الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٠

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 550

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 550 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 206693 / تحميل: 6190
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٠

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

إحرامه من مسيرة ستة أميال فيكون حذاء الشجرة من البيداء » فذيلها صريح في ان الشجرة من البيداء، فيكون الوادي جزء منها.

وفي صحيحة معاوية بن عمار عنهعليه‌السلام قال: إن أسماء بنت عميس نفست بمحمد بن ابي بكر بالبيداء لاربع بقين من ذي القعدة في حجة الوداع، فأمرها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فاغتسلت واحتشت وأحرمت ولبّت مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله واصحابه... الحديث » ومثلها صحيحة العيص، فلو كانت البيداء على بعد ميل كما في كثير من الكلمات لكان ذلك بعد إحرام وحركة الرسول الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله نحو مكة.

وفي صحيحة زرارة والفضلاء ومصححة حمران عن ابي جعفرعليه‌السلام أن أسماء نفست بمحمد في ذي الحليفة، وكل من ترجم محمداًرضي‌الله‌عنه ذكر بأن ولادته كانت في ذي الحليفة أو بالشجرة، ففي سنن ابن ماجة وابي داود وغيرهما عن عائشة ان اسماء نفست بمحمد بالشجرة، وروى النسائي واحمد من العامة عن انس أن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله صلى الظهر بالبيداء ثم ركب وقصد جبل البيداء فأهل للحج، وعن ابن عمر ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بات بذي الحليفة ببيداء وصلى في مسجدها، فالشجرة وذي الحليفة والبيداء إشارة لمكان واحد.

وقد ذكرنا في المواقيت: أن الروايات في تعيين ميقات اهل المدينة على أربع طوائف، الاولى: مادل على ان الميقات هو ذو الحليفة، والثانية: أنه ذو الحليفة وفسر بمسجد الشجرة، والثالثة: ذو الحليفة وفسر بالشجرة، والرابعة: انه الشجرة، ولاريب ان المقصود من الشجرة هو المسجد اذ من الواضح عدم كون الميقات نفس الشجرة، فيدور الامر بين الطائفة الاولى والثانية.

٦١

وقد قيل في مقام الجمع ان الطائفة الثانية مفسرة للاولى او حاكمة عليها، بمعنى ان ذا الحليفة اسم للمسجد خاصة وليس بأعم منه، او هو أعم منه لكن التعبد ضيّق دائرته، فتكون النتيجة أن الميقات هو خصوص المسجد.

وهو كلام متين ووفق القواعد الصناعية لو كنا نحن وهذه الطوائف فقط، إلا انه هناك طائفة خامسة وهي صريحة في عدم انحصار الميقات في المسجد بل في بعضها نهي صريح عن الاحرام منه، المحمول على الاستحباب جمعاً بين الروايات.

ففي صحيحة معاوية بن وهب قال: سألت أبا عبداللهعليه‌السلام عن التهيؤ للاحرام، فقال: في مسجد الشجرة فقد صلى فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد ترى أناساً يحرمون فلا تفعل حتى تنتهي إلى البيداء حيث المَيْل فتحرمون كما أنتم في محاملكم.

وصحيحة منصور بن حازم عنهعليه‌السلام قال: إذا صليت عند الشجرة فلا تلبّ حتى تأتي البيداء حيث يقول الناس يخسف بالجيش.

وصحيحة الحلبي عنهعليه‌السلام قال: الإحرام من مواقيت خمسة وقتها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لاينبغي لحاج ولالمعتمر أن يحرم قبلها ولابعدها، وقت لاهل المدينة ذا الحليفة وهو مسجد الشجرة كان يصلي فيه ويفرض الحج فاذا خرج من المسجد وسار واستوت به البيداء حين يحاذي الميل الاول احرم» فلو كان الميقات هو خصوص المسجد فحسب لكان الصدر والذيل متهافتين فتدبر.

وصحيحة معاوية عنهعليه‌السلام قال: صل المكتوبة ثم احرم بالحج أو المتعة واخرج بغير تلبية حتى تصعد إلى اول البيداء إلى أول ميل عن يسارك

٦٢

...» والمراد من «ثم احرم» اي إنو الحج او العمرة، يشهد له مرسل النضر المتقدم وصحيحة معاوية الاتية.

ومصححة علي بن جعفر عنهعليه‌السلام قال: سألته عن الإحرام عند الشجرة هل يحل لمن أحرم عندها ان لايلبي حتى يعلو البيداء ؟ قال: لايلبي حتي يأتي البيداء عند أول ميل، فأما عند الشجرة فلا يجوز التلبية.

وصحيحة ابن سنان قال سمعت أبا عبداللهعليه‌السلام يقول: ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن يلب حتى يأتي البيداء » وفي صحيحته الاخرى عنهعليه‌السلام : إنما لبى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على البيداء، لان الناس لم يكونوا يعرفون التلبية، فاحب ان يعلمهم كيفية التلبية »، وغيرها من الروايات الصريحة في جواز ابتداء التلبية عند اول ميل من ذي الحليفة، وحملها على الجهر بها خلاف صريح جملة منها، والإلتزام بكون النية لوحدها كافية لتحقق الإحرام خلاف صريح للنصوص.

كما انه لايوجد مايعارض هذه الروايات من النهي عن التلبية عند أول ميل، نعم روايات العامة فيها تعارض واختلاف، فعن ابن عمر - كما في سنن ابي داود وغيره - قال: بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فيها ما أهل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلا من عند المسجد، وفي سنن الترمذي عن الصادق عن ابيهعليهما‌السلام عن جابر أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لما أراد الحج أذن في الناس فاجتمعوا فلما اتى البيداء أحرم.

وقد حاول ابن عباس - كما في سنن ابي داود - من الجمع بين هذه الروايات المختلفة في مكان اهلال الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حاجا فلما صلى في مسجده بذي الحليفة

٦٣

ركعتين أوجب في مجلسه فأهل بالحج حين فرغ من ركعتين فسمع ذلك منه من قدم فحفظه عنه، ثم ركب فلما استقلت به ناقته أهل وادرك ذلك منه أقوام... فقالوا انما أهل رسول الله حين استقلت به ناقته، فلما علا شرف البيداء وأهل ادرك ذلك منه أقوام فقالوا انما أهل حين علا شرف البيداء » وهذا الجمع لايمكن ان يلتزم به اذ صريح نصوص الخاصة وبعض العامة تنفي أن اهلال الرسول وتلبيته كانت في المسجد فراجع.

فالصحيح في الجمع بين هذه الطوائف من الروايات ان تفسير ذي الحليفة بالمسجد من باب تسمية الكل باسم الجزء كما في قوله تعالى (سبحان الذي اسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام ) وقوله ( فلا يقربوا المسجد الحرام ) وقوله ( ذلك لمن لم يكن اهله حاضري المسجد الحرام ) ومن المعلوم ان المقصود بالمسجد في هذه الايات وغيرها هو مكة كما تفيده الروايات، فذو الحليفة ومسجد الشجرة والشجرة كلها مسمّيات لبقعة مكانية واحدة وهي الوادي.

ويشهد لهذا الجمع - مضافا لما مر - التعبير في بعض الروايات عن ذي الحليفة بالشجرة، ففي صحيحة ابن سنان قال: قال ابو عبداللهعليه‌السلام : «ذكر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الحج فكتب الى من بلغه كتابه - الى ان قال - فأقبل الناس فلما نزل الشجرة أمر الناس بنتف الأبط وحلق العانة والغسل والتجرد في ازار ورداء » وفي صحيحة ابن وهب « حتى تأتي الشجرة فتفيض عليك من الماء » وغيرها من الروايات.

مع انه في جملة من الروايات المفصلة لحج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله

٦٤

أن كل ذلك كان في ذي الحليفة، ففي صحيحة معاوية عنهعليه‌السلام : فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في أربع بقين من ذي القعدة، فلما انتهى الى ذي الحليفة فزالت الشمس اغتسل ثم خرج حتى اتي المسجد الذي عند الشجرة فصلى فيه الظهر واحرم بالحج مفردا وخرج حتى انتهي الى البيداء عند الميل الاول فصف الناس له سماطين فلبى بالحج مفردا » فالرواية صريحة في ان الاغتسال في مكان من ذي الحليفة والصلاة في مكان آخر، فالمغتسل غير المصلى مكانا.

وليس هذا مختصاً بروايات الخاصة بل هو عند العامة كذلك، فقد روى ابو داود وابن ماجة عن عائشة ان اسماء نفست بمحمد بالشجرة، وروى الدارمني في سننه عن الصادق عن ابيهعليهما‌السلام عن جابر ان أسماء نفست بذي الحليفة، فالتعبير بالشجرة او مسجد الشجرة من باب تسمية الكل باسم الجزء شرافة وتبركا بالمسجد او الشجرة.

فما استغربه بعض الاعاظم من الفقهاء المعاصرين من مَيْلِ صاحب الحدائققدس‌سره الى وجوب تأخير التلبية الى البيداء تبعا للروايات الكثيرة ليس في محله، اذ ليس اول البيداء او بتعبير النصوص الميل الاول من ذي الحليفة خارج عن الميقات، ولعل عدم الاعتناء والعمل بهذه الروايات لدى عدة من الفقهاء قديما وحديثا ظنهم ان الميل الاول من ذي الحليفة خارج عن الميقات، فيقع التعارض بينه وبين روايات الميقات وإن التلبية هي المحققة للاحرام، والله العالم.

