الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٠

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 550

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 550 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 206645 / تحميل: 6189
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٠

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

« مَنْ باع عبداً وله مالٌ فمالُه للبائع إلّا أن يشترطه المبتاع »(١) .

وقد رواه الخاصّة - في الصحيح - عن محمّد بن مسلم عن الباقر أو الصادقعليهما‌السلام قال : سألته عن رجل باع مملوكاً فوجد له مالاً ، فقال : « المال للبائع إنّما باع نفسه إلّا أن يكون شرط عليه أنّ ما كان من مال أو متاع فهو له »(٦) ولو ملكه العبد لم يكن للبائع ، فلمّا جَعَله للبائع دلّ على أنّ العبد لم‌ يملك ، وثبت بذلك أنّ الإضافة مجاز.

ويفارق الحُرّ ؛ لأنّه غير مملوك.

وملك النكاح ؛ لأنّه موضع حاجة وضرورة ؛ لأنّه لا يستباح في غير ملك. ولأنّه لمـّا ملكه لم يملك السيّد إزالة يده عنه ، بخلاف المال.

والفائدة في القولين تظهر في الزكاة ، فإن قلنا : يملك ، فلا زكاة ؛ لضعف ملكه ، إذ لمولاه انتزاعه منه متى شاء. وإن قلنا : لا يملك ، وجبت الزكاة على المولى.

وإذا ملّكه جاريةً وقلنا : يملك ، استباح وطأها ، وإلّا فلا.

ويكفّر بالمال إن قلنا : يملك ، وإلّا بالصوم.

البحث الثاني : في المأذون له في الاستدانة.

مسألة ٥٨ : يجوز للسيّد أن يأذن لعبده في الاستدانة والتجارة وسائر التصرّفات إجماعاً. ولأنّه صحيح العبارة ، وإنّما مُنع من التصرّف لحقّ السيّد ، فإذا أمره ، زال المانع.

إذا ثبت هذا ، فإذا أذن له في الاستدانة ، فإن استدان للمولى بإذنه ، كان الضمان على المولى؛ لأنّه المستدين في الحقيقة ، والمملوك نائبه.

____________________

(١) سنن أبي داوُد ٣ : ٢٦٨ / ٣٤٣٣ و ٣٤٣٥ ، سنن النسائي ٧ : ٢٩٧ ، مسند أحمد ٢ : ٧٣ / ٤٥٣٨.

(٢) الكافي ٥ : ٢١٣ ( باب المملوك يباع ) ح ٢ ، التهذيب ٧ : ٧١ / ٣٠٦.

٦١

وإن استدان لنفسه بإذن المولى ، فإن استبقاه مملوكاً أو باعه ، فالضمان على المولى أيضاً ؛ لأنّه بإذنه دفع المالك ماله إليه.

ولما رواه أبو بصير عن الباقرعليه‌السلام ، قال : قلت له : الرجل يأذن لمملوكه في التجارة فيصير عليه دَيْن ، قال : « إن كان أذن له أن يستدين فالدَّيْن على مولاه ، وإن لم يكن أذن له أن يستدين فلا شي‌ء على المولى ، ويستسعى العبد في الدَّيْن »(١) .

مسألة ٥٩ : لو أعتقه مولاه وقد أذن له في الاستدانة فاستدان ، فالأقرب إلزام العبد بما استدانه ؛ لأنّه أخرجه في مصلحته ، فكان عليه أداؤه ، بخلاف ما لو باعه مولاه أو استبقاه ؛ لأنّ التفريط من المولى بإذنه ، وعدم تمكن صاحب المال من أخذه.

ولما رواه عثمان بن عيسى عن ظريف الأكفاني قال : كان أذن لغلامٍ له في الشراء والبيع فأفلس ولزمه دَيْنٌ فأُخذ بذلك الدَّيْن الذي عليه ، وليس يساوي ثمنه ما عليه من الدَّيْن ، قال : فقال الصادقعليه‌السلام : « إن بعته لزمك ، وإن أعتقته لم يلزمك » فعتقه ولم يلزمه شي‌ء(٢) .

ويحتمل إلزام المولى ؛ لأنّه أذن له في الاستدانة ، فكأنّه قد أذن له في إتلاف مال الغير ، ولا شي‌ء للعبد حالة الإذن ، فتضمّن ذلك الالتزام بما يسدينه ، وهذا هو المشهور.

مسألة ٦٠ : لو استدان العبد بإذن المولى ثمّ مات المولى وعليه ديون وقصرت التركة عن الديون ، قُسّمت التركة على دَيْن المولى ودَيْن العبد بالنسبة ؛ لأنّهما معاً يستحقّان في ذمّة المولى.

ولما رواه زرارة ، قالت : سألتُ الباقرَعليه‌السلام : عن رجل مات وترك عليه

____________________

(١) الكافي ٥ : ٣٠٣ / ٣ ، التهذيب ٦ : ٢٠٠ / ٤٤٥ ، الاستبصار ٣ : ١١ - ١٢ / ٣١.

(٢) الكافي ٥ : ٣٠٣ / ١ ، التهذيب ٦ : ١٩٩ / ٤٤٣ ، الاستبصار ٣ : ١١ / ٢٩.

٦٢

دَيْناً وترك عبداً له مال في التجارة وولداً وفي يد العبد مال ومتاع وعليه دَيْنٌ استدانه العبد في حياة سيّده في تجارة ، فإنّ الورثة وغرماء الميّت اختصموا فيما في يد العبد من المال والمتاع وفي رقبة العبد ، فقال‌ « أرى أن ليس للورثة سبيل على رقبة العبد ، ولا على ما في يده من المتاع والمال إلّا أن يضمنوا(١) دَيْن الغرماء جميعاً ، فيكون العبد وما في يديه للورثة ، فإن أبوا كان العبد وما في يديه للغرماء ، يقوّم العبد وما في يديه من المال ثمّ يقسّم ذلك بينهم بالحصص ، فإن عجز قيمة العبد وما في يديه عن أموال الغرماء رجعوا على الورثة فيما بقي لهم إن كان الميّت ترك شيئاً » قال : « فإن فضل من قيمة العبد وما كان في يديه عن دَيْن الغرماء ردّه على الورثة »(٢) .

مسألة ٦١ : لو أذن المولى لعبده في الشراء للعبد ، صحّ.

والأقرب أنّه لا يملكه العبد ، فحينئذٍ يملكه المولى ؛ لاستحالة ملكٍ لا مالك له ، ولكن للعبد استباحة التصرّف والوطي لو كان أمةً لا من حيث الملك ، بل لاستلزامه الإذن.

إذا عرفت هذا ، فليس الإذن في الاستدانة للمملوك إذناً لمملوك المأذون ؛ لاختصاصه بالمأذون، فلا يتعدّى إلى غيره بالأصل.

ولا بدّ في إذن الاستدانة من التصريح ، فلا يكفي السكوت لو رآه يستدين ، ولا ترك الإنكار.

أمّا أمر صاحبَ المال بالإدانة لعبده ، فالأقرب أنّه إذن للعبد ، فيستبيح العبد التصرّفَ ، ويتعلّق الضمان بالمولى ، بل هو أبلغ من الإذن للعبد فيه.

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة بدل « يضمنوا » : « يظهر » والصحيح ما أثبتناه من المصدر.

(٢) الكافي ٥ : ٣٠٣ / ٢ ، التهذيب ٦ : ١٩٩ - ٢٠٠ / ٤٤٤ ، الاستبصار ٣ : ١١ / ٣٠.

٦٣

البحث الثالث : في المأذون له في التجارة.

والنظر فيه يتعلّق بأُمور ثلاثة :

الأوّل: فيما يجوز له من التصرّفات.

مسألة ٦٢ : إذا أذن السيّد لعبده في التجارة ، اقتصر على ما حدّه له ، ولا يجوز له التعدّي إلى غيره ، سواء كان في جنس ما يشتريه ويبيعه أو في القدر أو في السفر إلى موضعٍ. وإن عمّم له ، جاز ، ولم يختصّ الإذن بشي‌ء من الأنواع دون شي‌ء.

ويستفيد المأذون له في التجارة بالإذن كلّ ما يندرج تحت اسم التجارة أو كان من لوازمها وتوابعها ، كنشر الثوب وطيّه ، وحمل المتاع إلى المنزل والسوق ، والردّ بالعيب ، والمخاصمة في العهدة ونحوها ، فلا يستفيد به غير ذلك ، فليس له النكاح ؛ لأنّ الإذن تعلّق بالتجارة ، وهي لا تتناول النكاح ، فيبقى على أصالة المنع ، وكما أنّ المأذون له في النكاح ليس له أن يتّجر ، كذا بالعكس ؛ لأنّ كلّ واحدٍ منهما لا يندرج تحت اسم الآخَر.

مسألة ٦٣ : ليس للمأذون في التجارة أن يؤاجر نفسه ؛ لأنّه لا يملك التصرّف في رقبة فكذا في منفعة ، وهو قول أكثر الشافعيّة(١) .

وقال بعضهم : إنّه يملك ذلك(٢) . وبه قال أبو حنيفة(٣) .

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٣ : ٥٥٥ ، حلية العلماء ٥ : ٣٥٩ ، الوسيط ٣ : ١٩٦ ، الوجيز ١ : ١٥١ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٣ ، منهاج الطالبين : ١٠٩ ، الهداية - للمرغيناني - ٤ : ٤ ، المغني ٥ : ٢٠٠.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٣.

