الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٠

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل7%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 550

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 550 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 206781 / تحميل: 6195
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٠

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

ولا يلتزم بأي قانون ومنطق تجاههم؟!

فهل يمكن ردع هؤلاء المجانين بغير لغة السلاح والقوّة؟!

وهذا ينطبق على من يقول لنا : لماذا لا تساومون الكيان الصهيوني وتفاوضونه؟

الكيان الصهيوني الذي انتهك جميع القوانين الدولية وقرارات المنظمات الدولية التي أقرّتها شعوب العالم ، وسحق ويسحق جميع القوانين البشرية والتعاليم السماوية ، هل يعترف بالمنطق؟!

الكيان الصهيوني الذي قصف المدارس والمستشفيات بالقنابل المحرقة ، فقتل آلاف الأطفال والنساء والشيوخ الآمنين الأبرياء وجعلهم إربا إربا! كيف يخاطب بالمنطق؟

وهكذا الأمر بالنسبة للذين يرون في المعبد والمسجد الذي يبثّ الوعي بين الناس ويقود حركة الجماهير ، منافسا لمصالحه غير المشروعة؟! ويعملون بما لديهم من قوّة لهدمه! فهل يمكن التفاوض سلميّا معهم؟! وإذا نظرنا إلى المجتمع الإنساني نظرة واقعية ووضعنا القضايا الفكرية جانبا ، فلا نجد مفرّا من اللجوء إلى القوّة والسلاح؟!

وليس هذا عجزا في منطقنا ، بل لعدم استعداد الجبابرة لقبول المنطق السليم ، ومتى وجدنا المنطق فاعلا لجأنا إليه.

٢ ـ من هم الذين وعدهم الله بالنصر؟

إنّه لمن الخطأ الإعتقاد بأنّ نصر الله المؤمنين ووعدهم بالدفاع عنهم ـ الذي جاء في الآيات السابقة ومن آيات قرآنية أخرى ـ بعيد عن سنّة الله في خلقه وقوانين الحياة!

ليس الأمر هكذا ، فالله يعدّ بنصرة الذين يعبئون جميع طاقاتهم ليدخلوا

٣٦١

ميدان القتال بكلّ قوّة ، ولهذا نطالع في الآيات السالفة :( لَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ) . فلا يدفع الله الظالمين بإمداداته الغيبيّة وبقدرة الصواعق والزلازل التي يبعثها إلّا في حالات استثنائية ، إنّما يدفع شرّهم عن المؤمنين بمن يدافع عنهم ، أي المؤمنين الحقيقيين.

وعليه فلا يعني الوعد الإلهي بالنصر رفع المسؤولية والتكاسل والتواكل بالاعتماد على ما وعد الله للمؤمنين ، بل يجب التحرّك الواسع لضمان النصر الإلهي وتهيئة مستلزماته.

والجدير بالذكر أنّ هذه المجموعة من المؤمنين لا يتوجّهون إلى الله قبل النصر فقط ، بل بعد النصر أيضا ، فهم( الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ ) يوطّدون علاقتهم مع الله. والنصر لديهم وسيلة لنشر الحقّ والعدل ومكارم الأخلاق.

وخصّصت بعض الرّوايات الآية السابقة بالمهدي (عجّل الله فرجه) وأصحابه أو بآل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشكل عامّ ، فقد جاء في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام حين تفسير الآية( الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ) قال : إنّ هذه الآية( الَّذِينَ إِنْ ) نزلت في آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمهدي (عج) وأصحابه «يملّكهم الله مشارق الأرض ومغاربها ، ويظهر الدين ويميت الله به وبأصحابه البدع والباطل ، كما أمات الشقاة الحقّ ، حتّى لا يرى أين الظلم ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر»(١) .

وقد وردت أحاديث أخرى في هذا المجال ، وهي عبارة عن مصاديق بارزة للآية ولا تمنع عموم الآية ، لا يمكنها منع ، فمفهوم الآية الواسع يشمل جميع المؤمنين والمجاهدين في سبيل الله.

__________________

(١) تفسير علي بن إبراهيم (حسبما نقله تفسير نور الثقلين ، المجلّد الثّالث ، ص ٥٠٦).

٣٦٢

٣ ـ «المحسنين» ، «المخبتين» ، «أنصار الله».

وتأمر الآيات المذكورة أعلاه والتي قبلها أحيانا بتبشير «المحسنين» ، ثمّ تعرفّهم أنّهم من المؤمنين ، وليسوا من الخونة الكفّار

وأحيانا أخرى تتكلّم حول «المخبتين» (المتواضعين) وتصفهم بأنّهم خشّع في الصلاة ، صابرون على المصائب منفقون ممّا وهبهم الله.

وتعدّد هذه الآيات كذلك ميزات «أنصار الله» الذين لا يطغون عند انتصارهم ، بل يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.

وخلاصة هذه الآيات تكشف لنا أنّ المؤمنين الصادقين لهم جميع هذه الخصائص ، فهم من جهة أقوياء في عقيدتهم والتزامهم المسؤولية ، ومن جهة ثانية برهنوا على أنّهم أقوياء ومستقيمون في علاقتهم مع الخالق والخلق وفي مكافحة الفساد.

* * *

٣٦٣

الآيات

( وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٤) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥) )

التّفسير

بئر معطّلة وقصر مشيد!

لقد صدر أمر الجهاد للمسلمين بعد أن ذاقوا ـ كما ذكرت الآيات السابقة ـ مرارة المحنة التي فرضها عليهم أعداء الإسلام الذين آذوهم وطردوهم من منازلهم لا لذنب ارتكبوه ، بل لتوحيدهم الله سبحانه وتعالى.

وقد طمأنت الآيات ـ موضع البحث ـ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين وخفّفت عنهم من جهة ، وبيّنت لهم أنّ العاقبة السيّئة تنتظر الكفرة من جهة أخرى ، فقالت :( وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ ) .