٦٥

الى البيداء(١)

، هذا للرجل وأما المرأة فليس عليها رفع الصوت بالتلبية أصلا.

والاولى لمن عقد الإحرام من سائر المواقيت تأخير التلبية إلى أن يمشي قليلا(٢) ، ولمن عقده من المسجد الحرام تأخيرها إلى الرقطاء وهي موضع دون الردم(٣) ، والردم موضع بمكة قيل: يسمى الان بمدعى بالقرب من مسجد الراية قبيل مسجد الجن.

مسألة ٥١: الواجب من التلبية مرة واحدة، نعم يستحب الإكثار منها وتكرارها ما استطاع، والأحوط(٤) لمن اعتمر عمرة التمتع قطع

____________________

(١) وهو خلاف جملة من الروايات، بل مقتضى الجمع بينها هو افضلية التلبية عند المَيل الاول، والله العالم.

(٢) لقولهعليه‌السلام في صحيحة هشام « وإن شئت لبّيت من موضعك، والفضل أن تمشي قليلا ثم تلبي » بحيث عدم الخروج من الميقات.

(٣) لقولهعليه‌السلام في صحيحة الفضلاء « فإن شئت لَبّيْتَ خلف المقام وأفضل ذلك أن تمضي حتى تأتي الرقطاء وتلبي قبل ان تصير إلى الابطح ».

(٤) وجزم بوجوب القطع السيد الخوئي وبعض اعاظم تلامذته وقواه البعض الاخر، وقد أدعي عليه الاجماع وقطع الاصحاب تبعا للروايات المتعددة، ولعل وجه احتياط الماتن دام ظله صحيحة زرارة قال سألته عليه

=

٦٦

التلبية عند مشاهدة موضع بيوت مكة القديمة، وحده لمن جاء من أعلى مكة عن طريق المدينة «عقبة المدنيين» ولمن جاء من أسفها «عقبة ذي طوى».

كما أن الأحوط(١) لمن اعتمر عمرة مفردة قطعها عند دخول الحرم إذا جاء من خارج الحرم، وعند مشاهدة موضع بيوت مكة اذا كان إحرامه من أدنى الحل، ولمن حجّ بأيّ نوع من أنواع الحج قطعها

____________________

=

السلام أين يمسك المتمتع عن التلبية ؟ فقال: إذا دخل البيوت بيوت مكة لابيوت الابطح »، وصحيحة البزنطي عن ابي الحسن الرضاعليه‌السلام « أنه سال عن المتمتع متى يقطع التلبية، قال: إذا نظر الى عراش مكة عقبة ذي طوى، قلت: بيوت مكة، قال: نعم ».

ودعوى: بعض الاعلام ان صحيحة زرارة مجملة حيث لايعلم ماالمقصود من بيوت مكة هل القديمة او تعم البيوت المستحدثة فتكون الروايات الناصة على قطع التلبية اذا نظر الى بيوت مكة القديمة مبينة للمراد منها.

في غاية الفساد: اذ الابطح هو حد مكة القديمة، فالمقصود من بيوت مكة في صحيحة زرارة هي مكة القديمة لا المستحدثة.

(١) وجزم به وبشقه الثاني السيد الخوئي وبعض اعاظم تلامذته، وهو المشهور، ووجه التوقف اختلاف الروايات، والامر سهل.

٦٧

عند الزوال من يوم عرفة(١) .

مسألة ٥٢: إذا شك بعد لبس الثوبين وقبل التجاوز من المكان الذي لايجوز تأخير التلبية عنه في أنه قد أتى بها أم لا بنى على عدم الاتيان(٢) ، واذا شك بعد الاتيان بالتلبية انه أتى بها صحيحة أم لا بنى على الصحة(٣) .

الأمر الثالث: لبس الثوبين: (الازار والرداء) بعد التجرد عما يجب على المحرم اجتنابه، ويستثنى من ذلك الصبيان، فيجوز تأخير تجريدهم إلى فخ(٤) إذا ساروا من ذلك الطريق.

والظاهر أنه لايعتبر في لبسهما كيفية خاصة، فيجوز الإتزار

____________________

(١) نصاً واجماعا.

(٢) لأصالة العدم.

(٣) لقاعدة الفراغ.

* وإذا تبين له بعد الوقوفين أنه لم يؤد التلبية بصورة صحيحة فإن كان اللحن لايمنع من صدق التلبية عرفا فلا شيء عليه وإلا فليجددها في مكانه ويصح حجه أيضا.

(٤) لصحيحة ابن الحر قال سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن الصبيان من اين نجردهم ؟ فقال: « كان أبي يجردهم من فخ »، ونحوه صحيحة علي بن جعفر، وفخ بئر معروف على فرسخ من مكة.

٦٨

بأحدهما كيف شاء، والارتداء بالآخر أو التوشح به أو غير ذلك من الهيئات، وإن كان الأحوط لبسهما على الطريق المألوف(١) .

مسألة ٥٣: لبس الثوبين للمحرم واجب استقلالي وليس شرطاً في تحقق الإحرام على الأظهر(٢) .

مسألة ٥٤: الأحوط(٣) في الازار ان يكون ساتراً من السرة إلى الركبة، وفي الرداء ان يكون ساتراً للمنكبين والعضدين وقدرا معتدا به من الظهر.

والأحوط وجوبا كون اللبس قبل النيّة والتلبية(٤) ولو قدمهما عليه فالاحوط الاولى إعادتهما بعده(٥) ·

____________________

(١) لقول الحجةعليه‌السلام في مكاتبة الحميري « والأحب إلينا والافضل لكل أحد شده على السبيل المألوفة المعروفة للناس جميعا إن شاء الله» ومنشأ الاحتياط ضعف السند.

(٢) كما هو ظاهر جملة من الروايات الكثيرة.

(٣) وجزم به السيد الخوئي وبعض اعاظم تلامذته، ولادليل عليه ظاهراً إلا دعوى أن ذلك مسمى الصدق العرفي في الاتزار والارتداء، فتأمل.

(٤) كما نسب للمشهور، ووجه التوقف ان لبس الثوبين كما مر واجب مستقل لاشرطا في تحقق الاحرام.

(٥) لاحتمال شرطيته للإحرام.

٦٩

مسألة ٥٥: لو احرم في قميص جاهلاً أو ناسياً نزعه وصح إحرامه(١) ، بل الأظهر صحة إحرامه حتى فيما إذا احرم فيه عالماً عامداً(٢) ، واما إذا لبسه بعد الإحرام فلا إشكال في صحة إحرامه، ولكن يلزم عليه شقه واخراجه من تحت(٣) ·

مسألة ٥٦: لا بأس بالزيادة على الثوبين في ابتداء الإحرام وبعده للتحفظ من البرد أو الحر أو لغير ذلك(٤) ·

____________________

(١) إذ التجرد عن المخيط ليس شرطاً في صحة الإحرام، ولو كان شرطاً لوجب تجديد النية والتلبية، وظاهر الروايات نفيه، ففي صحيحة معاوية عنهعليه‌السلام في رجل احرم وعليه قميصه، فقال: « ينزعه ولا يشقه وإن كان لبسه بعدما احرم شقه واخرجه مما يلي رجليه » وظهورها في عدم الاشتراط واضحة، والظاهر انه لا خلاف بينهم في ذلك.

(٢) لعدم كون لبس الثوبين شرطا في صحة الاحرام، وعدم كون التروك دخيلة في الاحرام، إذ كما مر قصد ترك المحرمات أو قصدها - في الجملة - ليس من شروط او موانع الاحرام فراجع.

(٣) لصحيحة ابن عمّار المتقدمة.

(٤) لعدم المانع، مضافا لصحيحة الحلبي قال: سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن المحرم يتردى بالثوبين، قالعليه‌السلام : « نعم والثلاثة ان شاء يقي بها الحر والبرد ».

٧٠

مسألة ٥٧: يعتبر في الثوبين نفس الشروط المعتبرة في لباس المصلي(١) ، فيلزم ان لا يكونا من الحرير الخالص(٢) ، ولا من اجزاء السباع، بل مطلق مالايؤكل لحمه على الاحوط(٣) ، ولا من المُذّهب، ويلزم طاهرتهما كذلك(٤) ، نعم لا باس بتنجسهما بنجاسة معفو عنها

____________________

(١) نصاً واجماعاً، ففي صحيحة حرير عنهعليه‌السلام «كل ثوب تصلي فيه فلا بأس ان تحرم فيه ».

(٢) تشهد له صحيحة ابي بصير قال: سئل أبو عبداللهعليه‌السلام عن الخميصة سداها ابريسم ولحمتها من غزل ؟ قال: لابأس بأن يحرم فيها، إنما يكره الخالص منه » وغيرها.

