الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٠

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل7%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 550

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 550 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 211342 / تحميل: 6396
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٠

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

إنّ لفظة (العاصفة) تعني الرياح القويّة أو الهائجة ، في حين يستفاد من بعض آيات القرآن الاخرى أنّ الرياح الهادئة أيضا كانت تحت إمرة سليمان ، كما تصوّر ذلك الآية (٣٦) من سورة ص :( فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ ) .

إنّ التصريح بالعاصفة هنا يمكن أن تكون من باب بيان الفرد الأهمّ ، أي ليست الرياح الهادئة لوحدها تحت إمرته ، بل حتّى العواصف الشديدة كانت رهن إشارته أيضا ، لأنّ الثّانية أعجب.

ثمّ إنّ هذه الرياح القويّة التي في مسير الأرض المباركة (الشام) حيث كان مقرّ سليمانعليه‌السلام ، لم تكن الوحيدة ، بل إنّها كانت تتحرّك حيث أراد ، وإلى جميع الأمكنة حسب الآية (٣٦) من سورة ص ، وعلى هذا فإنّ التصريح باسم الأرض المباركة لأنّها كانت مركزا لحكومة سليمان.

أمّا كيف كانت الريح تحت إمرته وتصرّفه؟

وبأيّة سرعة كانت تتحرّك؟

وعلى أي شيء كان يجلس سليمان وأصحابه ويتحرّكون؟

وأي عامل كان يحفظ هؤلاء عند حركتهم من السقوط أو ضغط الهواء أو المصاعب الأخرى؟

والخلاصة : أيّة قوّة خفيّة كانت تعطيه القدرة على إمكانية التحرّك بمثل هذه الحركة السريعة في ذلك العصر والزمان(١) ؟

إنّ هذه مسائل لم تتّضح لنا جزئياتها ، والذي نعلمه هو أنّها كانت موهبة إلهيّة خارقة وضعت تحت تصرّف هذا النّبي العظيم ، وما أكثر المسائل التي نعلم بوجودها الإجمالي ، ونجهل تفصيلها؟! إنّ معلوماتنا في مقابل ما نجهله كالقطرة من البحر المحيط ، أو كالذرّة مقابل الجبل العظيم.

__________________

(١) يظهر من الآية ١٢ / سورة سبأ :( وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ ) بصورة مجملة أنّهم كانوا يسيرون صباحا مسافة أمدها شهر ويسيرون عصرا مسافة أمدها شهر «بمقياس الحركة في ذلك الزمان».

٢٢١

والخلاصة : فإنّ من وجهة نظر وإعتقاد إنسان موحّد يعبد الله ، لا يوجد شيء صعب ومستحيل أمام قدرة الله سبحانه ، فهو قادر على كلّ شيء ، وعالم بكلّ شيء.

لقد كتبت حول هذه الفترة من حياة سليمان ـ كالفترات الأخرى من حياته العجيبة ـ أساطير كاذبة أو مشكوكة كثيرة لا نقبلها مطلقا ، فنحن نكتفي بهذا المقدار الذي بيّنه القرآن هنا.

ويلزم ذكر هذه اللطيفة أيضا ، وهي أنّ بعض الكتّاب المتأخرين يعتقدون بأنّ القرآن ليس فيه شيء صريح عن حركة سليمان والبساط ، بل أورد الكلام عن تسخير الرياح لسليمان فقط ، فربّما كان ذلك إشارة إلى استغلال سليمان لقوّة الهواء في المسائل المرتبطة بالزراعة ، وتلقيح النباتات ، وتنقية الحنطة والشعير ، وحركة السفن ، خاصّة وأنّ أرض سليمان (الشام) كانت أرضا زراعية من جهة ، ومن جهة أخرى. فإنّ جانبا مهمّا منها كان على سواحل البحر الأبيض المتوسط ، وكان ينتفع منها في حركة الملاحة(١) .

إلّا أنّ هذا التّفسير لا يتناسب كثيرا وآيات سورة سبأ وسورة ص وبعض الرّوايات الواردة في هذا الباب.

ثمّ تذكر الآية التالية أحد المواهب الخاصّة بسليمانعليه‌السلام فتقول :( وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ ) لاستخراج الجواهر والأشياء الثمينة الأخرى( وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ ) من التمرّد والطغيان على أوامر سليمانعليه‌السلام .

إنّ ما ورد في الآية آنفة الذكر باسم «الشياطين» ، جاء في آيات سورة «سبأ» باسم الجن ـ الآية (١٢ و ١٣) من سورة سبأ ـ ومن الواضح أنّ هذين اللفظين

__________________

(١) قصص القرآن ، ١٨٥ ، أعلام القرآن ، ٣٨٦.

٢٢٢

لا منافاة بينهما ، لأنّا نعلم أنّ الشياطين من طائفة الجنّ.

وعلى كلّ حال ، فقد ذكرنا أنّ الجنّ نوع من المخلوقات التي لها عقل وشعور واستعداد ، وعليها تكليف ، وهي محجوبة عن أنظارنا نحن البشر ، ولذلك سمّيت بالجنّ ، وهم ـ كما يستفاد من آيات سورة الجنّ ـ كالبشر منهم المؤمنون الصالحون ، ومنهم الكافرون العصاة ، ولا نمتلك أي دليل على نفي مثل هذه الموجودات ، ولأنّ المخبر الصادق (القرآن) قد أخبر عنها فنحن نؤمن بها.

ويستفاد من آيات سورة سبأ وسورة ص ـ وكذلك من الآية محلّ البحث ـ جيدا أنّ هذه الجماعة من الجنّ التي سخّرت لسليمان ، كانوا أفرادا أذكياء نشيطين فنّانين صنّاعا ماهرين في مجالات مختلفة ، وجملة( وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ ) تبيّن إجمالا ما جاء تفصيله في سورة سبأ من أنّهم كانوا( يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ ) .

ويستفاد من جزء من الآيات المتعلّقة بسليمان أنّ جماعة من الشياطين العصاة كانوا موجودين أيضا ، وكان سليمانعليه‌السلام قد أوثقهم :( وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ ) (١) ، وربّما كانت جملة( وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ ) إشارة إلى هذا المعنى بأنّا كنّا نحفظ تلك المجموعة التي كانت تخدم سليمان من التمرّد والعصيان. وستطالعون تفصيلا أكثر في هذا الباب في تفسير سورة سبأ وسورة ص إن شاء الله تعالى.

ونذكر مرّة أخرى أنّ هناك أساطير كاذبة أو مشكوكا فيها كثيرة حول حياة سليمان وجنوده ، يجب أن لا تمزج مع ما في متن القرآن ، لئلّا تكون حربة في يد المتصيدين في الماء العكر.

* * *

__________________

(١) سورة ص ٣٨٠.

٢٢٣

الآيتان

( وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (٨٤) )

التّفسير

أيّوب ونجاته من المصاعب :

تتحدّث الآيتان عن نبي آخر من أنبياء الله العظماء وقصّته الملهمة ، وهو «أيّوب» وهو عاشر نبي أشير إلى جانب من حياته في سورة الأنبياء.

إنّ لأيّوب قصّة حزينة ، وهي في نفس الوقت عظيمة سامية ، فقد كان صبره وتحمّله عجيبين ، خاصّة أمام الحوادث المرّة ، بحيث أنّ صبر أيّوب أصبح مضربا للمثل منذ القدم.

غير أنّ هاتين الآيتين تشيران ـ بصورة خاصّة ـ إلى مرحلة نجاته وانتصاره على المصاعب ، واستعادة ما فقده من المواهب ، ليكون درسا لكلّ المؤمنين على مرّ الدهور ليغوصوا في المشاكل ويخترقوها ، ولا سيّما لمؤمني مكّة الذين كانوا يعانون ضغوطا من أعدائهم عند نزول هذه الآيات ، فتقول :( وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ

٢٢٤

أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) .

وكلمة «الضرّ». تطلق على كلّ سوء وأذى يصيب روح الإنسان أو جسمه ، وكذلك لنقص عضو ، وذهاب مال ، وموت الأعزّة وانهيار الشخصيّة وأمثال ذلك ، وكما سنقول فيما بعد ، فإنّ أيّوب قد ابتلي بكثير من هذه المصائب.

إنّ أيّوب ـ كسائر الأنبياء ـ يظهر أقصى حالات الأدب والخضوع أمام الله عند الدعاء لرفع هذه المشاكل المضنية المجهدة ، ولا يعبّر بتعبير تشمّ منه رائحة الشكوى ، بل يقول فقط : إنّي ابتليت بهذه المصائب وأنت أرحم الراحمين ، فهو حتّى لا يقول : حلّ مشكلتي ، لأنّه يعلم أنّه جليل عظيم ، وهو يعرف حقّ العظمة.

وتقول الآية التالية :( فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ ) ليعلم المسلمون أنّ المشاكل كلّما زادت ، وكلّما زادت الابتلاءات ، وكلّما زاد الأعداء من ضغوطهم وضاعفوا قواهم ، فإنّها جميعا ترفع وتحلّ بنظرة ومنحة من لطف الله ، فلا تجبر الخسارة وحسب ، بل إنّ الله سبحانه يعطي الصابرين أكثر ممّا فقدوا جزاء لصبرهم وثباتهم ، وهذا درس وعبرة لكلّ المسلمين ، وخاصة المسلمين الذين كانوا تحت محاصرة العدو الشديدة ، وتحت ضغط المشاكل عند نزول هذه الآيات.