(٣) تحفة الفقهاء ٣ : ٢٨٨ ، بدائع الصنائع ٧ : ١٩٥ ، المبسوط - للسرخسي - ٢٥ : =

٦٤

وهل له إجارة أموال التجارة ، كالعبيد والدوابّ؟ الأقرب : اتّباع العادة في ذلك.

وللشافعيّة وجهان :

أحدهما : المنع ، كما أنّه لا يؤاجر نفسه.

والثاني : الجواز ؛ لاعتياد التّجار ذلك. ولأنّ المنفعة من فوائد المال ، فيملك العقد عليها كالصوف واللبن. ولأنّ ذلك أنفع للمالك ، فيكون محسناً به ، فلا سبيل عليه ؛ لقوله تعالى :( ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) (١) (٢) .

مسألة ٦٤ : لو أذن له السيّد في التجارة في نوع من المال ، لم يصر مأذوناً في سائر الأنواع وكذا لو أذن له في التجارة شهراً أو سنةً ، لم يكن مأذوناً بعد تلك المدّة ، عند علمائنا وبه قال الشافعي -(٣) اقتصاراً بالإذن على مورده ؛ لعدم تناوله غير ذلك النوع.

وقال أبو حنيفة : إنّ الإذن في نوع يقتضي الإذن في غيره ، وكذا الإذن في التجارة مدّةً يقتضي تعميم الأقارب ؛ لأنّ في الإذن في نوعٍ أو مدّة غروراً للناس ؛ لأنّهم يحسبونه مأذوناً له في كلّ نوع ، والغرور من المغرور صدر حيث بنى الأمر على التخمين ولم يفحص في البحث عن حاله ، كما‌

____________________

= ٦ ، الهداية - للمرغيناني - ٤ : ٤ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ١٥٩ ، التهذيب - للبغوي - ٣ : ٥٥٥ ، حلية العلماء ٥ : ٣٥٩ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٦ ، المغني ٥ : ٢٠٠.

(١) التوبة : ٩١.

(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٩٧ ، التهذيب - للبغوي - ٣ : ٥٥٥ ، الوسيط ٣ : ١٩٦ ١٩٧ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٣ ٢٢٤.

(٣) التهذيب - للبغوي - ٣ : ٥٥٦ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٤.

٦٥

أنّه لو لم يأذن لعبده في التجارة فعامل العبد فتوهّم الغير الإذنَ ، لم يلزم المولى حكمٌ ، كذا هنا(١) .

واعلم أنّ أبا حنيفة سلّم أنّه لو دفع المولى إليه ألفاً ليشتري به شيئاً ، لا يصير مأذوناً له في التجارة(٢) .

ولو دفع إلى ألفاً وقال : اتّجر فيه فله أن يشتري بعين ما دفع إليه وبقدره في الذّمة لا يزيد عليه.

ولو قال : اجعله رأس مالك وتصرّفْ واتّجر فيه ، فله أن يشتري بأكثر من القدر المدفوع إليه.

مسألة ٦٥ : لو أذن لعبده في التجارة وكان للمأذون عبد ، لم يكن لعبد المأذون التجارة ، ولا للمأذون أن يأذن له إلّا بإذن مولاه ؛ لأنّ المولى إنّما اعتمد على نظر المأذون ، فلم يكن له أن يتجاوزه بالاستنابة ، كالتوكيل ، وبه قال الشافعي(٣) .

وقال أبو حنيفة : إنّ للمأذون أن يأذن لعبده في التجارة(٤) .

وليس بمعتمد.

ولو أذن له السيّد في ذلك ففَعَل ، جاز ، ثمّ ينعزل مأذون المأذون بعزل السيّد له أو للمأذون ، سواء انتزعه من يد المأذون أو لا ، وبه قال الشافعي(٥) .

____________________

(١) تحفة الفقهاء ٣ : ٢٨٦ ، المبسوط - للسرخسي - ٢٥ : ٥ و ٩ و ١٧ ، التهذيب - للبغوي - ٣ : ٥٥٦ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٦.

(٢) تحفة الفقهاء ٣ : ٢٨٥ - ٢٨٦ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٦.

(٣) الوسيط ٣ : ١٩٦ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٤.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٦.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٤.

٦٦

وقال أبو حنيفة : إذا لم ينتزعه ، لم ينعزل(١) .

وهل للمأذون أن يوكّل غيره في آحاد التصرّفات؟ الأولى المنع ؛ لأنّ السيّد لم يرض بتصرّف غيره.

وللشافعيّة وجهان ، هذا أحدهما. والثاني : أنّ له ذلك ؛ لأنّها تصدر عن نظره ، وإنّما الممتنع أن يقيم غيره مقام نفسه(٢) .

والمعتمد : الأوّل.

مسألة ٦٦ : ليس للمأذون التصدّق ، إلّا مع علم انتفاء كراهيّة المولى ، ولا ينفق على نفسه من مال التجارة ؛ لأنّه ملك لسيّده.

وعند أبي حنيفة له ذلك(٣) .

والشافعي(٤) وافقنا على ما قلناه.

ولا يتّخذ الدعوة للمجهزين(٥) .

ولا يعامل سيّده بيعاً وشراءً ؛ لأنّ تصرّفه لسيّده ، بخلاف المكاتب يتصرّف لا لسيّده ، وبه قال الشافعي(٦) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز : ٤ : ٣٦٦.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٦ - ٣٦٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٤.

(٣) تحفة الفقهاء ٣ : ٢٨٨ ، بدائع الصنائع ٧ : ١٩٧ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ١٦٠ ، الهداية - للمرغيناني - ٤ : ٥ ، الوجيز ١ : ١٥١ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٧ ، التهذيب - للبغوي - ٣ : ٥٥٦.

(٤) الوسيط ٣ : ١٩٦ ، الوجيز ١ : ١٥١ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٧ ، التهذيب - للبغوي - ٣ : ٥٥٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٤.

(٥) قال المطرزي في المغرب ١ : ١٠١ : والمجاز عند العامّة : الغليّ من التّجار. وكأنّه اُريد المجهز ، وهو الذي يبعث التّجار بالجهاز ، وهو فاخر المتاع ، أو يسافر به ، فحُرّف إلى المجاهز.

(٦) الوجيز ١ : ١٥١ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٧ ، التهذيب للبغوي ٣ : ٥٥٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٤.

٦٧

وقال أبو حنيفة : له أن يعامل سيّده(١) .

وربما قيّد بعض الشافعيّة ذلك بما إذا ركبته الديون(٢) .

مسألة ٦٧ : لو احتطب المأذون له في التجارة أو اصطاد أو قَبِل الوصيّة أو أخذ من معدن أو مباح ، لم ينضمّ إلى مال التجارة ، فليس له التصرّف فيه إلّا بإذن مولاه ؛ لأنّه مال اكتسبه بغير التجارة ، فيكون للسيّد ، والسيّد لم يأذن له في التصرّف فيه ولا سلّمه إليه ليكون رأس المال ، وبه قال بعض الشافعيّة(٣) .

وقال بعضهم : له ذلك ؛ لأنّه من جملة أكسابه(٤) (٥) .

وهو غير دالّ على الغرض ؛ إذ الكسب لا ينافي المنع.

مسألة ٦٨ : وفي انعزال المأذون بالإباق نظر ، أقربه ذلك ، قضاءً للعادة ، فإنّ خروجه عن طاعة مولاه يؤذن بكراهة المولى لتصرّفه حيث خروج عن الأمانة ، وبه قال أبو حنيفة(٦) .

ويحتمل أن لا ينعزل بالإباق ، بل له التصرّف في البلد الذي خرج إليه ، إلّا إذا خصّ السيّد الإذن بهذا البلد ؛ لأنّ الإباق عصيان ، فلا يوجب‌

____________________

(١) الوجيز ١ : ١٥١ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٧.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٧.

(٣) الوسيط ٣ : ١٩٦ ، الوجيز ١ : ١٥١ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٧ ، التهذيب - للبغوي - ٣ : ٥٥٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٤.

(٤) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « اكتسابه ». وما أثبتناه من المصادر.

(٥) التهذيب - للبغوي - ٣ : ٥٥٥ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٤.

(٦) الاختيار لتعليل المختار ٢ : ١٦٢ ، الهداية - للمرغيناني - ٤ : ٧ ، الوجيز ١ : ١٥٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٧ ، حلية العلماء ٥ : ٣٦١ - ٣٦٢ ، التهذيب للبغوي ٣ : ٥٥٦ ، المغني ٥ : ٢٠٠.

٦٨

الحجر ، كما لو عصى السيّد من وجهٍ آخَر.

والفرق ظاهر ؛ فإنّ قهر المولى على نفسه بالإباق يقتضي قهره على ما بيده ، فلا يناسب الإذن له في التصرّف فيه.

ولو أذن لجاريته في التجارة ثمّ استولدها ، ففيه هذا الخلاف. ولا خلاف في أنّ له أن يأذن لمستولدته في التجارة(١) .

وعندنا لو أذن لجاريته في التجارة ثمّ استولدها ، لم يبطل الإذن.