أي إذا كذّبك هؤلاء القوم فلا تبتئس ولا تحزن ، فالأقوام السابقة قد كذّبت

٣٦٤

رسلها أيضا ، وأضافت :( وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ ) .

وكذلك كذّب أهالي مدينة «مدين» نبيّهم «شعيب» ، وكذّب فرعون وقومه نبيّهم «موسى»( وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى ) .

وإنّ هذه المعارضة والتكذيب لن تؤثّر في روحك الطاهرة ونفسك المطمئنة ، مثلما لم تؤثّر في أنبياء كبار قبلك ولم تعق مسيرتهم التوحيديّة ودعوتهم إلى الحقّ والعدل قطّ.

إلّا أنّ هؤلاء الكفرة الأغبياء يتصوّرون إمكانية مواصلة هذه الأساليب المخزية.( فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ ) أجل ، أمهل الله الكافرين ليؤدّوا امتحانهم وليتمّ الحجّة عليهم فأغرقهم بنعمته ، ثمّ حاسبهم حسابا عسيرا.( فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ ) (١) ورأيت كيف أنكرت عليهم أعمالهم ، وبيّنت لهم أعمالهم القبيحة ، لقد سلبت منهم نعمتي وجعلتهم على أسوأ حال سلبتهم سعادتهم الدنيوية وعوّضتهم بالموت.

آخر الآية موضع البحث يبيّن الله تعالى كيفيّة عقاب الكفّار بجملة موجزة ذات دلالة واسعة( فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ ) وأضافت الآية أنّ سقف بيوتها قد باتت أسفل البناء :( فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها ) .

أي إنّ الواقعة كانت شديدة حتّى أنّ السقوف انهارت أوّلا ثمّ الجدران على السقوف( وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ ) فما أكثر الآبار الرويّة بمياهها العذبة ، ولكنّها غارت في الأرض بعد هلاك أصحابها فأصبحت معطّلة لا نفع فيها.

( وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ) (٢) أجل ما أكثر القصور المشيدة التي ارتفعت شاهقة وزينت ،

__________________

(١) النكير تعني الإنكار وهنا تعني فرض العقاب.

(٢) «المشيد» مشتقّة من «شيد» على وزن «عيد» ذات معنيين : أوّلهما الارتفاع ، والثّاني الجصّ ، فتعني لفظة «قصر مشيد» القصر المرتفع.

والمعنى الثّاني القصر الذي بني على أسس ثابتة قويّة ليصان من حوادث الزمان ، وبما أنّ معظم منازل ذلك العصر تبنى من اللبن ، فإنّ المنزل الذي يبنى بالجصّ يكون أقوى من هذه البيوت ويكون متميّزا عنها.

٣٦٥

إلّا أنّها أضحت خرائب بعد أن هلك أصحابها ، والنتيجة إنّهم تركوا مساكنهم وقصورهم المجلّلة ، وأهملوا مياههم وعيونهم التي كانت مصدر حياتهم وعمران أراضيهم وذهبوا. وكذلك الآبار الغنيّة بالماء أصبحت معطّلة لا ماء فيها.

* * *

ملاحظة

ممّا يلفت النظر التّفسير الذي ورد عن أهل البيتعليهم‌السلام حيث فسّروا( وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ ) بالعلماء الذين لا يستفيد منهم المجتمع ، فبقيت علومهم معطّلة.

فقد روي عن الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام في تفسير عبارة( وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ) قوله :«البئر المعطّلة الإمام الصامت ، والقصر المشيد الإمام الناطق» وبهذا المعنى روي أيضا عن الإمام الصادقعليه‌السلام (١) .

وهذا التّفسير نوع من التشبيه (مثلما يشبه المهدي (عج) ناشر العدل في العالم بالماء المعيّن) أي إنّ الإمام عند ما يستقرّ في دست الحكم يكون كالقصر المشيد ، يجلب انتباه الداني والبعيد ويكون ملجأ للجميع. وإذا أبعد عن الحكم وتخلّى الناس عنه ، احتلّ مكانه من لا يستحقّه فيكون عندها كبئر امتلأت ماء ، إلّا أنّها معطّلة لا يستفاد منها فلا تروي عطشانا ولا تسقي زرعا.

ما أحسن ما أنشد الشاعر العربي :

بئر معطّلة وقصر مشرف

مثل لآل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستطرف

فالقصر مجدهم الذي لا يرتقى

والبئر علمهم الذي لا ينزف(٢)

* * *

__________________

(١) تفسير البرهان ، المجلّد الثّالث ، صفحة ـ ٣٠.

(٢) المصدر السابق.

٣٦٦

الآيات

( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨) )

التّفسير

السير في الأرض والعبرة :

تحدّثت الآيات السابقة عن الأقوام الظالمة التي عاقبها الله على ما اقترفت أيديهم فدمّر أحياءهم ، وأكّدت الآية الأولى هذه القضيّة فقالت :( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها ) .

أجل ، تحدّثنا عن خرائب قصور الظلمة ، ومنازل الجبابرة المهدّمة ، وعبدة الدنيا ، فلكلّ واحد منها ألف لسان يحكي لنا بسكونه المسيطر عليه ما حدث في

٣٦٧

زواياه من ظلم وفسق وجور ، ويحدّثنا عن ألف حادثة وحادثة.

إنّ هذه الخرائب كتب ناطقة تتحدّث عن ماضي هؤلاء الأقوام ، ونتائج أعمالهم وسلوكهم في الحياة ، وعن أعمالهم المشؤومة ، وأخيرا عن العقاب الذي صبّه الله عليهم!