* * *

بحوث

١ ـ لمحة من قصّة أيّوب

في حديث عن الإمام الصّادقعليه‌السلام إنّ رجلا سأله عن بليّة أيّوب لأي علّة كانت؟ فأجابه بما ملخّصه. إنّ هذا الابتلاء لم يكن لكفران نعمة ، بل على العكس من ذلك ، فإنّه كان لشكر نعمة حسده عليها إبليس ، فقال لربّه : يا ربّ إنّ أيّوب لم يودّ إليك شكر هذه النعمة إلّا بما أعطيته من الدنيا ، ولو حرمته دنياه ما أدّى إليك

٢٢٥

شكرك ، فسلّطني على دنياه حتّى يتبيّن الأمر ، فسلّطه الله عليه ليكون هذا الحادث سندا لكلّ سالكي طريق الحقّ.

فانحدر إبليس وأهلك أموال أيّوب وأولاده الواحد تلو الآخر ، ولكن لم تزد هذه الحوادث أيّوب إلّا ثباتا على الإيمان وخضوعا لقضاء الله وقدره.

فسأل الشيطان الله سبحانه أن يسلطه على زرعه وغنمه فسلطه ، فأحرق كلّ زرعه ، وأهلك كلّ غنمه ، فلم يزدد أيّوب إلّا حمدا وشكرا.

وأخيرا طلب الشيطان من الله أن يسلطه على بدن أيّوب ليكون سبب مرضه ، وهكذا كان بحيث لم يكن قادرا على الحركة من شدّة المرض والجراحات ، لكن من دون أن يترك أدنى خلل في عقله وإدراكه.

والخلاصة ، فقد كانت النعم تسلب من أيّوب الوحدة تلو الاخرى ، ولكن شكره كان يزداد في موازاتها ، حتّى جاء جمع من الرهبان لرؤيته وعيادته ، فقالوا : قل لنا أي ذنب عظيم قد اقترفت حتّى ابتليت بمثل هذا الابتلاء؟ وهنا بدأت شماتة هذا وذاك ، وكان هذا الأمر شديدا على أيّوب ، فقال مجيبا : وعزّة ربّي انّي ما أكلت لقمة من طعام إلّا ومعي يتيم أو مسكين يأكل على مائدتي ، وما عرض لي أمران كلاهما فيه طاعة لله إلّا أخذت بأشدّهما عليّ.

عند ذاك كان أيّوب قد اجتاز جميع الامتحانات صابرا شاكرا متجمّلا : وهو يناجي ربّه بلسان مهذّب ودعا أن يكشف عنه ضرّه بتعبير صادق ليس فيه أدنى شكوى ـ وهو ما ذكرته الآية المتقدّمة :( رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) ـ وفي هذه الأثناء فتحت أبواب الرحمة الإلهيّة ، ورفع البلاء بسرعة ، وانهمرت عليه النعم الإلهيّة أكثر من ذي قبل(١) .

أجل إنّ رجال الحقّ لا تتغير أفكارهم وأعمالهم بتغيّر النعم ، فهم يتوجّهون إلى الله في حريتهم وسجنهم وسلامتهم ومرضهم وقوّتهم وضعفهم ، وبكلمة واحدة

__________________

(١) تفسير القمّي ، طبقا لنقل تفسير الميزان.

٢٢٦

في كلّ الأحوال ، ولا تغيّرهم حوادث الحياة ، فإنّ أرواحهم كالمحيط العظيم لا يؤثّر في هدوئه تلاطم الرياح العاتية.

كما أنّهم لا ييأسون لهول الحوادث المرّة وكثرتها ، بل يواجهونها ويصمدون لها حتّى تفتح أبواب الرحمة الإلهيّة ، لعلمهم أنّ الحوادث والظروف الصعبة امتحانات إلهيّة يعدّها الله لخاصّة عباده ليكونوا أكثر مرانا ومراسا

٢ ـ المعروف بين المفسّرين في تفسير جملة( آتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ ) أنّ الله سبحانه أرجع أولاده الهلكى إلى حياتهم الأولى ورزقه أولادا آخرين.

ونقرأ في بعض الرّوايات : إنّ الله قد ردّ عليه الأولاد الذين هلكوا في هذه الحادثة ، وأولاده الذين ماتوا قبلها(١) .

واحتمل بعضهم أنّ الله قد وهب أيّوب أولادا وأحفادا جددا ليسدّوا مسدّ الأولاد المفقودين ويملأوا الفراغ الذي تركوه.

٣ ـ نقرأ في بعض الرّوايات غير المعتبرة أنّ بدن أيّوب قد تعفّن ، نتيجة المرض الشديد ، إلى درجة أنّه لم يكن بمقدور الناس أن يقتربوا منه ، إلّا أنّ الرّوايات الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام تنفي هذا المعنى بصراحة ، والدليل العقلي يؤكّد هذا المعنى أيضا ، لأنّ النّبي إذا كان في حال منفّرة ، فإنّ ذلك لا يناسب منهج رسالته ، فكلّ نبي ينبغي أن يكون على حالة تمكّن الناس من الاتّصال به وملاقاته ليسمعوا كلام الحقّ ، أي إنّ للنّبي جاذبية خاصّة.

وستطالعون إن شاء الله تعالى تفصيلا أكثر حول قصّة أيّوب في الآية (٤١ ـ ٤٤) سورة ص.

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٤٤٨.

٢٢٧

الآيتان

( وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٦) )

التّفسير

إسماعيل وإدريس وذو الكفلعليه‌السلام :

تعقيبا على قصّة أيّوبعليه‌السلام التربوية ، وصبره وثباته بوجه سيل الحوادث ، تشير الآيتان ـ محلّ البحث ـ إلى صبر ثلاثة من أنبياء الله الآخرين فتقول الأولى :( وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ ) فكلّ واحد من هؤلاء صبر طوال عمره أمام الأعداء ، أو أمام مشاكل الحياة المجهدة المضنية ، ولم يركع أبدا في مقابل هذه الحوادث ، وكان كلّ منهم مثلا أعلى في الصبر والاستقامة.

ثمّ تبيّن الآية الاخرى موهبة إلهيّة لهؤلاء مقابل الصبر والثبات ، فتقول :

( وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ ) .

ممّا يلفت النظر هنا أنّه لم يقل : وهبناهم رحمتنا ، بل قال : وأدخلناهم في رحمتنا ، فكأنّ كلّ أجسامهم وأرواحهم أصبحت غارقة في الرحمة الإلهيّة ، بعد أن كانت غارقة في بحر المشاكل.

٢٢٨

إدريس وذو الكفلعليهما‌السلام :

«إدريس» ـ نبي الله العظيم ـ وكما تقدّم ـ هو جدّ والد نوحعليه‌السلام وفقا لما رواه أغلب المفسّرين ، واسمه في التوراة (أخنوخ) وفي العربية (إدريس) ويرى بعضهم أنّ إدريس مشتق من مادّة الدرس ، لأنّه كان أوّل من كتب بالقلم ، وكان ذا إحاطة بعلم الفلك والنجوم والحساب والهيأة بالإضافة إلى كونه نبيّا ويقال أنّه أوّل من علّم الناس خياطة الثياب.

وأمّا «ذو الكفل» ، فالمشهور أنّه كان من الأنبياء(١) ، وإن كان بعضهم يعتقد أنّه كان من الصالحين. وظاهر آيات القرآن التي ذكرته في عداد الأنبياء يؤيّد أنّه من الأنبياء ، وأغلب الظنّ أنّه كان من أنبياء بني إسرائيل(٢) .

وهناك احتمالات عديدة في سبب تسميته بهذا الاسم ، مع ملاحظة أنّ كلمة «كفل» جاءت بمعنى النصيب ، وكذلك بمعنى الكفالة والضمان والتعهّد.

فقال بعضهم : إنّ الله سبحانه لمّا غمره بنصيب وافر من ثوابه ورحمته في مقابل الأعمال والعبادات الكثيرة التي كان يؤدّيها سمّي ذا الكفل ، أي صاحب الحظّ الأوفى.

وقال آخرون : إنّه لمّا تعهّد بأن يحيي الليل في العبادة ويصوم النهار ، وأن لا يغضب عند الحكم ، وأن يفي بوعده أبدا ، لذلك سمّي بذي الكفل.

ويعتقد بعضهم ـ أيضا ـ أنّ «ذا الكفل» لقب «إلياس» ، كما أنّ إسرائيل لقب يعقوب ، والمسيح لقب عيسى ، وذا النون لقب يونس(٣) . على نبيّنا وآله وعليهم الصلاة والسلام

* * *

__________________

(١) التّفسير الكبير للفخر الرازي ، ذيل الآية مورد البحث.

(٢) تفسير في ظلال القرآن ، الجلد ٥ ، ص ٥٥٦.

(٣) تفسير الفخر الرازي ، ذيل الآية مورد البحث ، ونقرأ في التأريخ الكامل : إنّ الكفل كان أحد أولاد أيّوب ، وكان اسمه الأصلي (بشر) وكان يعيش في أرض الشام. الكامل لابن الأثير ، ج ١ ، ص ١٣٦.

