الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٠

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل7%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 550

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 550 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 206989 / تحميل: 6200
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٠

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

بتعبير آخر : هو الذي سار على الصراط المستقيم ، لأنّ «حنف» على وزن «صدف» تعني الرغبة ، ومن رغب عن كلّ انحراف فقد سار على الصراط المستقيم.

وعلى هذا فإنّ الآية السابقة اعتبرت الإخلاص وقصد القربة إلى الله محرّكا أساسيّا في الحجّ والعبادات الاخرى ، حيث ذكرت ذلك بشكل عام ، فالإخلاص أصل العبادة. والمراد به الإخلاص الذي لا يخالطه أي نوع من الشرك وعبادة غير الله.

جاء في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام أجاب فيه مبيّنا معنى كلمة حنيف : «هي الفطرة التي فطر الناس عليها ، لا تبديل لخلق الله ، قال : فطرهم الله على المعرفة»(١) .

إنّ التّفسير الذي تضمّنه هذا الحديث ، هو في الواقع إشارة إلى أساس الإخلاص ، أي : الفطرة التوحيديّة التي تكون مصدرا لقصد القربة إلى الله ، وتحريكا ذاتيا من الله.

ثمّ ترسم الآية ـ موضع البحث ـ صورة حيّة ناطقة عن حال المشركين وسقوطهم وسوء طالعهم ، حيث تقول :( وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ ) (٢) .

«السّماء» هنا كناية عن التوحيد ، و «الشرك» هو السبب في السقوط من السّماء هذه.

ومن الطبيعي أن تكون في هذه السّماء نجوما زاهرة وشمسا ساطعة وقمرا منيرا فطوبى لمن يكون شمسا أو قمرا أو في الأقل نجما متلألئا ، ولكن الإنسان عند ما يسقط من هذا المكان العالي يبتلى بأحد أمرين : فإنّما يصبح طعاما للطيور الجوارح أثناء سقوطه وقبل وصوله إلى الأرض ، وبعبارة أخرى : يبتلى بفقدانه هذا

__________________

(١) توحيد الصدوق ، حسبما نقله تفسير الصافي.

(٢) «تخطفه» مشتقّة من «الخطف» على وزن فعل ، بمعنى الإمساك بالشيء ، أثناء تحرّكه بسرعة و «سحيق» تعني «البعيد» وتطلق على النخلة العالية كلمة «سحوق».

٣٤١

المكان السامي بأهوائه النفسيّة المعاندة. حيث تأكل هذه الأهواء جانبا من وجوده.

وإذا نجا بسلام منها ، ابتلي بعاصفة هو جاء تدلّه في إحدى زوايا الأرض بقوّة تفقده سلامته وحياته ، ويتناثر بدنه قطعا صغيرة في أنحاء المعمورة ، وهذه العاصفة الهوجاء قد تكون كناية عن الشيطان الذي نصب شراكه للإنسان!

وممّا لا شكّ فيه أنّ الذي يسقط من السّماء يفقد كلّ قدرة على اتّخاذ قرار ما.

وتزداد سرعة سقوطه لحظة بعد أخرى نحو العدم ، ويصبح نسيا منسيا.

حقّا أنّ الذي يفقد قاعدة السّماء التوحيديّة. يفقد القدرة على تقرير مصيره بنفسه. وكلّما سار في هذا الاتّجاه إزداد سرعة نحو الهاوية ، وفقد كلّ ما لديه.

ولا نجد تشبيها للشرك يضاهي في هذا التشبيه الرائع.

كما تجب ملاحظة ما تأكّد في هذا الزمان من حالة انعدام الوزن في السقوط الحرّ. ولهذا تجرى اختبارات على الفضائيين للاستفادة من هذه الحالة ليعدّوا أنفسهم للسفر إلى الفضاء. لأنّ مسألة انعدام الوزن هي التي تؤدّي بالإنسان إلى اضطرابه بشكل خارق أثناء السقوط الحرّ.

والذي ينتقل من الإيمان إلى الشرك ويفقد قاعدته المطمئنة وأرضه الثابتة تبتلى روحه بمثل حالة انعدام الوزن ، ويسيطر عليه اضطراب خارق للعادة.

وأوجزت الآية التالية مسائل الحجّ وتعظيم شعائر الله ثانية فتقول( ذلِكَ ) أيّ إنّ الموضوع كما قلناه ، وتضيف( وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) .

«الشعائر» جمع «شعيرة» بمعنى العلامة والدليل ، وعلى هذا فالشعائر تعني علامات الله وأدلّته ، وهي تضمّ عناوين لأحكامه وتعاليمه العامّة ، وأوّل ما يلفت النظر في هذه المراسم مناسك الحجّ التي تذكّرنا بالله سبحانه وتعالى.

ومن البديهي كون مناسك الحجّ من الشعائر التي قصدتها هذه الآية. خاصّة

٣٤٢

مسألة الأضحية التي اعتبرتها الآية (٣٦) من نفس السورة ـ وبصراحة ـ من شعائر الله ، إلّا أنّ من الواضح مع كلّ هذا احتفاظ الآية بمفهوم شمولي لجميع الشعائر الإسلامية ، ولا دليل على اختصاصها ـ فقط ـ بالأضاحي ، أو جميع مناسك الحجّ.

خاصّة أنّ القرآن يستعمل «من» التي يستفاد منها التفريق في مسألة أضحية الحجّ ، وهذا دليل على أنّ الأضحية من شعائر الله كالصفا والمروة التي تؤكّد الآية (١٥٨) من سورة البقرة على أنّهما من شعائر الله( إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ ) .

ويمكن القول : إنّ شعائر الله تشمل جميع الأعمال الدينيّة التّي تذكّر الإنسان بالله سبحانه وتعالى وعظمته ، وإنّ إقامة هذه الأعمال دليل على تقوى القلوب.

كما تجب ملاحظة أنّ المراد من عبارة( يُعَظِّمْ ) ليس كما قاله بعض المفسّرين من عظمة جثّة الأضحية وأمثالها ، بل حقيقة التعظيم تعني تسامي مكانة هذه الشعائر في عقول الناس وبواطنهم ، وأن يؤدّوا ما تستحقّه هذه الشعائر من تعظيم واحترام.

كما أنّ العلاقة بين هذا العمل وتقوى القلب واضحة أيضا ، فالتعظيم رغم أنّه من عناوين القصد والنيّة ، يحدث كثيرا أن يقوم المنافقون بالتظاهر في تعظيم شعائر الله. إلّا أنّ ذلك لا قيمة له ، لأنّه لا ينبع من تقوى القلوب. إنّما تجده حقيقة لدى أتقياء القلوب. ونعلم أنّ مركز التقوى وجوهر اجتناب المعاصي والشعور بالمسؤولية إزاء التعاليم الإلهيّة في قلب الإنسان وروحه ، ومنه ينفذ إلى الجسد.

لهذا نقول : إنّ تعظيم الشعائر الإلهيّة من علامات التقوى القلبيّة(١) .

وقد جاء في حديث عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال وهو يشير إلى صدره

__________________

(١) بما أنّ هناك ارتباطا بين الشرط والجزاء ، وكلاهما يخصّان موضوعا واحدا ، نجد في الآية السالفة الذكر محذوفا تقديره (ومن يعظّم شعائر الله فإنّ تعظيمها من تقوى القلوب). ويمكن أن يكون الجزاء محذوفا فتكون عبارة «فإنّها من تقوى القلوب» علّة نابت عن معلول تقديره : «ومن يعظّم شعائر الله فهو خير له فإنّ تعظيمها من تقوى القلوب».

٣٤٣

المبارك : «التقوى هاهنا»(١) .

ويستدلّ من بعض الأحاديث أنّ مجموعة من المسلمين كانوا يعتقدون بعدم جواز الركوب على الأضحية (الناقة أو ما شابهها) حين جلبها من موطنهم إلى منى للذبح ، كما يرون عدم جواز حلبها أو الاستفادة منها بأي شكل كان ، ولكن القرآن نفي هذه العقيدة الخرافية حيث قال :( لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ) .

وجاء في حديث نبوي أنّ الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّ برجل يسوق بدنة وهو في جهد ، فقالعليه‌السلام : «اركبها» فقال : يا رسول الله إنّها هدي. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «اركبها ويلك»(٢) .

كما أكّدت أحاديث عديدة وردتنا عن أهل البيتعليهم‌السلام هذا الموضوع ومنها

حديث رواه أبو بصير عن الإمام الصادقعليه‌السلام في قولهعزوجل :( لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ) قال : «إن احتاج إلى ظهرها ركبها من غير عنف عليها ، وإن كان لها لبن حلبها حلابا لا ينهكها»(٣) .

والحقيقة أنّ الحكم أعلاه معتدل وحدّ وسط بين عملين يتّصفان بالإفراط وبعيدين عن المنطق.

