الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٠

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 550

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 550
المشاهدات: 196872
تحميل: 5299


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 550 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 196872 / تحميل: 5299
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 10

مؤلف:
العربية

فنحن نقرأ في الآية (17) من سورة محمّد قوله تعالى :( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً ) فهل يدلّ التعبير بالزيادة إلّا على التكامل؟

وهنا ينقدح سؤال ، وهو : إذا كان الهدف هو التكامل ، فلما ذا لم يخلق الله الإنسان كاملا منذ البداية حتّى لا يكون محتاجا إلى طيّ مراحل التكامل؟

إنّ أساس هذا الإشكال هو الغفلة عن هذه النقطة ، وهي أنّ العنصر الأصلي للتكامل هو التكامل الاختياري ، وبتعبير آخر فإنّ التكامل يعني أن يطوي الإنسان الطريق بنفسه وإرادته وتصميمه ، فإذا أخذوا بيده وأوصلوه بالقوّة والجبر فليس هذا افتخارا ولا تكاملا.

فمثلا : لو أنفق الإنسان فلسا واحدا من ماله بإرادته وتصميمه ، فقد طوى من طريق الكمال الأخلاقي بتلك النسبة ، في حين أنّه لو أجبر على إنفاق الملايين من ثروته ، فإنّه لم يتقدّم خطوة واحدة في ذلك الطريق ، ولذلك صرّح القرآن بهذه الحقيقة في الآيات المختلفة ، وهي أنّ الله سبحانه لو شاء لأجبر الناس على أن يؤمنوا ، إلّا أنّ هذا الإيمان لا نفع فيه لهؤلاء :( وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً ) (1) .

* * *

__________________

(1) يونس ، 99.

١٤١

الآيات

( وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) )

التّفسير

الشرك ينبع من الظنّ :

كان الكلام في الآيات السابقة عن أنّ عالم الوجود ليس عبثيّا لا هدف من ورائه ، فلا مزاح ولا عبث ، ولا لهو ولا لعب ، بل له هدف تكاملي دقيق للبشر.

١٤٢

ولمّا كان من الممكن أن يوجد هذا التّوهّم ، وهو : ما حاجة الله إلى إيماننا وعبادتنا؟

فإنّ الآيات التي نبحثها تجيب أوّلا عن هذا التوهّم ، وتقول :( وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَمَنْ عِنْدَهُ ) (أي الملائكة)( لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ ) (1) ( يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ ) .

ومع هذا الحال فأي حاجة لطاعتكم وعبادتكم؟ فكلّ هؤلاء الملائكة المقرّبين مشغولون بالتسبيح ليلا ونهارا ، وهو تعالى لا يحتاج حتّى لعبادة هؤلاء ، فإذا كنتم قد أمرتم بالإيمان والعمل الصالح والعبودية فإنّ كلّ ذلك سيعود بالنفع عليكم.

وهنا نقطة تلفت الانتباه أيضا ، وهي أنّه في نظام العبيد والموالي الظاهري ، كلّما تقرّب العبد من مولاه يقلّ خضوعه أمامه ، لأن يختصّ به أكثر ، فيحتاجه المولى أكثر. أمّا في نظام عبوديّة الخلق والخالق فالأمر على العكس ، فكلّما اقتربت الملائكة وأولياء الله من الله سبحانه زادت عبوديتهم(2) .

وبعد أن نفت في الآيات السابقة عبثيّة ولا هدفيّة عالم الوجود ، وأصبح من المسلّم أنّ لهذا العالم هدفا مقدّسا ، فإنّ هذه الآيات تتطرّق إلى بحث مسألة وحدة المعبود ومدبّر هذا العالم ، فتقول :( أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ ) (3) .

وهذه الجملة في الحقيقة إشارة إلى أنّ المعبود يجب أن يكون خالقا ، وخاصّة خلق الحياة ، لأنّها أوضح مظاهر الخلق ومصاديقه. وهذا في الحقيقة يشبه ما نقرؤه

__________________

(1) «يستحسرون» في الأصل من مادّة حسر ، وفي الأصل تعني رفع النقاب والستار عن الشيء المغطّى ، ثمّ استعملت بمعنى التعب والضعف ، فكأنّ كلّ قوى الإنسان تصرف في مثل هذه الحالة ، ولا يبقى منها شيء مخفي في بدنه.

(2) الميزان ، ذيل الآيات محلّ البحث.

(3) «ينشرون» من مادّة نشر ، أي فكّ الشيء المعقّد الملفوف ، وهو كناية عن الخلق وانتشار المخلوقات في أرجاء الأرض والسّماء. ويصرّ بعض المفسّرين على اعتبار هذه الجملة إشارة إلى المعاد ورجوع الأموات إلى الحياة من جديد ، في حين أنّه بملاحظة الآيات التالية سيتّضح أنّ الكلام عن توحيد الله وأنّه المعبود الحقيقي ، وليس عن المعاد والحياة بعد الموت.