٢٢٩

الآيتان

( وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨) )

التّفسير

نجاة يونس من السجن المرعب :

تبيّن هاتان الآيتان جانبا من قصّة النّبي الكبير يونسعليه‌السلام ، حيث تقول الأولى واذكر يونس إذ ترك قومه المشركين غاضبا عليهم :( وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً ) .

كلمة «النون» في اللغة تعني السمكة العظيمة ، أو بتعبير آخر تعني الحوت ، وبناء على هذا فإنّ «ذا النون» معناه صاحب الحوت ، وإختيار هذا الاسم ليونس بسبب الحادثة التي سنشير إليها فيما بعد إن شاء الله تعالى.

وعلى كلّ حال ، فإنّه ذهب مغاضبا( فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ (١) عَلَيْهِ ) فقد كان يظنّ

__________________

(١) «نقدر» من مادّة قدر بمعنى التعسير والتضييق ، لأنّ الإنسان عند التضييق يأخذ من كلّ شيء قدرا محدودا ، لا على نطاق واسع وبدون حساب.

٢٣٠

أنّه قد أدّى كلّ رسالته بين قومه العاصين ، ولم يترك حتّى «الأولى» في هذا الشأن ، فلو تركهم وشأنهم فلا شيء عليه ، مع أنّ الأولى هو بقاؤه بينهم والصبر والتحمّل والتجلّد ، فلعلّهم ينتبهون من غفلتهم ويتّجهون إلى الله سبحانه.

وأخيرا ، ونتيجة تركه الأولى هذا ، ضيّقنا عليه فابتلعه الحوت( فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) فقد ظلمت نفسي ، وظلمت قومي ، فقد كان ينبغي أن أتقبّل وأتحمّل أكثر من هذه الشدائد والمصائب ، وأواجه جميع أنواع التعذيب والآلام منهم فلعلّهم يهتدون.

وتقول الآية التالية :( فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ) أجل لم يكن هذا الأمر خاصّا بيونس ، بل هو لطف الله الشامل فكلّ مؤمن يعتذر من ربّه عن تقصيره ويسأله العون والمدد والرحمة فإنّ الله سيستجيب له ويكشف عنه غمّه.

* * *

بحوث

١ ـ قصّة يونسعليه‌السلام

ستأتي تفاصيل قصّة يونس في تفسير سورة الصافات إن شاء الله تعالى ، أمّا ملخّصها فهو :

إنّ «يونس» كان لسنين طوال مشتغلا بالدعوة والتبليغ بين قومه في أرض نينوى بالعراق ، ولكن رغم كلّ ما بذله من جهود ومساع فإنّ إرشاداته وتوجيهاته لم تؤثر في قلوبهم ، فغضب وهجر تلك الأرض ، وذهب باتجاه البحر وركب السفينة ، وأثناء الطريق هاج البحر ، فكاد كلّ ركّاب السفينة أن يغرقوا.

وهنا قال ربّان السفينة : إنّي أظنّ أنّ بينكم عبدا هاربا يجب أن يلقى في البحر ـ أو إنّه قال : إنّ السفينة ثقيلة جدّا ويجب أن نلقي فردا منّا تخرجه

٢٣١

القرعة ـ فاقترعوا عدّة مرّات ، وكان اسم يونسعليه‌السلام يخرج في كلّ مرّة! فعلم أنّ في هذا الأمر سرّا خفيّا ، فسلّم للحوادث ، وعند ما ألقوه في البحر ابتلعه حوت عظيم وأبقاه الله في بطنه حيّا.

وأخيرا انتبه إلى أنّه قد ترك الأولى ، فتوجّه إلى الله واعترف بتقصيره ، فاستجاب الله دعوته وأنجاه من ذلك المكان الضيّق(١) .

من الممكن أن يتصوّر استحالة هذا الحادث من الناحية العلمية ، ولكن لا شكّ أنّ هذا الأمر خارق للعادة ، إلّا أنّه ليس بمحال عقلي ، كإحياء الموتى فإنّه يعدّ أمرا خارقا للعادة وليس محالا ، وبتعبير آخر : فإنّ وقوعه غير ممكن بالطرق العادية ، ولكنّه ليس صعبا مع الاستعانة بقدرة الله غير المحدودة.

وستقرءون تفصيلا أكثر حول هذه الحادثة في تفسير سورة الصافات إن شاء الله تعالى.

٢ ـ ما معنى الظلمات هنا؟

من الممكن أن يكون هذا التعبير إشارة إلى ظلمة البحر في أعماق الماء ، وظلمة بطن الحوت ، وظلمة الليل ، وتؤيّد ذلك الرّواية التي رؤيت عن الإمام الباقرعليه‌السلام (٢) .

٣ ـ أي أولى تركه يونس؟

لا شكّ أنّ تعبير «مغاضبا» إشارة إلى غضب يونس على قومه الكافرين ، وكان مثل هذا الغضب في هذه الظروف طبيعيّا تماما ، إذ تحمّل هذا النّبي المشفق المشقّة والتعب سنين طويلة من أجل هداية القوم الضّالين ، إلّا إنّهم لم يلبّوا دعوته

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، ومجمع البيان ، ونور الثقلين ، ذيل الآية محلّ البحث.

(٢) نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ٣٣٦.

٢٣٢

الخيّرة

ومن جهة أخرى ، فإنّ يونس لمّا كان يعلم أنّ العذاب الإلهي سينزل بهم سريعا ، فإنّ ترك تلك المدينة لم يكن معصية ، ولكن كان الأولى لنبي عظيم كيونس ألّا يتركها حتّى آخر لحظة ـ اللحظة التي سيعقبها العذاب الإلهي ـ ولذلك آخذه الله على هذه العجلة ، واعتبر عمله تركا للأولى.

وهذا هو عين ما أشرنا إليه في قصّة آدمعليه‌السلام من أنّ المعصية ليست مطلقة ، بل نسبيّة ، أو بتعبير آخر هي مصداق «حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين». ولمزيد الاطّلاع راجع ما ذكرناه ذيل الآية (١٩) وما بعدها من سورة الأعراف.

٤ ـ درس مصيري

جملة( كَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ) العميقة المعنى توحي بأنّ ما أصاب يونس من البلاء والنجاة لم يكن حكما خاصّا ، بل حكم عام مع حفظ تسلسل الدرجات والمراتب.

إنّ كثيرا من الحوادث المؤلمة والابتلاءات الشديدة والمصائب نتيجة لذنوبنا ومعاصينا ، وهي سياط لتنبيه الأرواح الغافلة ، أو هي مواقد لتصفية معادن أرواح الآدميين فمتى ما تنبّه الإنسان إلى ثلاثة أمور [التي انتبه إليها يونس في مثل هذا الظرف] فإنّه سينجو حتما :

١ ـ التوجّه إلى حقيقة التوحيد ، وأنّه لا معبود ولا سند إلّا الله.

٢ ـ تنزيه الله عن كلّ عيب ونقص وظلم وجور ، وتجنّب كلّ سوء ظنّ بذاته المقدّسة.

٣ ـ الاعتراف بذنبه وتقصيره.

والشاهد على هذا الكلام الحديث المروي في الدرّ المنثور عن الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «اسم الله الذي إذا دعي به أجاب ، وإذا سئل به أعطى دعوة

٢٣٣

يونس بن متّى» فقال رجل : يا رسول الله هي ليونس خاصّة أم لجماعة المسلمين؟

قال : «هي ليونس خاصّة وللمؤمنين إذا دعوا بها ، ألم تسمع قول الله( وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ) ؟ فهو شرط من الله لمن دعاه»(١) .

ولا يحتاج أن نذكر بأنّ المراد ليس قراءة الألفاظ والكلمات فقط ، بل جريان حقيقتها في أعماق روح الإنسان ، أي أن ينسجم كلّ وجوده مع معنى تلك الألفاظ حين قراءتها.

ويلزم التذكير بهذه المسألة ، وهي أن العقوبات الإلهيّة على نحوين :

أحدهما : عذاب الاستيصال ، أي العقوبة النهاية التي تحلّ لمحو الأفراد الذين لا يمكن إصلاحهم ، إذ لا ينفعهم أي دعاء حينئذ ، لأنّ أعمالهم ذاتها ستكرّر بعد هدوء عاصفة البلاء.

والآخر : عذاب التنبيه ، والذي له صفة تربوية ، ويرتفع مباشرة بمجرّد أن يؤثّر أثره ويتنبّه المخطئ ويثوب إلى رشده. ومن هنا يتّضح أنّ إحدى غايات الآفات والابتلاءات والحوادث المرّة هي التوعية والتربية.

إنّ حادثة يونسعليه‌السلام تحذّر بصورة ضمنيّة جميع قادة الحقّ والمرشدين إليه بأن لا يتصوّروا انتهاء مهمتهم مطلقا ، ولا يستصغروا أي جهد وسعي في هذا الطريق ، لأنّ مسئولياتهم ثقيلة جدّا.

* * *

__________________

(١) الدرّ المنثور ، طبقا لنقل الميزان ، ذيل الآيات مورد البحث.

٢٣٤

الآيتان

( وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (٩٠) )

التّفسير

نجاة زكريا من الوحدة :

تبيّن هاتان الآيتان جانبا من قصّة شخصيتين أخريين من أنبياء الله العظماء ، وهما زكريا ويحيىعليهما‌السلام . فتقول الأولى :( وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ ) .

