الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٠

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل7%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 550

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 550 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 206788 / تحميل: 6195
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٠

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

فيه ، وقد سطعت نورانيّته ، والذين يسيرون في طريقه سعداء منتصرون؟!

ولكي نعرف مدى أثر القرآن في التوعية وما له من البركات ، فيكفي أن نرى حال سكّان جزيرة العرب قبل نزول القرآن عليهم ، إذ كانوا يعيشون في جاهلية جهلاء وفقر وتعاسة وتفرّق وتمزّق ، ثمّ نرى حالهم بعد نزول القرآن حيث أصبحوا أسوة ومثلا حسنا للآخرين ، ونرى كذلك حال الأقوام الآخرين قبل وصول القرآن إليهم وبعده.

* * *

١٨١

الآيات

( وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (٥٣) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (٥٥) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦) وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨) )

التّفسير

تخطيط إبراهيمعليه‌السلام لتحطيم الأصنام :

قلنا : أنّ هذه السورة تحدّثت ـ كما هو معلوم من اسمها ـ عن جوانب عديدة من حالات الأنبياء ـ ستّة عشر نبيّا ـ فقد أشير في الآيات السابقة إشارة قصيرة إلى رسالة موسى وهارونعليهما‌السلام ، وعكست هذه الآيات وبعض الآيات الآتية جانبا

١٨٢

مهمّا من حياة إبراهيمعليه‌السلام ومواجهته لعبدة الأصنام ، فتقول أوّلا :( وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ ) .

«الرشد» في الأصل بمعنى السير إلى المقصد والغاية ، ومن الممكن أن يكون هنا إشارة إلى حقيقة التوحيد ، وأنّ إبراهيم عرفها واطّلع عليها منذ سني الطفولة.

وقد يكون إشارة إلى كلّ خير وصلاح بمعنى الكلمة والواسع.

والتعبير بـ( مِنْ قَبْلُ ) إشارة إلى ما قبل موسى وهارونعليهما‌السلام .

وجملة( وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ ) إشارة إلى مؤهّلات واستعدادات إبراهيم لاكتساب هذه المواهب ، وفي الحقيقة إنّ الله سبحانه لا يهب موهبة عبثا وبلا حكمة ، فإنّ هذه المؤهّلات استعداد لتقبّل المواهب الإلهيّة ، وإن كان مقام النبوّة مقاما موهوبا.

ثمّ أشارت إلى أحد أهمّ مناهج إبراهيمعليه‌السلام ، فقالت : إنّ رشد إبراهيم قد بان عند ما قال لأبيه وقومه ـ وهو إشارة إلى عمّه آزر ، لأنّ العرب تسمّي العمّ أبا ـ ما هذه التماثيل التي تعبدونها؟( إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ ) .

لقد حقّر إبراهيمعليه‌السلام الأصنام التي كان لها قدسيّة في نظر هؤلاء بتعبير( ما هذِهِ ) (١) أوّلا ، وثانيا بتعبير( التَّماثِيلُ ) لأنّ التمثال يعني الصورة أو المجسّمة التي لا روح لها. ويقول تاريخ عبادة الأصنام : إنّ هذه المجسّمات والصور كانت في البداية ذكرى للأنبياء والعلماء ، إلّا أنّها اكتسبت قدسيّة وأصبحت آلهة معبودة بمضي الزمان.

وجملة( أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ ) بملاحظة معنى «العكوف» الذي يعني الملازمة المقترنة بالاحترام ، توحي بأنّ أولئك كانوا يحبّون الأصنام ، ويطأطئون رؤوسهم في حضرتها ويطوفون حولها ، وكأنّهم كانوا ملازميها دائما.

__________________

(١) إنّ التعبير بـ (ما) في مثل هذه الموارد يشير عادة إلى غير العاقل ، واسم الإشارة القريب أيضا يعطي معنى التحقير أيضا ، وإلّا كان المناسب الإشارة إلى البعيد.

١٨٣

إنّ مقولة إبراهيمعليه‌السلام هذه في الحقيقة استدلال على بطلان عبادة الأصنام ، لأنّ ما نراه من الأصنام هو المجسّمة والتمثال ، والباقي خيال وظنّ وأوهام ، فأي إنسان عاقل يسمح لنفسه أن يوجب عليها كلّ هذا التعظيم والاحترام لقبضة حجر أو كومة خشب؟ لماذا يخضع الإنسان ـ الذي هو أشرف المخلوقات ـ أمام ما صنعه بيده ، ويطلب منه حلّ مشاكله ومعضلاته؟!

إلّا أنّ عبدة الأصنام لم يكن عندهم ـ في الحقيقة ـ جواب أمام هذا المنطق السليم القاطع ، سوى أن يبعدوا المسألة عن أنفسهم ويلقوها على عاتق آبائهم ، ولهذا( قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ ) .

ولمّا كانت حجّتهم بأنّ «هذه العبادة هي سنّة الآباء» غير مجدية نفعا ولا نمتلك دليلا على أنّ السابقين من الآباء والأجداد أعقل وأكثر معرفة من الأجيال المقبلة ، بل القضيّة على العكس غالبا ، لأنّ العلم يتّسع بمرور الزمن ، فأجابهم إبراهيم مباشرة فـ( قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) .

إنّ هذا التعبير المقترن بأنواع التأكيدات ، والحاكي عن الحزم التامّ سبّب أن يرجع عبدة الأصنام إلى أنفسهم قليلا ، ويتوجّهوا إلى التحقّق من قول إبراهيم ، فأتوا إلى إبراهيم( قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ ) لأنّ أولئك الذين كانوا قد اعتادوا على عبادة الأصنام ، وكانوا يظنّون أنّ ذلك حقيقة حتميّة ، ولم يكونوا يصدّقون أنّ أحدا يخالفها بصورة جديّة ، ولذلك سألوا إبراهيم هذا السؤال تعجّبا.

إلّا أنّ إبراهيم أجابهم بصراحة :( قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ) .

إنّ إبراهيمعليه‌السلام قد بيّن بهذه الكلمات القاطعة أنّ الذي يستحقّ العبادة هو خالقهم وخالق الأرض وكلّ الموجودات ، أمّا قطع الحجر والخشب المصنوعة فهي لا شيء ، وليس لها حقّ العبادة ، وخاصة وقد أكّد بجملة( وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ) فأنا لست الشاهد الوحيد على هذه الحقيقة ، بل إنّ كلّ العقلاء الذين

١٨٤

قطعوا حبل التقليد الأعمى شاهدون على هذه الحقيقة.

ومن أجل أن يثبت إبراهيم جديّة هذه المسألة ، وأنّه ثابت على عقيدته إلى أبعد الحدود ، وأنّه يتقبّل كلّ ما يترتّب على ذلك بكلّ وجوده ، أضاف :( وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ) .

«أكيدنّ» مأخوذة من الكيد ، وهو التخطيط السري ، والتفكير المخفي وكان مراده أن يفهمهم بصراحة بأنّني سأستغلّ في النهاية فرصة مناسبة واحطّم هذه الأصنام!

إلّا أنّ عظمة وهيبة الأصنام في نفوسهم ربّما كانت قد بلغت حدّا لم يأخذوا معه كلام إبراهيم مأخذ الجدّ ، ولم يظهروا ردّ فعل تجاهه ، وربّما ظنّوا بأنّ أي إنسان لا يسمح لنفسه أن يهزأ ويسخر من مقدّسات قوم تدعم حكومتهم تلك المقدّسات تماما ، بأيّة جرأة؟ وبأيّة قوّة؟!

ومن هنا يتّضح أنّ ما قاله بعض المفسّرين من أنّ هذه الجملة قد قالها إبراهيم سرّا في نفسه ، أو بيّنها لبعض بصورة خاصّة لا داعي له ، خاصّة وأنّه مخالف تماما لظاهر الآية. إضافة إلى أنّنا سنقرأ بعد عدّة آيات أنّ عبّاد الأصنام قد تذكّروا قول إبراهيم ، وقالوا : سمعنا فتى كان يتحدّث عن مؤامرة ضدّ الأصنام.

على كلّ حال ، فإنّ إبراهيم نفّذ خطّته في يوم كان معبد الأوثان خاليا من الناس ولم يكن أحد من الوثنيين حاضرا.

وتوضيح ذلك : إنّه طبقا لنقل بعض المفسّرين ، فإنّ عبدة الأوثان كانوا قد اتّخذوا يوما خاصّا من كلّ سنة عيدا لأصنامهم ، وكانوا يحضرون الأطعمة عند أصنامهم في المعبد في ذلك اليوم ، ثمّ يخرجون من المدينة أفواجا ، وكانوا يرجعون في آخر النهار ، فيأتون إلى المعبد ليأكلوا من ذلك الطعام الذي نالته البركة في اعتقادهم.

وكانوا قد عرضوا على إبراهيم أن يخرج معهم ، إلّا أنّه اعتذر بالمرض ولم

١٨٥

يخرج معهم.