مسألة ٦٩ : لو شاهد عبده يبيع ويشتري فسكت عنه ولم ينكر عليه ولم يظهر منه أثر الاختيار ، لم يصر مأذوناً له في التجارة - وبه قال الشافعي(٢) - كما لو رآه ينكح فسكت ، لم يكن مأذوناً له في النكاح ، كذا هنا.

وقال أبو حنيفة : إنّه يكون مأذوناً له في التجارة بمجرّد السكوت(٣) .

مسألة ٧٠ : لو ركبت المأذونَ الديونُ ، لم يزل ملك سيّده عمّا في يده ، فلو تصرّف فيه المولى ببيعٍ أو هبةٍ أو إعتاقٍ بإذن المأذون والغرماء ، جاز ، فيكون الدَّيْن في ذمّة العبد.

فإن أذن العبد دون الغرماء ، لم يجز عند الشافعي(٤) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٥.

(٢) الوجيز ١ : ١٥٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٧ ، حلية العلماء ٥ : ٣٥٧ ، التهذيب - للبغوي - ٣ : ٥٥٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٥ ، تحفة الفقهاء ٣ : ٢٨٦ ، بدائع الصنائع ٧ : ١٩٢ ، الهداية - للمرغيناني - ٤ : ٣ ، المبسوط - للسرخسي - ٢٥ : ١١ ، المغني ٥ : ٢٠٠.

(٣) تحفة الفقهاء ٣ : ٢٨٦ ، بدائع الصنائع ٧ : ١٩٢ ، المبسوط - للسرخسي - ٢٥ : ١١ ، الهداية - للمرغيناني - ٤ : ٣ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ١٥٨ ، حلية العلماء ٥ : ٣٥٨ ، التهذيب للبغوي ٣ : ٥٥٦ ، الوجيز ١ : ١٥٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٧.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٥.

٦٩

وإن أذن الغرماء دون العبد ، فللشافعيّة وجهان(١) .

وقال أبو حنيفة : إذا ركبته الديون ، يزول ملك السيّد عمّا في يده ، ولا يدخل في ملك الغرماء(٢) .

وهو يستلزم المحال ، وهو وجود ملكٍ لا مالك له.

والأقرب : أنّ ما في يده لمولاه ، ويصحّ تصرّفه فيه بجميع أنواع التصرّفات ، ولا اعتراض للمولى ولا الغرماء.

مسألة ٧١ : لو أقرّ العبد المأذون بديون المعاملة ، ففي قبوله إشكال ينشأ من أنّه يملك ذلك فيملك الإقرار به ، ومن أنّه إقرار في حقّ المولى.

والمعتمد : الثاني.

وقالت الشافعيّة : إنّه يُقبل ، ولا فرق بين أن يُقرّ بها لأجنبيّ أو لولده أو لأبيه(٣) .

وقال أبو حنيفة : لا يُقبل إقراره لهما(٤) .

أمّا لو أقرّ بغير دَيْن المعاملة فإنّه غير نافذ ، وكذا لو أقرّ المأذون ؛ لأنّه إقرار في حقّ المولى.

مسألة ٧٢ : إذا أقرّ العبد بجناية توجب القصاص أو الدية ، أو أقرّ بحدٍّ أو تعزير ، لم يُقبل إقراره في حقّ مولاه بمعنى أنّه لا يقتصّ منه ما دام مملوكاً ، ولا يطالب بالمال ولا بالحدّ ولا بالتعزير ، سواء كان مأذوناً له في‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٥.

(٢) الهداية - للمرغيناني - ٤ : ٨ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ١٦٣ ، الوجيز ١ : ١٥٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٨.

(٣) الوجيز ١ : ١٥٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٥.

(٤) المبسوط - للسرخسي - ٢٥ : ٨٠ ، الوجيز ١ : ١٥٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٨.

٧٠

التجارة والاستدانة أو لا - وبه قال زفر والمزني وداوُد الظاهري وابن جرير الطبري(١) لأنّه إقرار في حقّ المولى. ولأنّه يسقط حقّ السيّد به ، فأشبه إقراره بالخطأ.

وقال أبو حنيفة والشافعي ومالك : يُقبل إقراره بما يوجب القصاص ، ويكون للمقرّ له استيفاؤه؛ لأنّ ما لا يُقبل فيه إقرار السيّد على العبد يُقبل إقرار العبد فيه كالطلاق ، بخلاف جناية الخطأ ؛ لأنّ العبد تلحقه التهمة في ذلك ، ولهذا يُقبل إقرار السيّد بها ، وفي مسألتنا لا تلحقه التهمة ؛ لأنّه يتلف بذلك نفسه ، ولهذا يُقبل إقرار المرأة بالقتل وإن تضمّن إبطال حقّ الزوج ، ولا يُقبل بما يحرمها عليه مع سلامتها(٢) .

ونمنع عموميّة أنّ ما لا يُقبل فيه إقرار السيّد يُقبل فيه إقرار العبد. والتمسّك بالإطلاق تمسّكٌ بأمرٍ جزئيّ لا يدلّ على الحكم الكلّي.

وقال أحمد : يُقبل إقراره فيما دون النفس ، ولا يُقبل في النفس ؛ لما روي عن أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام أنّه قطع عبداً بإقراره(٣) .

____________________

(١) المغني ٤ : ٣٢٣ ، و ٥ : ٢٧٣ ٢٧٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٨٠ ، الكافي في فقه الإمام أحمد ٤ : ٢٩٩ ، الهداية للمرغيناني ٤ : ١٦٩ ، الحاوي الكبير ٥ : ٣٧٢ ، التهذيب للبغوي ٣ : ٥٦٠ ، حلية العلماء ٥ : ٣٦١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٦.

(٢) المغني ٥ : ٢٧٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٨٠ ، الهداية للمرغيناني ٤ : ١٦٩ ، المبسوط للسرخسي ٩ : ١٠٠ ، الام ٦ : ٢١٧ ، المهذّب للشيرازي ٢ : ٣٤٤ ، الحاوي الكبير ٥ : ٣٧٢ ، التهذيب للبغوي ٣ : ٥٦٠ ، حلية العلماء ٥ : ٣٦١ ، و ٨ : ٣٢٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٦ ، الكافي في فقه أهل المدينة : ٥٨٢ ، التفريع ٢ : ٢٣١.

(٣) المغني ٤ : ٣٢٣ ، و ٥ : ٢٧٣ ٢٧٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٧٩ ٢٨٠ ، الكافي في فقه الإمام أحمد ٤ : ٢٩٩ ، حلية العلماء ٥ : ٣٦١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧٧.

٧١

ونحن نمنع ذلك ، وإنّما قطعه بالبيّنة.

إذا ثبت هذا ، فإن اُعتق نفذ إقراره ، وطُولب بمقتضاه.

وإن أقرّ بجناية الخطأ ، فعندنا لا يُقبل إقراره في حقّ مولاه على ما تقدّم.

وقال الشافعي(١) هنا بقولنا.

ويتعلّق الإقرار بذمّته يتبع به إذا اُعتق وأيسر ، بخلاف المحجور عليه للسفه إذا أقرّ بالجناية ، فإنّه لا يلزم لا حال الحجر ولا بعد فكّه ؛ لأنّا أبطلنا إقراره لسفهه فلا نلزمه إيّاه ؛ لأنّ ذلك تضييع لماله الذي حفظناه بالحجر ، والعبد رشيد ، وإنّما رددنا إقراره لحقّ سيّده ، فإذا زال حقّه وملك المال ، ألزمناه حقّ إقراره.

مسألة ٧٣ : لو أقرّ العبد بسرقة سواء كان مأذوناً أو لا ، لم ينفذ إقراره في حقّ مولاه ؛ لأنّه إقرار على الغير ، فإن اُعتق ، اُلزم بمقتضاه ، سواء كانت السرقة ممّا توجب القطع أو لا ، كالسرقة من غير حرز أو لما دون النصاب ويكون المقرّ به في ذمّته تالفاً أو باقياً ؛ لأنّه متّهم في إقراره.

وقال الشافعي : إن كانت السرقة لا توجب القطع ، لم يُقبل في حقّ المولى ، ويتبع العبد بها بعد العتق. وإن أوجبت القطع ، صحّ إقراره في وجوب القطع عليه ، كما يصّح فيما يوجب القصاص(٢) .

وأمّا المسروق فإن كان تالفاً ، فهل يصّح إقراره ويتعلّق برقبته ، أو‌ يكون في ذمّته؟ للشافعيّة قولان(٣) :

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ٢ : ٣٤٥.

(٢) المهذّب - للشيرازي - ٢ : ٣٤٥ ، التهذيب للبغوي ٣ : ٥٦٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٦.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ٢ : ٣٤٥ ، التهذيب للبغوي ٣ : ٥٦٠ ، حلية العلماء ٨ : =

٧٢

أحدهما : أنّه يصحّ ، ويتعلّق برقبته ؛ لأنّ إقراره متضمّن للعقوبة ، فلا تهمة فيه ، كما لو أقرّ بجناية العمد ، فإنّه يصحّ ، وإن كان الوليّ إذا عفا وجب المال في رقبته.

والثاني : لا يجب في رقبته ، وإنّما يتعلّق بذمّته ؛ لأنّه إقرار بالمال ، فأشبه ما لا يجب به القطع. ويفارق الإقرار بالقصاص ؛ لإقراره بالعقوبة ، وإنّما يصير مالاً بعفو الولي واختياره ، وهنا يُقر(١) بالمال. ألا ترى أنّه إذا أقام المسروق منه شاهداً وامرأتين ، ثبت المال دون القطع ، ولو شهد بقتل العمد شاهد وامرأتان ، لم تثبت العقوبة ولا الدية ، فإن رجع عن إقراره ، سقط القطع ، ويتعلّق المسروق بذمّته قولاً واحداً ؛ لأنّ التهمة تلحقه الآن.