(٣) وجزم به السيد الخوئي وأعاظم تلامذته وهو المشهور بين العلماء، ولعل وجه التوقف أن صحيحة حريز المتقدمة غاية ماتدل على أن كل ثوب يصلى فيه يصح الاحرام فيه، وليس لها دلالة على ان كل مالايصلى فيه لايحرم فيه بل هي ساكتة عن هذا الحكم، فتأمل.

وكان الاولى للماتن دام ظله أن يتوقف في اجزاء السباع اذ لامستند لحرمة مالايأكل لحمه إلا صحيحة حريز على الظاهر، نعم وردت مجموعة من الصحاح تنهي عن الصلاة في جلود السباع، ولعله للنهي عن الصلاة فيما لايأكل لحمه، فراجع.

(٤) ففي صحيحة معاوية عنهعليه‌السلام قال: سألته عن المحرم يقارن بين ثيابه التي احرم فيها وبين غيرها ؟ قال: نعم اذا كانت طاهرة.

٧١

في الصلاة(١) .

مسألة ٥٨: الأحوط في الازار ان يكون جميعه ساتراً للبشرة غير حاك عنها(٢) ، ولايعتبر ذلك في الرداء(٣) .

مسألة ٥٩: الاحوط الأولى في الثوبين ان يكونا من المنسوج، ولا يكونا من قبيل الجلد والملبّد(٤) .

مسألة ٦٠: يختص وجوب لبس الازار والرداء بالرجال دون النساء، فيجوز لهنّ أن يحرمنّ في ألبستهنّ العادية(٥) على أن تكون واجدة للشرائط المتقدمة.

مسألة ٦١: ان حرمة لبس الحرير وإن كانت تختص بالرجال ولا يحرم لبسه على النساء إلاّ أن الاحوط(٦) للمرأة ان لا يكون ثوبها من

____________________

(١) ومستنده صحيحة حريز المتقدمة.

(٢) وجزم به السيد الخوئي وبعض اعاظم تلامذته، ومستندهم في ذلك صحيحة حريز وقد تقدم الاشكال في دلالتها والتأمل فراجع.

(٣) لصحة الصلاة فيه.

(٤) لشبهة إحتمال عدم صدق الثوبين عليهما.

(٥) يمكن ان يستفاد ذلك من روايات جواز لبس المخيط لهنَّ وغير ذلك.

(٦) وجزم بعدم الجواز السيد الخوئي واعاظم تلامذته، ومن القدماء

=

٧٢

الحرير، بل الاحوط ان لاتلبس شيئا من الحرير الخالص في جميع أحوال الإحرام(١) إلا في حال الضرورة كالاتقاء من البرد والحر(٢) .

مسألة ٦٢: إذا تنجس أحد الثوبين أو كلاهما بعد التلبس بالإحرام فالأحوط(٣) المبادرة إلى التبديل أو التطهير(٤) .

____________________

=

الصدوق والشيخ في المقنعة والسيد في الجمل والشهيد في الدروس، وذهب الى الجواز المفيد في احكام النساء وابن ادريس وأكثر المتأخرين، ومنشأ الخلاف اختلاف الروايات، ولعل النصرة للقائلين بالجواز والله العالم.

(١) لاطلاق النصوص.

(٢) ففي موثقة سماعة عنهعليه‌السلام « لاينبغي للمرأة أن تلبس الحرير المحض وهي محرمة، فاما في الحر والبرد فلا بأس ».

(٣) مر انه يشترط طهارة ثوبي الاحرام عند عقده، وهل يشترط ذلك استدامة كما هو ابتداءا ؟ مقتضى ظهور جملة من الروايات اشتراط ذلك، ففي صحيحة معاوية عنهعليه‌السلام قال: سألته عن المحرم يقارن بين ثيابه التي احرم فيها وبين غيرها، قال: نعم إذا كانت طاهرة » وفي صحيحة الاخرى قال: سألته عن المحرم يصيب ثوبه الجنابة ؟ قال: لايلبسه حتى يغسله، واحرامه تام» ودعوى ان قولهعليه‌السلام «لايلبسه» ظاهر في أنه لم يتحقق اللبس بعد، باطلة لاستعمال مثل هذه الصيغة في الرفع والدفع، ومع اشتراط الطهارة استدامة لابد من المبادرة العرفية للتطهير او التبديل.

(٤) * فمرشد الحاج او غيره اذا تطلب عمله ان يبقى فترة طويلة في

٧٣

مسألة ٦٣: لا تجب الاستدامة في لباس الإحرام، فلا بأس بإلقائه عن متنه لضرورة أو غيره ضرورة(١) ، كما لا بأس بتبديله على ان يكون البدل واجداً للشرائط.

تروك الإحرام

قلنا في ما سبق: إن الإحرام لا ينعقد بدون التلبية أو ما بحكمها وإن حصلت منه نية الإحرام، وإذا أحرم المكلّف حرمت عليه أمور، وهي خمسة وعشرون(٢) كما يلي:

١ - الصيد البري، ٢ - مجامعة النساء ٣ - تقبيل النساء، ٤ لمس المرأة، ٥ - النظر إلى المرأة وملاعبتها، ٦ - الاستمناء، ٧ - عقد النكاح ٨ - استعمال الطيب، ٩ - لبس المخيط أو مابحكمه للرجل،

____________________

(١) وهي على ثلاثة أقسام، الأول: مشترك بين الرجال والنساء، والثاني، مختص بالرجال دون النساء، والثالث، مختص بالنساء دون الرجال.

(٢) وهي على ثلاثة أقسام، الأول: مشترك بين الرجال والنساء، والثاني، مختص بالرجال دون النساء، والثالث، مختص بالنساء دون الرجال·

٧٤

١٠ - التكحل، ١١ - النظر في المرآة، ١٢ - لبس الخف والجورب للرجال ١٣ - الفسوق، ١٤ - المجادلة، ١٥ - قتل هوام الجسد، ١٦ التزين، ١٧ - الأدهان ١٨ - إزالة الشعر من البدن، ١٩ - ستر الرأس للرجال وهكذا الارتماس في الماء حتى على النساء، ٢٠ - ستر الوجه للنساء، ٢١ - التظليل للرجال، ٢٢ - إخراج الدم من البدن، ٢٣ - التقليم، ٢٤ - قلع الضرس ٢على قول، ٢٥ - حمل السلاح.

١ - الصيد البري

مسألة ٦٤: لا يجوز للمحرم استحلال شيء من صيد البرّ، سواء في ذلك اصطياده وقتله وجرحه وكسر عضو منه، بل مطلق إيذائه، كما لايجوز ذلك للمحلّ في الحرم أيضا، والمراد بالصيد الحيوان الممتنع بالطبع وإن تأهل لعارض، ولافرق فيه بين أن يكون محلّل الأكل أم لا على الاظهر(١) .

مسألة ٦٥: تحرم على المحرم إعانة غيره - مُحلاً كان أو محرماً - على صيد الحيوان البرّي، حتى بمثل الاشارة إليه، بل الأحوط عدم

____________________

(١) لشمول إطلاق الروايات لكل حيوان بري مطلقا.

٧٥

إعانته في مطلق مايحرم على المحرم استحلاله من الصيد.

مسألة ٦٦: لا يجوز للمُحرِم إمساك الصيد البري، والاحتفاظ به سواء اصطاده هو - ولو قبل إحرامه - أم غيره في الحلّ أم الحرم.

مسألة ٦٧: لايجوز للمحرم أكل شيء من الصيد وإن كان قد اصطاده المحل في الحلّ، كما يحرم على المحلّ - على الاحوط - مااصطاده المحرم في الحل قتله بالاصطياد أو ذبحه بعد اصطياده، وكذلك يحرم على المحلّ مااصطاده أو ذبحه المحرم أو المحلّ في الحرم.

* مسألة ٦٨: إذا اصطاد المحرم حيوانا في الحرم فأخرجه إلى خارج الحرم جاهلا بالحكم أو عالما به يجب عليه إعادته إلى الحرم.

مسألة ٦٩: يثبت لفرخ الصيد البّري حكم نفسه، وأما بيضه فلا يبعد حرمة أخذه وكسره وأكله على المحرم، والاحوط ان لايعين غيره على ذلك ايضا.

مسألة ٧٠: الأحكام المتقدمة - كما ذكرنا - إنما تختص بصيد البرّ، ومنه الجراد، وأما صيد البحر فلا بأس به، والمراد بصيد البحر ما يعيش في الماء فقط كالسمك، واما ما يعيش في الماء وخارجه فملحق بالبري، ولا بأس بصيد ما يشك في كونه برياً على الأظهر.

مسألة ٧١: كما يحرم على المحرم صيد البرّ كذلك يحرم عليه

٧٦

قتل شيء من الدوابّ وإن لم يكن من الصيد، ويستثنى من ذلك موارد:

١ - الحيوانات الاهلية - إن توحشت - كالغنم والبقر والإبل، ومالايستقلّ بالطيران من الطيور كالدجاج حتى الدجاج الحبشي (الغرغر) فإنه يجوز له ذبحها، كما لابأس بذبح مايشك في كونه أهلياً.

٢ - ماخشيه المحرم على نفسه أو أراده من السباع والحيات وغيرهما، فإنه يجوز له قتله.