إنّ آثار قصور الجبابرة تبعث في روح الإنسان التفكّر والاتّعاظ ، حيث يعوّضنا أحيانا عن مطالعة كتاب ضخم ، ومع أنّ أصل التاريخ يعيد نفسه ، فانّ هذه الآثار تجسّد للإنسان مستقبله أمام عينيه. أجل ، إنّ دراسة آثار القدماء تجعل آذاننا صاغية وأنظارنا ثاقبة. ولهذا السبب يحثّ القرآن المجيد ـ في كثير من آياته ـ المؤمنين على السياحة ، سياحة إلهيّة أخلاقية فيها عبرة لأنفسنا وعظة نحصّلها من دراسة إيوان المدائن وقصور الفراعنة. فمرّة نمرّ عبر دجلة إلى المدائن ، وقد نسكب الدمع بغزارة دجلة على أرض المدائن ، لنسمع نصائح جديدة من شقوق خرائب القصور التي كان عمّارها الملوك الجبابرة ، ولنأخذ منها الدروس والعبر(١) .

ولإيضاح حقيقة هذا الكلام بشكل أفضل قال القرآن المجيد :( فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) .

إنّ الذين يفقدون بصرهم لا يفقدون بصيرتهم ، بل تراهم أحيانا أكثر وعيا من الآخرين. أمّا العمي فهم الذين تعمى قلوبهم ، فلا يدركون الحقيقة أبدا! لهذا يقول الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «شرّ العمى ، عمى القلب! وأعمى العمى عمى القلب»(٢) .

ونطالح حديثا للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كتاب غوالي اللآلي «إذا أراد الله بعبد خيرا فتح عين قلبه فيشاهد بها ما كان غائبا عنه»(٣) .

__________________

(١) شرحنا في تفسير الآية (١٣٧) من سورة آل عمران بإسهاب دراسة تاريخ القدماء عن طريق السياحة والسير في الأرض.

(٢) نور الثقلين ، المجلّد الثّالث ، ص ٥٠٨.

(٣) المصدر السابق ، ص ٥٠٩.

٣٦٨

وهنا يثار سؤال : كيف يقال أنّ القلوب التي في الصدور تدرك الحقائق ، في وقت نعلم فيه أنّ القلب مضخّة للدم ليس إلّا؟!

وقد أجبنا عن هذا في تفسير الآية السابقة من سورة البقرة ، وخلاصته أنّ أحد معاني القلب هو العقل ، ومن معاني الصدر ذات الإنسان.

إضافة إلى أنّ القلب مظهر العواطف ، وكلّما تأثّرت العواطف والإدراكات الروحيّة في الإنسان ، فإنّ أوّل أثرها ينعكس على القلب فتزداد نبضاته ويسرع الدم في جريانه ، ويمنح الجسم نشاطا وحيوية جديدة ، فتنسب الظواهر الروحية إلى القلب ، لأنّه أوّل من يتأثّر بها في جسم الإنسان. (فتأمّلوا جيدا).

وممّا يلفت النظر أنّ الآية المذكورة أعلاه نسبت سبل إدراك الإنسان إلى القلب (العقل) والأذنين ، إشارة إلى أنّه لا سبيل ثالث لإدراك الأشياء والحقائق.

فإمّا أن يتفاعل مع الحدث في أعماق روحه ويسعى لتحليل المسائل بنفسه فيصل إلى النتيجة المتوخّاة ، وإمّا أن يسمع النصيحة من المشفقين الهداة وأنبياء الله وأهل الحقّ ، أو يصل إلى الحقائق عن طريق هذين السبيلين(١) .

وترسم الآية الثّانية ـ موضع البحث ـ صورة أخرى لجهل الأغبياء وعديمي الإيمان فتقول :( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ ) فردّ عليهم ألّا تعجلوا( وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ ) . و «العجول» هو من يخشى فوات الفرصة من يده ، وانتهاء إمكاناتها.

أمّا الله القادر على كلّ شيء منذ الأزل ، فلا حاجة له بالعجلة ، فهو قادر دوما على الوفاء بما عد ، فلا فرق عنده بين الساعة واليوم والسنة :( وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ) .

وسواء أكان حقّا أم باطلا تكرارهم القول : لماذا لم ينزل الله علينا البلاء.

فليعلموا أنّ العذاب يترقّبهم وسينزل عليهم قريبا. فإن أمهلهم الله ، فإنّ ذلك ليعيدوا

__________________

(١) عن تفسير الميزان ، المجلّد الرّابع عشر ، صفحة ٤٢٦.

٣٦٩

النظر في أعمالهم ، وسيغلق باب التوبة بعد نزول العذاب ولا سبيل للنجاة حينذاك.

وهناك تفاسير أخرى لعبارة( وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ) غير ما ذكرنا (وهو تساوي اليوم الواحد والألف سنة بالنسبة إلى قدرته تعالى) منها : قد يلزم ألف عام لإنجازك عملا ما ، والله تعالى ينجزه في يوم أو بعض يوم ، لهذا فإنّ عقابه لا يحتاج إلى مقدّمات كثيرة.

وتفسير آخر يقول : إنّ يوما من أيّام الآخرة كألف عام في الدنيا ، وإنّ جزاء ربّك وعقابه يزداد بهذه النسبة ، لهذا نقرأ في الحديث التالي : «إنّ الفقراء يدخلون الجنّة قبل الأغنياء بنصف يوم ، خمسمائة عام»(١) .

وفي آخر آية نجد تأكيدا على ما سبق أن ذكرته الآيات الآنفة الذكر من إنذار الكفّار المعاندين بأنّه ما أكثر القرى والبلاد التي أمهلناها ولم ننزل العذاب عليها ليفيقوا من غفلتهم ، ولمّا لم يفيقوا وينتبهوا أمهلناهم مرّة أخرى ليغرقوا في النعيم والرفاهية ، وفجأة نزل عليهم العذاب :( وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها ) .

إنّ أولئك الأقوام كانوا مثلكم يشكّون من تأخّر العذاب عليهم ، ويسخرون من وعيد الأنبياء ، ولا يرونه إلّا باطلا ، إلّا أنّهم ابتلوا بالعذاب أخيرا ولم ينفعهم صراخهم أبدا( وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ ) أجل كلّ الأمور تعود إلى الله ، وتبقى جميع الثروات فيكون الله وارثها.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، في تفسير هذه الآية.