١٤٣

في الآية (73) من سورة الحجّ :( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ) ومع هذا الحال كيف يكون هؤلاء أهلا للعبادة؟

التعبير بـ( آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ ) إشارة إلى الأصنام والمعبودات التي كانوا يصنعونها من الحجارة والخشب ، وكانوا يظنّونها حاكمة على السماوات.

وتبيّن الآية التالية أحد الأدلّة الواضحة على نفي آلهة وأرباب المشركين ، فتقول :( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) .

هذه الادّعاءات غير الصحيحة وهذه الأرباب المصنوعة والآلهة المظنونة ليست إلّا أوهاما ، وساحة كبرياء ذاته المقدّسة لا تتلوّث بهذه النسب المغلوطة.

برهان التمانع :

إنّ الدليل الوارد في الآية آنفة الذكر ولإثبات التوحيد ونفي الآلهة ، في الوقت الذي هو بسيط وواضح ، فإنّه من البراهين الفلسفيّة الدقيقة في هذا الباب ، ويذكره العلماء تحت عنوان (برهان التمانع). ويمكن إيضاح خلاصة هذا البرهان بما يلي :

إنّنا نرى ـ بدون شكّ ـ نظاما واحدا حاكما في هذا العالم ، ذلك النظام المتناسق من جميع جهاته ، فقوانينه ثابتة تجري في الأرض والسّماء ، ومناهجه متطابقة بعضها مع بعضها ، وأجزاؤه متناسبة.

إنّ انسجام القوانين وأنظمة الخلقة هذا يحكي أنّها تنبع من عين واحدة ، لأنّ البدايات إن كانت متعدّدة ، والإرادات مختلفة ، لم يكن يوجد هذا الانسجام مطلقا ، وهذا الشيء الذي يعبّر عنه القرآن بـ (الفساد) يلاحظ في العالم بوضوح.

إذا كنّا من أهل التحقيق والمطالعة ـ ولو قليلا ـ فإنّا نستطيع أن نفهم جيدا من خلال تحقيق كتاب ما ، أنّ كاتبه شخص واحد أم عدّة أشخاص؟ فإنّ الكتاب الذي يؤلّفه شخص واحد يوجد انسجام خاص بين عباراته ، ترتيب

جمله ، تعبيراته المختلفة ، كناياته وإشاراته ، عناوينه ورؤوس مطالبه ، طريقة الدخول في البحوث

١٤٤

والخروج منها ، والخلاصة : إنّ كلّ أقسامه متحدّة متناسقة لأنّها وليدة فكر واحد ، وترشّح قلم واحد.

أمّا إذا تعهّد شخصان أو عدّة أشخاص بأن يؤلّف كلّ منهم جزءا من الكتاب ـ وإن كان الجميع علماء متقاربين في الروح والتفكير ـ فستظهر آثار هذه الازدواجية أو الكثرة في العبارات والألفاظ ، وطريقة الأبحاث. وسبب ذلك واضح ، لأنّ الفردين مهما كانا منسجمين في الفكر والذوق ، فإنّهما في النتيجة فردان ، فلو كانت كلّ أشيائهما واحدة لأصبحا فردا واحدا ، فبناء على هذا فيجب أن يكون هناك تفاوت فيما بينهما قطعا ليتمكّنا أن يكونا فردين ، وهذا الاختلاف سيؤثّر أثره في النتيجة ، وسيبدي آثاره في كتاباتهما.

وكلّما كان هذا الكتاب أكبر وأكثر تفصيلا ، ويبحث مواضيع متنوّعة ، فإنّ عدم الانسجام يلمس فيه أوضح. وكتاب عالم الخلقة الكبير ، الذي نضيّع بكلّ وجودنا في طيّات عباراته لعظمته يشمله هذا القانون أيضا.

حقّا إنّنا لا نستطيع مطالعة كلّ هذا الكتاب حتّى لو صرفنا كلّ عمرنا في مطالعته ، إلّا أنّ هذا القدر الذي وفّقنا نحن ـ وجميع العلماء ـ لمطالعته منسجم إلى الحدّ الذي يدلّ تماما على وحدة مؤلّفه إنّنا كلّما تصفّحنا هذا الكتاب العجيب فستظهر بين كلماته وسطوره وصفحاته آثار تنظيم عال وانسجام منقطع النظير.

فإذا كانت هناك إرادات وبدايات متعدّدة تتدخّل في إدارة هذا العالم وتنظيمه ، فهل كان بالإمكان أن يوجد مثل هذا الانسجام؟

ولو فكّرنا : لماذا يستطيع علماء الفضاء أن يرسلوا السفن الفضائية إلى الفضاء بدقّة كاملة ، وينزلوا العربة على القمر في المحلّ الذي قدروه من الناحية العلمية بدقّة متناهية ، ثمّ يحرّكونها من هناك وينزلونها إلى الأرض في المحل الذي توقّعوه؟

ألم تكن هذه الدقّة في الحسابات لكون النظام الحاكم على كلّ الوجود الذي

١٤٥

هو أساس حسابات هؤلاء العلماء ـ دقيقا ومنسجما ، بحيث إذا كان هناك شيء من عدم الانسجام ـ ومن الناحية الزمنيّة جزء من مائة من الثّانية ـ فستضطرب جميع حساباتهم؟

ونقول باختصار : إذا كانت هناك إرادتان أو عدّة إرادات حاكمة في العالم ، فإنّ لكلّ واحدة قضاء ، وكانت الاخرى تمحو أثر الأولى ، وسيؤول العالم إلى الفساد عندئذ.