فمن جهة كان البعض لا يحتفظ بالأضاحي أبدا حيث يذبحها قبل الوصول إلى «منى» ويستفيد من لحومها. وقد نهى القرآن عن ذلك كما جاء في الآية الثّانية من سورة البقرة( لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ ) .

ومن جهة أخرى كان آخرون يفرطون إلى درجة عدم الاستفادة من الانعام بمجرّد تخصيصها للأضحية ، فلا يحلبونها ولا يركبون عليها إن كانت ممّا يركب وإن بعدت المسافة بين موطنهم ومكّة ، وقد أجازت الآية موضع البحث ذلك.

__________________

(١) تفسير القرطبي ، المجلّد السابع ، الصفحة ٤٤٨.

(٢) التّفسير الكبير للخفر الرازي ، المجلّد الثّالث والعشرين ، الصفحة ٣٣.

(٣) نور الثقلين ، المجلّد الرّابع ، الصفحة ٤٩٧.

٣٤٤

والنقد الوحيد الذي يمكن أن يوجّه إلى التّفسير السالف الذكر ، هو أنّ الآيات السابقة ، لم تتطرّق إلى الأضاحي ، فكيف يعود ضمير الآية اللاحقة إليها؟

ولكن مع ملاحظة كون حيوان الأضاحي من مصاديق «شعائر الله» التي أشير إليها في الآية السابقة ، وسيأتي ذكرها أيضا بعد هذا ، يتّضح بذلك الجواب عن هذا الاستفسار(١) .

وعلى كلّ حال تذكر الآية في ختامها نهاية مسار الأضحية :( ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) .

وعلى هذا يمكن الاستفادة من الانعام المخصّصة للأضحية ما دامت في الطريق إلى موضع الذبح ، وبعد الوصول يجرى ما يلزم وبالطبع فإنّ المفسّرين يقولون بأنّ الذبح يجب أن يتمّ في منى إن كانت الأضحية تخصّ الحجّ. أمّا إذا كانت لعمرة مفردة ففي أرض مكّة. وبما أنّ الآيات المذكورة تبحث في مراسم الحجّ ، فيجب أن يكون للبيت العتيق (الكعبة) مفهوم واسع ليشمل بذلك أطراف مكّة (أي منى) أيضا.

* * *

__________________

(١) ما ذكر أعلاه هو تفسير واضح للآية موضع البحث ، وهنا نذكر تفسيرين آخرين :

الأوّل : إنّ ضمير «فيها» يعود إلى المناسك الحجّ جميعا ، وهنا يكون تفسيرها «لكم منافع في جميع مناسك الحجّ حتّى الزمن المحدّد بانتهاء الحجّ أو نهاية العالم ، ومن ثمّ تقع آخر مراسم الحجّ حيث يخلع الحاج إحرامه ويصبح مجاورا للكعبة ليؤدّي طوافي الحجّ والنساء» وبهذا تكون هذه الآية شبيهة بالآية التي فسّرناها سابقا( لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ ) .

والتّفسير الثّاني : أن يعود ضمير «فيها» إلى الشعائر الإلهيّة كلّها ، إضافة إلى التعاليم الإسلامية العظيمة ، وعندها يكون معنى الآية «لكم جزاء جميل ومنافع كبيرة في مجموع التعاليم الإسلامية والشعائر الإلهيّة حتّى نهاية العالم ، ومن ثمّ يجزيكم خالق البيت العتيق». إلّا أنّ التّفسير الذي ذكرناه في متن الكتاب أكثر ملاءمة وأقرب معنى إلى سائر الآيات القرآنية والأحاديث الإسلامية وأكثر انسجاما معها.

٣٤٥

الآيتان

( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥) )

التّفسير

بشرّ المخبتين :

يمكن أن يتساءل الناس عن الآيات السابقة. ومنها التعليمات الواردة بخصوص الاضحية ، كيف شرّع الإسلام تقديم القرابين لكسب رضى الله؟ وهل الله سبحانه بحاجة إلى قربان؟ وهل كان ذلك متّبعا في الأديان الاخرى ، أو يخصّ المشركين وحدهم؟

تقول أوّل آية ـ من الآيات موضع البحث ـ لإيضاح هذا الموضوع أنّ هذا الأمر لا يختصّ بكم ، بل إنّ كلّ أمّة لها قرابين :( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ ) .

٣٤٦

يقول الراغب الاصفهاني في مفرداته : «النسك» يعني العبادة ، والناسك هو العابد ، ومناسك الحجّ تعني المواقف التي تؤدّى فيها هذه العبادة ، أو إنّها عبارة عن الأعمال نفسها.

إلّا أنّ العلّامة الطبرسي يقول في «مجمع البيان» وأبو الفتوح الرازي في «روح الجنان» : «المنسك» (على وزن منصب) يمكن أن يعني ـ على وجه التخصيص ـ الأضحية ، بين عبادات الحجّ الاخرى(١) .

ولهذا خصّ المنسك ـ رغم مفهومه العام وشموله أنواع العبادات في مراسم الحجّ ـ هنا بتقديم الأضحية بدلالة( لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ ) .

وعلى كلّ حال فإنّ مسألة الأضحية كانت دوما مثار سؤال ، لامتزاج التعبّد بها بخرافات المشركين الذين يتقرّبون بها إلى أوثانهم على نهج خاصّ بهم.

ذبح حيوان باسم الله ولكسب رضاه يبيّن استعداد الإنسان للتضحية بنفسه في سبيل الله ، والاستفادة من لحم الأضحية وتوزيعه على الفقراء أمر منطقي.

ولذا يذكر القرآن في نهاية هذه الآية( فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ) وبما أنّه إله واحد( فَلَهُ أَسْلِمُوا ) وبشّر الذين يتواضعون لأحكامه الربّانية و( بَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ ) (٢) .

ثمّ يوضّح القرآن المجيد في الآية التالية صفات المخبتين (المتواضعين) وهي أربع : اثنتان منها ذات طابع معنوي ، واثنتان ذات طابع جسماني.

يقول في الأوّل :( الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ) لا يخافون في غضبه دون سبب ولا يشكّون في رحمته ، بل إنّ خوفهم ناتج عن عظمة المسؤوليات التي بذمّتهم ، واحتمال تقصيرهم في أدائها ، وليقينهم بجلال الله سبحانه يقفون بين يديه

__________________

(١) ولهذا السبب يقال : نسكت الشاة ، أي ذبحتها.

(٢) «المخبتين» مشتقّة من «الإخبات» وأصلها «خبت» وهي الأرض المستوية الواسعة التي يمشي الإنسان فيها بكلّ سهولة. كما جاءت بمعنى الاطمئنان والخضوع ، لأنّ السير في هذه الأرض يلازمه الاطمئنان ، ولهذا تكون خاضعة مستسلمة للسائرين عليها.

٣٤٧

بكلّ خشوع(١) .

والثّاني :( وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ ) فهؤلاء يصبرون على ما يكابدونه في حياتهم من مصائب وآلام ، ولا يرضخون للمصائب مهما عظمت وإزداد بلاؤها ، ويحافظون على اتّزانهم ولا يفرّون من ساحة الامتحان ، ولا يصابون باليأس والخيبة ، ولا يكفرون بأنعم الله أبدا. وبإيجاز نقول : يستقيمون وينتصرون.

والثّالث والرابع :( وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ) فمن جهة توطّدت علاقتهم ببارئ الخلق وازدادوا تقربا إليه ، ومن جهة أخرى اشتدّ ارتباطهم بالخلق بالإنفاق.

وبهذا يتّضح جليّا أنّ الإخبات والتسليم والتواضع التي هي من صفات المؤمنين ليست ذات طابع باطني فقط ، بل تظهر وتبرز في جميع أعمال المؤمنين.

* * *

__________________

(١) بحثنا في تفسير الآية الثّانية من سورة الأنفال بإسهاب دوافع الخوف من الله.

٣٤٨

الآيات

( وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦) لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (٣٧) إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨) )

التّفسير

لماذا الأضحية؟

عاد الحديث عن مراسم الحجّ وشعائره الإلهيّة والأضحية ثانية ، ليقول أوّلا :( وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ ) إنّ «البدن» وهي الإبل البدينة تعلّقت بكم من جهة ، ومن جهة أخرى هي من شعائر الله وعلائمه في هذه العبادة العظيمة.

فالاضحية في الحجّ من المظاهر الجليّة لهذه العبادة التي أشرنا إلى فلسفتها من

٣٤٩

قبل.

«البدن» على وزن «القدس» جمع لـ «البدنة» على وزن «عجلة» وهي الناقة الكبيرة والسمينة. وقد أكّدها لأنّها تناسب إقامة وليمة لإطعام الفقراء والمحتاجين في مراسم الأضحية ، ومن المعلوم أنّ سمن الحيوان ليس من الشروط الإلزامية في الأضحية. وكلّ ما يلزم هو أن لا يكون ضعيفا.