على كلّ حال ، فإنّ إبراهيم من دون أن يحذر من مغبّة هذا العمل وما سيحدث من غضب عبدة الأصنام العارم ، دخل الميدان برجولة وتوجّه إلى حرب هذه الآلهة الجوفاء ـ التي لها أنصار متعصّبون جهّال ـ بشجاعة خارقة وحطّمها بصورة يصفها القرآن فيقول :( فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ ) وكان هدفه من تركه( لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ) (١) .

* * *

ملاحظتان

١ ـ الصنميّة في أشكال متعدّدة

صحيح أنّ أذهاننا تنصرف من لفظ عبادة الأصنام إلى الأصنام الحجرية والخشبية على الأكثر ، إلّا أنّ الصنم والصنمية ـ من وجهة نظر ـ لها مفهوم واسع يشمل كلّ ما يبعد الإنسان عن الله ، بأي شكل وصورة كان ، حيث يقول الحديث المعروف : «كلّما شغلك عن الله فهو صنمك».

وفي حديث عن الأصبغ بن نباته ـ وهو أحد أصحاب الإمام عليعليه‌السلام المعروفين أنّه قال : انّ علياعليه‌السلام مرّ بقوم يلعبون الشطرنج ، فقال : «ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ لقد عصيتم الله ورسوله»(٢) .

__________________

(١) قال كثير من المفسّرين : إنّ مرجع ضمير (إليه) إلى إبراهيم ، وقال البعض أنّ المراد هو الصنم الكبير ، إلّا أنّ الأوّل يبدو هو الأصحّ.

أمّا ما نقرؤه في الآية آنفة الذكر من أنّه كان أكبرهم ، فيمكن أن يكون إشارة إلى كبره الظاهري ، أو إشارة إلى احترامه من قبل عبّاد الأصنام الخرافيين ، أو إلى الإثنين معا.

(٢) مجمع البيان ، ذيل الآية مورد البحث.

١٨٦

٢ ـ قول عبدة الأصنام وجواب إبراهيم

ممّا يلفت النظر أنّ عبدة الأصنام قالوا في جواب إبراهيمعليه‌السلام ، اعتمادا على كثرتهم ، وعلى طول الزمان : إنّا وجدنا آباءنا على هذا الدين. فأجابهم على كلا الشّقين ، بأنّكم كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين دائما. أي إنّ الإنسان العاقل الذي له تفكير مستقل لا يربط نفسه بمثل هذه الأوهام مطلقا ، فلا يعتبر كثرة الأنصار للمذهب المتداول دليلا على أصالته ، وكذلك لا يعتنى بدوامه وتجذّره.

* * *

١٨٧

الآيات

( قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (٦٠) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥) قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (٦٦) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٧) )

التّفسير

إبراهيم وبرهانه المبين :

وأخيرا انتهى يوم العيد ، ورجع عبدة الأصنام فرحين إلى المدينة ، فأتوا إلى المعبد مباشرة ، حتّى يظهروا ولاءهم للأصنام ، وليأكلوا من الأطعمة التي تبرّكت ـ

١٨٨

بزعمهم ـ بمجاورة الأصنام. فما أن دخلوا المعبد حتّى واجهوا منظرا أطار عقولهم من رؤوسهم ، فقد وجدوا تلّا من الأيادي والأرجل المكسّرة المتراكمة بعضها على البعض الآخر في ذلك المعبد المعمور ، فصاحوا و( قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا ) (١) ؟! ولا ريب أنّ من فعل ذلك فـ( إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ ) فقد ظلم آلهتنا ومجتمعنا ونفسه! لأنّه عرض نفسه للهلاك بهذا العمل.

إلّا أنّ جماعة منهم تذكّروا ما سمعوه من إبراهيمعليه‌السلام وازدرائه بالأصنام وتهديده لها وطريقة تعامله السلبي لهذه الآلهة المزعومة!( قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ ) (٢) .

صحيح أنّ إبراهيم ـ طبقا لبعض الرّوايات ـ كان شابا ، وربّما لم يكن سنّة يتجاوز (١٦) عاما ، وصحيح أنّ كلّ خصائص الرجولة من الشجاعة والشهامة والصراحة والحزم قد جمعت فيه ، إلّا أنّه من المسلّم به أنّ مراد عبّاد الأصنام لم يكن سوى التحقير ، فبدل أن يقولوا : إنّ إبراهيم قد فعل هذا الفعل ، قالوا : إنّ فتى يقال له إبراهيم كان يقول كذا أي إنّه فرد مجهول تماما ، ولا شخصيّة له في نظرهم.

إنّ المألوف ـ عادة ـ عند ما تقع جريمة في مكان ما ، فإنّه ومن أجل كشف الشخص الذي قام بهذا العمل ، تبحث علاقات الخصومة والعداء ، ومن البديهي أنّه لم يكن هناك شخص في تلك البيئة من يعادي الأصنام غير إبراهيم ، ولذلك توجّهت إليه أفكار الجميع ، و( قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ ) عليه بالجريمة.

__________________

(١) اعتبر بعض المفسّرين (من) هنا موصولة ، إلّا أنّ ملاحظة الآية التالية التي هي في حكم الجواب ، فسيظهر أنّ (من) هنا استفهامية.

(٢) كما أشرنا سابقا : إنّ الوثنيين لم يكونوا مستعدّين للقول : أنّ هذا الفتى كان يعيب الآلهة ، بل قالوا فقط : إنّه كان يتحدّث عن الأصنام.

١٨٩

واحتمل بعض المفسّرين أن يكون المراد مشاهدة منظر عقاب إبراهيم ، لا الشهادة على كونه مجرما. غير أنّ الآيات المقبلة التي لها صبغة التحقيق والاستجواب تنفي هذا الاحتمال ، إضافة إلى أنّ التعبير بـ «لعلّ» لا يناسب المعنى الثّاني ، لأنّ الناس إذا حضروا ساحة العقاب فسيشاهدون ذلك المنظر حتما ، فلا معنى لـ «لعلّ».

فنادى المنادون في نواحي المدينة : «ليحضر كلّ من يعلم بعداء إبراهيم وإهانته للأصنام» ، فاجتمع كلّ الذين كانوا يعلمون بالموضوع ، وكذلك سائر الناس ليروا أين ستصل عاقبة عمل هذا المتّهم؟

لقد حدثت ضجّة وهمهمة عجيبة بين الناس ، لأنّ هذا العمل كان في نظرهم جريمة لم يسبق لها نظير من قبل شابّ مثير للفتن والمتاعب ، وكانت قد هزّت البناء الديني للناس.

وأخيرا تشكّلت المحكمة ، وكان زعماء القوم قد اجتمعوا هناك ، ويقول بعض المفسّرين : أنّ نمرود نفسه كان مشرفا على هذه المحاكمة ، وأوّل سؤال وجّهوه إلى إبراهيمعليه‌السلام هو أن :( قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ ) ؟

هؤلاء لم يكونوا مستعدّين حتّى للقول : أأنت حطّمت آلهتنا وجعلتها قطعا متناثرة؟ بل قالوا فقط : أأنت فعلت بآلهتنا ذلك؟

فأجابهم إبراهيم جوابا أفحمهم ، وجعلهم في حيرة لم يجدوا منها مخرجا( قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ ) .

إنّ من أسس علم معرفة الجرائم أن يكون المتّهم بادية عليه آثار الجريمة ، والملاحظ هنا أنّ آثار الجريمة كانت بادية على يد الصنم الكبير ، [وفقا للرواية المعروفة : إنّ إبراهيم جعل الفأس على رقبة الصنم الكبير].

لماذا تأتون إليّ؟ ولماذا لا تتّهمون إلهكم الكبير؟ ألا تحتملون أنّه غضب على الآلهة الصغيرة ، أو إنّه اعتبرهم منافسيه في المستقبل فعاقبهم؟

١٩٠

ولمّا كان ظاهر هذا التعبير لا يطابق الواقع في نظر المفسّرين ، ولمّا كان إبراهيم نبيّا معصوما ولا يكذب أبدا ، فقد ذكروا تفاسير مختلفة ، وأفضلها كما يبدو هو :

إنّ إبراهيمعليه‌السلام قد نسب العمل إلى كبير الأصنام قطعا ، إلّا أنّ كلّ القرائن تشهد أنّه لم يكن جادّا في قصده ، بل كان يريد أن يزعزع عقائد الوثنين الخرافية الواهية ، ويفنّدها أمامهم ، ويفهم هؤلاء أنّ هذه الأحجار والأخشاب التي لا حياة فيها ذليلة وعاجزة إلى الحدّ الذي لا تستطيع أن تتكلّم بجملة واحدة تستنجد بعبّادها ، فكيف يريدون منها أن تحلّ معضلاتهم؟!

ونظير هذا التعبير كثير في محادثاتنا اليوميّة ، فنحن إذا أردنا إبطال أقوال الطرف المقابل نضع أمامه مسلّماته على هيئة الأمر أو الإخبار أو الاستفهام ، وهذا ليس كذبا أبدا ، بل الكذب هو القول الذي لا يمتلك القرينة معه.