لقد مرّت سنين من عمر زكريا ، واشتعل رأسه شيبا ، ولم يرزق الولد حتّى ذلك الحين ، ثمّ أنّ زوجته كانت عقيما ، وقد كان يأمل أن يرزق ولدا يستطيع أن يكمل مناهجه الإلهيّة وأعماله التبليغيّة ، ولئلّا يتسلّط المنتفعون على معبد بني إسرائيل ، فينهبوا منه أمواله وهداياه التي ينبغي إنفاقها في سبيل الله.

وعندئذ توجّه إلى الله بكلّ وجوده وسأله ولدا صالحا ودعا الله دعاء يفيض تأدّبا ، فبدأ دعاءه بكلمة «ربّ» ، الربّ الذي يشمل الإنسان بلطفه من أوّل لحظة. ثمّ أكّد زكرياعليه‌السلام على هذه الحقيقة ، وهي أنّي إن بقيت وحيدا فسأنسى ـ

٢٣٥

ولا أنسى وحدي ، بل ستنسى مناهجي وسيرتي أيضا ؛ أكدّ كلّ ذلك بتعبير( لا تَذَرْنِي ) من مادّة (وذر) على وزن مرز بمعنى ترك الشيء لقلّة قيمته وعدم أهميّته. وأخيرا فإنّ جملة( وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ ) تعبّر عن حقيقة أنّه يعلم أنّ هذه الدنيا ليست دار بقاء ، ونعلم أنّ الله خير الوارثين ، ولكنّه يبحث ـ من جهة عالم الأسباب ـ عن سبب يوصله إلى هذا الهدف

فاستجاب الله هذا الدعاء الخالص المليء بعشق الحقيقة ، وحقّق أمنيته وما كان يصبوا إليه ، كما تقول الآية :( فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى ) ومن أجل الوصول إلى هذا المراد أصلحنا زوجته وجعلناها قادرة على الإنجاب( وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ ) .

ثمّ أشار الله سبحانه إلى ثلاث صفات من الصفات البارزة لهذه الأسرة فقال :( إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً (١) وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ ) والخشوع هو الخضوع المقرون بالاحترام والأدب ، وكذلك الخوف المشفوع بالإحساس بالمسؤولية.

إنّ ذكر هذه الصفات الثلاث ربّما تكون إشارة إلى أنّ هؤلاء عند ما يصلون إلى النعمة فلا يبتلون بالغفلة والغرور كما في الأشخاص الماديين من ضعفاء الإيمان ، فهؤلاء لا ينسون الضعفاء المحتاجين على كلّ حال ، ويسارعون في الخيرات ، ويتوجّهون إلى الله سبحانه في حال الفقر والغنى ، والمرض والصحّة ، وأخيرا فإنّهم لا يبتلون بالكبر والغرور عند إقبال النعمة ، بل كانوا خاشعين خاضعين أبدا.

* * *

__________________

(١) «رغبا» بمعنى الرغبة والميل والعلاقة ، و «رهبا» بمعنى الخوف والرعب ، وهناك احتمالات متعدّدة في محلّها من الإعراب ، فيمكن أن تكون حالا أو تمييزا أو مفعولا مطلقا ، أو ظرفا أي في حال الرغبة وفي حال الرهبة. وبالرغم من أنّ نتائج هذه الاحتمالات الخمسة تختلف مع بعضها ، إلّا أنّ هذا التفاوت في جزئيات مفهوم الآية ، لا في أساسها ونتيجتها.

٢٣٦

الآية

( وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (٩١) )

التّفسير

مريم السيّدة الطاهرة :

أشير في هذه الآية إلى مقام مريم وعظمتها وعظمة ابنها المسيحعليهما‌السلام .

إنّ ذكر مريم في ثنايا البحوث التي تتكلّم على الأنبياء الكرام ؛ إمّا من أجل ولدها عيسىعليه‌السلام ، أو لأنّ ولادته كانت تشبه ولادة يحيى بن زكرياعليهما‌السلام من جهات متعدّدة ، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في ذيل آيات سورة مريم(١) . أو ليوضّح أنّ العظمة غير مختّصة بالرجال ، بل هناك نساء عظيمات يدلّ تاريخهنّ على عظمتهنّ ، وكنّ قدوة ومثلا أسمى لنساء العالم.

تقول الآية : واذكر مريم :( وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ ) .

* * *

__________________

(١) تراجع الآيات الأولى من سورة مريم.

٢٣٧

ملاحظات

١ ـ «الفرج» معناه في اللغة الفاصلة والشقّ ، واستعمل كناية عن العضو التناسلي ، لا أنّه صريح في هذا المعنى ويرى البعض انّ كلّ ما ورد في القرآن في شأن الأمور الجنسية له طابع كنائي وغير صريح ، من قبيل «اللمس» «الدخول» «الغشيان»(١) «الإتيان»(٢) وغير ذلك.

ويلزم ذكر هذه اللطيفة أيضا ، وهي : إنّ ظاهر الآية المتقدّمة يقول : إنّ مريم قد حفظت طهارتها وعفّتها من كلّ أشكال التلوّث بما ينافي العفّة. إلّا أنّ بعض المفسّرين احتمل في معنى هذه الآية أنّها امتنعت من الاتّصال بالرجال ، سواء كان ذلك من الحلال أو الحرام(٣) ، كما تقول الآية (٢٠) من سورة مريم :( وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ) .

إنّ هذه الصفة في الحقيقة مقدّمة لإثبات إعجاز ولادة عيسى وكونه آية.

٢ ـ إنّ المراد من «روحنا» ـ كما قلنا سابقا ـ الإشارة إلى روح عظيمة متعالية ، ويقال لمثل هذه الإضافة : «الإضافة التشريفيّة» ، حيث نضيف شيئا إلى الله لبيان عظمته ، مثل بيت الله ، وشهر الله.

٣ ـ تقول الآية آنفة الذكر : إنّا جعلنا مريم وابنها آية للعالمين ، ولم تقل : آيتين وعلامتين ، لأنّ وجود مريم ووجود ابنها امتزجا في هذه الآية الإلهيّة العظيمة امتزاجا لا يمكن معه تجزئه بعضهما عن بعض ، فإنّ ولادة ولد بدون أب إعجاز بنفس المقدار الذي تحمل فيه امرأة بدون زوج. وكذلك معجزات عيسىعليه‌السلام في طفولته وكبره فإنّها تذكر بامّه.

إنّ هذه الأمور الخارقة للعادة ، والمخالفة للأسباب الطبيعيّة العادية ، يبيّن في

__________________

(١) الأعراف ، ١٨٩( فَلَمَّا تَغَشَّاها ) .

(٢) البقرة ، ٢٢٢( فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ ) .

(٣) التّفسير الكبير للفخر الرازي ، وتفسير في ظلال القرآن ، ذيل الآية محل البحث.

٢٣٨

الجملة حقيقة أنّ وراء سلسلة الأسباب قدرة قادرة على تغييرها في أي وقت شاءت.

وعلى كلّ حال ، فإنّ حال السيّد المسيح وامّه مريمعليهما‌السلام لم يكن له نظير على طول تأريخ البشر ، فلم ير قبله ولا بعده شبيه له وربّما كان تنكير كلمة (آية) [في قوله تعالى :( وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ ) ] الدالّ على التعظيم هو إشارة إلى هذا المعنى

* * *

٢٣٩

الآيات

( إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (٩٣) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (٩٤) )

التّفسير

امّة واحدة :

لمّا ورد في الآيات السابقة أسماء جمع من أنبياء الله ، وكذلك مريم ، تلك المرأة التي كانت مثلا أسمى ، وجانب من قصصهم ، فإنّ هذه الآيات تستخلص نتيجة ممّا مرّ ، فتقول :( إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً ) فقد كان منهجهم واحدا ، وهدفهم واحدا بالرغم من اختلافهم في الزمان والمحيط والخصائص والأساليب والطرائق ، فهم كانوا يسيرون في منهج واحد ويمضون جميعا في طريق التوحيد ومحاربة الشرك ودعوة الناس إلى الإيمان بالله والحقّ والعدالة.

إنّ توحيد ووحدة الخطط والأهداف هذه تعود إلى أنّها جميعا تصدر عن مصدر واحد ، عن إرادة الله الواحد ، ولهذا تقول الآية مباشرة :( وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) .

٢٤٠

إنّ توحيد الأنبياء الاعتقادي في الواقع يقوم على أساس وحدة منبع الوحي ، وهذا الكلام يشبه كلام الإمام عليعليه‌السلام في وصيته لولده الإمام المجتبىعليه‌السلام حيث يقول : «واعلم يا بني أنّه لو كان لربّك شريك لأتتك رسله ، ولعرفت أفعاله وصفاته»(1) .

«الامّة» ـ كما يقول الراغب في مفرداته ـ تعني كلّ جماعة تربطهم جهة مشتركة ، الاشتراك في الدين ، أو الزمن والعصر الواحد ، أو المكان المعيّن ، سواء كانت هذه الوحدة اختيارية أو بدون إختيار.

واعتبر بعض المفسّرين الامّة الواحدة هنا بمعنى الدين الواحد ، ولكن كما قلنا أنّ هذا التّفسير لا يتناسب والأصل اللغوي للامّة.

