الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٠

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 550

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 550
المشاهدات: 197225
تحميل: 5312


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 550 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 197225 / تحميل: 5312
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 10

مؤلف:
العربية

مُعْرِضُونَ ) .

إنّ عمل هؤلاء يدلّ على أنّ هذه الغفلة عمّت كلّ وجودهم ، وإلّا فكيف يمكن للإنسان أن يؤمن باقتراب الحساب الحساب الدقيق المتناهي في الدقّة ، ومع كلّ ذلك لا يكترث بالأمور ويرتكب أنواع الذنوب!!

كلمة (اقترب) لها دلالة على التأكيد أكثر من (قرب) وهي إشارة إلى أنّ هذا الحساب قد أصبح قريبا جدّا.

والتعبير بـ (الناس) وإن كان يشمل عموم الناس ظاهرا ، وهو يدلّ على أنّ الجميع في غفلة ، إلّا أنّ ممّا لا شكّ فيه أنّ الذين لهم قلوب واعية يقظة على الدوام ، ويفكّرون بالحساب ويعملون له فهم مستثنون من هذا العموم.

والجميل في الأمر أنّه يقول : اقترب الحساب للناس ، لا أنّ الناس اقتربوا للحساب ، فكأنّ الحساب يسرع لاستقبال الناس.

ثمّ إنّ الفرق بين «الغفلة» و «الإعراض» يمكن أن يكون من جهة أنّ هؤلاء غافلون عن اقتراب الحساب ، وهذه الغفلة هي تسبّب الإعراض عن آيات الله سبحانه ، فـ «الغفلة عن الحساب» علّة في الحقيقة ، و «الإعراض عن الحقّ» معلول لتلك العلّة. أو أنّ المراد هو الإعراض عن نفس الحساب ، وعن الاستعداد للإجابة في تلك المحكمة الكبرى ، أي إنّهم لمّا كانوا غافلين ، فإنّهم لا يهيّؤون أنفسهم لذلك ويعرضون عنه.

وهنا يأتي سؤال ، وهو : ما معنى اقتراب الحساب والقيامة؟

لقد قال البعض : إنّ المراد منه هو أنّ ما بقي من الدنيا قليل في مقابل ما مضى منها ، ولهذا فإنّ القيامة ستكون قريبة ـ قربا نسبيّا ـ خاصة وأنّه قد روي عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «بعثت أنا والساعة كهاتين»(1) وأشار إلى السبابة

__________________

(1) مجمع البيان ، ذيل الآيات مورد البحث.

١٢١

والوسطى اللتين تقع إحداهما إلى جنب الأخرى.

وقال البعض الآخر : إنّ هذا التعبير لكون القيامة موجودة ، كما نرى ذلك في المثل السائر كلّ ما هو آت قريب.

ولا منافاة بين هذين التّفسيرين ويمكن أن تكون الآية إشارة إلى كلا الأمرين.

واحتمل بعض المفسّرين ـ كالقرطبي ـ أن يكون الحساب هنا إشارة إلى «القيامة الصغرى» ، أي الموت ، لأنّ جزءا من المحاسبة وجزاء الأعمال يصل إلى الإنسان حين الموت(1) إلّا أنّ ظاهر الآية ناظر إلى القيامة الكبرى.

ثمّ تبيّن الآية التالية علامة من علامات إعراض هؤلاء بهذه الصورة :( ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ) فلم يتّفق لهم أن يتدبّروا ساعة في كلام الله المجيد ، ويتأمّلوا في آياته بجدّية ، ويحتملوا ـ على الأقل ـ أن تكون مؤثّرة في حياتهم وعاقبة أمرهم ومصيرهم. فهم لا يفكّرون في الحساب الإلهي ، ولا في تحذيرات الله سبحانه.

وأساسا فإنّ أحد أسباب شقاء الجهلة والمتكبّرين هو اتّخاذهم النصائح ومواعظ الأخيار لهوا ولعبا دائما ، وهذا هو السبب في عدم تنبّههم من غفلتهم ، في حين أنّهم لو تعاملوا بصورة جديّة مع تلك النصائح ولو مرّة واحدة ، فربّما تغيّر مسير حياتهم في تلك اللحظة!

كلمة «ذكر» في الآية إشارة إلى كلّ كلام منبّه يوقظ الغافلين ، والتعبير بـ (محدث) إشارة إلى أنّ الكتب السماوية كانت تنزل الواحد تلو الآخر ، وتحتوي كلّ سورة من سور القرآن ، وكلّ آية من آياته محتوى جديدا ينفذ إلى قلوب الغافلين بطرق مختلفة ، لكن أي فائدة مع من يتّخذ كلّ ذلك هزوا؟

__________________

(1) تفسير القرطبي. الجزء 6 ص 4307.