وإن كانت العين المسروقة قائمةً ، فإن كانت في يد السيّد وأنكر السيّد ، قُدّم قوله مع اليمين ، وأوجب إقرار العبد القطع ، ولا يجب به ردّ العين ، وإنّما يثبت بدلها في ذمّته ، كالحُرّ إذا أقرّ بسرقة عين في يد مَنْ يدّعيها لنفسه ، فإنّه يُقطع ولا يردّ ويغرمها.

وإن كانت في يد العبد ، اختلفوا في ذلك على طريقين :

قال ابن سريج في ردّ ذلك قولين ، كما لو كانت العين تالفةً(٢) .

وقال غيره : لا تردّ العين قولاً واحداً ؛ لأنّ يده كيد سيّده ، ولو كانت في يد سيّده لم تردّ. ولأنّ هذا يؤدّي إلى أن يُقبل إقراره في أكثر من قيمته ، وهو أن تكون العين أكثر منه قيمةً(٣) .

وهذا كلّه عندنا بالطل ، وإنّ إقراره لا ينفذ لا في المال ولا في القطع.

____________________

= ٣٢٦ ٣٢٧ ، الوجيز ١ : ١٩٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧٧ - ٢٧٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٦.

(١) في « س ، ي » : « أقرّ ».

(٢) الحاوي الكبير ٥ : ٣٧٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧٨.

(٣) الحاوي الكبير ٥ : ٣٧٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٦.

٧٣

إذا ثبت هذا ، فإنّ الشافعيّة قالوا : إنّه يُقطع ، ولا تردّ العين ، وبه قال مالك وأحمد(١) .

وقال أبو حنيفة : لا يُقطع ولا تردّ العين - وهو مذهبنا - لأنّ العين يُحكم بأنّها للسيّد ، ولا يجوز أن يُقطع في ملك سيّده(٢) .

وقال محمّد : يُقطع وتردّ العين ؛ لأنّه إنّما أقرّ بسرقة العين ، فإذا أوجبنا القطع فيها وجب ردّها(٣) .

واحتجّ الشافعي بأنّه أقرّ بسرقة عينٍ هي ملكٌ لغيره في الظاهر ، فوجب أن يُقبل إقراره في القطع دون العين ، كما لو أقرّ الحُرّ بسرقة مال في يد غيره(٤) .

ونمنع أنّها ملك الغير ، بل هي ملك السيّد.

تذنيب : لو صدّق المولى العبد في إقراره بما يوجب القصاص أو الحدّ ، قُبِل ، واستوفي من العبد ما يقتضيه إقراره.

مسألة ٧٤ : مَنْ عامَل المأذونَ وهو لا يعرف رقّه ، صحّ تصرّفه ، ولا يشترط علمه بحاله.

ولو عرف رقّه ، لم يجز له معاملته ، إلّا أن يعرف إذن السيّد.

ولا يكفي قول العبد : أنا مأذون ؛ لأنّ الأصل عدم الإذن ، فأشبه ما إذا‌ زعم الراهن إذن المرتهن في بيع المرهون. ولأنّه مدّعٍ لنفسه ، فلا تُقبل دعواه إلّا ببيّنة ، وبه قال الشافعي(٥) .

____________________

(١) الحاوي الكبير ٥ : ٣٧٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧٨ ، المغني ٤ : ٣٢٤ ، الكافي في فقه أهل المدينة : ٥٨٢.

(٢) المغني ٤ : ٣٢٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧٨.

(٣) اُنظر : الحاوي الكبير ٥ : ٣٧٤.

(٤) المغني ٤ : ٣٢٤.

(٥) الوسيط ٣ : ١٩٧ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٦.

٧٤

وقال أبو حنيفة : يكفي قول العبد ، كما يكفي قول الوكيل(١) .

قالت الشافعيّة : بينهما فرق ؛ لأنّ في الوكيل لا حاجة إلى دعوى الوكالة ، بل تجوز معاملته بناءً على ظاهر الحال وإن لم يدّع شيئاً ، وهنا بخلافه(٢) .

وإنّما يُعرف كونه مأذوناً إمّا بسماع الإذن من السيّد أو ببيّنة تقوم عليه.

ولو شاع في الناس كونه مأذوناً ، فوجهان ، أصحّهما عندهم : يكتفى به(٣) أيضاً ؛ لأنّ إقامة البيّنة لكلّ معاملٍ ممّا يعسر(٤) .

والوجه عندي : عدم الاكتفاء ، والعسر يندفع بإثبات ذلك عند الحاكم.

ولو عرف كونه مأذوناً ثمّ قال العبد : حجر عليَّ السيّد ، لم يعامل.

فإن قال السيّد : لم أحجر عليه ، فوجهان للشافعيّة:

أصحّهما عندهم : أنّه لا يعامل أيضاً ؛ لأنّه العاقد ، والعقد باطل بزعمه.

والثاني : أنّه يجوز معاملته - وهو مذهبنا ، وبه قال أبو حنيفة - اعتماداً‌ على قول السيّد(٥) .

مسألة ٧٥ : لو عامل المأذونَ مَنْ عرف رقَّه ولم يعرف إذنه ثمّ بانَ كونه مأذوناً ، صحّت المعاملة ؛ لظهور الإذن المقتضي لصحّتها ، وليس العلم

____________________

(١) الوسيط ٣ : ١٩٧ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٨.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٨.

(٣) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « فيه » بدل « به ». والصحيح ما أثبتناه.

(٤) الوسيط ٣ : ١٩٧ ، الوجيز ١ : ١٥٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٦ ، منهاج الطالبين ٣ : ١٠٩.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٦.

٧٥

به شرطاً في الصحّة ، بل في العلم بها.

وقالت الشافعيّة : إنّه يلحق بما إذا باع مال أبيه على ظنّ أنّه حيّ فبانَ ميّتاً(١) .

ويقرب منه قولان للشافعيّة فيما إذا كذب مدّعي الوكالة ثمّ عاملة ثمّ ظهر صدق دعوى الوكيل في الوكالة(٢) .

وكلّ هذا عندنا يقع صحيحاً ؛ لما قلناه من أنّ العلم شرط في العلم.

ولو عرف كونه مأذوناً فعامَلَه ثمّ امتنع من التسليم إلى أن يقع الإشهاد على الإذن ، فله ذلك ، خوفاً من خطر إنكار السيّد ، كما لو صدق مدّعي الوكالة بقبض الحقّ ثمّ امتنع من التسليم حتى يشهد الموكّل على الوكالة.

وهل يجوز معاملة مَنْ لا يعرف رقّه وحُرّيّته؟ الأقرب ذلك ؛ لأنّ الأصل الحُرّيّة وعدم الحجر ، وهو أحد قولي الشافعيّة. والثاني : المنع ؛ لأنّ الأصل بقاء الحجر الثابت عليه بالصغر(٣) .

مسألة ٧٦ : إذا أطلق له الإذن في الشراء ، انصرف إلى النقد ، فإن أذن له في النسيئة ، جاز ، فيثبت الثمن في ذمّة المولى ، وليس له الاستدانة إلّا مع ضرورة التجارة المأذون له فيها ، فيلزم الدَّيْن المولى ؛ لأنّ الإذن في الشي‌ء يستلزم الإذن فيما لا يتمّ ذلك الشي‌ء إلّا به.

أمّا لو استدان لغير مصلحة التجارة ، فإنّه لا يلزم المولى ، بل يتبع به بعد العتق ، فإن اُعتق اُخذ منه ، وإلّا ضاع.

ولا يستسعى على رأي ؛ لأنّ في ذلك إضراراً بالمولى ، فكان المؤدّي المولى.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٦.

(٢ و٣ ) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٦.

٧٦

النظر الثاني : في العهدة.

مسألة ٧٧ : إذا باع المأذون سلعةً وقبض الثمن فظهرت السلعة مستحقّةً وقد تلف الثمن في يد العبد ، فللمشتري الرجوع ببدله على السيّد ؛ لأنّ العقد له والعبد نائب عنه وعبارته مستعارة ، فكأنّه البائع والقابض للثمن ، وهو أحد قولي الشافعيّة. وفي الثاني : يرجع المشتري على العبد ببدله ؛ لأنّه المباشر للعقد(١) .

ولم قولان آخَران :

أحدهما : أنّه لا يرجع على العبد ولا السيّد ؛ لأنّ السيّد بالإذن قد أعطاه استقلالاً ، فشرط من معاملة قصر الطمع عن يده وذمّته(٢) .

والثاني : أنّه إن كان في يد العبد وفاء ، فلا يطالَب السيّد ؛ لحصول غرض المشتري ، وإلّا طُولب السيّد(٣) .

وقال ابن سريج : إن كان السيّد قد دفع إليه عين ماله وقال : بِعْها وخُذْ ثمنها واتّجر فيه ، أو قال : اشتر هذه السلعة وبِعْها واتّجر في ثمنها ، ففَعَل ثمّ‌ ظهر الاستحقاق وطالَبه المشتري بالثمن ، فله أن يطالب السيّد بقضاء الدَّيْن عنه ؛ لأنّه أوقعه في هذه الغرامة. وإن اشترى باختياره سلعةً وباعها ثمّ ظهر الاستحقاق ، فلا(٤) .