وفي رواية عن الإمام الصادقعليه‌السلام في كتاب الكافي : «إنّما قال : بل فعله كبيرهم ، إرادة الإصلاح ، ودلالة على أنّهم لا يفعلون» ثمّ قال : «والله ما فعلوه وما كذّب».

واحتمل جمع من المفسّرين أنّ إبراهيم قد أدّى هذا المطلب بشكل جملة شرطيّة وقال : إنّ الأصنام إذا كانت تتكلّم فإنّها قد فعلت هذا الفعل ، ومن المسلّم أنّ هذا التعبير لم يكن خلاف الواقع ، لأنّ الأصنام لم تكن تتكلّم ، ولم تكن قد أقدمت على مثل هذا العمل ، ولم يصدر منها ، ووردت رواية في مضمون هذا التّفسير أيضا.

إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو هو الأقرب ، لأنّ الجملة الشرطيّة «إن كانوا ينطقون» جواب الطلب في «فاسألوهم» ، وليست شرطا لجملة «بل فعله كبيرهم».

(فلاحظوا بدقّة).

واللطيفة الاخرى التي ينبغي الالتفات إليها هي : إنّ العبارة هي أنّه يجب أن

١٩١

يسأل من الأصنام المحطّمة الأيدي والأرجل عمّن فعل بها ذلك ، لا من الصنم الكبير لأنّ ضمير (هم) ، وكذلك ضمائر «إن كانوا ينطقون» كلّها بصيغة الجمع ، وهذا أنسب مع التّفسير الأوّل(١) .

لقد هزّت كلمات إبراهيم الوثنيين وأيقظت ضمائرهم النائمة الغافلة ، وأزاح الرماد عن شعلة النّار فأضاءها ، وأنار فطرتهم التوحيديّة من خلف حجب التعصّب والجهل.

في لحظة سريعة استيقظوا من هذا النوم العميق ورجعوا إلى فطرتهم ووجدانهم ، كما يقول القرآن :( فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ) (٢) فقد ظلمتم أنفسكم ومجتمعكم الذي تنتمون إليه ، وكذلك ساحة الله واهب النعم المقدّسة.

والطريف في الأمر أنّنا قرأنا في الآيات السابقة أنّهم اتّهموا إبراهيم بكونه ظالما ، وهنا قبلوا واعترفوا في أنفسهم بأنّ الظالم الأصلي والحقيقي هو أنفسهم.

وفي الواقع فإنّ كلّ مراد إبراهيم من تحطيم الأصنام تحطيم فكر الوثنية وروح الصنمية ، لا تحطيم الأصنام ذاتها ، إذ لا جدوى من تحطيمها إذا صنع الوثنيّون العنودون أصناما أكبر منها وجعلوها مكانها ، وتوجد أمثلة كثيرة لهذه المسألة في تأريخ الأقوام الجاهلين المتعصّبين.

إلى الآن استطاع إبراهيم أن يجتاز بنجاح مرحلة حسّاسة جدا من طريق تبليغه الرسالة ، وهي إيقاظ الضمائر عن طريق إيجاد موجة نفسيّة هائجة.

ولكن للأسف ، فإنّ صدأ الجهل والتعصّب والتقليد الأعمى كان أكبر من أن يصقل ويمحى تماما بنداء بطل التوحيد.

__________________

(١) إضافة إلى أنّ ضمير كبيرهم مع البقيّة متشابه.

(٢) احتمل بعض المفسّرين أن يكون المراد من( فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ ) أنّهم تحدّثوا بينهم عن ذلك الكلام ، ولام بعضهم بعضا. إلّا أنّ ما قلناه يبدو هو الأصحّ.

١٩٢

وللأسف لم تستمر هذه اليقظة الروحية المقدّسة ، وثارت في ضمائرهم الملوّثة المظلمة قوى الشيطان والجهل ضدّ نور التوحيد هذا ، ورجع كلّ شيء إلى حالته الأولى ، وكم هو لطيف تعبير القرآن حيث يقول :( ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ ) ومن أجل أن يأتوا بعذر نيابة عن الآلهة البكم قالوا :( لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ ) فإنّهم دائما صامتون ، ولا يحطّمون حاجز الصمت. وأرادوا بهذا العذر الواهي أن يخفوا ضعف وذلّة الأصنام.

وهنا فتح أمام إبراهيم الميدان والمجال للاستدلال المنطقي ليوجّه لهم أشدّ هجماته ، وليرمي عقولهم بوابل من التوبيخ واللوم المنطقي الواعي :( قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ ) ؟ فما ذا تنفع هذه الآلهة المزعومة الخياليّة التي لا قدرة لها على الكلام ، وليس لها شعور وإدراك ، ولا تقدر أن تدافع عن نفسها ، ولا تستطيع أن تحمي عبّادها ، ولا يصدر عنها أي عمل؟

إنّ عبادة معبود ما إنّما يكون لأهليّته للعبادة ، ومثل هذا الأمر لا معنى له في شأن الأصنام الميتة ، أو يعبد رجاء فائدة ونفع تعود عليهم من قبله ، أو الخوف من خسارتهم ، إلّا أنّ إقدامي على تحطيم الأصنام أوضح أنّها لا تملك أدنى حركة ، ومع هذا الحال ألا يعتبر عملكم هذا حمقا وجهالة؟!

ووسّع معلّم التوحيد دائرة الكلام ، وانهال بسياط التقريع على روحهم التي فقدت الإحساس ، فقال :( أُفٍ ) (١) ( لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) ؟ إلّا أنّه لم يلحّ في توبيخهم وتقريعهم لئلّا يلجّوا في عنادهم.

في الحقيقة ، كان إبراهيم يتابع خطّته بدقّة متناهية ، فأوّل شيء قام به عند دعوتهم إلى التوحيد هو أن ناداهم قائلا : ما هذه التماثيل التي تعبدونها؟ وهي

__________________

(١) بحثنا في معنى( أُفٍ ) بصورة أكثر تفصيلا في ذيل الآية (٢٣) من سورة الإسراء

١٩٣

لا تحسّ ولا تتكلّم وإذا كنتم تقولون : إنّها سنّة آبائكم ، فقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين.

وفي المرحلة الثّانية أقدم على خطّة عملية ليبيّن أنّ هذه الأصنام ليست لها تلك القدرة على إهلاك كلّ من ينظر إليها نظرة احتقار ، خاصة وأنّه ذهب إليها مع سابق إنذار وحطّمها تماما ، وليوضّح أنّ تلك الأوهام التي حاكوها مجتمعين لا فائدة ولا ثمر فيها.

وفي المرحلة الثّالثة أوصلهم في تلك المحكمة التاريخيّة إلى طريق مسدود ، فمرّة دخل إليهم عن طريق فطرتهم ، وتارة خاطب عقولهم ، وأخرى وعظّهم ، وأحيانا وبّخهم ولامهم.

والخلاصة ، فإنّ هذا المعلّم الكبير قد دخل من كلّ الأبواب ، واستخدم كلّ طاقته ، إلّا أنّ من المسلّم أنّ القابلية شرط في التأثير ، وكان هذا قليل الوجود بين أولئك القوم للأسف.

ولكن لا شكّ أنّ كلمات إبراهيمعليه‌السلام وأفعاله بقيت كأرضيّة للتوحيد ، أو على الأقل بقيت كعلامات استفهام في أذهان أولئك ، وأصبحت مقدّمة ليقظة ووعي أوسع في المستقبل. ويستفاد من التواريخ أنّ جماعة آمنوا به ، وهم وإن قلّوا عددا ، إلّا أنّهم كانوا من الأهميّة بمكان ، إذ هيّئوا الاستعداد النسبي لفئة أخرى.

* * *

١٩٤

الآيات

( قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٦٨) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠) )

التّفسير

عند ما تصير النّار جنّة :

مع أنّ عبدة الأوثان أسقط ما في أيديهم نتيجة استدلالات إبراهيم العمليّة والمنطقيّة ، واعترفوا في أنفسهم بهذه الهزيمة ، إلّا أنّ عنادهم وتعصّبهم الشديد منعهم من قبول الحقّ ، ولذلك فلا عجب من أنّ يتّخذوا قرارا صارما وخطيرا في شأن إبراهيم ، وهو قتل إبراهيم بأبشع صورة ، أي حرقه وجعله رمادا!

هناك علاقة عكسية بين القوّة والمنطق عادة ، فكلّ من اشتدّت قوّته ضعف منطقه ، إلّا رجال الحقّ فإنّهم كلّما زادت قوتهم يصبحون أكثر تواضعا ومنطقا.

وعند ما لا يحقّق المتعصّبون شيئا عن طريق المنطق ، فسوف يتوسّلون بالقوّة فورا ، وقد طبّقت هذه الخطّة في حقّ إبراهيم تماما كما يقول القرآن الكريم :( قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ ) .