١٢٢

وأساسا ، فإنّ هؤلاء يفرقون من كلّ جديد ، ويتمسكّون ويفرحون لكلّ الخرافات القديمة التي ورثوها من الآباء والأجداد ، وكأنّهم قد تعاهدوا عهدا دائما على أن يخالفوا كلّ حقيقة جديدة ، مع أنّ أساس تكامل الإنسان مبتن على أن يواجه الإنسان كلّ يوم مسائل جديدة.

ثمّ تقول من أجل زيادة التأكيد :( لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ) لأنّهم في الظاهر يتّخذون كلّ المسائل الجديّة لهوا ولعبا ـ كما تشير جملة «يلعبون» إلى ذلك ، حيث وردت بصيغة فعل مضارع مطلق ـ وهم في الباطن مشغولون باللهو والمسائل التي لا قيمة لها ، والتي تجعلهم في غفلة عن الواقع. ومن الطبيعي أنّ مثل هؤلاء الأشخاص سوف لا يجدون طريق السعادة ، ولا يوفّقون إليه.

ثمّ تشير إلى جانب من الخطط الشيطانيّة فتقول :( وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ) (1) وإذا لم يكن سوى بشر اعتيادي ، فلا بدّ أن تكون أعماله الخارقة ونفوذ كلامه سحرا ، ولا يمكن أن يكون شيئا آخر :( أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ) ؟

قلنا : إنّ هذه السورة نزلت في مكّة ، وفي تلك الأيّام التيّ كان فيها أعداء الإسلام في غاية القوّة والمنعة ، فأي داع يدعوهم لإخفاء كلامهم ، بل وحتّى نجواهم؟ (وينبغي الالتفات إلى أنّ القرآن يقول إنّهم كانوا يخفون حتّى مناجاتهم).

قد يكون ذلك من أجل أنّ هؤلاء كانوا يتشاورون في المسائل التي تتّصف بالتخطيط والتآمر ، حتّى يظهروا أمام عامّة الناس موقفا واحدا ضدّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

إضافة إلى أنّ هؤلاء كانوا من ناحية القوّة متفوّقين حتما ، إلّا أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين كانوا من ناحية المنطق والقوّة ونفوذ الكلام أكثر تفوّقا ، وهذا التفوّق هو الذي دفع هؤلاء إلى أن يتشاوروا في الخفاء لانتخاب الأجوبة المصطنعة في

__________________

(1) في لغة العرب إذا كان الفعل اسما ظاهرا فيؤتى عادة بفعل مفرد ، إلّا أنّ هذه ليست قاعدة عامّة وثابتة ، بل يأتون ـ لعلل خاصّة ـ بالفعل بصيغة الجمع وبالفاعل اسما ظاهرا وجملة( وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ) من هذا القبيل أيضا.

١٢٣

مقابل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

على كلّ حال ، فإنّ هؤلاء قد أكّدوا على مسألتين في أقوالهم : إحداهما : كون النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشرا ، والأخرى : تهمة السحر ، وستأتي الاتّهامات الاخرى في الآيات التالية أيضا ، ويتصدّى القرآن الكريم لجوابها.

إلّا أنّ القرآن يجيبهم بصورة عامّه على لسان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيقول :( قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ ) فلا تتصوّروا أنّ نجواكم ومؤامراتكم المخفيّة تخفى عليه( وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) فهو يعلم كلّ شيء ، ومطّلع على كلّ شيء ، فلا يسمع كلامكم وحسب ، بل هو مطّلع حتى على الأفكار التّي تمرّ في أذهانكم ، والقرارات التي في صدوركم.

بعد ذكر نوعين من تذرّعات المخالفين ، يتطرّق القرآن إلى ذكر أربعة أنواع أخرى منها ، فيقول :( بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ ) (1) وهم يعتقدون أنّها حقيقة.

وقد يغيّرون كلامهم هذا أحيانا فيقولون :( بَلِ افْتَراهُ ) ونسبه إلى الله.

ويقولون أحيانا :( بَلْ هُوَ شاعِرٌ ) ، وهذه الآيات مجموعة من خيالاته الشعرية.

وفي المرحلة الرّابعة يقولون : إنّا نتجاوز عن كلّ ذلك فإذا كان مرسلا من الله حقّا( فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ ) .

إنّ التحقيق في هذه الادّعاءات المتضادّة المتناقضة في حقّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيوضّح أنّها بنفسها دليل على أنّهم لم يكونوا طلّاب حقّ ، بل كان هدفهم خلق الأعذار ، وإخراج خصمهم من الحلبة بأيّة قيمة وثمن ، وبأي صورة كانت.