ثمّ تضيف الآية :( لَكُمْ فِيها خَيْرٌ ) فمن جهة تستفيدون من لحومها وتطعمون الآخرين ، ومن جهة أخرى تستفيدون من آثارها المعنوية بإيثاركم وسماحكم وعبادتكم الله ، وبهذا تتقرّبون إليه سبحانه وتعالى.

ثمّ تبيّن الآية ـ بعبارة موجزة ـ كيفية ذبح الحيوان( فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَ ) أي اذكروا اسم الله حين ذبح الحيوان وفي حالة وقوفه مع نظائره في صفوف.

وليس لذكر الله حين ذبح الحيوان أو نحر الناقة صيغة خاصّة. بل يكفي ذكر اسم من أسماء الله عليها ، كما يبدو ومن ظاهر الآية ، إلّا أنّ بعض الرّوايات ذكرت صيغة محدّدة ، وهي في الواقع من أعمال الإنسان الكامل ، حيث روي عن ابن عبّاس أنّه قال : الله أكبر ، لا إله إلّا الله والله أكبر ، اللهم منك ولك(١) .

إلّا أنّه ورد في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام عبارات أكثر وضوحا فبعد شراء الأضحية توجّهها إلى القبلة وتقول حين الذبح : «وجّهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا مسلما وما أنا من المشركين ، إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين ، اللهمّ منك ولك بسم الله وبالله والله أكبر ، اللهمّ تقبّل منّي»(٢) .

كلمة «صوافّ» جمع «صافّة» بمعنى الحيوان الواقف في صفّ. وكما ورد في

__________________

(١) مجمع البيان في تفسير ختام الآية ، وروح المعاني في تفسير هذه الآية باختلاف يسير.

(٢) وسائل الشيعة ، المجلّد العاشر ، صفحة ١٣٨ ـ أبواب الذبح الباب (٣٧).

٣٥٠

الأحاديث فإنّ القصد من ذلك عقل رجلي الناقة الأماميتين معا حين وقوفها من أجل منعها من الحركة الواسعة حين النحر. وطبيعي أنّ أرجل الناقة تضعف حين تنزف مقدارا من الدم ، فتتمدّد على الأرض ، ويقول القرآن المجيد هنا( فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ) أي عند ما تستقر ويهدأ جانبها (كناية عن لفظ الأنفاس الأخيرة). فكلوا منها وأطعموا الفقير القانع والسائل المعتر.

الفرق بين «القانع» و «المعتر» هو أنّ القانع يطلق على من يقنع بما يعطى وتبدو عليه علائم الرضى والارتياح ولا يعترض أو يغضب ، أمّا المعترّ فهو الفقير السائل الذي يطالبك بالمعونة ولا يقنع بما تعطيه ، بل يحتجّ أيضا.

كلمة «القانع» فمشتقّة من «القناعة» ، و «المعترّ» مشتقّة من «عرّ» على وزن (شرّ) وهي في الأصل تعني الجرب ، وهو مرض عارض تظهر علاماته على جلد الإنسان. ثمّ أطلقت كلمة «المعترّ» على السائل الذي يطلب العون ولكن بلسان معترض. وتقديم القانع على المعترّ إشارة إلى ضرورة الاهتمام أكثر بالمحرومين المتّصفين بالعفّة وعزّة النفس.

وينبغي الالتفات إلى أنّ عبارة( فَكُلُوا مِنْها ) توجب أن يأكل الحجّاج من أضاحيهم ، ولعلّها ترمي إلى مراعاة المساواة بين الحجّاج والفقراء.

وتنتهي الآية بالقول :( كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) . وإنّه لمن العجب أن يستسلم حيوان عظيم الجثّة هائل القوّة لطفل يعقل يديه معا ثمّ ينحره.

(وطريقة النحر تتمّ بطعنة سكّين حادّة في لبّة الناقة ، لتنزف دمها ، وليلفظ هذا الحيوان أنفاسه بسرعة).

ولإيضاح أهميّة تسلّط الإنسان على الحيوان في الذبح ، فإنّ الله جلّ وعلا يسلب أحيانا طاعة هذا الحيوان وانقياده للإنسان ، حيث نشاهد هياج البعير وتبدلّه إلى موجود خطر لا يستطيع كبح جماحة عدّة رجال أقوياء بعد ما كان

٣٥١

مسخّر حتّى لصبي صغير!!

وهناك ثمّة أسئلة ، وهي : ما هي حاجة الله تعالى للأضحية؟

وما هي فلسفة الاضحية؟

وهل لهذا العمل فائدة تعود إلى الله سبحانه؟

تجيب الآية التالية عن هذه الأسئلة( لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها ) . إنّ الله ليس بحاجة إلى لحوم الأضاحي ، فما هو بجسم ، ولا هو بحاجة إلى شيء ، وإنّما هو موجد كلّ وجود وموجود. إنّ الغاية من الاضحية كما تقول الآية :( وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ ) فالهدف هو أن يجتاز المسلمون مراحل التقوى ليبلغوا الكمال ويتقرّبوا إلى الله.

إنّ جميع العبادات دروس في التربية الإسلامية ، فتقديم الاضحية ـ مثلا ـ فيه درس الإيثار والتضحية والسماح والاستعداد للشهادة في سبيل الله ، وفيه درس مساعدة الفقراء والمحتاجين. وعبارة( لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها ) مع أنّ دماءها غير قابلة للاستفادة ، ربّما تشير إلى الأعمال القبيحة التي كان يمارسها أعراب الجاهلية ، الذين كانوا يلطّخون أصنامهم وأحيانا على الكعبة بدماء هذه القرابين.

وقد أتّبعهم في ممارسة هذا العمل الخرافي مسلمون جاهلون ، حتّى نهتهم هذه الآية المباركة(١) وممّا يؤسف له وجود هذه العادات الجاهلية في بعض المناطق حيث يرشّون دماء الأضحية على باب وجدران منزلهم الجديد ، حتّى أنّهم يمارسون هذا العمل القبيح الخرافي في المساجد الجديدة العمران أيضا.

ولذا يجب على المسلمين الواعين الوقوف بقوّة ضدّ هذا العمل.

__________________

(١) كنز العرفان ، المجلّد الأوّل ، صفحة ٣١٤.

٣٥٢

ثمّ تشير الآية ثانية إلى نعمة تسخير الحيوان قائلة :( كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ ) .

إنّ الهدف الأخير هو التعرّف على عظمة الخالق جلّ وعلا الذي هداكم بمنهجه التشريعي والتكويني إلى تعلّم مناسك الحجّ والتعاليم الخاصّة بطاعته والتعبّد له ، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى جعل هذه الحيوانات الضخمة القويّة طيّعة لكم تقدّمونها أضاحي استجابة لله تعالى ، وتعملون عملا طيّبا يساعد المحتاجين ، وتستفيدون من لحومها في تأمين حياتكم. لهذا تقول الآية في الختام :( وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ) أولئك الذين استفادوا من هذه النعم الإلهيّة في طاعة الله ، وأنجزوا واجباتهم على خير وجه ، ولم يقصّروا في الإنفاق في سبيل الله أبدا. وفاعلو الخير هؤلاء لم يحسنوا للآخرين فقط ، بل شمل إحسانهم أنفسهم على أفضل وجه أيضا.

وقد تؤدّي مقاومة خرافات المشركين التي أشارت إليها الآيات السابقة إلى إثارة غضب المتعصّبين المعاندين ، ووقوع اشتباكات محدودة أو واسعة ، لهذا طمأن الله سبحانه وتعالى المؤمنين بنصره( إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ) .

لتتّحد قبائل عرب الجاهلية مع اليهود والنصارى والمشركين في شبه الجزيرة العربية للضغط على المؤمنين كما يحلو لهم ، فلن يتمكّنوا من بلوغ ما يطمحون إليه ، لأنّ الله وعد المؤمنين بالدفاع عنهم وعدا تجلّى صدقه في دوام الإسلام حتّى يوم القيامة ، ولا يختّص الدفاع الإلهي عن المؤمنين في الصدر الأوّل للإسلام وحسب ، بل هو ساري المفعول أبد الدهر ، فإن كنّا على نهج الذين آمنوا. فالدفاع الإلهي عنّا أكيد. ومن ذا الذي لا يلتمس دفاع الله سبحانه عن عباده الصالحين؟

وفي الختام توضّح هذه الآية موقف المشركين وأتباعهم بين يدي الله بهذه

٣٥٣

العبارة الصريحة( إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ) أولئك الذين أشركوا بالله حتّى أنّهم ذكروا أسماء أوثانهم عن التلبية. فثبتت عليهم الخيانة والكفر لأنعم الله حيث يسمّون أوثانهم عند تقديم الأضاحي ، ولا يذكرون اسم الله عليها ، فكيف يحبّ الله قوما كهؤلاء الخونة الكفرة؟!

