الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٠

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 550

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 550 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 206831 / تحميل: 6198
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٠

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

ثانياً: الانحراف السياسي

اتّبع الحكّام الأمويون سياسة من سبقهم في تحويل الخلافة إلى ملك يتوارثه الأبناء عن الآباء دون سابقة علم أو تقوى، وتوزيع المناصب المهمّة والحسّاسة في الدولة على أبنائهم وأقربائهم والمتملقين لهم، واستبدوا بالأمر فلا شورى ولا استشارة إلاّ مع المنحرفين والفسّاق من بطانتهم. ولشعورهم بعدم الأحقية بالخلافة استمروا على نهج من سبقهم في اتخاذ الإرهاب والتنكيل وسيلة لتثبيت سلطانهم، فحينما وجد الوليد بن عبد الملك أنّ ولاية عمر بن عبد العزيز على مكة والمدينة قد أصبحت ملجأً للهاربين من ظلم بقية الولاة، قام بعزله(١) تنكيلاً منه بالمعارضين وارهابهم وغلق منافذ السلامة أمامهم.

وكان سليمان بن عبد الملك محاطاً بثُلّة من الرجال الذين عرفوا بفسقهم وانحرافهم وسوء سيرتهم كما وصفهم أعرابيّ عنده، بعد أن أخذ منه الأمان، فقال له: يا أمير المؤمنين، أنه قد تكنّفك رجال أساءوا الاختيار لأنفسهم، وابتاعوا دنياهم بدينهم، ورضاك بسخط ربهم، خافوك في الله، ولم يخافوا الله فيك، حرب للآخرة وسلم للدنيا، فلا تأمنهم على ما يأمنك الله عليه، فإنّهم لم يأتوا إلاّ ما فيه تضييع وللأمة خسف وعسف، وأنت مسؤول عما اجترموا،

ــــــــــــــ

(١) الكامل في التاريخ: ٤ / ٥٧٧.

٨١

وليسوا مسؤولين عمّا اجترمت، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك(١) .

واتّبع أبناء عبد الملك الوليد وسليمان سيرة أبيهم، والتزموا بوصيته في قتل الرافضين للبيعة، والتي جاء فيها: ادع الناس إلى البيعة، فمن قال برأسه هكذا فقل بسيفك هكذا(٢) .

وأقرّ كثير من الفقهاء سياسة الحكّام الأمويين خوفاً أو طمعاً أو استسلاماً للأمر الواقع، فقد أقرّوا ما ابتدعوا من ممارسات في تولية الحكم كالعهد إلى اثنين أو أكثر، فقد عهد سليمان بالحكم إلى عمر بن عبد العزيز ومن بعده ليزيد بن عبد الملك، فأقرّ كثير من الفقهاء ذلك، حتى أصبحت نظرية من نظريات تولّي الحكم(٣) .

وحينما تولّى عمر بن عبد العزيز الحكم حدث انفراج نسبي في السياسة الأُموية، كما لاحظنا، وقام ببعض الإصلاحات ومنح الحرية النسبية للمعارضين، وألغى بدعة سبّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام وردّ إلى أهل البيتعليهم‌السلام بعض حقوقهم، واعترف بالممارسات الخاطئة لأسلافه من الحكّام، حتى امتدحه الإمام الباقرعليه‌السلام على ذلك(٤) .

ولكن حكمه لم يدم طويلاً ; إذ عاد الوضع إلى ما كان عليه.

وامتازت هذه المرحلة بسرعة تبدّل الحكّام، فقد حكم سليمان ثلاث سنين، وحكم عمر بن عبد العزيز ثلاث سنين أو أقل، وحكم يزيد بن عبد الملك أربع سنين، وكان كل حاكم ينشغل بالإجهاز على ولاة من سبقه، وكثرت الاختلافات في داخل البيت الأُموي تنافساً على الحكم، كما كثرت

ــــــــــــــ

(١) الكامل في التاريخ: ٣ / ١٧٨.

(٢) البداية والنهاية: ٩ / ١٦١.

(٣) الأحكام السلطانية: ١٣، الماوردي.

(٤) الكامل في التاريخ: ٥ / ٦٢.

٨٢

الفتن الداخلية في عهدهم، حتى قام قتيبة بن مسلم بخلع سليمان والاستقلال في خراسان(١) .

وقام يزيد بن المهلب في سنة ( ١٠١ هـ ) بخلع يزيد بن عبد الملك وجهّز إليه يزيد من قتله وقتل أتباعه.

وأحاط يزيد نفسه بالمتملّقين الذين يبررون له انحرافاته حتى أفتوا له أنه ليس على الخلفاء حساب(٢) .

وهكذا كانت الأمة الإسلامية محاطة بالمخاطر من كل جانب، ففي سنة ( ١٠٤ هـ ) ظفر الخزر بالمسلمين وانتصروا عليهم في بعض الثغور.

وفي عهد هشام بن عبد الملك ازداد الإرهاب والتنكيل بأهل البيتعليهم‌السلام وأتباعهم وسائر المعارضين، حتى اجترأ هشام بن عبد الملك على سجن الإمام الباقرعليه‌السلام وأقدم على اغتياله(٣) . وأصدر أوامره بقتل بعض أتباع الإمام الباقرعليه‌السلام إلاّ أنّ الإمام استطاع أن ينقذهم من القتل(٤) .

والتجأ الكثير إلى العمل السرّي للإطاحة بالحكم الأُموي، فكان العباسيون يعدّون العدّة ويبثون دعاتهم في الأقاليم البعيدة عن مركز الحكومة وخصوصاً في خراسان، وأخذ زيد ابن الإمام زين العابدينعليه‌السلام يعدّ العدّة للثورة على الأمويين في وقتها المناسب، لأنّ الأمويين كانوا قد أحصوا أنفاس الناس عليهم لكي لا يتطرقوا إلى انحرافاتهم السياسية أو يعلنوا عن معارضتهم لها.

ــــــــــــــ

(١) تاريخ ابن خلدون: ٥ / ١٥١.

(٢) البداية والنهاية: ٩ / ٢٣٢.

(٣) مناقب آل أبي طالب: ٤ / ٢٠٦.

(٤) بحار الأنوار: ٤٦ / ٢٨٣.

٨٣

ثالثاً: الانحراف الأخلاقي

لقد حوّل الأمويون الأنظار إلى الغزوات، وحشّدوا جميع الطاقات البشريّة والمادّية باتجاه الغزوات; وذلك من أجل إشغال المسلمين عن التحدّث حول الأوضاع المنحرفة، وعن التفكير في العمل السياسي أو الثوري لاستبدال نظام الحكم بغيره، ولم يكن هدفهم نشر مفاهيم وقيم الإسلام كما يتصوّر البعض ذلك، لأنّهم كانوا قد خالفوا هذه المفاهيم والقيم في سياستهم الداخلية، وداسوا كثيراً من المقدسات الإسلامية، وشجّعوا على الانحرافات الفكرية.

وأدّى توسّع عمليات الفتح والغزو إلى خلق الاضطرابات في المجتمع الإسلامي وتشتيت الأُسر بغياب المعيل أو فقدانه، كما كثرت الجواري والغلمان ممّا أدّى إلى التشجيع على الانحراف باقتناء الأثرياء للجواري المغنّيات وتملك المخنثين، وانتقل الانحراف من البلاط إلى الأمة تبعاً لانحراف الحكّام وفسقهم، فقد انشغلوا باللهو والانسياق وراء الشهوات دون حدود أو قيود حتى كثر الغزل والتشبيب بالنساء في عهد الوليد بن عبد الملك بشكل خاص(١) .

وكانت همّة سليمان بن عبد الملك في النساء، وانعكس ذلك على المجتمع حتى كان الرجل يلقى صاحبه فيقول له: كم تزوجت ؟ وماذا عندك من السراري ؟(٢) .

وقد وصف أبو حازم الأعرج الوضع الاجتماعي والأخلاقي مجيباً سليمان بن عبد الملك على سؤاله: ما لنا نكره الموت؟ بقوله: لأنكم عمّرتم

ــــــــــــــ

(١) الأغاني: ٦ / ٢١٩.

(٢) البداية والنهاية: ٩ / ١٦٥.

٨٤

دنياكم وأخربتم آخرتكم، فأنتم تكرهون النقلة من العمران إلى الخراب(١) .

وكان سليمان يسابق بين المغنيين ويمنح السابقين الجوائز الثمينة(٢) ، ويجزل العطاء للمغنيات. كما ازداد عدد المخنثين في عهده(٣) .

وأقبل يزيد بن عبد الملك على شرب الخمر واللهو(٤) ، ولم يتب من الشراب إلاَّ أسبوعاً حتى عاد إليه بتأثير من جاريته حبّابة(٥) .