فهم يعتبرونه ساحرا تارة ، وأخرى شاعرا ، وثالثة مفتريا ، وأخرى إنسانا

__________________

(1) «أضغاث» جمع ضغث ، وهو حزمة الحطب أو الأعشاب اليابسة وما شاكل ذلك ، و «الأحلام» جمع حلم وهو المنام والرؤية ، ولمّا كان جمع حزمة حطب يحتاج أن يجمعوا عدّة أشياء متفرّقة إلى بعضها ، فإنّ هذا التعبير اطلق على المنامات المضطربة المتفرّقة.

١٢٤

يختلط الأمر عليه ويهجر ـ والعياذ بالله ـ فهو يحسب مناماته المضطربة وحيا!

ويقولون حينا : لماذا أنت بشر؟ ويتذرّعون أحيانا بطلب معجزة جديدة مع كلّ تلك المعاجز.

إذا لم يكن لدينا دليل على بطلان كلامهم إلّا هذا الاضطراب والتمزّق ، فإنّه كاف لوحده ، ولكنّنا سنرى في الآيات التالية أنّ القرآن سيجيبهم جوابا حاسما من طرق أخرى أيضا.

* * *

ملاحظة :

هل القرآن محدث؟

لقد أورد جمع من المفسّرين في ذيل الآيات ـ لوجود كلمة (محدث) في الآية الثّانية من الآيات محلّ البحث ـ بحوثا جمّة حول كون كلام الله حادثا أم قديما؟ وهي نفس المسألة التي أثيرت في زمن خلفاء بني العبّاس وصارت مثارا للجدل لسنين طويلة ، وكانت قد لفتت انتباه وأفكار جماعة من العلماء.

إلّا أنّنا نعلم اليوم جيدا أنّ معظم هذا الموضوع كان يراد منه الإشغال السياسي ليهتمّ به علماء الإسلام ، وينصرفوا عن المسائل الضروريّة والأساسيّة التي تتعلّق بشؤون الحكومة وكيفيّة حياة الناس ، وحقائق الإسلام الأصيلة.

واليوم اتّضح لنا تماما أنّ المراد من كلام الله محتواه ومضمونه ، وهو قديم قطعا ، أي إنّه كان دائما في علم الله ، وإنّ علم الله الواسع كان محيطا بالقرآن على الدوام. وإذا كان المراد منه هذه الألفاظ والكلمات ، وهذا الوحي الذي نزل على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا شكّ في أنّه حادث.

أي عاقل يقول : إنّ ألفاظ القرآن وكلماته أزليّة؟ أو أنّ نزول الوحي على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن من بداية أمر الرسالة؟ وبناء على هذا فأنتم تلاحظون بأنّ

١٢٥

المسألة واضحة وضوح الشمس في جميع أبعادها.

وبتعبير آخر فإنّ القرآن يحتوي على ألفاظ ومعان : فألفاظه حادثة قطعا ، ومعانية قديمة قطعا ، وعلى هذا فلا مجال للبحث والمناقشة.

ثمّ إنّ أيّ مشكلة علميّة واجتماعية وسياسيّة وأخلاقية في المجتمع الإسلامي يحلّها هذا البحث آنذاك؟ ولماذا خدع بعض العلماء السابقين بأساليب الحكّام المكرة المتآمرين الخداعة؟

ولهذا نرى أنّ بعض أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام بعد بيان هذه المسألة ، قد حذّروا هؤلاء من هذه البحوث ، ودعوهم إلى الابتعاد والامتناع عنها(1) .

__________________

(1) نور الثقلين الجزء 3 ص 412.

١٢٦

الآيات

( ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (10) )

التّفسير

كلّ الأنبياء كانوا بشراً:

قلنا : إنّ ستّة إشكالات وإيرادات قد أعيد ذكرها في الآيات السابقة ، وهذه الآيات التي نبحثها تجيب عنها ، تارة بصورة عامّة جامعة ، وأخرى تجيب عن بعضها بالخصوص.

أشارت الآية الأولى إلى المعجزات المقترحة لأولئك ، ونقصد منها : المعجزات المقترحة حسب أهوائهم تذرّعا ، فنقول : إنّ جميع المدن والقرى التي

١٢٧

أهلكناها سابقا كانت قد طلبت مثل هذه المعاجز ، ولكن لمّا استجيب طلبهم كذّبوا بها ، فهل يؤمن هؤلاء؟ :( ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ ) ؟ وهي تنذرهم بصورة ضمنيّة بأنّ الآيات لو تحقّقت على ما اقترحتم ثمّ لم تؤمنوا ، فإنّ فناءكم حتمي!

ويحتمل أيضا في تفسير هذه الآية أنّ القرآن يشير ـ في هذه الآية ـ إلى كلّ إشكالات هؤلاء المتناقضة ويقول : إنّ هذا التعامل مع دعوة الأنبياء الحقيقيين ليس جديدا ، فإنّ الأفراد العنودين كانوا يتوسّلون دائما بهذه الأساليب ، ولم تكن عاقبة عملهم وأمرهم إلّا الكفر ، ثمّ الهلاك والعذاب الأليم.