* * *

٣٥٤

الآيات

( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١) )

التّفسير

أوّل حكم بالجهاد :

ذكرت روايات أنّ المسلمين عند ما كانوا في مكّة ، كانوا يتعرّضون كثيرا لأذى المشركين ، فجاء المسلمون إلى رسول الله ما بين مشجوج ومضروب يشكون إليه ما يعانون من قهر وأذى ، فكان صلوات الله عليه وآله يقول لهم : «اصبروا فانّي لم أؤمر بالقتال» حتّى هاجر ، فأنزل الله عليه هذه الآية بالمدينة ،

٣٥٥

وهي أوّل آية نزلت في القتال(١) .

هناك اختلاف بين المفسّرين في كونها أوّل آية نزلت بالجهاد ، فهناك من يؤيّد ذلك ، وهناك من يرى أنّ أوّل آية نزلت في الجهاد هي آية( قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ ) (٢) وعدّ البعض آية( إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ ) (٣) هي الأولى(٤) .

إلّا أنّ أسلوب الآية يناسب هذا الموضوع بشكل أفضل لأنّ تعبير «أذن» جاء بصراحة واضحة فيها ، ولم يرد في الآيتين الأخريين ، وبتعبير آخر : إنّ الإذن بالجهاد منحصر في هذه الآية.

ولمّا وعد الله المؤمنين بالدفاع عنهم في الآية السابقة يتّضح جيدا الارتباط بين هذه الآيات تقول الآية : إنّ الله تعالى أذن لمن يتعرّض لقتال الأعداء وعدوانهم بالجهاد ، وذلك بسبب أنّهم ظلموا :( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ) ثمّ أردفت بنصرة الله القادر للمؤمنين( وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ) .

إنّ وعد الله بالنصر جاء مقرونا بـ «قدرة الله». وهذا قد يكون إشارة إلى القدرة الإلهيّة التي تنجد الناس حينما ينهضون بأنفسهم للدفاع عن الإسلام ، لا أن يجلسوا في بيوتهم بأمل مساعدة الله تعالى لهم ، أو بتعبير آخر : عليكم بالجدّ والعمل بكلّ ما تستطيعون من قدرة ، وعند ما تستحقّون النصر بإخلاصكم ينجدكم الله وينصركم على أعدائه ، وهذا ما حدث للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جميع حروبه التي كانت تتكلّل بالنصر.

ثمّ توضّح هذه الآيات للمظلومين ـ الذين أذن لهم بالدفاع عن

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، وتفسير الفخر الرازي للآية موضع البحث.

(٢) البقرة ، ١٩٠.

(٣) التوبة ، ١١١.

(٤) الميزان ، المجلّد الرّابع عشر ، صفحة ٤١٩.

٣٥٦

أنفسهم ـ بواعث هذا الدفاع ، ومنطق الإسلام في هذا القسم من الجهاد فتقول :( الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍ ) وذنبهم الوحيد أنّهم موحّدون :( إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ ) .

ومن البديهي أنّ توحيد الله موضع فخر للمرء وليس ذنبا يبيح للمشركين إخراج المسلمين من بيوتهم وإجبارهم على الهجرة من مكّة إلى المدينة ، وتعبير الآية جاء لطيفا ـ يجلّي إدانة الخصم ، فنحن على سبيل المثال نقول لناكر الجميل : لقد أذنبنا عند ما خدمناك ، وهذه كناية عن جهل المخاطب الذي يجازي الخير شرّا(١) .

ثمّ تستعرض الآية واحدا من جوانب فلسفة تشريع الجهاد فتقول :( وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً ) أي إنّ الله إن لم يدافع عن المؤمنين ، ويدفع بعض الناس ببعضهم عن طريق الإذن بالجهاد ، لهدّمت أديرة وصوامع ومعابد اليهود والنصارى والمساجد التي يذكر فيها اسم الله كثيرا.

ولو تكاسل المؤمنون وغضّوا الطرف عن فساد الطواغيت والمستكبرين ومنحوهم الطاعة ، لما أبقى هؤلاء أثرا لمراكز عبادة الله ، لأنّهم سيجدون الساحة خالية من العوائق ، فيعملون على تخريب المعابد ، لأنّها تبثّ الوعي في الناس ، وتعبّئ طاقتهم في مجابهة الظلم والكفر. وكلّ دعوة لعبادة الله وتوحيده مضادّة للجبابرة الذين يريدون أن يعبدهم الناس تشبّها منهم بالله تعالى ، لهذا يهدّمون أماكن توحيد الله وعبادته ، وهذا من أهداف تشريع الجهاد والإذن بمقاتلة الأعداء.

__________________

(١) وبهذا يتّضح أنّ الاستثناء في الآية المذكورة متّصل غاية الأمر إنّه كنائي مع ذكر فرد ادّعائي. (فتأمّل).

٣٥٧

وقد أورد المفسّرون معاني متفاوتة لـ «الصوامع» و «البيع» و «الصلوات» و «المساجد» والفرق بينها ، وما يبدو صحيحا منها هو أنّ :

«الصوامع» جمع «صومعة» وهي عادة مكان خارج المدينة بعيد عن أعين الناس مخصّص لمن ترك الدنيا من الزّهاد والعبّاد. (ويجب ملاحظة أنّ «الصومعة» في الأصل تعني البناء المربّع المسقوف ، ويبدو أنّها تطلق على المآذن المربّعة القواعد المخصّصة للرهبان.

و «البيع» جمع بيعة بمعنى معبد النصارى ، ويطلق عليها كنيسة أيضا.

و «الصلوات» جمع صلاة ، بمعنى معبد اليهود ، ويرى البعض أنّها معرّبة لكلمة «صلوتا» العبرية ، التي تعني المكان المخصّص بالصلاة.

وأمّا «المساجد» فجمع مسجد ، وهو موضع عبادة المسلمين.

والصوامع والبيع رغم أنّها تخصّ النصارى ، إلّا أنّ إحداهما معبد عامّ والاخرى لمن ترك الدنيا ، ويرى البعض أنّ «البيع» لفظ مشترك يطلق على معابد اليهود والمسيحيين.

وعبارة( يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً ) وصف خاص بمساجد المسلمين حسب الظاهر ، لأنّها أكثر ازدحاما من جميع مراكز العبادة الاخرى في العالم ، حيث تجرى فيها الصلوات الخمس في أيّام السنة كلّها ، في وقت نجد فيه المعابد الاخرى لا تفتح أبوابها للمصلّين إلّا في يوم واحد من الأسبوع ، أو أيّام معدودات في السنة.

وفي الختام أكّدت هذه الآية ثانية وعد الله بالنصر( وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ) ولا شكّ في إنجاز هذا الوعد ، لأنّه من ربّ العزّة القائل :( إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) . من أجل ألّا يتصوّر المدافعون عن خطّ التوحيد أنّهم ووحيدون في ساحة قتال الحقّ للباطل ، ومواجهة جموع كثيرة من الأعداء الأقوياء.

وبنور من هذا الوعد الإلهي انتصر المدافعون عن سبيل الله على أعدائهم في

٣٥٨

معارك ضارية خاضوها بضالة عدد وعدّة ، ذلك النصر الذي لا يمكن أن يقع إلّا بإمداد إلهي.

وآخر آية تفسّر المراد من أنصار الله الذين وعدهم بنصره في الآية السابقة ، وتقول :( الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ ) .

إنّهم فئة لا تلهو ولا تلعب كالجبابرة بعد انتصارها ، ولا يأخذها الكبر والغرور ، إنّما ترى النصر سلّما لارتقاء الفرد والجماعة. إنّها لن تتحوّل إلى طاغوت جديد بعد وصولها إلى السلطة ، لارتباطها القويّ بالله ، والصلاة رمز هذا الارتباط بالخالق ، والزكاة رمز للالتحام مع الخلق ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعامتان قويتان لبناء مجتمع سليم. وهذه الصفات الأربع تكفي لتعريف هؤلاء الأفراد ، ففي ظلّها تتمّ ممارسة سائر العبادات والأعمال الصالحة ، وترسم بذلك خصائص المجتمع المؤمن المتطور(١) .

كلمة «مكّنا» مشتقة من «التمكين» الذي يعني إعداد الأجهزة والمعدّات الخاصّة بالعمل ، من عدد وآلات ضرورية وعلم ووعي كاف وقدرة جسمية وذهنية.

وتطلق كلمة «المعروف» على الأعمال الجيدة والحقّة ، و «المنكر» يعني العمل القبيح ، لأنّ الكلمة الأولى تطلق على الأعمال المعروفة بالفطرة ، والكلمة الثّانية على الأعمال المجهولة والمنكرة. أو بتعبير آخر : الأولى تعني الانسجام مع الفطرة الإنسانية ، والثّانية تعني عدم الانسجام.

وتقول الآية في ختامها( وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ ) وتعني أنّ بداية أي قدرة ونصر من الله تعالى ، وتعود كلّها في الأخير إليه ثانية( إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ) .

* * *

__________________

(١) تناولنا أهميّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومسائل هذين الواجبين الإسلاميين ، والجواب عن استفسارات في هذا المجال ببحث مسهب في تفسير الآية (١٠٤) من سورة آل عمران.