سؤال :

وهنا يثار سؤال يمكن استلهام جوابه من التوضيحات السابقة ، وهو : إنّ تعدّد الآلهة يكون منشأ للفساد عند ما يحارب أحدها الآخر ، أمّا إذا اعتقدنا بأنّ هؤلاء أفراد حكماء عالمون ، فإنّهم يتعاونون فيما بينهم ويديرون العالم.

وجواب هذا السؤال لا لبس فيه : فإنّ كونهم حكماء لا يزيل تعدّدهم ، فعند ما نقول : إنّهم متعدّدون ، فإنّ معناه إنّهم ليسوا متحدّين من جميع الجهات ، لأنّهم إن اتّحدوا من كلّ الجوانب أصبحوا إلها واحدا ، وبناء على ذلك فأينما وجد التعدّد وجد الاختلاف الذي يؤثّر في الإدارة والعمل شئنا أم أبينا ، وهذا سيجرّ عالم الوجود إلى الهرج والمرج.

وقد استند في بعض هذه الاستدلالات إلى أنّه لو كان هناك إرادتان حاكمتان على الخلق ، لما كان هناك عالم أصلا. في حين أنّ هذه الآية تتحدّث عن فساد العالم واختلال النظام ، لا عن عدم وجود العالم.

ومن اللطيف أن نقرأ في حديث يرويه هشام بن الحكم عن الإمام الصادقعليه‌السلام في جواب الرجل الملحد الذي كان يتحدّث عن تعدّد الآلهة ، أنّه قال :

«لا يخلو قولك أنّهما اثنان من أن يكونا قويين أو يكونا ضعيفين ، أو يكون أحدهما قويّا والآخر ضعيفا ، فإن كانا قويّين فلم لا يدفع كلّ واحد منهما صاحبه

١٤٦

وينفرد بالتدبير ، وإن زعمت أنّ أحدهما قوي والآخر ضعيف ثبت أنّه واحد كما تقول ، للعجز الظاهر في الثّاني ، وإن قلت : إنّهما اثنان ، لا يخلو من أن يكونا متّفقين من كلّ جهة أو متفرّقين من كلّ جهة ، فلمّا رأينا الخلق منتظما ، والفلك جاريا ، واختلاف الليل والنهار ، والشمس والقمر ، دلّ صحّة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر أنّ المدبّر واحد.

ثمّ يلزمك إن ادّعيت إثنين فلا بدّ من فرجة بينهما حتّى يكونا إثنين ، فصارت الفرجة ثالثا بينهما قديما معهما فيلزمك ثلاثة ، فإن ادّعيت ثلاثة لزمك ما قلنا في الإثنين حتّى يكون بينهما فرجتان فيكون خمسا ، ثمّ يتناهى في العدد إلى ما لا نهاية في الكثرة»(1) .

إنّ بداية هذا الحديث إشارة إلى برهان التمانع ، ونهايته إشارة إلى برهان آخر يسمّى بـ (برهان الفرجة).

وفي حديث آخر : إنّ هشام بن الحكم سأل الإمام الصادقعليه‌السلام : ما الدليل على أنّ الله واحد؟ قال : «اتّصال التدبير ، وتمام الصنع ، كما قال اللهعزوجل : لو كان فيهما آلهة إلّا الله لفسدتا»(2) .

وبعد أن ثبت بالاستدلال الذي ورد في الآية توحيد مدبّر ومدير هذا العالم ، فتقول الآية التالية : إنّه قد نظّم العالم بحكمة لا مجال فيها للإشكال والانتقاص ولا أحد يعترض عليه في خلقه :( لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ ) .

وبالرغم من أنّ المفسّرين قد تكلّموا كثيرا حول تفسير هذه الآية ، إلّا أنّ ما ذكرناه أعلاه يبدو هو الأقرب.

وتوضيح ذلك : أنّ لدينا نوعين من الأسئلة :

الأوّل : السؤال التوضيحي ، وهو أن يكون الإنسان جاهلا ببعض المسائل ،

__________________

(1) التوحيد ، «للصدوق» كما ورد في تفسير نور الثقلين ، الجزء 3 ، ص 417 ـ 418.

(2) المصدر السابق.

١٤٧

ويرغب في أن يدرك حقيقتها ، وحتى إذا علم وآمن بأنّ هذا العمل الذي تمّ كان صحيحا ، فإنّه يريد أن يعلم النقطة الأصليّة والهدف الحقيقي منه ، ومثل هذا السؤال جائز حتّى حول أفعال الله ، بل إنّ هذا السؤال يعتبر أساس ومصدر الفحص والتحقيق في عالم المخلقة والمسائل العلميّة ، وقد كان لأصحاب النّبي والأئمّة كثير من هذه الأسئلة سواء فيما يتعلّق بعالم التكوين أو التشريع.