وقال البعض الآخر : إنّ المراد من الامّة هنا كلّ البشر وفي جميع الأعصار ، أي إنّكم أيّها البشر أمّة واحدة ، ربّكم واحد ، وهدفكم الأخير واحد.

إنّ هذا التّفسير وإن كان أكثر انسجاما من التّفسير السابق ، ولكنّه لا يبدو مناسبا بملاحظة ارتباط هذه الآية بالآيات السابقة ، بل الأنسب منها جميعا أن تكون هذه الجملة إشارة إلى الأنبياء الذين مرّ ذكرهم في الآيات السابقة.

وأشارت الآية التالية إلى انحراف جماعة عظيمة من الناس عن أصل التوحيد ، فقالت :( وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ ) فقد وصل بهم الأمر إلى أن يقف بعضهم ضدّ بعض ، ويلعن بعضهم بعضا ويتبرّأ منه ، ولم يكتفوا بذلك ، بل شهروا السلاح فيما بينهم ، وسفكوا الدماء الكثيرة ، وكانت هذه الأحداث نتيجة الانحراف عن أصل التوحيد ودين الله الحقّ.

جملة «تقطّعوا» ـ من مادّة قطع ـ بمعنى تفريق القطع المتّصلة بموضوع واحد ، وإذا لا حظنا أنّها جاءت من باب (تفعّل) الذي يأتي بمعنى القبول ، فإنّ معنى

__________________

(1) نهج البلاغة. الرسالة 31.

٢٤١

الجملة هو : إنّ أولئك قد استسلموا أمام عوامل التفرقة والنفاق ، ورضوا بأن يبتعد أحدهم عن الآخر ، وأنهوا اتّحادهم الفطري والتوحيدي ، فمنوا ـ نتيجة ذلك ـ بكلّ تلك الهزائم والشقاوة!

وتضيف في النهاية :( كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ ) فإنّ هذا الاختلاف عرضي يمكن اقتلاعه ، وسيسيرون في طريق الوحدة جميعا في يوم القيامة ، وقد أكّد على هذه المسألة في كثير من الآيات القرآنية ، وهي أنّ واحدة من خصائص يوم القيامة زوال الاختلافات وذوبانها والرجوع إلى الوحدة ، فنقرأ في الآية 48 / سورة المائدة :( إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) .

ويلاحظ هذا المضمون في آيات متعدّدة من القرآن الكريم(1) ، وعلى هذا فإنّ خلق البشر بدأ من الوحدة ، ويرجع إلى الوحدة.

وتبيّن الآية الأخيرة نتيجة الانسجام مع الامّة الواحدة في طريق عبادة الله ، أو الانحراف عنها واتّخاذ طريق التفرقة ، فتقول :( فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ ) ومن أجل زيادة التأكيد قالت :( وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ ) .

وممّا يستحقّ الانتباه ، أنّ الإيمان والعمل الصالح قد ذكرا في هذه الآية ـ ككثير من آيات القرآن الاخرى ـ كركنين أساسيّين لنجاة البشر ، غير أنّ كلمة (من) التبعيضيّة تضيف إلى ذلك أنّ القيام بكلّ الأعمال الصالحة ليس شرطا ، فإنّ المؤمنين إذا قاموا ببعض الأعمال الصالحة فإنّهم من أهل النجاة والسعادة.

وعلى كلّ حال ، فإنّ هذه الآية ككثير من آيات القرآن الاخرى قد عدّت الإيمان شرطا لقبول الأعمال الصالحة.

ذكر جملة( فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ ) في مقام بيان ثواب مثل هؤلاء الأفراد ، هو

__________________

(1) آل عمران ـ 55 ، والأنعام ـ 164 ، والنحل ـ 92 ، والحجّ ـ 69 ، و...

٢٤٢

تعبير مقترن بتمام اللطف والمحبّة والسماحة ، لأنّ الله سبحانه هنا في مقام الشكر والثناء على عباده ، ويشكر لهؤلاء سعيهم.

وهذا التعبير يشبه التعبير الذي ورد في الآية 19 / سورة الإسراء :( وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً ) .

* * *

٢٤٣

الآيات

( وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97) )

التّفسير

الكافرون على أعتاب القيامة :

كان الكلام في آخر الآيات السابقة على المؤمنين العاملين للصالحات ، وتشير الآية الأولى من هذه الآيات إلى الأفراد في الطرف المقابل لأولئك ، وهم الذين استمرّوا في الضلال والفساد إلى آخر نفس ، فتقول :( وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ ) (1) .

إنّ هؤلاء في الحقيقة أناس ترفع الحجب عن أعينهم وأنظارهم بعد مشاهدة العذاب الإلهي ، أو بعد فنائهم وانتقالهم إلى عالم البرزخ ، وعندها يأملون أن

__________________

(1) بناء على هذا التّفسير فإنّ( حَرامٌ ) خبر لمبتدأ محذوف ، وجملة( أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ ) دليل على ذلك ، والتقدير : «حرام على أهل قرية أهلكناها أن يرجعوا إلى الدنيا أنهم لا يرجعون»

٢٤٤

يرجعوا إلى الدنيا ليصلحوا أخطاءهم ويعملون الصالحات ، إلّا أنّ القرآن يقول بصراحة : إنّ رجوع هؤلاء حرام تماما ، ولم يبق طريق لجبران ما صدر منهم.

وهذا يشبه ما جاء في الآية (99) من سورة المؤمنون :( حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا ).

وقد ذكرت في تفسير هذه الآية توضيحات أخرى نشير إلى بعضها في الهامش(1) .

وعلى كلّ حال فإنّ هؤلاء المغفّلين في غرور وغفلة على الدوام ، وتستمرّ هذه التعاسة حتّى نهاية العالم ، كما يقول القرآن :( حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ) .

لقد بحثنا بصورة مفصّلة حول «يأجوج ومأجوج» ، وإنّهما من أيّة طائفة كانا؟

وأين كانا يعيشان؟ وأخيرا ماذا يعملان ، وماذا سيكونان؟ في ذيل الآية (94) وما بعدها من سورة الكهف ، كما تكلّمنا على «السدّ» الذي بناه «ذو القرنين» في مضيق جبلي ليمنع نفوذهما أيضا

هل المراد من فتح هاتين الطائفتين تحطيم السدّ ، ونفوذهما عن هذا الطريق إلى مناطق العالم الأخرى؟ أم المراد نفوذهما في الكرة الأرضية من كلّ حدب وصوب؟ لم تتحدّث الآية عن ذلك بصراحة ، بل ذكرت انتشارهم وتفرّقهم في الكرة الأرضية كعلامة لنهاية العالم ومقدّمة للبعث والقيامة ، فتقول مباشرة :( وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) . لأنّ الرعب يسيطر

__________________

(1) اعتبر البعض «الحرام» هنا بمعنى الواجب ، وقالوا : إنّ هذه الكلمة قد تأتي أحيانا بهذا المعنى ، فتكون (لا) زائدة ، ويصبح معنى الآية : إنّ رجوع هؤلاء في الآخرة واجب. وقال البعض الآخر : إنّ الحرام هنا يعني الحرام نفسه ، إلّا أنّ (لا) زائدة ، فيكون المعنى : إنّ رجوع هؤلاء إلى الدنيا حرام. واعتقد البعض الآخر أنّ المعنى عدم التوبة والرجوع إلى الله (تفسير مجمع البيان ، والفخر الرازي ، ذيل الآية مورد البحث). وقال بعض آخر : إنّ هذه الآية من قبيل نفي النفي ، فتقول : إنّ من المحال أن لا يرجع هؤلاء في القيامة ، أي إنّهم يرجعون (تفسير منهج الصادقين ، ذيل الآية مورد البحث) إلّا أنّ ما أوردناه في المتن هو الأنسب من الجميع.

٢٤٥

على وجودهم إلى حدّ أنّ عيونهم تتوقّف عن الحركة وتصبح جاحظة لدى نظرهم إلى تلك الحوادث.

في هذه الأثناء ترفع عن أبصارهم حجب الغفلة والغرور ، فيرتفع صوتهم :( يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا ) . ولمّا كانوا لا يقدرون على تغطية ذنبهم بهذا العذر ليبرّئوا أنفسهم ، فإنّهم يقولون بصراحة :( بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ ) .

كيف يمكن عادة مع وجود كلّ هؤلاء الأنبياء ، والكتب السماوية ، وكلّ هذه الحوادث المثيرة والعبر والدروس أن يكونوا في غفلة؟ إنّ ما صدر من هؤلاء تقصير وظلم لأنفسهم وللآخرين.

معنى بعض الكلمات :

«حدب» على زنة «أدب» معناه ما ارتفع من الأرض بين منخفضاتها ، وقد يطلق على ما ارتفع وبرز من ظهر الإنسان أيضا.

«ينسلون» من مادّة «نسول» (على وزن فضول) ، أي الخروج بسرعة. وما قيل في شأن يأجوج ومأجوج إنّهما يمرّان بسرعة على المرتفعات إشارة إلى نفوذهم الخارق في الكرة الأرضية.

