الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 576

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 576 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 264349 / تحميل: 11788
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

الصغيرة (الحصى).

«قاصف» بمعنى المحطّم ، وهي هنا تشير إلى العاصفة الشديدة التي تقلع كل شيء من مكانه.

«تبيع» بمعنى تابع ، وهي تشير هنا إلى الشخص الذي ينهض للمطالبة بالدم ، وثمن الدم والثأر ويستمر في ذلك.

* * *

٦١

الآيات

( وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (٧٠) يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٧٢) )

التّفسير

الإنسان سيّد الموجودات :

إنّ واحدة من أبرز طرق الهداية والتربية ، هي التنويه بشخصية الإنسان ومكانته ومواهبه ، لذا فإنّ القرآن الكريم وبعد بحوثه عن المشركين والمنحرفين في الآيات السابقة ، يقوم هنا بتبيان الشخصية الممتازة للإنسان والمواهب التي منحها إيّاها ربّ العالمين ، لكي لا يلوّث الإنسان جوهره الثمين ، ولا يبيع نفسه بثمن بخس ، حيث يقول تعالى( وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ ) .

ثمّ تشير الآيات القرآنية إلى ثلاثة أقسام من المواهب الإلهية التي حباها الله لبني البشر، هذه المواهب هي أوّلا :( وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ) .

٦٢

ثمّ قوله تعالى :( وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ) ومع الالتفات إلى سعة مفهوم (الطيب) الذي يشمل كل موجود طيب وطاهر تتّضح عظمة وشمولية هذه النعمة الإلهية الكبيرة.

أمّا القسم الثّالث من المواهب فينص عليه قوله تعالى :( وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً ) .

* * *

بحوث

أوّلا : وسيلة النقل أوّل نعمة للإنسان

الملاحظة التي تلفت النظر هنا ، هي : لماذا اختار الله قضية الحركة على اليابسة وفي البحار ، وأشار إليها أوّلا من بين جميع المواهب الأخرى التي وهبها للإنسان؟

قد يكون ذلك بسبب أنّ الاستفادة من الطيبات وأنواع الأرزاق لا يحدث بدون الحركة ، حيث أنّ حركة الإنسان على سطح الكرة الأرضية تحتاج إلى وسيلة نقل ، إذ أنّ الحركة هي مقدمة لأي بركة.

أو أنّ السبب قد يكون لإظهار سلطة الإنسان على الكرة الأرضية الواسعة بما في ذلك البحار والصحاري. إذ أنّ لكل نوع من أنواع الموجودات سلطة على جزء محدود من الأرض ، أمّا الإنسان فإنّه يحكم الكرة الأرضية ببحارها وصحاريها وهوائها.

ثانيا ، تكريم الإنسان من قبل الخالق

بأي شيء كرّم الله الإنسان؟ الآية تقول بشكل مجمل( وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ ) .

بين المفسّرين كلام كثير عن مصداق هذا التكريم ، فالبعض يعز والسبب لقوّة

٦٣

العقل والمنطق والاستعدادات المختلفة وحرية الإرادة. أمّا البعض الآخر فيعز وذلك إلى الجسم المتزن والجسد العمودي ، والبعض يربط ذلك بالأصابع التي يستطيع الإنسان القيام بواسطتها بمختلف الأعمال الدقيقة ، وأيضا تمنحه القدرة على الكتابة.

والبعض يعتقد أنّ التكريم يعود إلى أنّ الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يأكل طعامه بيده.

وهناك من يقول : إنّ السبب يعود إلى سلطة الإنسان على جميع الكائنات الأرضية.

وهناك من المفسّرين من يعزو التكريم إلى قدرة الإنسان على معرفة الله ، والقدرة أيضا على إطاعة أوامره.

لكن من الواضح أنّ جميع هذه المواهب موجودة في الإنسان ولا يوجد تضاد بينها ، لذا فإنّ تكريم الخالق لهذا المخلوق الكريم يتجلّى من خلال جميع هذه المواهب وغيرها.

خلاصة القول : إنّ الإنسان له امتيازات كثيرة على باقي المخلوقات ، وهذه الامتيازات الواحدة منها أعظم من الأخرى ، فمضافا إلى الامتيازات الجسمية ، فإنّ روح الإنسان لها مجموعة واسعة من الاستعدادات والقدرات الكبيرة التي توهله لطي مسيرة التكامل بشكل غير محدود.

ثالثا : الفرق بين (كرّمنا) و (فضّلنا)

هناك آراء كثيرة حول التفاوت بين (كرّمنا) و (فضّلنا) فالبعض يقول : إنّ (كرّمنا) هي إشارة إلى المواهب التي أعطاها الله ذاتا للإنسان ، بينما (فضّلنا) إشارة إلى الفضائل التي اكتسبها الإنسان بسبب توفيق الله.

هناك احتمال قوي بأنّ (كرّمنا) إشارة إلى الجوانب المادية ، أمّا (فضّلنا) فهي

٦٤

إشارة إلى المواهب المعنوية ، لأنّ كلمة (فضّلنا) غالبا ما تأتي في القرآن بهذا المعنى.

رابعا : ما معنى كلمة (كثير) في الآية؟

بعض المفسّرين يعتبرون الآية الآنفة دليلا على أفضلية الملائكة على بني الإنسان ، فالقرآن يقول بأنّ الإنسان مفضّل على أكثر المخلوقات ، وتبقى مجموعة لا يكون الإنسان أفضل منها ، وهذه المجموعة ليست سوى الملائكة.

ولكن بملاحظة آيات خلق آدم وسجود الملائكة وتعليمهم (الأسماء) من قبل آدم ، لا يبقى شك في أنّ الإنسان أفضل من الملائكة.

لذا فإنّ كلمة (كثير) تعني هنا (جميع). وكما يقول المفسّر الكبير الشّيخ الطبرسي في مجمع البيان ، فإنّ استخدام كلمة (كثير) بمعنى (جميع) يعتبر عاديا وواردا في القرآن الكريم وفي لغة العرب.

وهكذا يكون معنى الجملة حسب تفسير الطبرسي لها هو : «إنّا فضلناهم على من خلقناهم ، وهم كثير».

فالقرآن يقول عن الشياطين في الآية (٢٢٣) من سورة الشعراء :( وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ ) بينما من البديهي أنّ كل الشياطين كاذبين وليس أكثرهم ، وإنّما استخدمت الآية (كثير) بمعنى (الجميع).

على أي حال ، إذا اعتبرنا المعنى خلافا للظاهر ، فإنّ آيات خلق الإنسان ستكون قرينة واضحة لذلك.

خامسا : لماذا كان الإنسان أفضل المخلوقات؟

لا يعد الجواب على هذا السؤال معقدا ، إذ أنّنا نعلم أنّ الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يتكون من قوى مختلفة ، مادية ومعنوية ، جسمية وروحية ، وينمو

٦٥

وسط المتضادات ، وله استعدادات غير محدودة للتكامل والتقدّم.

وهناك حديث معروف للإمام عليعليه‌السلام وهو شاهد على ما نقول ، إذ يقول فيهعليه‌السلام : «إنّ اللهعزوجل ركّب في الملائكة عقلا بلا شهوة ، وركّب في البهائم شهوة بلا عقل ، وركّب في بني آدم كلتيهما ، فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة ، ومن غلبت شهوته عقله فهو شرّ من البهائم»(١) .

وهنا يبقى سؤال واحد : هل أنّ جميع البشر أفضل من الملائكة ، في حين يوجد بين البشر الكفار والمجرمون والظالمون ، وهؤلاء يعتبرون من أسوأ خلق الله بعبارة أخرى : هل أنّ كلمة (بني آدم) في الآية تنطبق على جميع البشر أم على قسم منهم؟

يمكن تلخيص الإجابة على هذا السؤال في جملة واحدة هي : نعم جميع البشر أفضل، ولكن بالقوة والاستعداد ، يعني أنّ الجميع يملك الأرضية ليكون أفضل ، ولكنّهم إذا لم يستفيدوا من هذه الأرضية والقابلية المودعة فيهم ، وسقطوا في الهاوية ، فإنّ ذلك يكون بسببهم ويعود عليهم فقط.

وبالرغم من أنّ أفضلية الإنسان هي في المجالات المعنوية والإنسانية ، ولكن بعض العلماء ذكر أنّ الإنسان قد يكون أقوى من سائر الإحياء حتى من جهة القوّة الجسمية بالرغم من أنّه يعتبر ضعيفا في مناحي أخرى.