مسألة ٧٨ : المأذون له في التجارة إذا اشترى شيئاً للتجارة ، طُولب

____________________

(١) الوسيط ٣ : ١٩٩ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٦ - ٢٢٧.

(٢) كذا ، في العزيز شرح الوجيز : « فشرط من يعامله قصر الطمع على يده وذمّته ».

(٣) الوسيط ٣ : ١٩٩ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٧.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٧.

٧٧

السيّد بالثمن ؛ لأنّه نائب عنه ووكيل له.

وللشافعيّة الأوجُه الثلاثة(١) السابقة في المسألة السابقة.

والوجه الأوّل والثاني جاريان في عامل القراض مع ربّ المال ؛ لتنزيل ربّ المال العهدة على المال المعيّن(٢) .

ولو دفع شخص إلى وكيله مالاً وقال : اشتر لي عبداً وأدِّ هذا في ثمنه ، فاشترى الوكيل ، ففي مطالبة الموكّل بالثمن عند الشافعيّة طريقان :

أحدهما : أنّه يطالَب ، ولا حكم لهذا التعيين مع الوكيل ؛ لأنّ الوكيل سفير محض ، والمأذون مملوكه يلزمه الامتثال والتزام(٣) ما يلزمه السيّد ذمّته.

وأحسنهما عندهم : طرد القولين فيه(٤) .

والوجه : أن نقول : إن كان الموكّل قد عيّن المدفوع في الثمنيّة في العقد فاشترى الوكيل به ، لم يطالَب الموكّل. وإن لم يدفعه ، بطل الشراء إن سمّى الموكّل ؛ لمخالفته أمره ، وإن لم يسمّه ، وقع الشراء له ، وكان عليه الثمن ، فلا يطالَب الموكّل. وإن لم يكن قد عيّن المدفوع في الثمنيّة في‌ العقد ، كان للبائع مطالبة الموكّل.

مسألة ٧٩ : إذا توجّهت المطالبة على العبد ، لم تسقط ، ولا تندفع عنه بعتقه ، لكن في رجوعه بالمغروم بعد العتق للشافعيّة وجهان :

أحدهما : يرجع ؛ لانقطاع استحقاق السيّد بالعتق.

____________________

(١ و ٢ ) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٧.

(٣) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « إلزام ». والصحيح ما أثبتناه من « العزيز شرح الوجيز ».

(٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٧٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٧.

٧٨

وأظهرهما عندهم : لا يرجع ؛ لأنّ المؤدّي بعد العتق كالمستحقّ بالتصرّف السابق على الرقّ ، وهذا كالخلاف في السيّد إذا أعتق العبد - الذي آجره - في أثناء مدّة الإجارة هل يرجع بأجرة مثله للمدّة الواقعة بعد العتق؟(١)

مسألة ٨٠ : لو سلّم إلى عبده ألفاً للتجارة فاشترى بالعين شيئاً ثمّ تلف الألف في يده ، انفسخ العقد ، كما لو تلف المبيع قبل القبض.

وإن اشترى في الذمّة على عزم صرف الألف في الثمن ، فالأقرب : أنّه لا يجب على السيّد دفع البدل ؛ لأنّه أذن بالمعاملة بما دفعه ، وهو ينصرف إلى الشراء بالعين ، لكنّ السيّد إن دفع ألفاً آخَر ، أمضى العقد ، وإلّا فللبائع فسخ العقد ، وهو أحد أقوال الشافعيّة.

والثاني : أنّه ينفسخ بالعقد ، كما لو اشترى بالعين ؛ لأنّ المولى حصر إذنه في التصرّف في ذلك الألف وقد فات محلّ الإذن ، فبطل البيع.

والثالث : أنّه يجب على السيّد ألفٌ آخَر ؛ لأنّ العقد وقع له ، والثمن غير متعيّن ، فعليه الوفاء بإتمامه(٢) .

ولا بأس به إن كان السيّد قد أطلق له ذلك ، بل هو المتعيّن حينئذٍ ، وإلّا فالوجه ما قلناه.

وللشافعيّة وجهٌ رابع ، وهو : أن يكون الثمن في كسب العبد(٣) .

وكذا لو دفع إلى عامل القراض ألفاً للقراض ، فاشترى العامل بمالٍ في الذمّة وتلف الألف عنده ، هل يجب على ربّ المال ألفٌ آخَر ، أو

____________________

(١) الوسيط ٣ : ٢٠٠ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٧٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٧.

(٢ و ٣ ) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٧٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٧.

٧٩

ينقلب العقد إلى العامل؟ إن قلنا بالأوّل ، فعلى السيّد ألفٌ آخَر. وإن قلنا بالثاني ، انفسخ العقد.

وإذا قلنا على السيّد ألفٌ آخَر ، فهل للعبد أن يتصرّف فيه بالإذن السابق ، أم لا بدّ من إذنٍ جديد؟ فيه وجهان كالوجهين في أنّه إذا أخرج ألفاً آخَر في صورة القراض ، فرأس المال ألفٌ أو ألفان؟ إن قلنا : ألفٌ ، فلا بدّ من إذنٍ جديد. وإن قلنا : ألفان ، كفى الإذن السابق.

والألف الجديد إنّما يطالب به البائع دون العبد ، ولا شكّ أنّ العبد لا يمدّ يده إلى ألف من مال السيّد وأنّه لا يتصرّف فيما قبضه البائع ، وإنّما تظهر فائدة الخلاف فيما إذا ارتفع العقد بسببٍ من الأسباب ورجع الألف.

مسألة ٨١ : إذا اتّجر المأذون وحصل عليه ديون وفي يده مال وكان الذي استدانه في مصلحة التجارة ، قُضيت ديونه ممّا في يده ، وإن شاء المولى دفع من عنده. وإن لم يكن بقي في يده شي‌ء ، فإنّ الديون تكون(١) في ذمّته يُتبع بها إذا أُعتق وأيسر إن صرفها في غير مصلحة التجارة.

والشافعيّة أطلقوا وقالوا : لا يتعلّق برقبته وبه قال مالك لأنّه دَيْنٌ ثبت على العبد برضا مَنْ له الدَّيْن ، فوجب أن لا يتعلّق برقبته ، كما لو استقرض بغير إذن سيّده(٢) .

وقال أبو حنيفة : يُباع العبد فيه إذا طالَبه الغرماء ببيعه ؛ لأنّه دَيْنٌ تعلّق بالعبد بإذن سيّده ، فوجب أن يباع فيه ، كما لو رهنه(٣) .

____________________

(١) في « ي » : « تبقي » بدل « تكون ».

(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٩٧ ، حلية العلماء ٥ : ٣٦٢ ، الوسيط ٣ : ٢٠٢ ، الوجيز ١ : ١٥٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٧١ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٧ - ٢٢٨ ، المدوّنة الكبرى ٥ : ٢٤٥ - ٢٥٦ ، المغني ٤ : ٣٢٢.

(٣) تحفة الفقهاء ٣ : ٢٩٠ ، المغني ٤ : ٣٢٢ ، حلية العلماء ٥ : ٣٦٢ ، الوجيز ١ : ١٥٢ ، الوسيط ٣ : ٢٠٢.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

يبعث على النشاط أجل هذه هي حياتهم القاسية ، ومعيشتهم الضنك.

لقد اعترف ريتشارد نيكسون الرئيس الأسبق للولايات المتحدة الأمريكية ـ بلد الشيطان الأكبر ـ بهذا الواقع في خطابه الرئاسي الأوّل إذ قال : (إنّنا نرى حولنا دائما حياة جوفاء ، ونحن نأمل أن نرضى ، ولكنّنا لا نرضى)!

رجل آخر من رجال المعروفين كانت مهمّته إيجاد السرور والفرح في المجتمع ، يقول : إنّي أرى الإنسانية تعدو في زقاق مظلم لا شيء في نهايته إلّا القلق المطلق.

ومن الطريف أن نقرأ في الرّوايات الإسلامية أنّه سئل الإمام الصادقعليه‌السلام عن المراد من الآية :( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً ) ؟ قال : «يعني [الإعراض عن] ولاية أمير المؤمنين»(١) .

أجل فإنّ الذي يستلهم العبرة من حياة عليعليه‌السلام ، ذلك الرجل العظيم الذي كانت الدنيا في نظره لا تساوي عفطة عنز ، والذي انقطع إلى الله حتّى صغرت الدنيا في عينه إلى هذا الحدّ ، فمن يكن كذلك فستكون حياته في سعة ورفاه ، أمّا أولئك الذين ينسون المثل والقدوة فإنّهم في ضنك العيش في كلّ الأحوال.

وقد فسّر الإعراض عن ذكر الله ـ في الآية ـ بترك الحجّ من قبل القادرين عليه ، وذلك لأنّ مراسم الحج تهزّ الإنسان ، وتوجد ارتباطا وعلاقة جديدة بين الإنسان وربّه بحيث يكون هذا الارتباط هو مفتاح حياته ، في حين أنّ عكس هذا الأمر يؤدّي إلى الارتباط الشديد بالماديات التي هي أساس المعيشة الضنكا.