٣٧٠

الآيات

( قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٥١) )

التّفسير

الرزق الكريم :

تحدّثت الآيات السابق عن تعجيل الكفر والعذاب الإلهي ، وإنّ ذلك ليس من شأن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنّما يرتبط بمشيئة الله تعالى ، فأوّل آية من الآيات أعلاه تقول :( قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ) .

يخاطب سبحانه وتعالى الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيأمره أن ينذر الناس بعذاب الله إن تخلّفوا عن طاعته.

وممّا لا شكّ فيه أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نذير بشير ، وتأكيد الآية هنا لصفة النذير جاء لملاءمة ذلك مع الخاطبين الكفّار المعاندين الذين يستهزئون بعقاب الله.

وترسم الآيتان التاليتان صورة للبشرى وأخرى للإنذار ، لأنّ رحمة الله واسعة ، فتقدّم على عقاب الله. تتحدّث أوّلا عن البشرى( فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا

٣٧١

الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) يتطهّرون بماء المغفرة الإلهيّة أوّلا ، فتطمئن ضمائرهم ، ثمّ تشملهم نعم الله ورحمته.

عبارة «رزق كريم» (مع ملاحظة أنّ كلمة «كريم» تطلق على أي موجود شريف وثمين) ذات مفهوم واسع يضمّ جميع الأنعم المادية والمعنوية.

أجل ، إنّ الله الكريم يمنّ على عباده المؤمنين الصالحين بأنواع من الرزق الكريم في تلك المنازل الكريمة ، يقول الراغب الاصفهاني في مفرداته : لا يقال الكرم إلّا في المحاسن ، كمن ينفق مالا في تجهيز جيش في سبيل الله ، أو تحمّل حمالة ترقئ دماء قوم. فعلى هذا لا يطلق الكرم على الإحسان الجزئي.

وفسّر البعض الرزق الكريم بالرزق الدائم الذي لا عيب ولا نقص فيه.

وقال آخرون : إنّه الرزق الذي يليق بالمؤمنين الصالحين ، ولا يخفى أنّ المراد من ذلك شامل ويضمّ جميع هذه المعاني. وأضافت الآية السابقة( وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ ) أي إنّ الذين حاولوا تخريب الآيات الإلهيّة ومحوها ، وكانوا يعتقدون بأنّ لهم القدرة على مغالبة إرادة الله المطلقة ، فهم أصحاب الجحيم(١) .

«جحيم» من مادّة «جحم» بمعنى شدّة توقّد النّار ، وتقال كذلك لشدّة الغضب ، فعلى هذا تطلق كلمة (الجحيم) على المكان المشتعل بالنيران ، وهي هنا تشير إلى نار الآخرة.

* * *

__________________

(١) «سعوا» مشتقّة من «السعي» وتعني في الأساس الهرولة ، وهنا المحاولة في تخريب الآيات الإلهية ومحوها. أمّا «المعاجزون» فمتشقّة من «العجز» وتعني هنا الذي يحاول الغلبة على قدرة الله غير المحدودة. وتصوّر بعض المفسّرين أنّ هذا الاحتمال لا يمكنه أن يكون لأي أحد يريد تعجيز الله وقهر إرادته ، وعلى هذا فإنّ كلمة «المعاجزين» نسبوها إلى النّبي والمؤمنين. في الوقت الذي استخدم هذا التعبير في آيات قرآنية أخرى لله ، سورة الجن الآيات (١٢) والتوبة الآية (٢ و ٣) وتعني عمل شخص يتظاهر بقدرته ليس إلّا.

٣٧٢

الآيات

( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٤) )

التّفسير

وساوس الشّياطين في مساعي الأنبياء :

تناولت الآيات السابقة محاولات المشركين والكفرة لمحو التعاليم الإلهيّة والاستهزاء بها ، أمّا الآيات موضع البحث فقد تضمّنت تحذيرا مهمّا حيث قالت : إنّ هذه المؤامرات ليست جديدة ، فالشياطين دأبوا منذ البداية على إلقاء وساوسهم ضدّ الأنبياء.

٣٧٣

في البداية تقول الآية :( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى ) أمرا لصالح الدين والمجتمع وفكّر في خطّة لتطوير العمل( أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) إلّا أنّ الله لم يترك نبيّه وحده إزاء إلقاءات الشياطين( فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ ) .

إنّ هذا العمل يسير على الله تعالى ، لأنّه عليم بجميع هذه المؤامرات الدنيئة ، ويعرف كيف يحبطها( وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) .

إلّا أنّ المؤامرات الشيطانية التي كان يحيكها المشركون والكفرة ، كانت تشكّل ساحة لامتحان المؤمنين والمتآمرين في آن واحد ، إذ تضيف الآية( لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ) .

( وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ ) فهم بعيدون عن الحقّ لشدّة عداوتهم وعنادهم.

وكذلك الهدف من هذا البرنامج :( وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ ) . وطبيعي أنّ الله لا يترك المؤمنين الواعين المطالبين بحقوقهم والمدافعين عن الحقّ وحدهم في هذا الطريق الوعر( وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) .

* * *

بحوث

١ ـ المراد من إلقاءات الشيطان

ما ذكرناه في تفسير الآيات المذكورة أعلاه كان تنسيقا مع آراء بعض الباحثين ، إلّا أنّ هناك احتمالات أخرى في تفسير الآية ، منها أنّ عبارة «تمنّى» و «أمنية» تعني التلاوة والقراءة ، كما جاءت في أشعار العرب بهذا المعنى. لهذا فإنّ تفسير آية( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ ) كان الشياطين (خاصّة شياطين

٣٧٤

الإنس) يلقون بكلمات خلال قراءة كلام الله على الناس لتشويش الأفكار ، ولإبطال أثر القرآن في الهداية والنجاة. إلّا أنّ اللهعزوجل كان يمحو أثر هذه الإلقاءات ويثبت آياته. وينسجم هذا التّفسير مع عبارة( ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ ) وكذلك يساير (وفقا لبعض التبريرات) أسطورة الغرانيق التي سيرد ذكرها.

