الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٠

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 550

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 550 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 206818 / تحميل: 6196
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٠

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

مُعْرِضُونَ ) .

إنّ عمل هؤلاء يدلّ على أنّ هذه الغفلة عمّت كلّ وجودهم ، وإلّا فكيف يمكن للإنسان أن يؤمن باقتراب الحساب الحساب الدقيق المتناهي في الدقّة ، ومع كلّ ذلك لا يكترث بالأمور ويرتكب أنواع الذنوب!!

كلمة (اقترب) لها دلالة على التأكيد أكثر من (قرب) وهي إشارة إلى أنّ هذا الحساب قد أصبح قريبا جدّا.

والتعبير بـ (الناس) وإن كان يشمل عموم الناس ظاهرا ، وهو يدلّ على أنّ الجميع في غفلة ، إلّا أنّ ممّا لا شكّ فيه أنّ الذين لهم قلوب واعية يقظة على الدوام ، ويفكّرون بالحساب ويعملون له فهم مستثنون من هذا العموم.

والجميل في الأمر أنّه يقول : اقترب الحساب للناس ، لا أنّ الناس اقتربوا للحساب ، فكأنّ الحساب يسرع لاستقبال الناس.

ثمّ إنّ الفرق بين «الغفلة» و «الإعراض» يمكن أن يكون من جهة أنّ هؤلاء غافلون عن اقتراب الحساب ، وهذه الغفلة هي تسبّب الإعراض عن آيات الله سبحانه ، فـ «الغفلة عن الحساب» علّة في الحقيقة ، و «الإعراض عن الحقّ» معلول لتلك العلّة. أو أنّ المراد هو الإعراض عن نفس الحساب ، وعن الاستعداد للإجابة في تلك المحكمة الكبرى ، أي إنّهم لمّا كانوا غافلين ، فإنّهم لا يهيّؤون أنفسهم لذلك ويعرضون عنه.

وهنا يأتي سؤال ، وهو : ما معنى اقتراب الحساب والقيامة؟

لقد قال البعض : إنّ المراد منه هو أنّ ما بقي من الدنيا قليل في مقابل ما مضى منها ، ولهذا فإنّ القيامة ستكون قريبة ـ قربا نسبيّا ـ خاصة وأنّه قد روي عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «بعثت أنا والساعة كهاتين»(١) وأشار إلى السبابة

__________________

(١) مجمع البيان ، ذيل الآيات مورد البحث.

١٢١

والوسطى اللتين تقع إحداهما إلى جنب الأخرى.

وقال البعض الآخر : إنّ هذا التعبير لكون القيامة موجودة ، كما نرى ذلك في المثل السائر كلّ ما هو آت قريب.

ولا منافاة بين هذين التّفسيرين ويمكن أن تكون الآية إشارة إلى كلا الأمرين.

واحتمل بعض المفسّرين ـ كالقرطبي ـ أن يكون الحساب هنا إشارة إلى «القيامة الصغرى» ، أي الموت ، لأنّ جزءا من المحاسبة وجزاء الأعمال يصل إلى الإنسان حين الموت(١) إلّا أنّ ظاهر الآية ناظر إلى القيامة الكبرى.

ثمّ تبيّن الآية التالية علامة من علامات إعراض هؤلاء بهذه الصورة :( ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ) فلم يتّفق لهم أن يتدبّروا ساعة في كلام الله المجيد ، ويتأمّلوا في آياته بجدّية ، ويحتملوا ـ على الأقل ـ أن تكون مؤثّرة في حياتهم وعاقبة أمرهم ومصيرهم. فهم لا يفكّرون في الحساب الإلهي ، ولا في تحذيرات الله سبحانه.

وأساسا فإنّ أحد أسباب شقاء الجهلة والمتكبّرين هو اتّخاذهم النصائح ومواعظ الأخيار لهوا ولعبا دائما ، وهذا هو السبب في عدم تنبّههم من غفلتهم ، في حين أنّهم لو تعاملوا بصورة جديّة مع تلك النصائح ولو مرّة واحدة ، فربّما تغيّر مسير حياتهم في تلك اللحظة!

كلمة «ذكر» في الآية إشارة إلى كلّ كلام منبّه يوقظ الغافلين ، والتعبير بـ (محدث) إشارة إلى أنّ الكتب السماوية كانت تنزل الواحد تلو الآخر ، وتحتوي كلّ سورة من سور القرآن ، وكلّ آية من آياته محتوى جديدا ينفذ إلى قلوب الغافلين بطرق مختلفة ، لكن أي فائدة مع من يتّخذ كلّ ذلك هزوا؟

__________________

(١) تفسير القرطبي. الجزء ٦ ص ٤٣٠٧.

١٢٢

وأساسا ، فإنّ هؤلاء يفرقون من كلّ جديد ، ويتمسكّون ويفرحون لكلّ الخرافات القديمة التي ورثوها من الآباء والأجداد ، وكأنّهم قد تعاهدوا عهدا دائما على أن يخالفوا كلّ حقيقة جديدة ، مع أنّ أساس تكامل الإنسان مبتن على أن يواجه الإنسان كلّ يوم مسائل جديدة.

ثمّ تقول من أجل زيادة التأكيد :( لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ) لأنّهم في الظاهر يتّخذون كلّ المسائل الجديّة لهوا ولعبا ـ كما تشير جملة «يلعبون» إلى ذلك ، حيث وردت بصيغة فعل مضارع مطلق ـ وهم في الباطن مشغولون باللهو والمسائل التي لا قيمة لها ، والتي تجعلهم في غفلة عن الواقع. ومن الطبيعي أنّ مثل هؤلاء الأشخاص سوف لا يجدون طريق السعادة ، ولا يوفّقون إليه.

ثمّ تشير إلى جانب من الخطط الشيطانيّة فتقول :( وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ) (١) وإذا لم يكن سوى بشر اعتيادي ، فلا بدّ أن تكون أعماله الخارقة ونفوذ كلامه سحرا ، ولا يمكن أن يكون شيئا آخر :( أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ) ؟

قلنا : إنّ هذه السورة نزلت في مكّة ، وفي تلك الأيّام التيّ كان فيها أعداء الإسلام في غاية القوّة والمنعة ، فأي داع يدعوهم لإخفاء كلامهم ، بل وحتّى نجواهم؟ (وينبغي الالتفات إلى أنّ القرآن يقول إنّهم كانوا يخفون حتّى مناجاتهم).

قد يكون ذلك من أجل أنّ هؤلاء كانوا يتشاورون في المسائل التي تتّصف بالتخطيط والتآمر ، حتّى يظهروا أمام عامّة الناس موقفا واحدا ضدّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

إضافة إلى أنّ هؤلاء كانوا من ناحية القوّة متفوّقين حتما ، إلّا أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين كانوا من ناحية المنطق والقوّة ونفوذ الكلام أكثر تفوّقا ، وهذا التفوّق هو الذي دفع هؤلاء إلى أن يتشاوروا في الخفاء لانتخاب الأجوبة المصطنعة في

__________________

(١) في لغة العرب إذا كان الفعل اسما ظاهرا فيؤتى عادة بفعل مفرد ، إلّا أنّ هذه ليست قاعدة عامّة وثابتة ، بل يأتون ـ لعلل خاصّة ـ بالفعل بصيغة الجمع وبالفاعل اسما ظاهرا وجملة( وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ) من هذا القبيل أيضا.

١٢٣

مقابل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

على كلّ حال ، فإنّ هؤلاء قد أكّدوا على مسألتين في أقوالهم : إحداهما : كون النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشرا ، والأخرى : تهمة السحر ، وستأتي الاتّهامات الاخرى في الآيات التالية أيضا ، ويتصدّى القرآن الكريم لجوابها.

إلّا أنّ القرآن يجيبهم بصورة عامّه على لسان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيقول :( قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ ) فلا تتصوّروا أنّ نجواكم ومؤامراتكم المخفيّة تخفى عليه( وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) فهو يعلم كلّ شيء ، ومطّلع على كلّ شيء ، فلا يسمع كلامكم وحسب ، بل هو مطّلع حتى على الأفكار التّي تمرّ في أذهانكم ، والقرارات التي في صدوركم.

بعد ذكر نوعين من تذرّعات المخالفين ، يتطرّق القرآن إلى ذكر أربعة أنواع أخرى منها ، فيقول :( بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ ) (١) وهم يعتقدون أنّها حقيقة.

وقد يغيّرون كلامهم هذا أحيانا فيقولون :( بَلِ افْتَراهُ ) ونسبه إلى الله.

ويقولون أحيانا :( بَلْ هُوَ شاعِرٌ ) ، وهذه الآيات مجموعة من خيالاته الشعرية.

وفي المرحلة الرّابعة يقولون : إنّا نتجاوز عن كلّ ذلك فإذا كان مرسلا من الله حقّا( فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ ) .

إنّ التحقيق في هذه الادّعاءات المتضادّة المتناقضة في حقّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيوضّح أنّها بنفسها دليل على أنّهم لم يكونوا طلّاب حقّ ، بل كان هدفهم خلق الأعذار ، وإخراج خصمهم من الحلبة بأيّة قيمة وثمن ، وبأي صورة كانت.

فهم يعتبرونه ساحرا تارة ، وأخرى شاعرا ، وثالثة مفتريا ، وأخرى إنسانا

__________________

(١) «أضغاث» جمع ضغث ، وهو حزمة الحطب أو الأعشاب اليابسة وما شاكل ذلك ، و «الأحلام» جمع حلم وهو المنام والرؤية ، ولمّا كان جمع حزمة حطب يحتاج أن يجمعوا عدّة أشياء متفرّقة إلى بعضها ، فإنّ هذا التعبير اطلق على المنامات المضطربة المتفرّقة.

١٢٤

يختلط الأمر عليه ويهجر ـ والعياذ بالله ـ فهو يحسب مناماته المضطربة وحيا!

ويقولون حينا : لماذا أنت بشر؟ ويتذرّعون أحيانا بطلب معجزة جديدة مع كلّ تلك المعاجز.

