الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٠

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 550

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 550 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 206808 / تحميل: 6196
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٠

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

من جهة أخرى؟

إلى غير ذلك من الأبحاث الكثيرة والمتعدّدة.

هذه الأمور والاحتمالات التي طرحناها لم تُعرض ضمن بحث مستقلٍ منفرد ومتميّز في الكتب، أو الأبواب الفقهيّة.

وقد يجدها المتتبّع في طيّات كلمات الفقهاء وأبحاثهم هنا وهناك في موارد متفرّقة، ومواضع مختلفة.

مثلاً: قد يجدها المتتبّع في موضوع حرمة تنجيس القرآن أو وجوب تطهيره إذا لاقته النجاسة.

وفي بحث الوقف والصدقات وإحياء الموات، وقضيّة حُرمة المؤمن، وحُرمة الكعبة، وفي باب الحدود، في حكم سبّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله - والعياذ بالله تعالى - أو هتك مقدّسات الدين، حيث يبحث العلماء في هذه الموارد عن الشعائر الدينيّة، وإنّ هتكها هل هو موجب للكفر أم لا؟

ومضافاً إلى ذلك، هناك بعض الكتب والرسائل التي أُلِّفت في بحث الشعائر الحسينيّة(1)، وقد ذكروا فيها بعض الضوابط الشرعيّة إلى حدّ ما، فمن الجدير مراجعة تلك الكتب وملاحظة الخطوط العامّة لهذا البحث، وما تتضمّنه من نقض وإبرام.

____________________

(1) نذكر - على سبيل المثال - بعض تلك الرسائل والمؤلّفات:

الشعائر الحسينيّة في الميزان الفقهي، لآية الله الشيخ عبد الحسين الحلّي (رحمه الله).

نصرة المظلوم، لآية الله الشيخ حسن المظفّر (رحمه الله).

الشعائر الحسينيّة، سماحة السيّد حسن الشيرازيّ (رحمه الله).

نجاة الأمّة في إقامة العزاء، الحاج السيّد محمّد رضا الحسيني الحائري.

الشعائر الحسينيّة سُنّة أم بدعة، الشيخ أحمد الماحوزي.

٢١

الجانبُ الرابع: إطار موضوع القاعدة

قد تُضافُ الشعائر إلى لفظ الجلالة (الله) فنقول: (شعائر الله)، كما في الآيات الكريمة(1) ، ومنها قوله تعالى:( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) (2) .

وأيضاً الشعائر أو الشعيرة أو الشعارة - على اختلاف هيئات المادّة - قد تضاف إلى المذهب، فيقال: شعائر المذهب.

وأيضاً، قد تضاف إلى الحسين (عليه السلام) باسم الشعائر الحسينيّة.

وأيضاً، قد تضاف إلى الدين، فتُعرف باسم شعائر الدين وشعائر الإسلام.

وسيتبيّن أنّ هذه الإضافات ما هي إلاّ تفريعات وتطبيقات لنفس القاعدة الواحدة، فيقال: شعائر الله، أو يقال: الشعائر الحسينيّة، أو يقال: شعائر المذهب، أو يقال: شعائر الإسلام، أو شعائر الدين، وهي - على كلّ حال - تبويبات وتصنيفات لذكر فروع لأصل واحد، أو تكون مرادفات لنفس المسمّى.

وسيظهر ما في هذا التعبير من نواحٍ تربويّة متعدّدة، وتفريعات لنكاتٍ فقهيّة مختلفة.

____________________

(1) المائدة: 2، الحج: 32، البقرة: 158.

(2) الحجّ: 32.

٢٢

الجانبُ الخامس:

جرياً على ديدن العلماء في تصنيف كلّ مسألة بإدراجها في باب من الأبواب الفقهية، ففي أيّ باب من الأبواب يمكن درج هذه القاعدة؟ هل في باب الفقه السياسي، أم في باب الفقه الاجتماعي، أم باب فقه القضاء، أم فقه المعاملات؟

وسيظهر خلال مراحل البحث: أنّ من خصائص هذه القاعدة وهذا الواجب الدينيّ العظيم، أنّ هذا الواجب ليس واجباً ملقى على عاتق رموز الدولة الإسلاميّة أو الحكومة فحسب، وليس مُلقى على عاتق المرجعيّة فقط، الّتي قد تُسمّى بالاصطلاح الأكاديمي الحديث حكومة المرجع، ولا على عاتق الهيئات الدينيّة دون غيرها.

وإنّما هذا الواجب - كما سيتبيّن - هو واجب كفائيّ يُلقى على عاتق عموم المسلمين، ويتحمّل مسؤوليّة إقامته جميع طبقات وشرائح المجتمع الإسلامي، ومن ثُمّ كان الأولَى إدراج هذه القاعدة في أبواب فقه الاجتماع، من قبيل: باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا في خصوص الفقه السياسي، ولا في خصوص فقه الأبواب الأُخرى، بل يكون انضمامها تحت باب الفقه الاجتماعي هو الأنسب لهذه القاعدة.

هذه جوانب ذكرناها بعنوان ديباجة وتمهيد للبحث، أمّا بالنسبة إلى تبويب وتصنيف جهات البحث؛ فإنّ البحث سيقع - إن شاء الله تعالى - في مقامين رئيسيّين:

٢٣

المقامُ الأول

في عُموم قاعِدة الشَعائر الدينيّة

وهذا المقام يتألّف من الجهات التالية:

الجهة الأولى: الأدلّة الإجماليّة الواردة في هذه القاعدة.

الجهة الثانية: أقوال الفقهاء والمتكلّمين والمفسّرين والمحدّثين حول قاعدة الشعائر الدينيّة.

الجهة الثالثة: البحث في معنى وماهيّة الموضوع، وهو الشعيرة والشعائر من الناحية اللُّغويّة.

الجهة الرابعة: كيفيّة تحقّق الموضوع، وهو الشعيرة والشعائر ومعالجة العديد من قواعد التشريع.

الجهة الخامسة: البحث في متعلّق الحكم لقاعدة الشعائر.

الجهة السادسة: نسبة حكم الشعائر مع العناوين الأوّليّة للأحكام من جهة، ومع العناوين الثانويّة للأحكام من جهة أُخرى.

الجهة السابعة: الموانع الطارئة على الشعائر، كالخرافة والاستهزاء والهتك والشنعة.