٣ - سباع الطيور إذا آذت حمام الحرم، فيجوز قتلها أيضاً.

٤ - الأفعى والأسود الغدر وكل حيّة سوء والعقرب والفارة، فإنه يجوز قتلها مطلقاً، ولاكفارة في قتل شيء ممّا ذكر، كما لاكفارة في قتل السباع مطلقا - إلا الاسد - على المشهور.

وقيل بثبوت الكفارة - وهي قيمته - في قتل مالم يرده منها.

مسألة ٧٢: لابأس للمحرم أن يرمي الغراب والحدأة، ولاكفارة لو أصابهما الرمي وقتلهما.

* مسألة ٧٣: لايجوز للمحرم قتل الوزغ.

١ - كفّارات الصيد

مسألة ٧٤: في قتل النعامة بدنة، وفي قتل بقرة الوحش بقرة،

٧٧

وكذا في قتل حمار الوحش على الأحوط، وفي قتل الظبي والأرنب شاة، وكذلك في الثعلب على الأحوط.

مسألة ٧٥: من اصاب شيئاً من الصيد، فان كان فداؤه بدنة ولم يجد مايشتريه به فعليه اطعام ستين مسكيناً، لكل مسكين مد، فإن لم يقدر صام ثمانية عشر يوماً، وإن كان فداؤه بقرة ولم يجدها فليطعم ثلاثين مسكيناً، فإن لم يقدر صام تسعة أيام، وإن كان فداؤه شاة ولم يجد فليطعم عشرة مساكين، فإن لم يقدر صام ثلاثة أيام.

مسألة ٧٦: في قتل القطاة والحجل والدراج ونظيرها حمل قد فطم من اللبن وأكل من الشجر، وفي العصفور والقبرة والصعوة مد من الطعام على الاظهر، وفي قتل غير ماذكر من الطيور - كالحمامة ونحوها - شاة، وفي فرخه حمل أو جدي، وحكم بيضه إذا كان فيه فرخ يتحرّك حكم الفرخ، وإذا كان فيه فرخ لايتحرّك ففيه درهم، وكذا إذا كان مجردا عن الفرخ على الاحوط، وفي قتل جرادة واحدة تمرة أو كف من الطعام، والثاني افضل، ومع التعدد تتعدد الكفارة إلا إذا كان كثيرا عرفا فإن فيه شاة.

مسألة ٧٧: في قتل اليربوع والقنفذ والضب جدي وفي قتل العظاية كف من الطعام.

مسألة ٧٨: في قتل الزنبور متعمداً إطعام شيء من الطعام، واذا كان القتل دفعاً لايذائه فلا شيء عليه.

٧٨

مسألة ٧٩: إذا أصاب المحرم الصيد في خارج الحرم فعليه الفداء، او قيمته السوقية فيما لاتقدير لفديته، وإذا أصابه المحلّ في الحرم فعليه القيمة، إلا في الاسد فإن فيه كبشا على الاظهر، وإذا أصابه المحرم في الحرم فعليه الجمع بين الكفارتين.

مسألة ٨٠: يجب على المحرم ان ينحرف عن الجادة إذا كان فيها الجراد، فان لم يتمكن فلا بأس بقتلها.

مسألة ٨١: لو اشترك جماعة محرمون في قتل صيد، فعلى كل واحد منهم كفّارة مستقلة.

مسألة ٨٢: كفّارة أكل الصيد ككفارة الصيد نفسه، فلو صاده المحرم وأكله فعليه كفارتان.

مسألة ٨٣: إذا كان مع المحل صيد ودخل الحرم يجب عليه ارساله، فان لم يرسله حتى مات لزمه الفداء، ومن أحرم ومعه صيد حرم عليه إمساكه مطلقا كما تقدم، وإن لم يرسله حتى مات لزمه الفداء ولو كان ذلك قبل دخول الحرم على الأحوط.

مسألة ٨٤: لا فرق في وجوب الكفّارة في قتل الصيد وأكله بين العمد والسهو والجهل.

مسألة ٨٥: تتكرر الكفّارة بتكرر الصيد لخطأ أو نسيان أو اضطرار أو جهل يعذر فيه، وكذلك في العمد إذا كان الصيد من المحل في الحرم، أو من المحرم مع تعدد الإحرام، واما اذا تكرر الصيد عمدا

٧٩

من المحرم في إحرام واحد فلا تجب الكفارة بعد المرة الاولى، بل هو ممن قال الله تعالى فيه:( ومن عاد فينتقم الله منه ) .

٢ - مجامعة النساء

مسألة ٨٦: يحرم على المحرم الجماع أثناء عمرة التمتع، وكذا أثناء العمرة المفردة وأثناء الحج قبل الاتيان بصلاة طواف النساء(١) .

مسألة ٨٧: إذا جامع المتمتع أثناء عمرته قُبلاً أو دُبراً عالماً عامداً فإن كان بعد الفراغ من السعي لم تفسد عمرته ووجبت عليه الكفّارة(٢) وهي على الاحوط جزور أو بقرة(٣) ، وإن كان قبل الفراغ

____________________

(١) بلا خلاف في ذلك أصلا.

(٢) كما هو مقتضى النصوص.

(٣) وذهب بعض الاعاظم إلى ان كفارته شاة والاحوط مافي المتن، وخيّر آخر بين الجزور والبقرة والشاة وإن كان الاحوط ان يكفّر الموسر بالجزور والمتوسط بالبقرة.

والروايات على ثلاث طوائف، ففي صحيحة معاوية انه ينحر جزورا، وفي صحيحة الحلبي عليه جزور او بقرة، وفي صحيحة ابن مسكان عليه دم

=

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

فنحن نقرأ في الآية (١٧) من سورة محمّد قوله تعالى :( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً ) فهل يدلّ التعبير بالزيادة إلّا على التكامل؟

وهنا ينقدح سؤال ، وهو : إذا كان الهدف هو التكامل ، فلما ذا لم يخلق الله الإنسان كاملا منذ البداية حتّى لا يكون محتاجا إلى طيّ مراحل التكامل؟

إنّ أساس هذا الإشكال هو الغفلة عن هذه النقطة ، وهي أنّ العنصر الأصلي للتكامل هو التكامل الاختياري ، وبتعبير آخر فإنّ التكامل يعني أن يطوي الإنسان الطريق بنفسه وإرادته وتصميمه ، فإذا أخذوا بيده وأوصلوه بالقوّة والجبر فليس هذا افتخارا ولا تكاملا.

فمثلا : لو أنفق الإنسان فلسا واحدا من ماله بإرادته وتصميمه ، فقد طوى من طريق الكمال الأخلاقي بتلك النسبة ، في حين أنّه لو أجبر على إنفاق الملايين من ثروته ، فإنّه لم يتقدّم خطوة واحدة في ذلك الطريق ، ولذلك صرّح القرآن بهذه الحقيقة في الآيات المختلفة ، وهي أنّ الله سبحانه لو شاء لأجبر الناس على أن يؤمنوا ، إلّا أنّ هذا الإيمان لا نفع فيه لهؤلاء :( وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً ) (١) .

* * *

__________________

(١) يونس ، ٩٩.

١٤١

الآيات

( وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (٢٠) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥) )

التّفسير

الشرك ينبع من الظنّ :

كان الكلام في الآيات السابقة عن أنّ عالم الوجود ليس عبثيّا لا هدف من ورائه ، فلا مزاح ولا عبث ، ولا لهو ولا لعب ، بل له هدف تكاملي دقيق للبشر.

١٤٢

ولمّا كان من الممكن أن يوجد هذا التّوهّم ، وهو : ما حاجة الله إلى إيماننا وعبادتنا؟

فإنّ الآيات التي نبحثها تجيب أوّلا عن هذا التوهّم ، وتقول :( وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَمَنْ عِنْدَهُ ) (أي الملائكة)( لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ ) (١) ( يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ ) .

ومع هذا الحال فأي حاجة لطاعتكم وعبادتكم؟ فكلّ هؤلاء الملائكة المقرّبين مشغولون بالتسبيح ليلا ونهارا ، وهو تعالى لا يحتاج حتّى لعبادة هؤلاء ، فإذا كنتم قد أمرتم بالإيمان والعمل الصالح والعبودية فإنّ كلّ ذلك سيعود بالنفع عليكم.

وهنا نقطة تلفت الانتباه أيضا ، وهي أنّه في نظام العبيد والموالي الظاهري ، كلّما تقرّب العبد من مولاه يقلّ خضوعه أمامه ، لأن يختصّ به أكثر ، فيحتاجه المولى أكثر. أمّا في نظام عبوديّة الخلق والخالق فالأمر على العكس ، فكلّما اقتربت الملائكة وأولياء الله من الله سبحانه زادت عبوديتهم(٢) .

وبعد أن نفت في الآيات السابقة عبثيّة ولا هدفيّة عالم الوجود ، وأصبح من المسلّم أنّ لهذا العالم هدفا مقدّسا ، فإنّ هذه الآيات تتطرّق إلى بحث مسألة وحدة المعبود ومدبّر هذا العالم ، فتقول :( أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ ) (٣) .