«الكسيس كاريل» مؤلف كتاب (الإنسان ذلك المجهول) يقول في كتابه واصفا قدرات الإنسان : «انّ جسم الإنسان من المتانة والإحكام والدّقة بحيث أنّه يقاوم كل أشكال التعب والعقبات التي يتعرض لها الوجود الإنساني من قلّة غذاء ، وسهر وتعب ، وهموم زائدة ، وأشكال المرض والألم والمعاناة ، وهو في ثباته ومقاومته للأشكال الآنفة يبدي استعدادا استثنائيا يبعث على الحيرة والعجب ، حتى أنّنا نستطيع أن نقول : إنّ الوجود الإنساني في تكوينه الروحي

__________________

(١) نور الثقلين ، المجلد الثّالث ، صفحة ١٨٨.

٦٦

والجسدي هو أثبت الموجودات من ذوي الأرواح وأكثرها نشاطا واستعدادا في مضمار الفاعلية الفكرية والجسدية التي يتضمّنها والتي أدّت إلى تشييد المدنية الراهنة بكل مظاهرها»(١) .

الآية التي بعدها تشير إلى موهبة أخرى من المواهب الإلهية التي حباها الله للإنسان ، ورتّبت عليه المسؤوليات الثقيلة بسبب هذه المواهب.

ففي البداية تشير الآية إلى قضية القيادة ودورها في مستقبل البشر فتقول :( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ ) يعني أنّ الذين اعتقدوا بقيادة الأنبياء وأوصيائهم ومن ينوب عنهم في كل زمان وعصر ، سوف يكونون مع قادتهم ويحشرون معهم ، أمّا الذين انتخبوا الشيطان وأئمّة الضلال والظالمين والمستكبرين قادة لهم ، فإنّهم سيكونون معهم ويحشرون معهم.

خلاصة القول : إنّ الارتباط بين القيادة والأتباع في هذا العالم سوف ينعكس بشكل كامل في العالم الآخر ، وطبقا لهذا الأمر سيتم تحديد الفرق الناجية ، والأخرى التي تستحق العذاب.

بالرغم من أنّ بعض المفسّرين قد حصر كلمة (إمام) ب (الأنبياء) والبعض الآخر حصرها بمعنى (الكتب السماوية) والبعض الثّالث ب (العلماء) ، إلّا أنّ من الواضع أنّ كلمة (إمام) في هذا المكان لها معنى أوسع ، وتشمل أية قيادة سواء تمثّلت بالأنبياء أو أئمّة الهدى أو العلماء أو الكتاب والسنة. ويدخل في معنى الكلمة أيضا أئمّة الكفر والضلال ، وبهذا الترتيب فإنّ كل إنسان سيسلك في الاخرة مسار القائد الذي انتخبه لنفسه في الدنيا اماما وقائدا.

هذا التعبير والإشارة إلى دور الإمامة وكونها من أسباب تكامل الإنسان ، يعتبر في نفس الوقت تحذيرا لكل البشرية كي تدقق في انتخاب القيادة ، ولا تعطي أزمّة وجودها الفكري والحياتي بيد أي شخص كان.

__________________

(١) الإنسان ذلك المجهول ، الكسيس كارل ، ص ٧٣ ـ ٧٤.

٦٧

ثمّ تقسم الآية الناس يوم القيامة إلى قسمين :( فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ) (١) . أمّا القسم الآخر فهو : من كان في الدنيا أعمى القلب :( وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى ) . وطبيعي أن يكون هؤلاء العميان القلب أضل من جميع المخلوقات( وَأَضَلُّ سَبِيلاً ) فهؤلاء لا يوفقون في هذه الدنيا لسلوك طريق الهداية ، ولا هم في الآخرة من أصحاب الجنّة والسعادة ، لأنّهم أغمضوا عيونهم عن جميع الحقائق وحرّموا أنفسهم من رؤية الحق وآيات الله وكل ما يؤدي إلى هدايتهم ، ويقود إلى خلاصهم من المواهب العظيمة التي أعطاهم الله إيّاها ، ولأنّ الآخرة هي صورة منعكسة لوجود الإنسان في هذه الدنيا ، إذن ليس ثمّة من عجب في أن يحشر هؤلاء العميان بنفس الصورة في يوم الحشر والقيامة.

* * *

بحوث

١ ـ دور القيادة في حياة البشر

الحياة الاجتماعية للبشر في الدنيا لا يمكن أن تنفصل عن القيادة أو أن تستغني عنها، لأنّ تحديد مسير مجموعة معينة يحتاج دائما إلى قيادة ، وعادة لا يمكن سلوك طريق التكامل بدون وجود قيادة ، وهذا هو سر إرسال الأنبياء وانتخاب الأوصياء لهم.

وفي علوم العقائد والكلام ، يستفاد أيضا من (قاعدة اللطف) في إثبات لزوم بعث الأنبياء ولزوم وجود الإمام في كل زمان ، وذلك لأهمية دور القائد في تنظيم المجتمع ، ومنع الانحرافات ، وبنفس المقدار الذي يقوم به القائد الإلهي والعالم

__________________

(١) (فتيل) تعني الخيط الرقيق الموجود في شق نوى التمر ، وفي المقابل فإن (نقير) تعني مؤخرة نوى التمر ، بينما تعني (قطمير) الطبقة الرقيقة التي تغطي نوى التمر. وكل هذه التعابير كناية عن الشيء الصغير جدّا والحقير.

٦٨

والصالح بإيصال الإنسان إلى هدفه النهائي بشكل سهل وسريع ، فإنّ التسليم لقيادة أئمّة الكفر والضلال والانقياد لهم يؤديان بالإنسان إلى الهاوية والشقاء.

وفي تفسير هذه الآية تتضمّن المصادر الإسلامية أحاديث متعدّدة توضح مفهومها وتبيّن الغرض من الإمامة.

ففي حديث تنقله الشيعة والسنة عن الإمام علي بن موسى الرّضاعليه‌السلام بأسناد صحيحة أنّه نقل عن آبائه عن جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حول تفسير هذه الآية قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يدعى كل أناس بإمام زمانهم وكتاب ربّهم وسنة نبيّهم».(١)

ونقرأ عن الإمام جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام قوله : «ألا تحمدون الله! إذا كان يوم القيامة فدعي كل قوم إلى من يتولونه ودعينا إلى رسول الله وفزعتم إلينا فإلى أين ترون يذهب بكم؟ إلى الجنّة وربّ الكعبة ـ قالها ثلاثا».(٢)

٢ ـ تكريم بني آدم

(بني آدم) وردت في القرآن الكريم كعنوان للإنسان مقرونة بالمدح والاحترام ، في حين أنّ كلمة (إنسان) ذكرت مع صفات مثل : ظلوم ، جهول ، هلوع ، ضعيف ، طاغي ، وما شابهها من الأوصاف. وهذا يدل على أن بني آدم صفة للإنسان المتربي ، أو على الأقل الذي له استعدادات إيجابية (إن افتخار آدم وتفضيله على الملائكة يؤيد هذا المعنى لبني آدم). في حين أنّ كلمة (إنسان) وردت بشكل مطلق ، وأحيانا تشير إلى الصفات السلبية.

لذا فإنّ الآيات التي نبحثها استخدمت كلمة (بني آدم) لأنّ الحديث فيها هو عن الكرامة وأفضلية الإنسان. (هناك بحث مفصل حول معنى الإنسان في القرآن الكريم يمكن مراجعته في تفسيرنا هذا ذيل الآية ١١ من سورة يونس).

__________________

(١) مجمع البيان عند تفسير الآية.

(٢) المصدر السّابق.

٦٩

٣ ـ دور القيادة في الإسلام

في الحديث المعروف عن الإمام محمّد بن علي الباقرعليهما‌السلام ينقل أنّه عند ما كان يتحدث عن الأركان الأساسية في الإسلام ذكر (الولاية) كخامس وأهم ركن ، في حين الصلاة التي توضح العلاقة بين الخالق والخلق ، والصيام الذي هو رمز محاربة الشهوات ، والزكاة التي تحدّد العلاقة بين الخلق والخالق ، والحج الذي يكشف الجانب الاجتماعي في الإسلام ، اعتبرت الأركان الأربعة الأساسية الأخرى. ثمّ يضيف الإمام الباقرعليه‌السلام «ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية» لماذا؟ لأنّ تنفيد الأركان الأخرى لن يتحقق إلّا في ظل هذا الأصل ، أي في ظل الولاية(١) .

ولهذا السبب بالذات روي عن الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله «من مات بغير إمام مات ميتة الجاهلية»(٢) .

التأريخ يشهد أنّ بعض الأمم تكون في الصف الأوّل بين دول العالم وأممه بسبب قيادتها العظيمة والكفوءة ، ولكن نفس الأمّة تنهار وتسقط في الهاوية ، برغم امتلاكها لنفس القوى البشرية والمصادر الأخرى ، إذا كانت قيادتها ضعيفة وغير كفوءة.