٢٤

المقامُ الثاني

الشَعائرُ الحُسينيّة

يقع البحث في خصوصيات الشعائر الحسينيّة، ودراسة قوّة وتماميّة الأدلّة الخاصّة الواردة فيها، وردّ الإشكالات والانتقادات التي وُجِّهت لها، وأُثيرَت حولها.

وهل يختلف حكمها عن الأحكام العامّة في الشعائر؟

أم هي تتضمّن الأحكام العامّة للشعائر وزيادة؟

ويقع البحث خلال الجهات الآتية:

الجهة الأولى: أهداف النهضة الحسينيّة.

الجهة الثانية: أدلّة الشعائر الحسينيّة.

الجهة الثالثة: أقسام الشعائر الحسينيّة.

الجهة الرابعة: الرواية في الشعائر الحسينيّة.

الجهة الخامسة: البكاء.

الجهة السادسة: الشعائر الحسينيّة والضرر.

الجهة السابعة: لبس السواد.

الجهة الثامنة: ضرورة لعن أعداء الدين.

الجهة التاسعة: العزاء والرثاء سُنّة قرآنيّة.

مِسكُ الختام: مآتم العزاء التي أقامها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على الحسين (عليه السلام).

هذا ما سنتطرّق إليه مفصّلاً فيما يأتي من البحوث - إن شاء الله تعالى - ونبدأ البحث في جهات المقام الأول:

٢٥

٢٦

المقامُ الأوّل الشَعائرُ الدينيّة

٢٧

٢٨

الجهةُ الأوّلى:الأدلّةُ الإجماليّة

٢٩

٣٠

في بداية كلّ بحث لابدّ أن يعثر الفقيه أو المجتهد على أدلّة معيّنة لعنوان البحث، وهذه الأدلّة حسب قواعد علم الفقه والأصول لها ثلاثة محاور، هي: الموضوع، والمحمول، والمتعلّق.

الموضوع: هو ما يُشار به إلى قيود الحُكم.

والمحمول: هو الحكم الشرعي، إمّا وجوب، أو حُرمة، أو مِلكيّة، أو غير ذلك، بمعنى الحُكم الشرعي الشامل للحُكم التكليفي وللحُكم الوضعي.

المتعلَّق: وهو الفعل المطلوب حصوله في الخارج إذا كان الحُكم وجوباً، أو الفعل اللازم تركه إذا كان الحكم حرمةً.

على سبيل المثال: في دليل: (إذا زالت الشمس فصلِّ)، نلاحظ هذه المَحاور الثلاثة كالآتي:

الموضوع: هو الزوال.

والمحمول: الحُكم وهو الوجوب.

والمتعلّق: وهو صلاة الظهر.

ومِحور الموضوع الذي هو قيود الوجوب، ويُطلق على قيود أيّ حكم تكليفي أو وضعي بأنّه: موضوع أصولي، أو موضوع فقهي، وفي مثالنا السابق يعتبر الزوال من قيود الوجوب.

٣١

فاللازم استعراض الأدلّة الواردة في قاعدة الشعائر وتقرير مفادها على ضوء هذا التثليث.

الطائفة الأولى من الأدلّة:

(1) -( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ ) (1) .

قد ورد في الآية عموم لفظ الشعائر، وهو حُكم من الأحكام القرآنيّة، فلنتعرّف على موضوع ومتعلّق هذا المورد، وعلى حكمه أيضاً.

الموضوع: هو الشعائر(2) .

المتعلّق: هو التعظيم إن جُعِل الحُكم إيجابيّاً، أو التهاون إن جُعِل الحكم تحريميّاً.

الحُكم: حرمة التحليل وحرمة التهاون، ويمكن جعل الحُكم وجوب التعظيم.

(2) -( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ *

____________________

(1) المائدة: 2.

(2) وقد يقال للموضوع: متعلّق المتعلّق، ففي مثال حرمة شرب الخمر؛ فإنّ الحُرمة تتعلّق بالشُرب، والشرب بدوره يتعلّق بالخمر، فالخمر يقال له: متعلّق متعلّق الحكم.. وهذا تابع لقاعدة أصوليّة محرّرة عند علماء الأصول تقول: إنّ متعلّق متعلّق الحُكم يكون موضوعاً للحُكم، سواء كان الحكم تكليفيّاً أم وضعيّاً. اعتمدَت عليها مدرسة الميرزا النائيني (رحمه الله)، إلاّ أنّ مشهور الطبقات المتقدِّمة من العلماء على خلاف ذلك، وهو الأصح.

٣٢

لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ * ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ) (1) .

هذا المقطع من الآية الشريفة( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ... ) ، أدرجهُ كثير من العلماء ضمن آيات الشعائر أيضاً، مع أنّه لم يرد فيه لفظة الشعائر، والوجه في ذلك: هو الاعتماد على قاعدة معروفة ومشهورة لدى أساطين الفقه.

وهي أنّ الموضوع أو المتعلّق كما يمكن الاستدلال له بالأدلّة الوارد فيها العنوان نفسه أو المتضمّنة له، أو مرادفاته، كذلك يمكن الاستدلال له بالأدلّة الوارد فيها العنوان نفسه أو المتضمّنة له، أو مرادفاته، كذلك يمكن الاستدلال له بما يشترك معه في الماهيّة النوعيّة أو الجنسيّة، أي المماثل أو المجانس، بشرط أن يكون الحُكم مُنصبّاً على تلك الماهيّة، وإلاّ كان التعدّي قياساً باطلاً، كما يمكن الاستدلال له بالدليل الذي يتضمّن جزء الماهيّة، كذلك يمكن الاستدلال له بما يدلّ على اللازم له أو الملزوم له، فتتوسّع دائرة دلالة الأدلّة الدالّة على المطلوب.

ففي هذه الآية الشريفة:

الموضوع: حُرمات الله.

المتعلّق: التعظيم.

الحكم: الوجوب، أي: وجوب التعظيم.

(3) -( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) (2) .

____________________

(1) الحج: 27 - 30.

(2) الحج: 32.

٣٣

وهذه من أوضح الآيات على إثبات المطلوب، حيت تدلّ على محبوبيّة ورجحان التعظيم لشعائر الله، حسب التقسيم الثلاثي المذكور من الموضوع والمتعلّق والحُكم.

(4) -( وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ) (1) .

هنا وردت (مِن) تبعيضيّة، والمعنى: أنّ البدن من مصاديق الشعائر.

(5) -( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ) (2) .