وهذه الجملة في الحقيقة إشارة إلى أنّ المعبود يجب أن يكون خالقا ، وخاصّة خلق الحياة ، لأنّها أوضح مظاهر الخلق ومصاديقه. وهذا في الحقيقة يشبه ما نقرؤه

__________________

(١) «يستحسرون» في الأصل من مادّة حسر ، وفي الأصل تعني رفع النقاب والستار عن الشيء المغطّى ، ثمّ استعملت بمعنى التعب والضعف ، فكأنّ كلّ قوى الإنسان تصرف في مثل هذه الحالة ، ولا يبقى منها شيء مخفي في بدنه.

(٢) الميزان ، ذيل الآيات محلّ البحث.

(٣) «ينشرون» من مادّة نشر ، أي فكّ الشيء المعقّد الملفوف ، وهو كناية عن الخلق وانتشار المخلوقات في أرجاء الأرض والسّماء. ويصرّ بعض المفسّرين على اعتبار هذه الجملة إشارة إلى المعاد ورجوع الأموات إلى الحياة من جديد ، في حين أنّه بملاحظة الآيات التالية سيتّضح أنّ الكلام عن توحيد الله وأنّه المعبود الحقيقي ، وليس عن المعاد والحياة بعد الموت.

١٤٣

في الآية (٧٣) من سورة الحجّ :( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ) ومع هذا الحال كيف يكون هؤلاء أهلا للعبادة؟

التعبير بـ( آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ ) إشارة إلى الأصنام والمعبودات التي كانوا يصنعونها من الحجارة والخشب ، وكانوا يظنّونها حاكمة على السماوات.

وتبيّن الآية التالية أحد الأدلّة الواضحة على نفي آلهة وأرباب المشركين ، فتقول :( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) .

هذه الادّعاءات غير الصحيحة وهذه الأرباب المصنوعة والآلهة المظنونة ليست إلّا أوهاما ، وساحة كبرياء ذاته المقدّسة لا تتلوّث بهذه النسب المغلوطة.

برهان التمانع :

إنّ الدليل الوارد في الآية آنفة الذكر ولإثبات التوحيد ونفي الآلهة ، في الوقت الذي هو بسيط وواضح ، فإنّه من البراهين الفلسفيّة الدقيقة في هذا الباب ، ويذكره العلماء تحت عنوان (برهان التمانع). ويمكن إيضاح خلاصة هذا البرهان بما يلي :

إنّنا نرى ـ بدون شكّ ـ نظاما واحدا حاكما في هذا العالم ، ذلك النظام المتناسق من جميع جهاته ، فقوانينه ثابتة تجري في الأرض والسّماء ، ومناهجه متطابقة بعضها مع بعضها ، وأجزاؤه متناسبة.

إنّ انسجام القوانين وأنظمة الخلقة هذا يحكي أنّها تنبع من عين واحدة ، لأنّ البدايات إن كانت متعدّدة ، والإرادات مختلفة ، لم يكن يوجد هذا الانسجام مطلقا ، وهذا الشيء الذي يعبّر عنه القرآن بـ (الفساد) يلاحظ في العالم بوضوح.

إذا كنّا من أهل التحقيق والمطالعة ـ ولو قليلا ـ فإنّا نستطيع أن نفهم جيدا من خلال تحقيق كتاب ما ، أنّ كاتبه شخص واحد أم عدّة أشخاص؟ فإنّ الكتاب الذي يؤلّفه شخص واحد يوجد انسجام خاص بين عباراته ، ترتيب

جمله ، تعبيراته المختلفة ، كناياته وإشاراته ، عناوينه ورؤوس مطالبه ، طريقة الدخول في البحوث

١٤٤

والخروج منها ، والخلاصة : إنّ كلّ أقسامه متحدّة متناسقة لأنّها وليدة فكر واحد ، وترشّح قلم واحد.

أمّا إذا تعهّد شخصان أو عدّة أشخاص بأن يؤلّف كلّ منهم جزءا من الكتاب ـ وإن كان الجميع علماء متقاربين في الروح والتفكير ـ فستظهر آثار هذه الازدواجية أو الكثرة في العبارات والألفاظ ، وطريقة الأبحاث. وسبب ذلك واضح ، لأنّ الفردين مهما كانا منسجمين في الفكر والذوق ، فإنّهما في النتيجة فردان ، فلو كانت كلّ أشيائهما واحدة لأصبحا فردا واحدا ، فبناء على هذا فيجب أن يكون هناك تفاوت فيما بينهما قطعا ليتمكّنا أن يكونا فردين ، وهذا الاختلاف سيؤثّر أثره في النتيجة ، وسيبدي آثاره في كتاباتهما.

وكلّما كان هذا الكتاب أكبر وأكثر تفصيلا ، ويبحث مواضيع متنوّعة ، فإنّ عدم الانسجام يلمس فيه أوضح. وكتاب عالم الخلقة الكبير ، الذي نضيّع بكلّ وجودنا في طيّات عباراته لعظمته يشمله هذا القانون أيضا.

حقّا إنّنا لا نستطيع مطالعة كلّ هذا الكتاب حتّى لو صرفنا كلّ عمرنا في مطالعته ، إلّا أنّ هذا القدر الذي وفّقنا نحن ـ وجميع العلماء ـ لمطالعته منسجم إلى الحدّ الذي يدلّ تماما على وحدة مؤلّفه إنّنا كلّما تصفّحنا هذا الكتاب العجيب فستظهر بين كلماته وسطوره وصفحاته آثار تنظيم عال وانسجام منقطع النظير.

فإذا كانت هناك إرادات وبدايات متعدّدة تتدخّل في إدارة هذا العالم وتنظيمه ، فهل كان بالإمكان أن يوجد مثل هذا الانسجام؟

ولو فكّرنا : لماذا يستطيع علماء الفضاء أن يرسلوا السفن الفضائية إلى الفضاء بدقّة كاملة ، وينزلوا العربة على القمر في المحلّ الذي قدروه من الناحية العلمية بدقّة متناهية ، ثمّ يحرّكونها من هناك وينزلونها إلى الأرض في المحل الذي توقّعوه؟

ألم تكن هذه الدقّة في الحسابات لكون النظام الحاكم على كلّ الوجود الذي

١٤٥

هو أساس حسابات هؤلاء العلماء ـ دقيقا ومنسجما ، بحيث إذا كان هناك شيء من عدم الانسجام ـ ومن الناحية الزمنيّة جزء من مائة من الثّانية ـ فستضطرب جميع حساباتهم؟

ونقول باختصار : إذا كانت هناك إرادتان أو عدّة إرادات حاكمة في العالم ، فإنّ لكلّ واحدة قضاء ، وكانت الاخرى تمحو أثر الأولى ، وسيؤول العالم إلى الفساد عندئذ.

سؤال :

وهنا يثار سؤال يمكن استلهام جوابه من التوضيحات السابقة ، وهو : إنّ تعدّد الآلهة يكون منشأ للفساد عند ما يحارب أحدها الآخر ، أمّا إذا اعتقدنا بأنّ هؤلاء أفراد حكماء عالمون ، فإنّهم يتعاونون فيما بينهم ويديرون العالم.

وجواب هذا السؤال لا لبس فيه : فإنّ كونهم حكماء لا يزيل تعدّدهم ، فعند ما نقول : إنّهم متعدّدون ، فإنّ معناه إنّهم ليسوا متحدّين من جميع الجهات ، لأنّهم إن اتّحدوا من كلّ الجوانب أصبحوا إلها واحدا ، وبناء على ذلك فأينما وجد التعدّد وجد الاختلاف الذي يؤثّر في الإدارة والعمل شئنا أم أبينا ، وهذا سيجرّ عالم الوجود إلى الهرج والمرج.

وقد استند في بعض هذه الاستدلالات إلى أنّه لو كان هناك إرادتان حاكمتان على الخلق ، لما كان هناك عالم أصلا. في حين أنّ هذه الآية تتحدّث عن فساد العالم واختلال النظام ، لا عن عدم وجود العالم.

ومن اللطيف أن نقرأ في حديث يرويه هشام بن الحكم عن الإمام الصادقعليه‌السلام في جواب الرجل الملحد الذي كان يتحدّث عن تعدّد الآلهة ، أنّه قال :

«لا يخلو قولك أنّهما اثنان من أن يكونا قويين أو يكونا ضعيفين ، أو يكون أحدهما قويّا والآخر ضعيفا ، فإن كانا قويّين فلم لا يدفع كلّ واحد منهما صاحبه

١٤٦

وينفرد بالتدبير ، وإن زعمت أنّ أحدهما قوي والآخر ضعيف ثبت أنّه واحد كما تقول ، للعجز الظاهر في الثّاني ، وإن قلت : إنّهما اثنان ، لا يخلو من أن يكونا متّفقين من كلّ جهة أو متفرّقين من كلّ جهة ، فلمّا رأينا الخلق منتظما ، والفلك جاريا ، واختلاف الليل والنهار ، والشمس والقمر ، دلّ صحّة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر أنّ المدبّر واحد.