٢ ـ عمى البصر وعمى البصيرة!

لقد حدّدت عقوبتان لأولئك الذين يعرضون عن ذكر الله : إحداهما : المعيشة

__________________

(١) نور الثقلين ، الجزء ٣ ، ص ٤٠٥.

١٠١

الضنك في هذه الدنيا ، والتي أشير إليها في الملاحظة السابقة ، والأخرى : العمى في الآخرة.

وقلنا مرارا : إنّ عالم الآخرة هو تجسّم أوسع لعالم الدنيا ، وكلّ حقائق هذا العالم تتجسّد هناك بما يناسبها هنا ، فأولئك الذين عميت بصيرتهم عن مشاهدة الحقائق في هذه الدنيا ، ستعمى هناك عيون أجسامهم ، ولذلك فإنّهم حين يتساءلون بأنّا كنّا قبل هذا صحيحي البصر ، فلما ذا حشرنا عميا؟ يقال لهم : لأنّكم قد نسيتم آيات الله ، وهذه الحالة انعكاس لتلك الحالة.

وهنا ينقدح سؤال ، وهو : إنّ ظاهر بعض الآيات القرآنية هو أنّ كلّ الناس يبصرون في يوم القيامة ، ويقال لهم : اقرؤوا صحيفة أعمالكم( اقْرَأْ كِتابَكَ ) (١) ، أو أنّ المجرمين يرون نار جهنّم بأعينهم :( وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ ) (٢) ، فكيف تناسب هذه التعبيرات كون جماعة عميا؟

قال بعض المفسّرين إنّ حال ذلك العالم تختلف عن حال هذا العالم ، فربّما كان بعض الأفراد مبصرين في مشاهدة بعض الأمور ، وعميانا عن مشاهدة البعض الآخر ، وعلى ما ينقل العلّامة الطبرسي عن بعض المفسّرين : إنّه أعمى عن جهات الخير لا يهتدى لشيء منها ، لأنّ نظام ذلك العالم يختلف عن نظام هذا العالم.

ويحتمل أيضا أن يكون هؤلاء في بعض المنازل والمواقف عميا ، وفي بعضها مبصرين.

ثمّ إنّ المراد من نسيان المجرمين في العالم الآخر ليس هو نسيان الله سبحانه لهم ، بل من الواضح أنّ المراد معاملة هؤلاء معاملة الناسي ، كما نستعمل ذلك في محاوراتنا اليوميّة ، فإذا لم يهتمّ شخص بآخر ، فإنّ الثّاني يقول له : لماذا نسيتني؟

__________________

(١) الإسراء ، ١٤.

(٢) الكهف ، ٥٣.

١٠٢

٣ ـ الإسراف في المعصية

ممّا يلفت النظر أنّه قد ذكرت في الآيات ـ محلّ البحث ـ هذه العقوبات المؤلمة للأفراد الذين يسرفون ولا يؤمنون بآيات الله.

إنّ التعبير بـ «الإسراف» هنا قد يكون إشارة إلى أنّهم قد استعملوا تلك النعم والعطايا الإلهيّة ، كالعين والاذن والعقل ، في طرق الشّر ، وليس الإسراف إلّا أن يتلف الإنسان هذه النعم من غير هدف.

أو أن يكون إشارة إلى أنّ المذنبين قسمان : قسم لهم ذنوب محدودة ، وفي قلوبهم خوف الله ، أي أنّهم لم يقطعوا ارتباطهم وصلتهم بالله تماما ، فإذا ما ظلموا ـ على سبيل الفرض ـ يتيما أو ضريرا فإنّهم لا يستبيحون ذلك العمل ، بل يعدّون أنفسهم مقصّرين أمام الله. ولا شكّ أنّ مثل هذا الفرد عاص يستحقّ العقاب ، إلّا أنّ بينه وبين من يقترف الذنوب بلا حساب ـ ولا يعتبر ذلك ذنبا ، ولا يعترف بمعيار للذنب وعدمه ، بل ويفتخر أحيانا بارتكابه المعاصي ، أو يحتقر الذنب ويستصغره ـ فرقا شاسعا ، لأنّ القسم الأوّل يمكن أن يتوبوا في النهاية ويجبروا ما صدر عنهم من ذنوب ، أمّا أولئك الذين يسرفون في الذنوب فلا توبة لهم.

٤ ـ ما هو الهبوط؟

«الهبوط» في اللغة بمعنى النّزول الإجباري ، كسقوط الصخرة من مرتفع ما ، وعند ما تستعمل في حقّ الإنسان فإنّها تعني الإبعاد والإنزال عقابا له.

وبملاحظة أنّ أدم قد خلق للحياة على وجه الأرض ، وكانت الجنّة أيضا بقعة خضراء وفيرة النعمة من هذا العالم ، فإنّ هبوط ونزول آدم هنا يعني النّزول المقامي لا المكاني ، أي إنّ الله سبحانه قد نزّل مقامه لتركه الأولى ، وحرمه من كلّ نعم الجنّة تلك ، وابتلاه بمصائب هذه الدنيا ومتاعبها.

وممّا يستحقّ الالتفات أنّ المخاطب هنا قد ذكر بصيغة المثنّى (اهبطا) أي

١٠٣

اهبطا كلاكما ، ومن الممكن أن يكون المراد آدم وحواء ، وإذا كان المخاطب قد ورد بصيغة الجمع (اهبطوا) في بعض آيات القرآن الاخرى ، فلأنّ الشيطان قد أشرك معهما في الخطاب ، لأنّه هو الآخر قد طرد من الجنّة.

ويحتمل أيضا أن يكون المخاطب آدم والشيطان ، لأنّ الجملة التي تلي هذه الجملة تقول :( بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ) .

وقال بعض المفسّرين : إنّ المراد من جملة( بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ) والتي ورد الخطاب فيها بصيغة الجمع ، هو تولّد العداوة بين أدم وحواء من جهة ، وبين الشيطان من جهة أخرى ، وتولّد العداوة بين آدم وأولاده من جهة والشيطان وذريته من جانب آخر.

وعلى كلّ حال ، فإنّ المخاطب في جملة :( فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً ) هم أولاد آدم وحواء حتما ، لأنّ هداية الله مختصة بهم ، أمّا الشيطان وذريته الذين أعرضوا عن منهج الهداية الإلهيّة ، فإنّ الخطاب لا يشملهم.

* * *

١٠٤

الآيات

( أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (١٢٨) وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (١٣٠) )

التّفسير

اعتبروا بتاريخ الماضين :

لمّا كانت عدّة بحوث في الآيات السابقة قد وردت عن المجرمين ، فقد أشارت الآيات الأولى من الآيات محلّ البحث إلى واحد من أفضل طرق التوعية وأكثرها تأثيرا ، وهو مطالعة تأريخ الماضين ، فتقول :( أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ ) (١) أولئك الذين عمّهم العذاب الإلهي الأليم( يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ ) .

__________________

(١) كما قلنا سابقا ، فإنّ «قرون» جمع قرن ، تعني الناس الذين يعيشون في عصر ما ، ويقال أحيانا لنفس ذلك الزمان : قرن. وهي من مادّة المقارنة.

١٠٥

إنّ هؤلاء يمرّون في مسيرهم وذهابهم وإيّابهم على منازل قوم عاد ـ في أسفارهم إلى اليمن ـ وعلى مساكن ثمود المتهدّمة الخربة ـ في سفرهم إلى الشام ـ وعلى منازل قوم لوط التي جعل عاليها سافلها ـ في سفرهم إلى فلسطين ـ ويرون آثارهم ، إلّا أنّهم لا يعتبرون ، فإنّ الخرائب والأطلال تتكلّم بلسان الحال وتخبر عن قصص السابقين وتحذّر أبناء اليوم وأبناء الغد وتعول صارخة أنّ هذه عاقبة الظلم والكفر والفساد.

نعم( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى ) (١) .

إنّ موضوع أخذ العبرة من تأريخ الماضين من الأمور التي يؤكّد عليها القرآن والأحاديث الإسلامية كثيرا ، وهو حقّا معلم مذكّر منبّه ، فما أكثر أولئك الأشخاص الذين لا يتأثّرون بأيّة موعظة ، ولا يعتبرون بها ، إلّا أنّ رؤية مشاهد من آثار الماضين المعبّرة تهزّهم ، وكثيرا ما تغيّر مسير حياتهم.

ونقرأ في حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أغفل الناس من لم يتّعظ بتغيّر الدنيا من حال إلى حال»(٢) ولا يفكّر في تقلّب الليل والنهار وتعاقبهما.

الآية التالية في الحقيقة جواب عن سؤال يثار هنا ، وهو : لماذا لا يجري الله سبحانه على هذا القسم من المجرمين ما أجراه على المجرمين السابقين ، فيقول القرآن :( وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى ) .

إنّ هذه السنّة الإلهيّة التي ذكرت في مواضع عديدة من القرآن باسم (كلمة) إشارة إلى قانون الخلقة المبتني على حريّة البشر ، لأنّ كلّ مجرم إذا عوقب مباشرة وبدون أن يمهل ، فإنّ الإيمان والعمل الصالح سيتّصف بالجبر تقريبا ، وسيكون على الأغلب خوفا من العقاب الآني ، وبناء على هذا فسوف لا يكون وسيلة للتكامل الذي هو الهدف الأصلي.