(6) -( فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ) (3) .

هذه الآية الشريفة تعرّضت للشعائر، ولكن بصيغة المشعر.

هذه الطائفة من الأدلّة وافية في المقام، وعلينا أن نسبر غَورها لنصل إلى المَحاور الأساسيّة فيها، ولنتعرّف على مفادها ودلالتها.

الطائفةُ الثانية من الأدلّة:

هذه الأدلّة لم يرد فيها لفظ (الشعائر)، إلاّ أنّ بعض العلماء والمحقّقين(4) ذهبوا إلى استفادة حُكم الشعائر منها، وهي:

____________________

(1) الحجّ: 36.

(2) البقرة: 158.

(3) البقرة: 198.

(4) الميرزا القمّي (قدِّس سرّه) ضمن فتواه في كتاب (جامع الشتات) حول الشعائر الحسينيّة، والسيّد اليزدي (قدِّس سرّه) صاحب العروة في فتواه، والسيّد جمال الدين الگلبايكاني، أشاروا إلى وجود عمومات أخرى إضافةً لأدلّة الطائفة الأولى في المقام.

٣٤

(1) -( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (1) .

ومن سياق الآيات التي قبلها:( قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الأَخِرِ.. ) .

وآية:( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ.. ) .

يُفهم أنّ الآيات بصدد بيان مسألة وجوب الجهاد، وضرورة المعرفة الحقّة والتوحيد ونشر الدين وتبليغه..

ثُمّ بعد ذلك تُبيّن الآية:( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) أهميّة النور الإلهي، ومحاولات أعداء الدين لإطفاء ذلك النور، ولكنّ الله سبحانه كتبَ على نفسه إحباط تلك المحاولات الشيطانيّة، ويأبى سبحانه إلاّ إتمام النور ونشر الصلاح والهدى.

ففي هذه الآية الشريفة:

الموضوع: هو نور الله سبحانه، وهو بدل لفظ (الشعائر) في آية( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ... ) ، ونور الله سبحانه عام يشمل جميع الأحكام.

المتعلَّق: النشر والتبليغ والبيان، وهو بدل التعظيم في تلك الآية.

والحُكم: وهو الوجوب، وجوب النشر أو حرمة الإطفاء والكتمان.

فيكون هذا الدليل - كقضيّة شرعيّة - مرادفاً ومكافئاً للآية الشريفة:( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ ) .

- وهذا يعني أنّنا لا نقتصر في إثبات هذه القاعدة على الآيات من الطائفة

____________________

(1) التوبة: 32.

٣٥

الأولى من الأدلّة، بل يمكن الاستدلال أيضاً بما يفيد مفادها أيضاً.

(2) -( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ والآصَال ) (1) بملاحظة الآيات التي تسبق هذه الآية من سورة النور، وهي:( وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ * اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (2) من سياق هذه الآيات، يظهر أنّ المراد من لفظة( فِي بُيُوتٍ... ) : هي البيوت التي فيها نور الله، والمراكز التي تكون مصادر إشعاع الدين، ومحالّ نشر الهداية والحق، ومحطّات بيان أحكام الدين الحنيف.

وهذه (البيوت) النوريّة والباعثة للنور، شاء الله وأراد أن تُرفع وتُكرّم، وأن تُبجّل وتُحترم، وينبغي أن يستمرّ ويدوم فيها ذِكر الله وعبادته وطاعته.

فهذه الآية من سورة النور، مرادفة لآية تعظيم الشعائر(3) ، ولآية( لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ... ) .

فالآية الشريفة تدلّ على وجوب نشر ورفع كلّ موطن ومركز ومحلّ يتكفّل ببيان أحكام الله وتعاليم رسالة السماء، المكنّى عنه في الآية الشريفة بنور الله.

____________________

(1) النور: 36.

(2) النور: 34 - 35.

(3)( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) الحجّ: 32.

٣٦

ومن ذلك يظهر أنّ الشعائر لا تختصّ بباب دون آخر، فهي لا تختصّ بمناسك الحجّ، ولا بالعبادات.

وإنّما تشمل كلّ ما فيه نشر لأحكام الدين، وتعمّ جميع ما به بيان وتبليغ للمعارف الإسلاميّة المختلفة.

(3) -( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (1) .

هذه الآية تدلّ على أنّ حفظ الدين وحفظ ذِكر الله سبحانه، وكذلك حفظ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي هو قوام الدين، وحفظ ذِكر أهل البيت (عليهم السلام) الذين هم العِدل الآخر للقرآن، كلّ ذلك يُعتبر من الأغراض الشرعيّة العُليا للحق سبحانه وتعالى.

(4) -( وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (2) .

بتقريب أنّ كلّ ما يؤول إلى إعلاء كلمة الله سبحانه وإزهاق كلمة الكافرين، فهو من الأغراض الشرعيّة والمقاصد الدينيّة.

(5) -( فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (3) .

تُقرِّر الآية الكريمة وجوب التفقّه على المسلمين بعد الهجرة، ثُمّ الرجوع إلى بلادهم ووجوب التبليغ والإنذار، مُقدّمةً لحصول حالة الحذر، فهذا الإنذار

____________________

(1) الحجر: 9.

(2) التوبة: 4.

(3) التوبة: 122.

٣٧

لنشر معالم الدين وترسيخ قواعده يُبيّن في الواقع ماهيّة الشعائر.

فهذه الآية (آية الإنذار) بمنزلة المُبيّن والمفسِّر لأحد أركان ماهيّة العناوين التي وردت في الألسنة الأخرى من الأدلّة، وهو التبليغ والنشر للدين الحنيف.

(6) -( فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) (1) .

لسان هذه الآية، يوضِّح بُعداً آخر في حقيقة الشعائر، حيث تتضمّن في متعلّقها جنبة أخرى غير الأحكام الأوّليّة، ألا وهي جنبة ازدياد العلو والسُموّ للإسلام والمسلمين، وهذه غير جهة الإعلام، وإن كانت هي أحد نتائج الإعلام والنشر والإنذار.

فالبُعد الآخر الذي تتضمّنه قاعدة الشعائر الدينيّة: هو جنبة إعلاء كلمة الله سبحانه، وإعزاز كلمة المسلمين.

وقد توفّرت الأدلّة في إثبات ذلك بقدر وافٍ.