ثمّ ألم يكن عرب الجاهلية غارقين في جهلهم وفسادهم وذلتهم وانحطاطهم ، وكانوا نهشة الآكل ، بسبب عدم امتلاكهم لقائد كفوء ، ولكن ما إن ظهرت القيادة الإلهية الرّبانية المتمثلة بالهادي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى سلك نفس القوم طريق العظمة والتكامل بسرعة كبيرة بحيث أدهش العالم ، وهذا يكشف عن دور القائد في ذلك الزمان وهذا الزمان وفي كل زمان.

__________________

(١) قال الباقرعليه‌السلام «بني الإسلام على خمس ، على الصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والحج ، والولاية ، ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية» عن أصول الكافي ، ج ٢ ، ص ١٥.

(٢) عن نور الثقلين ، المجلد الثّالث ، صفحة ١٩٤ ، وكذلك مصادر أخرى.

٧٠

طبعا لقد جعل الله للبشرية قائدا لإنقاذ وهداية البشر في كل عصر وزمان ، حيث تقتضي حكمته أن لا تطبّق السعادة إلّا مع وجود ضامن تنفيذي لها. والمهم أن تتعرف المجتمعات على قيادتها وأن لا يقعوا في شباك القادة الضالين والفاسدين ، حيث تكون النجاة من مخالبهم أمرا صعبا للغاية.

وهذه هي فلسفة عقيدة الشيعة بضرورة وجود إمام معصوم في كل زمان ، كما يقول الإمام عليعليه‌السلام : «اللهم بلى لا تخلوا الأرض من قائم لله بحجّة ، إمّا ظاهرا مشهورا وإمّا خائفا مغمورا ، لئلا تبطل حجج الله وبيناته»(١) .

وهناك بحث في نهاية الآية (١٢٤) من سورة البقرة ، حول معنى الإمامة وأهميتها في دنيا الإنسان.

٤ ـ عميان القلوب

في القرآن الكريم تعابير لطيفة في وصف المشركين والظالمين ، حيث يصفهم هنا ب (الأعمى) وهذا الوصف كناية عن الحقيقة التي تقول بأنّ الحق يكون واضحا دوما وفي متناول البصر إذا كانت هناك عين بصيرة تنظر ، العين التي تشاهد آيات الله في هذا العالم الواسع ، العين التي تعتبر الدروس المكتوبة على صفحات التأريخ ؛ العين التي تشاهد عاقبة الظالمين والمستكبرين ، العين التي تنظر الحق دون غيره.

أمّا عند ما تكون هناك ستائر وحجب الجهل والغرور والتعصّب والعناد والشهوة أمام هذه العين ، فإنّها لا تستطيع مشاهدة جمال الحق بالرغم من أنّه غير محجوب بستار.

وفي حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام في تفسير الآية نقرأ : «من لم يدله خلق السماوات والأرض ، واختلاف الليل والنهار ، ودوران الفلك والشمس والقمر

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ١٤٧.

٧١

والآيات العجيبات ، على أن وراء ذلك أمر أعظم منه ، فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا»(١) .

وجاء في روايات مختلفة في تفسير هذه الآية أنّها تعني الشخص الذي يكون مستطيعا للحج ولكنّه لا يؤديه حتى نهاية عمره(٢) .

وبدون شك فإنّ هذا المعنى هو أحد مصاديق الآية وليس كلّها. وقد يكون ذكر هذا المصداق والتأكيد عليه من زاوية دفع المسلمين للمشاركة فيه لمشاهدة هذا الاجتماع الإسلامي العظيم ، بما يحويه من أسرار عبادية ومصالح سياسية تتجلى لعين الإنسان يحضر الموسم ، ويتعلم الحقائق الكثيرة والمتعدّدة منه.

وفي روايات أخرى ورد أنّ «شرّ العمى عمى القلب»(٣) .

على أي حال ـ كما قلنا سابقا ـ فإنّ عالم القيامة ، هو انعكاس لهذا العالم في كل ما يحويه وجودنا من أفكار ومواقف ومشاعر وأعمال. لذلك نقرأ في الآيات ١٢٤ ـ ١٢٦ من سورة طه ، قوله تعالى :( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً. قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى ) .

* * *

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ١٩٦.

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ١٩٦ ـ ١٩٧.

(٣) المصدر السابق.

٧٢

الآيات

( وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (٧٣) وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (٧٥) )

سبب النّزول

لقد ذكرت أسباب مختلفة لنزول هذه الآيات ، إلّا أنّ بعض هذه الأسباب لا يتلائم مع تأريخ النّزول ، وبما أن أسباب النّزول هذه قد أفاد منها بعض المنحرفين لأغراض خاصّة ، لذلك سوف نقوم هنا بذكرها جميعا :

ذكر العلّامة الطبرسي في (مجمع البيان) خمسة آراء في هذا المجال ، وهي :

الرأي الأوّل : قالت قريش للرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا ندعك تلمس الحجر الأسود حتى تحترم آلهتنا ، وقال الرّسول في قلبه : إنّ الله يعلم نفرتي من أصنامهم وإنكاري لها ، فما المانع من أن أنظر إلى هذه الآلة باحترام ظاهرا حتى يسمحوا لي باستلام الحجر الأسود. وهنا أنزل الله تبارك وتعالى الآيات أعلاه التي نهت الرّسول عن هذا الأمر.

٧٣

الرأي الثّاني : اقترحت قريش على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يترك الاستهانة بآلهتهم والاستخفاف بعقولهم ، وأن يبعد عنه العبيد من أصحابه وذوي الأصول المتواضعة ، والرائحة الكريهة ، لكي تحضر قريش مجلسهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويستمعون إليه ، فطمع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في إسلامهم ، فنزلت الآيات أعلاه تحذّر من هذا الأمر.

الرأي الثّالث : عند ما حطّم الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأصنام التي كانت موجودة في المسجد الحرام ، اقترحت قريش عليه أن يبقي الصنم الموضوع على جبل المروة قرب بيت الله ، فوافق الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في البداية على هذه الاقتراح لكي يحقق من خلاله بعض مصالح الدعوة ، إلّا أنّه بعد ذلك عدل عن هذا الأمر وأعطى أوامرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتحطيم هذا الصنم ، وعند ما نزلت الآيات أعلاه.

الرأي الرّابع : إنّ مجموعة من قبيلة (ثقيف) وفدت على النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعرضت عليه ثلاثة شروط لمبايعته ، وكان شرطهم ، الأوّل : أن لا يركعوا ولا يسجدوا عند الصلاة ، وثانيا : أن لا يحطموا أصنامهم بأيديهم بل يقوم الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك. أمّا الشرط الثّالث : فقد طلبوا فيه من رسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يسمح لهم ببقاء صنم (اللات) بينهم لمدّة سنة.

وقد أجابهم الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن لا فائدة في دين لا ركوع ولا سجود فيه ، وأمّا تحطيم الأصنام فإذا كنتم ترغبون في القيام بذلك فافعلوا ، وإلّا فنحن نقوم به ، أمّا الاستمرار في عبادة اللات لسنة أخرى ، فلا أسمح بذلك.

بعد ذلك قام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتوضأ ، فالتفت عمر بن الخطاب وقال : ما بالكم آذيتم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّه لا يدع الأصنام في أرض العرب. إلّا أنّ ثقيف أصرّت على مطالبها ، حتى نزلت الآيات الآنفة.

الرأي الخامس : إنّ وفد ثقيف طلب من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يمهلهم سنة حتى يستلموا الهدايا المرسلة إلى الأصنام ، وبعد ذلك يكسرون الأصنام ويسلمون ، فهمّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإمهالهم وإجابتهم إلى ما أرادوا لو لا نزول الآيات أعلاه التي نهت عن إجابة طلبهم بشدّة.

٧٤

وهناك أسباب أخرى للنزول تشبه الآراء التي ذكرناها.

أقول : لا حاجة لبيان ضعف هذه الآراء إذ أنّ بطلان أكثر هذه الآراء كامن فيها ، لأنّ مجيء وفود القبائل إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطلباتهم وتحطيم الأصنام ، كل هذه الأمور إنّما تمّت بعد فتح مكّة في العام الثّامن للهجرة ، في حين أنّ هذه السورة نزلت قبل هجرة الرّسول ، وفي وقت لم يكن فيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمتلك القدرة الظاهرية التي تفرض على المشركين التواضع لمقامه ، وسوف نقوم بتوضيح أكثر لا حقّا.

* * *

التّفسير

بما أنّ الآيات السابقة كانت تبحث حول الشرك والمشركين ، لذا فإنّ الآيات التي نبحثها تحذّر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من وساوس وإغواءات هذه المجموعة ، حيث لا يجوز أن يبدي أدنى ضعف في محاربة الشرك وعبادة الأصنام ، بل يجب الاستمرار بصلابة أكبر.