١٩٥

إنّ المتسلّطين المتعنّتين يستغلّون نقاط الضعف النفسيّة لدى الغوغاء من الناس لتحريكهم ـ عادة ـ لمعرفتهم بالنفسيات ومهارتهم في عملهم! وكذلك فعلوا في هذه الحادثة ، وأطلقوا شعارات تثير حفيظتهم ، فقالوا : إنّ آلهتكم ومقدّساتكم مهدّدة بالخطر ، وقد سحقت سنّة آبائكم وأجدادكم ، فأين غيرتكم وحميّتكم؟! لماذا أنتم ضعفاء أذلّاء؟ لماذا لا تنصرون آلهتكم؟ احرقوا إبراهيم وانصروا آلهتكم ـ إذا كنتم لا تقدرون على أي عمل ـ ما دام فيكم عرق ينبض ، ولكم قوّة وقدرة.

أنظروا إلى كلّ الناس يدافعون عن مقدّساتهم ، فما بالكم وقد أحدق الخطر بكلّ مقدّساتكم؟!

والخلاصة ، فقد قالوا الكثير من أمثال هذه لخزعبلات وأثاروا الناس ضدّ إبراهيم بحيث أنّهم لم يكتفوا بعدّة حزم من الحطب تكفي لإحراق عدّة أشخاص ، بل أتوا بآلاف الحزم وألقوها حتّى صارت جبلا من الحطب ثمّ أشعلوه فاتّقدت منه نار مهولة كأنّها البحر المتلاطم والدخان يتصاعد إلى عنان السّماء لينتقموا من إبراهيم أوّلا ، وليحفظوا مهابة أصنامهم المزعومة التي حطّمتها خطّته وأسقطت أبّهتها!!

لقد كتب المؤرخّون هنا مطالب كثيرة ، لا يبدو أي منها بعيدا ، ومن جملتها قولهم : إنّ الناس سعوا أربعين يوما لجمع الحطب ، فجمعوا منه الكثير من كلّ مكان ، وقد وصل الأمر إلى أنّ النساء اللآتي كان عملهنّ الحياكة في البيوت ، خرجن وأضفن تلّا من الحطب إلى ذلك الحطب ، ووصّى المرضى المشرفون على الموت بمبلغ من أموالهم لشراء الحطب ، وكان المحتاجون ينذرون بأنّهم يضيفون مقدارا من الحطب إذا قضيت حوائجهم ، ولذلك عند ما أشعلوا النّار في الحطب من كلّ جانب اشتعلت نار عظيمة بحيث لا تستطيع الطيور أن تمرّ فوقها.

من البديهي أنّ نارا بهذه العظمة لا يمكن الاقتراب منها ، فكيف يريدون أن يلقوا إبراهيم فيها ، ومن هنا اضطروا إلى الاستعانة بالمنجنيق ، فوضعوا إبراهيم

١٩٦

عليه وألقوه في تلك النّار المترامية الأطراف بحركة سريعة(١) .

ونقرأ في الرّوايات المنقولة عن طرق الشّيعة والسنّة أنّهم عند ما وضعوا إبراهيم على المنجنيق ، وأرادوا أن يلقوه في النّار ، ضجّت السّماء والأرض والملائكة ، وسألت الله سبحانه أن يحفظ هذا الموحد البطل وزعيم الرجال الأحرار.

ونقلوا أيضا أنّ جبرئيل جاء للقاء إبراهيم ، وقال له : ألك حاجة؟ فأجابه إبراهيم بعبارة موجزة : «أمّا إليك فلا» إنّي أحتاج إلى من هو غني عن الجميع ، ورؤوف بالجميع.

وهنا اقترح عليه جبرئيل فقال : فاسأل ربّك ، فأجابه : «حسبي من سؤالي علمه بحالي»(٢) .

وفي حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام : إنّ إبراهيم ناجى ربّه في تلك الساعة : «يا أحد يا أحد ، يا صمد يا صمد ، يا من لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد ، توكّلت على الله»(٣) .

كما ورد هذا الدعاء بعبارات مختلفة وفي العديد من المصادر الأخرى.

وعلى كلّ حال ، فقد القي إبراهيم في النّار وسط زعاريد الناس وسرورهم وصراخهم ، وقد أطلقوا أصوات الفرح ظانّين أنّ محطّم الأصنام قد فني إلى الأبد وأصبح ترابا ورمادا.

لكنّ الله الذي بيده كلّ شيء حتّى النّار لا تحرق إلّا بإذنه ، شاء أن يبقى هذا العبد المؤمن المخلص سالما من لهب تلك النّار الموقدة ليضيف وثيقة فخر جديدة

__________________

(١) مجمع البيان ، وتفسير الميزان ، وتفسير الفخر الرازي ، وتفسير القرطبي ، في ذيل الآيات مورد البحث. وكذلك الكامل لابن الأثير المجلّد الأوّل ص ٩٨.

(٢) روضة الكافي ، طبقا لنقل الميزان ، ج ١٤ ، ص ٣٣٦.

(٣) تفسير الفخر الرّازي ذيل الآية.

١٩٧

إلى سجل افتخاراته ، وكما يقول القرآن الكريم :( قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ ) .

لا شكّ أنّ أمر الله هنا كان أمرا تكوينيّا ، كالأمر الذي يصدره في عالم الوجود إلى الشمس والقمر ، والأرض والسّماء ، والماء والنّار ، والنباتات والطيور.

والمعروف أنّ النّار قد بردت بردا شديدا اصطكّت أسنان إبراهيم منه ، وحسب قول بعض المفسّرين : إنّ الله سبحانه لو لم يقل : سلاما ، لمات إبراهيم من شدّة البرد. وكذلك نقرأ في رواية مشهورة أنّ نار النمرود قد تحوّلت إلى حديقة غناء(١) . حتّى قال بعض المفسّرين إنّ تلك اللحظات التي كان فيها إبراهيم في النّار ، كانت أهدأ وأفضل وأجمل أيّام عمره(٢) .

على كلّ حال ، فهناك اختلاف كبير بين المفسّرين في كيفية عدم إحراق النّار لإبراهيم ، إلّا أنّ مجمل الكلام أنّه في فلسفة التوحيد لا يصدر أي مسبّب عن أي سبب إلّا بأمر الله ، فيقول يوما للسكّين التي في يد إبراهيم : لا تقطعي ، ويقول يوما آخر للنار : لا تحرقي ، ويوما آخر يأمر الماء الذي هو أساس الحياة أن يغرق فرعون والفراعنة!

ويقول الله سبحانه في آخر آية من الآيات محلّ البحث على سبيل الاستنتاج باقتضاب : أنّهم تآمروا عليه ليقتلوه ولكن النتيجة لم تكن في صالحهم( وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ ) .

لا يخفى أنّ الوضع قد اختلف تماما ببقاء إبراهيم سالما ، وخمدت أصوات الفرح ، وبقيت الأفواه فاغرة من العجب ، وكان جماعة يتهامسون علنا فيما بينهم حول هذه الظاهرة العجيبة ، وأصبحت الألسن تلهج بعظمة إبراهيم وربّه ، وأحدق الخطر بوجود نمرود وحكومته ، غير أنّ العناد ظلّ مانعا من قبول الحقّ ، وإن كان

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ذيل الآية.

(٢) تفسير الفخر الرازي ، ذيل الآية.

١٩٨

أصحاب القلوب الواعية قد استفادوا من هذه الواقعة ، وزاد إيمانهم مع قلّتهم.

* * *

بحوث

١ ـ السعي للخير والشرّ

قد يغرق الإنسان أحيانا في عالم الأسباب حتّى يخيّل إليه أنّ الآثار والخواص من نفس هذه الموجودات ، ويغفل عن المبدأ العظيم الذي وهب هذه الآثار المختلفة لهذه الموجودات ، ويغفل عن المبدأ العظيم الذي وهب هذه الآثار المختلفة لهذه الموجودات ، ومن أجل أن يوقظ الله العباد يشير إلى أنّ بعض الموجودات التافهة قد تصبح مصدرا للآثار العظيمة ، فيأمر العنكبوت أن تنسج عدّة خيوط رقيقة ضعيفة على باب غار ثور ، وتجعل الذين كانوا يطاردون النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويبحثون عنه في كلّ مكان يائسين من العثور عليه ، ولو ظفروا به لقتلوه ، ولتغيّر مجرى التأريخ بهذا الأمر الهيّن

وعلى العكس من ذلك ، فإنّه يعطّل الأسباب التي يضرب بها المثل في عالم المادّة ـ كالنّار في الإحراق ، والسكّين في القطع ـ عن العمل ، ليعلم أنّ هذه أيضا ليس لها أمر وقدرة ذاتية في العمل ، فإنّها تقف عن العمل إذا نهاها ربّها الجليل فتكفّ حتّى لو أمرها إبراهيم الخليلعليه‌السلام .

إنّ الالتفات إلى هذه الحقائق التي رأينا أمثلة كثيرة لها في الحياة ، تحيي في العبد المؤمن روح التوحيد والتوكّل حتّى أنّه لا يفكّر إلّا في الله ، ولا يطلب العون إلّا منه ، فيطلب منه ـ وحده ـ إطفاء نار المشاكل والمعضلات ، ويسأله أن يدفع كيد الأعداء ، فلا يرى غيره ، ولا يرجو شيئا من غيره.