ثمّ يلزمك إن ادّعيت إثنين فلا بدّ من فرجة بينهما حتّى يكونا إثنين ، فصارت الفرجة ثالثا بينهما قديما معهما فيلزمك ثلاثة ، فإن ادّعيت ثلاثة لزمك ما قلنا في الإثنين حتّى يكون بينهما فرجتان فيكون خمسا ، ثمّ يتناهى في العدد إلى ما لا نهاية في الكثرة»(١) .

إنّ بداية هذا الحديث إشارة إلى برهان التمانع ، ونهايته إشارة إلى برهان آخر يسمّى بـ (برهان الفرجة).

وفي حديث آخر : إنّ هشام بن الحكم سأل الإمام الصادقعليه‌السلام : ما الدليل على أنّ الله واحد؟ قال : «اتّصال التدبير ، وتمام الصنع ، كما قال اللهعزوجل : لو كان فيهما آلهة إلّا الله لفسدتا»(٢) .

وبعد أن ثبت بالاستدلال الذي ورد في الآية توحيد مدبّر ومدير هذا العالم ، فتقول الآية التالية : إنّه قد نظّم العالم بحكمة لا مجال فيها للإشكال والانتقاص ولا أحد يعترض عليه في خلقه :( لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ ) .

وبالرغم من أنّ المفسّرين قد تكلّموا كثيرا حول تفسير هذه الآية ، إلّا أنّ ما ذكرناه أعلاه يبدو هو الأقرب.

وتوضيح ذلك : أنّ لدينا نوعين من الأسئلة :

الأوّل : السؤال التوضيحي ، وهو أن يكون الإنسان جاهلا ببعض المسائل ،

__________________

(١) التوحيد ، «للصدوق» كما ورد في تفسير نور الثقلين ، الجزء ٣ ، ص ٤١٧ ـ ٤١٨.

(٢) المصدر السابق.

١٤٧

ويرغب في أن يدرك حقيقتها ، وحتى إذا علم وآمن بأنّ هذا العمل الذي تمّ كان صحيحا ، فإنّه يريد أن يعلم النقطة الأصليّة والهدف الحقيقي منه ، ومثل هذا السؤال جائز حتّى حول أفعال الله ، بل إنّ هذا السؤال يعتبر أساس ومصدر الفحص والتحقيق في عالم المخلقة والمسائل العلميّة ، وقد كان لأصحاب النّبي والأئمّة كثير من هذه الأسئلة سواء فيما يتعلّق بعالم التكوين أو التشريع.

أمّا النوع الثّاني : فهو السؤال الاعتراضي ، والذي يعني أنّ العمل الذي تمّ كان خطأ ، كأن ينقض إنسان عهده بلا سبب ، فنقول : لماذا نقضت عهدك؟ فليس الهدف طلب التوضيح ، بل الهدف الاعتراض والتخطئة.

من المسلّم أنّ هذا النوع من السؤال لا معنى له حول أفعال الله الحكيم ، وإذا ما اعترض أحد أحيانا فلجهله ، إلّا أنّ مجال هذا السؤال حول أفعال الآخرين واسع.

وفي حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام في جواب سؤال جابر الجعفري عن هذه الآية أنّه قال : «لأنّه لا يفعل إلّا ما كان حكمة وصوابا»(١) .

ويمكن أن تستخلص نتيجة من هذا الكلام ، وهي : إنّ أحدا إذا سأل سؤالا من النوع الثّاني ، فهو دليل على أنّه لم يعرف الله معرفة صحيحة لحدّ الآن ، وهو جاهل بكونه حكيما.

وتشتمل الآية التالية على دليلين آخرين في مجال نفي الشرك ، فمضافا إلى الدليل السابق يصبح مجموعها ثلاثة أدلّة.

تقول الآية أوّلا :( أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ ) وهو إشارة إلى أنّكم إذا صرفتم النظر عن الدليل السابق القائم على أنّ نظام عالم الوجود دليل على التوحيد ، فإنّه لا يوجد أي دليل ـ على الأقل ـ على إثبات الشرك والوهيّة

__________________

(١) توحيد الصدوق ، حسب نقل تفسير نور الثقلين ، الجزء ٣ ، ص ٤١٩.

١٤٨

هذه الآلهة ، فكيف يتقبّل إنسان عاقل مطلبا لا دليل عليه؟

ثمّ تشير إلى الدليل الأخير فتقول :( هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي ) وهذا هو الدليل الذي ذكره علماء العقائد تحت عنوان (إجماع واتّفاق الأنبياء على التوحيد).

ولمّا كانت كثرة المشركين (وخاصّة في ظرف حياة المسلمين في مكّة ، والتي نزلت فيها هذه السورة) مانعا أحيانا من قبول التوحيد من قبل بعض الأفراد ، فهي تضيف :( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ ) .

لقد كانت مخالفة الأكثرية الجاهلة في كثير من المجتمعات دليل وحجّة لإعراض الغافلين الجاهلين دائما ، وقد انتقد القرآن الاستناد إلى هذه الأكثرية بشدّة في كثير من الآيات ، سواء التي نزلت في مكّة أو المدينة ، ولم يعرها أيّة أهميّة ، بل اعتبر المعيار هو الدليل والمنطق.

ولمّا كان من المحتمل أن يقول بعض الجهلة الغافلين أنّ لدينا أنبياء كعيسى مثلا دعوا إلى آلهة متعدّدة ، فإنّ القرآن الكريم يقول في آخر آية من الآيات محلّ البحث بصراحة تامّة :( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ) وبهذا يثبت أنّه لا عيسى ولا غيره قد دعا إلى الشرك ، ومثل هذه النسبة إليه تهمة وافتراء.

* * *

١٤٩

الآيات

( وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩) )

التّفسير

الملائكة عباد مكرمون مطيعون :

لمّا كان الكلام في آخر آية عن الأنبياء ، ونفي كلّ أنواع الشرك ، ونفي كون المسيحعليه‌السلام ولدا ، فإنّ كلّ الآيات محلّ البحث تتحدّث حول نفي كون الملائكة أولادا.

وتوضيح ذلك أنّ كثيرا من مشركي العرب كانوا يعتقدون أنّ الملائكة بنات الله سبحانه ، ولهذا السبب كانوا يعبدونها أحيانا ، والقرآن الكريم انتقد هذه العقيدة الخرافية التي لا أساس لها ، وبيّن بطلانها بالأدلّة المختلفة.

يقول أوّلا :( وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً ) فإن كان مرادهم الولد الحقيقي ، فإنّه

١٥٠

يلزم من هذا الجسميّة ، وإن كان المراد التبنّي ـ والذي كان اعتياديا ومتداولا بين العرب ـ فإنّ ذلك أيضا دليل على الضعف والاحتياج ، وفوق كلّ ذلك فإنّ الذي يحتاج إلى الولد هو الذي يفنى ، ويجب أن يديم ابنه حياته على المدى البعيد ، وكذلك ليبقى نسله وكيانه وآثاره ، أو لإبعاد الإحساس بالوحدة والحاجة إلى المؤنس ، أو ليكتسب القدرة والقوّة. إلّا أنّ الوجود الأزلي الأبدي وغير الجسماني ، وغير المحتاج من جميع الجهات ، لا معنى لوجود الولد له. ولذلك فإنّ القرآن يقول مباشرة :( سُبْحانَهُ ) .

ثمّ تبيّن أوصاف الملائكة في ستّة أقسام تشكّل بمجموعها دليلا واضحا على نفي كونهم أولادا :

١ ـ بل عباد.

٢ ـ مكرمون.

فليس هؤلاء عبادا هاربين خضعوا للخدمة تحت ضغط المولى ، بل هم عباد لائقون يعرفون طريق العبودية وأصولها ويفتخرون بها ، ولذلك فإنّ الله سبحانه قد أحبّهم ، وأفاض عليهم من مواهبه نتيجة لإخلاصهم في العبودية.

٣ ـ إنّ هؤلاء على درجة من الأدب والخضوع والطاعة لله بحيث( لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ ) .

٤ ـ وكذلك من ناحية العمل أيضا فهم مطيعون( وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) .

فهل هذه صفات الأولاد ، أم صفات العبيد؟

ثمّ أشارت إلى إحاطة علم الله بهؤلاء فتقول : إنّ الله تعالى يعلم أعمالهم الحاضرة وفي المستقبل ، وكذلك أعمالهم السالفة ، وأيضا يعلم دنياهم وآخرتهم وقبل وجودهم وبعده :( يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ ) (١) ومن المسلّم أنّ

__________________

(١) للمفسّرين في هذه الجملة ثلاثة تفاسير أوردناها معا في العبارات أعلاه لعدم المنافاة فيما بينها.

١٥١

الملائكة مطّلعون على هذا الموضوع ، وهو أنّ لله إحاطة علمية بهم ، وهذا العرفان هو السبب في أنّهم لا يسبقونه بالقول ، ولا يعصون أمره ، ولهذا فإنّ هذه الجملة يمكن أن تكون بمثابة تعليل للآية السابقة.