__________________

(١) «النهى» من مادّة نهي ، وهي هنا بمعنى العقل ، لأنّ العقل ينهي الإنسان عن القبائح والسيّئات.

(٢) سفينة البحار ـ مادّة عبر ـ الجزء ٢ ص ١٤٦.

١٠٦

إضافة إلى أنّه إذا تقرّر أن يعاقب جميع المجرمين فورا ، فسوف لا يبقى أحد حيّا على وجه الأرض :( وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ ) (١) .

وبناء على هذا فيجب أن تكون هناك مهلة وفترة تعطى لكلّ المرتبطين بطريق الحقّ حتّى يرجع المجرمون إلى أنفسهم ويسلكوا سبيل الصلاح ، ولتكون كذلك فرصة لتهذيب النفس.

إنّ التعبير بـ (أجل مسمّى) بالشكل الذي يفهم من مجموع آيات القرآن ، إشارة إلى الزمان الحتمي لنهاية حياة الإنسان(٢) .

وعلى كلّ حال ، فإنّ الظالمين الذين لا إيمان لهم والمجرمين يجب أن لا يغترّوا بتأخير العذاب الإلهي ، وأن لا يغفلوا عن هذه الحقيقة ، وهي أنّ لطف الله وسنّته في الحياة ، وقانون التكامل هذا ، هو الذي يفسح المجال لهؤلاء.

ثمّ يوجّه الخطاب إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيقول :( فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ ) ومن أجل رفع معنويات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتقوية قلبه ، وتسلية خاطره ، فإنّه يؤمر بمناجاة الله والصلاة والتسبيح فيقول :( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى ) ولا يتأثّر قلبك جرّاء كلامهم المؤلم.

لا شكّ أنّ هذا الحمد والتسبيح محاربة للشرك وعبادة الأصنام ، وفي الوقت نفسه صبر وتحمّل أمام أقوال المشركين السيّئة ، وكلامهم الخشن. إلّا أنّ هناك بحثا بين المفسّرين في أنّ المقصود من الحمد والتسبيح هل الحمد والتسبيح المطلق ، أم أنّه إشارة إلى خصوص الصلوات الخمس اليوميّة؟ فجماعة يعتقدون بأنّه يجب أن يبقى ظاهر العبارات على معناه الواسع ، ومن ذلك يستفاد أنّ المراد هو التسبيح

__________________

(١) النحل ، ٦١.

(٢) لمزيد الإيضاح راجع البحث المفصّل الذي ذكرناه في ذيل الآية (١ و ٢) من سورة الأنعام. ونذكر في الضمن أنّ جملة (أجل مسمّى) من ناحية التركيب النحوي عطف على (كلمة).

١٠٧

والحمد المطلق.

في حين أنّ جماعة أخرى ترى أنّه إشارة إلى الصلوات الخمس ، وهي على النحو التالي.

( قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ) وهي إشارة إلى صلاة الصبح.

( وَقَبْلَ غُرُوبِها ) وهي إشارة إلى صلاة العصر ، أو أنّها إشارة إلى صلاتي الظهر والعصر ، واللتان يمتدّ وقتهما إلى الغروب.

( وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ ) وهي إشارة إلى صلاتي المغرب والعشاء ، وكذلك صلاة الليل.

أمّا التعبير بـ( أَطْرافَ النَّهارِ ) فهو إمّا إشارة إلى صلاة الظهر ، لأنّ أطراف جمع طرف ، وهو يعني الجانب ، وإذا قسّمنا اليوم نصفين ، فإنّ صلاة الظهر ستكون في أحد طرفي النصف الثّاني.

ويستفاد من بعض الرّوايات ـ أيضا ـ أنّ( أَطْرافَ النَّهارِ ) إشارة إلى الصلوات المستحبّة التي يستطيع الإنسان أو يؤدّيها في الأوقات المختلفة ، لأنّ أطراف النهار هنا قد وقعت في مقابل آناء الليل ، وهي تتضمّن كلّ ساعات اليوم.

وخاصّة أنّنا إذا لاحظنا أنّ كلمة أطراف قد وردت بصيغة الجمع ، في حين أنّ لليوم طرفين لا أكثر ، فسيتّضح أنّ للأطراف معنى واسعا يشمل ساعات اليوم المختلفة.

وهناك احتمال ثالث أيضا ، وهو أنّه إشارة إلى الأذكار الخاصّة التي وردت في الرّوايات الإسلامية في هذه الساعات المخصوصة ، فمثلا نقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام في تفسير الآية محل البحث أنّه قال : «فريضة على كلّ مسلم أن يقول قبل طلوع الشمس عشر مرّات وقبل غروبها عشر مرّات : لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يحيي ويميت ، وهو حي لا يموت ، بيده الخير ، وهو على كلّ شيء قدير».

١٠٨

إلّا أنّ هذه التفاسير لا منافاة بينها على كلّ حال ، ويمكن أن تكون الآية إشارة إلى التسبيحات وإلى الصلوات الواجبة والمستحبّة في الليل والنهار ، وبهذا فسوف لا يكون هناك تضادّ بين الرّوايات الواصلة في هذا الباب ، لأنّ الجملة فسّرت في بعض الرّوايات بالأذكار الخاصّة ، وفي بعضها بالصلاة.

والجدير بالذكر أنّ جملة «لعلّك ترضى» في الحقيقة نتيجة حمد الله وتسبيحه ، والصبر والتحمّل في مقابل قول أولئك ، لأنّ هذا الحمد والتسبيح وصلوات الليل والنهار تحكم الرابطة بين الإنسان وربّه إلى درجة لا يفكّر فيها بأي شيء سواه ، فلا يخاف من الحوادث الصعبة ، ولا يخشى عدوّا باعتماده على هذا السند والعماد القوي ، وبهذا سيملأ الهدوء والاطمئنان وجوده.

ولعلّ التعبير بـ (لعلّ) إشارة إلى ذلك المطلب الذي قلناه فيما مضى في تفسير هذه الكلمة ، وهو أنّ (لعلّ) عادة إشارة إلى الشروط التي تكون لازمة لتحصيل النتيجة ، فمثلا لكي تكون الصلاة وذكر الله سببا لحصول الاطمئنان ، يجب أن تقام مع حضور القلب وآدابها الكاملة.

ثمّ إنّ المخاطب في هذه الآية وإن كان النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّ القرائن تدلّ على أنّ هذا الحكم يتّصف بالعموم.

* * *

١٠٩

الآيات

( وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٣١) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (١٣٢) وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٣٣) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (١٣٤) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (١٣٥) )

التّفسير

لقد أصدرت في هذه الآيات أوامر وتوجيهات للنبي ، والمراد منها والمخاطب فيها عموم المسلمين ، وهي تتمّة للبحث الذي قرأناه آنفا حول الصبر والتحمّل.

١١٠

فتقول أوّلا :( وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ ) فإنّ هذه النعم المتزلزلة الزائلة ما هي إلّا( زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا ) ، تلك الأزهار التي تقطع بسرعة وتذبل وتتناثر على الأرض ، ولا تبقى إلّا أيّاما معدودات.

في الوقت الذي أمددناهم بها( لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى ) فإنّ الله سبحانه وهب لك مواهب ونعما متنوّعة ، فأعطاك الإيمان والإسلام ، والقرآن والآيات الإلهيّة والرزق الحلال الطاهر ، وأخيرا نعم الآخرة الخالدة ، هذه الهبات والعطايا المستمرّة الدائمة.

وتقول الآية التالية تلطيفا لنفس النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتقوية لروحه :( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها ) لأنّ هذه الصلاة بالنسبة لك ولأهلك أساس العفّة والطهارة وصفاء القلب وسمو الروح ودوام ذكر الله.

لا شكّ أنّ ظاهر (أهلك) هنا هو أسرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصورة عامّة ، إلّا أنّ هذه السورة لمّا كانت قد نزلت في مكّة ، فإنّ مصداق الأهل في ذلك الزمان كان (خديجة وعلياعليهما‌السلام ) وربّما شملت بعضا من أقارب النّبي الآخرين ، إلّا أنّ مصطلح أهل بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصبح واسع الدلالة بمرور الزمن.

ثمّ تضيف بأنّه إذا كان قد صدر الأمر لك ولأهلك بالصلاة فإنّ نفعها وبركاتها إنّما يعود كلّ ذلك عليكم ، فإنّا( لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ ) فإنّ هذه الصلاة لا تزيد شيئا من عظمة الله ، بل هي رأس مال عظيم لتكامل البشر وارتقائهم ودرس تعليمي وتربوي عال ، إنّ الله سبحانه ليس كباقي الملوك والأمراء الذين يأخذون الضرائب من شعوبهم ليديروا بها حياتهم وحياة مقرّبيهم ، فإنّ الله غني عن الجميع ويحتاجه الجميع ويفتقرون إليه.

إنّ هذا التعبير في الحقيقة يشبه ما ورد في سورة الذاريات ـ الآية (٥٦ ـ ٥٨) :( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ

١١١

يُطْعِمُونِ. إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) وعلى هذا ، فإنّ نتيجة العبادات ترجع مباشرة إلى نفس العابدين.

وتضعيف الآية في النهاية :( وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى ) فإنّ ما يبقى ويفيد في نهاية الأمر هو التقوى ، والمتّقون هم الفائزون في النهاية ، أمّا الذين لا تقوى لهم فهم محكومون بالهزيمة والانكسار.