ثمّ تطرّقت الآية التالية إلى جواب الإشكال الأوّل ـ خاصة ـ حول كون النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشرا ، فتقول : إنّك لست الوحيد في كونك نبيّا ، وفي نفس الوقت أنت بشر( وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ ) فإنّ هذه حقيقة تاريخيّة يعرفها الجميع( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) .

من هم أهل الذكر؟

لا شكّ أنّ( أَهْلَ الذِّكْرِ ) تشمل من الناحية اللغوية كلّ العلماء والمطّلعين ، والآية أعلاه تبيّن قانونا عقلائيّا عامّا في مسألة (رجوع الجاهل إلى العالم) فإنّ مورد ومصداق الآية وإن كان علماء أهل الكتاب ، إلّا أنّ هذا لا يمنع من عمومية القانون. ولهذه العلّة استدلّ علماء وفقهاء الإسلام بهذه الآية في مسألة «جواز تقليد المجتهدين المسلمين».

وإذا رأينا في بعض الرّوايات التي وصلتنا عن أهل البيتعليهم‌السلام بأنّ( أَهْلَ الذِّكْرِ ) قد فسّرت بعليعليه‌السلام أو سائر الأئمّةعليهم‌السلام ، فلا يعني ذلك الحصر ، بل هو بيان لأوضح مصاديق هذا القانون الكلّي. ولزيادة الإيضاح حول هذا الموضوع ، اقرأ تفسير الآية (43) من سورة النحل من هذا الكتاب.

١٢٨

ثمّ تعطي الآية التالية توضيحا أكثر حول كون الأنبياء بشرا ، فتقول :( وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ ) . وجملة( لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ ) إشارة إلى ما جاء في موضع آخر من القرآن في نفس هذا الموضوع :( وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ ) (1) .

وجملة( ما كانُوا خالِدِينَ ) أيضا تكملة لنفس هذا المعنى ، لأنّ المشركين كانوا يقولون : كان من الأفضل أن يرسل ملك مكان البشر ، ملك له الخلود ، ولا تمتدّ إليه يد الموت! فأجابهم القرآن بأنّ أيّا من الأنبياء السابقين لم يكتب له الخلود حتّى يكتب لرسول الله (محمّد) الخلود و «البقاء في هذه الدنيا».

على كلّ حال ، فلا شكّ ـ كما قلنا ذلك مرارا ـ في أنّه يجب أن يكون قائد البشر ومرشدهم من جنسهم ، بنفس تلك الغرائز والعواطف والأحاسيس والحاجات والعلاقات حتّى يحسّ بآلامهم وعذابهم ، ولينتخب أفضل طرق العلاج باستلهامه من معلوماته ليكون قدوة وأسوة لكلّ البشر ، ويقيم الحجّة على الجميع.

ثمّ تحذّر الآية وتهدّد المنكرين المتعصّبين العنودين ، فتقول : إنّا كنا قد وعدنا رسلنا بل ننقذهم من قبضة الأعداء ، ونبطل كيد أولئك الأشرار( ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ ) .

أجل ، فكما أنّ سنّتنا كانت إختيار قادة البشر من بين أفراد البشر ، كذلك كانت سنّتنا أن نحميهم من مكائد المخالفين ، وإذا لم تؤثّر المواعظ والنصائح المتلاحقة أثرها في المخالفين ، فإنّنا سنطهّر الأرض من وجودهم القذر.

ومن المعلوم أنّ المراد من «ومن نشاء» : الإرادة التي تدور حول معيار الإيمان والعمل الصالح ، كما أنّ من الواضح أيضا أنّ المراد من «المسرفين» هنا هم الذين أسرفوا في حقّ أنفسهم ومجتمعهم الذي يعيشون فيه عن طريق إنكار

__________________

(1) الفرقان ، 7.

١٢٩

الآيات الإلهيّة وتكذيب الأنبياء ، ولهذا نرى القرآن في موضع آخر يقول :( كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ ) (1) .