في البداية تقول الآية أنّ وساوس المشركين كادت أن تؤثر فيك :( وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً ) .

ثمّ بعد ذلك تضيف أنّه لو لا نور العصمة وأنّ الله تعالى ثبّتك على الحق :( وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ) .

وأخيرا لو أنّك ركنت إليهم فسوف يكون جزاءك ضعف عذاب المشركين في الحياة الدنيا ، وضعف عذابهم في الآخرة :( إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً ) .

* * *

٧٥

بحوث

١ ـ هل أبدى الرّسول ليونة إزاء المشركين؟

بالرغم من أنّ بعض السطحيين أرادوا الاستفادة من هذه الآيات لنفي العصمة عن الأنبياء ، وقالوا أنّه طبقا للآيات أعلاه وأسباب النّزول المرتبطة بها إنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أبدى ليونة إزاء عبدة الأصنام ، وأنّ الله عاتبه على ذلك. إلّا أنّ هذه الآيات صريحة في افهام مقصودها بحيث لا تحتاج إلى شواهد أخرى على بطلان هذا النوع من التفكير ، لأنّ الآية الثّانية تقول وبصراحة :( وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ) . ومفهوم التثبيت الإلهي (والذي نعتبره بأنّه العصمة) أنّه منع رسولاللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من التوجه إلى مزالق عبدة الأصنام ، ولا يعني ظاهر الآية ـ في حال ـ أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مال إلى المشركين ، ثمّ نهي عن ذلك بوحي من الله تعالى.

وتوضيح ذلك ، إن الآية الأولى والثّانية هما في الحقيقة إشارة إلى حالتين مختلفتين للرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الحالة الأولى هي الحالة البشرية والإنسانية والتي تجلّت بشكل واضح في الآية الأولى ، وبمقتضى هذه الحالة يمكن تأثير وساوس الأعداء في الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصّة إذا كانت ثمّة مرجحات في إظهار الليونة والتوجّه إليهم ، من قبيل رغبتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أن يسلم زعماء الشرك بعد إظهار الليونة ، أو أن يمنع بذلك سفك الدماء ، والآية تكشف عن احتمال وقوع الإنسان العادي ومهما كان قويا تحت تأثير الأعداء.

أمّا الآية الثّانية فهي ذات طبيعة معنوية ، إذ هي تبيّن العصمة الإلهية ولطفه الخاص سبحانه وتعالى الذي يشمل به الأنبياء خصوصا نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينما يمر بمنعطفات ومزالق دقيقة.

والنتيجة أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالطبع البشري قد وصل إلى حافة القبول ببعض وساوس الأعداء ، إلّا أن التأييد الإلهي (العصمة) ثبته وحفظه وأنقذه من الانزلاق.

٧٦

وهذا التعبير نفسه نقرأه في سورة يوسف حيث جاء البرهان الإلهي في أدق اللحظات وأخطرها ، في مقابل الإغواء الخطير وغير الاعتيادي لامرأة العزيز ، حيث قوله تعالى في الآية (٢٤) من سورة يوسف :( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ ، كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) .

وفي اعتقادنا أنّ الآيات أعلاه ليست لا تصلح أن تكون دليلا على نفي العصمة وحسب ، بل هي واحدة من الآيات التي تدل على العصمة ، لأنّ التثبيت الإلهي هذا (والذي هو كناية عن العصمة أو التثبيت أو التثبيت الفكري والعاطفي والسلوكي) لا يخص فقط هذه الحالة ، وهذا الموقف ، بل هو يشمل الحالات المشابهة الأخرى ، وعلى هذا الأساس تعتبر الآية شاهدا على عصمة الأنبياء والقادة الإلهيين.

أمّا الآية الثالثة التي نبحثها والتي تقول :( إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً ) فهي دليل على صحة البحوث الخاصّة بعصمة الأنبياء ، حيث أنّ العصمة ليست حالة جبرية يلتزم فيها النّبي بلا ارادة منه أو وعي ، وإنّما هي توأم مع نوع من الوعي الذاتي والتي تنفذ مع الحرية ، لذا فإنّ ارتكاب ذنب في مثل هذه الحالات ليس محالا عقلا ، ولكن هذا الإيمان والوعي الخاص سوف يمنعان صدور الذنب ، فلا تتحقق المعصية عملا ، ولو فرضنا تحققها في الخارج فإنّه سينال عقوبات الجزاء الإلهي (دقق في ذلك)(١) .

٢ ـ لماذا العذاب المضاعف؟

من الواضح أنّه كلما زاد مقام الإنسان من حيث العلم والوعي والمعرفة والإيمان ، ازدادت قيمة وعمق الأعمال الخيرة التي يقوم بها ، وبدرجة نسبة

__________________

(١) يمكن ملاحظة المزيد من التفاصيل عن الموضوع في كتاب (القادة الكبار).

٧٧

الوعي العلم والمعرفة ، وطبعا سيكون ثوابها أكثر ، لذا فإنّنا نقرأ في بعض الرّوايات : (إنّ الثواب على قدر العقل)(١) .

أمّا الثواب والعقاب فسوف يزداد تبعا لهذه النسبة ، فإذا ارتكب إنسان أمّي وضعيف الإيمان ذنبا كبيرا ، فهذا ليس بالأمر العجيب ، ولهذا السبب سيكون جزاؤه أخف ، أمّا إذا قام عالم مؤمن بارتكاب ذنب صغير فإنّ جزاءه في مقابل ذلك سيكون أشد من جزاء الأمي في قبال ذنبه الكبير.

لهذا السبب بالذات نقرأ في الآيتين (٣٠ ـ ٣١) من سورة الأحزاب خطابا بهذا المضمون إلى نساء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يقول تعالى :( يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً ) .

وفي الرّوايات نقرأ هذا المفهوم : «يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد»(٢) .

هذه الآيات تشير إلى هذه الحقيقة ، فهي تقول للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا أظهرت ميلا (وحاشاه) نحو الشرك والمشركين فإنّ عقابك سيتضاعف في هذه الدنيا وفي الآخرة.

٣ ـ معنى (الضعف)

يجب الانتباه إلى هذه الملاحظة ، وهي أن كلمة (ضعف) في اللغة العربية ليس المقصود بها مرّتين فقط ، بل مرّتان وعدّة مرّات أيضا.

يقول الفيروزآبادي ، (العالم اللغوي المعروف في القرن الثّامن الهجري) في

__________________

(١) أصول الكافي ، ج ١ ، كتاب العقل والجهل ، ص ٩ ، حديث ٨.

(٢) أصول الكافي ، ج ١ ، ص ٣٧.

٧٨

القاموس : يقال في بعض الأحيان «ضعف شيء معين» وهي تعني المرّتين والثلاث مرّات وما شابهها ، لأنّ هذه الكلمة تعني الإضافة غير المحدودة.

الدليل على هذا القول ، أنّ الآيات القرآنية ـ وفي خصوص الحسنات ـ تقول:( إِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها ) (١) وفي موقع آخر تقول :( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ) (٢) .

وفي الرّوايات الإسلامية ورد عن الإمام جعفر الصّادقعليه‌السلام قوله في تفسير الآية (٢٦١) من سورة البقرة : «إذا أحسن المؤمن عمله ضاعف الله عمله بكل حسنة سبعمائة ضعف ، وذلك قول الله( وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ ) (٣) .

ولكن هذا الكلام لا يمنع من أن تطلق هذه الكلمة على «التثنية» بمعنى الضعفين. أو عند ما تذكر على شكل مضاف فإنّها تعني ثلاثة أضعاف مثلا نقول : ضعف الواحد.

٤ ـ تفسير جملة( إِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً )

المشهور بين المفسّرين أنّ القرآن يعني بالآية هذه أنّك إذا أظهرت توجها للمشركين فسوف يعتبرونك صديقا لهم. إلّا أنّ بعض المفسّرين يعتبر أنّ معنى الجملة ، أن المشركين سيعتبرونك ـ يا رسول الله ـ فقيرا لهم ومحتاجا إليهم. إذ في المعنى الأوّل (خليل) مأخوذة من (خلّة) على وزن (قلّة) وتعني الصداقة. أمّا في المعنى الثّاني فإنّ (خلّة) على وزن (غلّة) وتعني العوز والفقر والحاجة. لكن من الواضح أنّ الصحيح هو المعنى الأوّل.

__________________

(١) النساء ، ٤٠.

(٢) الأنعام ، ١٦٠.

(٣) تفسير العياشي وفقا لما نقله صاحب الميزان ، ج ٢ ، ص ٤٢٤.

٧٩

٥ ـ إلهي لا تكلني إلى نفسي

في المصادر الإسلامية نقرأ أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما نزلت هذه الآيات قرأ هذا الدعاء «اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا».