ويحتمل أيضا في تفسير هذه الآية أنّ هدفها هو التأكيد في مجال الروح والتقوى والإخلاص في العبادات ، لأنّ هذا أساس العبادة ، وفي الآية (٣٧) منسورة الحجّ نقرأ :( لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ ) فليس ظاهر الأعمال وقشورها هو الذي يوصلكم إلى مقام القرب من الله ، بل إنّ الواقع والإخلاص والباطن الذي فيها هو الذي يفتح الطريق إلى مقام القرب منه.

ثمّ أشارت الآية التالية إلى واحدة من حجج الكفّار الواهية فقالت :( وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ ) واجابتهم مباشرة :( أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى ) حيث كانوا يشكّكون ويطلبون الأعذار بصورة متلاحقة من أجل الإتيان بالمعجزات ، وبعد رؤية ومشاهدة تلك المعاجز استمرّوا في كفرهم وإنكارهم ، فحاق بهم العذاب الإلهي ، أفلا يعلمون بأنّهم إذا ساروا في نفس الطريق فسينتظرهم المصير نفسه؟

ويحتمل أيضا في تفسير هذه الآية أنّ المراد من «البيّنة» نفس القرآن الذي يبيّن حقائق الكتب السماوية السابقة على مستوى أعلى ، فالآية تقول : لماذا يطلب هؤلاء معجزة ، ويتذرّعون بالأعذار الواهية؟ أليس هذا القرآن مع هذه الامتيازات الكبيرة التي تحتوي على حقائق الكتب السماوية السابقة كافيا لهؤلاء؟

وقد ذكر تفسير آخر لهذه الآية ، وهو : إنّ الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ مع أنّه لم

١١٢

يكن قد درس وتعلّم ـ فقد جاء بكتاب واضح جلي ينسجم مع ما كان في متون الكتب السماوية ، وهذا بنفسه دليل على الإعجاز. إضافة إلى أنّ صفات النّبي وصفات كتابه تنطبق تماما على العلامات التي جاءت في الكتب السماوية السابقة ، وهذا دليل أحقيّته(١) .

وعلى كلّ حال ، فإنّ هؤلاء المتذرّعين ليسوا أناسا طلّاب حقّ ، بل إنّهم دائما في صدد إيجاد أعذار وتبريرات جديدة ، فحتّى( وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى ) إلّا أنّهم الآن وقد جاءهم هذا النّبي الكريم بهذا الكتاب العظيم ، يقولون كلّ يوم كلاما ، ويختلفون الأعذار للفرار من الحقّ.

وقالت الآية التالية : أنذر هؤلاء و( قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ ) فنحن بانتظار الوعود الإلهيّة في حقّكم ، وأنتم بانتظار أن تحيط بنا المشاكل والمصائب( فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى ) وبهذه الجملة الحاسمة العميقة المعنى تنتهي المحاورة مع هؤلاء المنكرين العنودين المتذرّعين.

وخلاصة القول : فإنّ هذه السورة لمّا كانت قد نزلت في مكّة ، وكان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمون تحت ضغط شديد من قبل الأعداد ، فإنّ الله قد واساهم وسرّى عن نفوسهم في نهاية هذه السورة ، فتارة ينهاهم عن أن تأخذهم وتبهرهم أموال المنكرين الزائلة وثرواتهم ، إذ هي للامتحان والابتلاء وتارة يأمرهم بالصلاة والاستقامة لتقوى قواهم المعنوية أمام كثرة الأعداء. وأخيرا يبشّر المسلمين بأنّ هؤلاء إن لم يؤمنوا فإنّ لهم مصيرا أسود مشؤوما يجب أن يكونوا في انتظاره.

اللهم اجعلنا من المهتدين وأصحاب الصراط المستقيم.

__________________

(١) التّفسير الأوّل في مجمع البيان ، والثّاني في الظلال ، والثّالث ذكره الفخر الرازي في التّفسير الكبير ، وهذه التفاسير وإن اختلفت إلّا أنّها لا تتضارب فيما بينها ، وخاصّة التّفسير الثّاني والثّالث.

١١٣

اللهم ألهمنا تلك الشهامة التي لا نرهب معها كثرة الأعداء ، ولا نضعف عند الحوادث الصعبة.

واخلع عنّا أطمار العناد واللجاجة ، ووفّقنا لقبول الحقّ.

آمين ربّ العالمين

نهاية سورة طه

* * *

١١٤

سورة الأنبياء

مكّيّة

وعدد آياتها مائة واثنتا عشرة آية

١١٥
١١٦

سورة الأنبياء

فضل سورة الأنبياء :

روي عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فضل تلاوة هذه السورة أنّه قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأ سورة الأنبياء حاسبه الله حسابا يسيرا ، وصافحه وسلّم عليه كلّ نبي ذكر اسمه في القرآن»(١) .

وعن الإمام الصادقعليه‌السلام : «من قرأ سورة الأنبياء حبّا لها كان كمن رافق النبيّين أجمعين في جنّات النعيم ، وكان مهيبا في أعين الناس حياة الدنيا»(٢) .

إنّ جملة «حبّا لها» مفتاح في الواقع لفهم معنى الرّوايات التي وصلتنا في مجال فضل سورة القرآن ، وهي تعني أنّ الهدف ليس هو التلاوة وتلفّظ الكلمات فقط ، بل عشق المحتوى ، ومن المسلّم أنّ عشق المحتوى بلا عمل لا معنى له ، وإذا ما ادّعى شخص أنّه يعشق السورة الفلانيّة ، ويخالف عمله مفاهيمها ، فإنّه يكذب.

وقد قلنا مرارا : إنّ القرآن كتاب عقيدة وعمل ، والقراءة مقدّمة للتفكير والتدبّر ، وهو مقدّمة للإيمان والعمل!.

محتوى السورة :

١ ـ إنّ هذه السورة كما تدلّ عليها تسميتها هي سورة الأنبياء ، لأنّ اسم ستّة

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ج ٣ ص ٤١٢.

(٢) المصدر السابق.

١١٧

عشر نبيّا قد جاء في هذه السورة ، بعضهم بذكر نماذج وصور من حالاتهم ، والبعض كإشارة، وهم :

موسى ـ هارون ـ إبراهيم ـ لوط ـ إسحاق ـ يعقوب ـ نوح ـ داود ـ سليمان ـ أيّوب ـ إسماعيل ـ إدريس ـ ذو الكفل ـ ذو النون (يونس) ـ زكريا ـ يحيىعليهم‌السلام ، وبناء على هذا فإنّ عمدة البحوث المهمّة في هذه السورة تدور حول مناهج الأنبياء.

وإضافة إلى هؤلاء الأنبياء ، فإنّ هناك أنبياء آخرين لم تذكر أسماؤهم صريحا في هذه السورة ، لكن قد ورد الكلام حولهم ، كرسول الله محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسيح عيسى بن مريمعليهما‌السلام .

٢ ـ إضافة إلى ما مرّ ، فإنّ خاصية السورة المكيّة التي تتحدّث عن العقائد الدينيّة ، وبالأخصّ المبدأ والمعاد ، منعكسة تماما في هذه السورة.

٣ ـ بحثت هذه السورة كذلك عن توحيد الخالق ، وأنّه لا خالق ولا معبود سواه ، وكذلك عن خلق العالم على أساس الهدف والتخطيط ، ووحدة القوانين الحاكمة على هذا العالم ، وكذلك وحدة مصدر ومنبع الحياة والوجود ، وكذلك اشتراك الموجودات في مسألة الفناء والموت.

٤ ـ وتحدث جانب آخر من هذه السورة عن انتصار الحقّ على الباطل ، والتوحيد على الشرك ، وجنود الحقّ على جنود إبليس.

٥ ـ والذي يلفت النظر هنا أنّ هذه السورة تبتدئ بتهديد الناس الغافلين الجاهلين بالحساب الشديد ، وتنتهي بتهديدات أخرى في هذا المجال أيضا.

إنّ الأنبياء الذين وردت أسماؤهم في هذه السورة ، ذكر تفصيل حياة ونشاطات بعضهم في سورة أخرى ، إلّا أنّ التأكيد في هذه السورة كان أغلبه على أنّ هؤلاء العظام عند ما كانوا يبتلون بالضائقات والمواقف الصعبة ، كانوا يمدّون يد التوسّل والاستعانة نحو لطف الله وعونه ، وكيف أنّ الله سبحانه كان يفتح أمامهم

١١٨

الطرق المغلقة ، وينجّيهم من الدوامات وتلاطم أمواج البلايا.

فإبراهيم حين ابتلي بنار نمرود.

ويونس حينما حلّ في بطن الحوت.

وزكريا عند ما رأى أنّ شمس عمره قد أوشكت على الغروب ولا خليفة له يكمل مسيره.

كما أنّها تتكلّم على سائر الأنبياء عند وقوعهم في المشاكل الصعبة العسيرة.

* * *

١١٩

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥) )

التّفسير

أعذار متنوّعة :

تبدأ هذه السورة ـ كما أشرنا ـ بتحذير قوي شديد موجّه لعموم الناس ، تحذير يهزّ الوجدان ويوقظ الغافلين ، فتقول :( اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550