أمّا آخر آية من الآيات مورد البحث ، فتجيب ـ مرّة أخرى ـ في جملة قصيرة عميقة المعنى عن أكثر إشكالات المشركين ، فتقول :( لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) فإنّ كلّ من يتدبّر آيات هذا الكتاب الذي هو أساس التذكّر وحياة القلب ، وحركة الفكر ، وطهارة المجتمع ، سيعلم جيدا أنّه معجزة واضحة وخالدة ، ومع وجود هذه المعجزة البيّنة التي تظهر فيها آثار الإعجاز من جهات مختلفة من جهة الجاذبيّة الخارقة ، ومن جهة المحتوى ، الأحكام والقوانين ، العقائد والمعارف ، وو فهل لا زلتم بانتظار معجزة أخرى؟ أي معجزة تقدر أن تثبت أحقّية دعوة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحسن من هذه المعجزة؟

وفضلا عمّا مرّ ، فإنّ آيات هذا الكتاب تصرخ بأنّها ليست سحرا ، بل هي حقائق وتعليمات غنيّة المحتوى وجذّابة ، أتقولون بعد ذلك أنّها سحر؟

هل يمكن أن توصف هذه الآيات بأنّها أضغاث أحلام؟ فأين هي الأحلام المضطربة التي لا معنى لها من هذا الكلام المنسجم الموزون؟ وأين الثرى من الثريّا؟

هل يمكن أن تعتبر تلك الآيات كذبا وافتراء مع أنّ آثار الصدق بادية في كلّ مكان منها؟

أم أنّ من جاء بها كان شاعرا ، في حين أنّ الشعر يدور حول محور الخيال ، وآيات هذا الكتاب تدور كلّها حول محور الواقعيّات والحقائق؟

وبكلمة قصيرة ، إنّ الدقّة والبحث في هذا الكتاب يثبت أنّ هذه الادّعاءات متضادّة متناقضة غير منسجمة ، وهي كلام المغرضين الجهلة.

__________________

(1) يونس ، 103.

١٣٠

واختلف المفسّرون في معنى كلمة «ذكركم» في الآية آنفة الذكر ، وذكروا لها تفاسير مختلفة.

فذهب بعضهم : إنّ المراد هو أنّ آيات القرآن منبع الوعي والتذكّر بين أفراد المجتمع ، كما يقول القرآن في موضع آخر :( فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ ) (1) .

وقال آخرون : إنّ المراد أنّ هذا القرآن سيرفع اسمكم ومكانتكم في الدنيا ، أي إنّه أساس عزّكم وشرفكم أيّها المؤمنون والمسلمون ، أو أنتم أيّها العرب الذين نزل القرآن بلسانكم ، وإذا أخذ منكم فسوف لا يكون لكم اسم ولا رسم في العالم.

والبعض الآخر قالوا : إنّ المقصود هو أنّه قد ذكر في هذا القرآن كلّ ما تحتاجون إليه في أمور الدين والدنيا ، أو في مجال مكارم الأخلاق.

وبالرغم من أنّ هذه التفاسير لا ينافي بعضها بعضا ، ويمكن أن تكون مجتمعة في تعبير «ذكركم» ، إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو هو الأظهر.

فإن قيل : كيف يكون هذا القرآن أساس الوعي واليقظة ، في حين أنّ كثيرا من المشركين قد سمعوه فلم ينتبهوا؟

قلنا : إنّ كون القرآن موقظا ومنبّها لا يعني إجباره الناس على هذا الوعي ، بل إنّ الوعي مشروط بأن يريد الإنسان ويصمّم ، وأن يفتح نوافذ قلبه أمام القرآن.

* * *

__________________

(1) سورة ق ، 45.

١٣١

الآيات

( وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (14) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15) )

التّفسير

كيف وقع الظّالمون في قبضة العذاب؟

تبيّن هذه الآيات مصير المشركين والكافرين مع مقارنته بمصير الأقوام الماضين ، وذلك بعد البحث الذي مرّ حول هؤلاء. فتقول الآية الاولى :( وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ ) .

فمع ملاحظة أنّ «القسم» يعني الكسر المقترن بالشدّة ، بل ورد أحيانا بمعنى التفتيت والتقطيع ، ومع ملاحظة التأكيد على ظلم هذه الأقوام وجورها ، فإنّها توحي بأنّ الله سبحانه قد أعدّ أشدّ العقاب والانتقام للأقوام الظالمين الجائرين.

وتشير الآية ضمنا إلى أنّكم إذا درستم تاريخ السابقين وبحثتم فيه فستعلمون

١٣٢

بأنّ تهديدات نبي الإسلام لم تكن مزاحا أو اعتباطا ، بل هي حقيقة مرّة يجب أن تفكّروا فيها.

عند ذلك توضّح الآية حال هؤلاء عند ما تتّسع دائرة العذاب لتشمل ديارهم العامرة ، وعجزهم أمام العقاب الإلهي ، فتقول :( فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ ) (1) تماما كفلول جيش منهزم يرون سيوف العدو مسلولة وراءهم فيتفرقّون في كلّ جانب.

إلّا أنّه يقال لهؤلاء من باب التوبيخ والتقريع :( لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ ) .

إنّ هذه العبارة قد تكون إشارة إلى أنّ هؤلاء حينما كانوا غارقين في تلك النعمة الوفيرة ، كان السائلون وطالبو الحاجات يتردّدون دائما إلى أبوابهم ، يأتون والأمل يقدمهم ، ويرجعون بالخيبة والحرمان ، فالآية تقول لهم : ارجعوا وأعيدوا ذلك المشهد اللعين. وهذا في الحقيقة نوع من الاستهزاء والملامة.