وهذا الدعاء المهم لرسول الهدىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعطينا درسا مهمّا ، وهو أنّه يجب أن نذكر الله دائما ونلتجئ إليه ، ونعتمد على لطفه ، حيث أنّ الأنبياء المعصومين لم يسلموا من المزالق بدون نصرة الله وتثبيته لهم ، إذن فكيف بنا نحن مع كل ما يحيطنا من أشكال الوسوسة والإغواء الشيطاني!!

* * *

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

الصالحة هو الإيمان ومعرفة الله وتسبيحه وتنزيهه.

وقد فسّر البعض «التسبيح» هنا بمعنى (شكر النعمة) والتي من ملازماتها إعانة المحرومين ، وهذان التّفسيران لا يتنافيان مع بعضهما البعض ، وهما مجموعان في مفهوم الآية الكريمة.

لقد سبق تسبيحهم (الاعتراف بالذنب) ، ولعلّ هذا كان لرغبتهم في تنزيه الله تعالى عن كلّ ظلم بعيدا عمّا نزّل بجنّتهم من دمار وبلاء عظيم ، وكأنّ لسان حالهم يقول : ربّنا إنّنا كنّا نحن الظالمين لأنفسنا وللآخرين ، ولذا حقّ علينا مثل هذا العذاب ، وما أصابنا منك هو العدل والحكمة.

كما يلاحظ في قسم آخر من آيات القرآن الكريم ـ أيضا ـ أنّ التسبيح قبل الإقرار بالظلم ، حيث نقرأ ذلك في قصّة يونسعليه‌السلام عند ما أصبح في بطن الحوت ، وذلك قوله :( لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) (١) .

والظلم بالنسبة لهذا النبي العظيم هو بمعنى ترك الأولى ، كما أوضحنا ذلك في تفسير هذه الآية.

إلّا أنّ المسألة لم تنته إلى هذا الحدّ ، حيث يقول تعالى :( فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ ) .

والملاحظ من منطوق الآية أنّ كلّ واحد منهم في الوقت الذي يعترف بذنبه ، فإنّه يلقي بأصل الذنب على عاتق الآخر ، ويوبّخه بشدّة ، وأنّه كان السبب الأساس فيما وصلوا إليه من نتيجة بائسة مؤلمة ، وكلّ منهم ـ أيضا ـ يؤكّد أنّه لم يكن غريبا عن الله والعدالة إلى هذا الحدّ.

نعم ، هكذا تكون عاقبة كلّ الظالمين عند ما يصبحون في قبضة العذاب الإلهي.

ومع الإقرار بالذنب فإنّ كلا منهم يحاول التنصّل ممّا لحق بهم ، ويسعى جاهدا

__________________

(١) الأنبياء ، الآية ٨٧.

٥٤١

لتحويل مسئولية البؤس والدمار على الآخرين.

ويحتمل أن يكون شعور كلّ منهم ـ أو غالبيتهم ـ بالأدوار المحدودة لهم فيما حصل ، هو الذي دفع كلا منهم للتخلّي عن مسئولية ما حصل ، وذلك كأن يقترح شخص شيئا ، ويؤيّده الآخر في هذا الاقتراح ، ويتبنّى ثالث هذا العمل ، ويظهر الرابع رضاه بسكوته ومن الواضح في مثل هذه الأحوال مساهمة الجميع في هذه الجريمة ومشاركتهم في الذنب.

ثمّ يضيف تعالى :( قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ ) .

لقد اعترفوا في المرحلة السابقة بالظلم ، وهنا اعترفوا بالطغيان ، والطغيان مرحلة أعلى من الظلم ، لأنّ الظالم يمكن أن يستجيب لأصل القانون إلّا أنّ غلبة هواه عليه يدفعه إلى الظلم ، أمّا الطاغي فإنّه يرفض القانون ويعلن تمرّده عليه ولا يعترف برسميّته.

ويحتمل أن يكون المقصود بالظلم هو : (ظلم النفس) ، والمقصود بالطغيان هو (التجاوز على حقوق الآخرين).

وممّا يجدر ملاحظته أنّ العرب تستعمل كلمة (ويس) عند ما يواجهون مكروها ويعبّرون عن انزعاجهم منه ، كما أنّهم يستعملون كلمة (ويح) أحيانا ، وأحيانا اخرى (ويل) وعادة يكون استعمال الكلمة الاولى في المصيبة البسيطة ، والثانية للأشدّ ، والثالثة للمصيبة الكبيرة ، واستعمال كلمة (الويل) من قبل أصحاب البستان يكشف عن أنّهم كانوا يعتبرون أنفسهم مستحقّين لأشدّ حالات التوبيخ.

وأخيرا ـ بعد عودة الوعي إلى ضمائرهم وشعورهم. بل واعترافهم بالذنب والإنابة إلى الله ـ توجّهوا إلى البارئعزوجل داعين ، وقالوا :( عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ ) (١) فقد توجّهنا إليه ونريد منه انفاذنا ممّا

__________________

(١) «راغبون» : من مادّة (رغبة) ، هذه المادّة كلّما كانت متعدية بـ (إلى) أو (في) تكون بمعنى الميل إلى شيء معيّن ، وكلّما

٥٤٢

تورّطنا فيه

والسؤال المطروح هنا : هل أنّ هؤلاء ندموا على العمل الذي أقدموا عليه ، وقرّروا إعادة النظر في برامجهم المستقبلية ، وإذا شملتهم النعمة الإلهية مستقبلا فسيؤدّون حقّ شكرها؟ أم أنّهم وبّخوا أنفسهم وكثر اللوم بينهم بصورة موقتة ، شأنهم شأن الكثير من الظالمين الذين يشتدّ ندمهم وقت حلول العذاب ، وما إن يزول الضرّ الذي حاقّ بهم إلّا ونراهم يعودون إلى ما كانوا عليه سابقا من ممارسات مريضة؟

اختلف المفسّرون في ذلك ، والمستفاد من سياق الآية اللاحقة أنّ توبتهم لم تقبل ، بلحاظ عدم اكتمال شروطها وشرائطها ، ولكن يستفاد من بعض الرّوايات قبول توبتهم ، لأنّها كانت عن نيّة خالصة ، وعوضهم عن جنّتهم بأخرى أفضل منها ، مليئة بأشجار العنب المثمرة.

ويقول تعالى في آخر آية من هذه الآيات ، بلحاظ الاستفادة من هذا الدرس والإعتبار به :( كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) .

وهكذا توجّه الآية خطابها إلى كلّ المغرورين ، الذين سحرهم المال وأبطرتهم الثروة والإمكانات المادية ، وغلب عليهم الحرص والاستئثار بكلّ شيء دون المحتاجين بأنّه لن يكون لكم مصير أفضل من ذلك. وإذا ما جاءت صاعقة وأحرقت تلك الجنّة ، فمن الممكن أن تأتي صاعقة أو عذاب عليكم من أمثال الآفات والحروب المحلية والعالمية المدمّرة ، وما إلى ذلك ، لتذهب بالنعم التي تحرصون عليها.

* * *

__________________

كانت متعدّية بـ (عن) تكون بمعنى الانصراف وعدم الاعتناء بشيء معيّن.

٥٤٣

بحثان

١ ـ الاستئثار بالنعم بلاء عظيم

جبل الإنسان وطبع على حبّ المال ، ويمثّل هذا الحبّ غريزة في نفسه ، لأنّ له فوائد شتّى ، وهذا الحبّ غير مذموم إذا كان في حدّ الاعتدال ، وجعل نصيب منه للمحتاجين ، وهذا لا يعني الاقتصار على أداء الحقوق الشرعية فقط ، بل أداء بعض الإنفاقات المستحبّة.

وجاء في الرّوايات الإسلامية ضرورة جعل نصيب للمحتاجين الحاضرين ممّا يقطف من ثمار البساتين وحصاد الزرع. وهذا ما يعرف بعنوان (حقّ الحصاد) وهو مقتبس من الآية الشريفة :( وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ ) (١) ، وهذا الحقّ غير حقّ الزكاة ، وما يعطى للمحتاجين الحاضرين منه أثناء قطف الثمار أو حصاد الزرع غير محدود بحدّ معيّن(٢) .

إلّا أنّ التعلّق بالمال حينما يكون بصورة مفرطة وجشعة فإنّه يأخذ شكلا منحرفا وأنانيا ، وقد لا يكون بحاجة إليه ، فحرمان الآخرين والاستئثار بالأموال والتلذّذ بحيازة النعم والمواهب الإلهية دون سواه ، مرض وبلاء كما نلاحظ في حياتنا المعاصرة مفردات ونماذج كثيرة في مجتمعاتنا البشرية تعيش هذه الحالة.