٣٥٩

بحوث

١ ـ فلسفة تشريع الجهاد

رغم أنّنا بحثنا مسألة الجهاد بحثا واسعا(١) قبل هذا ، إلّا أنّه مع ملاحظة احتمال أن تكون الآيات ـ موضع البحث ـ أولى الآيات التي أجازت للمسلمين الجهاد ، واحتوت إشارة إلى فلسفة هذا الحكم ، وجدنا ضرورة تناولها بإيجاز.

وقد أشارت هذه الآيات إلى أمرين مهمّين في فلسفة الجهاد :

أوّلهما : جهاد المظلوم للظالم ، وهو من حقوقه المؤكّدة والطبيعيّة ، التي يؤكّدها عقل الإنسان وفطرته. وليس له أن يستسلم للظلم ، بل عليه أن ينهض ويصرخ ويتسلّح ليقطع دابر الظالم ويدفعه.

وثانيهما : جهاد الطواغيت الذين ينوون محو ذكر الله من القلوب بتهديم المعابد التي هي مراكز لبثّ الوعي وإيقاظ الناس ، فيجب مناهضة هؤلاء لمنعهم من محو ذكر الله بتخديرهم ، ثمّ جعلهم عبيدا لها.

وممّا يلفت النظر أنّ تخريب المعابد والمساجد لا يعني تخريبها مادّيا فقط ، بل قد يكون بأساليب غير مباشرة كثيرة ، كإشاعة برامج التسلية والترفيه المقصودة ، وبثّ الدعايات المسمومة ، والإعلام المضادّ لحرف الناس عن المساجد ، فتحوّل أماكن العبادة إلى خرائب مهجورة.

وفي هذا جواب لمن يسأل : لماذا أجيز للمسلمين استخدام القوّة وخوض الحرب لتحقيق أهدافهم؟ ولماذا لا يتمّ تحقيق الأهداف الإسلامية باللجوء إلى التعقّل والمنطق؟

وهل يفيد المنطق ذلك الظالم الذي يهجّر المسلمين من ديارهم لا لذنب اقترفوه سوى اعتقادهم بتوحيد الله. فتراه يستولي على منازلهم وأموالهم ،

__________________

(١) تناولنا فلسفة الجهاد بالبحث في تفسير الآية ١٩٣ من سورة البقرة.

٣٦٠

ولا يلتزم بأي قانون ومنطق تجاههم؟!

فهل يمكن ردع هؤلاء المجانين بغير لغة السلاح والقوّة؟!

وهذا ينطبق على من يقول لنا : لماذا لا تساومون الكيان الصهيوني وتفاوضونه؟

الكيان الصهيوني الذي انتهك جميع القوانين الدولية وقرارات المنظمات الدولية التي أقرّتها شعوب العالم ، وسحق ويسحق جميع القوانين البشرية والتعاليم السماوية ، هل يعترف بالمنطق؟!

الكيان الصهيوني الذي قصف المدارس والمستشفيات بالقنابل المحرقة ، فقتل آلاف الأطفال والنساء والشيوخ الآمنين الأبرياء وجعلهم إربا إربا! كيف يخاطب بالمنطق؟

وهكذا الأمر بالنسبة للذين يرون في المعبد والمسجد الذي يبثّ الوعي بين الناس ويقود حركة الجماهير ، منافسا لمصالحه غير المشروعة؟! ويعملون بما لديهم من قوّة لهدمه! فهل يمكن التفاوض سلميّا معهم؟! وإذا نظرنا إلى المجتمع الإنساني نظرة واقعية ووضعنا القضايا الفكرية جانبا ، فلا نجد مفرّا من اللجوء إلى القوّة والسلاح؟!

وليس هذا عجزا في منطقنا ، بل لعدم استعداد الجبابرة لقبول المنطق السليم ، ومتى وجدنا المنطق فاعلا لجأنا إليه.

2 ـ من هم الذين وعدهم الله بالنصر؟

إنّه لمن الخطأ الإعتقاد بأنّ نصر الله المؤمنين ووعدهم بالدفاع عنهم ـ الذي جاء في الآيات السابقة ومن آيات قرآنية أخرى ـ بعيد عن سنّة الله في خلقه وقوانين الحياة!

ليس الأمر هكذا ، فالله يعدّ بنصرة الذين يعبئون جميع طاقاتهم ليدخلوا

٣٦١

ميدان القتال بكلّ قوّة ، ولهذا نطالع في الآيات السالفة :( لَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ) . فلا يدفع الله الظالمين بإمداداته الغيبيّة وبقدرة الصواعق والزلازل التي يبعثها إلّا في حالات استثنائية ، إنّما يدفع شرّهم عن المؤمنين بمن يدافع عنهم ، أي المؤمنين الحقيقيين.

وعليه فلا يعني الوعد الإلهي بالنصر رفع المسؤولية والتكاسل والتواكل بالاعتماد على ما وعد الله للمؤمنين ، بل يجب التحرّك الواسع لضمان النصر الإلهي وتهيئة مستلزماته.

والجدير بالذكر أنّ هذه المجموعة من المؤمنين لا يتوجّهون إلى الله قبل النصر فقط ، بل بعد النصر أيضا ، فهم( الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ ) يوطّدون علاقتهم مع الله. والنصر لديهم وسيلة لنشر الحقّ والعدل ومكارم الأخلاق.

وخصّصت بعض الرّوايات الآية السابقة بالمهدي (عجّل الله فرجه) وأصحابه أو بآل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشكل عامّ ، فقد جاء في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام حين تفسير الآية( الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ) قال : إنّ هذه الآية( الَّذِينَ إِنْ ) نزلت في آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمهدي (عج) وأصحابه «يملّكهم الله مشارق الأرض ومغاربها ، ويظهر الدين ويميت الله به وبأصحابه البدع والباطل ، كما أمات الشقاة الحقّ ، حتّى لا يرى أين الظلم ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر»(1) .

وقد وردت أحاديث أخرى في هذا المجال ، وهي عبارة عن مصاديق بارزة للآية ولا تمنع عموم الآية ، لا يمكنها منع ، فمفهوم الآية الواسع يشمل جميع المؤمنين والمجاهدين في سبيل الله.

__________________

(1) تفسير علي بن إبراهيم (حسبما نقله تفسير نور الثقلين ، المجلّد الثّالث ، ص 506).

٣٦٢

3 ـ «المحسنين» ، «المخبتين» ، «أنصار الله».

وتأمر الآيات المذكورة أعلاه والتي قبلها أحيانا بتبشير «المحسنين» ، ثمّ تعرفّهم أنّهم من المؤمنين ، وليسوا من الخونة الكفّار

وأحيانا أخرى تتكلّم حول «المخبتين» (المتواضعين) وتصفهم بأنّهم خشّع في الصلاة ، صابرون على المصائب منفقون ممّا وهبهم الله.

وتعدّد هذه الآيات كذلك ميزات «أنصار الله» الذين لا يطغون عند انتصارهم ، بل يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.

وخلاصة هذه الآيات تكشف لنا أنّ المؤمنين الصادقين لهم جميع هذه الخصائص ، فهم من جهة أقوياء في عقيدتهم والتزامهم المسؤولية ، ومن جهة ثانية برهنوا على أنّهم أقوياء ومستقيمون في علاقتهم مع الخالق والخلق وفي مكافحة الفساد.

* * *

٣٦٣

الآيات

( وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) )

التّفسير

بئر معطّلة وقصر مشيد!

لقد صدر أمر الجهاد للمسلمين بعد أن ذاقوا ـ كما ذكرت الآيات السابقة ـ مرارة المحنة التي فرضها عليهم أعداء الإسلام الذين آذوهم وطردوهم من منازلهم لا لذنب ارتكبوه ، بل لتوحيدهم الله سبحانه وتعالى.

وقد طمأنت الآيات ـ موضع البحث ـ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين وخفّفت عنهم من جهة ، وبيّنت لهم أنّ العاقبة السيّئة تنتظر الكفرة من جهة أخرى ، فقالت :( وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ ) .

أي إذا كذّبك هؤلاء القوم فلا تبتئس ولا تحزن ، فالأقوام السابقة قد كذّبت

٣٦٤

رسلها أيضا ، وأضافت :( وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ ) .

وكذلك كذّب أهالي مدينة «مدين» نبيّهم «شعيب» ، وكذّب فرعون وقومه نبيّهم «موسى»( وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى ) .

وإنّ هذه المعارضة والتكذيب لن تؤثّر في روحك الطاهرة ونفسك المطمئنة ، مثلما لم تؤثّر في أنبياء كبار قبلك ولم تعق مسيرتهم التوحيديّة ودعوتهم إلى الحقّ والعدل قطّ.