وكان يقول: ما يقرّ عيني ما أوتيت من أمر الخلافة حتى اشتري سلامة وحبّابة فأرسل من يشتريهما له(٦) .

وهكذا وصل الانحراف إلى ذروته، حينما أصبح اللهو والمجون من أولى هموم حكّام الدولة.

وليس غريباً أن تنحرف الأمة بانحراف حكامها وولاتهم وأجهزة الدولة، وبهذا الانحراف كانت تبتعد الأغلبية من الناس عن الأهداف الكبرى التي حددها المنهج الإسلامي، ولا تكترث بالأحداث والمخاطر المحيطة بالوجود الإسلامي.

رابعاً: الانحراف في الميدان الاقتصادي

لقد تصرّف الحكّام بالأموال العامّة وكأنّها ملك شخصي لهم، فكانوا ينفقونها حسب رغباتهم وأهوائهم، على ملذاتهم وشهواتهم وكان للجواري والمغنيين نصيب كبير في بيت المال، كما كانوا ينفقون الأموال لشراء الذمم

ــــــــــــــ

(١) مروج الذهب: ٣ / ١٧٧.

(٢) الأغاني: ١ / ٣١٧.

(٣) المصدر السابق: ٤ / ٢٧٢.

(٤) مروج الذهب: ٣ / ١٩٦.

(٥) الأغاني: ١٥ / ٢٩٥.

(٦) المصدر السابق: ٨ / ٣٤٦.

٨٥

والضمائر، ويمنحونها لمن يشترك في تثبيت سلطانهم أو مدحهم والثناء عليهم، فقد مدح النابغة الشيباني يزيد بن عبد الملك فأمر له بمائة ناقة، وكساه وأجزل صلته(١) .

فتنافس الشعراء فيما بينهم للحصول على مزيد من الأموال كما تنافس المغنّون لنيل الهدايا من الحكام أو ولاتهم.

وكان الحكّام يعيشون في أعلى مراتب الترف والبذخ، ويبذّرون أموال المسلمين على لهوهم وشهواتهم، وعلى المقربين لهم، في وقت كان كثير من الناس يعيشون حياة الفقر والجوع والحرمان.وازداد التمييز الطبقي حينما عُطِّل مبدأ التكافل الاجتماعي، ولم تكترث الدولة بمعاناة الناس وهمومهم ولم تتدخل في الحث على الإنفاق.

وقد ضاعف الحكّام من الضرائب، فأضافوا ضرائب جديدة على الصناعات والحرف وخصوصاً في عهد هشام بن عبد الملك، الذي كان ينفق ما تجمّع لديه على الشعراء المادحين له(٢) .

وقد وصف سليمان بن عبد الملك حالات الترف والمجون التي وصلوا إليها قائلاً: قد أكلنا الطيب، ولبسنا اللين، وركبنا الفاره، ولم يبق لي لذة إلاّ صديق أطرح معه فيما بيني وبينه مؤنة التحفظ(٣) .

وهكذا انساق الناس ـ وخصوصاً ـ أتباع الأمويين وراء شهواتهم ورغباتهم، وانشغل الكثير في السعي للحصول على الأموال بأي وجه أمكن.

ــــــــــــــ

(١) الأغاني: ٧ / ١٠٩.

(٢) المصدر السابق: ١ / ٣٣٩.

(٣) مروج الذهب: ٣ / ٧٦.

٨٦

الفصل الثالث: دور الإمام محمّد الباقرعليه‌السلام في إصلاح الواقع الفاسد

على الرغم من انحراف الحكّام وأجهزتهم الإدارية والسياسية عن المبادئ الثابتة التي أرسى دعائمها القرآن الكريم والسنّة النبويّة; إلاّ أنّ القاعدة الفكرية والتشريعية للدولة بقيت متبنّاةً من قبل الحاكم وأجهزته في مظاهرها العامة، وعلى ضوء ذلك فإنّ دور الإمامعليه‌السلام كان دوراً إصلاحياً لإعادة الحاكم وأجهزته وإعادة الأمة إلى الاستقامة في العقيدة والشريعة، وجعل الإسلام بمفاهيمه وقيمه هو الحاكم على الأفكار والعواطف والمواقف.

وكان أسلوب الإمامعليه‌السلام الإصلاحي متفاوتاً تبعاً لتفاوت الظروف التي كانت تحيط به، وبالحكم القائم، وبالأمة المسلمة.

لقد كان الإمامعليه‌السلام مقصد العلماء من كل بلاد العالم الإسلامي. وما زار المدينة أحد إلاّ عرّج على بيته يأخذ من فضائله وعلومه، وكان يقصده كبار رجالات الفقه الإسلامي: كسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وأبي حنيفة.

وكان دورهعليه‌السلام في الإصلاح يتركّز على اتجاهين متزامنين:

الاتجاه الأول: التحرك في أوساط الأمة وعموم الناس، بما فيهم المسلمون وأصحاب الديانات الأخرى، فضلاً عن التحرك على الحكّام وأجهزتهم لإعادتهم إلى خطّ الاستقامة أو الحدّ من انحرافاتهم وحصرها في نطاق محدود.

الاتجاه الثاني: بناء الجماعة الصالحة لتقوم بدورها في إصلاح الأوضاع العامة للأمة وللدولة طبقاً للأسس والقواعد الثابتة التي أرسى دعائمها أهل البيتعليهم‌السلام بما ينسجم مع القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة.

٨٧

محاور الحركة الإصلاحية العامّة للإمام الباقر عليه‌السلام

أوّلاً: الإصلاح الفكري والعقائدي

من الأزمات التي خلّفتها سيرة الحكّام السابقين هي أزمة ارتباك المفاهيم وما رافقها من تقليد وسطحية في الفكر، فلم تتجلّ حقيقة التصور الإسلامي عند الكثير من المسلمين لكثرة التيارات الهدّامة ونشاطها في تحريف المفاهيم السليمة وتزييف الحقائق، فكان دور الإمامعليه‌السلام هو حمل النفوس على التمحيص لتمييز ما هو أصيل من العقيدة عمّا هو زيف، وعلى تحكيم الأفكار والمفاهيم الأصيلة في عالم الضمير وعالم السلوك على حد سواء، والاستقامة على المنهج الذي يريده الله تعالى للإنسان.

وقد مارس الإمامعليه‌السلام عدة نشاطات لإصلاح الأفكار والعقائد، نشير إلى أهمّها كما يلي:

١ ـ الردّ على الأفكار والعقائد الهدّامة والمذاهب المنحرفة

وجد المنحرفون لأفكارهم وعقائدهم الهدّامة أوساطاً تتقبّلها وتروّج لها ـ جهلاً أو طمعاً أو تآمراً على الإسلام الخالد ـ وفي عهد الإمام الباقرعليه‌السلام نشطت حركة الغلاة بقيادة المغيرة بن سعيد العجلي.

٨٨

روى علي بن محمد النوفلي أن المغيرة استأذن على أبي جعفرعليه‌السلام

وقال له: أخبر الناس أنّي أعلم الغيب، وأنا أطعمك العراق، فزجره الإمامعليه‌السلام زجراً شديداً وأسمعه ما كره فانصرف عنه، ثم أتى أبا هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية فقال له مثل ذلك، فوثب عليه، فضربه ضرباً شديداً أشرف به على الموت، فلمّا برئ أتى الكوفة وكان مشعبذاً فدعا الناس إلى آرائه واستغواهم فاتّبعه خلق كثير(١) .

واستمرّ الإمامعليه‌السلام في محاصرة المغيرة والتحذير منه وكان يلعنه أمام الناس ويقول:(لعن الله المغيرة بن سعيد كان يكذب علينا) (٢) .

ولعنعليه‌السلام بقية رؤساء الغلاة ومنهم بنان التبّان، فقال:(لعن الله بنان التبّان، وإن بناناً لعنه الله كان يكذب على أبي) (٣) .

وكانعليه‌السلام يحذّر المسلمين وخصوصاً أنصار أهل البيتعليهم‌السلام من أفكار الغلو، ويرشدهم إلى الاعتقاد السليم، بقوله:(لا تضعوا عليّاً دون ما وضعه الله، ولا ترفعوه فوق ما رفعه الله) (٤) .

وكانعليه‌السلام يخاطب أنصاره قائلاً:(يا معشر الشيعة شيعة آل محمد كونوا النمرقة الوسطى: يرجع إليكم الغالي، ويلحق بكم التالي) (٥) .

وحذّرعليه‌السلام من المرجئة ولعنهم حين قال:(اللهمّ العن المرجئة فإنهم أعداؤنا في الدنيا والآخرة) (٦) .

وكانعليه‌السلام يحذّر من أفكار المفوضة والمجبرة. ومن أقواله في ذلك:(إيّاك

ــــــــــــــ

(١) شرح نهج البلاغة: ٨ / ١٢١.