٢ ـ الفتى الشّجاع

جاء في بعض كتب التّفسير أنّ إبراهيم لمّا ألقي في النّار لم يكن عمره يتجاوز

١٩٩

ست عشرة سنة(١) وذكر البعض الآخر أنّ عمره عند ذاك كان (٢٦) سنة(٢) .

وعلى كلّ حال فإنّه كان في عمر الشباب ، ومع أنّه لم يكن معه أحد يعينه ، فإنّه رمى بسهم المواجهة في وجه طاغوت زمانه الكبير الذي كان حاميا للطواغيت الآخرين ، وهبّ بمفرده لمقارعة الجهل والخرافات والشرك ، واستهزاء بكلّ مقدّسات المجتمع الخيالية الواهية ، ولم يدع للخوف من غضب وانتقام الناس أدنى سبيل إلى نفسه ، لأنّ قلبه كان مغمورا بعشق الله ، وكان اعتماده وتوكّله على الذات المقدّسة فحسب.

أجل هكذا هو الإيمان ، أينما وجد وجدت الشهامة ، وكلّ من حلّ فيه فلا يمكن أن يقهر!

إنّ أهمّ الاسس التي ينبغي للمسلمين الاهتمام بها لمقارعة القوى الشيطانية الكبرى ، في دنيا اليوم المضطربة ، هو هذا الأساس والرأسمال العظيم ، وهو الإيمان ، ففي حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «إنّ المؤمن أشدّ من زبر الحديد ، إنّ زبر الحديد إذا دخل النّار تغيّر ، وإنّ المؤمن لو قتل ثمّ نشر ثمّ قتل لم يتغيّر قلبه»(٣) .

٣ ـ إبراهيم ونمرود

جاء في التواريخ أنّه عند ما ألقوا إبراهيم في النّار ، كان نمرود على يقين من أنّ إبراهيم قد أصبح رمادا ، أمّا عند ما دقّق النظر ووجده حيّا ، قال لمن حوله : إنّي أرى إبراهيم حيّا ، لعلّي يخيّل إليّ! فصعد على مرتفع ورأى حاله جيدا فصاح نمرود : يا إبراهيم إنّ ربّك عظيم ، وقد أوجد بقدرته حائلا بينك وبين النّار! ولذلك فإنّي أريد أن أقدّم قربانا له ، وأحضر أربعة آلاف قربان لذلك ، فأعاد إبراهيم القول

__________________

(١) مجمع البيان ، ذيل الآيات مورد البحث.

(٢) تفسير القرطبي ، المجلّد ٦ ، ص ٤٣٤٤.

(٣) سفينة البحار ، مادّة أمن ، ج ١ ، ص ٣٧.

٢٠٠

عليه بأنّ أي قربان ـ وأي عمل ـ لا يتقبّل منك إلّا أن تؤمن أوّلا. غير أنّ نمرود قال في الجواب : فسيذهب سلطاني وملكي سدى إذن ، وليس بإمكاني أن أتحمّل ذلك!

على كلّ حال ، فإنّ هذه الحوادث صارت سببا لإيمان جماعة من ذوي القلوب الواعية بربّ إبراهيمعليه‌السلام ، أو يزدادوا إيمانا ، وربّما كان هذا هو السبب في عدم إظهار نمرود ردّ فعل قوي ضدّ إبراهيم ، بل اكتفى بإبعاده عن أرض بابل(1) .

* * *

__________________

(1) الكامل لابن الأثير ، المجلد الأوّل ، ص 99.

٢٠١

الآيات

( وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (71) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (72) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (73) )

التّفسير

هجرة إبراهيم من أرض الوثنيين

لقد هزّت قصّة حريق إبراهيمعليه‌السلام ونجاته الإعجازية من هذه المرحلة الخطيرة أركان حكومة نمرود ، بحيث فقد نمرود معنوياته تماما ، لأنّه لم يعد قادرا على أن يظهر إبراهيم بمظهر الشاب المنافق والمثير للمشاكل. فقد عرف بين الناس بأنّه مرشد إلهي وبطل شجاع يقدر على مواجهة جبّار ظالم ـ بكلّ إمكانياته وقدرته ـ بمفرده ، وأنّه لو بقي في تلك المدينة والبلاد على هذا الحال ، ومع ذلك اللسان المتكلّم والمنطق القوي ، والشهامة والشجاعة التي لا نظير لها ، فمن المحتّم أنّه سيكون خطرا على تلك الحكومة الجبّارة الغاشمة ، فلا بدّ أن يخرج من تلك الأرض على أي حال.

٢٠٢

ومن جهة أخرى ، فإنّ إبراهيم كان قد أدّى رسالته في الواقع ـ في تلك البلاد ، ووجّه ضربات ما حقة إلى هيكل وبنيان الشرك ، وبذر بذور الإيمان والوعي في تلك البلاد ، وبقيت المسألة مسألة وقت لتنمو هذه البذور وتبدي ثمارها ، وتقلع جذور الأصنام وعبادتها ، وتسحب البساط من تحتها.

فلا بدّ من الهجرة إلى موطن آخر لإيجاد أرضية لرسالته هناك ، ولذلك صمّم على الهجرة إلى الشام بصحبة لوط ـ وكان ابن أخ إبراهيم ـ وزوجته سارة ، وربّما كان معهم جمع قليل من المؤمنين ، كما يقول القرآن الكريم :( وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ ) .

وبالرغم من أنّ اسم هذه الأرض لم يرد صريحا في القرآن ، إلّا أنّه بملاحظة الآية الأولى من سورة الإسراء :( سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ ) يتّضح أنّ هذه الأرض هي أرض الشام ذاتها ، التي كانت من الناحية الظاهرية أرضا غنيّة مباركة خضراء ، ومن الجهة المعنوية كانت معهدا لرعاية الأنبياء.

وقد وردت بحوث مختلفة في التفاسير والرّوايات في أنّ إبراهيمعليه‌السلام هاجر تلقائيا ، أم أبعدته سلطات نمرود ، أم أنّ الإثنين اشتركا ، والجمع بينها جميعا هو أنّ نمرود ومن حوله كانوا يرون في إبراهيم خطرا كبيرا عليهم ، فأجبروه على الخروج من تلك البلاد ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ، فإنّ إبراهيم كان يرى أنّ رسالته ومهمّته في تلك الأرض قد انتهت ، وكان يبحث عن منطقة أخرى للعمل على توسيع دعوة التوحيد فيها ، خاصة وأنّ البقاء في بابل قد يشكّل خطرا على حياته فتبقى دعوته العالمية ناقصة.

وفي حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام : إنّ نمرود «أمر أن ينفوا إبراهيم من بلاده ، وأن يمنعوه من الخروج بماشيته وماله ، فحاجّهم إبراهيم عند ذلك فقال : إن

٢٠٣

أخذتم ماشيتي ومالي فحقّي عليكم أن تردّوا عليّ ما ذهب من عمري في بلادكم ، فاختصموا إلى قاضي نمرود ، وقضى على إبراهيم أن يسلّم إليهم جميع ما أصاب في بلادهم ، وقضى على أصحاب نمرود أن يردّوا على إبراهيم ما ذهب من عمره في بلادهم ، فأخبر بذلك نمرود ، فأمرهم أن يخلّوا سبيله وسبيل ماشيته وماله ، وأن يخرجوه ، وقال : إنّه إن بقي في بلادكم أفسد دينكم وأضرّ بآلهتكم»(1) .

وأشارت الآية التالية إلى أحد أهمّ مواهب الله لإبراهيم ، وهي هبته الولد الصالح ، والنسل المفيد ، فقالت :( وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً ) (2) ( وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ ) فقد مرّت أعوام طوال وإبراهيم في لهفة وانتظار للولد الصالح ، والآية (100) من سورة الصافات ناطقة بأمنيته الباطنية هذه :( رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ) . وأخيرا استجاب له ربّه ، فوهبه إسماعيل أوّلا ، ومن بعد إسحاق ، وكان كلّ منهما نبيّا عظيم الشخصيّة.

إنّ التعبير بـ «نافلة» ـ والذي يبدو أنّه وصف ليعقوب خاصّة ـ من جهة أنّ إبراهيمعليه‌السلام كان قد طلب الولد الصالح فقد ، فأضاف الله إلى مراده حفيدا صالحا أيضا ، لأنّ النافلة في الأصل تعني الهبة أو العمل الإضافي.

وتشير الآية الأخيرة إلى مقام إمامة وقيادة هذا النّبي الكبير ، وإلى جانب من صفات الأنبياء ومناهجهم المهمّة القيّمة بصورة جماعية.

لقد عدّت في هذه الآية ستّة أقسام من هذه الخصائص ، وإذا أضيف إليها وصفهم بكونهم صالحين ـ والذي يستفاد من الآية السابقة ـ فستصبح سبعة.

ويحتمل أيضا أن يكون مجموع الصفات الست التي ذكرت في هذه الآية تفصيلا

__________________

(1) روضة الكافي ، طبقا لنقل الميزان ، في ذيل الآيات مورد البحث.

(2) عدم ذكر إسماعيل هنا مع أنّه كان أوّل ولد إبراهيم ، ربّما كان من أجل أنّ ولادة إسحاق من أمّ عقيم وعجوز ، كانت تبدو مسألة عجيبة للغاية ، في حين أنّ ولادة إسماعيل من أمّه هاجر لم يكن عجيبا.