ولم تستعمل «تمنّي ، وأمنية» بمعنى التلاوة إلّا نادرا ، ولم ترد في القرآن بهذا المعنى قطّ. «تمنّي» مشتقة من «منى» على وزن «مشى» وأصلها تعني التقدير والفرض. وسمّيت نطفة الرجل بـ «المني» لأنّ تقدير كيان الفرد يفرض فيها. ويقال للموت «منيّة» لأنّه يحلّ فيه الأجل المقدّر للإنسان ، ولهذا تستعمل كلمة «تمنّى» لما يصوّره الإنسان في مخيّلته والتي يطمح إلى تحقّقها. وخلاصة القول : إنّ أصل هذه الكلمة هي التقدير والفرض والتصوّر ، أينما استخدمت.

ويمكن ربط معنى التلاوة بهذه الكلمة ، فيقال : التلاوة تشمل التقدير والتصوّر للكلمات ، إلّا أنّها رابطة بعيدة لا أثر لها في كلمات العرب.

أمّا المعنى الذي ذكرناه لتفسير الآية (برامج الأنبياء ومخطّطاتهم للوصول إلى الأهداف الإلهيّة) فإنّه يناسب المعنى الأصلي للكلمة «تمنّى».

وثالث احتمال في تفسير الآية أعلاه هو ما ذكره بعض المفسّرين ورأى فيه أنّه إشارة إلى بعض الأخطار والوساوس الشيطانية التي تلقى في لحظة عبارة في أذهان الأنبياء الطاهرة النيّرة.

وبما أنّهم معصومون ومنصورون بقوّة غيبيّة وإمدادات إلهيّة ، فإنّ الله يمحو أثر هذه الإلقاءات من أفكارهم ويهديهم إلى الصراط المستقيم.

إلّا أنّ هذا التّفسير لا ينسجم مع الآيتين الثّانية والثّالثة ممّا نحن بصدده ، والقرآن اعتبر هذه الإلقاءات الشيطانية وسيلة إمتحان للكفرة والمؤمنين الواعين على السواء ، ولا أثر لها في قلوب الأنبياء لما يمحو الله عنها من إلقاءات الشياطين.

٣٧٥

وبهذا تتّضح ملاءمة التّفسير الأوّل أكثر من غيره ، وهي إشارة إلى نشاط الشياطين وما يلقونه على الأنبياء لتعويق عملهم البنّاء ، غير أنّ الله يبطل ما يفعلون ويمحو ما يلقون.

٢ ـ اسطورة الغرانيق المختلفة!

جاء في بعض كتب السنّة رواية عجيبة تنسب إلى ابن عبّاس ، مفادها أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مشغولا بتلاوة سورة «النجم» في مكّة المكرّمة ، وعند ما بلغ الآيات التي جاء فيها ذكر أسماء أصنام المشركين( أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ) ألقى الشيطان على النّبي هاتين الجملتين وجعلهما على لسانه : (تلك الغرانيق العلى وإنّ شفاعتهنّ لترتجى!) أي إنّهن طيور جميلة ذات منزلة رفيعة ومنها ترتجى الشفاعة(١) !

وقد فرح المشركون بذلك ، وقالوا : إنّ محمّدا لم يذكر آلهتنا بخير حتّى الآن.

فسجد محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسجدوا هم أيضا ، فنزل جبرائيلعليه‌السلام على الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم محذّرا من أنّه لم ينزل هاتين الآيتين وأنّهما من إلقاءات الشيطان. وهنا أنزل عليه الآيات موضع البحث( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ ) محذّرا الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين(٢) . ورغم أنّ عددا من أعداء الإسلام نقلوا هذا الحديث وأضافوا عليه ما يحلو لهم للمساس برسالة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقرآن ، إلّا أنّه مختلق يبغي النيل من القرآن وأحاديث الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وهناك أدلّة دامغة عديدة تؤكّد اختلاق شياطين الإنس لهذا الحديث :

أوّلا : ذكر الباحثون ضعف رواته وعدم الثقة بهم ، ولا دليل على أنّه من رواية

__________________

(١) «الغرانيق» جمع غرنوق ، على وزن بهلول ، طائر يعيش في الماء أبيض أو أسود اللون ، كما جاء بمعان أخرى «قاموس اللغة».

(٢) جاء ذكر هذا الحديث نقلا عن جماعة من حفّاظ أهل السنّة في تفسير الميزان.

٣٧٦

ابن عبّاس. وقد صنّف محمّد بن إسحاق كتابا أكّد فيه اختلاق الزنادقة لهذا الحديث(١) .

ثانيا : ذكرت الكتب الإسلامية أحاديث عديدة عن نزول سورة النجم وسجود النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين ، ولم تذكر شيئا عن هذا الحديث المختلق. وهذا يدلّ على إضافة هذه الجملة إليه فيما بعد(٢) .

ثالثا : تنفي آيات مطلع سورة النجم بصراحة هذه الخرافة( وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى ) .

كيف تنسجم هذه الاسطورة مع هذه الآية التي نزّهت وعصمت الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

رابعا : استنكرت الآيات التالية للآية التي سمّت أوثان المشركين والأصنام ، وبيّنت قبحها وسخفها ، فقد ذكرت بصراحة( إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ ) وقد جاءهم من ربّهم الهدى ، ومع كلّ هذا الذّم للأصنام ، كيف يمكن مدحها؟! إضافة إلى أنّ القرآن المجيد ذكر بصراحة أنّ الله يحفظه من كلّ تحريف( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) (٣) .

خامسا : إنّ جهاد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للأصنام جهاد مستمر طوال حياته ولم يقبل المساومة قطّ.

وقد رفض الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأوثان ، وبرهنت سيرته المطهّرة على استنكارها والتصدّي لها ، حتّى في أصعب الظروف ، فكيف ينطق بمثل هذه الكلمات؟!