(٢) بحار الأنوار: ٢٥ / ٢٩٧.

(٣) المصدر السابق: ٢٥ / ٢٩٧.

(٤) المصدر السابق: ٢٥ / ٢٨٣.

(٥) المصدر السابق: ٦٧: ١٠١.

(٦) المصدر السابق: ٤٦ / ٢٩١.

٨٩

أن تقول بالتفويض! فإنّ الله عَزَّ وجَلَّ لم يفوّض الأمر إلى خلقه وهناً وضعفاً، ولا أجبرهم على معاصيه ظلماً) (١) .

وفي عرض هذا الردّ القاطع الصريح كان الإمامعليه‌السلام يبيّن الأفكار السليمة حول التوحيد لكي تتعرف الأمة على عقيدتها السليمة.

وكان ممّا ركّز عليه الإمامعليه‌السلام في هذا المجال بيان مقومات التوحيد ونفي التشبيه والتجسيم لله تعالى.

قالعليه‌السلام :(يا ذا الذي كان قبل كل شيء، ثم خلق كل شيء، ثم يبقى ويفنى كلّ شيء، ويا ذا الذي ليس في السموات العلى ولا في الأرضين السفلى، ولا فوقهنّ، ولا بينهنّ ولا تحتهنّ إله يعبد غيره) (٢) .

وفي جوابهعليه‌السلام للسائلين عن جواز القول بأنّ الله موجود، قال:(نعم، تخرجه من الحدّين: حدّ الإبطال، وحدّ التشبيه) (٣) .

وقالعليه‌السلام :(إن ربّي تبارك وتعالى كان لم يزل حيّاً بلا كيف، ولم يكن له كان، ولا كان لكونه كيف، ولا كان له أين، ولا كان في شيء، ولا كان على شيء، ولا ابتدع له مكاناً) (٤) .

كما ركّز الإمام الباقرعليه‌السلام على العبودية الخالصة لله ونهى عن الممارسات التي تتضمّن الشرك بالله تعالى.قالعليه‌السلام :(لو أن عبداً عمل عملاً يطلب به وجه الله عزّ جلّ والدار الآخرة، فأدخل فيه رضى أحد من الناس كان مشركاً) (٥) .

ــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار: ٥ / ٢٩٨.

(٢) المصدر السابق: ٣ / ٢٨٥.

(٣) المصدر السابق: ٣ / ٢٦٥.

(٤) المصدر السابق: ٣ / ٣٢٦.

(٥) المصدر السابق: ٦٩ / ٢٩٧.

٩٠

كما دعا إلى الانقطاع الكامل لله تعالى بقوله:(لا يكون العبد عابداً لله حق عبادته; حتى ينقطع عن الخلق كلّه إليه) (١) .

ونهى الإمامعليه‌السلام عن التكلم في ذات الله تعالى، وذلك لأنّ الإنسان المحدود لا يحيط بغير المحدود فلا ينفعه البحث عن الذات اللامحدودة إلاّ بُعداً، ومن هنا كان التكلم عن ذاته تعالى عبثاً لا جدوى وراءه، فنهىعليه‌السلام عن ذلك، وحذّر منه بقوله:(إن الناس لا يزال لهم المنطق، حتى يتكلموا في الله، فإذا سمعتم ذلك فقولوا: لا اله إلاّ الله الواحد الذي ليس كمثله شيء) (٢) .

وممّا ركّز عليه الإمام الباقرعليه‌السلام الردع من اتّباع المذاهب المنحرفة والأفكار الهدّامة هو بيان عاقبة أهل الشبهات والأهواء والبدع، واستهدف الإمامعليه‌السلام من التركيز على عاقبة المنحرفين فكرياً وعقائدياً إبعاد المسلمين عن التأثر بهم، وإزالة حالة الأنس والألفة بينهم وبين الأفكار والعقائد المنحرفة.

قالعليه‌السلام في تفسير قوله تعالى:( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) : هم النصارى والقسيسون والرهبان وأهل الشبهات والأهواء من أهل القبلة والحرورية وأهل البدع(٣) .

٢ ـ الحوار مع المذاهب والرموز المنحرفة

يعتبر الحوار إحدى الوسائل التي تقع في طريق إصلاح الناس، حيث تزعزع المناظرة الهادفة والحوار السليم الأفكار والمفاهيم المنحرفة.

ــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار: ٦٧ / ٢١١.

(٢) المصدر السابق: ٣ / ٢٦٤.

(٣) المصدر السابق: ٢ / ٢٩٨.

٩١

من هنا قام الإمامعليه‌السلام بمحاورة بعض رؤوس المخالفين، لتأثيرهم الكبير على أتباعهم لو صلحوا واستقاموا على الحقّ. وإليك بعض مناظراته:

مع علماء النصارى: حينما أخرج هشام بن عبد الملك الإمامعليه‌السلام من المدينة إلى الشام كانعليه‌السلام يجلس مع أهل الشام في مجالسهم، فبينا هو جالس وعنده جماعة من الناس يسألونه، اذ نظر إلى النصارى يدخلون في جبل هناك، فسأل عن حالهم، فأُخبر أنهم يأتون عالماً لهم في كل سنة في هذا اليوم يسألون عمّا يريدون وعمّا يكون في عامهم، وقد أدرك هذا العالم أصحاب الحوارييّن من أصحاب عيسىعليه‌السلام ، فقال الإمامعليه‌السلام : فهلمّ نذهب إليه؟ فذهبعليه‌السلام إلى مكانهم، فقال له النصراني: أسألك أو تسألني؟ قالعليه‌السلام : تسألني، فسأله عن مسائل عديدة حول الوقت، وحول أهل الجنّة، وحول عزرة وعزير، فأجابهعليه‌السلام عن كل مسألة.

فقال النصراني: يا معشر النصارى، ما رأيت أحداً قطّ أعلم من هذا الرجل لا تسألوني عن حرف وهذا بالشام ردّوني فردّوه إلى كهفه، ورجع النصارى مع الإمامعليه‌السلام .

وفي رواية: أنّه أسلم وأسلم معه أصحابه على يد الإمامعليه‌السلام (١) .

مع هشام بن عبد الملك: ناظره هشام بن عبد الملك في مسائل متنوعة تتعلق بمقامات أهل البيتعليهم‌السلام ، وميراثهم لعلم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وادعاء الإمام عليعليه‌السلام علم الغيب، فأجابه الإمامعليه‌السلام عن مسائله المتنوعة وناظره في إثبات مقامات أهل البيتعليهم‌السلام مستشهداً بالآيات القرآنية والأحاديث الشريفة،

ــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار: ٤٦ / ٣١٣ ـ ٣١٥.

٩٢

فلم يستطع هشام أن يردّ عليه، وناظره في مواضع أخرى، فقال له هشام: (أعطني عهد الله وميثاقه ألاّ ترفع هذا الحديث إلى أحد ما حييت)، قال الإمام الصادقعليه‌السلام :فأعطاه أبي من ذلك ما أرضاه (١) .

وقد ذكرنا تفصيل المناظرتين في بحث سابق فراجع(٢) .مع الحسن البصري: قال له الحسن البصري: جئت لأسألك عن أشياء من كتاب الله تعالى.

وبعد حوار قصير قال لهعليه‌السلام :بلغني عنك أمر فما أدري أكذاك أنت؟ أم يُكذب عليك؟ قال الحسن: ما هو ؟

قالعليه‌السلام :زعموا أنّك تقول: إنَّ الله خلق العباد ففوّض إليهم أمورهم .

فسكت الحسن... ثمّ وضّح له الإمامعليه‌السلام بطلان القول بالتفويض وحذّره قائلاً:وإيّاك أن تقول بالتفويض، فإنّ الله عَزَّ وجَلَّ لم يفوّض الأمر إلى خلقه، وهناً منه وضعفاً، ولا أجبرهم على معاصيه ظلماً (٣) .

ولهعليه‌السلام مناظرات مع محمد بن المنكدر ـ من مشاهير زهاد ذلك العصر ـ ومع نافع بن الأزرق أحد رؤساء الخوارج، ومع عبد الله بن معمر الليثي، ومع قتادة بن دعامة البصري(٤) واحتجاجات لا يتحمّل شرحها هذا المختصر.

ــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار: ٤٦ / ٣١٣ ـ ٣١٥.

(٢) راجع مبحث: ملامح وأبعاد هامة في عصر الإمام الباقرعليه‌السلام .

(٣) الاحتجاج: ٢/١٨٤.(٤) أعيان الشيعة: ١/٦٥٣ .