أمّا النوع الثّاني : فهو السؤال الاعتراضي ، والذي يعني أنّ العمل الذي تمّ كان خطأ ، كأن ينقض إنسان عهده بلا سبب ، فنقول : لماذا نقضت عهدك؟ فليس الهدف طلب التوضيح ، بل الهدف الاعتراض والتخطئة.

من المسلّم أنّ هذا النوع من السؤال لا معنى له حول أفعال الله الحكيم ، وإذا ما اعترض أحد أحيانا فلجهله ، إلّا أنّ مجال هذا السؤال حول أفعال الآخرين واسع.

وفي حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام في جواب سؤال جابر الجعفري عن هذه الآية أنّه قال : «لأنّه لا يفعل إلّا ما كان حكمة وصوابا»(1) .

ويمكن أن تستخلص نتيجة من هذا الكلام ، وهي : إنّ أحدا إذا سأل سؤالا من النوع الثّاني ، فهو دليل على أنّه لم يعرف الله معرفة صحيحة لحدّ الآن ، وهو جاهل بكونه حكيما.

وتشتمل الآية التالية على دليلين آخرين في مجال نفي الشرك ، فمضافا إلى الدليل السابق يصبح مجموعها ثلاثة أدلّة.

تقول الآية أوّلا :( أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ ) وهو إشارة إلى أنّكم إذا صرفتم النظر عن الدليل السابق القائم على أنّ نظام عالم الوجود دليل على التوحيد ، فإنّه لا يوجد أي دليل ـ على الأقل ـ على إثبات الشرك والوهيّة

__________________

(1) توحيد الصدوق ، حسب نقل تفسير نور الثقلين ، الجزء 3 ، ص 419.

١٤٨

هذه الآلهة ، فكيف يتقبّل إنسان عاقل مطلبا لا دليل عليه؟

ثمّ تشير إلى الدليل الأخير فتقول :( هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي ) وهذا هو الدليل الذي ذكره علماء العقائد تحت عنوان (إجماع واتّفاق الأنبياء على التوحيد).

ولمّا كانت كثرة المشركين (وخاصّة في ظرف حياة المسلمين في مكّة ، والتي نزلت فيها هذه السورة) مانعا أحيانا من قبول التوحيد من قبل بعض الأفراد ، فهي تضيف :( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ ) .

لقد كانت مخالفة الأكثرية الجاهلة في كثير من المجتمعات دليل وحجّة لإعراض الغافلين الجاهلين دائما ، وقد انتقد القرآن الاستناد إلى هذه الأكثرية بشدّة في كثير من الآيات ، سواء التي نزلت في مكّة أو المدينة ، ولم يعرها أيّة أهميّة ، بل اعتبر المعيار هو الدليل والمنطق.

ولمّا كان من المحتمل أن يقول بعض الجهلة الغافلين أنّ لدينا أنبياء كعيسى مثلا دعوا إلى آلهة متعدّدة ، فإنّ القرآن الكريم يقول في آخر آية من الآيات محلّ البحث بصراحة تامّة :( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ) وبهذا يثبت أنّه لا عيسى ولا غيره قد دعا إلى الشرك ، ومثل هذه النسبة إليه تهمة وافتراء.

* * *

١٤٩

الآيات

( وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) )

التّفسير

الملائكة عباد مكرمون مطيعون :

لمّا كان الكلام في آخر آية عن الأنبياء ، ونفي كلّ أنواع الشرك ، ونفي كون المسيحعليه‌السلام ولدا ، فإنّ كلّ الآيات محلّ البحث تتحدّث حول نفي كون الملائكة أولادا.

وتوضيح ذلك أنّ كثيرا من مشركي العرب كانوا يعتقدون أنّ الملائكة بنات الله سبحانه ، ولهذا السبب كانوا يعبدونها أحيانا ، والقرآن الكريم انتقد هذه العقيدة الخرافية التي لا أساس لها ، وبيّن بطلانها بالأدلّة المختلفة.

يقول أوّلا :( وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً ) فإن كان مرادهم الولد الحقيقي ، فإنّه

١٥٠

يلزم من هذا الجسميّة ، وإن كان المراد التبنّي ـ والذي كان اعتياديا ومتداولا بين العرب ـ فإنّ ذلك أيضا دليل على الضعف والاحتياج ، وفوق كلّ ذلك فإنّ الذي يحتاج إلى الولد هو الذي يفنى ، ويجب أن يديم ابنه حياته على المدى البعيد ، وكذلك ليبقى نسله وكيانه وآثاره ، أو لإبعاد الإحساس بالوحدة والحاجة إلى المؤنس ، أو ليكتسب القدرة والقوّة. إلّا أنّ الوجود الأزلي الأبدي وغير الجسماني ، وغير المحتاج من جميع الجهات ، لا معنى لوجود الولد له. ولذلك فإنّ القرآن يقول مباشرة :( سُبْحانَهُ ) .