٢٠٤

وتبيانا لصلاح أولئك ، والذي ورد في الآية السابقة.

يقول أوّلا :( وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً ) أي إنّنا وهبناهم مقام الإمامة إضافة إلى مقام النّبوّة والرسالة ، والإمامة ـ كما أشرنا إلى ذلك سابقا ـ هي آخر مراحل سير الإنسان التكاملي ، والتي تعني القيادة العامّة الشاملة لكلّ الجوانب الماديّة والمعنوية ، والظاهرية والباطنية ، والجسميّة والروحية للناس.

والفرق بين النبوّة والرسالة وبين الإمامة ، هو أنّ الأنبياء في مقام النبوّة والرسالة يتلقّون أوامر الله ويبلّغونها الناس إبلاغا مقترنا بالإنذار أو البشارة فقط ، أمّا في مرحلة الإمامة فإنّهم ينفّذون هذا البرنامج الإلهي ، سواء كان هذا التنفيذ عن طريق تشكيل حكومة عادلة أو بدون ذلك ، فهم في هذه المرحلة مربّون للناس ، ومعلّمون لهم ، ومنفّذون للأحكام والبرامج في سبيل إيجاد بيئة طاهرة نزيهة إنسانية.

في الحقيقة ، إنّ مقام الإمامة مقام تنفيذ كلّ الخطط والاطروحات الإلهيّة ، وبتعبير آخر : الإيصال إلى المطلوب ، والهداية التشريعيّة والتكوينيّة ، فالإمام من هذه الناحية كالشمس التي تنمي الكائنات الحيّة بأشّعتها تماما(1) .

ثمّ يذكر في المرحلة التالية ثمرة هذا المقام ، فيقول :( يَهْدُونَ بِأَمْرِنا ) ولا يعني بالهداية الإرشاد وبيان الطريق الصحيح ، والذي هو من شأن النبوّة والرسالة ، بل يعني الأخذ باليد والإيصال إلى المقصود. وهذا بالطبع لمن له الاستعداد واللياقة والأهليّة.

أمّا الموهبة الثّالثة الرّابعة والخامسة فقد عبّر عنها القرآن بقوله :( وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ ) وهذا الوحي يمكن أن يكون وحيا

__________________

(1) لمزيد الاطّلاع في هذا المجال راجع ذيل الآية (124) من سورة البقرة.

٢٠٥

تشريعيّا ، أي إنّنا جعلنا كلّ أنواع أعمال الخير وأداء الصلاة وإعطاء الزكاة في مناهجهم الدينيّة. ويمكن أيضا أن يكون وحيا تكوينيّا ، أي إنّنا وهبنا لهم التوفيق والقدرة والجاذبية المعنوية من أجل تنفيذ هذه الأمور.

طبعا ، ليس لأي من هذه الأمور صبغة إجبارية واضطرارية ، وحتّى مجرّد الأهلية والاستعداد والأرضية لوحدها من دون إرادتهم وتصميمهم لا توصل إلى نتيجة.

إنّ ذكر( إِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ ) بعد فعل الخيرات ، من أجل أهميّة هذين الأمرين اللذين بيّنا أوّلا بصورة عامّة في جملة( وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ ) ثمّ بصورة خاصّة في التصريح بهما ، وهذا ما يبحثه علماء البلاغة العربية تحت عنوان ذكر الخاص بعد العام

وفي آخر فصل أشار إلى مقام العبودية ، فقال :( وَكانُوا لَنا عابِدِينَ ) (1) .

والتعبير بـ «كانوا» الذي يدلّ على الماضي المستمر في هذا المنهج ، ربّما كان إشارة إلى أنّ هؤلاء كانوا رجالا صالحين موحّدين مؤهّلين حتّى قبل الوصول إلى مقام النّبوّة والإمامة ، وفي ظلّ ذلك المخطّط وهبهم الله سبحانه مواهب جديدة.

وينبغي التذكير بهذه النقطة ، وهيّ أنّ جملة( يَهْدُونَ بِأَمْرِنا ) في الحقيقة وسيلة لمعرفة الأئمّة وهداة الحقّ ، في مقابل زعماء وقادة الباطل الذين يقوم أساس ومعيار أعمالهم على الأهواء والرغبات الشيطانية. وفي حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «إنّ الأئمّة في كتاب الله إمامان : قال الله تبارك وتعالى : وجعلناهم أئمّة يهدون بأمرنا ، لا بأمر الناس ، يقدّمون ما أمر الله قبل أمرهم ، وحكم

__________________

(1) تقديم كلمة (لنا) على (عابدين) يدلّ على الحصر ، وإشارة إلى مقام التوحيد الخالص ، لهؤلاء المقدّمين الكبار ، أي إنّ هؤلاء كانوا يعبدون الله فقط.

٢٠٦

الله قبل حكمهم ، قال : وجعلنا أئمّة يهدون إلى النّار ، يقدّمون أمرهم قبل أمر الله ، وحكمهم قبل حكم الله ، ويأخذون بأهوائهم خلاف ما في كتاب الله»(1) .

وهذا هو المعيار والمحك لمعرفة إمام الحقّ من إمام الباطل.

* * *

__________________

(1) الآية الثّانية ـ وهي الآية (41) من سورة القصص ـ تشير إلى فرعون وجنوده ، وهذا الحديث جاء في تفسير الصافي نقلا عن كتاب الكافي.

٢٠٧

الآيتان

( وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) )

التّفسير

نجاة لوط من أرض الفجّار :

لمّا كان لوط من أقرباء إبراهيم وذوي أرحامه ، ومن أوائل من آمن به ، فقد أشارت الآيتان بعد قصّة إبراهيمعليه‌السلام إلى جانب من اجتهاده وسعيه في طريق إبلاغ الرسالة ، والمواهب التي منحها الله سبحانه له ، فتقول :( وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً ) (1) .

لفظة (الحكم) جاءت في بعض الموارد بمعنى أمر النبوّة والرسالة ، وفي موارد أخرى بمعنى القضاء ، وأحيانا ، بمعنى العقل ، ويبدو أنّ الأنسب هنا من بين هذه المعاني هو المعنى الأوّل ، مع إمكانية الجمع بين هذه المعاني هنا.

والمراد من العلم كلّ العلوم التي لها أثر في سعادة ومصير الإنسان.

__________________

(1) لقد نصبت كلمة (لوط) لأنّها مفعول لفعل مقدّر ، يمكن أن يكون تقديره : (آتينا) أو (اذكر).

٢٠٨

لقد كان لوط من الأنبياء العظام وكان معاصرا لإبراهيم ، وهاجر معه من أرض بابل إلى فلسطين ، ثمّ فارق إبراهيم ، وجاء إلى مدينة (سدوم) لأنّ أهلها كانوا غارقين في الفساد والمعاصي ، وخاصّة الانحرافات الجنسية. وقد سعى كثيرا من أجل هداية هؤلاء القوم ، وتحمّل المشاق في هذا الطريق ، إلّا أنّه لم يؤثّر في أولئك العمي القلوب.

وأخيرا ، نعلم أنّ الغضب والعذاب الإلهي قد حلّ بهؤلاء ، وقلب عالي مدينتهم سافلها ، وأهلكوا جميعا ، إلّا عائلة لوط ـ باستثناء امرأته ـ وقد بيّنا تفصيل هذه الحادثة في ذيل الآيات (77) وما بعدها من سورة هود.

ولذلك أشارت الآية إلى هذه الموهبة التي وهبت للوط ، وهي( وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ ) .

إنّ نسبة الأعمال القبيحة إلى القرية والمدينة بدلا من أهل القرية إشارة إلى أنّ هؤلاء كانوا قد غرقوا في الفساد والمعاصي إلى درجة حتّى كأنّ أعمال الفساد والخبائث كانت تقطر من جدران مدينتهم وأبوابها.

والتعبير بـ «الخبائث» بصيغة الجمع ، إشارة إلى أنّهم إضافة إلى فعل اللواط الشنيع ، كانوا يعملون أعمالا قبيحة وخبيثة أخرى ، أشرنا إليها في ذيل الآية (8) من سورة هود.

والتعبير بـ «الفاسقين» بعد «قوم سوء» ربّما يكون إشارة إلى أنّ أولئك كانوا فاسقين من وجهة نظر القوانين الإلهيّة ، وحتّى مع قطع النظر عن الدين والإيمان ، فإنّهم كانوا أفرادا حمقى ومنحرفين في نظر المعايير الاجتماعية بين الناس.

ثمّ أشارت الآية إلى آخر موهبة إلهيّة للنبي لوط ، فقالت :( وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ) فهذه الرحمة الإلهيّة الخاصّة لا تعطى لأحد اعتباطا وبدون حساب ، بل إنّ أهلّية وصلاحية لوط هي التي جعلته مستحقّا لمثل هذه الرحمة.