٩٣

٣ ـ إدانة فقهاء البلاط

جاء قتادة بن دعامة البصري إلى الإمامعليه‌السلام وقد هيّأ له أربعين مسألة ليمتحنه بها، فقال لهعليه‌السلام :أنت فقيه أهل البصرة؟ قال قتادة: نعم، فقالعليه‌السلام :(ويحك يا قتادة إن الله عَزَّ وجَلَّ خلق خلقاً، فجعلهم حججاً على خلقه، فهم أوتاد في أرضه، قوّام بأمره، نجباء في علمه اصطفاهم قبل خلقه) ، فسكت قتادة طويلاً، ثم قال: أصلحك الله، والله لقد جلست بين يدي الفقهاء، وقدّام ابن عباس، فما اضطرب قلبي قدّام أحد منهم ما اضطرب قدّامك(١) .

وأدان الإمام الباقرعليه‌السلام أبا حنيفة لقوله بالقياس، وعلّق الأستاذ محمد أبو زهرة على هذه الإدانة قائلاً: تتبيّن إمامة الباقر للعلماء، يحاسبهم على ما يبدو منهم، وكأنّه الرئيس يحاكم مرءوسيه ليحملهم على الجادة، وهم يقبلون طائعين تلك الرئاسة(٢) .

٤ ـ الدعوة إلى أخذ الفكر من مصادره النقيّة

لقد حذّر الإمامعليه‌السلام الناس من الوقوع في شراك الأفكار والآراء والعقائد المنحرفة، وحذّر من البدع وجعلها أحد مصاديق الشرك فقال:(أدنى الشرك أن يبتدع الرجل رأياً فيُحَبّ عليه ويبغَض) (٣) .

كما حذّر من الإفتاء بالرأي فقال:(من أفتى الناس بغير علم ولا هوى من الله لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، ولحقه وزر من عمل بفتياه) (٤) .

ــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار: ٤٦ / ٣٥٧.

(٢) تاريخ المذاهب الإسلامية: ٦٨٩.

(٣) المحاسن: ٢٠٧.

(٤) المصدر السابق: ٢٠٥.

٩٤

ومن هنا كان يدعو الناس إلى أخذ العلم والفكر من منابعه النقية وهم أهل البيت المعصومون من كل زيغ وانحراف. قالعليه‌السلام لسلمة بن كهيل وللحكم بن عتيبة:(شرّقا وغرِّبا فلا تجدان علماً صحيحاً إلاّ شيئاً خرج من عندنا) (١) .

وكان يحذّر من مجالسة أصحاب الخصومات ويقول:(لا تجالسوا أصحاب الخصومات، فإنهم يخوضون في آيات الله) (٢) .

كما كان يشجع على ذكر مقامات أهل البيتعليهم‌السلام وفضائلهم فإنّها من أسباب نشر الحق والفضيلة، فعن سعد الإسكاف، قال: قلت لأبي جعفرعليه‌السلام : إني أجلس فأقصّ، وأذكر حقكم وفضلكم. فقالعليه‌السلام :(وددت أن على كل ثلاثين ذراعاً قاصّاً مثلك) (٣) .

٥ ـ نشر علوم أهل البيتعليهم‌السلام

لقد فتح الإمامعليه‌السلام أبواب مدرسته العلمية لعامة أبناء الأمة الإسلامية، حتى وفد إليها طلاب العلم من مختلف البقاع الإسلامية، وأخذ عنه العلم عدد كبير من المسلمين بشتى اتّجاهاتهم وميولهم، منهم: عطاء بن أبي رباح، وعمرو بن دينار، والزهري، وربيعة الرأي، وابن جريج، والأوزاعي، وبسام الصيرفي(٤) ، وأبو حنيفة وغيرهم(٥) .

وفي ذلك قال عبد الله بن عطاء: ما رأيت العلماء عند أحد أصغر علماً

ــــــــــــــ

(١) الكافي: ١ / ٣٩٩.

(٢) كشف الغمّة: ٢ / ١٢٠.

(٣) رجال الكشي: ٢١٥.

(٤) سير أعلام النبلاء: ٤ / ٤٠١.

(٥) تاريخ المذاهب الإسلامية: ٣٦١.

٩٥

منهم عند أبي جعفر، لقد رأيت الحكم عنده كأنّه متعلم(١) .

وكانت أحاديثه مسندة عن آبائه عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما كان يرسل الحديث ولا يسنده. وحينما سئل عن ذلك، قال:إذا حدّثت بالحديث فلم أسنده، فسندي فيه أبي زين العابدين عن أبيه الحسين الشهيد عن أبيه علي بن أبي طالب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن جبرئيل عن الله عَزَّ وجَلَّ (٢) .

ثانياً: تأسيس المدرسة الفقهية النموذجية(٣)

لقد جهد الإمام الباقر وولده الصادقعليهما‌السلام على نشر الفقه الإسلامي وتبنّيا نشره بصورة إيجابية في وقت كان المجتمع الإسلامي غارقاً في الأحداث والاضطرابات السياسية، حيث أهملت الحكومات في تلك العصور الشؤون الدينية إهمالاً تاماً، حتى لم تعد الشعوب الإسلامية تفقه من أمور دينها القليل ولا الكثير، يقول الدكتور علي حسن: (وقد أدى تتبعنا للنصوص التاريخية إلى أمثلة كثيرة تدل على هذه الظاهرة ـ أي إهمال الشؤون الدينية ـ التي كانت تسود القرن الأول سواء لدى الحكام أو العلماء أو الشعب، ونعني بها عدم المعرفة بشؤون الدين، والتأرجح وعدم الجزم والقطع فيها حتى في العبادات، فمن ذلك ما روي أن ابن عباس خطب في آخر شهر رمضان على منبر البصرة فقال: اخرجوا صدقة صومكم فكان الناس لم يعلموا، فقال: من ها هنا من أهل المدينة؟ فقوموا إلى إخوانكم فعلموهم، فإنهم لا يعلمون فرض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٤) .

ــــــــــــــ

(١) مختصر تاريخ دمشق: ٢٣ / ٧٩.

(٢) إعلام الورى: ٢٩٤.

(٣) راجع حياة الإمام محمد الباقرعليه‌السلام ، باقر شريف القرشي ١/٢١٥ ـ ٢٢٦.

(٤) الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم: ٢ / ١٣١.

٩٦

فأهل البلاد الإسلامية لم يعرفوا شؤون دينهم معرفة كافية، وقد كان يوجد في بلاد الشام من لا يعرف عدد الصلوات المفروضة، حتى راحوا يسألون الصحابة عن ذلك(١) .

إن الدور المشرق الذي قام به الإمام الباقر والصادقعليهما‌السلام في نشر الفقه وبيان أحكام شريعة الله كان من أعظم الخدمات التي قدّماها للعالم الإسلامي.

وسعى إلى الأخذ من علومهما أبناء الصحابة والتابعون، ورؤساء المذاهب الإسلامية كأبي حنيفة ومالك وغيرهما، وتخرج على يد الإمام أبي جعفرعليه‌السلام جمهرة كبيرة من الفقهاء كزرارة بن أعين، ومحمد بن مسلم وأبان بن تغلب، وإليهم يرجع الفضل في تدوين أحاديث الإمامعليه‌السلام وقد أصبحوا من مراجع الفتيا بين المسلمين، وبذلك أعاد الإمام أبو جعفرعليه‌السلام للإسلام نضارته وحافظ على ثرواته الدينية من الضياع والضمور.

ومن الجدير بالذكر أن الشيعة هم أول من سبق إلى تدوين الفقه فقد قال مصطفى عبد الرازق: (ومن المعقول أن يكون النزوع إلى تدوين الفقه كان أسرع إلى الشيعة لأن اعتقادهم العصمة في أئمتهم أو ما يشبه العصمة كان حرياً إلى تدوين أقضيتهم وفتاواهم)(٢) .

وبذلك فقد ساهمت الشيعة في بناء الصرح الإسلامي، وحافظت على أهم ثرواته... ولابد لنا من وقفة قصيرة للنظر في فقه أهل البيتعليهم‌السلام الذي هو مستمد من الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ــــــــــــــ

(١) سنن النسائي: ١ / ٤٢.

(٢) تمهيد لتأريخ الفلسفة الإسلامية: ص٢٠٢.

٩٧

مميّزات مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام الفقهيّة

١ ـ الاتصال بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والشيء المهم في فقه أهل البيتعليهم‌السلام هو أنه يتصل اتصالاً مباشراً بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فطريقه إليه أئمة أهل البيتعليهم‌السلام الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وجعلهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سفن النجاة، وأمن العباد، وعدلاء الذكر الحكيم حسبما تواترت الأخبار بذلك.

قالعليه‌السلام :(لو أننا حدثنا برأينا ضللنا كما ضل من قبلنا، ولكنا حدثنا ببينة من ربنا بينها لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فبينها لنا) (١) .