٥ ـ ولا شكّ أنّ هؤلاء الذين هم عباد الله المكرمون المحترمون يشفعون للمحتاجين ، لكن ينبغي الالتفات إلى أنّ هؤلاء( وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى ) ومن المسلّم أنّ رضى الله وإذنه في الشفاعة لا يمكن أن يكون أي منهما اعتباطيا ، بل لا بدّ أن يكون من أجل الإيمان الحقيقي ، أو الأعمال التي تحفظ علاقة الإنسان بالله.

وبتعبير آخر ، فإنّ من الممكن أن يتلوّث الإنسان بالمعصية ، إلّا أنّه إذا لم يقطع علاقته بالله وأوليائه تماما ، فإنّ الشفاعة تؤمّل في حقّه. أمّا إذا قطع علاقته تماما من ناحية الاتّجاه الفكري والعقائدي ، أو أنّه غرق في المعاصي والانحراف من الناحية العملية ، إلى الحدّ الذي يفقد معه لياقة الشفاعة أو استحقاقها ، ففي هذه الحال سوف لا يشفع له أي نبي مرسل أو ملك مقرّب.

إنّ هذا هو نفس المطلب الذي أوردناه في بحث فلسفة الشفاعة ضمن البحوث السابقة ، بأنّ الشفاعة هي طريق لتهذيب الإنسان ، ووسيلة لإرجاع المذنبين إلى الصراط المستقيم ، والمنع من اليأس أو القنوط ، والذي هو بنفسه عامل للانزلاق والغرق في الانحراف والمعصية.

إنّ الإيمان بمثل هذه الشفاعة يبعث على بقاء ارتباط المذنبين بالله ورسله والأئمّة ، ولا يهدموا كلّ الجسور خلفهم ، ويحفظوا خطّ الرجعة(١) .

ثمّ إنّ هذه الجملة تجيب ضمنا أولئك الذين يقولون : إنّنا نعبد الملائكة لتشفع لنا عند الله ، فيقول القرآن لهم : إنّ هؤلاء لا يقدرون على فعل شيء من تلقاء

__________________

(١) بحثنا في مجال الشفاعة بصورة مفصّلة في ذيل الآيتين (٤٨ و ٢٥٤) من سورة البقرة فراجع.

١٥٢

أنفسهم ، وكلّ ما تريدونه يجب أن تطلبوه من الله مباشرة ، وحتّى إذن شفاعة الشافعين.

٦ ـ ونتيجة لهذه المعرفة والوعي( وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ) فهم لا يخشون من أن يكونوا قد أذنبوا ، بل يخافون من التقصير في العبادة أو ترك الأولى.

ومن بديع اللغة العربية ، أنّ «الخشية» من ناحية الأصل اللغوي لا تعني كلّ خوف ، بل الخوف المقترن بالتعظيم والاحترام.

وكلمة «مشفق» من مادّة الإشفاق ، بمعنى التوجّه الممتزج بالخوف ، لأنّها في الأصل مأخوذة من الشفق ، وهو الضياء الممتزج بالظلمة.

فبناء على هذا ، فإنّ خوف الملائكة ليس كخوف الإنسان من حادثة مرعبة مخيفة ، وكذلك إشفاقهم فإنّه لا يشبه خوف الإنسان من موجود خطر ، بل إنّ خوفهم وإشفاقهم ممزوجان بالاحترام ، والعناية والتوجّه ، والمعرفة والإحساس بالمسؤولية(١) .

من الواضح أنّ الملائكة مع هذه الصفات البارزة والممتازة ، ومقام العبودية الخالصة لا يدّعون الالوهية مطلقا ، أمّا إذا فرضنا ذلك( وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ ).

إنّ ادّعاء الالوهية في الحقيقة مصداق واضح على ظلم النفس والمجتمع ، ويندرج في القانون العامّ( كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ) .

* * *

__________________

(١) مفردات الراغب مادّة خشية وشفق ، وتفسير الصافي ذيل الآيات مورد البحث.

١٥٣

الآيات

( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣) )

التّفسير

علامات أخرى لله في عالم الوجود :

تعقيبا على البحوث السابقة حول عقائد المشركين الخرافية ، والأدلّة التي ذكرت على التوحيد ، فإنّ في هذه الآيات سلسلة من براهين الله في عالم الوجود ، وتدبيره المنظّم ، وتأكيدا على هذه البحوث تقول أوّلا :( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ ) .

لقد ذكر المفسّرون أقوالا كثيرة فيما هو المراد من «الرتق» و «الفتق»

١٥٤

المذكورين هنا في شأن السماوات والأرض؟ ويبدو أنّ الأقرب من بينها ثلاثة تفاسير ، ويحتمل أن تكون جميعا داخلة في مفهوم الآية(١) .

١ ـ إنّ رتق السّماء والأرض إشارة إلى بداية الخلقة ، حيث يرى العلماء أنّ كلّ هذا العالم كان كتلة واحدة عظيمة من البخار المحترق ، وتجزّأ تدريجيّا نتيجة الإنفجارات الداخلية والحركة ، فتولّدت الكواكب والنجوم ، ومن جملتها المنظومة الشمسية والكرة الأرضية ، ولا يزال العالم في توسّع دائب.

٢ ـ المراد من الرتق هو كون مواد العالم متّحدة ، بحيث تداخلت فيما بينها وكانت تبدو وكأنّها مادّة واحدة ، إلّا أنّها انفصلت عن بعضها بمرور الزمان ، فأوجدت تركيبات جديدة ، وظهرت أنواع مختلفة من النباتات والحيوانات والموجودات الأخرى في السّماء والأرض ، موجودات كلّ منها نظام خاص وآثار وخواص تختص بها ، وكلّ منها آية على عظمة الله وعلمه وقدرته غير المتناهية(٢) .

٣ ـ إنّ المراد من رتق السّماء هو أنّها لم تكن تمطر في البداية ، والمراد من رتق الأرض أنّها لم تكن تنبت النبات في ذلك الزمان ، إلّا أنّ الله سبحانه فتق الإثنين ، فأنزل من السّماء المطر ، وأخرج من الأرض أنواع النباتات. والرّوايات المتعدّدة الواردة عن طرق أهل البيتعليهم‌السلام تشير إلى المعنى الأخير ، وبعضها يشير إلى التّفسير الأوّل(٣) .

لا شكّ أنّ التّفسير الأخير شيء يمكن رؤيته بالعين ، وكيف أنّ المطر ينزل من السّماء ، وكيف تنفتق الأرض وتنمو النباتات ، وهو يناسب تماما قوله تعالى :( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) وكذلك ينسجم وقوله تعالى :( وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ ) .

__________________

(١) الفخر الرازي ، في التّفسير الكبير ، وبعض المفسّرين الآخرين.

(٢) الميزان ، ذيل الآية.

(٣) يراجع تفسير الصافي ، ونور الثقلين ، ذيل الآية مورد البحث.

١٥٥

إلّا أنّ التّفسيرين الأوّل والثّاني أيضا لا يخالفان المعنى الواسع لهذه الآية ، لأنّ الرؤية تأتي أحيانا بمعنى العلم. صحيح أنّ هذا العلم والوعي ليس للجميع ، بل إنّ العلماء وحدهم الذين يستطيعون أن يكتسبوا العلوم حول ماضي الأرض والسّماء ، واتّصالهما ثمّ انفصالهما ، إلّا أنّنا نعلم أنّ القرآن ليس كتابا مختصا بعصر وزمان معيّن ، بل هو مرشد ودليل للبشر في كلّ القرون والأعصار.

من هذا يظهر أنّ له محتوى عميقا يستفيد منه كلّ قوم وفي كلّ زمان ، ولهذا نعتقد أنّه لا مانع من أن تجتمع للآية التفاسير الثلاثة ، فكلّ في محلّه كامل وصحيح وقد قلنا مرارا : إنّ استعمال لفظ واحد في أكثر من معنى ليس جائزا فحسب ، بل قد يكون أحيانا دليلا على كمال الفصاحة ، وإنّ ما نقرؤه في الرّوايات من أنّ للقرآن بطونا مختلفة يمكن أن يكون إشارة إلى هذا المعنى.

وأمّا فيما يتعلّق بإيجاد كلّ الكائنات الحيّة من الماء الذي أشير إليه في ذيل الآية ، فهناك تفسيران مشهوران :

أحدهما : إنّ حياة كلّ الكائنات الحيّة ـ سواء كانت النباتات أم الحيوانات ـ ترتبط بالماء ، هذا الماء الذي كان مبدؤه ـ المطر الذي نزل من السّماء.

والآخر : إنّ الماء هنا إشارة إلى النطفة التي تتولّد منها الكائنات الحيّة عادة.

وما يلفت النظر أنّ علماء عصرنا الحديث يعتقدون أنّ أوّل انبثاقة للحياة وجدت في أعمال البحار ، وذلك يرون أنّ بداية الحياة من الماء. وإذا كان القرآن يعتبر خلق الإنسان من التراب ، فيجب أن لا ننسى أنّ المراد من التراب هو الطين المركّب من الماء والتراب.

والجدير بالذكر أيضا أنّه طبقا لتحقيقات العلماء ، فإنّ الماء يشكّل الجزء الأكبر من بدن الإنسان وكثير من الحيوانات ، وهو في حدود ٧٠ خ!