سادسا : إنّ الكثير من غير المسلمين الذين لا يعتقدون بأنّ النّبي محمّداصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) التّفسير الكبير للفخر الرازي ، المجلّد الثّالث والعشرون ، صفحة ٥٠.

(٢) المصدر السابق.

(٣) سورة الحجر ، ٩.

٣٧٧

مرسل من الله ، يعترفون بأنّه إنسان مفكّر واع حقّق أعطم الانتصارات. فهل يمكن لمن شعاره الأساس «لا إله إلّا الله» ، وجهاده الرافض لأيّ نوع من أنواع الشرك والوثنيّة. وحياته برهان على الإباء ورفض الأصنام ، يترك فجأة سيرته تلك ليشيد بالأوثان؟!

ومن كلّ هذا نستنتج أنّ اسطورة الغرانيق من وضع أعداء سذّج ومخالفين لا يخافون الله ، اختلقوا هذا الحديث لإضعاف منزلة القرآن والرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لهذا نفى جميع الباحثين الإسلاميين من السنّة والشيعة هذا الحديث بقوّة واعتبروه مختلقا(١) .

وذكر بعض المفسّرين تبريرا لهذه الإضافة بالقول : على فرض صحّة الحديث ، إلّا أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يتلو سورة النجم وبلغ( أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ) استغلّ بعض المشركين المعاندين هذه الفرصة ، فنادى بلحن خاص «تلك الغرانيق العلى وإنّ شفاعتهن لترتجى» فأشكلوا على الناس بالتشويش على كلام الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . إلّا أنّ الآيات اللاحقة ردّتهم بإدانتها الشديدة لعبادة الأصنام(٢) .

ويتّضح أنّ بعضهم وجد في اسطورة الغرانيق نوعا من الرغبة لدى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كسب الوثنيين إلى صفوف المسلمين ، إلّا أنّ هذا القول يعني ارتكاب هؤلاء المفسّرين خطأ كبيرا ، ويدلّ على أنّ هؤلاء المسوّغين للوثنية لم يدركوا موقف الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إزاءها ، رغم أنّ المشهود تاريخيّا هو رفض الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العطاء السخيّ من المشركين مقابل العدول عن رسالته الإسلامية

أو أنّ هؤلاء المبرّرين يتجاهلون ذلك متعمّدين.

__________________

(١) مجمع البيان ، تفسير الفخر الرازي ، القرطبي ، في ظلال القرآن ، تفسير الصافي ، روح المعاني ، والميزان ، وتفاسير أخرى للآيات موضع البحث.

(٢) تفسير القرطبي ، المجلّد السابع ، صفحة ٤٤٧ ـ والمرحوم الطبرسي في مجمع البيان ذكره أيضا كأمر محتمل.

٣٧٨

٣ ـ الفرق بين الرّسول والنبي!

هناك أقوال كثيرة في الفرق بين «الرسول» و «النبي» ، وأكثرها قبولا أنّ كلمة الرّسول تطلق على أنبياء لهم رسالات من الله أمروا بنشرها بين الناس ، وألّا يألوا أي جهد في هذا الطريق ، وأن يتحمّلوا الصعاب ولا يبالوا بالتضحية بأرواحهم من أجل رسالتهم.

أمّا كلمة «النبي» فقد اشتّقت من «نبّأ» وهو الذي ينبأ بالوحي الإلهي رغم أنّه لم يكلّف بإبلاغه بشكل واسع. فهو كالطبيب يراجعه المرضى للعلاج وطلب الدواء ، ولكلّ نبي مهمّة تختلف عن مهمة الآخر ، وذلك بمقتضى الأحوال والبيئة التي يعيشها كلّ واحد منهم(١) .

* * *

__________________

(١) تحدّثنا في هذا أيضا في تفسير الآية (١٢٤) من سورة البقرة.

٣٧٩

الآيات

( وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٥٧) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩) )

التّفسير

الرّزق الحسن :

تحدّثت الآيات السابقة عن محاولات المخالفين في محو الآيات الإلهيّة ، أمّا الآيات التي نقف في ضوئها ، فأشارت إلى هذه المحاولات من قبل أشخاص متعصّبين قساة.

تقول الآية الأولى :( وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ

٣٨٠

بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ) بديهي أنّ الآية هنا قصدت فئة من الكفّار لا الكفّار كلّهم ، لأنّ الكثير منهم أسلموا والتحقوا بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبصفوف المسلمين.

قصدت الآية زعماء الكفّار والمعاندين والمتعصّبين بقوّة والحاقدين الذين لم يؤمنوا قطّ ، واستمرّوا في عرقلة المسيرة الإسلامية.

وتعني كلمة «مرية» الشكّ والترديد ، وتبيّن لنا الآية أنّ هؤلاء الكفرة لم يكونوا يوما على يقين ببطلان الإسلام ودعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالرغم من إظهارهم لذلك في كلماتهم ، بل كانوا في شكّ من القرآن والإسلام ، إلّا أنّ تعصّبهم كان يحول دون توصّلهم إلى الحقيقة.

أمّا «الساعة» فقد ذهب البعض إلى أنّها تعني الموت ونظيره ، إلّا أنّ الآيات اللاحقة بيّنت أنّ القصد ختام العالم وعشيّة يوم القيامة ، والتي رافقت كلمة «بغتة».

ويقصد بـ( عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ) عقاب يوم القيامة ، وقد وصف يوم القيامة بالعقم لأنّه لا يوم يليه لينهض المرء للقيام بأعمال خيّرة تعوّض عمّا فاته وتؤثّر في مصيره.

ثمّ أشارت الآية التالية إلى السيادة المطلقة لربّ العالمين يوم القيامة( الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ) وهذا أمر ملازم لله الحاكم الدائم والمالك المطلق ، وليس ليوم القيامة فقط ، بل هو على مدى الزمان ، وبما أنّ في الدنيا مالكين وحكّاما آخرين رغم محدودية ملكياتهم وسلطانهم ورغم أنّها ملكية ظاهرية وسلطان شكلي ، إلّا أنّه قد يولد تصوّرا بأنّ هناك حكّاما ملّاكا غير الله. ولكنّ كلّ هذا يزول وتتّضح حقيقة وحدانية المالك والحاكم يومئذ.