إذا لم يكن لدينا دليل على بطلان كلامهم إلّا هذا الاضطراب والتمزّق ، فإنّه كاف لوحده ، ولكنّنا سنرى في الآيات التالية أنّ القرآن سيجيبهم جوابا حاسما من طرق أخرى أيضا.

* * *

ملاحظة :

هل القرآن محدث؟

لقد أورد جمع من المفسّرين في ذيل الآيات ـ لوجود كلمة (محدث) في الآية الثّانية من الآيات محلّ البحث ـ بحوثا جمّة حول كون كلام الله حادثا أم قديما؟ وهي نفس المسألة التي أثيرت في زمن خلفاء بني العبّاس وصارت مثارا للجدل لسنين طويلة ، وكانت قد لفتت انتباه وأفكار جماعة من العلماء.

إلّا أنّنا نعلم اليوم جيدا أنّ معظم هذا الموضوع كان يراد منه الإشغال السياسي ليهتمّ به علماء الإسلام ، وينصرفوا عن المسائل الضروريّة والأساسيّة التي تتعلّق بشؤون الحكومة وكيفيّة حياة الناس ، وحقائق الإسلام الأصيلة.

واليوم اتّضح لنا تماما أنّ المراد من كلام الله محتواه ومضمونه ، وهو قديم قطعا ، أي إنّه كان دائما في علم الله ، وإنّ علم الله الواسع كان محيطا بالقرآن على الدوام. وإذا كان المراد منه هذه الألفاظ والكلمات ، وهذا الوحي الذي نزل على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا شكّ في أنّه حادث.

أي عاقل يقول : إنّ ألفاظ القرآن وكلماته أزليّة؟ أو أنّ نزول الوحي على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن من بداية أمر الرسالة؟ وبناء على هذا فأنتم تلاحظون بأنّ

١٢٥

المسألة واضحة وضوح الشمس في جميع أبعادها.

وبتعبير آخر فإنّ القرآن يحتوي على ألفاظ ومعان : فألفاظه حادثة قطعا ، ومعانية قديمة قطعا ، وعلى هذا فلا مجال للبحث والمناقشة.

ثمّ إنّ أيّ مشكلة علميّة واجتماعية وسياسيّة وأخلاقية في المجتمع الإسلامي يحلّها هذا البحث آنذاك؟ ولماذا خدع بعض العلماء السابقين بأساليب الحكّام المكرة المتآمرين الخداعة؟

ولهذا نرى أنّ بعض أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام بعد بيان هذه المسألة ، قد حذّروا هؤلاء من هذه البحوث ، ودعوهم إلى الابتعاد والامتناع عنها(١) .

__________________

(١) نور الثقلين الجزء ٣ ص ٤١٢.

١٢٦

الآيات

( ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠) )

التّفسير

كلّ الأنبياء كانوا بشراً:

قلنا : إنّ ستّة إشكالات وإيرادات قد أعيد ذكرها في الآيات السابقة ، وهذه الآيات التي نبحثها تجيب عنها ، تارة بصورة عامّة جامعة ، وأخرى تجيب عن بعضها بالخصوص.

أشارت الآية الأولى إلى المعجزات المقترحة لأولئك ، ونقصد منها : المعجزات المقترحة حسب أهوائهم تذرّعا ، فنقول : إنّ جميع المدن والقرى التي

١٢٧

أهلكناها سابقا كانت قد طلبت مثل هذه المعاجز ، ولكن لمّا استجيب طلبهم كذّبوا بها ، فهل يؤمن هؤلاء؟ :( ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ ) ؟ وهي تنذرهم بصورة ضمنيّة بأنّ الآيات لو تحقّقت على ما اقترحتم ثمّ لم تؤمنوا ، فإنّ فناءكم حتمي!

ويحتمل أيضا في تفسير هذه الآية أنّ القرآن يشير ـ في هذه الآية ـ إلى كلّ إشكالات هؤلاء المتناقضة ويقول : إنّ هذا التعامل مع دعوة الأنبياء الحقيقيين ليس جديدا ، فإنّ الأفراد العنودين كانوا يتوسّلون دائما بهذه الأساليب ، ولم تكن عاقبة عملهم وأمرهم إلّا الكفر ، ثمّ الهلاك والعذاب الأليم.

ثمّ تطرّقت الآية التالية إلى جواب الإشكال الأوّل ـ خاصة ـ حول كون النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشرا ، فتقول : إنّك لست الوحيد في كونك نبيّا ، وفي نفس الوقت أنت بشر( وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ ) فإنّ هذه حقيقة تاريخيّة يعرفها الجميع( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) .

من هم أهل الذكر؟

لا شكّ أنّ( أَهْلَ الذِّكْرِ ) تشمل من الناحية اللغوية كلّ العلماء والمطّلعين ، والآية أعلاه تبيّن قانونا عقلائيّا عامّا في مسألة (رجوع الجاهل إلى العالم) فإنّ مورد ومصداق الآية وإن كان علماء أهل الكتاب ، إلّا أنّ هذا لا يمنع من عمومية القانون. ولهذه العلّة استدلّ علماء وفقهاء الإسلام بهذه الآية في مسألة «جواز تقليد المجتهدين المسلمين».

وإذا رأينا في بعض الرّوايات التي وصلتنا عن أهل البيتعليهم‌السلام بأنّ( أَهْلَ الذِّكْرِ ) قد فسّرت بعليعليه‌السلام أو سائر الأئمّةعليهم‌السلام ، فلا يعني ذلك الحصر ، بل هو بيان لأوضح مصاديق هذا القانون الكلّي. ولزيادة الإيضاح حول هذا الموضوع ، اقرأ تفسير الآية (٤٣) من سورة النحل من هذا الكتاب.

١٢٨

ثمّ تعطي الآية التالية توضيحا أكثر حول كون الأنبياء بشرا ، فتقول :( وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ ) . وجملة( لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ ) إشارة إلى ما جاء في موضع آخر من القرآن في نفس هذا الموضوع :( وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ ) (١) .

وجملة( ما كانُوا خالِدِينَ ) أيضا تكملة لنفس هذا المعنى ، لأنّ المشركين كانوا يقولون : كان من الأفضل أن يرسل ملك مكان البشر ، ملك له الخلود ، ولا تمتدّ إليه يد الموت! فأجابهم القرآن بأنّ أيّا من الأنبياء السابقين لم يكتب له الخلود حتّى يكتب لرسول الله (محمّد) الخلود و «البقاء في هذه الدنيا».

على كلّ حال ، فلا شكّ ـ كما قلنا ذلك مرارا ـ في أنّه يجب أن يكون قائد البشر ومرشدهم من جنسهم ، بنفس تلك الغرائز والعواطف والأحاسيس والحاجات والعلاقات حتّى يحسّ بآلامهم وعذابهم ، ولينتخب أفضل طرق العلاج باستلهامه من معلوماته ليكون قدوة وأسوة لكلّ البشر ، ويقيم الحجّة على الجميع.

ثمّ تحذّر الآية وتهدّد المنكرين المتعصّبين العنودين ، فتقول : إنّا كنا قد وعدنا رسلنا بل ننقذهم من قبضة الأعداء ، ونبطل كيد أولئك الأشرار( ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ ) .

أجل ، فكما أنّ سنّتنا كانت إختيار قادة البشر من بين أفراد البشر ، كذلك كانت سنّتنا أن نحميهم من مكائد المخالفين ، وإذا لم تؤثّر المواعظ والنصائح المتلاحقة أثرها في المخالفين ، فإنّنا سنطهّر الأرض من وجودهم القذر.

ومن المعلوم أنّ المراد من «ومن نشاء» : الإرادة التي تدور حول معيار الإيمان والعمل الصالح ، كما أنّ من الواضح أيضا أنّ المراد من «المسرفين» هنا هم الذين أسرفوا في حقّ أنفسهم ومجتمعهم الذي يعيشون فيه عن طريق إنكار

__________________

(١) الفرقان ، ٧.

١٢٩

الآيات الإلهيّة وتكذيب الأنبياء ، ولهذا نرى القرآن في موضع آخر يقول :( كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ ) (١) .

أمّا آخر آية من الآيات مورد البحث ، فتجيب ـ مرّة أخرى ـ في جملة قصيرة عميقة المعنى عن أكثر إشكالات المشركين ، فتقول :( لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) فإنّ كلّ من يتدبّر آيات هذا الكتاب الذي هو أساس التذكّر وحياة القلب ، وحركة الفكر ، وطهارة المجتمع ، سيعلم جيدا أنّه معجزة واضحة وخالدة ، ومع وجود هذه المعجزة البيّنة التي تظهر فيها آثار الإعجاز من جهات مختلفة من جهة الجاذبيّة الخارقة ، ومن جهة المحتوى ، الأحكام والقوانين ، العقائد والمعارف ، وو فهل لا زلتم بانتظار معجزة أخرى؟ أي معجزة تقدر أن تثبت أحقّية دعوة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحسن من هذه المعجزة؟

وفضلا عمّا مرّ ، فإنّ آيات هذا الكتاب تصرخ بأنّها ليست سحرا ، بل هي حقائق وتعليمات غنيّة المحتوى وجذّابة ، أتقولون بعد ذلك أنّها سحر؟

هل يمكن أن توصف هذه الآيات بأنّها أضغاث أحلام؟ فأين هي الأحلام المضطربة التي لا معنى لها من هذا الكلام المنسجم الموزون؟ وأين الثرى من الثريّا؟

هل يمكن أن تعتبر تلك الآيات كذبا وافتراء مع أنّ آثار الصدق بادية في كلّ مكان منها؟

أم أنّ من جاء بها كان شاعرا ، في حين أنّ الشعر يدور حول محور الخيال ، وآيات هذا الكتاب تدور كلّها حول محور الواقعيّات والحقائق؟

وبكلمة قصيرة ، إنّ الدقّة والبحث في هذا الكتاب يثبت أنّ هذه الادّعاءات متضادّة متناقضة غير منسجمة ، وهي كلام المغرضين الجهلة.