وما يورده البعض من أنّ خلق الملائكة والجنّ ليس من الماء ، مع أنّها كائنات حيّة ، فجوابه واضح ، لأنّ المراد هو الموجودات الحيّة المحسوسة بالنسبة لنا.

١٥٦

وفي حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّ رجلا سأله : ما طعم الماء؟ فقال الإمام أوّلا : «سل تفقّها ولا تسأل تعنّتا» ثمّ أضاف : «طعم الماء طعم الحياة! قال الله سبحانه:( وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ ) .

وخاصة عند ما يصل الإنسان إلى الماء السائغ بعد عطش طويل في الصيف ، وفي ذلك الهواء المحرق ، فإنّه حينما تدخل أوّل جرعة ماء إلى جوفه يشعر أنّ الروح قد دبّت في بدنه ، وفي الواقع أراد الإمام أن يجسّد الارتباط والعلاقة بين الحياة والماء بهذا التعبير الجميل.

وأشارت الآية التالية إلى جانب آخر من آيات التوحيد ونعم الله الكبيرة ، فقالت :( وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ ) (١) وقلنا فيما مضى : إنّ الجبال كالدرع الذي يحمي الأرض ، وهذا هو الذي يمنع ـ إلى حدّ كبير ـ من الزلازل الأرضيّة الشديدة التي تحدث نتيجة ضغط الغازات الداخلية. إضافة إلى أنّ وضع الجبال هذا يقلّل من حركات القشرة الأرضيّة أمام ظاهرة المدّ والجزر الناشئة بواسطة القمر إلى الحدّ الأدنى.

ومن جهة أخرى فلو لا الجبال ، فإنّ سطح الأرض سيكون معرّضا للرياح القويّة دائما ، وسوف لا تستقرّ على حال أبدا ، كما هي حال الصحاري المقفرة المحرقة.

ثمّ أشارت الآية إلى نعمة أخرى ، وهي أيضا من آيات عظمة الله ، فقالت :( وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ) .

ولو لم تكن هذه الوديان والفجاج ، فإنّ سلاسل الجبال العظيمة الموجودة في المناطق المختلفة من الأرض كانت ستنفصل بعضها عن بعض بحيث ينفصل

__________________

(١) «رواسي» جمع راسية أي الجبال الثابتة ، ولمّا كانت هذه الجبال تتّصل جذورها ، فيمكن أن تكون إشارة إلى هذا الارتباط ، وقد ثبت من الناحية العلمية أن لاتصال أصول الجبال أثر عميق في منع الزلازل الأرضية. «وتميد» من الميد ، وهو الهزّة والحركة غير الموزونة للأشياء الكبيرة.

١٥٧

ارتباطها تماما ، وهذا يدلّ انّ هذه الظواهر الكونيّة كلّها وفق حساب دقيق.

ولمّا كان استقرار الأرض لا يكفي لوحده لاستقرار حياة الإنسان ، بل يجب أن يكون آمنا ممّا فوقه ، فإنّ الآية التالية تضيف :( وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ ) .

المراد من السّماء هنا ـ كما قلنا سابقا ـ هو الجوّ الذي يحيط بالأرض دائما ، وتبلغ ضخامته مئات الكيلومترات كما توصّل إليه العلماء.

وهذه الطبقة رقيقة ظاهرا ، وتتكوّن من الهواء والغازات ، وهي محكمة ومنيعة إلى الحدّ الذي لا ينفذ جسم من خارجها إلى الأرض إلّا ويفنى ويتحطّم ، فهي تحفظ الكرة الأرضية من سقوط الشهب والنيازك «ليل نهار» التي تعتبر أشدّ خطرا حتّى من القذائف العسكرية.

إضافة إلى أنّ هذا الغلاف الجوي يقوم بتصفية أشعّة الشمس التي تحتوي على أشعّة قاتلة وتمنع من نفوذ تلك الأشعة الكونية القاتلة.

أجل ، إنّ هذه السّماء سقف متين منيع حفظه الله من الهدم والسقوط(١) .

وتطرّقت الآية الأخيرة إلى خلق الليل والنهار والشمس والقمر ، فقالت :( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) .

* * *

بحثان

١ ـ تفسير قوله تعالى :( كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ )

اختلف المفسّرون في تفسير هذه الآية ، أمّا ما يناسب تحقيقات علماء الفلك

__________________

(١) يعتقد بعض المفسّرين أنّ الآية المذكورة تنسجم والآيات التي وردت في القرآن المجيد حول حفظ السّماء من صعود الشياطين بواسطة الشهب ، مثل( وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ ) الصافات ، ٧.

إلّا أنّ من الواضح أنّ هذا التّفسير لا يناسب كلمة «سقف» ، لأنّ السقف غطاء لمن تحته ، لا لمن فوقه. دقّقوا ذلك.

١٥٨

الثابتة ، فهو أنّ المراد من حركة الشمس في الآية إمّا الدوران حول نفسها ، أو حركتها ضمن المنظومة الشمسيّة.

ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ كلمة (كل) يمكن أن تكون إشارة إلى الشمس والقمر ، وكذلك النجوم ، والتي تستفاد من كلمة «الليل».

واحتمل بعض المفسّرين أن تكون إشارة إلى كلّ من الليل والنهار والشمس والقمر ، لأنّ «الليل» ـ والذي هو الظّل المخروطي للأرض ـ له مدار خاص ، فإذا نظر إنسان ـ خارج الكرة الأرضية ـ من بعيد إليه ، فسيرى أنّ هذا الظل المخروطي في حركة مستمرة حول الأرض ، وسيرى نور الشمس الذي يشعّ على الأرض ويشكّل في النهار كالأسطوانة التي تنتقل دائما حول هذه الكرة ، وبناء على هذا فإنّ لكلّ من الليل والنهار مدارا ومكانا خاصا به(١) .

ويحتمل أيضا أن يكون المراد من حركة الشمس حركتها في إحساسنا ، لأنّ كلّا من الشمس والقمر في دوران مستمر في نظر الناظرين من أهل الأرض

٢ ـ السّماء سقف محكم

قلنا فيما مضى : إنّ (السّماء) وردت في القرآن بمعان مختلفة ، فجاءت تارة بمعنى الجو ، أيّ الطبقة الضخمة من الهواء (الغلاف الغازي) الذي يحيط بالأرض ، كالآية آنفة الذكر. ولا بأس أن نسمع هنا توضيحا أكثر حول إحكام هذا السقف العظيم من لسان العلماء :

كتب (فرانك ألن) أستاذ الفيزياء الحياتية يقول : إنّ الجو الذي يتكوّن من الغازات التي تحفظ الحياة على سطح الأرض ضخم إلى الحدّ الذي يستطيع أن يكون كالدرع الذي يحفظ الأرض من شرّ المجموعة القاتلة المتكوّنة من عشرين

__________________

(١) اقتباس من الميزان ، ذيل الآية.

١٥٩

مليون شهاب سماوي تسير بسرعة ٥٠ كيلومتر في الثّانية لتتساقط يوميا على الأرض.

إنّ الغلاف الجوي إضافة إلى فوائده الأخرى ، فإنّه يحفظ درجة الحرارة على سطح الأرض في حدود مناسبة تساعد على الحياة ، وهو ذخيرة مهمّة جدّا لنقل الماء والبخار من المحيطات إلى اليابسة ، ولو لم يكن كذلك لكانت كلّ القارات صحاري يابسة لا يمكن الحياة فيها ، وعلى هذا فيجب القول بأنّ المحيطات والغلاف الجوّي هي التي تحفظ للأرض توازنها وثباتها في مدارها.

إنّ وزن بعض هذه الشهب التي تسقط على الأرض يبلغ جزءا من ألف من الغرام ، إلّا أنّ قوته نتيجة تلك السرعة الخارقة يعادل قوّة الأجزاء الذرية التي في القنبلة المخرّبة! وقد يكون حجم تلك الشهب بمقدار ذرّة الرمل أحيانا!

في كلّ يوم تحترق ملايين من هذه الشهب قبل وصولها إلى سطح الأرض ، أو تتحوّل إلى بخار ، إلّا أنّ حجم ووزن بعض الشهب كبير إلى حدّ تخترق معه الغلاف الجوي وتصيب سطح الأرض.

ومن جملة الشهب التي عبرت الغلاف الغازي ووصلت إلى الأرض ، هو الشهاب العظيم المعروف بـ (سيبري) ، والذي أصاب الأرض سنة ١٩٠٨ وكان قطره بشكل أنّه شغل مكانا من الأرض بمقدار (٤٠) كيلومترا تقريبا وسبّب خسائر كبيرة.

والشهاب الآخر الذي سقط في (أريزونا) في أمريكا ، والذي كان بقطر كيلومتر واحد وعمق (٢٠٠) متر ، أحدث عند سقوطه على الأرض حفرة عميقة فيها ، وتولّدت منه شهب صغيرة كثيرة نتيجة انفجاره شغلت مساحة كبيرة نسبيّا من الأرض.

ويكتب (كرسي موريسن) : إنّ الهواء المحيط بالأرض لو كان أقل قليلا ممّا عليه ، فإنّ الأجرام السماوية والشهب الثاقبة التي ترده بمقدار عدّة ملايين شهاب

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550