وقصّة (أصحاب الجنّة) التي حدّثتنا الآيات السابقة عنها ، هي كشف وتعرية واضحة لهذه النفسيات المريضة لأصحاب الأموال الذين يستأثرون بالخير والنعم والهبات الإلهية ، ويؤكّدون بحصرها فيهم دون سواهم ويتجسّد هذا المعنى في الخطّة التي اعدّت من جانب أصحاب الجنّة في حرمان المحتاجين ، بالتفصيل الذي ذكرته الآيات الكريمة

__________________

(١) الأنعام ، الآية ١٤١.

(٢) يمكن مطالعة الروايات التي جاءت في هذا المجال في ج ٦ ، من (وسائل الشيعة) أبواب زكاة الغلات ، باب ١٣ ، وفي (سنن البيهقي) ج ٤ ، ص ١٣٣.

٥٤٤

وغاب عن بالهم أنّ آهات هؤلاء المحرومون تتحوّل في أحيان كثيرة إلى صواعق محرقة ، تحيل سعادة هؤلاء الأغنياء الظالمين إلى وبال ، وتظهر هذه الصواعق على شكل كوارث ومفاجات وثورات ، ويشاهدون آثارها المدمّرة بامّ أعينهم ، ويتحوّل ترفهم وبذخهم إلى زفرات وآهات وصرخات تشقّ عنان السماء ، معلنين التوبة والإقلاع عن الممارسات الاستئثارية ، ولات ساعة متاب.

٢ ـ العلاقة بين (الرزق) و (الذنوب)

ممّا يستفاد ـ ضمنا ـ من القصّة أعلاه وجود علاقة بين الذنب والرزق ، وممّا يؤيّد هذا ما ورد في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «إنّ الرجل ليذنب الذنب ، فيدرأ عنه الرزق ، وتلا هذه الآية :( إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ ، فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ ) (١) .

ونقل عن ابن عبّاس أيضا أنّه قال : إنّ العلاقة بين الذنب وقطع الرزق ، أوضح من الشمس ، كما بيّنها اللهعزوجل في سورة ن والقلم(٢) .

* * *

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٩٥ ، (حديث ٤٤).

(٢) تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ص ٣٧.

٥٤٥

الآيات

( إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (٣٨) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (٣٩) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (٤٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٤١) )

التّفسير

١ ـ استجواب كامل :

إنّ طريقة القرآن الكريم في الكشف عن الحقائق ، واستخلاص المواقف ، تكون من خلال عملية مقارنة يعرضها الله سبحانه في الآيات الكريمة ، وهذا الأسلوب مؤثّر جدّا من الناحية التربوية فمثلا تستعرض الآيات الشريفة حياة الصالحين وخصائصهم وميزاتهم ومعاييرهم ثمّ كذلك بالنسبة إلى الطالحين والظالمين ، ويجعل كلا منهما في ميزان ، ويسلّط الأضواء عليهما من خلال عملية

٥٤٦

مقارنة ، للوصول إلى الحقيقة.

وتماشيا مع هذا المنهج وبعد استعراض النهاية المؤلمة لـ (أصحاب الجنّة) في الآيات السابقة ، يستعرض البارئعزوجل حالة المتّقين فيقول :( إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) .

«جنّات» من (الجنّة) حيث كلّ نعمة متصوّرة على أفضل صورة لها تكون هناك ، بالإضافة إلى النعم التي لم تخطر على البال.

ولأنّ قسما من المشركين والمترفين كانوا يدّعون علوّ المقام وسموّه في يوم القيامة كما هو عليه في الدنيا ، لذا فإنّ الله يوبّخهم على هذا الادّعاء بشدّة في الآية اللاحقة. بل يحاكمهم فيقول :( أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) .

هل يمكن أن يصدّق إنسان عاقل أنّ عاقبة العادل والظالم ، المطيع والمجرم ، المؤثر والمستأثر واحدة ومتساوية؟ خاصّة عند ما تكون المسألة عند إله جعل كلّ مجازاته ومكافآته وفق حساب دقيق وبرنامج حكيم.

وتستعرض الآية (٥٠) من سورة فصّلت موقف هؤلاء الأشخاص المماثل لما تقدّم ، حيث يقول تعالى :( وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي ، وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً ، وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى ) .

نعم ، إنّ الفئة المغرورة المقتنعة بتصرّفاتها الراضية عن نفسها تعبر أنّ الدنيا والآخرة خاصّة بها وملك لها.

ثمّ يضيف تعالى أنّه لو لم يحكم العقل بما تدعون ، فهل لديكم دليل نقلي ورد في كتبكم يؤيّد ما تزعمون :( أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ ) (١) أي ما اخترتم من الرأي

إن توقّعكم في أن تكون العناصر المجرمة من أمثالكم مع صفوف المسلمين

__________________

(١) جملة (إنّ لكم ..) مفعول به لـ (تدرسون) وطبقا للقواعد فإنّها يجب أن تقرأ (أن) بـ (فتح الهمزة). إلّا أنّ مجيء اللام على رأس اسم (أن) جعلها تقرأ (إن) بـ (كسر الهمزة) وذلك لأنّ الفعل يصبح معلّقا عن العمل.

٥٤٧

وعلى مستواهم ، حديث هراء لا يدعمه العقل ، ولم يأت في كتاب يعتدّ به ولا هو موضع اعتبار.

ثمّ تضيف الآية اللاحقة أنّه لو لم يكن لديكم دليل من العقل أو النقل ، فهل أخذتم عهدا من الله أنّه سيكون معكم إلى الأبد :( أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ ) .

وتتساءل الآية الكريمة عن هؤلاء مستفسرة عمّن يستطيع الادّعاء منهم بأنّه قد أخذ عهدا من الله سبحانه في الاستجابة لميوله وأهوائه ، وإعطائه ما يشاء من شأن ومقام ، وبدون موازين أو ضوابط ، وبصورة بعيدة عن مقاييس السؤال وموازين الاستجابة؟ حتّى يمكن القول بأنّ المجرمين متساوون مع المؤمنين(١) .

ويضيف سبحانه ـ استمرارا لهذه التساؤلات ـ كي يسدّ عليهم جميع الطرق ومن كلّ الجهات ، فيقول :( سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ ) فمن منهم يضمن أنّ المسلمين والمجرمين سواء ، أو يضمن أنّ الله تعالى سيؤتيه كلّ ما يريد؟!.

وفي آخر مرحلة من هذا الاستجواب العجيب يقول تعالى :( أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ ) .

فالآية تطلب من المشركين تقديم الدليل الذي يثبت أنّ هذه الأصنام المنحوتة من الحجارة ، والتي لا قيمة لها ولا شعور ، تكون شريكة الله تعالى وتشفع لهم عنده.

وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ (شركاء) هنا بمعنى (شهداء).

ومن خلال العرض المتقدّم نستطيع القول : إنّ هؤلاء المجرمين لإثبات ادّعاءاتهم في التساوي مع المؤمنين في يوم القيامة ، بل أفضليتهم أحيانا كما يذهب بعضهم لذلك ، لا بدّ لهم أن يدعموا قولهم هذا بإحدى الوسائل الأربعة

__________________

(١) فسّر البعض مصطلح (بالغة) هنا بمعنى (مؤكّد) ، وفسّرها البعض الآخر بأنّها (مستمر) والمعنى الثاني أنسب ، وبناء على هذا فإنّ (الجارّ والمجرور) في (إلى يوم القيامة) تكون متعلّقة بـ (بالغة).

٥٤٨

التالية : إمّا دليل من العقل ، أو كتاب من الكتب السماوية ، أو عهد من الله تعالى ، أو بواسطة شفاعة الشافعين وشهادة الشاهدين. وبما أنّ جواب جميع هذه الأسئلة سلبي ، لذا فإنّ هذا الادّعاء فارغ من الأساس وليست له أيّة قيمة.

* * *

٥٤٩

الآيات

( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (٤٣) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (٤٤) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥) )

التّفسير

العجز عن السجود :

تعقيبا للآيات السابقة التي استجوب الله تعالى فيها المشركين والمجرمين استجوابا موضوعيا ، تكشف لنا هذه الآيات جانبا من المصير البائس في يوم القيامة لهذه الثلّة المغرمة في حبّها لذاتها ، والمكثرة للادّعاءات ، هذا المصير المقترن بالحقارة والذلّة والهوان.

يقول تعالى :( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ ) (١) .