٢ ـ المرونة: إن فقه أهل البيت يساير الحياة، ويواكب التطور، ولا يشذ عن الفطرة ويتمشى مع جميع متطلبات الحياة، فليس فيه ـ والحمد لله ـ حرج ولا ضيق، ولا ضرر، ولا إضرار، وإنما فيه الصالح العام، والتوازن في جميع مناحي تشريعاته، وقد نال إعجاب جميع رجال القانون، واعترفوا بأنه من أثرى ما قنن في عالم التشريع عمقاً وأصالة وإبداعاً.

٣ ـ فتح باب الاجتهاد: إنّ من أهم ما تميز به فقه أهل البيتعليهم‌السلام هو فتح باب الاجتهاد، فقد دلّ ذلك على حيوية فقه أهل البيت، وتفاعله مع الحياة واستمراره في العطاء لجميع شؤون الإنسان، وإنه لا يقف مكتوفاً أمام الأحداث المستجدة التي يبتلى بها الناس خصوصاً في هذا العصر الذي برزت فيه كثير من الأحداث واستحدثت فيه كثير من الموضوعات، وقد أدرك كبار علماء المسلمين من الأزهر مدى الحاجة الملحّة إلى فتح باب الاجتهاد، ومتابعة الشيعة الإمامية في هذه الناحية.

ــــــــــــــ

(١) أعلام الورى: ٢٧٠.

٩٨

قال السيد رشيد رضا: (ولا نعرف في ترك الاجتهاد منفعة ما، وأمّا مضارّه فكثيرة، وكلها ترجع إلى إهمال العقل، وقطع طريق العلم، والحرمان من استغلال الفكر، وقد أهمل المسلمون كل علم بترك الاجتهاد، فصاروا إلى ما نرى)(١) .

٤ ـ الرجوع إلى حكم العقل: انفرد فقهاء الإمامية عن بقية المذاهب الإسلامية فجعلوا العقل واحداً من المصادر الأربعة لاستنباط الأحكام الشرعية، وقد أضفوا عليه أسمى ألوان التقديس فاعتبروه رسول الله الباطني، وإنه مما يُعبَد به الرحمن، ويكتَسب به الجنان. ومن الطبيعي ان الرجوع إلى حكم العقل إنّما يجوز إذا لم يكن في المسألة نص خاص أو عام وإلا فهو حاكم عليه، وإن للعقل مسرحاً كبيراً في علم الأصول الذي يتوقف عليه الاجتهاد.

ثالثاً: الإصلاح السياسي

استثمر الإمامعليه‌السلام بعض ظروف الانفراج السياسي النسبي من أجل بناء وتوسعة القاعدة الشعبية، وتسليحها بالفكر السياسي السليم المنسجم مع رؤية أهل البيتعليهم‌السلام ، وتعبئة الطاقات لاتخاذ الموقف المناسب في الوقت المناسب، ولهذا لم تنطلق أي ثورة علوية في عهده، لعدم اكتمال شروطها من حيث العدة والعدد.

وكان الإمامعليه‌السلام يقدّم للأمة المفاهيم والأفكار السياسية الأساسية مع الحيطة والحذر; وكانت له مواقف سياسية صريحة من بعض الحكام لإعادتهم إلى جادة الصواب.

وقد تجلّى دوره الإصلاحي في الممارسات التالية:

١ ـ الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحرّران الإنسان والمجتمع من ألوان الانحراف في الفكر والعاطفة والسلوك، ويحوّلان المفاهيم والقيم الإسلامية الثابتة إلى ممارسات سلوكية واضحة المعالم، تترجم فيها الآراء والنصوص إلى مشاعر وعواطف وأعمال وحركات وعلاقات متجسدة في الواقع لكي تكون الأمة والدولة بمستوى المسؤولية في الحياة، والمسؤولية هي حمل الأمانة الإلهية وخلافة الله تعالى في الأرض.

ــــــــــــــ

(١) الوحدة الإسلامية: ٩٩.

٩٩

ومن هنا جاءت تأكيدات الإمامعليه‌السلام على هذه الفريضة التي جعلها شاملة لجميع مرافق الحياة الإنسانية حيث قال:(إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصالحين، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض، وتأمن المذاهب، وتحلّ المكاسب، وتردّ المظالم وتعمّر الأرض، وينتصف من الأعداء ويستقيم الأمر، فأنكروا بقلوبكم، والفظوا بألسنتكم، وصكّوا بها جباههم، ولا تخافوا في الله لومة لائم...) (١) .

وحذّرعليه‌السلام من مغبّة التخليّ عن المسؤولية، ومداهنة المنحرفين حكّاماً كانوا أم من سائر أفراد الأمة فقال: (أوحى الله تعالى إلى شعيب النبيعليه‌السلام إنّي لمعذّب من قومك مائة ألف: أربعين ألفاً من شرارهم، وستين ألفاً من خيارهم، فقال: يا ربّ هؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار ؟

فأوحى الله عَزَّ وجَلَّ إليه: إنهم داهنوا أهل المعاصي، ولم يغضبوا لغضبي)(٢) .

وحثعليه‌السلام على هذه المسؤولية وبيّن آثار التخلي عنها فقال:(الأمر

ــــــــــــــ

(١) تهذيب الأحكام: ٦ / ١٨٠.

(٢) المصدر السابق: ٦ / ١٨١.

١٠٠

يبعث على النشاط أجل هذه هي حياتهم القاسية ، ومعيشتهم الضنك.

لقد اعترف ريتشارد نيكسون الرئيس الأسبق للولايات المتحدة الأمريكية ـ بلد الشيطان الأكبر ـ بهذا الواقع في خطابه الرئاسي الأوّل إذ قال : (إنّنا نرى حولنا دائما حياة جوفاء ، ونحن نأمل أن نرضى ، ولكنّنا لا نرضى)!

رجل آخر من رجال المعروفين كانت مهمّته إيجاد السرور والفرح في المجتمع ، يقول : إنّي أرى الإنسانية تعدو في زقاق مظلم لا شيء في نهايته إلّا القلق المطلق.

ومن الطريف أن نقرأ في الرّوايات الإسلامية أنّه سئل الإمام الصادقعليه‌السلام عن المراد من الآية :( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً ) ؟ قال : «يعني [الإعراض عن] ولاية أمير المؤمنين»(١) .

أجل فإنّ الذي يستلهم العبرة من حياة عليعليه‌السلام ، ذلك الرجل العظيم الذي كانت الدنيا في نظره لا تساوي عفطة عنز ، والذي انقطع إلى الله حتّى صغرت الدنيا في عينه إلى هذا الحدّ ، فمن يكن كذلك فستكون حياته في سعة ورفاه ، أمّا أولئك الذين ينسون المثل والقدوة فإنّهم في ضنك العيش في كلّ الأحوال.

وقد فسّر الإعراض عن ذكر الله ـ في الآية ـ بترك الحجّ من قبل القادرين عليه ، وذلك لأنّ مراسم الحج تهزّ الإنسان ، وتوجد ارتباطا وعلاقة جديدة بين الإنسان وربّه بحيث يكون هذا الارتباط هو مفتاح حياته ، في حين أنّ عكس هذا الأمر يؤدّي إلى الارتباط الشديد بالماديات التي هي أساس المعيشة الضنكا.

٢ ـ عمى البصر وعمى البصيرة!

لقد حدّدت عقوبتان لأولئك الذين يعرضون عن ذكر الله : إحداهما : المعيشة

__________________

(١) نور الثقلين ، الجزء ٣ ، ص ٤٠٥.

١٠١

الضنك في هذه الدنيا ، والتي أشير إليها في الملاحظة السابقة ، والأخرى : العمى في الآخرة.

وقلنا مرارا : إنّ عالم الآخرة هو تجسّم أوسع لعالم الدنيا ، وكلّ حقائق هذا العالم تتجسّد هناك بما يناسبها هنا ، فأولئك الذين عميت بصيرتهم عن مشاهدة الحقائق في هذه الدنيا ، ستعمى هناك عيون أجسامهم ، ولذلك فإنّهم حين يتساءلون بأنّا كنّا قبل هذا صحيحي البصر ، فلما ذا حشرنا عميا؟ يقال لهم : لأنّكم قد نسيتم آيات الله ، وهذه الحالة انعكاس لتلك الحالة.

وهنا ينقدح سؤال ، وهو : إنّ ظاهر بعض الآيات القرآنية هو أنّ كلّ الناس يبصرون في يوم القيامة ، ويقال لهم : اقرؤوا صحيفة أعمالكم( اقْرَأْ كِتابَكَ ) (١) ، أو أنّ المجرمين يرون نار جهنّم بأعينهم :( وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ ) (٢) ، فكيف تناسب هذه التعبيرات كون جماعة عميا؟

قال بعض المفسّرين إنّ حال ذلك العالم تختلف عن حال هذا العالم ، فربّما كان بعض الأفراد مبصرين في مشاهدة بعض الأمور ، وعميانا عن مشاهدة البعض الآخر ، وعلى ما ينقل العلّامة الطبرسي عن بعض المفسّرين : إنّه أعمى عن جهات الخير لا يهتدى لشيء منها ، لأنّ نظام ذلك العالم يختلف عن نظام هذا العالم.