واحتمل بعض المفسّرين أن تكون جملة( لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ ) إشارة إلى قدرة وثروة هؤلاء في الدنيا ، حيث كانوا يجلسون في زاوية وعلائم الابّهة والكبرياء بادية عليهم ، وكان الخدم يأتون إليهم ويحضرون عندهم بصورة متوالية ويسألون إن كان لديهم أمر أو عمل يقومون به.

أمّا من هو قائل هذا الكلام؟ فلم تصرّح الآية به ، فمن الممكن أن يكون نداء بواسطة ملائكة الله ، أو أنبيائه ورسله ، أو نداء صادر من داخل ضميرهم الخفي ووجدانهم.

في الحقيقة إنّه نداء إلهي يقول لهؤلاء : لا تفرّوا وارجعوا ، وكان يصل إليهم بإحدى هذه الطرق الثلاث.

__________________

(1) «الركض» يأتي بمعنى ركض الإنسان بنفسه ، أو بمعنى إركاض المركب والدابّة ، ويأتي أحيانا بمعنى ضرب الرجل على الأرض مثل( ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ ) سورة ص ـ 42.

١٣٣

والجميل هنا أنّه قد ركّز على المسكن خاصّة من بين كلّ النعم الماديّة ، وربّما كان ذلك بسبب أنّ أوّل وسائل استقرار الإنسان هو وجود سكن مناسب. أو أنّ الإنسان يصرف أكثر مورد حياته في بيته ، وكذلك فإنّ أشدّ تعلّقه إنّما يكون بمسكنه.

على كلّ حال ، فإنّ هؤلاء يعون في هذا الوقت حقيقة الأمر ، ويرون ما كانوا يظنّونه مزاحا من قبل قد تجلّى أمامهم بصورة جديّة تماما ، فتعلو صرختهم :( قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ ) .

إلّا أنّ هذا الوعي الاضطراري للإنسان عند ما يواجه مشاهد العذاب لا قيمة له ، ولا يؤثّر في تغيير مصير هؤلاء ، ولذلك فإنّ القرآن في آخر آية من الآيات محلّ البحث يضيف :( فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً ) فيلقونهم على الأرض كالزرع المحصود ، وتبدّل مدينتهم التي غمرتها الحياة والحركة والعمران إلى قبور مهدّمة مظلمة ، فيصبحوا( خامِدِينَ ) (1) .

* * *

__________________

(1) خامد من مادّة الخمود ، بمعنى انطفاء النّار ، ثمّ أطلقت على كلّ شيء يفقد حركته وفاعليّته ونشاطه.

١٣٤

الآيات

( وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) )

التّفسير

خلق السّماء والأرض ليس لهوا :

لمّا كانت الآيات السابقة قد عكست هذه الحقيقة وهي : إنّ الظالمين الذين لا إيمان لهم لا يعتقدون بوجود هدف وغاية من خلقهم إلّا الأكل والشرب والملذّات ، ويظنّون أنّ العالم بلا هدف ، القرآن الكريم يقول في الآيات التي نبحثها من أجل إبطال هذا النوع من التفكير ، وإثبات وجود هدف عال وسام من وراء خلق كلّ العالم ، وخاصّة البشر :( وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ) .

إنّ هذه الأرض الواسعة ، وهذه السّماء المترامية الأطراف ، وكلّ هذه الموجودات المتنوعة البديعة التي توجد في ساحتها تبيّن أنّ هدفا مهمّا في خلقها

١٣٥

... نعم ، إنّ الهدف هو بيان قدرة الخالق الجليل ، وإبراز جانب من عظمته من جهة ، ومن جهة أخرى ليكون دليلا على المعاد ، وإلّا فإنّ كلّ هذه الضجّة والغوغاء إن كانت لبضعة أيّام فلا معنى لها.

هل يمكن أن يبني الإنسان قصرا في وسط صحراء ، ويجهّزه بكلّ الوسائل ، وذلك من أجل أن يستريح فيه ساعة واحدة ـ طول عمره ـ عند مروره عليه؟

بعبارة موجزة : إذا نظرنا إلى هذا العالم العظيم من منظار الكفّار ، فسنراه لا فائدة فيه ولا هدف منه ، والإيمان بالمبدأ والمعاد هو الذي يجعل له معنى وغاية.

ثمّ تقول الآية التالية : الآن وقد ثبت أنّ العالم له هدف فإنّه لا ريب في أنّ الهدف من هذا الخلق لم يكن أن يلهو الله سبحانه وتعالى عن ذلك ، فإنّ هذا اللهو غير معقول ، فـ( لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ ) .

