيه، عن جابر عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) قال: ليس من أحد من جميع الأديان

١٥٢

يموت إلّا رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أميرالمؤمنينعليه‌السلام حقّاً من الأوّلين و الآخرين.

أقول: و كون الرواية من الجري أظهر. على أنّ الرواية غير صريحة في كون ما ذكرهعليه‌السلام ناظراً إلى تفسير الآية و تطبيقها، فمن المحتمل أن يكون كلاماً اُورد في ذيل الكلام على الآية و لذلك نظائر في الروايات.

و فيه، عن المفضّل بن عمر قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) ، فقال: هذه نزلت فينا خاصّة، إنّه ليس رجل من ولد فاطمة يموت و لا يخرج من الدنيا حتّى يقرّ للإمام و بإمامته، كما أقرّ ولد يعقوب ليوسف حين قالوا:( تَالله لَقَدْ آثَرَكَ الله عَلَيْنا ) .

أقول: الرواية من الآحاد، و هي مرسلة، و في معناها روايات مرويّة في ذيل قوله تعالى:( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ الله ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) (فاطر: ٣٢) سنستوفي الكلام فيها إن شاء الله تعالى.

و فيه، في قوله تعالى:( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى‏ نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ) (الآية): عن زرارة و حمران عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إنّي أوحيت إليك كما أوحيت إلى نوح و النبيّين من بعده فجمع له كلّ وحي.

أقول: الظاهر أنّ المراد أنّه لم يشذّ عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من سنخ الوحي ما يوجب تفرّق السبيل و تفاوت الدعوة، لا أنّ كلّ ما اُوحي به إلى نبيّ على خصوصيّاته فقد اُوحي إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهذا ممّا لا معنى له، و لا أنّ ما اُوحي إليك جامع لجميع الشرائع السابقة، فإنّ الكلام في الآية غير موضوع لإفادة هذا المعنى، و يؤيّد ما ذكرناه من المعنى الخبر التالي.

و في الكافي، بإسناده عن محمّد بن سالم عن أبي جعفرعليه‌السلام : قال الله لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى‏ نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ) ، و أمر كلّ نبيّ بالسبيل و السنّة.

و في تفسير العيّاشيّ، عن الثماليّ عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: و كان بين آدم و بين نوح

١٥٣

من الأنبياء مستخفين و مستعلنين، و لذلك خفي ذكرهم في القرآن فلم يسمّوا كما سمّي من استعلن من الأنبياء، و هو قول الله عزّوجلّ:( وَ رُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَ كَلَّمَ الله مُوسى‏ تَكْلِيماً ) يعني لم اُسمّ المستخفين كما سمّيت المستعلنين من الأنبياء.

أقول: و رواه في الكافي، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسن بن محبوب، عن محمّد بن الفضيل، عن أبي حمزة عنهعليه‌السلام ، و فيه: من الأنبياء مستخفين، و لذلك خفي ذكرهم في القرآن فلم يسمّوا كما سمّي من استعلن من الأنبياء، و هو قول الله عزّوجلّ:( رُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَ رُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ) يعني لم اُسمّ المستخفين كما سمّيت المستعلنين من الأنبياء (الحديث).

و المراد بالرواية على أيّ حال أنّ الله تعالى لم يذكر قصّة المستخفين أصلاً و لا سمّاهم، كما قصّ بعض قصص المستعلنين و سمّى من سمّى منهم. و من الجائز أن يكون قوله:( يعني لم أسمّ) إلخ من كلام الراوي.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي حمزة الثماليّ قال: سمعت أباجعفرعليه‌السلام يقول: لكن الله يشهد بما أنزل إليك في عليّ أنزله بعلمه و الملائكة يشهدون و كفى بالله شهيداً.

أقول: و روى هذا المعنى القمّيّ في تفسيره مسنداً عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام و هو من قبيل الجري و التطبيق فإنّ من القرآن ما نزل في ولايتهعليه‌السلام ، و ليس المراد به تحريف الكتاب و لا هو قراءة منهعليه‌السلام .

و نظيره ما رواه في الكافي، و تفسير العيّاشيّ، عن أبي جعفرعليه‌السلام ، و القمّيّ في تفسيره، عن أبي عبداللهعليه‌السلام : إنّ الّذينَ كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا آل محمّد حقهم لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ (الآية

و ما رواه في المجمع، عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله( قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ ) أي بولاية من أمر الله بولايته.