«شاخصة» من الشخوص ، وهو في الأصل الخروج من المنزل ، أو الخروج من مدينة إلى أخرى ، ولمّا كانت العين عند التعجّب والدهشة كأنّها تريد الخروج من الحدقة ، فقد قيل لذلك «شخوص» إنّ هذه هي حالة المذنبين العاصين في القيامة يصبحون حائرين كأنّ أعينهم تريد أن تخرج من أحداقهم.

* * *

٢٤٦

الآيات

( إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) )

التّفسير

حصب جهنّم!

متابعة للبحث السابق عن مصير المشركين الظالمين ، فقد وجّهت هذه الآيات الخطاب إليهم ، وجسّدت مستقبلهم ومستقبل آلهتهم بهذه الصورة :( إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) !

«الحصب» في الأصل يعني الرمي والإلقاء ، وتقال بالذات لإلقاء قطع الحطب

٢٤٧

في التنور.

وقال بعضهم : إنّ للحطب ـ على وزن سبب ـ في لغات العرب ألفاظا مختلفة ، فبعض القبائل يسمّيه حصبا ، والبعض الآخر خضبا ، ولمّا كان القرآن يسعى للتأليف بين القبائل والطوائف والقلوب ، فإنّه كان يستعمل لغات مختلفة أحيانا ، ومن جملة ذلك كلمة «حصب» هذه ، وهي لغة أهل اليمن لكلمة حطب(1) .

وعلى كلّ حال ، فإنّ الآية محلّ البحث تقول للمشركين ، إنّكم وآلهتكم ستكوّنون حطب جهنّم ، وستلقون الواحد تلو الآخر في نار جهنّم كقطع الحطب التي لا قيمة لها ، ثمّ تضيف( أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ ) .

وهذه الجملة إمّا أن تكون تأكيدا لهذا المطلب ، أو إنّها إشارة إلى نكتة جديدة ، وهي أنّهم يلقون آلهتكم في النّار أوّلا ، ثمّ تردون عليها ، فكأنّ آلهتكم تستقبلكم وتستضيفكم بالنّار المنبعثة من وجودها(2) .

فإذا سأل سائل ما الهدف من إلقاء الأصنام في جهنّم؟

يقال في الجواب : إنّ هذا بنفسه نوع من العذاب بالنسبة لعبدة الأصنام حيث يرون أنّهم يحترقون في النّار التي تتوقّد من آلهتهم. إضافة إلى أنّه تحقير لأفكارهم حيث كانوا يلتجؤون إلى مثل هذه الموجودات العديمة القيمة والأهميّة.

طبعا ، هذا في حالة كون( ما تَعْبُدُونَ ) تعني الآلهة الميتة التي لا روح لها كالأصنام الحجرية والخشبية ، كما يستفاد ذلك من (ما) لأنّها تستعمل غالبا لغير العاقل.

__________________

(1) تفسير أبي الفتوح الرازي ، ذيل الآيات مورد البحث.

(2) ينبغي الالتفات إلى أنّ اللام في (لها) بمعنى «إلى» ، وضمير (ها) يعود إلى جهنّم في الصورة الأولى ، أمّا في التّفسير الثّاني فإنّ اللام تعني «إلى» ، ولكن الضمير يعود إلى الأصنام.

٢٤٨

أمّا إذا أخذناها بالمعنى العامّ ، بحيث تشمل الشياطين الذين أصبحوا محلّ عبادة ، فإنّ مسألة ورود هذه الآلهة إلى جهنّم واضحة تماما ، لأنّهم شركاء في الجريمة والمعصية.

ثمّ تقول كاستخلاص للنتيجة :( لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها ) ولكن اعلموا أنّهم لا يدخلون جهنّم وحسب ، بل( وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ ) . وممّا يلفت النظر هنا أنّ عبّاد الأصنام سيبتلون بآلهتهم خالدين معها ، تلك الآلهة التي كانوا يعبدونها دائما ، وكانوا يعدّونها درعا واقيا عن البلاء ، وكانوا يطلبون منها حلّ مشاكلهم ومعضلاتهم!

ولمزيد الإيضاح عن حال هؤلاء «العابدين الضالّين» المؤلمة المخزية قبال «آلهتهم الحقيرة» ، تقول الآية محلّ البحث :( لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ) .

«الزفير» في الأصل يعني الصراخ المقترن بإخراج النفس. وقال بعضهم : إنّ صوت الحمار وصراخه المنكسر يسمّى في البداية زفيرا ، وفي آخره شهيقا.

وعلى كلّ حال فإنّه استعمل هنا إشارة إلى الصراخ أو الضجيج المنبعث من الحزن وشدّة الكرب(1) .

كما يحتمل أنّ هذا الزفير أو الأنين المؤلم لا يكون مقتصرا على العباد فحسب ، بل إنّ معبوداتهم من الشياطين أيضا يصطرخون معهم.

ثمّ تذكّر الجملة التالية أحد العقوبات الاخرى المؤلمة لهؤلاء ، وهي( وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ ) . وهذه الجملة قد تكون إشارة إلى أنّ هؤلاء لا يسمعون الكلام الذي يسرّهم ويبهجهم ، بل يسمعون أنين أهل جهنّم المؤلم المنغّص وصراخ ملائكة العذاب فقط.

وقال بعضهم : إنّ المراد هو أنّ هؤلاء يوضعون في توابيت من نار بحيث

__________________

(1) لمزيد الإيضاح راجع تفسير الآية (106) من سورة هود.

٢٤٩

لا يسمعون صوت أي أحد أبدا ، فكأنّهم لوحدهم في العذاب ، وهذا بنفسه يعتبر عقوبة أشدّ ، لأنّ الإنسان إذا رأى معه بعض المسجونين فستهون عليه المصيبة ، و «البليّة إذا عمّت طابت» ، كما في المثل.

ثمّ تبيّن الآية التالية حالات المؤمنين الحقيقيين من الرجال والنساء ليتبيّن وضع الفريقين من خلال المقارنة بينهما ، فتقول أوّلا :( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ ) وهو إشارة إلى أنّنا سنفي بكلّ الوعود التي وعدنا بها المؤمنين في هذه الدنيا ، وأحدها إبعادهم عن نار جهنّم.

وبالرغم من أنّ ظاهر الجملة يشمل كلّ المؤمنين الحقيقيين ، إلّا أنّ البعض احتمل أن تكون إشارة إلى من عبد من دون الله كالمسيح ومريمعليهما‌السلام ، الذين عبدوا دون إرادتهم ، ولمّا كانت الآيات السابقة تقول : ستكونون أنتم وآلهتكم في جهنّم ، وكان من الممكن أن يشمل هذا التعبير أمثال المسيحعليه‌السلام ، فإنّ القرآن يبيّن هذه الجملة كاستثناء بأنّ هذه الفئة سوف لا ترد الجحيم أبدا.

وذكر بعض المفسّرين سببا لنزول هذه الآية ، وهو يوحي بأنّ البعض قد سأل الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفس هذا السؤال فنزلت الآية تجيبهم. ولكن مع ذلك فلا مانع من أن تكون الآية جوابا لهذا السؤال ، وأن تكون حكما عامّا لكلّ المؤمنين الواقعيين.

وتذكر الآيتان الأخيرتان أربع نعم إلهيّة كبرى تغمر هذه الطائفة السعيدة.

فالأولى : إنّهم( لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها ) و «الحسيس» ـ كما قال أرباب اللغة ـ الصوت المحسوس ، وجاءت أيضا بمعنى الحركة ، أو الصوت الناشئ من الحركة ، ونار الجحيم المشتعلة دائما لها صوت خاصّ ، وهذا الصوت مرعب من جهتين : من جهة أنّه صوت النّار ، ومن جهة أنّه صوت حركة النّار والتهامها. ولمّا كان المؤمنون المخلصون بعيدين عن جهنّم ، فسوف لا يطرق سمعهم هذا الصوت المرعب مطلقا.

٢٥٠

والثّانية : إنّهم( وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ ) فليس حالهم كما في هذه الدنيا المحدودة ، حيث أنّ الإنسان يأمل كثيرا من النعم دون أن ينالها ، فإنّهم ينالون كلّ نعمة يريدونها ، مادية كانت أو معنوية ، وليس ذلك على مدى يوم أو يومين ، بل على امتداد الخلود.

والثّالثة : إنّهم( لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ ) . وقد اعتبر بعضهم أنّ هذا الفزع الأكبر إشارة إلى أهوال يوم القيامة التي هي أكبر من كلّ هول وفزع ، وعدّه بعضهم إشارة إلى نفخة الصور واختلافات الأحوال وتبدّلها عند انتهاء هذه الدنيا ، والزلزال العجيب الذي سيدكّ أركان هذا العالم كما جاء في الآية (87) من سورة النحل.

ولكن لمّا كان هول يوم القيامة وفزعها أهمّ وأكبر من جميع تلك الأمور ، فإنّ التّفسير الأوّل يبدو هو الأصحّ.

والرّابعة : من ألطاف الله تعالى لهؤلاء هو ما ذكرته الآية محلّ البحث :( وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) .

وفي نهج البلاغة أنّ أمير المؤمنين علياعليه‌السلام قال : «فبادروا بأعمالكم تكونوا مع جيران الله في داره ، رافق بهم رسله ، وأزارهم ملائكته ، وأكرم أسماعهم أن تسمع حسيس جهنّم أبدا»(1) .