«اللعب» يعني العمل الغير هادف ، و «اللهو» إشارة إلى الأهداف غير المعقولة والملاهي.

هذه الآية تبيّن حقيقتين :

الأولى : أنّه بملاحظة كلمة (لو) ، وهي في لغة العرب للامتناع ، فهي تشير إلى أنّ من المحال أن يكون هدف الله هو اللهو.

والأخرى : إنّه على فرض أنّ الهدف هو اللهو ، فيجب أن يكون لهوا مناسبا لذاته ، كأن يكون من عالم المجردات وأمثال ذلك ، لا من عالم المادّة المحدود(1) .

ثمّ تقول بلهجة قاطعة من أجل إبطال أوهام الجاهلين الذين يظنّون عدم

__________________

(1) اعتبر بعض المفسّرين الآيات إعلاء إشارة إلى نفي عقائد المسيحيين ، أي اعتقدوا أنّ اللهو بمعنى الزوج والزوجة والولد. وقالوا : إنّ الآية تجيب هؤلاء وتقول : إنّنا إذا كنّا نريد أن نختار الصاحبة والولد فلم نكن ننتخبهما من جنس البشر.

إلّا أنّ هذا التّفسير لا يبدو مناسبا من عدّة جهات ، ومن جملتها أنّ ارتباط الآيات أعلاه بالآيات السابقة سينقطع ، والأخرى أنّ كلمة «اللهو» وخاصة إذا كانت بعد كلمة اللعب ، تعني التسليّ لا المرأة والولد.

١٣٦

هدفيّة الدنيا ، بل هي للهو واللعب فقط : إنّ هذا العالم مجموعة من الحقّ والواقع ، ولم يقم أساسه على الباطل( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ ) .

وتقول في النهاية :( وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ) وتتحدّثون عن عدم هدفية الخلق.

أي إنّنا نجعل الأدلّة العقليّة والاستدلالات الواضحة والمعجزات البيّنة إلى جانب ظنون وأوهام اللاهدفيين ، لتتبخّر وتتلاشى هذه الأوهام في نظر العلماء وأصحاب الفكر والرأي.

إنّ أدلّة معرفة الله واضحة ، وأدلّة وجود المعاد بيّنة ، وبراهين أحقيّة الأنبياء جليّة ، والحقّ يمكن تمييزه عن الباطل تماما إذا لم يكن الشخص من المعاندين.

وممّا يستحقّ الانتباه أنّ جملة «نقذف» من مادّة (قذف) بمعنى الإلقاء ، وخاصّة الإلقاء من طريق بعيد ، ولمّا كان للقذف من بعيد سرعة وقوّة أكثر ، فإنّ هذا التعبير يبيّن قدرة انتصار الحقّ على الباطل. وكلمة «على» أيضا مؤيّدة لهذا المعنى.

وجملة «يدمغه» على قول الراغب كسر «الجمجمة والدماغ» ، وتعتبر أكثر نقطة في بدن الإنسان حسّاسيّة ، وهو تعبير بليغ عن غلبة جند الحقّ غلبة واضحة قاطعة.

والتعبير بـ (إذا) توحي بأنّا حتّى في الموارد التي لا ينتظر ولا يتوقّع انتصار الحقّ فيها ، فإنّنا سنجري هذه السنّة. والتعبير بـ «زاهق» والذي يعني الشيء المضمحل ، تأكيد على هذا المقصود.

وأمّا أنّ جملتي (نقذف) و (يدمغ) قد جاء تا بصيغة الفعل المضارع ، فهو دليل على استمرار هذه السنّة.

* * *

١٣٧

بحث

الهدف من الخلق :

في الوقت الذي لا يعترف المادّيون بهدف للخلق ، لأنّهم يعتقدون أنّ الطبيعة الفاقدة للعقل والشعور والهدف هي التي ابتدأت الخلق ، ولهذا فإنّهم يؤيّدون اللغوية وعدم الفائدة في مجموعة الوجود ، فإنّ الفلاسفة الإلهيين وإتباع الأديان جميعا يعتقدون بوجود هدف سام للمخلوقات ، لأنّ المبدئ للخلق قادر وحكيم وعالم ، فمن المستحيل أن يقوم بعمل لا فائدة فيه.

وهنا ينقدح هذا السؤال : ما هو الهدف؟

قد نتوهّم أحيانا نتيجة قياس الله سبحانه على ذواتنا وأنفسنا ونتساءل : هل كان الله محتاجا وينقصه شيء ، وكان يريد بخلق الوجود ، ومن جملته الإنسان ، أن يسدّ ذلك النقص ويرفع تلك الحاجة؟

هل هو محتاج لعبادتنا ودعائنا ومناجاتنا؟ هل كان يريد أن يعرف فخلق الخلق ليعرف؟

إلّا أنّ هذا كما قلنا خطأ كبير ناشئ من المقارنة بين الله وخلقه ، في حين أنّ هذه المقارنة والقياس غير الصحيح هو أكبر سدّ ومانع في بحث معرفة صفات الله ، ولذلك فإنّ أوّل أصل في هذا البحث هو أن نعلم أنّ الله سبحانه لا يشبهنا في أي شيء.