١٥٤

( سورة النساء الآيات ١٧٠ - ١٧٥)

يَا أَيّهَا النّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرّسُولُ بِالحَقّ مِن رَبّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِن تَكْفُرُوا فَإِنّ للّهِ‏ِ مَا فِي السّماوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً( ١٧٠) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى‏ اللّهِ إِلّا الْحَقّ إِنّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى‏ ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى‏ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنّمَا اللّهُ إِلهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السّماوَاتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفَى‏ بِاللّهِ وَكِيلاً( ١٧١) لَن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للّهِ‏ِ وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الْمُقَرّبُونَ وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً( ١٧٢) فَأَمّا الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِن فَضْلِهِ وَأَمّا الّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً( ١٧٣) يَا أَيّهَا النّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِن رَبّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً( ١٧٤) فَأَمّا الّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً( ١٧٥)

( بيان)

بعد ما أجاب عمّا اقترحه أهل الكتاب من سؤالهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تنزيل كتاب من السماء ببيان أنّ رسوله إنّما جاء بالحقّ من عند ربّه، و أنّ الكتاب الّذي جاء به من عند ربّه حجّة قاطعة لا ريب فيها استنتج منه صحّة دعوة الناس كافة إلى نبيّه و كتابه.

١٥٥

و قد كان بيّن فيما بيّن أنّ جميع رسله و أنبيائه - و قد ذكر فيهم عيسى - على سنّة واحدة متشابهة الأجزاء و الأطراف، و هي سنّة الوحي من الله فاستنتج منه صحّة دعوة النصارى و هم أهل كتاب و وحي إلى أن لا يغلوا في دينهم، و أن يلحقوا بسائر الموحّدين من المؤمنين، و يقرّوا في عيسى بما أقرّوا به هم و غيرهم في سائر الأنبياء أنّهم عباد الله و رسله إلى خلقه.

فأخذ تعالى يدعو الناس كافّة إلى الإيمان برسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّ المبيّن أوّلاً هو صدق نبوّته في قوله:( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى‏ نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ) (الآيات).

ثمّ دعا إلى عدم الغلوّ في حقّ عيسىعليه‌السلام لأنّه المتبيّن ثانياً في ضمن الآيات المذكورة.

ثمّ دعا إلى اتّباع كتابه و هو القرآن الكريم لأنّه المبيّن أخيراً في قوله تعالى:( لكِنِ الله يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ) (الآية).

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ ) ، خطاب عامّ لأهل الكتاب و غيرهم من الناس كافّة، متفرّع على ما مرّ من البيان لأهل الكتاب، و إنّما عمّم الخطاب لصلاحيّة المدعوّ إليه و هو الإيمان بالرسول كذلك لعموم الرسالة.

و قوله:( خَيْراً لَكُمْ ) حال من الإيمان و هي حال لازمة أي حال كون الإيمان من صفته اللّازمة أنّه خير لكم.

و قوله:( وَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لله ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) ، أي إن تكفروا لم يزد كفركم عليكم شيئاً، و لا ينقص من الله سبحانه شيئاً، فإنّ كلّ شي‏ء ممّا في السماوات و الأرض لله فمن المحال أن يسلب منه تعالى شي‏ء من ملكه فإنّ في طباع كلّ شي‏ء ممّا في السماوات و الأرض أنّه لله لا شريك له فكونه موجوداً و كونه مملوكاً شي‏ء واحد بعينه، فكيف يمكن أن ينزع من ملكه تعالى شي‏ء و هو شي‏ء؟.

و الآية من الكلمات الجامعة الّتي كلّما أمعنت في تدبّرها أفادت زيادة لطف

١٥٦

في معناها و سعة عجيبة في تبيانها، فإحاطة ملكه تعالى على الأشياء و آثارها تعطي في الكفر و الإيمان و الطاعة و المعصية معاني لطيفة، فعليك بزيادة التدبّر فيها.

قوله تعالى: ( يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لا تَقُولُوا عَلَى الله إِلَّا الْحَقَّ ) ، ظاهر الخطاب بقرينة ما يذكر فيه من أمر المسيحعليه‌السلام أنّه خطاب للنصارى، و إنّما خوطبوا بأهل الكتاب - و هو وصف مشترك - إشعاراً بأنّ تسمّيهم بأهل الكتاب يقتضي أن لا يتجاوزوا حدود ما أنزله الله و بيّنه في كتبه، و ممّا بيّنه أن لا يقولوا عليه إلّا الحقّ.

و ربّما أمكن أن يكون خطاباً لليهود و النصارى جميعاً، فإنّ اليهود أيضاً كالنصارى في غلوّهم في الدّين، و قولهم على الله غير الحقّ، كما قال تعالى:( وَ قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ الله ) التوبة: ٣٠، و قال تعالى:( اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ الله ) (التوبة: ٣١)، و قال تعالى:( قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى‏ كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ - إلى أن قال -وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ الله ) (آل عمران: ٦٤).