الطائفةُ الثالثة من الأدلّة:

وقد استُدلّ أيضاً على هذه القاعدة بما وردَ في الأبواب الخاصّة من الأدلّة، مثل: أدلّة خاصّة في مناسك الحج، أو أدلّة خاصّة في الشعائر الحسينيّة وغير ذلك، مثل: قول الصادق (عليه السلام):(رحمَ الله مَن أحيا أمرَنا) (2) .

وقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :(يا علي، مَن عمّر قبوركم، وتَعاهدها، فكأنّما أعانَ

____________________

(1) النساء: 141.

(2) بحار الأنوار 2: 151: 30.

٣٨

سليمان بن داوود على بناء بيت المَقدس) (1) وما شابه ذلك.

أو ما ورد على لسان العقيلة زينب الكبرى (عليها السلام) بالنسبة لعزاء سيّد الشهداءصلى‌الله‌عليه‌وآله :(وسيوكِّل الله مَن يُجدّد له العزاء في كلّ عام) (2) تلك العناوين خاصّة في أبواب خاصّة.

وهذا اللسان الثالث من الأدلّة هو عبارة عن أحكام خاصّة في الموارد الأخرى، التي مفادها هو عين مفاد الشعائر، من لزوم البثّ والإعلان.

فزبدة القول: إنّ لدينا ثلاثة أشكال من الأدلّة:

الأوّل: أدلّة عامّة وردَ فيها لفظ الشعائر.

الثاني: أدلّة عامّة ومطلقه يظهر منها جانب الإعلام والإعلاء للدين.

الثالث: أدلّة مختصّة ببعض الأبواب، وتكون مرادفة لتعظيم الشعائر ولنشر الدين وإعلاء كلمته.

____________________

(1) بحار الأنوار 100: 120: 22.

(2) بحار الأنوار 44: 292.

٣٩

الجهةُ الثانية أقوالُ العامّة والخاصّة حول هذه القاعدة

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

يبعث على النشاط أجل هذه هي حياتهم القاسية ، ومعيشتهم الضنك.

لقد اعترف ريتشارد نيكسون الرئيس الأسبق للولايات المتحدة الأمريكية ـ بلد الشيطان الأكبر ـ بهذا الواقع في خطابه الرئاسي الأوّل إذ قال : (إنّنا نرى حولنا دائما حياة جوفاء ، ونحن نأمل أن نرضى ، ولكنّنا لا نرضى)!

رجل آخر من رجال المعروفين كانت مهمّته إيجاد السرور والفرح في المجتمع ، يقول : إنّي أرى الإنسانية تعدو في زقاق مظلم لا شيء في نهايته إلّا القلق المطلق.

ومن الطريف أن نقرأ في الرّوايات الإسلامية أنّه سئل الإمام الصادقعليه‌السلام عن المراد من الآية :( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً ) ؟ قال : «يعني [الإعراض عن] ولاية أمير المؤمنين»(١) .

أجل فإنّ الذي يستلهم العبرة من حياة عليعليه‌السلام ، ذلك الرجل العظيم الذي كانت الدنيا في نظره لا تساوي عفطة عنز ، والذي انقطع إلى الله حتّى صغرت الدنيا في عينه إلى هذا الحدّ ، فمن يكن كذلك فستكون حياته في سعة ورفاه ، أمّا أولئك الذين ينسون المثل والقدوة فإنّهم في ضنك العيش في كلّ الأحوال.

وقد فسّر الإعراض عن ذكر الله ـ في الآية ـ بترك الحجّ من قبل القادرين عليه ، وذلك لأنّ مراسم الحج تهزّ الإنسان ، وتوجد ارتباطا وعلاقة جديدة بين الإنسان وربّه بحيث يكون هذا الارتباط هو مفتاح حياته ، في حين أنّ عكس هذا الأمر يؤدّي إلى الارتباط الشديد بالماديات التي هي أساس المعيشة الضنكا.

٢ ـ عمى البصر وعمى البصيرة!

لقد حدّدت عقوبتان لأولئك الذين يعرضون عن ذكر الله : إحداهما : المعيشة

__________________

(١) نور الثقلين ، الجزء ٣ ، ص ٤٠٥.

١٠١

الضنك في هذه الدنيا ، والتي أشير إليها في الملاحظة السابقة ، والأخرى : العمى في الآخرة.

وقلنا مرارا : إنّ عالم الآخرة هو تجسّم أوسع لعالم الدنيا ، وكلّ حقائق هذا العالم تتجسّد هناك بما يناسبها هنا ، فأولئك الذين عميت بصيرتهم عن مشاهدة الحقائق في هذه الدنيا ، ستعمى هناك عيون أجسامهم ، ولذلك فإنّهم حين يتساءلون بأنّا كنّا قبل هذا صحيحي البصر ، فلما ذا حشرنا عميا؟ يقال لهم : لأنّكم قد نسيتم آيات الله ، وهذه الحالة انعكاس لتلك الحالة.

وهنا ينقدح سؤال ، وهو : إنّ ظاهر بعض الآيات القرآنية هو أنّ كلّ الناس يبصرون في يوم القيامة ، ويقال لهم : اقرؤوا صحيفة أعمالكم( اقْرَأْ كِتابَكَ ) (١) ، أو أنّ المجرمين يرون نار جهنّم بأعينهم :( وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ ) (٢) ، فكيف تناسب هذه التعبيرات كون جماعة عميا؟

قال بعض المفسّرين إنّ حال ذلك العالم تختلف عن حال هذا العالم ، فربّما كان بعض الأفراد مبصرين في مشاهدة بعض الأمور ، وعميانا عن مشاهدة البعض الآخر ، وعلى ما ينقل العلّامة الطبرسي عن بعض المفسّرين : إنّه أعمى عن جهات الخير لا يهتدى لشيء منها ، لأنّ نظام ذلك العالم يختلف عن نظام هذا العالم.

ويحتمل أيضا أن يكون هؤلاء في بعض المنازل والمواقف عميا ، وفي بعضها مبصرين.

ثمّ إنّ المراد من نسيان المجرمين في العالم الآخر ليس هو نسيان الله سبحانه لهم ، بل من الواضح أنّ المراد معاملة هؤلاء معاملة الناسي ، كما نستعمل ذلك في محاوراتنا اليوميّة ، فإذا لم يهتمّ شخص بآخر ، فإنّ الثّاني يقول له : لماذا نسيتني؟

__________________

(١) الإسراء ، ١٤.

(٢) الكهف ، ٥٣.