ويحتمل أيضا أن يكون هؤلاء في بعض المنازل والمواقف عميا ، وفي بعضها مبصرين.

ثمّ إنّ المراد من نسيان المجرمين في العالم الآخر ليس هو نسيان الله سبحانه لهم ، بل من الواضح أنّ المراد معاملة هؤلاء معاملة الناسي ، كما نستعمل ذلك في محاوراتنا اليوميّة ، فإذا لم يهتمّ شخص بآخر ، فإنّ الثّاني يقول له : لماذا نسيتني؟

__________________

(١) الإسراء ، ١٤.

(٢) الكهف ، ٥٣.

١٠٢

٣ ـ الإسراف في المعصية

ممّا يلفت النظر أنّه قد ذكرت في الآيات ـ محلّ البحث ـ هذه العقوبات المؤلمة للأفراد الذين يسرفون ولا يؤمنون بآيات الله.

إنّ التعبير بـ «الإسراف» هنا قد يكون إشارة إلى أنّهم قد استعملوا تلك النعم والعطايا الإلهيّة ، كالعين والاذن والعقل ، في طرق الشّر ، وليس الإسراف إلّا أن يتلف الإنسان هذه النعم من غير هدف.

أو أن يكون إشارة إلى أنّ المذنبين قسمان : قسم لهم ذنوب محدودة ، وفي قلوبهم خوف الله ، أي أنّهم لم يقطعوا ارتباطهم وصلتهم بالله تماما ، فإذا ما ظلموا ـ على سبيل الفرض ـ يتيما أو ضريرا فإنّهم لا يستبيحون ذلك العمل ، بل يعدّون أنفسهم مقصّرين أمام الله. ولا شكّ أنّ مثل هذا الفرد عاص يستحقّ العقاب ، إلّا أنّ بينه وبين من يقترف الذنوب بلا حساب ـ ولا يعتبر ذلك ذنبا ، ولا يعترف بمعيار للذنب وعدمه ، بل ويفتخر أحيانا بارتكابه المعاصي ، أو يحتقر الذنب ويستصغره ـ فرقا شاسعا ، لأنّ القسم الأوّل يمكن أن يتوبوا في النهاية ويجبروا ما صدر عنهم من ذنوب ، أمّا أولئك الذين يسرفون في الذنوب فلا توبة لهم.

٤ ـ ما هو الهبوط؟

«الهبوط» في اللغة بمعنى النّزول الإجباري ، كسقوط الصخرة من مرتفع ما ، وعند ما تستعمل في حقّ الإنسان فإنّها تعني الإبعاد والإنزال عقابا له.

وبملاحظة أنّ أدم قد خلق للحياة على وجه الأرض ، وكانت الجنّة أيضا بقعة خضراء وفيرة النعمة من هذا العالم ، فإنّ هبوط ونزول آدم هنا يعني النّزول المقامي لا المكاني ، أي إنّ الله سبحانه قد نزّل مقامه لتركه الأولى ، وحرمه من كلّ نعم الجنّة تلك ، وابتلاه بمصائب هذه الدنيا ومتاعبها.

وممّا يستحقّ الالتفات أنّ المخاطب هنا قد ذكر بصيغة المثنّى (اهبطا) أي

١٠٣

اهبطا كلاكما ، ومن الممكن أن يكون المراد آدم وحواء ، وإذا كان المخاطب قد ورد بصيغة الجمع (اهبطوا) في بعض آيات القرآن الاخرى ، فلأنّ الشيطان قد أشرك معهما في الخطاب ، لأنّه هو الآخر قد طرد من الجنّة.

ويحتمل أيضا أن يكون المخاطب آدم والشيطان ، لأنّ الجملة التي تلي هذه الجملة تقول :( بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ) .

وقال بعض المفسّرين : إنّ المراد من جملة( بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ) والتي ورد الخطاب فيها بصيغة الجمع ، هو تولّد العداوة بين أدم وحواء من جهة ، وبين الشيطان من جهة أخرى ، وتولّد العداوة بين آدم وأولاده من جهة والشيطان وذريته من جانب آخر.

وعلى كلّ حال ، فإنّ المخاطب في جملة :( فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً ) هم أولاد آدم وحواء حتما ، لأنّ هداية الله مختصة بهم ، أمّا الشيطان وذريته الذين أعرضوا عن منهج الهداية الإلهيّة ، فإنّ الخطاب لا يشملهم.

* * *

١٠٤

الآيات

( أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (١٢٨) وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (١٣٠) )

التّفسير

اعتبروا بتاريخ الماضين :

لمّا كانت عدّة بحوث في الآيات السابقة قد وردت عن المجرمين ، فقد أشارت الآيات الأولى من الآيات محلّ البحث إلى واحد من أفضل طرق التوعية وأكثرها تأثيرا ، وهو مطالعة تأريخ الماضين ، فتقول :( أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ ) (١) أولئك الذين عمّهم العذاب الإلهي الأليم( يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ ) .

__________________

(١) كما قلنا سابقا ، فإنّ «قرون» جمع قرن ، تعني الناس الذين يعيشون في عصر ما ، ويقال أحيانا لنفس ذلك الزمان : قرن. وهي من مادّة المقارنة.

١٠٥

إنّ هؤلاء يمرّون في مسيرهم وذهابهم وإيّابهم على منازل قوم عاد ـ في أسفارهم إلى اليمن ـ وعلى مساكن ثمود المتهدّمة الخربة ـ في سفرهم إلى الشام ـ وعلى منازل قوم لوط التي جعل عاليها سافلها ـ في سفرهم إلى فلسطين ـ ويرون آثارهم ، إلّا أنّهم لا يعتبرون ، فإنّ الخرائب والأطلال تتكلّم بلسان الحال وتخبر عن قصص السابقين وتحذّر أبناء اليوم وأبناء الغد وتعول صارخة أنّ هذه عاقبة الظلم والكفر والفساد.

نعم( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى ) (١) .

إنّ موضوع أخذ العبرة من تأريخ الماضين من الأمور التي يؤكّد عليها القرآن والأحاديث الإسلامية كثيرا ، وهو حقّا معلم مذكّر منبّه ، فما أكثر أولئك الأشخاص الذين لا يتأثّرون بأيّة موعظة ، ولا يعتبرون بها ، إلّا أنّ رؤية مشاهد من آثار الماضين المعبّرة تهزّهم ، وكثيرا ما تغيّر مسير حياتهم.

ونقرأ في حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أغفل الناس من لم يتّعظ بتغيّر الدنيا من حال إلى حال»(٢) ولا يفكّر في تقلّب الليل والنهار وتعاقبهما.

الآية التالية في الحقيقة جواب عن سؤال يثار هنا ، وهو : لماذا لا يجري الله سبحانه على هذا القسم من المجرمين ما أجراه على المجرمين السابقين ، فيقول القرآن :( وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى ) .

إنّ هذه السنّة الإلهيّة التي ذكرت في مواضع عديدة من القرآن باسم (كلمة) إشارة إلى قانون الخلقة المبتني على حريّة البشر ، لأنّ كلّ مجرم إذا عوقب مباشرة وبدون أن يمهل ، فإنّ الإيمان والعمل الصالح سيتّصف بالجبر تقريبا ، وسيكون على الأغلب خوفا من العقاب الآني ، وبناء على هذا فسوف لا يكون وسيلة للتكامل الذي هو الهدف الأصلي.

__________________

(١) «النهى» من مادّة نهي ، وهي هنا بمعنى العقل ، لأنّ العقل ينهي الإنسان عن القبائح والسيّئات.

(٢) سفينة البحار ـ مادّة عبر ـ الجزء ٢ ص ١٤٦.

١٠٦

إضافة إلى أنّه إذا تقرّر أن يعاقب جميع المجرمين فورا ، فسوف لا يبقى أحد حيّا على وجه الأرض :( وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ ) (١) .

وبناء على هذا فيجب أن تكون هناك مهلة وفترة تعطى لكلّ المرتبطين بطريق الحقّ حتّى يرجع المجرمون إلى أنفسهم ويسلكوا سبيل الصلاح ، ولتكون كذلك فرصة لتهذيب النفس.

إنّ التعبير بـ (أجل مسمّى) بالشكل الذي يفهم من مجموع آيات القرآن ، إشارة إلى الزمان الحتمي لنهاية حياة الإنسان(٢) .