__________________

(١) يونس ، ١٠٣.

١٣٠

واختلف المفسّرون في معنى كلمة «ذكركم» في الآية آنفة الذكر ، وذكروا لها تفاسير مختلفة.

فذهب بعضهم : إنّ المراد هو أنّ آيات القرآن منبع الوعي والتذكّر بين أفراد المجتمع ، كما يقول القرآن في موضع آخر :( فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ ) (١) .

وقال آخرون : إنّ المراد أنّ هذا القرآن سيرفع اسمكم ومكانتكم في الدنيا ، أي إنّه أساس عزّكم وشرفكم أيّها المؤمنون والمسلمون ، أو أنتم أيّها العرب الذين نزل القرآن بلسانكم ، وإذا أخذ منكم فسوف لا يكون لكم اسم ولا رسم في العالم.

والبعض الآخر قالوا : إنّ المقصود هو أنّه قد ذكر في هذا القرآن كلّ ما تحتاجون إليه في أمور الدين والدنيا ، أو في مجال مكارم الأخلاق.

وبالرغم من أنّ هذه التفاسير لا ينافي بعضها بعضا ، ويمكن أن تكون مجتمعة في تعبير «ذكركم» ، إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو هو الأظهر.

فإن قيل : كيف يكون هذا القرآن أساس الوعي واليقظة ، في حين أنّ كثيرا من المشركين قد سمعوه فلم ينتبهوا؟

قلنا : إنّ كون القرآن موقظا ومنبّها لا يعني إجباره الناس على هذا الوعي ، بل إنّ الوعي مشروط بأن يريد الإنسان ويصمّم ، وأن يفتح نوافذ قلبه أمام القرآن.

* * *

__________________

(١) سورة ق ، ٤٥.

١٣١

الآيات

( وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١٥) )

التّفسير

كيف وقع الظّالمون في قبضة العذاب؟

تبيّن هذه الآيات مصير المشركين والكافرين مع مقارنته بمصير الأقوام الماضين ، وذلك بعد البحث الذي مرّ حول هؤلاء. فتقول الآية الاولى :( وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ ) .

فمع ملاحظة أنّ «القسم» يعني الكسر المقترن بالشدّة ، بل ورد أحيانا بمعنى التفتيت والتقطيع ، ومع ملاحظة التأكيد على ظلم هذه الأقوام وجورها ، فإنّها توحي بأنّ الله سبحانه قد أعدّ أشدّ العقاب والانتقام للأقوام الظالمين الجائرين.

وتشير الآية ضمنا إلى أنّكم إذا درستم تاريخ السابقين وبحثتم فيه فستعلمون

١٣٢

بأنّ تهديدات نبي الإسلام لم تكن مزاحا أو اعتباطا ، بل هي حقيقة مرّة يجب أن تفكّروا فيها.

عند ذلك توضّح الآية حال هؤلاء عند ما تتّسع دائرة العذاب لتشمل ديارهم العامرة ، وعجزهم أمام العقاب الإلهي ، فتقول :( فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ ) (١) تماما كفلول جيش منهزم يرون سيوف العدو مسلولة وراءهم فيتفرقّون في كلّ جانب.

إلّا أنّه يقال لهؤلاء من باب التوبيخ والتقريع :( لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ ) .

إنّ هذه العبارة قد تكون إشارة إلى أنّ هؤلاء حينما كانوا غارقين في تلك النعمة الوفيرة ، كان السائلون وطالبو الحاجات يتردّدون دائما إلى أبوابهم ، يأتون والأمل يقدمهم ، ويرجعون بالخيبة والحرمان ، فالآية تقول لهم : ارجعوا وأعيدوا ذلك المشهد اللعين. وهذا في الحقيقة نوع من الاستهزاء والملامة.

واحتمل بعض المفسّرين أن تكون جملة( لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ ) إشارة إلى قدرة وثروة هؤلاء في الدنيا ، حيث كانوا يجلسون في زاوية وعلائم الابّهة والكبرياء بادية عليهم ، وكان الخدم يأتون إليهم ويحضرون عندهم بصورة متوالية ويسألون إن كان لديهم أمر أو عمل يقومون به.

أمّا من هو قائل هذا الكلام؟ فلم تصرّح الآية به ، فمن الممكن أن يكون نداء بواسطة ملائكة الله ، أو أنبيائه ورسله ، أو نداء صادر من داخل ضميرهم الخفي ووجدانهم.

في الحقيقة إنّه نداء إلهي يقول لهؤلاء : لا تفرّوا وارجعوا ، وكان يصل إليهم بإحدى هذه الطرق الثلاث.

__________________

(١) «الركض» يأتي بمعنى ركض الإنسان بنفسه ، أو بمعنى إركاض المركب والدابّة ، ويأتي أحيانا بمعنى ضرب الرجل على الأرض مثل( ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ ) سورة ص ـ ٤٢.

١٣٣

والجميل هنا أنّه قد ركّز على المسكن خاصّة من بين كلّ النعم الماديّة ، وربّما كان ذلك بسبب أنّ أوّل وسائل استقرار الإنسان هو وجود سكن مناسب. أو أنّ الإنسان يصرف أكثر مورد حياته في بيته ، وكذلك فإنّ أشدّ تعلّقه إنّما يكون بمسكنه.

على كلّ حال ، فإنّ هؤلاء يعون في هذا الوقت حقيقة الأمر ، ويرون ما كانوا يظنّونه مزاحا من قبل قد تجلّى أمامهم بصورة جديّة تماما ، فتعلو صرختهم :( قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ ) .

إلّا أنّ هذا الوعي الاضطراري للإنسان عند ما يواجه مشاهد العذاب لا قيمة له ، ولا يؤثّر في تغيير مصير هؤلاء ، ولذلك فإنّ القرآن في آخر آية من الآيات محلّ البحث يضيف :( فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً ) فيلقونهم على الأرض كالزرع المحصود ، وتبدّل مدينتهم التي غمرتها الحياة والحركة والعمران إلى قبور مهدّمة مظلمة ، فيصبحوا( خامِدِينَ ) (١) .

* * *

__________________

(١) خامد من مادّة الخمود ، بمعنى انطفاء النّار ، ثمّ أطلقت على كلّ شيء يفقد حركته وفاعليّته ونشاطه.

١٣٤

الآيات

( وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨) )

التّفسير

خلق السّماء والأرض ليس لهوا :

لمّا كانت الآيات السابقة قد عكست هذه الحقيقة وهي : إنّ الظالمين الذين لا إيمان لهم لا يعتقدون بوجود هدف وغاية من خلقهم إلّا الأكل والشرب والملذّات ، ويظنّون أنّ العالم بلا هدف ، القرآن الكريم يقول في الآيات التي نبحثها من أجل إبطال هذا النوع من التفكير ، وإثبات وجود هدف عال وسام من وراء خلق كلّ العالم ، وخاصّة البشر :( وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ) .

إنّ هذه الأرض الواسعة ، وهذه السّماء المترامية الأطراف ، وكلّ هذه الموجودات المتنوعة البديعة التي توجد في ساحتها تبيّن أنّ هدفا مهمّا في خلقها

١٣٥

... نعم ، إنّ الهدف هو بيان قدرة الخالق الجليل ، وإبراز جانب من عظمته من جهة ، ومن جهة أخرى ليكون دليلا على المعاد ، وإلّا فإنّ كلّ هذه الضجّة والغوغاء إن كانت لبضعة أيّام فلا معنى لها.

هل يمكن أن يبني الإنسان قصرا في وسط صحراء ، ويجهّزه بكلّ الوسائل ، وذلك من أجل أن يستريح فيه ساعة واحدة ـ طول عمره ـ عند مروره عليه؟

بعبارة موجزة : إذا نظرنا إلى هذا العالم العظيم من منظار الكفّار ، فسنراه لا فائدة فيه ولا هدف منه ، والإيمان بالمبدأ والمعاد هو الذي يجعل له معنى وغاية.

ثمّ تقول الآية التالية : الآن وقد ثبت أنّ العالم له هدف فإنّه لا ريب في أنّ الهدف من هذا الخلق لم يكن أن يلهو الله سبحانه وتعالى عن ذلك ، فإنّ هذا اللهو غير معقول ، فـ( لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ ) .

«اللعب» يعني العمل الغير هادف ، و «اللهو» إشارة إلى الأهداف غير المعقولة والملاهي.

هذه الآية تبيّن حقيقتين :

الأولى : أنّه بملاحظة كلمة (لو) ، وهي في لغة العرب للامتناع ، فهي تشير إلى أنّ من المحال أن يكون هدف الله هو اللهو.

والأخرى : إنّه على فرض أنّ الهدف هو اللهو ، فيجب أن يكون لهوا مناسبا لذاته ، كأن يكون من عالم المجردات وأمثال ذلك ، لا من عالم المادّة المحدود(١) .

ثمّ تقول بلهجة قاطعة من أجل إبطال أوهام الجاهلين الذين يظنّون عدم

__________________

(١) اعتبر بعض المفسّرين الآيات إعلاء إشارة إلى نفي عقائد المسيحيين ، أي اعتقدوا أنّ اللهو بمعنى الزوج والزوجة والولد. وقالوا : إنّ الآية تجيب هؤلاء وتقول : إنّنا إذا كنّا نريد أن نختار الصاحبة والولد فلم نكن ننتخبهما من جنس البشر.

إلّا أنّ هذا التّفسير لا يبدو مناسبا من عدّة جهات ، ومن جملتها أنّ ارتباط الآيات أعلاه بالآيات السابقة سينقطع ، والأخرى أنّ كلمة «اللهو» وخاصة إذا كانت بعد كلمة اللعب ، تعني التسليّ لا المرأة والولد.

١٣٦

هدفيّة الدنيا ، بل هي للهو واللعب فقط : إنّ هذا العالم مجموعة من الحقّ والواقع ، ولم يقم أساسه على الباطل( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ ) .

وتقول في النهاية :( وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ) وتتحدّثون عن عدم هدفية الخلق.