و على هذا فقوله:( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ الله ) إلخ تخصيص في الخطاب بعد التعميم أخذاً بتكليف طائفة من المخاطبين بما يخصّ بهم.

هذا، لكن يبعّده أنّ ظاهر السياق كون قوله:( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ الله ) ، تعليلاً لقوله:( لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ) ، و لازمه اختصاص الخطاب بالنصارى و قوله:( إِنَّمَا الْمَسِيحُ ) أي المبارك( عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ) تصريح بالاسم و اسم الاُمّ ليكون أبعد من التفسير و التأويل بأيّ معنى مغاير، و ليكون دليلاً على كونه إنساناً مخلوقاً كأي إنسان ذي اُمّ:( وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى‏ مَرْيَمَ ) تفسير لمعنى الكلمة، فإنّه كلمة( كن ) الّتي اُلقيت إلى مريم البتول، لم يعمل في تكوّنه الأسباب العاديّة كالنكاح و الأب، قال تعالى:( إِذا قَضى‏ أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (آل عمران: ٤٧) فكلّ شي‏ء كلمة له تعالى غير أنّ سائر الأشياء مختلطة بالأسباب العاديّة، و الّذي اختصّ لأجله عيسىعليه‌السلام بوقوع اسم الكلمة هو فقدانه بعض الأسباب العاديّة في تولّده( وَ رُوحٌ مِنْهُ ) و الروح من الأمر، قال تعالى:( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) (إسراء: ٨٥) و لمّا

١٥٧

كان عيسىعليه‌السلام كلمة( كن ) التكوينيّة و هي أمر فهو روح.

و قد تقدّم البحث عن الآية في الكلام على خلقة المسيح في الجزء الثالث من هذا الكتاب.

قوله تعالى: ( فَآمِنُوا بِالله وَ رُسُلِهِ وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا الله إِلهٌ واحِدٌ ) تفريع على صدر الكلام بما أنّه معلّل بقوله:( إِنَّمَا الْمَسِيحُ ) إلخ أي فإذا كان كذلك وجب عليكم الإيمان على هذا النحو، و هو أن يكون إيماناً بالله بالربوبيّة و لرسله - و منهم عيسى - بالرسالة، و لا تقولوا ثلاثة انتهوا حال كون الانتهاء أو حال كون الإيمان بالله و رسله و نفي الثلاثة خيراً لكم.

و الثلاثة هم الأقانيم الثلاثة: الأب و الابن و روح القدس، و قد تقدّم البحث عن ذلك في الآيات النازلة في أمر المسيحعليه‌السلام من سورة آل عمران.

قوله تعالى: ( سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ) ، السبحان مفعول مطلق مقدّر الفعل، يتعلّق به قوله:( أَنْ يَكُونَ ) ، و هو منصوب بنزع الخافض، و التقدير: اُسبّحه تسبيحاً و اُنزّهه تنزيهاً من أن يكون له ولد، و الجملة اعتراض مأتّي به للتعظيم.

و قوله:( لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ) حال أو جملة استيناف، و هو على أيّ حال احتجاج على نفي الولد عنه سبحانه، فإنّ الولد كيفما فرض هو الّذي يماثل المولّد في سنخ ذاته متكوّناً منه، و إذا كان كلّ ما في السماوات و الأرض مملوكاً في أصل ذاته و آثاره لله تعالى و هو القيّوم لكلّ شي‏ء وحده فلا يماثله شي‏ء من هذه الأشياء فلا ولد له.

و المقام مقام التعميم لكلّ ما في الوجود غير الله عزّ اسمه و لازم هذا أن يكون قوله:( ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ) تعبيراً كنائيّاً عن جميع ما سوى الله سبحانه إذ نفس السماوات و الأرض مشمولة لهذه الحجّة، و ليست ممّا في السماوات و الأرض بل هي نفسها.

ثمّ لمّا كان ما في الآية من أمر و نهي هداية عامّة لهم إلى ما هو خير لهم في

١٥٨

دنياهم و اُخراهم ذيل الكلام بقوله:( وَ كَفى‏ بِالله وَكِيلًا ) أي وليّاً لشؤنكم، مدبّراً لاُموركم، يهديكم إلى ما هو خير لكم و يدعوكم إلى صراط مستقيم.