وبتعبير آخر : هناك نوعان من السيادة والملكية : السيادة الحقيقيّة ، وهي للخالق على المخلوق ، والسيادة الاعتبارية الناتجة عن اتّفاق بين الناس ، ويوجد كلا هذا النوعان في الدنيا ، ولكن تزول الحكومات الاعتبارية كلّها يوم القيامة ،

٣٨١

وتبقى السيادة الحقيقيّة لخالق العالم(1) .

وعلى أي حال ، فإنّ الله هو المالك الحقيقي ، فهو إذن الحاكم الحقيقي ، وتعمّ حكومته على المؤمنين والكافرين على السواء ، ونتيجة ذلك كما يقول القرآن المجيد :( فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) الجنّات التّي تتوفّر فيها جميع المواهب وكلّ الخيرات والبركات.

ويضيف القرآن الكريم( وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ ) ما أجمل هذا التعبير! عذاب يذلّ الكفرة والذين كذّبوا بآيات الله ، أولئك الذين عاندوا الله واستكبروا على خلقه يهينهم الله. وقد وصف القرآن العذاب بـ «الأليم» و «العظيم» و «المهين» في آيات مختلفة ، ليلائم كلّ واحد منه الذنب الذي اقترفه المعاندون!.

وممّا يلفت النظر أنّ القرآن المجيد أشار في حديثه عن المؤمنين إلى أمرين «الإيمان» و «العمل الصالح» ، وفي المقابل أشار في حديثه عن الكافرين إلى «الكفر» و «التكذيب بآيات الله» ، وهذا يعني أنّ كلّ منهما متركّب من إعتقاد داخلي وأثر خارجي يبرز في عمل الإنسان ، حيث إنّ لكلّ عمل إنساني أساسا فكريا.

وبما أنّ الآيات السابقة تناولت المهاجرين من الذين طردوا من ديارهم وسلبت أموالهم ، لأنّهم قالوا : ربّنا الله ، ودافعوا عن شريعته ، فقد اعتبرتهم الآية التالية مجموعة ممتازة جديرة بالرزق الحسن وقالت :( وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) .

قال بعض المفسّرين : إنّ «الرزق الحسن» هو النعم التي تشدّ نظر الإنسان إليها عند مشاهدته لها فلا يدير طرفه عنها ، وإنّ الله وحده هو القادر على أن يمنّ

__________________

(1) الميزان ، المجلّد الرّابع عشر ، ص 433.

٣٨٢

على الإنسان بهذا النوع من الرزق

ذكر بعض المفسّرين سببا لنزول هذه الآية خلاصته : «لمّا مات عثمان بن مظعون وأبو سلمة بن عبد الأسد ، قال بعض الناس : من قتل في سبيل الله أفضل ممّن مات حتف أنفه ، فنزلت هذه الآية مسوّية بينهم ، وإنّ الله يرزق جميعهم رزقا حسنا ، وظاهر الشريعة يدلّ على أنّ المقتول أفضل. وقد قال بعض أهل العلم : إنّ المقتول في سبيل الله والميّت في سبيل الله شهيد»(1) .

وعرضت الآية الأخيرة صورة من هذا الرزق الحسن «لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ » فإذا طردوا من منازلهم في هذه الدنيا ولاقوا الصعاب ، فإنّ الله يأويهم في منازل طيّبة في الآخرة ترضيهم من جميع الجهات ، وتعوّضهم ـ على أفضل وجه ـ عمّا ضحّوا به في سبيل الله.

وتنتهي هذه الآية بعبارة( وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ) أجل ، إنّ الله عالم بما يقوم به عباده ، وهو في نفس الوقت حليم لا يستعجل في عقابهم ، من أجل تربية المؤمنين في ساحة الامتحان هذه ، وليخرجوا منها وقد صلب عودهم وازدادوا تقرّبا إلى الله.

* * *

__________________

(1) «الجامع لأحكام القرآن» لأبي عبد الله محمّد بن أحمد الأنصاري القرطبي ، المجلّد 11 ـ 12 ، ص 88.

٣٨٣

الآيات

( ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) )

سبب النّزول

روي أنّ عددا من المشركين من أهل مكّة واجهوا المسلمين ولم يبق لانتهاء شهر المحرّم إلّا يومان. قال المشركون بعضهم لبعض : إنّ أصحاب محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يحاربون في شهر المحرّم. ولهذا بدأوا بمهاجمة المسلمين ، ورغم إلحاح المسلمين عليهم بإيقاف القتال ، لم يعطوا أذنا صاغية لهذا الطلب ، فاضطرّ المسلمون إلى قتالهم ببطولة فريدة فنصرهم الله ، وهنا نزلت أوّل آية من الآيات المذكورة آنفا(1) .

__________________

(1) «مجمع البيان» و «الدرّ المنثور» في تفسير الآيات موضع البحث.

٣٨٤

التّفسير

من هم المنتصرون؟

حدّثتنا الآيات السابقة عن المهاجرين في سبيل الله ، وما وعدهم الله من رزق حسن يوم القيامة. ومن أجل ألّا يتصورّ المرء أنّ الوعد الإلهي يختصّ بالآخرة فحسب ، تحدّثت الآية ـ موضع البحث ـ في مطلعها عن انتصارهم في ظلّ الرحمة الإلهيّة في هذا العالم :( ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ ) إشارة إلى أنّ الدفاع عن النفس ومجابهة الظلم حقّ طبيعي لكلّ إنسان.

وعبارة «بمثل» تأكيد لحقيقة أنّ الدفاع لا يجوز له أن يتعدّى حدوده.