٢٠٩

حقّا ، أي عمل أصعب ، وأي منهج إصلاحي أجهد من أن يبقى إنسان مدّة طويلة في مدينة فيها كلّ هذا الفساد والانحطاط ، ويظلّ دائما يبلّغ الناس الضالّين المنحرفين أمر ربّهم ويرشدهم إلى طريق الهدى ، ويصل الأمر بهم إلى أنّهم يريدون أن يعتدوا حتّى على ضيفه؟ والحقّ أنّ مثل هذه الاستقامة والثبات لا تصدر إلّا من أنبياء الله وأتباعهم ، فأي واحد منّا يستطيع أن يتحمّل مثل هذا العذاب الروحي المؤلم؟!

* * *

٢١٠

الآيتان

( وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (77) )

التّفسير

نجاة نوح من القوم الكافرين :

بعد ذكر جانب من قصّة إبراهيم وقصّة لوطعليهما‌السلام ، تطرّقت السورة إلى ذكر جانب من قصّة نبي آخر من الأنبياء الكبار ـ أي نوحعليه‌السلام ـ فقالت :( وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ ) أي قبل إبراهيم ولوط.

إنّ هذا النداء ـ ظاهرا ـ إشارة إلى الدعاء واللعنة التي ذكرت في سورة نوح من القرآن الكريم حيث يقول :( رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً. إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً ) (1) . أو إنّه إشارة إلى الجملة التي وردت في الآية 10 / سورة القمر :( فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ) .

التعبير بـ «نادى» يأتي عادة بمعنى الدعاء بصوت عال ، ولعلّه إشارة إلى أنّهم

__________________

(1) نوح ، 26 ، 27.

٢١١

آذوا هذا النّبي الجليل إلى درجة جعلته يصرخ مناديا ربّه ليدركه وينجّيه من أذاهم وشرّهم ، ولو أمعنا النظر في أحوال نوح الواردة في سورة نوح وسورة هود لوجدنا أنّه كان محقّا أن يرفع صوته ويدعو ربّه سبحانه(1) .

ثمّ تضيف الآية :( فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ) وفي الحقيقة فإنّ جملة «فاستجبنا» إشارة مجملة إلى استجابة دعوته ، وجملة( فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ) تعتبر شرحا وتفصيلا لها.

وهناك اختلاف بين المفسّرين في المراد من كلمة (أهل) هنا ، لأنّه إذا كان المراد منها عائلته وأهل بيته فستشمل بعض أبناء نوح ، لأنّ واحدا من أولاده تخلّف عنه مع المسيئين وأضاع بنوته لعائلته ، وكذلك لم تكن زوجته مؤمنة به.

وإن كان المراد من الأهل خواص أتباعه وأصحابه المؤمنين ، فإنّها على خلاف المعنى المشهور للأهل.

لكن يمكن أن يقال : أنّ للأهل ـ هنا ـ معنى وسيعا يشمل أهله المؤمنين وخواص أصحابه ، لأنّا نقرأ في حقّ ابنه الذي لم يتبعه :( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) (2) وعلى هذا فإنّ الذين اعتنقوا دين نوح يعدّون في الواقع من عائلته وأهله.

وينبغي ذكر هذه الملاحظة أيضا ، وهي : إنّ «الكرب» في اللغة تعني الغمّ الشديد ، وهي في الأصل مأخوذة من تقليب الأرض وحفرها ، لأنّ الغمّ الشديد يقلب قلب الإنسان ، ووصفه بالعظيم يكشف عن منتهى كربه وأساه.

وأيّ كرب أعظم من أن يدعو قومه إلى دين الحقّ (950) عاما ، كما صرّح القرآن بذلك ، لكن لم يؤمن به خلال هذه المدّة الطويلة إلّا ثمانون شخصا على المشهور بين المفسّرين(3) ، وأمّا عمل الآخرين فلم يكن غير السخرية

__________________

(1) راجع ما ذكرنا عليه آنفا ذيل الآية (25) سورة هود.

(2) هود ، 46.

(3) مجمع البيان ذيل الآية (40) من سورة هود ، ونور الثقلين ، المجلّد 2 ، ص 350.

٢١٢

والاستهزاء والأذى.

وتضيف الآية التالية :( وَنَصَرْناهُ ) (1) ( مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ ) إنّ هذه الجملة تؤكّد مرّة أخرى على حقيقة أنّ العقوبات الإلهيّة لا تتّصف بصفة الانتقام مطلقا ، بل هي على أساس انتخاب الأصلح ، أي إنّ حقّ الحياة والتنعّم بمواهب الحياة لأناس يكونون في طريق التكامل والسير إلى الله ، أو انّهم إذا ساروا يوما في طريق الانحراف انتبهوا إلى أنفسهم ورجعوا إلى جادة الصواب. أمّا أولئك الفاسدون الذين لا أمل مطلقا في صلاحهم في المستقبل ، فلا مصير ولا جزاء لهم إلّا الموت والفناء.

* * *

ملاحظة

الجدير بالذكر أنّ هذه السورة ذكرت آنفا قصة «إبراهيم» و «لوط» وكذلك سوف تذكر قصتي «أيّوب» و «يونس» ، وقد ذكرت آنفا قصّة نوحعليه‌السلام وفي جميعها تذكر مسألة نجاتهم وخلاصهم من الشدائد والمحن والأعداء.

وكأنّ منهج هذه السورة بيان منتهى رعاية الله وحمايته لأنبيائه وإنقاذهم من الكروب ، ليكون ذلك تسلية للرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأملا للمؤمنين ، وبملاحظة أنّ هذه السورة مكّية ، وأنّ المسلمين كانوا حينئذ في شدّة وكرب فستتجلّى أهميّة هذا الموضوع أكثر

* * *

__________________

(1) إن فعل (نصر) يعدّى عادة بـ (على) إلى مفعول ثان ، فيقال مثلا : اللهم انصرنا عليهم. أمّا هنا فقد استعملت كلمة (من) ، وربّما كان ذلك من أجل أنّ المراد النصرة المقترنة بالنجاة ، لأنّ مادّة النجاة تتعدّى بـ (من).

٢١٣

الآيات

( وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (80) )

التّفسير

قضاء داود وسليمانعليهما‌السلام :

بعد الحوادث والوقائع المتعلّقة بموسى وهارون وإبراهيم ونوح ولوطعليهم‌السلام ، تشير هذه الآيات إلى جانب من حياة داود وسليمان ، وفي البداية أشارت إشارة خفيّة إلى حادث قضاء وحكم صدر من جانب داود وسليمان ، فتقول :( وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ ) (1) ( فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ ) .

وبالرغم من أنّ القرآن قد ألمح إلى هذه المحكمة لمحة خفيّة ، واكتفى بإشارة

__________________

(1) «نفشت» من مادّة نفش على وزن (حرب) أي التفرّق والتبعثر في الليل ، ولمّا كان تفرّق الأغنام في الليل ، وفي مزرعة سيقترن بالتهام نباتها حتما لذا قال البعض : إنّها الرعي في الليل ، و «نقش» (على وزن علم) تعني الأغنام التي تتفرّق في الليل.

٢١٤

إجمالية واستخلاص النتيجة الأخلاقية والتربوية لها والتي سنشير إليها فيما بعد ، إلّا أنّه وردت بحوث كثيرة حولها في الرّوايات الإسلامية وأقوال المفسّرين.

فقال جماعة : إنّ القصّة كانت كما يلي : إنّ قطيع أغنام لبعض الرعاة دخلت ليلا إلى بستان فأكلت أوراقه وعناقيد العنب منه فأتلفته ، فرفع صاحب البستان شكواه إلى داود ، فحكم داود بأن تعطى كلّ الأغنام لصاحب البستان تعويضا لهذه الخسارة الفادحة ، فقال سليمان ـ والذي كان طفلا آنذاك ـ لأبيه : يا نبي الله العظيم ، غيرّ هذا الحكم وعدّله! فقال الأدب : وكيف ذاك؟ قال : يجب أن تودع الأغنام عند صاحب البستان ليستفيد من منافعها ولبنها وصوفها ، وتودع البستان في يد صاحب الأغنام ليسعى في إصلاحه ، فإذا عاد البستان إلى حالته الأولى يردّ إلى صاحبه ، وتردّ الأغنام أيضا إلى صاحبها ، وأيّد الله حكم سليمان في الآية التالية.

وقد ورد هذا المضمون في رواية عن الإمامين الباقر والصادقينعليهما‌السلام (1) .

ويمكن أن يتصوّر عدم تناسب هذا التّفسير مع كلمة (حرث) التي تعني الزراعة ، ولكن يبدو أنّ للحرث معنى واسعا يشمل الزراعة والبستان ، كما يستفاد ذلك من قصّة أصحاب الجنّة في سورة القلم ، الآية 17 ـ 32.

لكن تبقى هنا عدّة استفهامات مهمّة :

1 ـ ماذا كان أساس ومعيار هذين الحكمين؟

2 ـ كيف اختلف حكم داود عن حكم سليمان؟ فهل كانا يحكمان على أساس الاجتهاد؟

3 ـ هل المسألة هذه كانت على هيئة تشاور في الحكم ، أم أنّهما حكما بحكمين مستقلّين يختلف كلّ منهما عن الآخر؟!