ثمّ تبيّن أوصاف الملائكة في ستّة أقسام تشكّل بمجموعها دليلا واضحا على نفي كونهم أولادا :

1 ـ بل عباد.

2 ـ مكرمون.

فليس هؤلاء عبادا هاربين خضعوا للخدمة تحت ضغط المولى ، بل هم عباد لائقون يعرفون طريق العبودية وأصولها ويفتخرون بها ، ولذلك فإنّ الله سبحانه قد أحبّهم ، وأفاض عليهم من مواهبه نتيجة لإخلاصهم في العبودية.

3 ـ إنّ هؤلاء على درجة من الأدب والخضوع والطاعة لله بحيث( لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ ) .

4 ـ وكذلك من ناحية العمل أيضا فهم مطيعون( وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) .

فهل هذه صفات الأولاد ، أم صفات العبيد؟

ثمّ أشارت إلى إحاطة علم الله بهؤلاء فتقول : إنّ الله تعالى يعلم أعمالهم الحاضرة وفي المستقبل ، وكذلك أعمالهم السالفة ، وأيضا يعلم دنياهم وآخرتهم وقبل وجودهم وبعده :( يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ ) (1) ومن المسلّم أنّ

__________________

(1) للمفسّرين في هذه الجملة ثلاثة تفاسير أوردناها معا في العبارات أعلاه لعدم المنافاة فيما بينها.

١٥١

الملائكة مطّلعون على هذا الموضوع ، وهو أنّ لله إحاطة علمية بهم ، وهذا العرفان هو السبب في أنّهم لا يسبقونه بالقول ، ولا يعصون أمره ، ولهذا فإنّ هذه الجملة يمكن أن تكون بمثابة تعليل للآية السابقة.

5 ـ ولا شكّ أنّ هؤلاء الذين هم عباد الله المكرمون المحترمون يشفعون للمحتاجين ، لكن ينبغي الالتفات إلى أنّ هؤلاء( وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى ) ومن المسلّم أنّ رضى الله وإذنه في الشفاعة لا يمكن أن يكون أي منهما اعتباطيا ، بل لا بدّ أن يكون من أجل الإيمان الحقيقي ، أو الأعمال التي تحفظ علاقة الإنسان بالله.

وبتعبير آخر ، فإنّ من الممكن أن يتلوّث الإنسان بالمعصية ، إلّا أنّه إذا لم يقطع علاقته بالله وأوليائه تماما ، فإنّ الشفاعة تؤمّل في حقّه. أمّا إذا قطع علاقته تماما من ناحية الاتّجاه الفكري والعقائدي ، أو أنّه غرق في المعاصي والانحراف من الناحية العملية ، إلى الحدّ الذي يفقد معه لياقة الشفاعة أو استحقاقها ، ففي هذه الحال سوف لا يشفع له أي نبي مرسل أو ملك مقرّب.

إنّ هذا هو نفس المطلب الذي أوردناه في بحث فلسفة الشفاعة ضمن البحوث السابقة ، بأنّ الشفاعة هي طريق لتهذيب الإنسان ، ووسيلة لإرجاع المذنبين إلى الصراط المستقيم ، والمنع من اليأس أو القنوط ، والذي هو بنفسه عامل للانزلاق والغرق في الانحراف والمعصية.

إنّ الإيمان بمثل هذه الشفاعة يبعث على بقاء ارتباط المذنبين بالله ورسله والأئمّة ، ولا يهدموا كلّ الجسور خلفهم ، ويحفظوا خطّ الرجعة(1) .

ثمّ إنّ هذه الجملة تجيب ضمنا أولئك الذين يقولون : إنّنا نعبد الملائكة لتشفع لنا عند الله ، فيقول القرآن لهم : إنّ هؤلاء لا يقدرون على فعل شيء من تلقاء

__________________

(1) بحثنا في مجال الشفاعة بصورة مفصّلة في ذيل الآيتين (48 و 254) من سورة البقرة فراجع.

١٥٢

أنفسهم ، وكلّ ما تريدونه يجب أن تطلبوه من الله مباشرة ، وحتّى إذن شفاعة الشافعين.

6 ـ ونتيجة لهذه المعرفة والوعي( وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ) فهم لا يخشون من أن يكونوا قد أذنبوا ، بل يخافون من التقصير في العبادة أو ترك الأولى.

ومن بديع اللغة العربية ، أنّ «الخشية» من ناحية الأصل اللغوي لا تعني كلّ خوف ، بل الخوف المقترن بالتعظيم والاحترام.

وكلمة «مشفق» من مادّة الإشفاق ، بمعنى التوجّه الممتزج بالخوف ، لأنّها في الأصل مأخوذة من الشفق ، وهو الضياء الممتزج بالظلمة.

فبناء على هذا ، فإنّ خوف الملائكة ليس كخوف الإنسان من حادثة مرعبة مخيفة ، وكذلك إشفاقهم فإنّه لا يشبه خوف الإنسان من موجود خطر ، بل إنّ خوفهم وإشفاقهم ممزوجان بالاحترام ، والعناية والتوجّه ، والمعرفة والإحساس بالمسؤولية(1) .