إلّا أنّ هؤلاء الكفرة الأغبياء يتصوّرون إمكانية مواصلة هذه الأساليب المخزية.( فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ ) أجل ، أمهل الله الكافرين ليؤدّوا امتحانهم وليتمّ الحجّة عليهم فأغرقهم بنعمته ، ثمّ حاسبهم حسابا عسيرا.( فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ ) (1) ورأيت كيف أنكرت عليهم أعمالهم ، وبيّنت لهم أعمالهم القبيحة ، لقد سلبت منهم نعمتي وجعلتهم على أسوأ حال سلبتهم سعادتهم الدنيوية وعوّضتهم بالموت.

آخر الآية موضع البحث يبيّن الله تعالى كيفيّة عقاب الكفّار بجملة موجزة ذات دلالة واسعة( فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ ) وأضافت الآية أنّ سقف بيوتها قد باتت أسفل البناء :( فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها ) .

أي إنّ الواقعة كانت شديدة حتّى أنّ السقوف انهارت أوّلا ثمّ الجدران على السقوف( وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ ) فما أكثر الآبار الرويّة بمياهها العذبة ، ولكنّها غارت في الأرض بعد هلاك أصحابها فأصبحت معطّلة لا نفع فيها.

( وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ) (2) أجل ما أكثر القصور المشيدة التي ارتفعت شاهقة وزينت ،

__________________

(1) النكير تعني الإنكار وهنا تعني فرض العقاب.

(2) «المشيد» مشتقّة من «شيد» على وزن «عيد» ذات معنيين : أوّلهما الارتفاع ، والثّاني الجصّ ، فتعني لفظة «قصر مشيد» القصر المرتفع.

والمعنى الثّاني القصر الذي بني على أسس ثابتة قويّة ليصان من حوادث الزمان ، وبما أنّ معظم منازل ذلك العصر تبنى من اللبن ، فإنّ المنزل الذي يبنى بالجصّ يكون أقوى من هذه البيوت ويكون متميّزا عنها.

٣٦٥

إلّا أنّها أضحت خرائب بعد أن هلك أصحابها ، والنتيجة إنّهم تركوا مساكنهم وقصورهم المجلّلة ، وأهملوا مياههم وعيونهم التي كانت مصدر حياتهم وعمران أراضيهم وذهبوا. وكذلك الآبار الغنيّة بالماء أصبحت معطّلة لا ماء فيها.

* * *

ملاحظة

ممّا يلفت النظر التّفسير الذي ورد عن أهل البيتعليهم‌السلام حيث فسّروا( وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ ) بالعلماء الذين لا يستفيد منهم المجتمع ، فبقيت علومهم معطّلة.

فقد روي عن الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام في تفسير عبارة( وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ) قوله :«البئر المعطّلة الإمام الصامت ، والقصر المشيد الإمام الناطق» وبهذا المعنى روي أيضا عن الإمام الصادقعليه‌السلام (1) .

وهذا التّفسير نوع من التشبيه (مثلما يشبه المهدي (عج) ناشر العدل في العالم بالماء المعيّن) أي إنّ الإمام عند ما يستقرّ في دست الحكم يكون كالقصر المشيد ، يجلب انتباه الداني والبعيد ويكون ملجأ للجميع. وإذا أبعد عن الحكم وتخلّى الناس عنه ، احتلّ مكانه من لا يستحقّه فيكون عندها كبئر امتلأت ماء ، إلّا أنّها معطّلة لا يستفاد منها فلا تروي عطشانا ولا تسقي زرعا.

ما أحسن ما أنشد الشاعر العربي :

بئر معطّلة وقصر مشرف

مثل لآل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستطرف

فالقصر مجدهم الذي لا يرتقى

والبئر علمهم الذي لا ينزف(2)

* * *

__________________

(1) تفسير البرهان ، المجلّد الثّالث ، صفحة ـ 30.

(2) المصدر السابق.

٣٦٦

الآيات

( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) )

التّفسير

السير في الأرض والعبرة :

تحدّثت الآيات السابقة عن الأقوام الظالمة التي عاقبها الله على ما اقترفت أيديهم فدمّر أحياءهم ، وأكّدت الآية الأولى هذه القضيّة فقالت :( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها ) .

أجل ، تحدّثنا عن خرائب قصور الظلمة ، ومنازل الجبابرة المهدّمة ، وعبدة الدنيا ، فلكلّ واحد منها ألف لسان يحكي لنا بسكونه المسيطر عليه ما حدث في

٣٦٧

زواياه من ظلم وفسق وجور ، ويحدّثنا عن ألف حادثة وحادثة.

إنّ هذه الخرائب كتب ناطقة تتحدّث عن ماضي هؤلاء الأقوام ، ونتائج أعمالهم وسلوكهم في الحياة ، وعن أعمالهم المشؤومة ، وأخيرا عن العقاب الذي صبّه الله عليهم!

إنّ آثار قصور الجبابرة تبعث في روح الإنسان التفكّر والاتّعاظ ، حيث يعوّضنا أحيانا عن مطالعة كتاب ضخم ، ومع أنّ أصل التاريخ يعيد نفسه ، فانّ هذه الآثار تجسّد للإنسان مستقبله أمام عينيه. أجل ، إنّ دراسة آثار القدماء تجعل آذاننا صاغية وأنظارنا ثاقبة. ولهذا السبب يحثّ القرآن المجيد ـ في كثير من آياته ـ المؤمنين على السياحة ، سياحة إلهيّة أخلاقية فيها عبرة لأنفسنا وعظة نحصّلها من دراسة إيوان المدائن وقصور الفراعنة. فمرّة نمرّ عبر دجلة إلى المدائن ، وقد نسكب الدمع بغزارة دجلة على أرض المدائن ، لنسمع نصائح جديدة من شقوق خرائب القصور التي كان عمّارها الملوك الجبابرة ، ولنأخذ منها الدروس والعبر(1) .

ولإيضاح حقيقة هذا الكلام بشكل أفضل قال القرآن المجيد :( فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) .

إنّ الذين يفقدون بصرهم لا يفقدون بصيرتهم ، بل تراهم أحيانا أكثر وعيا من الآخرين. أمّا العمي فهم الذين تعمى قلوبهم ، فلا يدركون الحقيقة أبدا! لهذا يقول الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «شرّ العمى ، عمى القلب! وأعمى العمى عمى القلب»(2) .

ونطالح حديثا للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كتاب غوالي اللآلي «إذا أراد الله بعبد خيرا فتح عين قلبه فيشاهد بها ما كان غائبا عنه»(3) .

__________________

(1) شرحنا في تفسير الآية (137) من سورة آل عمران بإسهاب دراسة تاريخ القدماء عن طريق السياحة والسير في الأرض.

(2) نور الثقلين ، المجلّد الثّالث ، ص 508.

(3) المصدر السابق ، ص 509.

٣٦٨

وهنا يثار سؤال : كيف يقال أنّ القلوب التي في الصدور تدرك الحقائق ، في وقت نعلم فيه أنّ القلب مضخّة للدم ليس إلّا؟!

وقد أجبنا عن هذا في تفسير الآية السابقة من سورة البقرة ، وخلاصته أنّ أحد معاني القلب هو العقل ، ومن معاني الصدر ذات الإنسان.

إضافة إلى أنّ القلب مظهر العواطف ، وكلّما تأثّرت العواطف والإدراكات الروحيّة في الإنسان ، فإنّ أوّل أثرها ينعكس على القلب فتزداد نبضاته ويسرع الدم في جريانه ، ويمنح الجسم نشاطا وحيوية جديدة ، فتنسب الظواهر الروحية إلى القلب ، لأنّه أوّل من يتأثّر بها في جسم الإنسان. (فتأمّلوا جيدا).

وممّا يلفت النظر أنّ الآية المذكورة أعلاه نسبت سبل إدراك الإنسان إلى القلب (العقل) والأذنين ، إشارة إلى أنّه لا سبيل ثالث لإدراك الأشياء والحقائق.

فإمّا أن يتفاعل مع الحدث في أعماق روحه ويسعى لتحليل المسائل بنفسه فيصل إلى النتيجة المتوخّاة ، وإمّا أن يسمع النصيحة من المشفقين الهداة وأنبياء الله وأهل الحقّ ، أو يصل إلى الحقائق عن طريق هذين السبيلين(1) .

وترسم الآية الثّانية ـ موضع البحث ـ صورة أخرى لجهل الأغبياء وعديمي الإيمان فتقول :( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ ) فردّ عليهم ألّا تعجلوا( وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ ) . و «العجول» هو من يخشى فوات الفرصة من يده ، وانتهاء إمكاناتها.

أمّا الله القادر على كلّ شيء منذ الأزل ، فلا حاجة له بالعجلة ، فهو قادر دوما على الوفاء بما عد ، فلا فرق عنده بين الساعة واليوم والسنة :( وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ) .

وسواء أكان حقّا أم باطلا تكرارهم القول : لماذا لم ينزل الله علينا البلاء.

فليعلموا أنّ العذاب يترقّبهم وسينزل عليهم قريبا. فإن أمهلهم الله ، فإنّ ذلك ليعيدوا

__________________

(1) عن تفسير الميزان ، المجلّد الرّابع عشر ، صفحة 426.