أي إنّنا نجعل الأدلّة العقليّة والاستدلالات الواضحة والمعجزات البيّنة إلى جانب ظنون وأوهام اللاهدفيين ، لتتبخّر وتتلاشى هذه الأوهام في نظر العلماء وأصحاب الفكر والرأي.

إنّ أدلّة معرفة الله واضحة ، وأدلّة وجود المعاد بيّنة ، وبراهين أحقيّة الأنبياء جليّة ، والحقّ يمكن تمييزه عن الباطل تماما إذا لم يكن الشخص من المعاندين.

وممّا يستحقّ الانتباه أنّ جملة «نقذف» من مادّة (قذف) بمعنى الإلقاء ، وخاصّة الإلقاء من طريق بعيد ، ولمّا كان للقذف من بعيد سرعة وقوّة أكثر ، فإنّ هذا التعبير يبيّن قدرة انتصار الحقّ على الباطل. وكلمة «على» أيضا مؤيّدة لهذا المعنى.

وجملة «يدمغه» على قول الراغب كسر «الجمجمة والدماغ» ، وتعتبر أكثر نقطة في بدن الإنسان حسّاسيّة ، وهو تعبير بليغ عن غلبة جند الحقّ غلبة واضحة قاطعة.

والتعبير بـ (إذا) توحي بأنّا حتّى في الموارد التي لا ينتظر ولا يتوقّع انتصار الحقّ فيها ، فإنّنا سنجري هذه السنّة. والتعبير بـ «زاهق» والذي يعني الشيء المضمحل ، تأكيد على هذا المقصود.

وأمّا أنّ جملتي (نقذف) و (يدمغ) قد جاء تا بصيغة الفعل المضارع ، فهو دليل على استمرار هذه السنّة.

* * *

١٣٧

بحث

الهدف من الخلق :

في الوقت الذي لا يعترف المادّيون بهدف للخلق ، لأنّهم يعتقدون أنّ الطبيعة الفاقدة للعقل والشعور والهدف هي التي ابتدأت الخلق ، ولهذا فإنّهم يؤيّدون اللغوية وعدم الفائدة في مجموعة الوجود ، فإنّ الفلاسفة الإلهيين وإتباع الأديان جميعا يعتقدون بوجود هدف سام للمخلوقات ، لأنّ المبدئ للخلق قادر وحكيم وعالم ، فمن المستحيل أن يقوم بعمل لا فائدة فيه.

وهنا ينقدح هذا السؤال : ما هو الهدف؟

قد نتوهّم أحيانا نتيجة قياس الله سبحانه على ذواتنا وأنفسنا ونتساءل : هل كان الله محتاجا وينقصه شيء ، وكان يريد بخلق الوجود ، ومن جملته الإنسان ، أن يسدّ ذلك النقص ويرفع تلك الحاجة؟

هل هو محتاج لعبادتنا ودعائنا ومناجاتنا؟ هل كان يريد أن يعرف فخلق الخلق ليعرف؟

إلّا أنّ هذا كما قلنا خطأ كبير ناشئ من المقارنة بين الله وخلقه ، في حين أنّ هذه المقارنة والقياس غير الصحيح هو أكبر سدّ ومانع في بحث معرفة صفات الله ، ولذلك فإنّ أوّل أصل في هذا البحث هو أن نعلم أنّ الله سبحانه لا يشبهنا في أي شيء.

فالإنسان موجود محدود من كلّ النواحي ، ولذلك فإنّ كلّ مساعينا هي من أجل رفع نواقصنا واحتياجاتنا ، ندرس لنتعلّم فنمحو نقص جهلنا ، ونسعى للعمل والكسب لدفع الفقر ونكسب الثروة ، نهيّئ الجيوش والقوى لنسدّ النقص في قوانا أمام العدوّ ، وحتّى في الأمور المعنوية أو تهذيب النفس أو التكامل المعنوي والروحي ، فإنّ السعي والجدّ في كلّ ذلك من أجل رفع النواقص

ولكن ، هل من المعقول أن يقوم الوجود المطلق غير المتناهي في كلّ الجهات

١٣٨

(فعلمه وقدرته وقوّته غير محدودة ، ولا يعاني أي نقص في الوجود) بعمل لرفع حاجته؟

يتّضح من هذا التحليل أنّ الخلق ليس عبثا من جهة ، ومن جهة أخرى فإنّ الهدف من الخلق لا يعود إلى الخالق. وهنا يمكن أن نصل ببساطة إلى نتيجة ، وهي : أنّ الهدف ، حتما وبلا شكّ ، أمر يرتبط بنا.

ومع ملاحظة هذه المقدّمة يمكن التوصّل إلى أنّ هدف الخلقة هو تكاملنا وارتقاؤنا ولا شيء سواه.

وبتعبير آخر فإنّ عالم الوجود بمثابة مدرسة لتكاملنا في مجال العلم.

ودار حضانة لتربية وتهذيب نفوسنا.

ومتجر لكسب الموارد المعنوية ، وأرض زراعية غنيّة صالحة لإنتاج أنواع المحصولات الإنسانية.

أجل «الدنيا مزرعة الآخرة الدنيا دار صدق لمن صدقها ، ودار غنى لمن تزوّد منها ، ودار موعظة لمن اتّعظ بها»(١) .

إنّ هذه القافلة قد تحركت من عالم العدم ، وهي تسير دائما إلى ما لا نهاية له.

ويشير القرآن المجيد إشارات قصيرة عميقة المعنى جدّا في آيات مختلفة إلى وجود هدف معيّن من الخلق من جهة ، ومن جهة أخرى فإنّه يشخّص هذا الهدف ويوضّحه.

فيقول في الجانب الأوّل :( أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً ) (٢) .

( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ ) (٣) .

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، رقم ١٣١.

(٢) القيامة ، ٣٦

(٣) المؤمنون ، ١١٥

١٣٩

( وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ) (١) .

وفي الجانب الآخر ، فإنّه جعل هدف الخلق في بعض الآيات عبودية الله وعبادته :( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) (٢) ، ومن البديهي أنّ العبادة منهج لتربية الإنسان في الأبعاد المختلفة العبادة بمعناها الشمولي التي هي التسليم لأمر الله ستهب روح الإنسان تكاملا في الأبعاد المختلفة ، وقد بيّنا تفصيله في ذيل الآيات المرتبطة بالعبادات المختلفة.

ويقول : أحيانا إنّ الهدف من الخلقة هو إيقاظكم وتوعيتكم وتقوية إيمانكم واعتقادكم:( اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (٣) .

ويقول تارة : إنّ الهدف من الخلق هو اختبار حسن عملكم :( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) (٤) .

إنّ الآيات الثلاث آنفة الذكر والتي يشير كلّ منها إلى بعد من أبعاد وجود الإنسان الثلاث ـ بعد الوعي والإيمان ، وبعد الأخلاق ، وبعد العمل ـ تبيّن هدف الخلق التكاملي الذي يعود على الإنسان نفسه.

ويجدر أن نشير إلى هذه «اللطيفة» ، وهي أنّه لمّا كانت آيات القرآن غير حاوية لكلمة التكامل ، فإنّ بعضا يتصوّر أنّها من الأفكار المستوردة ، إلّا أنّ الردّ على مثل هذا التصّور أو الإشكال واضح ، لأنّنا لسنا في صدد الألفاظ الخاصّة ، فمفهوم التكامل ومصاديقه جليّة في الآيات آنفة الذكر ، ترى ألم يكن العلم مصداقه الواضح أم لم يكن الارتقاء في العبودية وحسن العمل من مصاديقه!

__________________

(١) سورة ص ، ٢٧.

(٢) الذاريات ، ٥٦.

(٣) الطلاق ، ١٢.

(٤) الملك. ٢.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

وما ورد من الآيات الناهية عن الحكم بغير ما أنزل الله ووصف الحاكم بغير ما أنزل الله بالكفر والفسق والظلم(١) ومن المعلوم لزوم مكافحة الكفر والفسق والظلم وهو غير خفيّ على من له أدنى إلمام بالكتاب والسنّة.

كما أنّها مدفوعة بما صح عن النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله من الروايات الناهية عن التعاون مع الظالم وإعانته ومساعدته، منها ما ورد عن كعب بن عجرة عن النبيّ أنّه قال: « اسمعُوا سيكُونُ بعدي اُمراءُ فمن دخل عليهم فصدّقهُم بكذبهم وأعانهُم على ظُلمهم فليس منّي ولستُ منهُ وليس بوارد عليّ [ الحوض ] »(٢) .

وعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « ألا ومن علّق سوطاً بين يدي سُلطان جعل الله ذلك السّوط يوم القيامة ثُعباناً من النّار طولُهُ سبعون ذراعاً يُسلّطهُ الله عليه في نار جهنّم وبئس المصير »(٣) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً أنّه قال: « إذا كان يوم القيامة نادى مناد أين أعوانُ الظلمة ومن لاق لهُم دواة، أو ربط لهُم كيساً، أو مدّ لهُم مدّة قلم، فاحشُرُوهُم معهُم »(٤) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « من خفّ لسُلطان جائر في حاجة كان قرينهُ في النّار »(٥) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما اقترب عبد من سُلطان جائر إلّا تباعد من الله »(٦) .

وعن الإمام جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام أنّه قال: « من أحبّ بقاء الظالمين فقد أحبّ أن يُعصي الله »(٧) .

__________________

(١) المائدة: ٤٤ و ٤٥ و ٤٧.

(٢) جامع الأصول ٤: ٧٥، نقلاً عن الترمذيّ والنسائيّ.

(٣) وسائل الشيعة ١٢: ١٣٠، الباب ٤٢ من أبواب ما يكتسب به حديث ١٠.

(٤) وسائل الشيعة ١٢: ١٣٠، الباب ٤٢ من أبواب ما يكتسب به، حديث ١١.

(٥) وسائل الشيعة ١٢: ١٣٠، الباب ٤٢ من أبواب ما يكتسب به، حديث ١٤.