* * *

__________________

(1) نهج البلاغة ، الخطبة 183.

٢٥١

الآية

( يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (104) )

التّفسير

يوم تطوى السّماء!

قرأنا في آخر آية من الآيات السابقة أنّ المؤمنين آمنون من الفزع الأكبر وهمّه ، وتجسّم هذه الآية رعب ذلك اليوم العظيم ، وفي الحقيقة تبيّن وتجسّد علّة عظمة وضخامة هذا الرعب ، فتقول :( يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ) (1) .

لقد كان الناس في الأزمنة الغابرة يستعملون أوراقا كالطومار لكتابة الرسائل والكتب ، وكانوا يطوون هذا الطومار قبل الكتابة ، ثمّ أنّ الكاتب يفتح منه تدريجيّا ويكتب عليه ما يريد كتابته ، ثمّ يطوى بعد الانتهاء من الكتابة ويضعونه جانبا ، ولذلك فقد كانت رسائلهم ومثلها كتبهم أيضا على هيئة الطومار ، وكان هذا الطومار يسمّى سجلا ، إذ كان يستفاد منه للكتابة.

وفي هذه الآية تشبيه لطيف لطيّ سجل عالم الوجود عند انتهاء الدنيا ، ففي

__________________

(1) السجل : الدلو العظيمة ، والسّجلّ حجر كان يكتب فيه ، ثمّ سمّي كلّ ما يكتب فيه سجلا ـ مفردات الراغب والقاموس ـ وينبغي الالتفات إلى أنّه احتملت احتمالات عديدة في تفسير جملة( كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ) إلّا أنّ أقربها أنّ «طي» مصدر للسجل الذي أضيف مفعوله ، واللام في (للكتب) إمّا للإضافة أو لبيان العلّة. دقّقوا ذلك.

٢٥٢

الوقت الحاضر فإنّ هذا السجل مفتوح ، وتقرأ كلّ رسومه وخطوطه ، وكلّ منها في مكان معيّن ، أمّا إذا صدر الأمر الإلهي بقيام القيامة فإنّ هذا السجل العظيم سيطوى بكلّ رسومه وخطوطه.

طبعا ، لا يعني طي العالم الفناء كما يتصوّر البعض ، بل يعني تحطّمه وجمعه ، وبتعبير آخر : فإنّ شكل العالم وهيئته ستضطرب ويقع بعضه على بعض ، لكن لا تفنى مواده ، وهذه الحقيقة تستفاد من التعبيرات المختلفة في آيات المعاد ، وخاصة من آيات رجوع الإنسان من العظام النخرة ، ومن القبور.

ثمّ تضيف( كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ) وهذا التعبير يشبه التعبير الذي ورد في الآية (29) من سورة الأعراف :( كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) أو أنّه مثل تعبير( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) (1) (2) .

أمّا ما احتمله بعض المفسّرين من أنّ المراد من هذا الرجوع هو الرجوع إلى الفناء والعدم ، أو التلاحم والارتباط كما في بداية الخلق ، فيبدو بعيدا جدّا.

وفي النهاية تقول الآية :( وَعْداً ) (3) ( عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ ) (4) .

ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ المراد من رجوع الناس إلى الحالة الأولى ، هو أنّهم يرجعون حفاة عراة مرّة أخرى كما كانوا في بداية الخلق. ولكن لا شكّ أنّ هذا لا يعني انحصار معنى الآية في ذلك واقتصاره عليه ، بل إنّه أحد صور رجوع الخلق إلى الصورة الأولى(5) .

* * *

__________________

(1) سورة الروم ، 27.

(2) كما قلنا سابقا ، فإنّه لا يوجد صعب وسهل بالنسبة إلى قدرة الله اللامتناهية ، بل كلّ شيء متساو مقابل قدرته ، وعلى هذا فإنّ التعبير المستعمل في الآية أعلاه إنّما هو بالنسبة لمحدودية فهم البشر ، دقّقوا ذلك.

(3) «وعدا» مفعول لفعل مقدّر تقديره : وعدنا.

(4) هذه الجملة تتضمّن عدّة تأكيدات ، فلفظة الوعد ، ثمّ التعبير بـ (علينا) وبعدها التأكيد بـ (إنّا) ثمّ استعمال الفعل الماضي (كنّا) وكذلك كلمة (فاعلين).

(5) مجمع البيان ، ذيل الآيات مورد البحث.

٢٥٣

الآيتان

( وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (106) )

التّفسير

سيحكم الصالحون الأرض :

بعد أن أشارت الآيات السابقة إلى جانب من ثواب المؤمنين الصالحين ، فقد أشارت السورة في هاتين الآيتين إلى أحد أوضح المكافآت الدنيويّة لهؤلاء ، فتقول :( وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ ) .

وكلمة «الأرض» تطلق على مجموع الكرة الأرضية ، وتشمل كافّة أنحاء العالم إلّا أن تكون هناك قرينة خاصّة في الأمر ، ومع أنّ البعض احتمل أن يكون المراد وراثة كلّ الأرض في القيامة ، إلّا أنّ ظاهر كلمة الأرض عند ما تذكر بشكل مطلق تعني أرض هذا العالم.

ولفظ «الإرث» ـ كما أشرنا إلى ذلك سابقا ـ يعني انتقال الشيء إلى شخص بدون معاملة وأخذ وعطاء ، وقد استعملت هذه الكلمة في القرآن أحيانا بمعنى تسلّط وانتصار قوم صالحين على قوم طالحين ، والسيطرة على مواهبهم

٢٥٤

وإمكانياتهم ، كما نقرأ في الآية (37) من سورة الأعراف في شأن بني إسرائيل :( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا ) .

وبالرغم من أنّ «الزبور» في الأصل يعني كلّ كتاب ومقال ، ومع أنّ موضعين من المواضع الثلاثة التي استعملت فيها هذه الكلمة في القرآن يشيران إلى زبور داود ، فلا يستبعد أن يكون المورد الثّالث ، أي ما ورد في الآية محلّ البحث إشارة إلى هذا المعنى أيضا.

إنّ زبور داود ـ أو بتعبير كتب العهد القديم (مزامير داود) ـ عبارة عن مجموعة أدعية النبيّ داود ومناجاته ونصائحه ومواعظه.

واحتمل بعض المفسّرين أن يكون المراد من الزبور هنا كلّ كتب الأنبياء السابقين(1) .

ولكن يبدو على الأغلب ـ مع ملاحظة الدليل الذي ذكرناه ـ أنّ الزبور هو كتاب مزامير داود فقط ، خاصة وأنّ في المزامير الموجودة عبارات تطابق هذه الآية تماما ، وسنشير إلى ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى.

«والذكر» في الأصل يعني التذكير أو ما يسبّب التذكير والتذكّر ، واستعملت هذه الكلمة في القرآن بهذا المعنى ، وأطلقت أحيانا على كتاب موسى السماوي ، كالآية (48) من سورة النساء :( وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ ) .

واستعملت أحيانا في شأن القرآن ، كالآية (27) من سورة التكوير :( إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ ) ولذلك قال البعض : إنّ المراد من الذكر ـ في الآية مورد البحث ـ هو القرآن ، والزبور كلّ كتب الأنبياء السابقين ، أي إنّنا كتبنا في كلّ كتب الأنبياء السابقين إضافة إلى القرآن بأنّ الصالحين سيرثون الأرض جميعا.

__________________

(1) نقل هذا الاحتمال في تفسير مجمع البيان ، وتفسير الفخر الرازي عن عدّة من المفسّرين.

٢٥٥

لكن ملاحظة التعبيرات التي استعملت في الآية توضّح أنّ المراد من الزبور كتاب داود ، والذكر بمعنى التوراة ، ومع ملاحظة أنّ الزبور كان بعد التوراة ، فإنّ تعبير( مِنْ بَعْدِ ) حقيقي ، وعلى هذا فإنّ معنى الآية : إنّنا كتبنا في الزبور بعد التوراة أنّنا سنورث العباد الصالحين الأرض.

وهنا ينقدح سؤال ، وهو : لماذا ذكر هذان الكتابان من بين الكتب السماوية؟

ربّما كان هذا التعبير بسبب أنّ داود كان أحد أكبر الأنبياء ، واستطاع أن يشكّل حكومة الحقّ والعدل ، وكان بنو إسرائيل مصداقا واضحا للقوم المستضعفين الذين ثاروا بوجه المستكبرين ودمّروا دولتهم واستولوا على حكومتهم وورثوا أرضهم.

والسؤال الآخر الذي يثار هنا هو : من هم عباد الله الصالحون؟

إذا لاحظنا إضافة العباد إلى الله ستتّضح مسألة إيمان هؤلاء وتوحيدهم ، وبملاحظة كلمة الصالحين التي لها معنى واسع ، فستخطر على الذهن كلّ المؤهّلات ، الأهليّة من ناحية التقوى ، والعلم والوعي ، ومن جهة القدرة والقوّة ، ومن جانب التدبير والتنظيم والإدراك الاجتماعي.