٣٦٩

النظر في أعمالهم ، وسيغلق باب التوبة بعد نزول العذاب ولا سبيل للنجاة حينذاك.

وهناك تفاسير أخرى لعبارة( وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ) غير ما ذكرنا (وهو تساوي اليوم الواحد والألف سنة بالنسبة إلى قدرته تعالى) منها : قد يلزم ألف عام لإنجازك عملا ما ، والله تعالى ينجزه في يوم أو بعض يوم ، لهذا فإنّ عقابه لا يحتاج إلى مقدّمات كثيرة.

وتفسير آخر يقول : إنّ يوما من أيّام الآخرة كألف عام في الدنيا ، وإنّ جزاء ربّك وعقابه يزداد بهذه النسبة ، لهذا نقرأ في الحديث التالي : «إنّ الفقراء يدخلون الجنّة قبل الأغنياء بنصف يوم ، خمسمائة عام»(1) .

وفي آخر آية نجد تأكيدا على ما سبق أن ذكرته الآيات الآنفة الذكر من إنذار الكفّار المعاندين بأنّه ما أكثر القرى والبلاد التي أمهلناها ولم ننزل العذاب عليها ليفيقوا من غفلتهم ، ولمّا لم يفيقوا وينتبهوا أمهلناهم مرّة أخرى ليغرقوا في النعيم والرفاهية ، وفجأة نزل عليهم العذاب :( وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها ) .

إنّ أولئك الأقوام كانوا مثلكم يشكّون من تأخّر العذاب عليهم ، ويسخرون من وعيد الأنبياء ، ولا يرونه إلّا باطلا ، إلّا أنّهم ابتلوا بالعذاب أخيرا ولم ينفعهم صراخهم أبدا( وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ ) أجل كلّ الأمور تعود إلى الله ، وتبقى جميع الثروات فيكون الله وارثها.

* * *

__________________

(1) مجمع البيان ، في تفسير هذه الآية.

٣٧٠

الآيات

( قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (51) )

التّفسير

الرزق الكريم :

تحدّثت الآيات السابق عن تعجيل الكفر والعذاب الإلهي ، وإنّ ذلك ليس من شأن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنّما يرتبط بمشيئة الله تعالى ، فأوّل آية من الآيات أعلاه تقول :( قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ) .

يخاطب سبحانه وتعالى الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيأمره أن ينذر الناس بعذاب الله إن تخلّفوا عن طاعته.

وممّا لا شكّ فيه أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نذير بشير ، وتأكيد الآية هنا لصفة النذير جاء لملاءمة ذلك مع الخاطبين الكفّار المعاندين الذين يستهزئون بعقاب الله.

وترسم الآيتان التاليتان صورة للبشرى وأخرى للإنذار ، لأنّ رحمة الله واسعة ، فتقدّم على عقاب الله. تتحدّث أوّلا عن البشرى( فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا

٣٧١

الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) يتطهّرون بماء المغفرة الإلهيّة أوّلا ، فتطمئن ضمائرهم ، ثمّ تشملهم نعم الله ورحمته.

عبارة «رزق كريم» (مع ملاحظة أنّ كلمة «كريم» تطلق على أي موجود شريف وثمين) ذات مفهوم واسع يضمّ جميع الأنعم المادية والمعنوية.

أجل ، إنّ الله الكريم يمنّ على عباده المؤمنين الصالحين بأنواع من الرزق الكريم في تلك المنازل الكريمة ، يقول الراغب الاصفهاني في مفرداته : لا يقال الكرم إلّا في المحاسن ، كمن ينفق مالا في تجهيز جيش في سبيل الله ، أو تحمّل حمالة ترقئ دماء قوم. فعلى هذا لا يطلق الكرم على الإحسان الجزئي.

وفسّر البعض الرزق الكريم بالرزق الدائم الذي لا عيب ولا نقص فيه.

وقال آخرون : إنّه الرزق الذي يليق بالمؤمنين الصالحين ، ولا يخفى أنّ المراد من ذلك شامل ويضمّ جميع هذه المعاني. وأضافت الآية السابقة( وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ ) أي إنّ الذين حاولوا تخريب الآيات الإلهيّة ومحوها ، وكانوا يعتقدون بأنّ لهم القدرة على مغالبة إرادة الله المطلقة ، فهم أصحاب الجحيم(1) .

«جحيم» من مادّة «جحم» بمعنى شدّة توقّد النّار ، وتقال كذلك لشدّة الغضب ، فعلى هذا تطلق كلمة (الجحيم) على المكان المشتعل بالنيران ، وهي هنا تشير إلى نار الآخرة.

* * *

__________________

(1) «سعوا» مشتقّة من «السعي» وتعني في الأساس الهرولة ، وهنا المحاولة في تخريب الآيات الإلهية ومحوها. أمّا «المعاجزون» فمتشقّة من «العجز» وتعني هنا الذي يحاول الغلبة على قدرة الله غير المحدودة. وتصوّر بعض المفسّرين أنّ هذا الاحتمال لا يمكنه أن يكون لأي أحد يريد تعجيز الله وقهر إرادته ، وعلى هذا فإنّ كلمة «المعاجزين» نسبوها إلى النّبي والمؤمنين. في الوقت الذي استخدم هذا التعبير في آيات قرآنية أخرى لله ، سورة الجن الآيات (12) والتوبة الآية (2 و 3) وتعني عمل شخص يتظاهر بقدرته ليس إلّا.

٣٧٢

الآيات

( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) )

التّفسير

وساوس الشّياطين في مساعي الأنبياء :

تناولت الآيات السابقة محاولات المشركين والكفرة لمحو التعاليم الإلهيّة والاستهزاء بها ، أمّا الآيات موضع البحث فقد تضمّنت تحذيرا مهمّا حيث قالت : إنّ هذه المؤامرات ليست جديدة ، فالشياطين دأبوا منذ البداية على إلقاء وساوسهم ضدّ الأنبياء.

٣٧٣

في البداية تقول الآية :( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى ) أمرا لصالح الدين والمجتمع وفكّر في خطّة لتطوير العمل( أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) إلّا أنّ الله لم يترك نبيّه وحده إزاء إلقاءات الشياطين( فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ ) .

إنّ هذا العمل يسير على الله تعالى ، لأنّه عليم بجميع هذه المؤامرات الدنيئة ، ويعرف كيف يحبطها( وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) .

إلّا أنّ المؤامرات الشيطانية التي كان يحيكها المشركون والكفرة ، كانت تشكّل ساحة لامتحان المؤمنين والمتآمرين في آن واحد ، إذ تضيف الآية( لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ) .

( وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ ) فهم بعيدون عن الحقّ لشدّة عداوتهم وعنادهم.

وكذلك الهدف من هذا البرنامج :( وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ ) . وطبيعي أنّ الله لا يترك المؤمنين الواعين المطالبين بحقوقهم والمدافعين عن الحقّ وحدهم في هذا الطريق الوعر( وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) .

* * *

بحوث

1 ـ المراد من إلقاءات الشيطان

ما ذكرناه في تفسير الآيات المذكورة أعلاه كان تنسيقا مع آراء بعض الباحثين ، إلّا أنّ هناك احتمالات أخرى في تفسير الآية ، منها أنّ عبارة «تمنّى» و «أمنية» تعني التلاوة والقراءة ، كما جاءت في أشعار العرب بهذا المعنى. لهذا فإنّ تفسير آية( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ ) كان الشياطين (خاصّة شياطين

٣٧٤

الإنس) يلقون بكلمات خلال قراءة كلام الله على الناس لتشويش الأفكار ، ولإبطال أثر القرآن في الهداية والنجاة. إلّا أنّ اللهعزوجل كان يمحو أثر هذه الإلقاءات ويثبت آياته. وينسجم هذا التّفسير مع عبارة( ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ ) وكذلك يساير (وفقا لبعض التبريرات) أسطورة الغرانيق التي سيرد ذكرها.

ولم تستعمل «تمنّي ، وأمنية» بمعنى التلاوة إلّا نادرا ، ولم ترد في القرآن بهذا المعنى قطّ. «تمنّي» مشتقة من «منى» على وزن «مشى» وأصلها تعني التقدير والفرض. وسمّيت نطفة الرجل بـ «المني» لأنّ تقدير كيان الفرد يفرض فيها. ويقال للموت «منيّة» لأنّه يحلّ فيه الأجل المقدّر للإنسان ، ولهذا تستعمل كلمة «تمنّى» لما يصوّره الإنسان في مخيّلته والتي يطمح إلى تحقّقها. وخلاصة القول : إنّ أصل هذه الكلمة هي التقدير والفرض والتصوّر ، أينما استخدمت.

ويمكن ربط معنى التلاوة بهذه الكلمة ، فيقال : التلاوة تشمل التقدير والتصوّر للكلمات ، إلّا أنّها رابطة بعيدة لا أثر لها في كلمات العرب.