١٠٢

٣ ـ الإسراف في المعصية

ممّا يلفت النظر أنّه قد ذكرت في الآيات ـ محلّ البحث ـ هذه العقوبات المؤلمة للأفراد الذين يسرفون ولا يؤمنون بآيات الله.

إنّ التعبير بـ «الإسراف» هنا قد يكون إشارة إلى أنّهم قد استعملوا تلك النعم والعطايا الإلهيّة ، كالعين والاذن والعقل ، في طرق الشّر ، وليس الإسراف إلّا أن يتلف الإنسان هذه النعم من غير هدف.

أو أن يكون إشارة إلى أنّ المذنبين قسمان : قسم لهم ذنوب محدودة ، وفي قلوبهم خوف الله ، أي أنّهم لم يقطعوا ارتباطهم وصلتهم بالله تماما ، فإذا ما ظلموا ـ على سبيل الفرض ـ يتيما أو ضريرا فإنّهم لا يستبيحون ذلك العمل ، بل يعدّون أنفسهم مقصّرين أمام الله. ولا شكّ أنّ مثل هذا الفرد عاص يستحقّ العقاب ، إلّا أنّ بينه وبين من يقترف الذنوب بلا حساب ـ ولا يعتبر ذلك ذنبا ، ولا يعترف بمعيار للذنب وعدمه ، بل ويفتخر أحيانا بارتكابه المعاصي ، أو يحتقر الذنب ويستصغره ـ فرقا شاسعا ، لأنّ القسم الأوّل يمكن أن يتوبوا في النهاية ويجبروا ما صدر عنهم من ذنوب ، أمّا أولئك الذين يسرفون في الذنوب فلا توبة لهم.

٤ ـ ما هو الهبوط؟

«الهبوط» في اللغة بمعنى النّزول الإجباري ، كسقوط الصخرة من مرتفع ما ، وعند ما تستعمل في حقّ الإنسان فإنّها تعني الإبعاد والإنزال عقابا له.

وبملاحظة أنّ أدم قد خلق للحياة على وجه الأرض ، وكانت الجنّة أيضا بقعة خضراء وفيرة النعمة من هذا العالم ، فإنّ هبوط ونزول آدم هنا يعني النّزول المقامي لا المكاني ، أي إنّ الله سبحانه قد نزّل مقامه لتركه الأولى ، وحرمه من كلّ نعم الجنّة تلك ، وابتلاه بمصائب هذه الدنيا ومتاعبها.

وممّا يستحقّ الالتفات أنّ المخاطب هنا قد ذكر بصيغة المثنّى (اهبطا) أي

١٠٣

اهبطا كلاكما ، ومن الممكن أن يكون المراد آدم وحواء ، وإذا كان المخاطب قد ورد بصيغة الجمع (اهبطوا) في بعض آيات القرآن الاخرى ، فلأنّ الشيطان قد أشرك معهما في الخطاب ، لأنّه هو الآخر قد طرد من الجنّة.

ويحتمل أيضا أن يكون المخاطب آدم والشيطان ، لأنّ الجملة التي تلي هذه الجملة تقول :( بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ) .

وقال بعض المفسّرين : إنّ المراد من جملة( بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ) والتي ورد الخطاب فيها بصيغة الجمع ، هو تولّد العداوة بين أدم وحواء من جهة ، وبين الشيطان من جهة أخرى ، وتولّد العداوة بين آدم وأولاده من جهة والشيطان وذريته من جانب آخر.

وعلى كلّ حال ، فإنّ المخاطب في جملة :( فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً ) هم أولاد آدم وحواء حتما ، لأنّ هداية الله مختصة بهم ، أمّا الشيطان وذريته الذين أعرضوا عن منهج الهداية الإلهيّة ، فإنّ الخطاب لا يشملهم.

* * *

١٠٤

الآيات

( أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (١٢٨) وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (١٣٠) )

التّفسير

اعتبروا بتاريخ الماضين :

لمّا كانت عدّة بحوث في الآيات السابقة قد وردت عن المجرمين ، فقد أشارت الآيات الأولى من الآيات محلّ البحث إلى واحد من أفضل طرق التوعية وأكثرها تأثيرا ، وهو مطالعة تأريخ الماضين ، فتقول :( أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ ) (١) أولئك الذين عمّهم العذاب الإلهي الأليم( يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ ) .

__________________

(١) كما قلنا سابقا ، فإنّ «قرون» جمع قرن ، تعني الناس الذين يعيشون في عصر ما ، ويقال أحيانا لنفس ذلك الزمان : قرن. وهي من مادّة المقارنة.

١٠٥

إنّ هؤلاء يمرّون في مسيرهم وذهابهم وإيّابهم على منازل قوم عاد ـ في أسفارهم إلى اليمن ـ وعلى مساكن ثمود المتهدّمة الخربة ـ في سفرهم إلى الشام ـ وعلى منازل قوم لوط التي جعل عاليها سافلها ـ في سفرهم إلى فلسطين ـ ويرون آثارهم ، إلّا أنّهم لا يعتبرون ، فإنّ الخرائب والأطلال تتكلّم بلسان الحال وتخبر عن قصص السابقين وتحذّر أبناء اليوم وأبناء الغد وتعول صارخة أنّ هذه عاقبة الظلم والكفر والفساد.

نعم( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى ) (١) .

إنّ موضوع أخذ العبرة من تأريخ الماضين من الأمور التي يؤكّد عليها القرآن والأحاديث الإسلامية كثيرا ، وهو حقّا معلم مذكّر منبّه ، فما أكثر أولئك الأشخاص الذين لا يتأثّرون بأيّة موعظة ، ولا يعتبرون بها ، إلّا أنّ رؤية مشاهد من آثار الماضين المعبّرة تهزّهم ، وكثيرا ما تغيّر مسير حياتهم.

ونقرأ في حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أغفل الناس من لم يتّعظ بتغيّر الدنيا من حال إلى حال»(٢) ولا يفكّر في تقلّب الليل والنهار وتعاقبهما.

الآية التالية في الحقيقة جواب عن سؤال يثار هنا ، وهو : لماذا لا يجري الله سبحانه على هذا القسم من المجرمين ما أجراه على المجرمين السابقين ، فيقول القرآن :( وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى ) .