عند ما يهيء العباد المؤمنون هذه المؤهّلات والأرضيات لأنفسهم ، فإنّ الله سبحانه يساعدهم ويعينهم ليمرغوا انوف المستكبرين في التراب ، ويقطعوا أيديهم الملوّثة ، فلا يحكمون أرضهم بعد ، بل تكون للمستضعفين ، فيرثونها ، فبناء على ذلك فإنّ مجرّد كونهم مستضعفين لا يدلّ على الإنتصار على الأعداء وحكم الأرض ، بل إنّ الإيمان لازم من جهة ، واكتساب المؤهّلات من جهة أخرى ، وما دام مستضعفو الأرض لم يحيوا هذين الأصلين فسوف لا يصلون إلى وراثة الأرض وحكمها. ولذلك فإنّ الآية التالية تقول من باب التأكيد المشدّد :( إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ ) .

لقد اعتبر بعض المفسّرين (هذا) إشارة إلى كلّ الوعود والتهديدات التي

٢٥٦

جاءت في هذه السورة ، أو في كلّ القرآن ، ويدخل موضوع بحثنا في هذا المفهوم الكليّ أيضا. إلّا أنّ ظاهر الآية هو أنّ (هذا) إشارة إلى الوعد الذي أعطي للعباد الصالحين في الآية السابقة في شأن الحكومة في الأرض.

* * *

بحوث

1 ـ روايات حول ثورة المهديعليه‌السلام

لقد فسّرت هذه الآية في بعض الرّوايات بأصحاب المهديعليه‌السلام ، كما نرى

رواية في تفسير مجمع البيان عن الإمام الباقرعليه‌السلام في ذيل هذه الآية : «هم أصحاب المهدي في آخر الزمان».

وجاء في تفسير القمّي في ذيل هذه الآية :( أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ ) قال : «القائم وأصحابه».

لا يخفى أنّ معنى هذه الرّوايات ليس الحصر ، بل هو بيان مصداق عال وواضح ، وقلنا مرارا : إنّ هذه التفاسير لا تحدّ من عمومية مفهوم الآية مطلقا ، وبناء على هذا ففي كلّ زمان ، وفي أي مكان ينهض فيه عباد الله الصالحون بوجه الظلم والفساد فإنّهم سينتصرون عاقبة الأمر ، وسيكونون ورثة الأرض وحاكميها.

وإضافة إلى الرّوايات الواردة آنفا في تفسير هذه الآية ، فقد رويت روايات كثيرة جدّا (بلغت حدّ التواتر) عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، وعن طريق السّنة والشيعة ، في شأن المهديعليه‌السلام ، وكلّها تدلّ على أنّ حكم الأرض سيقع في أيدي الصالحين ، وإنّ رجلا من أهل بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقوم فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا.

ومن جملة الرّوايات الحديث المعروف عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والذي نقلته أكثر المصادر الإسلامية : «لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم ، لطوّل الله ذلك اليوم حتّى يبعث

٢٥٧

رجلا (صالحا) من أهل بيتي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا».

وقد ورد هذا الحديث بهذا التعبير مع اختلاف يسير في كثير من كتب الشيعة وأهل السنّة(1) .

وقد نوّهنا في ذيل الآية (33) من سورة التوبة : إنّ جماعة من كبار علماء الإسلام ، من أهل السنّة والشيعة قديما وحديثا قد صرّحوا في كتبهم بأنّ الأحاديث الواردة في قيام المهديعليه‌السلام بلغت حدّ التواتر ، وليس لأيّ إنكارها بأي وجه ، حتّى أنّ كتبا قد ألّفت في هذا الصدد بصورة خاصة تستطيع أن تطّلع على تفصيلها في ذيل الآية (33) من سورة التوبة.

2 ـ بشارة حكومة الصالحين في مزامير داود

ممّا يلفت النظر أنّه يلاحظ في كتاب مزامير داود ـ والذي هو اليوم جزء من كتب العهد القديم ـ يلاحظ التعبير الذي ورد في الآية آنفة الذكر ـ نفسه أو ما يشبهه في عدّة مواضع ، وهذا يوحي بأنّه مع كلّ التحريفات التي وقعت في هذه الكتب ، فقد بقي هذا القسم مصونا من تلاعب الأيدي به.

1 ـ فنقرأ في المزمور 37 / جملة 9 : «... لأنّ عاملي الشرّ يقطعون والذين ينتظرون الربّ هم يرثون الأرض ، بعد قليل لا يكون الشرّير ...».

2 ـ وفي مكان آخر في نفس هذا المزمور / جملة 11 : «أمّا الودعاء فيرثون الأرض ويتلذّذون في كثرة السلامة».

3 ـ وكذلك في نفس المزمور 37 / جملة 27 ، يلاحظ هذا الموضوع بتعبير آخر : «لأنّ المتبركين بالله سيرثون الأرض ، أمّا الملعونون فسينقطع أثرهم ...»

4 ـ وجاء في هذا المزمور / الجملة 29 : «إنّ الصالحين سيرثون الأرض

__________________

(1) لمزيد الاطّلاع راجع (منتخب الأثر) و (نور الأبصار).

٢٥٨

وسيسكنون فيها إلى الأبد».

5 ـ وجاء في الجملة 18 من نفس المزمور أعلاه : «إنّ الله يعلم أيّام الصالحين ، وسيكون ميراثهم أبديّا»(1) .

نلاحظ نلاحظ هنا بصورة جيدة أنّ عنوان «الصالحين» الذي جاء في القرآن ، ورد بنفس هذا التعبير في مزامير داود ، إضافة إلى ورود تعابير أخرى كالصدّيقين والمتبركين والمتوكّلين والمتواضعين أو ما هو قريب من هذه المعاني في جمل أخرى.

إنّ هذه التعبيرات دليل على عموم حكومة الصالحين ، وتتطابق تماما مع أحاديث قيام المهديعليه‌السلام .

3 ـ حكم الصالحين قانون تكويني

بالرغم من أنّه يصعب على أولئك الذين شهدوا وعاشوا في ظلّ حكم الطواغيت الظلمة والعتاة المتجبّرين ، قبول هذه الحقيقة بسهولة ، وهي أنّ كلّ هذه الحكومات على خلاف نواميس الخلقة ، وقوانين عالم الخلقة ، وأنّ ما ينسجم معها هو حكم الصالحين المؤمنين ، إلّا أنّ التحليلات الفلسفيّة تنتهي إلى أنّ هذه حقيقة واقعيّة ، وبناء على هذا فإنّ جملة( أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ ) قبل أن تكون وعدا إلهيّا ، فإنّها تعتبر قانونا تكوينيّا.

توضيح ذلك : إنّ عالم الوجود ـ على حدّ علمنا ـ مجموعة من الأنظمة والقوانين تحكم جميع أرجاء هذا العالم وهي بذاتها دليل على وحدة هذا النظام وارتباط أجزائه.

__________________

(1) نقلنا هذه الجمل عموما عن الترجمة الفارسية للكتب العهد العتيق المنشورة (سنة 1878 تحت إشراف الكنيسة المعروفة بـ مجمع الكتب البريطانية المقدّسة للخارجيين).

٢٥٩

وجود النظم والقانون في عالم الوجود والخلق تعتبر من أهمّ مسائل هذا العالم ، فمثلا : إذا وجدنا مئات العقول الالكترونية القوّية قد انضمّ بعضها إلى بعض لإعداد الرحلات الفضائية لروّاد الفضاء بالمحاسبات الدقيقة ، وكانت حساباتها صحيحة تماما حيث تنزل المركبة الفضائية في المكان المقترح لها على سطح القمر ، مع أنّ كوكبي القمر والأرض يتحرّكان كلاهما بسرعة ، فينبغي أن نعرف أنّ هذا الحدث العظيم مدين لنظام المجموعة الشمسية وأقمارها الدقيق ، لأنّهم إذا انحرفوا عن مسيرهم الدقيق المنتظم بمقدار 1 خ من الثّانية ، لما كان معلوما مصير رجال الفضاء!

وننتقل من العالم الكبير إلى عالم أصغر وأصغر وصغير جدّا ، فهنا ـ وخاصّة في الكائنات الحيّة ـ سيتّخذ النظام معنى أكثر حيويّة ، ولا محل للفوضى فيه مطلقا ، فإنّ اختلال النظام في خلية واحدة في دماغ الإنسان كاف لأن يبدّل نظم حياته إلى اضطراب مؤسف.

وجاء في أخبار الصحف : إنّ شابا جامعيا قد نسي كل ماضيه تقريبا على أثر هزّة دماغية شديدة في حادثة سير! مع أنّه كان سالما من حيث الجهات الاخرى ، فلم يعرف أخاه ولا أخته كما كان يتضايق عند ما تحتضنه أمّه وتقبّله ، ويتساءل : ماذا تفعل معي هذه المرأة الأجنبية؟ فيذهبون به إلى مسقط رأسه ، وإلى الغرفة التي نشأ فيها ، فكان ينظر إلى أعماله اليدوية ، ولوحاته الفنية ، إلّا أنّه يقول : إنّي أرى هذه الغرفة واللوحات لأوّل مرّة! ربّما كان يعتقد أنّه قد قدم من كوكب آخر ، فكلّ شيء جديد بالنسبة له.

ربّما توقّفت بعض خلاياه من بين عدّة مليارات من الخلايا المخيّة ، وهي التي تربط ماضيه بحاضره ، ولكن أي أثر مرعب تركه هذا الاختلال الجزئي؟!

هل يستطيع المجتمع الإنساني بانتخابه اللانظام والفوضى والظلم والجور

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550