قوله تعالى: ( يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لله وَ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ) احتجاج آخر على نفي اُلوهيّة المسيحعليه‌السلام مطلقاً سواء فرض كونه ولداً أو أنّه ثالث ثلاثة، فإنّ المسيح عبد لله لن يستنكف أبداً عن عبادته، و هذا ممّا لا ينكره النصارى، و الأناجيل الدائرة عندهم صريحة في أنّه كان يعبدالله تعالى، و لا معنى لعبادة الولد الّذي هو سنخ إله و لا لعبادة الشي‏ء لنفسه و لا لعبادة أحد الثلاثة لثالثها الّذي ينطبق وجوده على كلّ منها، و قد تقدّم الكلام على هذا البرهان في مباحث المسيحعليه‌السلام .

و قوله:( لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ) تعميم للكلام على الملائكة لجريان الحجّة بعينها فيهم و قد قال جماعة من المشركين - كمشركي العرب -: بكونهم بنات الله فالجملة استطراديّة.

و التعبير في الآية أعني قوله:( يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ) عن عيسىعليه‌السلام بالمسيح، و كذا توصيف الملائكة بالمقرّبين مشعر بالعلّيّة لما فيهما من معنى الوصف، أي إنّ عيسى لن يستنكف عن عبادته و كيف يستنكف و هو مسيح مبارك؟ و لا الملائكة و هم مقرّبون؟ و لو رجي فيهم أن يستنكفوا لم يبارك الله في هذا و لا قرّب هؤلاء، و قد وصف الله المسيح أيضاً بأنّه مقرّب في قوله:( وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) (آل عمران: ٤٥).

قوله تعالى: ( مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً ) حال من المسيح و الملائكة و هو في موضع التعليل أي و كيف يستنكف المسيح و الملائكة المقرّبون عن عبادته و الحال أنّ الّذين يستنكفون عن عبادته و يستكبرون من عباده من الإنس و الجنّ و الملائكة يحشرون إليه جميعاً، فيجزون حسب أعمالهم، و المسيح و الملائكة يعلمون ذلك و يؤمنون به و يتّقونه.

و من الدليل على أنّ قوله:( مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يَسْتَكْبِرْ ) إلخ في معنى أنّ المسيح و الملائكة المقرّبين عالمون بأن المستنكفين يحشرون إليه قوله:( يَسْتَكْبِرْ )

١٥٩

إنّما قيّد به قوله:( مَنْ يَسْتَنْكِفْ ) لأنّ مجرّد الاستنكاف لا يوجب السخط الإلهيّ إذا لم يكن عن استكبار كما في الجهلاء و المستضعفين، و أمّا المسيح و الملائكة فإنّ استنكافهم لا يكون إلّا عن استكبار لكونهم عالمين بمقام ربّهم، و لذلك اكتفى بذكر الاستنكاف فحسب فيهم، فيكون معنى تعليل هذا بقوله:( مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يَسْتَكْبِرْ ) ، أنّهم عالمون بأنّ من يستنكف عن عبادته إلخ.

و قوله:( جمِيعاً ) أي صالحاً و طالحاً و هذا هو المصحّح للتفضيل الّذي يتلوه من قوله:( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) إلخ.

قوله تعالى: ( وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ الله وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً ) التعرّض لنفي الوليّ و النصير مقابلة لما قيل به من اُلوهيّة المسيح و الملائكة.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً ) قال الراغب: البرهان بيان للحجّة، و هو فعلان مثل الرجحان و الثنيان. و قال بعضهم: هو مصدر بره يبره إذا ابيضّ. انتهى، فهو على أيّ حال مصدر. و ربّما استعمل بمعنى الفاعل كما إذا اُطلق على نفس الدليل و الحجّة.

و المراد بالنور هو القرآن لا محالة بقرينة قوله:( وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ ) و يمكن أن يراد بالبرهان أيضاً ذلك، و الجملتان إذا تؤكّد إحداهما الاُخرى.

و يمكن أن يراد به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و يؤيّده وقوع الآية في ذيل الآيات المبيّنة لصدق النبيّ في رسالته، و نزول القرآن من عندالله تعالى، و كون الآية تفريعاً لذلك و يؤيّده أيضاً قوله تعالى في الآية التالية:( وَ اعْتَصَمُوا بِهِ ) لما تقدّم في الكلام على قوله:( وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِالله فَقَدْ هُدِيَ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (آل عمران. ١٠١) أنّ المراد بالاعتصام الأخذ بكتاب الله و الاتّباع لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قوله تعالى: ( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِالله وَ اعْتَصَمُوا بِهِ ) ، بيان لثواب من اتّبع برهان ربّه و النور النازل من عنده.

و الآية كأنّها منتزعة من الآية السابقة المبيّنة لثواب الّذين آمنوا و عملوا الصالحات أعني قوله:( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدُهُمْ

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576