إنّ هذه السنّة الإلهيّة التي ذكرت في مواضع عديدة من القرآن باسم (كلمة) إشارة إلى قانون الخلقة المبتني على حريّة البشر ، لأنّ كلّ مجرم إذا عوقب مباشرة وبدون أن يمهل ، فإنّ الإيمان والعمل الصالح سيتّصف بالجبر تقريبا ، وسيكون على الأغلب خوفا من العقاب الآني ، وبناء على هذا فسوف لا يكون وسيلة للتكامل الذي هو الهدف الأصلي.

__________________

(١) «النهى» من مادّة نهي ، وهي هنا بمعنى العقل ، لأنّ العقل ينهي الإنسان عن القبائح والسيّئات.

(٢) سفينة البحار ـ مادّة عبر ـ الجزء ٢ ص ١٤٦.

١٠٦

إضافة إلى أنّه إذا تقرّر أن يعاقب جميع المجرمين فورا ، فسوف لا يبقى أحد حيّا على وجه الأرض :( وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ ) (١) .

وبناء على هذا فيجب أن تكون هناك مهلة وفترة تعطى لكلّ المرتبطين بطريق الحقّ حتّى يرجع المجرمون إلى أنفسهم ويسلكوا سبيل الصلاح ، ولتكون كذلك فرصة لتهذيب النفس.

إنّ التعبير بـ (أجل مسمّى) بالشكل الذي يفهم من مجموع آيات القرآن ، إشارة إلى الزمان الحتمي لنهاية حياة الإنسان(٢) .

وعلى كلّ حال ، فإنّ الظالمين الذين لا إيمان لهم والمجرمين يجب أن لا يغترّوا بتأخير العذاب الإلهي ، وأن لا يغفلوا عن هذه الحقيقة ، وهي أنّ لطف الله وسنّته في الحياة ، وقانون التكامل هذا ، هو الذي يفسح المجال لهؤلاء.

ثمّ يوجّه الخطاب إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيقول :( فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ ) ومن أجل رفع معنويات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتقوية قلبه ، وتسلية خاطره ، فإنّه يؤمر بمناجاة الله والصلاة والتسبيح فيقول :( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى ) ولا يتأثّر قلبك جرّاء كلامهم المؤلم.

لا شكّ أنّ هذا الحمد والتسبيح محاربة للشرك وعبادة الأصنام ، وفي الوقت نفسه صبر وتحمّل أمام أقوال المشركين السيّئة ، وكلامهم الخشن. إلّا أنّ هناك بحثا بين المفسّرين في أنّ المقصود من الحمد والتسبيح هل الحمد والتسبيح المطلق ، أم أنّه إشارة إلى خصوص الصلوات الخمس اليوميّة؟ فجماعة يعتقدون بأنّه يجب أن يبقى ظاهر العبارات على معناه الواسع ، ومن ذلك يستفاد أنّ المراد هو التسبيح

__________________

(١) النحل ، ٦١.

(٢) لمزيد الإيضاح راجع البحث المفصّل الذي ذكرناه في ذيل الآية (١ و ٢) من سورة الأنعام. ونذكر في الضمن أنّ جملة (أجل مسمّى) من ناحية التركيب النحوي عطف على (كلمة).

١٠٧

والحمد المطلق.

في حين أنّ جماعة أخرى ترى أنّه إشارة إلى الصلوات الخمس ، وهي على النحو التالي.

( قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ) وهي إشارة إلى صلاة الصبح.

( وَقَبْلَ غُرُوبِها ) وهي إشارة إلى صلاة العصر ، أو أنّها إشارة إلى صلاتي الظهر والعصر ، واللتان يمتدّ وقتهما إلى الغروب.

( وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ ) وهي إشارة إلى صلاتي المغرب والعشاء ، وكذلك صلاة الليل.

أمّا التعبير بـ( أَطْرافَ النَّهارِ ) فهو إمّا إشارة إلى صلاة الظهر ، لأنّ أطراف جمع طرف ، وهو يعني الجانب ، وإذا قسّمنا اليوم نصفين ، فإنّ صلاة الظهر ستكون في أحد طرفي النصف الثّاني.

ويستفاد من بعض الرّوايات ـ أيضا ـ أنّ( أَطْرافَ النَّهارِ ) إشارة إلى الصلوات المستحبّة التي يستطيع الإنسان أو يؤدّيها في الأوقات المختلفة ، لأنّ أطراف النهار هنا قد وقعت في مقابل آناء الليل ، وهي تتضمّن كلّ ساعات اليوم.

وخاصّة أنّنا إذا لاحظنا أنّ كلمة أطراف قد وردت بصيغة الجمع ، في حين أنّ لليوم طرفين لا أكثر ، فسيتّضح أنّ للأطراف معنى واسعا يشمل ساعات اليوم المختلفة.

وهناك احتمال ثالث أيضا ، وهو أنّه إشارة إلى الأذكار الخاصّة التي وردت في الرّوايات الإسلامية في هذه الساعات المخصوصة ، فمثلا نقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام في تفسير الآية محل البحث أنّه قال : «فريضة على كلّ مسلم أن يقول قبل طلوع الشمس عشر مرّات وقبل غروبها عشر مرّات : لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يحيي ويميت ، وهو حي لا يموت ، بيده الخير ، وهو على كلّ شيء قدير».

١٠٨

إلّا أنّ هذه التفاسير لا منافاة بينها على كلّ حال ، ويمكن أن تكون الآية إشارة إلى التسبيحات وإلى الصلوات الواجبة والمستحبّة في الليل والنهار ، وبهذا فسوف لا يكون هناك تضادّ بين الرّوايات الواصلة في هذا الباب ، لأنّ الجملة فسّرت في بعض الرّوايات بالأذكار الخاصّة ، وفي بعضها بالصلاة.

والجدير بالذكر أنّ جملة «لعلّك ترضى» في الحقيقة نتيجة حمد الله وتسبيحه ، والصبر والتحمّل في مقابل قول أولئك ، لأنّ هذا الحمد والتسبيح وصلوات الليل والنهار تحكم الرابطة بين الإنسان وربّه إلى درجة لا يفكّر فيها بأي شيء سواه ، فلا يخاف من الحوادث الصعبة ، ولا يخشى عدوّا باعتماده على هذا السند والعماد القوي ، وبهذا سيملأ الهدوء والاطمئنان وجوده.