__________________

(١) «يوم» ظرف متعلّق بمحذوف تقديره : (اذكروا يوم ...) ، واحتمل البعض ـ أيضا ـ أنّه متعلّق بـ (فليأتوا) في الآية

٥٥٠

جملة( يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ ) كما قال جمع من المفسّرين ، كناية عن شدّة الهول والخوف والرعب وسوء الحال ، إذ أنّ المتعارف بين العرب عند مواجهتهم أمرا صعبا أنّهم يشدّون ثيابهم على بطونهم ممّا يؤدّي إلى كشف سيقانهم.

ونقرأ جواب ابن عبّاس المفسّر المعروف عند ما سئل عن تفسير هذه الآية قال : كلّما خفي عليكم شيء من القرآن ارجعوا إلى الشعر فإنّ الشعر ديوان العرب ، ألم تسمعوا قول الشاعر :

وقامت الحرب بنا على ساق.

إنّ هذا القول كناية عن شدّة أزمة الحرب.

وقيل : إنّ (ساق) تعني أصل وأساس الشيء ، كساق الشجرة ، وبناء على هذا فإنّ جملة (يكشف عن ساق) تعني أنّ أساس كلّ شيء يتّضح ويتبيّن في ذلك اليوم ، إلّا أنّ المعنى الأوّل أنسب حسب الظاهر.

وفي ذلك اليوم العظيم يدعى الجميع إلى السجود للبارئعزوجل ، فيسجد المؤمنون ، ويعجز المجرمون عن السجود ، لأنّ نفوسهم المريضة وممارساتهم القبيحة قد تأصّلت في طباعهم وشخصياتهم في عالم الدنيا ، وتطفح هذه الخصال في اليوم الموعود وتمنعهم من إحناء ظهورهم للذات الإلهية المقدّسة.

وهنا يثار سؤال : إنّ يوم القيامة ليس بيوم تكاليف وواجبات وأعمال ، فلم السجود؟

يمكن استنتاج الجواب من التعبير الذي ورد في بعض الأحاديث ، نقرأ في الحديث التالي عن الإمام الرضاعليه‌السلام في قوله تعالى :( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ ) قال : «حجاب من نور يكشف فيقع المؤمنون سجّدا وتدمج أصلاب المنافقين فلا يستطيعون السجود»(١) .

__________________

السابقة ، إلّا أنّ هذا المعنى مستبعد.

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٩٥ ، ح ٤٩.

٥٥١

وبتعبير آخر : في ذلك اليوم تتجلّى العظمة الإلهية ، وهذه العظمة تدعو المؤمنين للسجود فيسجدون ، إلّا أنّ الكافرين حرموا من هذا الشرف واللطف.

وتعكس الآية اللاحقة صورة جديدة لحالتهم حيث يقول سبحانه :( خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ) (١) .

هذه الآية الكريمة تصف لنا حقيقة المجرمين عند ما يدانون في إجرامهم ويحكم عليهم ، حيث نلاحظ الذلّة والهوان تحيط بهم ، وتكون رؤوسهم مطأطئة تعبيرا عن هذه الحالة المهينة.

ثمّ يضيف تعالى :( وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ ) .

إلّا أنّهم لن يسجدوا أبدا ، لقد صحبوا روح التغطرس والعتوّ والكبر معهم في يوم القيامة فكيف سيسجدون؟

إنّ الدعوة للسجود في الدنيا لها موارد عديدة ، فتارة بواسطة المؤذّنين للصلاة الفردية وصلاة الجماعة ، وكذلك عند سماع بعض الآيات القرآنية وأحاديث الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة المعصومينعليهم‌السلام ولذا فإنّ الدعوة للسجود لها مفهوم واسع وتشمل جميع ما تقدّم.

ثمّ يوجّه البارئعزوجل الخطاب لنبيّه الكريم ويقول :( فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ ) .

وهذه اللهجة تمثّل تهديدا شديدا من الواحد القهّار لهؤلاء المكذّبين المتمردين ، حيث يخاطب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : لا تتدخّل ، واتركني مع هؤلاء ، لاعاملهم بما يستحقّونه. وهذا الكلام الذي يقوله ربّ قادر على كلّ شيء ، ـ بالضمن ـ باعث على اطمئنان الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين أيضا ، ومشعرا لهم بأنّ الله معهم وسيقتصّ من جميع الأعداء الذين يثيرون المشاكل والفتن والمؤامرات أمام

__________________

(١) «ترهقهم» من مادّة (رهق) ، (على وزن شفق) بمعنى التغطية والإحاطة.

٥٥٢

الرّسول والرسالة ، ولن يتركهم الله تعالى على تماديهم.

ثمّ يضيف سبحانه :( سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ) .

نقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «إذا أحدث العبد ذنبا جدّد له نعمة فيدع الاستغفار ، فهو الاستدراج»(١) .

والذي يستفاد من هذا الحديث ـ والأحاديث الاخرى في هذا المجال ـ أنّ الله تعالى يمنح ـ أحيانا ـ عباده المعاندين نعمة وهم غارقون في المعاصي والذنوب وذلك كعقوبة لهم. فيتصوّرون أنّ هذا اللطف الإلهي قد شملهم لجدارتهم ولياقتهم له فيأخذهم الغرور المضاعف ، وتستولي عليهم الغفلة إلّا أنّ عذاب الله ينزل عليهم فجأة ويحيط بهم وهم بين أحضان تلك النعم الإلهية العظيمة وهذا في الحقيقة من أشدّ ألوان العذاب ألما.

إنّ هذا اللون من العذاب يشمل الأشخاص الذين وصل طغيانهم وتمردّهم حدّه الأعلى ، أمّا من هم دونه في ذلك فإنّ الله تعالى ينبّههم وينذرهم عن ممارساتهم الخاطئة عسى أن يعودوا إلى رشدهم ، ويستيقظوا من غفلتهم ، ويتوبوا من ذنوبهم ، وهذا من ألطاف البارئعزوجل بهم.

وبعبارة اخرى : إذا أذنب عبد فإنّه لا يخرج من واحدة من الحالات الثلاث التالية :

إمّا أن ينتبه ويرجع عن خطئه ويتوب إلى ربّه.

أو أن ينزل الله عليه العذاب ليعود إلى رشده.

أو أنّه غير أهل للتوبة ولا للعودة للرشد بعد التنبيه له ، فيعطيه الله نعمة بدل البلاء وهذا هو : (عذاب الاستدراج) والذي أشير له في الآيات القرآنية بالتعبير

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٤٠.

٥٥٣

أعلاه وبتعابير اخرى.

لذا يجب على الإنسان المؤمن أن يكون يقظا عند إقبال النعم الإلهية عليه ، وليحذر من أن يكون ما يمنحه الله من نعم ظاهرية يمثّل في حقيقته (عذاب الاستدراج) ولذلك فإنّ المسلمين الواعين يفكّرون في مثل هذه الأمور ويحاسبون أنفسهم باستمرار ، ويعيدون تقييم أعمالهم دائما ، كي يكونوا قريبين من طاعة الله ، ويؤدّون حقّ الألطاف والنعم التي وهبها الله لهم.

جاء في حديث أنّ أحد أصحاب الإمام الصادقعليه‌السلام قال : إنّي سألت الله تبارك وتعالى أن يرزقني مالا فرزقني ، وإنّي سألت الله أن يرزقني ولدا فرزقني ، وسألته أن يرزقني دارا فرزقني ، وقد خفت أن يكون ذلك استدراجا؟ فقال : «أمّا مع الحمد فلا»(١) .

والتعبير بـ (أملي لهم) إشارة إلى أنّ الله تعالى لا يستعجل أبدا بجزاء الظالمين ، والاستعجال يكون عادة من الشخص الذي يخشى فوات الفرصة عليه ، إلّا أنّ الله القادر المتعال أيّما شاء وفي أي لحظة فإنّه يفعل ذلك ، والزمن كلّه تحت تصرّفه.

وعلى كلّ حال فإنّ هذا تحذير لكلّ الظالمين والمتطاولين بأن لا تغرّهم السلامة والنعمة أبدا ، وليرتقبوا في كلّ لحظة بطش الله بهم(٢) .

* * *

__________________

(١) اصول الكافي نقلا عن نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ١٩٧ ، ح ٥٩.

(٢) سبق كلام حول عقوبة (الاستدراج) في الآية (١٨٣) من سورة الأعراف ، وكذلك في الآية (١٧٨) سورة آل عمران.

٥٥٤

الآيات

( أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤٧) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨) لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠) )

التّفسير

لا تستعجل بعذابهم :

استمرارا للاستجواب الذي تمّ في الآيات السابقة للمشركين والمجرمين ، يضيف البارئعزوجل سؤالين آخرين ، حيث يقول في البداية :( أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ) .

أي إذا كانت حجّتهم أنّ الاستجابة لدعوتك تستوجب أجرا ماديا كبيرا ، وأنّهم غير قادرين على الوفاء به ، فإنّه كذب ، حيث أنّك لم تطالبهم بأجر ، كما لم يطلب أي من رسل الله أجرا.