(٦) وسائل الشيعة ١٢: ١٣٠ حديث ١٢.

(٧) وسائل الشيعة ١٢: ١٣٤، حديث ٥.

٣٢١

وعنهعليه‌السلام أنّه قال: « من سُوّد اسمهُ في ديوان الجبّارين حشرهُ الله يوم القيامة حيراناً »(١) .

وعنهعليه‌السلام أنّه قال: « من مشى إلى ظالم ليُعينهُ وهو يعلمُ أنّهُ ظالم فقد خرج عن الإسلام »(٢) .

وعن الإمام الصادق جعفر بن محمّدعليه‌السلام أنّه قال: « ما أحبُّ أنّي عقدت لهم عقدةً أو وكيت لهم وكاء وأنّ لي ما بين لابتيها لا ولا مدّة بقلم، إنّ أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتّى يفرغ الله من الحساب »(٣) .

وغيرها من عشرات الأحاديث والروايات الواردة من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته المعصومين ممّا وردت في كتب الحديث، الناهية عن السكوت على الحاكم الجائر، والحاثّة على زجره ودفعه، والإنكار عليه بكل الوسائل الممكنة المتاحة ممّا يدلّ على أنّ الأحاديث التي تحثّ على السكوت عن الحاكم الظالم، والانصياع لحكمه والتسليم لظلمه والرضا بجوره ممّا أوعزت السلطات الحاكمة به في تلك العصور المظلمة، فلفّق البعض هذه الروايات والأحاديث ونسبوها إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو منها براء لمعارضتها الصريحة لمبادئ الكتاب والسّنة.

ولو لم يكن في المقام إلّا قول الإمام عليّعليه‌السلام في خطبته: « وما أخذ الله على العُلماء أن لا يُقارُّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم الخ »(٤) .

لكفى في وهن تلك الروايات المفتعلة على لسان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وبما أنّ هذا البحث واضح لكلّ مسلم يحمل بين جنبيه الحريّة ويفكّر في العدل الإسلاميّ طوينا البحث عن بعض ما ورد في هذا المجال.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٢: ١٣٤ حديث ٦.

(٢) وسائل الشيعة ١٢: ١٣١ حديث ١٥.

(٣) وسائل الشيعة ١٢: ١٢٩ حديث ٦.

(٤) نهج البلاغة: الخطبة ٣.

٣٢٢

٣

السلطة القضائيّة

دور القضاء والسلطة القضائيّة :

يحتلّ القضاء، وفصل الخصومات بين الناس دوراً عظيماً، ومكانة حسّاسة في أي مجتمع بشريّ، لأنّ عليه وعلى كيفيّته تتوقّف سلامة المجتمع، واستتباب الأمن، واستقرار العدل، وصيانة الحقوق والحريّات، والحرمات وبالتالي يقوم التوازن الاجتماعيّ.

إنّ القضاء مرتبط بالعدالة، فإن صلح شاعت العدالة وانتعشت، وأمن الناس على أرواحهم وأموالهم وأعراضهم، وصلح أمر الدولة، والناس جميعاً. وإن فسد القضاء اختفت العدالة وباختفائها تعم الفوضى وينتشر الفساد، ولا يأمن الناس على أنفسهم، فتضيع هيبة الدولة، ويتقلّص سلطانها، إنذاراً لها بالنزوال والاندحار.

إنّ القضاء يلعب دوراً كبيراً في تبديل الاختلاف إلى الوئام، وفي تحويل التنازع والتصارع إلى التوافق والتقارب الذي يحتاج إليه كلّ مجتمع إنسانيّ ينشد السعادة والطمأنينة والأمن.

٣٢٣

عوامل التنازع وأسبابه :

لم يزل المجتمع البشريّ ـ منذ تكوّنه وانضمام فرد إلى فرد آخر ـ تلازم حياته التشاجر والاختلاف والتنازع بين أفراده، وقد شهد بذلك التاريخ، وبرهنت عليه الوقائع المحسوسة، ثمّ إنّ هذا الاختلاف لا ينشأ ـ غالباً ـ إلّا من أمرين :

١. الحرص الشديد على جلب الأموال والمنافع والحقوق، الذي يلازم البعد عن المعنويّات والمثل الإنسانيّة، فإنّ حرص كلّ واحد من أفراد النوع الإنسانيّ على أن يجلب المنافع العاجلة العابرة لنفسه ينسيه الجوانب المعنويّة والمثل النبيلة وذلك بدوره يجرّ إلى التعدّي على مصالح الآخرين وحقوقهم ومنافعهم حيث لا إيمان يردع عن ذلك، ولا مكارم أخلاق تحدّ من تلك النزعة الجامحة.

٢. الاختلاف في تشخيص الحقّ، فربّما يتنازع فردان لا للحرص الشديد بل للاختلاف في تشخيص ( الحقّ ) فكلّ واحد منهما يعتقد ـ اعتقاداً جازماً ـ بأنّ الحقّ هو ما يراه دون غيره.

وربّما يبلغ الطرفان المختلفان المتنازعان ـ مع ذلك ـ أقصى درجات التقوى وحسن النية والفضيلة، ولكن جهلهما بالحقّ دفعهما إلى ذلك الاختلاف والتنازع، ولا ريب أنّ بقاء الاختلاف في المجتمع يشكّل خطراً كبيراً على أمنه واستقراره وسلامته ؛ إذ قد يؤدي إلى العدوان، وتأجّج نيران البغضاء والضغينة بين المتخاصمين المختلفين، وربما اُريقت ـ في هذا السبيل ـ دماء كثيرة. واُهدرت أموال طائلة، وضاعت أغراض شريفة ليس إلّا لاُمور حقيرة لا تستأهل كل تلك التبعات والعواقب. ومن أجل ذلك حثّ القرآن الكريم على سدّ باب الاختلاف وقطع دابره من الجذور وحثّ المسلمين على الإصلاح بين المتنازعين إذ قال:( وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ) ( الأنفال: ١ ).

وقال الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام نقلاً عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه كان يقول :

٣٢٤

« صلاحُ ذات البين أفضلُ من عامّة الصّلاة والصّيام »(١) .

بيد أنّ حلّ الاختلاف يتصوّر بوجوه هي :

إمّا بإخضاع القضيّة لسلاح القوّة، ومنطق الغلبة الذي عبّر عنه المثل السائر بقوله: ( الحقُ لمن غلب ) فيكون الغالب هو المحقّ ولكن هذا ممّا لا يقبله ذو وجدان سليم ولا يرضاه عقل ولا دين.

أو بإخضاع القضيّة لعامل الدعاية والتبليغ الكاذب، وإرغام الطرف الآخر على القبول بما يخالفه انخداعاً وتضليلاً، وهو كذلك أمر يرفضه الدين.

أو يترك الأمر لعامل الزمن ليتجلّى الحقّ بمرور الأيام وتوالي الشهور ومضي السنين والأعوام وهو أمر لا تحتمله الحياة الاجتماعيّة التي تتطلّب الحلول العاجلة لمشكلاتها والمعالجة السريعة لآلامها

أو يترك الأمر حتّى يتعب المتنازعان فيكفّا عن المطالبة، أو يخلّي أحدهما الآخر، ليبطل الحقّ، ويعود باطلاً، ويعود الباطل حقّاً. وهو أمر يرفضه الإسلام كذلك إذ يقول الإمام عليّعليه‌السلام : « الحقُّ القديم لا يبطله شيء ».

ولقد اتّخذ الإسلام طريقاً خامساً، وهو الذي ندبت إليه الشرائع السماويّة السابقة وتقتضيه سنّة الحياة وضرورات المجتمع ألا وهو حثّ المتنازعين على الرجوع إلى أهل الصلاح والتحاكم إليهم، والخضوع لقضائهم وحكمهم ليرتفع التنازع ويعود المتخاصمون اخوة متحابّين، ويتخلّص المجتمع من أخطار الاختلاف والتنازع. ولأجل مثل هذا الدور كانت السلطة القضائيّة الركن الثالث والأساسيّ من أركان الحكومات قديماً وحديثاً، وكان لها من الأهميّة والمكانة ما ليس لغيرها من أركان الحكومة.

ولأجل ذلك أيضاً كان للقضاء والسلطة القضائية مكانة مرموقة في النظام

__________________

(١) نهج البلاغة: ـ قسم الكتب ـ ٤٧.

٣٢٥

الإسلاميّ لم يسبق لها مثيل في العهود والأنظمة السابقة واللاحقة ؛ حيث سنّ له ولها اُصولاً وقواعد واُسساً وبرامج فريدة في نوعها، وعظيمة في محتوياتها.

فلقد وضع القرآن الكريما اُسس القضاء وشيّد الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله إركانه وبنيانه وبين خلفاؤه المعصومون تفاصيله، وجزئياته، وحدوده وأحكامه.

القضاء والحكومة لله خاصّة

ولمّا كان القضاء ملازماً للتصرّف في أموال الناس وأنفسهم وأعراضهم احتاج إلى ولاية حقيقيّة وحيث لم تكن الولاية الحقيقيّة إلّا لله تعالى خاصّة ؛ كان القضاء أحد الحقوق المختصة به سبحانه دون سواه، فلا ولاية لأحد على أحد في هذه الشؤون، ولهذا قال سبحانه:( إِنِ الحُكْمُ إلّا للهِ يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ) ( الأنعام: ٥٧ ).

وقال:( إِنِ الحُكْمُ إلّا للهِ ) ( يوسف: ٤٠ )(١) .

إلى غير ذلك من الآيات التي تحصر حقّ الحكومة ( الشاملة للقضاء وغيره ) بالله سبحانه وحده لانحصار الولاية الحقيقيّة فيه دون سواه.

وقد عهد الله سبحانه بممارسة هذا الحق إلى أنبيائه وأوصيائهم سواء أكانوا أوصياء بالاسم والشخص، أم بالرسم والوصف.