ولعلّ التعبير بـ (لعلّ) إشارة إلى ذلك المطلب الذي قلناه فيما مضى في تفسير هذه الكلمة ، وهو أنّ (لعلّ) عادة إشارة إلى الشروط التي تكون لازمة لتحصيل النتيجة ، فمثلا لكي تكون الصلاة وذكر الله سببا لحصول الاطمئنان ، يجب أن تقام مع حضور القلب وآدابها الكاملة.

ثمّ إنّ المخاطب في هذه الآية وإن كان النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّ القرائن تدلّ على أنّ هذا الحكم يتّصف بالعموم.

* * *

١٠٩

الآيات

( وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٣١) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (١٣٢) وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٣٣) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (١٣٤) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (١٣٥) )

التّفسير

لقد أصدرت في هذه الآيات أوامر وتوجيهات للنبي ، والمراد منها والمخاطب فيها عموم المسلمين ، وهي تتمّة للبحث الذي قرأناه آنفا حول الصبر والتحمّل.

١١٠

فتقول أوّلا :( وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ ) فإنّ هذه النعم المتزلزلة الزائلة ما هي إلّا( زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا ) ، تلك الأزهار التي تقطع بسرعة وتذبل وتتناثر على الأرض ، ولا تبقى إلّا أيّاما معدودات.

في الوقت الذي أمددناهم بها( لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى ) فإنّ الله سبحانه وهب لك مواهب ونعما متنوّعة ، فأعطاك الإيمان والإسلام ، والقرآن والآيات الإلهيّة والرزق الحلال الطاهر ، وأخيرا نعم الآخرة الخالدة ، هذه الهبات والعطايا المستمرّة الدائمة.

وتقول الآية التالية تلطيفا لنفس النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتقوية لروحه :( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها ) لأنّ هذه الصلاة بالنسبة لك ولأهلك أساس العفّة والطهارة وصفاء القلب وسمو الروح ودوام ذكر الله.

لا شكّ أنّ ظاهر (أهلك) هنا هو أسرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصورة عامّة ، إلّا أنّ هذه السورة لمّا كانت قد نزلت في مكّة ، فإنّ مصداق الأهل في ذلك الزمان كان (خديجة وعلياعليهما‌السلام ) وربّما شملت بعضا من أقارب النّبي الآخرين ، إلّا أنّ مصطلح أهل بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصبح واسع الدلالة بمرور الزمن.

ثمّ تضيف بأنّه إذا كان قد صدر الأمر لك ولأهلك بالصلاة فإنّ نفعها وبركاتها إنّما يعود كلّ ذلك عليكم ، فإنّا( لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ ) فإنّ هذه الصلاة لا تزيد شيئا من عظمة الله ، بل هي رأس مال عظيم لتكامل البشر وارتقائهم ودرس تعليمي وتربوي عال ، إنّ الله سبحانه ليس كباقي الملوك والأمراء الذين يأخذون الضرائب من شعوبهم ليديروا بها حياتهم وحياة مقرّبيهم ، فإنّ الله غني عن الجميع ويحتاجه الجميع ويفتقرون إليه.

إنّ هذا التعبير في الحقيقة يشبه ما ورد في سورة الذاريات ـ الآية (٥٦ ـ ٥٨) :( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ

١١١

يُطْعِمُونِ. إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) وعلى هذا ، فإنّ نتيجة العبادات ترجع مباشرة إلى نفس العابدين.

وتضعيف الآية في النهاية :( وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى ) فإنّ ما يبقى ويفيد في نهاية الأمر هو التقوى ، والمتّقون هم الفائزون في النهاية ، أمّا الذين لا تقوى لهم فهم محكومون بالهزيمة والانكسار.

ويحتمل أيضا في تفسير هذه الآية أنّ هدفها هو التأكيد في مجال الروح والتقوى والإخلاص في العبادات ، لأنّ هذا أساس العبادة ، وفي الآية (٣٧) منسورة الحجّ نقرأ :( لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ ) فليس ظاهر الأعمال وقشورها هو الذي يوصلكم إلى مقام القرب من الله ، بل إنّ الواقع والإخلاص والباطن الذي فيها هو الذي يفتح الطريق إلى مقام القرب منه.

ثمّ أشارت الآية التالية إلى واحدة من حجج الكفّار الواهية فقالت :( وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ ) واجابتهم مباشرة :( أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى ) حيث كانوا يشكّكون ويطلبون الأعذار بصورة متلاحقة من أجل الإتيان بالمعجزات ، وبعد رؤية ومشاهدة تلك المعاجز استمرّوا في كفرهم وإنكارهم ، فحاق بهم العذاب الإلهي ، أفلا يعلمون بأنّهم إذا ساروا في نفس الطريق فسينتظرهم المصير نفسه؟

ويحتمل أيضا في تفسير هذه الآية أنّ المراد من «البيّنة» نفس القرآن الذي يبيّن حقائق الكتب السماوية السابقة على مستوى أعلى ، فالآية تقول : لماذا يطلب هؤلاء معجزة ، ويتذرّعون بالأعذار الواهية؟ أليس هذا القرآن مع هذه الامتيازات الكبيرة التي تحتوي على حقائق الكتب السماوية السابقة كافيا لهؤلاء؟

وقد ذكر تفسير آخر لهذه الآية ، وهو : إنّ الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ مع أنّه لم

١١٢

يكن قد درس وتعلّم ـ فقد جاء بكتاب واضح جلي ينسجم مع ما كان في متون الكتب السماوية ، وهذا بنفسه دليل على الإعجاز. إضافة إلى أنّ صفات النّبي وصفات كتابه تنطبق تماما على العلامات التي جاءت في الكتب السماوية السابقة ، وهذا دليل أحقيّته(١) .

وعلى كلّ حال ، فإنّ هؤلاء المتذرّعين ليسوا أناسا طلّاب حقّ ، بل إنّهم دائما في صدد إيجاد أعذار وتبريرات جديدة ، فحتّى( وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى ) إلّا أنّهم الآن وقد جاءهم هذا النّبي الكريم بهذا الكتاب العظيم ، يقولون كلّ يوم كلاما ، ويختلفون الأعذار للفرار من الحقّ.

وقالت الآية التالية : أنذر هؤلاء و( قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ ) فنحن بانتظار الوعود الإلهيّة في حقّكم ، وأنتم بانتظار أن تحيط بنا المشاكل والمصائب( فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى ) وبهذه الجملة الحاسمة العميقة المعنى تنتهي المحاورة مع هؤلاء المنكرين العنودين المتذرّعين.