من الواضح أنّ الملائكة مع هذه الصفات البارزة والممتازة ، ومقام العبودية الخالصة لا يدّعون الالوهية مطلقا ، أمّا إذا فرضنا ذلك( وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ ).

إنّ ادّعاء الالوهية في الحقيقة مصداق واضح على ظلم النفس والمجتمع ، ويندرج في القانون العامّ( كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ) .

* * *

__________________

(1) مفردات الراغب مادّة خشية وشفق ، وتفسير الصافي ذيل الآيات مورد البحث.

١٥٣

الآيات

( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) )

التّفسير

علامات أخرى لله في عالم الوجود :

تعقيبا على البحوث السابقة حول عقائد المشركين الخرافية ، والأدلّة التي ذكرت على التوحيد ، فإنّ في هذه الآيات سلسلة من براهين الله في عالم الوجود ، وتدبيره المنظّم ، وتأكيدا على هذه البحوث تقول أوّلا :( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ ) .

لقد ذكر المفسّرون أقوالا كثيرة فيما هو المراد من «الرتق» و «الفتق»

١٥٤

المذكورين هنا في شأن السماوات والأرض؟ ويبدو أنّ الأقرب من بينها ثلاثة تفاسير ، ويحتمل أن تكون جميعا داخلة في مفهوم الآية(1) .

1 ـ إنّ رتق السّماء والأرض إشارة إلى بداية الخلقة ، حيث يرى العلماء أنّ كلّ هذا العالم كان كتلة واحدة عظيمة من البخار المحترق ، وتجزّأ تدريجيّا نتيجة الإنفجارات الداخلية والحركة ، فتولّدت الكواكب والنجوم ، ومن جملتها المنظومة الشمسية والكرة الأرضية ، ولا يزال العالم في توسّع دائب.

2 ـ المراد من الرتق هو كون مواد العالم متّحدة ، بحيث تداخلت فيما بينها وكانت تبدو وكأنّها مادّة واحدة ، إلّا أنّها انفصلت عن بعضها بمرور الزمان ، فأوجدت تركيبات جديدة ، وظهرت أنواع مختلفة من النباتات والحيوانات والموجودات الأخرى في السّماء والأرض ، موجودات كلّ منها نظام خاص وآثار وخواص تختص بها ، وكلّ منها آية على عظمة الله وعلمه وقدرته غير المتناهية(2) .

3 ـ إنّ المراد من رتق السّماء هو أنّها لم تكن تمطر في البداية ، والمراد من رتق الأرض أنّها لم تكن تنبت النبات في ذلك الزمان ، إلّا أنّ الله سبحانه فتق الإثنين ، فأنزل من السّماء المطر ، وأخرج من الأرض أنواع النباتات. والرّوايات المتعدّدة الواردة عن طرق أهل البيتعليهم‌السلام تشير إلى المعنى الأخير ، وبعضها يشير إلى التّفسير الأوّل(3) .

لا شكّ أنّ التّفسير الأخير شيء يمكن رؤيته بالعين ، وكيف أنّ المطر ينزل من السّماء ، وكيف تنفتق الأرض وتنمو النباتات ، وهو يناسب تماما قوله تعالى :( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) وكذلك ينسجم وقوله تعالى :( وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ ) .

__________________

(1) الفخر الرازي ، في التّفسير الكبير ، وبعض المفسّرين الآخرين.

(2) الميزان ، ذيل الآية.

(3) يراجع تفسير الصافي ، ونور الثقلين ، ذيل الآية مورد البحث.

١٥٥

إلّا أنّ التّفسيرين الأوّل والثّاني أيضا لا يخالفان المعنى الواسع لهذه الآية ، لأنّ الرؤية تأتي أحيانا بمعنى العلم. صحيح أنّ هذا العلم والوعي ليس للجميع ، بل إنّ العلماء وحدهم الذين يستطيعون أن يكتسبوا العلوم حول ماضي الأرض والسّماء ، واتّصالهما ثمّ انفصالهما ، إلّا أنّنا نعلم أنّ القرآن ليس كتابا مختصا بعصر وزمان معيّن ، بل هو مرشد ودليل للبشر في كلّ القرون والأعصار.

من هذا يظهر أنّ له محتوى عميقا يستفيد منه كلّ قوم وفي كلّ زمان ، ولهذا نعتقد أنّه لا مانع من أن تجتمع للآية التفاسير الثلاثة ، فكلّ في محلّه كامل وصحيح وقد قلنا مرارا : إنّ استعمال لفظ واحد في أكثر من معنى ليس جائزا فحسب ، بل قد يكون أحيانا دليلا على كمال الفصاحة ، وإنّ ما نقرؤه في الرّوايات من أنّ للقرآن بطونا مختلفة يمكن أن يكون إشارة إلى هذا المعنى.

وأمّا فيما يتعلّق بإيجاد كلّ الكائنات الحيّة من الماء الذي أشير إليه في ذيل الآية ، فهناك تفسيران مشهوران :

أحدهما : إنّ حياة كلّ الكائنات الحيّة ـ سواء كانت النباتات أم الحيوانات ـ ترتبط بالماء ، هذا الماء الذي كان مبدؤه ـ المطر الذي نزل من السّماء.