ويمكن الإجابة عن السؤال الأوّل : إنّ المعيار كان جبران الخسارة ، فينظر

__________________

(1) مجمع البيان ، ذيل الآيات مورد البحث.

٢١٥

داود إلى أنّ الخسارة التي أصابت الكرم تعادل قيمة الأغنام ، ولذلك حكم بوجوب إعطاء الأغنام لصاحب البستان جبرا للخسارة ، لأنّ التقصير من جانب صاحب الأغنام.

وينبغي الالتفات إلى أنّنا نقرأ في بعض الرّوايات أنّ على صاحب الأغنام أن يمنع غنمه من التعدّي على زرع الآخرين في الليل ، كما أنّ من واجب صاحب الزرع حفظ زرعه في النهار(1) .

أمّا معيار حكم سليمانعليه‌السلام فقد كان يرى أنّ خسارة صاحب البستان تعادل ما سينتفع به من الأغنام لسنة كاملة!

بناء على هذا فإنّ الإثنين قد قضيا بالحقّ والعدل ، مع فارق أنّ حكم سليمان كان أدقّ ، لأنّ الخسارة لا تدفع مرّة واحدة في مكان واحد ، بل تؤدّي بصورة تدريجيّة بحيث لا تثقل على صاحب الغنم أيضا. وإضافة إلى ما مرّ ، فقد كان هناك تناسب بين الخسارة والجبران ، لأنّ جذور النباتات لم تتلف ، بل ذهبت منافعها المؤقتة ، ولذلك فإنّ من الأعدل ألّا تنقل أصول الأغنام إلى ملك صاحب البستان ، بل تنقل منافعها فقط.

ونقول في جواب السؤال الثّاني : لا شكّ أنّ حكم الأنبياء مستند إلى الوحي الإلهي ، إلّا أنّ هذا لا يعني أنّ وحيا خاصّا ينزل في كلّ مورد من موارد الحكم ، بل إنّ الأنبياء يحكمون حسب القواعد الكليّة التي تلقّوها من الوحي.

بناء على هذا فإنّه لا توجد مسألة الاجتهاد النظري بمعناها الاصطلاحي ، وهو الاجتهاد الظنّي ، ولكن لا مانع من أن يكون هناك طريقان لإيجاد ضابطة كليّة ، وأن يكون نبيّان كلّ منهما يرى أحد الطريقين ، وكلاهما صحيح في الواقع ، وكان الموضوع الذي عالجناه في بحثنا ـ على سبيل الاتّفاق ـ من هذا القبيل كما

__________________

(1) نقرأ في مجمع البيان في ذيل الآية مورد البحث : روي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قضى بحفظ المواشي على أربابها ليلا ، وقضى بحفظ الحرث على أربابه نهارا. وقد نقل هذا المضمون في تفسير الصافي نقلا عن كتاب الكافي.

٢١٦

بينّاه آنفا بتفصيل. وكما أشار القرآن إليه ، فإنّ الطريق الذي اختاره سليمانعليه‌السلام كان أقرب من الناحية التنفيذيّة ، وجملة( وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً ) والتي ستأتي في الآية التالية ، شاهدة على صحّة كلا القضاءين.

ونقول في جواب السؤال الثّالث : لا يبعد أن يكون الأمر على هيئة تشاور ، وهو التشاور الذي يحتمل أن يكون لتعليم سليمان وتأهيله في أمر القضاء ، والتعبير بـ (حكمهم) شاهد أيضا على وحدة الحكم النهائي ، بالرغم من وجود حكمين مختلفين في البداية. (فتأمّلوا بدقّة).

ونقرأ في رواية عن الإمام الباقرعليه‌السلام في تفسير هذه الآية أنّه قال : «لم يحكما ، إنّما كانا يتناظران»(1) .

ويستفاد من رواية أخرى رويت في أصول الكافي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّ هذه القضيّة حدثت لتعيين وصيّ داود وخليفته وأن يتعلّم أولئك النفر منهما أيضا(2) .

وعلى كلّ حال ، فإنّ الآية التالية تؤيّد حكم سليمان في هذه القصّة على هذه الشاكلة :( فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ ) ولكن هذا لا يعني أنّ حكم داود كان اشتباها وخطأ ، لأنّها تضيف مباشرة( وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً ) .

ثمّ تشير إلى إحدى المواهب والفضائل التي كان الله سبحانه قد وهبها لداودعليه‌السلام ، فتقول :( وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ) فإنّ ذلك ليس شيئا مهمّا أمام قدرتنا( وَكُنَّا فاعِلِينَ ) .

* * *

__________________

(1) من لا يحضره الفقيه ، طبقا لنقل تفسير نور الثقلين ، الجزء 3 ، ص 443.

(2) لمزيد الاطّلاع راجع تفسير الصافي ذيل الآية مورد البحث.

٢١٧

بحث

هناك بحث بين المفسّرين في أنّه كيف كان تجاوب الجبال والطير مع داود؟

وما المراد من قوله تعالى :( وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ ) ؟!

1 ـ فاحتمل أحيانا أنّ هذا كان صوت داود الرخيم المؤثّر الجذّاب ، والذي كان ينعكس في الجبال ، وكان يجذب الطيور إليه.

2 ـ وقالوا حينا آخر : إنّ هذا التسبيح كان تسبيحا مقترنا بالإدراك والشعور الموجود في باطن ذرّات العالم ، لأنّ كلّ موجودات العالم لها نوع من العقل والشعور حسب هذه النظرية ، وعند ما كانت تسمع صوت داود في وقت المناجاة والتسبيح كانت تردّد معه ، وتمتزج بهمهمة تسبيح منها.

3 ـ وقال البعض : إنّ المراد هو التسبيح التكويني الذي يوجد في موجودات العالم بلسان حالها ، لأنّ لكلّ موجود نظاما دقيقا جدّا. وهذا النظام الدقيق يحكي عن طهارة ونزاهة الله ، وعن أنّ له صفات كمال ، وبناء على هذا فإنّ نظام عالم الوجود العجيب في كلّ زاوية منه تسبيح وحمد ، فـ «التسبيح» هو التنزيه عن النقائص ، و «الحمد» هو الثناء على صفات الكمال(1) .

فإنّ قيل : إنّ التسبيح التكويني لا يختّص بالجبال والطيور ، ولا بداود ، بل أنّ نغمة هذا التسبيح تنبعث من كلّ الأرجاء والموجودات على الدوام.

قالوا في الجواب : صحيح إنّ هذا التسبيح عام ، ولكن لا يدركه الجميع ، فقد كانت روح داود العظيمة في هذه الحالة منسجمة مع باطن وداخل عالم الوجود ، وكان يحسن جيدا أنّ الجبال والطير يسبّحن معه.

وليس لدينا دليل قاطع على أي من هذه التفاسير ، وما نفهمه من ظاهر الآية هو أنّ الجبال والطير كانت تردّد وتتجاوب مع داود ، وكانت تسبّح الله ، وفي الوقت

__________________

(1) لمزيد الإيضاح راجع تفسير الآية (44) من سورة الإسراء.

٢١٨

نفسه لا تضادّ بين هذه التفاسير الثلاثة ، فالجمع بينهما ممكن.

وأشارت الآية الأخيرة إلى موهبة أخرى من المواهب التي وهبها الله لهذا النّبي الجليل ، فقالت :( وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ ) .

«اللبوس» كما يقول العلّامة الطبرسي في مجمع البيان ـ كلّ نوع من أنواع الأسلحة الدفاعية والهجومية كالدرع والسيف والرمح(1) . إلّا أنّ القرائن التي في آيات القرآن توحي بأنّ اللبوس هنا تعني الدرع التي لها صفة الحفظ في الحروب.

أمّا كيف ألان الله الحديد لداود ، وعلّمه صنع الدروع ، فسنفصّل ذلك في ذيل الآيات (10 ـ 11) من سورة سبأ إن شاء الله تعالى.

* * *

__________________

(1) مجمع البيان ، ذيل الآيات مورد البحث.

٢١٩

الآيتان

( وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (82) )

التّفسير

الرياح تحت إمرة سليمان :

تشير هاتان الآيتان إلى جانب من المواهب التي منحها الله لنبي آخر من الأنبياء ـ أي سليمانعليه‌السلام فتقول الآية الأولى منهما :( وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها ) وهذا الأمر ليس عجيبا ، لأنّنا عارفون به( وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ ) فنحن مطّلعون على أسرار عالم الوجود ، والقوانين والأنظمة الحاكمة عليه ، ونعلم كيفية السيطرة عليها ، ونعلم كذلك نتيجة وعاقبة هذا العمل ، وعلى كلّ حال فإنّ كلّ شيء خاضع ومسلّم أمام علمنا وقدرتنا.

إنّ جملة( وَلِسُلَيْمانَ ) معطوفة على جملة( وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ ) أي إنّ قدرتنا عظيمة نقدر معها على أن نسخّر الجبال لعبد من عبادنا أحيانا لتسبّح معه ، وأحيانا نجعل الريح تحت إمرة أحد عبادنا ليرسلها حيث شاء.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550