أمّا المعنى الذي ذكرناه لتفسير الآية (برامج الأنبياء ومخطّطاتهم للوصول إلى الأهداف الإلهيّة) فإنّه يناسب المعنى الأصلي للكلمة «تمنّى».

وثالث احتمال في تفسير الآية أعلاه هو ما ذكره بعض المفسّرين ورأى فيه أنّه إشارة إلى بعض الأخطار والوساوس الشيطانية التي تلقى في لحظة عبارة في أذهان الأنبياء الطاهرة النيّرة.

وبما أنّهم معصومون ومنصورون بقوّة غيبيّة وإمدادات إلهيّة ، فإنّ الله يمحو أثر هذه الإلقاءات من أفكارهم ويهديهم إلى الصراط المستقيم.

إلّا أنّ هذا التّفسير لا ينسجم مع الآيتين الثّانية والثّالثة ممّا نحن بصدده ، والقرآن اعتبر هذه الإلقاءات الشيطانية وسيلة إمتحان للكفرة والمؤمنين الواعين على السواء ، ولا أثر لها في قلوب الأنبياء لما يمحو الله عنها من إلقاءات الشياطين.

٣٧٥

وبهذا تتّضح ملاءمة التّفسير الأوّل أكثر من غيره ، وهي إشارة إلى نشاط الشياطين وما يلقونه على الأنبياء لتعويق عملهم البنّاء ، غير أنّ الله يبطل ما يفعلون ويمحو ما يلقون.

2 ـ اسطورة الغرانيق المختلفة!

جاء في بعض كتب السنّة رواية عجيبة تنسب إلى ابن عبّاس ، مفادها أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مشغولا بتلاوة سورة «النجم» في مكّة المكرّمة ، وعند ما بلغ الآيات التي جاء فيها ذكر أسماء أصنام المشركين( أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ) ألقى الشيطان على النّبي هاتين الجملتين وجعلهما على لسانه : (تلك الغرانيق العلى وإنّ شفاعتهنّ لترتجى!) أي إنّهن طيور جميلة ذات منزلة رفيعة ومنها ترتجى الشفاعة(1) !

وقد فرح المشركون بذلك ، وقالوا : إنّ محمّدا لم يذكر آلهتنا بخير حتّى الآن.

فسجد محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسجدوا هم أيضا ، فنزل جبرائيلعليه‌السلام على الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم محذّرا من أنّه لم ينزل هاتين الآيتين وأنّهما من إلقاءات الشيطان. وهنا أنزل عليه الآيات موضع البحث( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ ) محذّرا الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين(2) . ورغم أنّ عددا من أعداء الإسلام نقلوا هذا الحديث وأضافوا عليه ما يحلو لهم للمساس برسالة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقرآن ، إلّا أنّه مختلق يبغي النيل من القرآن وأحاديث الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وهناك أدلّة دامغة عديدة تؤكّد اختلاق شياطين الإنس لهذا الحديث :

أوّلا : ذكر الباحثون ضعف رواته وعدم الثقة بهم ، ولا دليل على أنّه من رواية

__________________

(1) «الغرانيق» جمع غرنوق ، على وزن بهلول ، طائر يعيش في الماء أبيض أو أسود اللون ، كما جاء بمعان أخرى «قاموس اللغة».

(2) جاء ذكر هذا الحديث نقلا عن جماعة من حفّاظ أهل السنّة في تفسير الميزان.

٣٧٦

ابن عبّاس. وقد صنّف محمّد بن إسحاق كتابا أكّد فيه اختلاق الزنادقة لهذا الحديث(1) .

ثانيا : ذكرت الكتب الإسلامية أحاديث عديدة عن نزول سورة النجم وسجود النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين ، ولم تذكر شيئا عن هذا الحديث المختلق. وهذا يدلّ على إضافة هذه الجملة إليه فيما بعد(2) .

ثالثا : تنفي آيات مطلع سورة النجم بصراحة هذه الخرافة( وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى ) .

كيف تنسجم هذه الاسطورة مع هذه الآية التي نزّهت وعصمت الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

رابعا : استنكرت الآيات التالية للآية التي سمّت أوثان المشركين والأصنام ، وبيّنت قبحها وسخفها ، فقد ذكرت بصراحة( إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ ) وقد جاءهم من ربّهم الهدى ، ومع كلّ هذا الذّم للأصنام ، كيف يمكن مدحها؟! إضافة إلى أنّ القرآن المجيد ذكر بصراحة أنّ الله يحفظه من كلّ تحريف( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) (3) .

خامسا : إنّ جهاد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للأصنام جهاد مستمر طوال حياته ولم يقبل المساومة قطّ.

وقد رفض الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأوثان ، وبرهنت سيرته المطهّرة على استنكارها والتصدّي لها ، حتّى في أصعب الظروف ، فكيف ينطق بمثل هذه الكلمات؟!

سادسا : إنّ الكثير من غير المسلمين الذين لا يعتقدون بأنّ النّبي محمّداصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(1) التّفسير الكبير للفخر الرازي ، المجلّد الثّالث والعشرون ، صفحة 50.

(2) المصدر السابق.

(3) سورة الحجر ، 9.

٣٧٧

مرسل من الله ، يعترفون بأنّه إنسان مفكّر واع حقّق أعطم الانتصارات. فهل يمكن لمن شعاره الأساس «لا إله إلّا الله» ، وجهاده الرافض لأيّ نوع من أنواع الشرك والوثنيّة. وحياته برهان على الإباء ورفض الأصنام ، يترك فجأة سيرته تلك ليشيد بالأوثان؟!

ومن كلّ هذا نستنتج أنّ اسطورة الغرانيق من وضع أعداء سذّج ومخالفين لا يخافون الله ، اختلقوا هذا الحديث لإضعاف منزلة القرآن والرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لهذا نفى جميع الباحثين الإسلاميين من السنّة والشيعة هذا الحديث بقوّة واعتبروه مختلقا(1) .

وذكر بعض المفسّرين تبريرا لهذه الإضافة بالقول : على فرض صحّة الحديث ، إلّا أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يتلو سورة النجم وبلغ( أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ) استغلّ بعض المشركين المعاندين هذه الفرصة ، فنادى بلحن خاص «تلك الغرانيق العلى وإنّ شفاعتهن لترتجى» فأشكلوا على الناس بالتشويش على كلام الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . إلّا أنّ الآيات اللاحقة ردّتهم بإدانتها الشديدة لعبادة الأصنام(2) .

ويتّضح أنّ بعضهم وجد في اسطورة الغرانيق نوعا من الرغبة لدى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كسب الوثنيين إلى صفوف المسلمين ، إلّا أنّ هذا القول يعني ارتكاب هؤلاء المفسّرين خطأ كبيرا ، ويدلّ على أنّ هؤلاء المسوّغين للوثنية لم يدركوا موقف الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إزاءها ، رغم أنّ المشهود تاريخيّا هو رفض الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العطاء السخيّ من المشركين مقابل العدول عن رسالته الإسلامية

أو أنّ هؤلاء المبرّرين يتجاهلون ذلك متعمّدين.

__________________

(1) مجمع البيان ، تفسير الفخر الرازي ، القرطبي ، في ظلال القرآن ، تفسير الصافي ، روح المعاني ، والميزان ، وتفاسير أخرى للآيات موضع البحث.

(2) تفسير القرطبي ، المجلّد السابع ، صفحة 447 ـ والمرحوم الطبرسي في مجمع البيان ذكره أيضا كأمر محتمل.

٣٧٨

3 ـ الفرق بين الرّسول والنبي!

هناك أقوال كثيرة في الفرق بين «الرسول» و «النبي» ، وأكثرها قبولا أنّ كلمة الرّسول تطلق على أنبياء لهم رسالات من الله أمروا بنشرها بين الناس ، وألّا يألوا أي جهد في هذا الطريق ، وأن يتحمّلوا الصعاب ولا يبالوا بالتضحية بأرواحهم من أجل رسالتهم.

أمّا كلمة «النبي» فقد اشتّقت من «نبّأ» وهو الذي ينبأ بالوحي الإلهي رغم أنّه لم يكلّف بإبلاغه بشكل واسع. فهو كالطبيب يراجعه المرضى للعلاج وطلب الدواء ، ولكلّ نبي مهمّة تختلف عن مهمة الآخر ، وذلك بمقتضى الأحوال والبيئة التي يعيشها كلّ واحد منهم(1) .

* * *

__________________

(1) تحدّثنا في هذا أيضا في تفسير الآية (124) من سورة البقرة.

٣٧٩

الآيات

( وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) )

التّفسير

الرّزق الحسن :

تحدّثت الآيات السابقة عن محاولات المخالفين في محو الآيات الإلهيّة ، أمّا الآيات التي نقف في ضوئها ، فأشارت إلى هذه المحاولات من قبل أشخاص متعصّبين قساة.

تقول الآية الأولى :( وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550