والآخر : إنّ الماء هنا إشارة إلى النطفة التي تتولّد منها الكائنات الحيّة عادة.

وما يلفت النظر أنّ علماء عصرنا الحديث يعتقدون أنّ أوّل انبثاقة للحياة وجدت في أعمال البحار ، وذلك يرون أنّ بداية الحياة من الماء. وإذا كان القرآن يعتبر خلق الإنسان من التراب ، فيجب أن لا ننسى أنّ المراد من التراب هو الطين المركّب من الماء والتراب.

والجدير بالذكر أيضا أنّه طبقا لتحقيقات العلماء ، فإنّ الماء يشكّل الجزء الأكبر من بدن الإنسان وكثير من الحيوانات ، وهو في حدود 70 خ!

وما يورده البعض من أنّ خلق الملائكة والجنّ ليس من الماء ، مع أنّها كائنات حيّة ، فجوابه واضح ، لأنّ المراد هو الموجودات الحيّة المحسوسة بالنسبة لنا.

١٥٦

وفي حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّ رجلا سأله : ما طعم الماء؟ فقال الإمام أوّلا : «سل تفقّها ولا تسأل تعنّتا» ثمّ أضاف : «طعم الماء طعم الحياة! قال الله سبحانه:( وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ ) .

وخاصة عند ما يصل الإنسان إلى الماء السائغ بعد عطش طويل في الصيف ، وفي ذلك الهواء المحرق ، فإنّه حينما تدخل أوّل جرعة ماء إلى جوفه يشعر أنّ الروح قد دبّت في بدنه ، وفي الواقع أراد الإمام أن يجسّد الارتباط والعلاقة بين الحياة والماء بهذا التعبير الجميل.

وأشارت الآية التالية إلى جانب آخر من آيات التوحيد ونعم الله الكبيرة ، فقالت :( وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ ) (1) وقلنا فيما مضى : إنّ الجبال كالدرع الذي يحمي الأرض ، وهذا هو الذي يمنع ـ إلى حدّ كبير ـ من الزلازل الأرضيّة الشديدة التي تحدث نتيجة ضغط الغازات الداخلية. إضافة إلى أنّ وضع الجبال هذا يقلّل من حركات القشرة الأرضيّة أمام ظاهرة المدّ والجزر الناشئة بواسطة القمر إلى الحدّ الأدنى.

ومن جهة أخرى فلو لا الجبال ، فإنّ سطح الأرض سيكون معرّضا للرياح القويّة دائما ، وسوف لا تستقرّ على حال أبدا ، كما هي حال الصحاري المقفرة المحرقة.

ثمّ أشارت الآية إلى نعمة أخرى ، وهي أيضا من آيات عظمة الله ، فقالت :( وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ) .

ولو لم تكن هذه الوديان والفجاج ، فإنّ سلاسل الجبال العظيمة الموجودة في المناطق المختلفة من الأرض كانت ستنفصل بعضها عن بعض بحيث ينفصل

__________________

(1) «رواسي» جمع راسية أي الجبال الثابتة ، ولمّا كانت هذه الجبال تتّصل جذورها ، فيمكن أن تكون إشارة إلى هذا الارتباط ، وقد ثبت من الناحية العلمية أن لاتصال أصول الجبال أثر عميق في منع الزلازل الأرضية. «وتميد» من الميد ، وهو الهزّة والحركة غير الموزونة للأشياء الكبيرة.

١٥٧

ارتباطها تماما ، وهذا يدلّ انّ هذه الظواهر الكونيّة كلّها وفق حساب دقيق.

ولمّا كان استقرار الأرض لا يكفي لوحده لاستقرار حياة الإنسان ، بل يجب أن يكون آمنا ممّا فوقه ، فإنّ الآية التالية تضيف :( وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ ) .

المراد من السّماء هنا ـ كما قلنا سابقا ـ هو الجوّ الذي يحيط بالأرض دائما ، وتبلغ ضخامته مئات الكيلومترات كما توصّل إليه العلماء.

وهذه الطبقة رقيقة ظاهرا ، وتتكوّن من الهواء والغازات ، وهي محكمة ومنيعة إلى الحدّ الذي لا ينفذ جسم من خارجها إلى الأرض إلّا ويفنى ويتحطّم ، فهي تحفظ الكرة الأرضية من سقوط الشهب والنيازك «ليل نهار» التي تعتبر أشدّ خطرا حتّى من القذائف العسكرية.

إضافة إلى أنّ هذا الغلاف الجوي يقوم بتصفية أشعّة الشمس التي تحتوي على أشعّة قاتلة وتمنع من نفوذ تلك الأشعة الكونية القاتلة.

أجل ، إنّ هذه السّماء سقف متين منيع حفظه الله من الهدم والسقوط(1) .

وتطرّقت الآية الأخيرة إلى خلق الليل والنهار والشمس والقمر ، فقالت :( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) .