فالقضاة المنصوبون من ناحية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أو أوصيائهم قضاة منصوبون بالاسم والشخص وأمّا الذين يتعاهدون القضاء ـ زمن عدم التمكّن من الأوصياء والأئمّة ـ قضاة منصوبون بالرسم والوصف. كما نرى ذلك من رواية مقبولة لعمر بن حنظلة حيث قال الصادق الإمام جعفر بن محمّدعليه‌السلام له: « من تحاكم إليهم(٢) في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطّاغُوت، وما يحكُمُ لهُ فإنّما يأخُذُ سُحتاً وإن كان حقّاً ثابتاً لهُ ،

__________________

(١) ولم نذكر الآية المشابهة (٦٧) في تلك السورة لأنّها ناظرة إلى معنى تكوينيّ.

(٢) المراد قضاة الجور.

٣٢٦

لأنّهُ أخذهُ بحُكم الطّاغُوت وما أمر الله أن يُكفر به. قال الله تعالى:( يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ ) ( النساء: ٦٠ ) ».

ولـمـّا قال: فكيف يصنعان ؟ قالعليه‌السلام : « ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثناً ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخفّ بحكم الله، وعلينا ردّ، والرادّ علينا كالرّادّ على الله وهو على حدّ الشّرك بالله الحديث »(١) .

وما ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام نفسه برواية أبي خديجة سالم بن مكرم الجمّال أنّه قال: « إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم، فإنّي قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه »(٢) .

هذا وقد كان طبيعياً أن يحكم هؤلاء القضاة العدول ويقضوا ويفصلوا في الخصومات وفق منهج الله تعالى وتعاليمه وأحكامه في مجال القضاء، لا بما تهواه أنفسهم أو ما يشاؤه المتخاصمون المتحاكمون.

ولذلك أنزل الله الشرائع والكتب والرسالات على الأنبياء وأمرهم أن يحكموا بين الناس بما فيها من الحقّ والقسط فقال تعالى:( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) ( الحديد: ٢٥ ).

وقال سبحانه:( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا ) ( المائدة: ٤٤ ).

وقال تعالى ـ وهو يوصي داود نبيّه ـ أن يحكم بالحق:( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ (٣) بِالحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨: باب ١١ من أبواب صفات القاضي / الحديث (١).

(٢) وسائل الشيعة ١٨: باب ١ من أبواب صفات القاضي / الحديث (٥) ويقرب منه ما نقل عنه في الباب ١١ / الحديث (٦).

(٣) المراد من الحكومة أعمّ من الولاية والقضاء.

٣٢٧

يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الحِسَابِ ) ( ص: ٢٦ ).

كما أمر الله تعالى المقتفين أثر المسيح أن يحكموا بما في الانجيل إذ قال:( وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) ( المائدة: ٤٧ ).

وبيّن سبحانه أثر الحكم بما في التوراة والانجيل وثمرته بقوله:( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ) ( المائدة: ٦٦ ).

وقد أمر الله سبحانه نبيّه الأكرم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله بالقضاء بالقسط والعدل إذ قال:( وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) ( المائدة: ٤٢ ).

وقال سبحانه:( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) ( المائدة: ٤٨ ).

ولم يكتف سبحانه بذلك بل أمر الاُمّة الإسلاميّة ودعاها إلى أن تقضي بالحق والعدل والقسط إذ قال:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ) ( النساء: ٥٨ ).

وأمرها بأن لا يحملها شنآن قوم على التخلّي عن العدل، والتقاعس عن إجرائه إذ قال:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ إلّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ( المائدة: ٨ ).

بل وأمر المسلمين باتّخاذ جانب العدل ليس في مجالات القضاء وحدها بل في كلّ مجالات الحياة، حتّى في النطق والكلام إذ قال:( وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ) ( الانعام: ١٥٢ ).

وصفوة الكلام أنّ الآيات التي مرّت عليك تثبت ـ بجلاء ودون إبهام ـ أنّ

٣٢٨

القضاء حقّ خاصّ بالله سبحانه، وقد عهد به إلى الأنبياء، وأوصيائهم، ومن أقاموه لذلك المنصب، وجعل كتبه ورسالاته مناهج لهم، ليحكموا بما فيها، ويقضوا بين المتنازعين والمتخاصمين على ضوء تعاليمها وأحكامها.

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يمارس القضاء

ولقد عهد الله بالقضاء إلى النبيّ محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله فيما عهد إليه، كما عرفت ذلك من خلال الآيات التي مرّت عليك آنفاً، وقد تولّىصلى‌الله‌عليه‌وآله بنفسه حلّ الخصومات والحكم بين الناس على ضوء ما أُنزل إليه من القرآن وأحكامه، بل وعيّن ـ في زمنه ـ رجالاً صالحين للقضاء وفصل الخصومات، قال الإمام عليّعليه‌السلام : « بعثني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى اليمن قاضياً، فقُلتُ يا رسول الله: تُرسلُني وأنا حديثُ السّنّ ولا علم لي بالقضاء ؟

فقال: إنّ الله سيهدي قلبك ويُثبتُ لسانك، فإذا جلس بين يديك الخصمان، فلاتقضي حتّى تسمع من الآخر كما سمعت من الأوّل فإنّه أحرى أن يتبيّن لك القضاء.

قال: فما زلت قاضياً. ( أو ) ما شككت في قضاء بعد »(١) .

كما قد بعثصلى‌الله‌عليه‌وآله معاذاً إلى اليمن وقال له: « كيف تقضي إذا عرض لك قضاء ؟ »، قال: أقضي بكتاب الله الى آخر الحديث(٢) .

وبذلك نعلم أنّ ما كتبه بعض المتأخّرين من أنّه لم يعرف القضاء في العهد النبويّ ولا في عهد الخلفاء، بل هو شيء جديد أسّسه الأمويون في الشام، أمّا قبل ذلك فإنّ العرب كانت في خلافاتها ترجع إلى طريقة التحكيم(٣) ، فهو إمّا جهل بتاريخ الإسلام، أو افتراء واضح البطلان يقف عليه كلّ من له أقلّ إلمام بالكتاب والسنّة، وما

__________________

(١) جامع الاُصول ١: ٥٤٩، أخرجه أبو داود والترمذيّ.

(٢) جامع الاُصول ١٠: ٥٥١

(٣) النظام السياسيّ: ١٢٩، نقلاً عن كتاب عبقريّة الإسلام في اُصول الحكم.

٣٢٩

ورد فيهما من الآيات والأحاديث في مختلف أبواب القضاء بحيث يصعب لنا نقل فهرستها، فضلاً عن ذكر نصوصها(١) .

ثمّ إنّ نظرة واحدة إلى القرآن الكريم تفنّد هذا الزعم الباطل فلاحظ الآيات ٤٠ إلى ٦٠ من سورة المائدة فهي في معرض ذكر الأحكام المتعلّقة بالقضاء والفصل في الخصومات وأحكام القصص والحدود.

كيف يحقّق القضاء أهدافه ؟

إنّ أهمّ أمر في القضاء والسلطة القضائيّة هو أن تحقّق هذه السلطة غرضها وهدفها الأساسيّ في إشاعة العدل وإقامة القسط في المجتمع، بحيث يحسّ كلّ فرد من أفراد المجتمع بالأمن على نفسه وماله وعرضه في ظلّ ما توفّره السلطة القضائيّة له من عدالة شاملة لا يشوبها ظلم ولا عدوان ولا يتخلّلها حيف ولا تجاوز.

إنّ وصول السلطة القضائيّة إلى هذا الهدف الأساسيّ يتحقّق بأربعة اُمور :

١. صلاحيّة القاضي وأهليّته للقضاء.

٢. استقلاله الماليّ والسياسيّ.

٣. رعايته لآداب القضاء.

٤. أن تكون لديه برامج حقوقيّة وجزائيّة عادلة للقضاء وفقها، وهي بأجمعها متوفّرة في النظام الإسلاميّ وإليك تفصيل ذلك :

١. صلاحيّة القاضي وأهليّته للقضاء

إنّ أهمّ عامل يمكّن السلطة القضائيّة من أداء دورها الخطير في المجتمع هو

__________________

(١) وقد جمع أحمد بن حنبل في مسنده قضايا النبيّ ٥: ٣٢٦، ونقل جملة منها الجزريّ في كتابه جامع الاُصول ١٠: ٥٦٥.

٣٣٠

صلاحيّة القاضي، وتوفّر الشروط المؤهّلة للقضاء فيه.

ولقد اشترط الإسلام في القاضي شروطاً وأوصافاً لم يسبق لها مثيل في تاريخ القضاء وهذه الصفات هي :

١. البلوغ.

٢. العقل.

٣. الإيمان.

٤. العدالة.

٥. طهارة المولد.

٦. العلم بالقانون.

٧. الذكورة.

٨. أن يكون ظابطاً سليم الذاكرة فلو غلب عليه النسيان لم يجز نصبه للقضاء(١) .

ولقد شدّد الإسلام على خطورة منصب القضاء، وجسامة مسؤوليّة القاضي ومقامه فقد ورد عن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « القضاة ثلاثة: واحد في الجنّة واثنان في النّار

فأمّا الذّي في الجنّة فرجل عرف الحقّ وقضى به.

ورجل عرف الحقّ فجار في الحكم فهو في النّار.

ورجل قضى للنّاس على جهله فهو في النّار »(٢) .

ورفع إلى أبي عبد الله الإمام الصادقعليه‌السلام قوله: « القضاة أربعة، ثلاثة في النّار وواحد في الجنّة :

رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النّار.

__________________

(١) راجع شرائع الإسلام للمحقّق الحليّ كتاب القضاء في الصفات.

(٢) جامع الاُصول ١٠: ٥٤٥ نقلاً عن أبي داود.

٣٣١

ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النّار.

ورجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم فهو في النّار.

ورجل قضى بالحقّ وهو يعلم فهو في الجنّة »(١) .