وعلى كلّ حال ، فإنّ الظالمين الذين لا إيمان لهم والمجرمين يجب أن لا يغترّوا بتأخير العذاب الإلهي ، وأن لا يغفلوا عن هذه الحقيقة ، وهي أنّ لطف الله وسنّته في الحياة ، وقانون التكامل هذا ، هو الذي يفسح المجال لهؤلاء.

ثمّ يوجّه الخطاب إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيقول :( فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ ) ومن أجل رفع معنويات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتقوية قلبه ، وتسلية خاطره ، فإنّه يؤمر بمناجاة الله والصلاة والتسبيح فيقول :( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى ) ولا يتأثّر قلبك جرّاء كلامهم المؤلم.

لا شكّ أنّ هذا الحمد والتسبيح محاربة للشرك وعبادة الأصنام ، وفي الوقت نفسه صبر وتحمّل أمام أقوال المشركين السيّئة ، وكلامهم الخشن. إلّا أنّ هناك بحثا بين المفسّرين في أنّ المقصود من الحمد والتسبيح هل الحمد والتسبيح المطلق ، أم أنّه إشارة إلى خصوص الصلوات الخمس اليوميّة؟ فجماعة يعتقدون بأنّه يجب أن يبقى ظاهر العبارات على معناه الواسع ، ومن ذلك يستفاد أنّ المراد هو التسبيح

__________________

(١) النحل ، ٦١.

(٢) لمزيد الإيضاح راجع البحث المفصّل الذي ذكرناه في ذيل الآية (١ و ٢) من سورة الأنعام. ونذكر في الضمن أنّ جملة (أجل مسمّى) من ناحية التركيب النحوي عطف على (كلمة).

١٠٧

والحمد المطلق.

في حين أنّ جماعة أخرى ترى أنّه إشارة إلى الصلوات الخمس ، وهي على النحو التالي.

( قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ) وهي إشارة إلى صلاة الصبح.

( وَقَبْلَ غُرُوبِها ) وهي إشارة إلى صلاة العصر ، أو أنّها إشارة إلى صلاتي الظهر والعصر ، واللتان يمتدّ وقتهما إلى الغروب.

( وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ ) وهي إشارة إلى صلاتي المغرب والعشاء ، وكذلك صلاة الليل.

أمّا التعبير بـ( أَطْرافَ النَّهارِ ) فهو إمّا إشارة إلى صلاة الظهر ، لأنّ أطراف جمع طرف ، وهو يعني الجانب ، وإذا قسّمنا اليوم نصفين ، فإنّ صلاة الظهر ستكون في أحد طرفي النصف الثّاني.

ويستفاد من بعض الرّوايات ـ أيضا ـ أنّ( أَطْرافَ النَّهارِ ) إشارة إلى الصلوات المستحبّة التي يستطيع الإنسان أو يؤدّيها في الأوقات المختلفة ، لأنّ أطراف النهار هنا قد وقعت في مقابل آناء الليل ، وهي تتضمّن كلّ ساعات اليوم.

وخاصّة أنّنا إذا لاحظنا أنّ كلمة أطراف قد وردت بصيغة الجمع ، في حين أنّ لليوم طرفين لا أكثر ، فسيتّضح أنّ للأطراف معنى واسعا يشمل ساعات اليوم المختلفة.

وهناك احتمال ثالث أيضا ، وهو أنّه إشارة إلى الأذكار الخاصّة التي وردت في الرّوايات الإسلامية في هذه الساعات المخصوصة ، فمثلا نقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام في تفسير الآية محل البحث أنّه قال : «فريضة على كلّ مسلم أن يقول قبل طلوع الشمس عشر مرّات وقبل غروبها عشر مرّات : لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يحيي ويميت ، وهو حي لا يموت ، بيده الخير ، وهو على كلّ شيء قدير».

١٠٨

إلّا أنّ هذه التفاسير لا منافاة بينها على كلّ حال ، ويمكن أن تكون الآية إشارة إلى التسبيحات وإلى الصلوات الواجبة والمستحبّة في الليل والنهار ، وبهذا فسوف لا يكون هناك تضادّ بين الرّوايات الواصلة في هذا الباب ، لأنّ الجملة فسّرت في بعض الرّوايات بالأذكار الخاصّة ، وفي بعضها بالصلاة.

والجدير بالذكر أنّ جملة «لعلّك ترضى» في الحقيقة نتيجة حمد الله وتسبيحه ، والصبر والتحمّل في مقابل قول أولئك ، لأنّ هذا الحمد والتسبيح وصلوات الليل والنهار تحكم الرابطة بين الإنسان وربّه إلى درجة لا يفكّر فيها بأي شيء سواه ، فلا يخاف من الحوادث الصعبة ، ولا يخشى عدوّا باعتماده على هذا السند والعماد القوي ، وبهذا سيملأ الهدوء والاطمئنان وجوده.

ولعلّ التعبير بـ (لعلّ) إشارة إلى ذلك المطلب الذي قلناه فيما مضى في تفسير هذه الكلمة ، وهو أنّ (لعلّ) عادة إشارة إلى الشروط التي تكون لازمة لتحصيل النتيجة ، فمثلا لكي تكون الصلاة وذكر الله سببا لحصول الاطمئنان ، يجب أن تقام مع حضور القلب وآدابها الكاملة.

ثمّ إنّ المخاطب في هذه الآية وإن كان النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّ القرائن تدلّ على أنّ هذا الحكم يتّصف بالعموم.

* * *

١٠٩

الآيات

( وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٣١) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (١٣٢) وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٣٣) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (١٣٤) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (١٣٥) )

التّفسير

لقد أصدرت في هذه الآيات أوامر وتوجيهات للنبي ، والمراد منها والمخاطب فيها عموم المسلمين ، وهي تتمّة للبحث الذي قرأناه آنفا حول الصبر والتحمّل.

١١٠

فتقول أوّلا :( وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ ) فإنّ هذه النعم المتزلزلة الزائلة ما هي إلّا( زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا ) ، تلك الأزهار التي تقطع بسرعة وتذبل وتتناثر على الأرض ، ولا تبقى إلّا أيّاما معدودات.

في الوقت الذي أمددناهم بها( لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى ) فإنّ الله سبحانه وهب لك مواهب ونعما متنوّعة ، فأعطاك الإيمان والإسلام ، والقرآن والآيات الإلهيّة والرزق الحلال الطاهر ، وأخيرا نعم الآخرة الخالدة ، هذه الهبات والعطايا المستمرّة الدائمة.

وتقول الآية التالية تلطيفا لنفس النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتقوية لروحه :( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها ) لأنّ هذه الصلاة بالنسبة لك ولأهلك أساس العفّة والطهارة وصفاء القلب وسمو الروح ودوام ذكر الله.

لا شكّ أنّ ظاهر (أهلك) هنا هو أسرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصورة عامّة ، إلّا أنّ هذه السورة لمّا كانت قد نزلت في مكّة ، فإنّ مصداق الأهل في ذلك الزمان كان (خديجة وعلياعليهما‌السلام ) وربّما شملت بعضا من أقارب النّبي الآخرين ، إلّا أنّ مصطلح أهل بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصبح واسع الدلالة بمرور الزمن.

ثمّ تضيف بأنّه إذا كان قد صدر الأمر لك ولأهلك بالصلاة فإنّ نفعها وبركاتها إنّما يعود كلّ ذلك عليكم ، فإنّا( لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ ) فإنّ هذه الصلاة لا تزيد شيئا من عظمة الله ، بل هي رأس مال عظيم لتكامل البشر وارتقائهم ودرس تعليمي وتربوي عال ، إنّ الله سبحانه ليس كباقي الملوك والأمراء الذين يأخذون الضرائب من شعوبهم ليديروا بها حياتهم وحياة مقرّبيهم ، فإنّ الله غني عن الجميع ويحتاجه الجميع ويفتقرون إليه.

إنّ هذا التعبير في الحقيقة يشبه ما ورد في سورة الذاريات ـ الآية (٥٦ ـ ٥٨) :( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ

١١١

يُطْعِمُونِ. إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) وعلى هذا ، فإنّ نتيجة العبادات ترجع مباشرة إلى نفس العابدين.

وتضعيف الآية في النهاية :( وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى ) فإنّ ما يبقى ويفيد في نهاية الأمر هو التقوى ، والمتّقون هم الفائزون في النهاية ، أمّا الذين لا تقوى لهم فهم محكومون بالهزيمة والانكسار.

ويحتمل أيضا في تفسير هذه الآية أنّ هدفها هو التأكيد في مجال الروح والتقوى والإخلاص في العبادات ، لأنّ هذا أساس العبادة ، وفي الآية (٣٧) منسورة الحجّ نقرأ :( لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ ) فليس ظاهر الأعمال وقشورها هو الذي يوصلكم إلى مقام القرب من الله ، بل إنّ الواقع والإخلاص والباطن الذي فيها هو الذي يفتح الطريق إلى مقام القرب منه.