* * *

بحثان

1 ـ تفسير قوله تعالى :( كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ )

اختلف المفسّرون في تفسير هذه الآية ، أمّا ما يناسب تحقيقات علماء الفلك

__________________

(1) يعتقد بعض المفسّرين أنّ الآية المذكورة تنسجم والآيات التي وردت في القرآن المجيد حول حفظ السّماء من صعود الشياطين بواسطة الشهب ، مثل( وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ ) الصافات ، 7.

إلّا أنّ من الواضح أنّ هذا التّفسير لا يناسب كلمة «سقف» ، لأنّ السقف غطاء لمن تحته ، لا لمن فوقه. دقّقوا ذلك.

١٥٨

الثابتة ، فهو أنّ المراد من حركة الشمس في الآية إمّا الدوران حول نفسها ، أو حركتها ضمن المنظومة الشمسيّة.

ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ كلمة (كل) يمكن أن تكون إشارة إلى الشمس والقمر ، وكذلك النجوم ، والتي تستفاد من كلمة «الليل».

واحتمل بعض المفسّرين أن تكون إشارة إلى كلّ من الليل والنهار والشمس والقمر ، لأنّ «الليل» ـ والذي هو الظّل المخروطي للأرض ـ له مدار خاص ، فإذا نظر إنسان ـ خارج الكرة الأرضية ـ من بعيد إليه ، فسيرى أنّ هذا الظل المخروطي في حركة مستمرة حول الأرض ، وسيرى نور الشمس الذي يشعّ على الأرض ويشكّل في النهار كالأسطوانة التي تنتقل دائما حول هذه الكرة ، وبناء على هذا فإنّ لكلّ من الليل والنهار مدارا ومكانا خاصا به(1) .

ويحتمل أيضا أن يكون المراد من حركة الشمس حركتها في إحساسنا ، لأنّ كلّا من الشمس والقمر في دوران مستمر في نظر الناظرين من أهل الأرض

2 ـ السّماء سقف محكم

قلنا فيما مضى : إنّ (السّماء) وردت في القرآن بمعان مختلفة ، فجاءت تارة بمعنى الجو ، أيّ الطبقة الضخمة من الهواء (الغلاف الغازي) الذي يحيط بالأرض ، كالآية آنفة الذكر. ولا بأس أن نسمع هنا توضيحا أكثر حول إحكام هذا السقف العظيم من لسان العلماء :

كتب (فرانك ألن) أستاذ الفيزياء الحياتية يقول : إنّ الجو الذي يتكوّن من الغازات التي تحفظ الحياة على سطح الأرض ضخم إلى الحدّ الذي يستطيع أن يكون كالدرع الذي يحفظ الأرض من شرّ المجموعة القاتلة المتكوّنة من عشرين

__________________

(1) اقتباس من الميزان ، ذيل الآية.

١٥٩

مليون شهاب سماوي تسير بسرعة 50 كيلومتر في الثّانية لتتساقط يوميا على الأرض.

إنّ الغلاف الجوي إضافة إلى فوائده الأخرى ، فإنّه يحفظ درجة الحرارة على سطح الأرض في حدود مناسبة تساعد على الحياة ، وهو ذخيرة مهمّة جدّا لنقل الماء والبخار من المحيطات إلى اليابسة ، ولو لم يكن كذلك لكانت كلّ القارات صحاري يابسة لا يمكن الحياة فيها ، وعلى هذا فيجب القول بأنّ المحيطات والغلاف الجوّي هي التي تحفظ للأرض توازنها وثباتها في مدارها.

إنّ وزن بعض هذه الشهب التي تسقط على الأرض يبلغ جزءا من ألف من الغرام ، إلّا أنّ قوته نتيجة تلك السرعة الخارقة يعادل قوّة الأجزاء الذرية التي في القنبلة المخرّبة! وقد يكون حجم تلك الشهب بمقدار ذرّة الرمل أحيانا!

في كلّ يوم تحترق ملايين من هذه الشهب قبل وصولها إلى سطح الأرض ، أو تتحوّل إلى بخار ، إلّا أنّ حجم ووزن بعض الشهب كبير إلى حدّ تخترق معه الغلاف الجوي وتصيب سطح الأرض.

ومن جملة الشهب التي عبرت الغلاف الغازي ووصلت إلى الأرض ، هو الشهاب العظيم المعروف بـ (سيبري) ، والذي أصاب الأرض سنة 1908 وكان قطره بشكل أنّه شغل مكانا من الأرض بمقدار (40) كيلومترا تقريبا وسبّب خسائر كبيرة.

والشهاب الآخر الذي سقط في (أريزونا) في أمريكا ، والذي كان بقطر كيلومتر واحد وعمق (200) متر ، أحدث عند سقوطه على الأرض حفرة عميقة فيها ، وتولّدت منه شهب صغيرة كثيرة نتيجة انفجاره شغلت مساحة كبيرة نسبيّا من الأرض.

ويكتب (كرسي موريسن) : إنّ الهواء المحيط بالأرض لو كان أقل قليلا ممّا عليه ، فإنّ الأجرام السماوية والشهب الثاقبة التي ترده بمقدار عدّة ملايين شهاب

١٦٠