٥٥٥

«مغرم» من مادّة (غرامة) وهي ما يصيب الإنسان من ضرر دون أن يرتكب جناية ، و (مثقل) من مادّة (ثقل) بمعنى الثقل ، وبهذا فإنّ الله تعالى أسقط حجّة اخرى ممّا يتذرّع به المعاندون.

وقد وردت الآية أعلاه وما بعدها (نصّا) في سورة الطور (آية ٤٠ ـ ٤١).

ثمّ يضيف واستمرارا للحوار بقوله تعالى :( أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ) .

حيث يمكن أن يدّعي هؤلاء بأنّ لهم ارتباطا بالله سبحانه عن طريق الكهنة ، أو أنّهم يتلقّون أسرار الغيب عن هذا الطريق فيكتبونها ويتداولونها ، وبذلك كانوا في الموقع المتميّز على المسلمين ، أو على الأقل يتساوون معهم.

ومن المسلّم به أنّه لا دليل على هذا الادّعاء أيضا ، إضافة إلى أنّ لهذه الجملة معنى (الاستفهام الإنكاري) ، ولذا فمن المستبعد ما ذهب إليه البعض من أنّ المقصود من الغيب هو (اللوح المحفوظ) ، والمقصود من الكتابة هو القضاء والقدر ، وذلك لأنّهم لم يدّعوا أبدا أنّ القضاء والقدر واللوح المحفوظ في أيديهم.

ولأنّ العناد واللامنطقية التي كان عليها أعداء الإسلام تؤلم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتدفعه إلى أن يدعو الله عليهم ، لذا فإنّه تعالى أراد أن يخفّف شيئا من آلام رسوله الكريم ، فطلب منه الصبر وذلك قوله تعالى :( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ) .

أي انتظر حتّى يهيء الله لك ولأعوانك أسباب النصر ، ويكسر شوكة أعدائك ، فلا تستعجل بعذابهم أبدا ، واعلم بأنّ الله ممهلهم وغير مهملهم ، وما المهلة المعطاة لهم إلّا نوع من عذاب الاستدراج.

وبناء على هذا فإنّ المقصود من (حكم ربّك) هو حكم الله المقرّر الأكيد حول انتصار المسلمين.

وقيل أنّ المقصود منها هو : أن تستقيم وتصبر في طريق إبلاغ أحكام الله تعالى.

كما يوجد احتمال آخر أيضا وهو أنّ المقصود بالآية أنّ حكم الله إذا جاء

٥٥٦

فعليك أن تستسلم لأمره تعالى وتصبر ، لأنّه سبحانه قد حكم بذلك(١) .

إلّا أنّ التّفسير الأوّل أنسب.

ثمّ يضيف تعالى :( وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ ) :

والمقصود من هذا النداء هو ما ورد في قوله تعالى :( فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) (٢) .

وبذلك فقد اعترف النبي يونسعليه‌السلام بترك الأولى ، وطلب العفو والمغفرة من الله تعالى. كما يحتمل أن يكون المقصود من هذا النداء هو اللعنة التي أطلقها على قومه في ساعة غضبه. إلّا أنّ المفسّرين اختاروا التّفسير الأوّل لأنّ التعبير بـ «نادى» في هذه الآية يتناسب مع ما ورد في الآية (٨٧) من سورة الأنبياء ، حيث من المسلّم انّه نادى ربّه عند ما كانعليه‌السلام في بطن الحوت.

«مكظوم» من مادّة (كظم) على وزن (هضم) بمعنى الحلقوم ، و (كظم السقاء) بمعنى سدّ فوهة القربة بعد امتلائها ، ولهذا السبب يقال للأشخاص الذين يخفون غضبهم وألمهم ويسيطرون على انفعالاتهم ويكظمون غيظهم بأنّهم : كاظمون ، والمفرد : كاظم ، ولهذا السبب يستعمل هذا المصطلح أيضا بمعنى (الحبس).

وبناء على ما تقدّم فيمكن أن يكون للمكظوم معنيان في الآية أعلاه : المملوء غضبا وحزنا ، أو المحبوس في بطن الحوت ، والمعنى الأوّل أنسب ، كما ذكرنا.

ويضيف سبحانه في الآية اللاحقة :( لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ ) (٣) .

من المعلوم أنّ يونسعليه‌السلام خرج من بطن الحوت ، والقي في صحراء يابسة ،

__________________

(١) في هذه الصورة ستكون اللام في (لحكم ربّك) هي لام التعليل.

(٢) الأنبياء ، الآية ٨٧.

(٣) مع انّ (النعمة) مؤنث ، إلّا أنّ فعلها (تداركه) جاء بصورة مذكر ، وسبب هذا أنّ فاعل المؤنث يكون لفظيا ، وأنّ الضمير المفعول أصبح فاصلا بين الفعل والفاعل (فتأمّل!).

٥٥٧

عبّر عنها القرآن الكريم بـ (العراء) وكان هذا في وقت قبل الله تعالى فيه توبته وشمله برحمته ، ولم يكن أبدا مستحقّاعليه‌السلام للذمّ.

ونقرأ في قوله تعالى :( فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ) (١) كي يستريح في ظلالها.

كما أنّ المقصود من (النعمة) في الآية أعلاه هو توفيق التوبة وشمول الرحمة الإلهية لحالهعليه‌السلام حسب الظاهر.

وهنا يطرح سؤالان :

الأوّل : هو ما جاء في الآيتين ١٤٣ ، ١٤٤ من سورة الصافات في قوله تعالى :( فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) وهذا مناف لما ورد في الآية مورد البحث.

وللجواب على هذا السؤال يمكن القول : كانت بانتظار يونسعليه‌السلام عقوبتان : إحداهما شديدة ، والاخرى أخفّ وطأة. الاولى الشديدة هي أن يبقى في بطن الحوت إلى يوم يبعثون ، والأخفّ : هو أن يخرج من بطن الحوت وهو مذموم وبعيد عن لطف الله سبحانه ، وقد كان جزاؤهعليه‌السلام الجزاء الثاني ، ورفع عنه ما ألمّ به من البعد عن الألطاف الإلهية حيث شملته بركة اللهعزوجل ورحمته الخاصّة.

والسؤال الآخر يتعلّق بما جاء في قوله تعالى :( فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ) (٢) وإنّ ما يستفاد من الآية مورد البحث أنّهعليه‌السلام لم يكن ملوما ولا مذموما.

ويتّضح الجواب على هذا السؤال بالالتفات إلى أنّ الملامة كانت في الوقت الذي التقمه الحوت توّا ، وأنّ رفع المذمّة كان متعلّقا بوقت التوبة وقبولها من قبل الله تعالى ، ونجاته من بطن الحوت.

لذا يقول البارئعزوجل في الآية اللاحقة :( فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ

__________________

(١) الصافات ، الآية ١٤٥ و١٤٦.

(٢) الصافات ، الآية ١٤٣.

٥٥٨

الصَّالِحِينَ ) .

وبذلك فقد حمّله الله مسئولية هداية قومه مرّة اخرى ، وعاد إليه يبلّغهم رسالة ربّه ، ممّا كانت نتيجته أن آمن قومه جميعا ، وقد منّ الله تعالى عليهم بألطافه ونعمه وأفضاله لفترة طويلة.

وقد شرحنا قصّة يونسعليه‌السلام وقومه ، وكذلك بعض المسائل الاخرى حول تركه لـ (الأولى) واستقراره فترة من الزمن في بطن الحوت والإجابة على بعض التساؤلات المطروحة في هذا الصدد بشكل مفصّل في تفسير الآيات (١٣٩ ـ ١٤٨) من سورة الصافات وكذلك في تفسير الآيات (٨٧ ، ٨٨) من سورة الأنبياء.

* * *

٥٥٩

الآيتان

( وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٥٢) )

التّفسير

يريدون قتلك لكنّهم عاجزون

هاتان الآيتان تشكّلان نهاية سورة القلم ، وتتضمّنان تعقيبا على ما ورد في بداية السورة من نسبة الجنون إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قبل الأعداء.

يقول تعالى :( وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ) .

«ليزلقونك» من مادّة (زلق) بمعنى التزحلق والسقوط على الأرض ، وهي كناية عن الهلاك والموت.

ثمّة أقوال مختلفة في تفسير هذه الآية :

١ ـ قال كثير من المفسّرين : إنّ الأعداء حينما يسمعون منك هذه الآيات العظيمة للقرآن الكريم ، فإنّهم يمتلئون غضبا وغلا ، وتتوجّه إليك نظراتهم الحاقدة وبمنتهى الغيظ ، وكأنّما يريدون أن يطرحوك أرضا ويقتلوك بنظراتهم الخبيثة

٥٦٠

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576