فالإنسان موجود محدود من كلّ النواحي ، ولذلك فإنّ كلّ مساعينا هي من أجل رفع نواقصنا واحتياجاتنا ، ندرس لنتعلّم فنمحو نقص جهلنا ، ونسعى للعمل والكسب لدفع الفقر ونكسب الثروة ، نهيّئ الجيوش والقوى لنسدّ النقص في قوانا أمام العدوّ ، وحتّى في الأمور المعنوية أو تهذيب النفس أو التكامل المعنوي والروحي ، فإنّ السعي والجدّ في كلّ ذلك من أجل رفع النواقص

ولكن ، هل من المعقول أن يقوم الوجود المطلق غير المتناهي في كلّ الجهات

١٣٨

(فعلمه وقدرته وقوّته غير محدودة ، ولا يعاني أي نقص في الوجود) بعمل لرفع حاجته؟

يتّضح من هذا التحليل أنّ الخلق ليس عبثا من جهة ، ومن جهة أخرى فإنّ الهدف من الخلق لا يعود إلى الخالق. وهنا يمكن أن نصل ببساطة إلى نتيجة ، وهي : أنّ الهدف ، حتما وبلا شكّ ، أمر يرتبط بنا.

ومع ملاحظة هذه المقدّمة يمكن التوصّل إلى أنّ هدف الخلقة هو تكاملنا وارتقاؤنا ولا شيء سواه.

وبتعبير آخر فإنّ عالم الوجود بمثابة مدرسة لتكاملنا في مجال العلم.

ودار حضانة لتربية وتهذيب نفوسنا.

ومتجر لكسب الموارد المعنوية ، وأرض زراعية غنيّة صالحة لإنتاج أنواع المحصولات الإنسانية.

أجل «الدنيا مزرعة الآخرة الدنيا دار صدق لمن صدقها ، ودار غنى لمن تزوّد منها ، ودار موعظة لمن اتّعظ بها»(1) .

إنّ هذه القافلة قد تحركت من عالم العدم ، وهي تسير دائما إلى ما لا نهاية له.

ويشير القرآن المجيد إشارات قصيرة عميقة المعنى جدّا في آيات مختلفة إلى وجود هدف معيّن من الخلق من جهة ، ومن جهة أخرى فإنّه يشخّص هذا الهدف ويوضّحه.

فيقول في الجانب الأوّل :( أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً ) (2) .

( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ ) (3) .

__________________

(1) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، رقم 131.

(2) القيامة ، 36

(3) المؤمنون ، 115

١٣٩

( وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ) (1) .

وفي الجانب الآخر ، فإنّه جعل هدف الخلق في بعض الآيات عبودية الله وعبادته :( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) (2) ، ومن البديهي أنّ العبادة منهج لتربية الإنسان في الأبعاد المختلفة العبادة بمعناها الشمولي التي هي التسليم لأمر الله ستهب روح الإنسان تكاملا في الأبعاد المختلفة ، وقد بيّنا تفصيله في ذيل الآيات المرتبطة بالعبادات المختلفة.

ويقول : أحيانا إنّ الهدف من الخلقة هو إيقاظكم وتوعيتكم وتقوية إيمانكم واعتقادكم:( اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (3) .

ويقول تارة : إنّ الهدف من الخلق هو اختبار حسن عملكم :( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) (4) .

إنّ الآيات الثلاث آنفة الذكر والتي يشير كلّ منها إلى بعد من أبعاد وجود الإنسان الثلاث ـ بعد الوعي والإيمان ، وبعد الأخلاق ، وبعد العمل ـ تبيّن هدف الخلق التكاملي الذي يعود على الإنسان نفسه.

ويجدر أن نشير إلى هذه «اللطيفة» ، وهي أنّه لمّا كانت آيات القرآن غير حاوية لكلمة التكامل ، فإنّ بعضا يتصوّر أنّها من الأفكار المستوردة ، إلّا أنّ الردّ على مثل هذا التصّور أو الإشكال واضح ، لأنّنا لسنا في صدد الألفاظ الخاصّة ، فمفهوم التكامل ومصاديقه جليّة في الآيات آنفة الذكر ، ترى ألم يكن العلم مصداقه الواضح أم لم يكن الارتقاء في العبودية وحسن العمل من مصاديقه!

__________________

(1) سورة ص ، 27.

(2) الذاريات ، 56.

(3) الطلاق ، 12.

(4) الملك. 2.

١٤٠