وخلاصة القول : فإنّ هذه السورة لمّا كانت قد نزلت في مكّة ، وكان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمون تحت ضغط شديد من قبل الأعداد ، فإنّ الله قد واساهم وسرّى عن نفوسهم في نهاية هذه السورة ، فتارة ينهاهم عن أن تأخذهم وتبهرهم أموال المنكرين الزائلة وثرواتهم ، إذ هي للامتحان والابتلاء وتارة يأمرهم بالصلاة والاستقامة لتقوى قواهم المعنوية أمام كثرة الأعداء. وأخيرا يبشّر المسلمين بأنّ هؤلاء إن لم يؤمنوا فإنّ لهم مصيرا أسود مشؤوما يجب أن يكونوا في انتظاره.

اللهم اجعلنا من المهتدين وأصحاب الصراط المستقيم.

__________________

(١) التّفسير الأوّل في مجمع البيان ، والثّاني في الظلال ، والثّالث ذكره الفخر الرازي في التّفسير الكبير ، وهذه التفاسير وإن اختلفت إلّا أنّها لا تتضارب فيما بينها ، وخاصّة التّفسير الثّاني والثّالث.

١١٣

اللهم ألهمنا تلك الشهامة التي لا نرهب معها كثرة الأعداء ، ولا نضعف عند الحوادث الصعبة.

واخلع عنّا أطمار العناد واللجاجة ، ووفّقنا لقبول الحقّ.

آمين ربّ العالمين

نهاية سورة طه

* * *

١١٤

سورة الأنبياء

مكّيّة

وعدد آياتها مائة واثنتا عشرة آية

١١٥
١١٦

سورة الأنبياء

فضل سورة الأنبياء :

روي عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فضل تلاوة هذه السورة أنّه قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأ سورة الأنبياء حاسبه الله حسابا يسيرا ، وصافحه وسلّم عليه كلّ نبي ذكر اسمه في القرآن»(١) .

وعن الإمام الصادقعليه‌السلام : «من قرأ سورة الأنبياء حبّا لها كان كمن رافق النبيّين أجمعين في جنّات النعيم ، وكان مهيبا في أعين الناس حياة الدنيا»(٢) .

إنّ جملة «حبّا لها» مفتاح في الواقع لفهم معنى الرّوايات التي وصلتنا في مجال فضل سورة القرآن ، وهي تعني أنّ الهدف ليس هو التلاوة وتلفّظ الكلمات فقط ، بل عشق المحتوى ، ومن المسلّم أنّ عشق المحتوى بلا عمل لا معنى له ، وإذا ما ادّعى شخص أنّه يعشق السورة الفلانيّة ، ويخالف عمله مفاهيمها ، فإنّه يكذب.

وقد قلنا مرارا : إنّ القرآن كتاب عقيدة وعمل ، والقراءة مقدّمة للتفكير والتدبّر ، وهو مقدّمة للإيمان والعمل!.

محتوى السورة :

١ ـ إنّ هذه السورة كما تدلّ عليها تسميتها هي سورة الأنبياء ، لأنّ اسم ستّة

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ج ٣ ص ٤١٢.

(٢) المصدر السابق.

١١٧

عشر نبيّا قد جاء في هذه السورة ، بعضهم بذكر نماذج وصور من حالاتهم ، والبعض كإشارة، وهم :

موسى ـ هارون ـ إبراهيم ـ لوط ـ إسحاق ـ يعقوب ـ نوح ـ داود ـ سليمان ـ أيّوب ـ إسماعيل ـ إدريس ـ ذو الكفل ـ ذو النون (يونس) ـ زكريا ـ يحيىعليهم‌السلام ، وبناء على هذا فإنّ عمدة البحوث المهمّة في هذه السورة تدور حول مناهج الأنبياء.

وإضافة إلى هؤلاء الأنبياء ، فإنّ هناك أنبياء آخرين لم تذكر أسماؤهم صريحا في هذه السورة ، لكن قد ورد الكلام حولهم ، كرسول الله محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسيح عيسى بن مريمعليهما‌السلام .

٢ ـ إضافة إلى ما مرّ ، فإنّ خاصية السورة المكيّة التي تتحدّث عن العقائد الدينيّة ، وبالأخصّ المبدأ والمعاد ، منعكسة تماما في هذه السورة.

٣ ـ بحثت هذه السورة كذلك عن توحيد الخالق ، وأنّه لا خالق ولا معبود سواه ، وكذلك عن خلق العالم على أساس الهدف والتخطيط ، ووحدة القوانين الحاكمة على هذا العالم ، وكذلك وحدة مصدر ومنبع الحياة والوجود ، وكذلك اشتراك الموجودات في مسألة الفناء والموت.

٤ ـ وتحدث جانب آخر من هذه السورة عن انتصار الحقّ على الباطل ، والتوحيد على الشرك ، وجنود الحقّ على جنود إبليس.

٥ ـ والذي يلفت النظر هنا أنّ هذه السورة تبتدئ بتهديد الناس الغافلين الجاهلين بالحساب الشديد ، وتنتهي بتهديدات أخرى في هذا المجال أيضا.

إنّ الأنبياء الذين وردت أسماؤهم في هذه السورة ، ذكر تفصيل حياة ونشاطات بعضهم في سورة أخرى ، إلّا أنّ التأكيد في هذه السورة كان أغلبه على أنّ هؤلاء العظام عند ما كانوا يبتلون بالضائقات والمواقف الصعبة ، كانوا يمدّون يد التوسّل والاستعانة نحو لطف الله وعونه ، وكيف أنّ الله سبحانه كان يفتح أمامهم

١١٨

الطرق المغلقة ، وينجّيهم من الدوامات وتلاطم أمواج البلايا.

فإبراهيم حين ابتلي بنار نمرود.

ويونس حينما حلّ في بطن الحوت.

وزكريا عند ما رأى أنّ شمس عمره قد أوشكت على الغروب ولا خليفة له يكمل مسيره.

كما أنّها تتكلّم على سائر الأنبياء عند وقوعهم في المشاكل الصعبة العسيرة.

* * *

١١٩

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥) )

التّفسير

أعذار متنوّعة :

تبدأ هذه السورة ـ كما أشرنا ـ بتحذير قوي شديد موجّه لعموم الناس ، تحذير يهزّ الوجدان ويوقظ الغافلين ، فتقول :( اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550