ثمّ أشارت الآية التالية إلى واحدة من حجج الكفّار الواهية فقالت :( وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ ) واجابتهم مباشرة :( أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى ) حيث كانوا يشكّكون ويطلبون الأعذار بصورة متلاحقة من أجل الإتيان بالمعجزات ، وبعد رؤية ومشاهدة تلك المعاجز استمرّوا في كفرهم وإنكارهم ، فحاق بهم العذاب الإلهي ، أفلا يعلمون بأنّهم إذا ساروا في نفس الطريق فسينتظرهم المصير نفسه؟

ويحتمل أيضا في تفسير هذه الآية أنّ المراد من «البيّنة» نفس القرآن الذي يبيّن حقائق الكتب السماوية السابقة على مستوى أعلى ، فالآية تقول : لماذا يطلب هؤلاء معجزة ، ويتذرّعون بالأعذار الواهية؟ أليس هذا القرآن مع هذه الامتيازات الكبيرة التي تحتوي على حقائق الكتب السماوية السابقة كافيا لهؤلاء؟

وقد ذكر تفسير آخر لهذه الآية ، وهو : إنّ الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ مع أنّه لم

١١٢

يكن قد درس وتعلّم ـ فقد جاء بكتاب واضح جلي ينسجم مع ما كان في متون الكتب السماوية ، وهذا بنفسه دليل على الإعجاز. إضافة إلى أنّ صفات النّبي وصفات كتابه تنطبق تماما على العلامات التي جاءت في الكتب السماوية السابقة ، وهذا دليل أحقيّته(١) .

وعلى كلّ حال ، فإنّ هؤلاء المتذرّعين ليسوا أناسا طلّاب حقّ ، بل إنّهم دائما في صدد إيجاد أعذار وتبريرات جديدة ، فحتّى( وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى ) إلّا أنّهم الآن وقد جاءهم هذا النّبي الكريم بهذا الكتاب العظيم ، يقولون كلّ يوم كلاما ، ويختلفون الأعذار للفرار من الحقّ.

وقالت الآية التالية : أنذر هؤلاء و( قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ ) فنحن بانتظار الوعود الإلهيّة في حقّكم ، وأنتم بانتظار أن تحيط بنا المشاكل والمصائب( فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى ) وبهذه الجملة الحاسمة العميقة المعنى تنتهي المحاورة مع هؤلاء المنكرين العنودين المتذرّعين.

وخلاصة القول : فإنّ هذه السورة لمّا كانت قد نزلت في مكّة ، وكان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمون تحت ضغط شديد من قبل الأعداد ، فإنّ الله قد واساهم وسرّى عن نفوسهم في نهاية هذه السورة ، فتارة ينهاهم عن أن تأخذهم وتبهرهم أموال المنكرين الزائلة وثرواتهم ، إذ هي للامتحان والابتلاء وتارة يأمرهم بالصلاة والاستقامة لتقوى قواهم المعنوية أمام كثرة الأعداء. وأخيرا يبشّر المسلمين بأنّ هؤلاء إن لم يؤمنوا فإنّ لهم مصيرا أسود مشؤوما يجب أن يكونوا في انتظاره.

اللهم اجعلنا من المهتدين وأصحاب الصراط المستقيم.

__________________

(١) التّفسير الأوّل في مجمع البيان ، والثّاني في الظلال ، والثّالث ذكره الفخر الرازي في التّفسير الكبير ، وهذه التفاسير وإن اختلفت إلّا أنّها لا تتضارب فيما بينها ، وخاصّة التّفسير الثّاني والثّالث.

١١٣

اللهم ألهمنا تلك الشهامة التي لا نرهب معها كثرة الأعداء ، ولا نضعف عند الحوادث الصعبة.

واخلع عنّا أطمار العناد واللجاجة ، ووفّقنا لقبول الحقّ.

آمين ربّ العالمين

نهاية سورة طه

* * *

١١٤

سورة الأنبياء

مكّيّة

وعدد آياتها مائة واثنتا عشرة آية

١١٥
١١٦

سورة الأنبياء

فضل سورة الأنبياء :

روي عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فضل تلاوة هذه السورة أنّه قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأ سورة الأنبياء حاسبه الله حسابا يسيرا ، وصافحه وسلّم عليه كلّ نبي ذكر اسمه في القرآن»(١) .

وعن الإمام الصادقعليه‌السلام : «من قرأ سورة الأنبياء حبّا لها كان كمن رافق النبيّين أجمعين في جنّات النعيم ، وكان مهيبا في أعين الناس حياة الدنيا»(٢) .

إنّ جملة «حبّا لها» مفتاح في الواقع لفهم معنى الرّوايات التي وصلتنا في مجال فضل سورة القرآن ، وهي تعني أنّ الهدف ليس هو التلاوة وتلفّظ الكلمات فقط ، بل عشق المحتوى ، ومن المسلّم أنّ عشق المحتوى بلا عمل لا معنى له ، وإذا ما ادّعى شخص أنّه يعشق السورة الفلانيّة ، ويخالف عمله مفاهيمها ، فإنّه يكذب.

وقد قلنا مرارا : إنّ القرآن كتاب عقيدة وعمل ، والقراءة مقدّمة للتفكير والتدبّر ، وهو مقدّمة للإيمان والعمل!.

محتوى السورة :

١ ـ إنّ هذه السورة كما تدلّ عليها تسميتها هي سورة الأنبياء ، لأنّ اسم ستّة

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ج ٣ ص ٤١٢.

(٢) المصدر السابق.

١١٧

عشر نبيّا قد جاء في هذه السورة ، بعضهم بذكر نماذج وصور من حالاتهم ، والبعض كإشارة، وهم :

موسى ـ هارون ـ إبراهيم ـ لوط ـ إسحاق ـ يعقوب ـ نوح ـ داود ـ سليمان ـ أيّوب ـ إسماعيل ـ إدريس ـ ذو الكفل ـ ذو النون (يونس) ـ زكريا ـ يحيىعليهم‌السلام ، وبناء على هذا فإنّ عمدة البحوث المهمّة في هذه السورة تدور حول مناهج الأنبياء.

وإضافة إلى هؤلاء الأنبياء ، فإنّ هناك أنبياء آخرين لم تذكر أسماؤهم صريحا في هذه السورة ، لكن قد ورد الكلام حولهم ، كرسول الله محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسيح عيسى بن مريمعليهما‌السلام .

٢ ـ إضافة إلى ما مرّ ، فإنّ خاصية السورة المكيّة التي تتحدّث عن العقائد الدينيّة ، وبالأخصّ المبدأ والمعاد ، منعكسة تماما في هذه السورة.

٣ ـ بحثت هذه السورة كذلك عن توحيد الخالق ، وأنّه لا خالق ولا معبود سواه ، وكذلك عن خلق العالم على أساس الهدف والتخطيط ، ووحدة القوانين الحاكمة على هذا العالم ، وكذلك وحدة مصدر ومنبع الحياة والوجود ، وكذلك اشتراك الموجودات في مسألة الفناء والموت.

٤ ـ وتحدث جانب آخر من هذه السورة عن انتصار الحقّ على الباطل ، والتوحيد على الشرك ، وجنود الحقّ على جنود إبليس.

٥ ـ والذي يلفت النظر هنا أنّ هذه السورة تبتدئ بتهديد الناس الغافلين الجاهلين بالحساب الشديد ، وتنتهي بتهديدات أخرى في هذا المجال أيضا.

إنّ الأنبياء الذين وردت أسماؤهم في هذه السورة ، ذكر تفصيل حياة ونشاطات بعضهم في سورة أخرى ، إلّا أنّ التأكيد في هذه السورة كان أغلبه على أنّ هؤلاء العظام عند ما كانوا يبتلون بالضائقات والمواقف الصعبة ، كانوا يمدّون يد التوسّل والاستعانة نحو لطف الله وعونه ، وكيف أنّ الله سبحانه كان يفتح أمامهم

١١٨

الطرق المغلقة ، وينجّيهم من الدوامات وتلاطم أمواج البلايا.

فإبراهيم حين ابتلي بنار نمرود.

ويونس حينما حلّ في بطن الحوت.

وزكريا عند ما رأى أنّ شمس عمره قد أوشكت على الغروب ولا خليفة له يكمل مسيره.

كما أنّها تتكلّم على سائر الأنبياء عند وقوعهم في المشاكل الصعبة العسيرة.

* * *

١١٩

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥) )

التّفسير

أعذار متنوّعة :

تبدأ هذه السورة ـ كما أشرنا ـ بتحذير قوي شديد موجّه لعموم الناس ، تحذير يهزّ الوجدان ويوقظ الغافلين ، فتقول :( اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550