وقال الإمام عليّعليه‌السلام عن من يتصدّى لمقام القضاء وليس له أهل: « ورجل قمش جهلاً، موضع في جهال الاُمّة، غار في أغباش الفتنة، عمّ بما في عقد الهدنة، قد سمّاه أشباه النّاس عالماً وليس به، بكر فاستكثر من جمع ما قلّ منه خير ممّا كثر جلس بين النّاس قاضياً ضامناً لتخليص ما التبس على غيره فإن نزلت به إحدى المبهمات هيّأ لها حشواً رثّاً من رأيه ثمّ قطع به فهو من لبس الشُّبهات في مثل نسج العنكبوت لا يدري أصاب أم أخطأ »(٢) .

وقال الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام مشيراً إلى حراجة موقف القاضي، وصعوبة إجراء الحق والعدل الذي هو هدف القضاء الإساسيّ: « الحقُّ أوسع الأشياء في التّواصف وأضيقها في التناصف »(٣) .

إنّ القضاء ليس شيئاً بسيطاً عادياً بل هو أمر مهمّ حتّى في أبسط الأشياء فقد روي أنّ صبيّين تحاكما إلى الإمام الحسن بن عليّعليه‌السلام في خطّ كتباه وحكّماه في ذلك ليحكم أي الخطّين أجود فبصر به عليّعليه‌السلام فقال: « يا بنيّ انظر كيف تحكم فإنّ هذا حكم، والله سائلك عنه يوم القيامة »(٤) .

وقد وقع نظير هذه القضية للإمام عليّعليه‌السلام نفسه فقد روى الإمام أبو عبد الله الصادقعليه‌السلام أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام ألقى صبيان الكتاب ألواحهم بين يديه ليخيّر بينهم فقال: « أما إنّها حكومة والجور فيها كالجور في الحكم، أبلغوا معلّمكم إن ضربكم فوق ثلاث ضربات في الأدب اقتصّ منه »(٥) .

__________________

(١ و ٥) وسائل الشيعة ١٨: ١١ و ٥٨٢.

(٢ و ٣) نهج البلاغة: الخطبة ١٧، ٢١٦.

(٤) مجمع البيان٣: ٦٤ في تفسير قوله:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ ) .

٣٣٢

ولذلك قال النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « لسانُ القاضي بين جمرتين من نار حتّى يقضي بين الناس فإمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النّار »(١) .

كما لذلك أيضاً اشترط الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام على القاضي شُريح أن لا ينفذ قضاء حتّى يعرضه عليه قال الإمام الصادقعليه‌السلام : « لـمّا ولّى أمير المؤمنينعليه‌السلام شريحاً القضاء اشترط عليه أن لا يُنفذ القضاء حتّى يعرضهُ عليه »(٢) .

ومن هنا أكد الإمام عليّعليه‌السلام على الأشتر واليه على مصر، في عهده المعروف، أن يختار من يريدهم لمنصب القضاء، اختياراً دقيقاً بقوله: « ثمّ اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك ممّن لا تضيق به الاُمور، ولا تمحكه الخصوم ولا يتمادى في الزّلّة ولا يحصر من الفيء إلى الحقّ إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، وأوقفهم في الشّبهات، وآخذهم بالحجج وأقلّهم تبرُّماً بمراجعة الخصم وأصبرهم على تكشّف الاُمور، وأصرمهم عند اتّضاح الحكم، ممّن لا يزدهيه إطراء، ولا يستميله إغراء، واُولئك قليل، ثمّ أكثر تعاهد قضائه »(٣) .

ولخطورة مقام القضاء لا يجوز إلّا للنبيّ أو وصيّه، كما قال الإمام عليّعليه‌السلام لشريح: « يا شريح قد جلست مجلساً لا يجلسه ( ما جلسه ) إلّا نبيّ أو وصيّ نبيّ، أو شقيّ »(٤) .

وورد عن الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام قوله: « اتّقوا الحُكومة ( أي القضاء ) إنّما هي للإمام العادل العالم بالقضاء العادل في المسلمين لنبيٍّ ( كنبيّ ) أو وصيّ(٥) نبيّ »(٦) .

* * *

٢. إستقلال القاضي الماليّ والسياسيّ

إنّ القاضي بما أنّه يتحمّل مسؤوليّة كبيرة وخطيرة لا مشابه لها بين أقرانها من

__________________

(١ و ٢ و ٤) وسائل الشيعة ١٨: ١١، ٦، ٧.

(٣) نهج البلاغة: قسم الكتب ٥٣.

(٥) المراد بالوصيّ هو الأعم من الوصيّ المنصوص عليه بالاسم فيشمل المنصوص عليه بالوصف، أي الذي جمع صفات القاضي المعتبرة في الإسلام.

(٦) وسائل الشيعة ١٨: ٧.

٣٣٣

المسؤوليّات والمناصب الاُخرى، يجب أن يكون مستقلاًّ في عمله غاية الاستقلال، لكي لا يخضع لما يميل به عن العمل بمسؤوليّته ويقتضي ذلك أن يكون مستقلاًّ في اقتصاده عن الآخرين كيلا يقع فريسة الأطماع، ولقد أدرك الإسلام هذه الناحية الحسّاسة فأمر الحكومة الإسلاميّة بالإغداق على القاضي إغداقاً يقطع طمعه عمّا في أيدي الآخرين، يقول الإمام عليّعليه‌السلام في عهده للأشتر النخعيّ في هذا الصدد: « وافسح لهُ ( أي للقاضي ) في البذل ما يزيل علّته، وتقلُّ معه حاجته إلى الناس »(١) .

ولكنّ هذا الاستقلال لا يكفي إذا لم ينضمّ إليه استقلال القاضي من أي تأثير خارجيّ سياسيّ عليه، ومن أيّة تدخّلات صادرة عن السلطات الاُخرى في عمله القضائي فإنّ القاضي يجب أن يُترك وشأنه حتّى يستجلّي الحقّ بنفسه دون مؤثرات خارجيّة ولا تدخلات في عمله ولذلك قال الإمام عليّعليه‌السلام في عهده للأشتر النخعيّ، في هذا الصدد: « واعطه من المنزلة لديك ملا يطمعُ فيه غيرهُ من خاصّتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال لهُ عندك فانظر في ذلك نظراً بليغاً »(٢) .

والمقصود هو أن يكون للقاضي موضعاً غير متأثّر بأحد ليقضي بالحقّ، ويفصل في الخصومات، ويصدر الأحكام غير متهيّب ولا متأثّر وهذا هو ما يصطلح عليه السياسيّون اليوم باستقلال السلطة القضائيّة، وتفكيكها عن بقية السلطات.

ولقد نبّه إلى هذا فقهاؤنا العظام استلهاماً ممّا لديهم من تعاليم الشريعة المقدّسة في هذا المجال، قال المحقّق النائينيّ ( المتوفّى عام ١٣٥٥ ه‍ ) :

( إنّ ولاية الحاكم ترجع إلى قسمين: الأوّل الاُمور السياسيّة، التي ترجع إلى نظم البلاد وانتظام اُمور العباد، والثاني الإفتاء والقضاء، وكان هذان المنصبان في عصر النبيّ والأميرعليه‌السلام بل في عصر الخلفاء الثلاثة لطائفتين وفي كل بلد أو صقع كان الوالي غير القاضي فصنف كان منصوباً لخصوص القضاء والإفتاء وصنف كان منصوباً لإجراء الحدود ونظم البلاد والنظر في مصالح المسلمين، نعم اتّفق إعطاء كلتا الوظيفتين

__________________

(١) نهج البلاغة: قسم الكتب الرقم ٥٣.

(٢) نهج البلاغة: قسم الكتب الرقم ٥٣.

٣٣٤

لشخص واحد لأهليّته لهما إلّا أنّ الغالب اختلاف الوالي والقاضي )(١) .

ولقد أعطى الإمام عليّعليه‌السلام وهو إمام المسلمين على الإطلاق، والحاكم الأعلى للاُمّة الإسلاميّة مثلاً عمليّاً على هذا الاستقلال القضائيّ السياسيّ حيث مكّن القاضيّ ـ بفضل هذا السلوك الإسلاميّ ـ من محاكمة حاكم المسلمين وأحد رعاياه في محكمة واحدة وذلك في قضيّة اليهودي مع الإمام عليّعليه‌السلام :

فقد نقل المؤرّخون أنّهعليه‌السلام لـمّا وجد درعه عند يهودي من عامّة الناس فأقبل به إلى أحد القضاة وهو شريح ليخاصمه ويقاضيه، ولـمّا كان الرجلان أمام القاضي قال عليّ: « إنّها درعي ولم أبع ولم أهب ». فسأل القاضي الرجل اليهوديّ ما تقول ؟ فقال اليهوديّ: ما الدرع إلّا درعي، وما أمير المؤمنين عندي بكاذب وهنا التفت القاضي شريح إلى عليّ يسأله: هل من بيّنة تشهد أنّ هذه الدرع لك ؟ فضحك عليّ وقال « مالي بيّنة » فقضى شريح بالدرع لليهوديّ، فأخذها ومشى وأمير المؤمنين ينظر إليه ! إلّا أنّ الرجل لم يخط خطوات قلائل حتّى عاد يقول :

إمّا أنا فأشهد أنّ هذا أحكام أنبياء، أمير المؤمنين يدينني إلى قاض يقضي عليه ثمّ قال: الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين وقد كنت كاذباً فيما ادّعيت(٢) .

* * *

٣. رعاية آداب القضاء وكيفيّته

إنّ الإسلام لم يكتف بالتشديد على أهميّة القضاء، واعتبار صفات معيّنة في القاضي، بل سنّ للعمل القضائيّ آداباً وسنناً أكّد على القاضي الأخذ بها في قضائه ليسلم من شوائب الظلم والحيف، ويكون أقرب إلى الإنصاف والحقّ والعدل، وقد لخّص فقهاؤنا هذه الآداب التي ذكرتها الأحاديث المتواترة، في كتبهم الفقهيّة نشير إليها.

__________________

(١) راجع منية الطالب ١: ٣٢٥.

(٢) بحار الأنوار ٤١: ٥٦، عليّ وحقوق الإنسان: ٨٧، ٨٨ لجورج جرداق مع اختلاف يسير.

٣٣٥

قال المحقّق في شرائع الإسلام كتاب القضاء :

في الآداب [ أي آداب القضاء ] وهي قسمان مستحبّة ومكروهة، فالمستحبّة :

١. أن يطلب من أهل ولايته من يسأله عمّا يحتاج إليه في اُمور بلده.

٢. أن يسكن عند وصوله في وسط البلد لترد الخصوم عليّه وروداً متساوياً.

٣. أن يجلس للقضاء في موضع بارز مثل رحبة أو فضاء ليسهل الوصول إليه.

٤. أن يحضر من أهل العلم من يشهد حكمه فإن أخطأ نهوه لأنّ المصيب عندنا واحد ويخاوضهم [ أي يطرح عليهم القضايا ويتبادل معهم الرأي ] فيما يستبهم من المسائل النظريّة لتقع الفتوى مقرّرة، ولو أخطأ فأتلف لم يضمن وكان على بيت المال.

٥. وإذا تعدّى أحد الغريمين سنن الشرع عرّفه خطأه بالرفق.

والآداب المكروهة :

١. أن يتخذ حاجباً وقت القضاء.

٢. أن يقضي وهو غضبان.

٣. وكذا يكره مع كلّ وصف يساوي الغضب في شغل النفس كالجوع والعطش والغمّ والفرح والوجع، ومدافعة الأخبثين، وغلبة النعاس

٤. أن يستعمل الانقباض [ والتقطيب في الوجه ] المانع من الإعلان عن الحجّة، وكذا يكره إظهار اللين الذي لا يؤمن معه من جرأة الخصوم.

ثمّ ذكر مسائل من شأنها حصول الدقة في العمل القضائيّ كقوله :

إذا أفتقر الحاكم إلى مترجم لم يقبل إلّا شاهدان عدلان ولا يقتنع بالواحد عملاً بالمتّفق عليه.

وإذا اتخذ القاضي كاتباً وجب أن يكون بالغاً عاقلاً مسلماً عدلاً بصيراً ليؤمن انخداعه، وإن كان فقيهاً كان حسناً.

٣٣٦

ويكره للحاكم أن يعنّت الشهود إذا كانوا من ذوي البصائر والأديان القويمة ؛ مثل أن يفرق بينهم لأنّ في ذلك غضّاً منهم، ويستحب ذلك في وضع الريبة.

ولا يجوز للحاكم أن يتعتع الشاهد وهو أن يداخله في التلفّظ بالشهادة أو يتعقّبه بل يكفّ عنه حتّى ينهي ما عنده.

ويكره أن يضيف القاضي أحد الخصمين دون صاحبه، لأنّ ذلك يكسب الخصم الضيف شيئاً من القوة.

ثمّ قال عن الرشوة: الرشوة حرام على آخذها، ويأثم الدافع إن توصّل بها إلى الحكم له بالباطل، ولو كان إلى حقّ لم يأثم ويجب على المرتشي إعادة الرشوة إلى صاحبها ولو تلفت قبل وصولها إليه ضمنها له.

ثمّ ذكر المحقّق الحليّ اُموراً في وظائف القاضي فقال: في وظائف القاضي وهي سبع :

الاُولى: التسوية بين الخصمين في السلام والجلوس والنظر والكلام والإنصات والعدل في الحكم.

الثانية: لا يجوز أن يلقّن أحد الخصمين ما فيه ضرر على خصمه.

الثالثة: يكره أن يواجه بالخطاب أحدهما لما يتضمّن من إيحاش الآخر.

الرابعة: إذا ترافع الخصمان وكان الحكم واضحاً لزمه القضاء، ويستحبّ ترغيبهما في الصلح، فإن أبيا حكم بينهما وإن أشكل أخّر الحكم حتّى يتّضح ولا حدّ للتأخير إلّا الوضوح.

الخامسة: إذا ورد الخصوم [ في المحكمة ] مترتّبين بدأ بالأوّل فالأوّل فإن وردوا جميعاً قيل يقرع بينهم.

السادسة: إذا قطع المدّعى عليه دعوى المدّعي بدعوى، لم تسمع حتّى يجيب عن الدعوى وينهي الحكومة ثمّ يستأنف هو.

٣٣٧

السابعة: إذا بدر أحد الخصمين بالدعوى فهو أولى.

وهناك اُمور ذكرها على صعيد عمل القاضي جديرة بالمطالعة نترك ذكرها رعاية للإختصار.

وما ذكره هذا المحقّق وغيره من الفقهاء في آداب القضاء ووظائف القاضي ؛ خلاصة نصوص صريحة وردت في هذه المجالات عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته وقد اكتفينا بنقل ما ذكره الفقهاء في كتبهم تاركين نقل النصوص رعاية للإيجاز لكنّنا تيمّناً نذكر بعض هذه الأحاديث :

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « من ابتُلي بالقضاء فلا يقضي وهو غضبان »(١) .

وقال أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام لشريح: « لا تُشاور [ أو لا تسار ] أحداً في مجلسك، وإن غضبت فقم ولا تقضينّ وأنت غضبان »(٢) .

وقالعليه‌السلام : « من ابتلي بالقضاء فليواس بينهم في الإشارة وفي النّظر وفي المجلس »(٣) .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأوّل حتّى تسمع من الآخر فإنّك إذا فعلت ذلك تبيّن لك القضاء »(٤) .

وعن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال: « الرشا في الحكم هو الكفر بالله »(٥) .

إلى غير ذلك من الأحاديث المتواترة على هذا الصعيد.

* * *

٤. وجود البرامج الحقوقيّة والجزائيّة الصالحة

إنّ الأمر الرابع الذي يمكّن السلطة القضائيّة من أداء دورها الحسّاس والخطير في المجتمع هو وجود البرامج الحقوقيّة والجزائيّة الصالحة للقضاء لكي يقضي القاضي

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨: ١٥٦ ومثله في جامع الاُصول ١٠: ٥٤٩.

(٢ و ٣ و ٤ و ٥) الوسائل ١٨: أبواب آداب القضاء.

٣٣٨

وفقها.

وقد وفّر الإسلام هذه البرامج والقوانين العادلة الصالحة للقاضي وذلك بالتعاليم التي زخر بها الكتاب والسنّة وسيرة الأئمّة الطاهرين، ودوّنها الفقهاء في كتبهم الفقهيّة المفصّلة بدقّة وعناية وتفصيل. فإنّ القاضي يجد في هذه المصادر والبرامج أدقّ الحقوق والحدود وأعدلها، ولو أخذ العالم في مجال القضاء بهذه البرامج والحقوق والحدود لعمّت العدالة كلّ أرجاء الأرض، ولساد السلام والأمن ولاختفى الظلم والجور والشر.

ولقد أكّد الإسلام على القضاة أن يقضوا على ضوء الكتاب والسنّة، وحرّم عليهم القضاء وفق أهوائهم وآرائهم الخاصّة.

هذا كلّه بالنسبة إلى البرامج الكليّة في صعيد العمل القضائيّ.

وأمّا تمييز الحق عن الباطل والمحق عن المبطل والمظلوم عن الظالم ومن له الحقّ ومن عليه، فقد اعتمد الإسلام في تشخيصه وتمييزه على أوثق السبل وأكثر الوسائل اطمئناناً، وهو الاستشهاد بالبيّنات والأيمان فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّما أقضي بينكُم بالبّينات والأيمان »(١) .

نعم إنّ الاعتماد على هذا الأصل في إثبات الحقّ لا يمنع عن الاعتماد على غيرهما ممّا يفيد للقاضي علماً عاديّاً، ولأجل ذلمك قال الفقهاء: ويجوز للقاضي العمل بعلمه.

قال صاحب شرائع الإسلام: « الإمامعليه‌السلام يقضي بعلمه مطلقاً، وغيره من القضاة يقضي بعلمه في حقوق الناس وفي حقوق الله سبحانه على قولين أصحّهما القضاء »(٢) .

الشهادة والشهود

ولقد اشترط الإسلام في الشهود شروطاً من شأنها أن تمنعهم من شهادة الزور

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨: أبواب كيفيّة الحكم، الإيمان جمع اليمين أي الحلف والقسم.

(٢) شرائع الإسلام في آداب القضاء.

٣٣٩

والإدلاء بما هو باطل وهذه هي الشروط :

١. البلوغ.

٢. كمال العقل.

٣. الإيمان.

٤. العدالة.

٥. إرتفاع التهمة فلا تقبل شهادة من يجرّ بشهادته نفعاً لنفسه.

وإليك نبذة عن الأحاديث في أهميّة وخطورة الشهادة وشروط الشاهد، فقد روي حول أهميّة الشهادة وخطورتها وعظيم مسؤوليّتها أحاديث تفوق الحصر وكلّها تشدّد على أمر الشهادة بالإجماع، ومن ذلك ما عن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ قال :

« من كتم شهادةً، أو شهد بها ليهدر بها دم امرئ مسلم أو ليزوي بها مال امرئ مسلم أتى يوم القيامة ولوجهه ظلمة مدّ البصر، وفي وجهه كدوح تعرفه الخلائق باسمه ونسبه.

ومن شهد شهادةً حقّ ليحيي بها حقّ امرئ مسلم أتى يوم القيامة ولوجهه نور مدّ البصر تعرفه الخلائق باسمه ونسبه »(١) .

ثمّ قال أبو جعفر الباقرعليه‌السلام : « ألا ترى أنّ الله عزّ وجلّ يقولُ:( وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ للهِ ) »(٢) .

وما روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام : « شاهد الزور لا تزولُ قدماهُ حتّى تجبُ لهُ النّارُ »(٣) .

وما روي عن النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « من شهد شهادة زُور على أحد من النّاس عُلّق بلسانه مع المنافقين في الدّرك الأسفل من النّار، ومن حبس عن أخيه المسلم شيئاً من

__________________

(١ و ٢ و ٣) وسائل الشيعة ١٨: أبواب الشهادات.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550