عبارة( ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ ) هي أيضا إشارة إلى وعد الله بالانتصار لمن يظلم خلال الدفاع عن نفسه ، وعلى هذا فالساكت عن الحقّ والذي يقبل الظلم ويرضخ له ، لم يعده الله بالنصر ، فوعد الله بالنصر يخصّ الذين يدافعون عن أنفسهم ويجابهون الظالمين والجائرين ، فهم يستعدّون بكلّ ما لديهم من قوّة لمجابهة هذا الظلم.

ويجب أن تمتزج الرحمة والسماح بالقصاص والعقاب لتكسب النادمين والتائبين إلى الله ، حيث تنتهي الآية بـ( إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ) .

وتطابق هذه الآية آية القصاص حيث منحت ولي القتيل حقّ القصاص من جهة وأفهمته أنّ العفو فضيلة (للجديرين بها) من جهة أخرى.

وبما أنّ الوعد بالنصر الذي يقوي القلب لا بدّ وأن يصدر من مقتدر على ذلك.

لهذا تستعرض الآية قدرة الله في عالم الوجود التي لا تنتهي ، فتقول :( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ ) فما أن يقل من أحدهما حتّى يزداد في الآخر وفق نظام مدروس.

كلمة «يولج» مشتقّة من «الإيلاج» وهو في الأصل من الولوج أي الدخول.

وهذه العبارة ـ كما قلنا ـ تشير إلى التغييرات التدريجيّة المنظّمة تنظيما تامّا ،

٣٨٥

كمسألة الليل والنهار ، فما يقلّ أحدهما إلّا ليزداد الآخر على مدى فصول السنة.

وربّما تكون إشارة إلى شروق الشمس وغروبها الذي لا يحدث فجأة بسبب الظروف الجويّة الخاصّة (بالهواء المحيط بالأرض) حيث تمتدّ أشعّة الشمس في البداية نحو طبقات الهواء العليا ، ثمّ تنتقل إلى الطبقات السفلى. وكأنّ النهار يلج في الليل ويطرد جيش قوى الظلام.

وعكس ذلك ما يقع حين الغروب ، حيث تلملم أشعّة الشمس خيوطها من الطبقات السفلى للأرض ، فيسودها الظلام تدريجيّا حتّى ينتهي آخر خيط من أشعّة الشمس ويسيطر جيش الظلام على الجميع. ولو لا هذه الظاهرة ، فسيكون الشروق والغروب على حين غرّة ، فيلحق الأذى بالإنسان جسما وروحا ، ويحدث هذا التغيير السريع أيضا مشاكل كثيرة في النظام الاجتماعي.

ولا مانع من إشارة الآية السالفة الذكر إلى هذين التّفسيرين.

وتنتهي الآية بـ( وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) أجل ، إنّ الله يلبّي حاجة المؤمنين ، ويطّلع على حالهم وأعمالهم ، ويعينهم برحمته عند اللزوم. مثلما يطّلع على أعمال ومقاصد أعداء الحقّ.

وآخر آية من الآيات السالفة الذكر في الواقع دليل على ما مضى حيث تقول :( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) .

إن شاهدتم انتصار الحقّ وهزيمة الباطل ، فإنّ ذلك بلطف الله الذي ينجد المؤمنين ويترك الكافرين لوحدهم.

إنّ المؤمنين ينسجمون مع قوانين الوجود العامّة ، بعكس الكافرين الذين يكون مآلهم إلى الفناء والعدم بمخالفتهم تلك القوانين. والله حقّ وغيره باطل.

وجميع البشر والمخلوقات التي ترتبط بشكل ما بالله تعالى هي حقّ أيضا. أمّا

٣٨٦

غيرها فباطل بمقدار ابتعادها عنهعزوجل (1) .

وكلمة «عليّ» مشتقّة من «العلو» بمعنى ذي المنزلة الرفيعة ، وتطلق أيضا على القادر والقاهر الذي لا تقف أمامه قدرة.

أمّا كلمة «الكبير» فهي إشارة إلى سعة علم الله وقدرته ، وطبيعي أنّ من يملك هذه الصفات بإمكانه مساعدة أحبّائه وتدمير أعدائه ، إذن فليطمئن المؤمنون إلى ما وعدهم الله تعالى.

* * *

__________________

(1) نقرأ في «الميزان» أنّ إطلاق الحقّ على الله والباطل على غيره ، لأنّ الحقّ الذي لم يختلط بباطل أبدا هو الله سبحانه وتعالى ، أو لكونه عزوجل مستقلا في حقّانيته والآخرون تابعين له.

٣٨٧

الآيات

( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (66) )

التّفسير

دلائل الله في ساحة الوجود :

تحدّثت الآيات السابقة عن قدرة الله غير المحدودة وأنّه الحقّ المطلق ، وبيّنت هذه الآيات الأدلّة المختلفة على هذه القدرة الواسعة والحقّ المطلق وتقول أوّلا :( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً ) .

لقد اخضّرت الأرض المرتدية رداء الحزن ـ من أثر الجفاف ـ بعد ما نزل

٣٨٨

المطر عليها. فأصبحت تسرّ الناظرين. أجل( إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ) . وكلمة «لطيف» مشتقّة من «اللطف» بمعنى العمل الجميل الذي يمتاز برقّته. ولهذا يطلق على الرحمة الإلهيّة الخاصّة لفظ «اللطف». وكلمة «الخبير» تعني المطّلع على الأمور الدقيقة.

وبلطف الله تنمو البذرة تحت الأرض ، ثمّ ترتفع خلافا لقانون جاذبية الأرض ، وترى الشمس وتشمّ نسيم الهواء حتّى تصبح نباتا مثمرا أو شجرة باسقة.

وهو الذي أنزل المطر فمنح التربة الجافّة لطفا ورقة لتسمح للبذرة بالحركة والنمو. وهو خبير بجميع الاحتياجات والمراحل التي تمرّ بها هذه البذرة حتّى ترتفع نحو السّماء. يرسل الله المطر بقدرة وبخبرة منه ، فإن زاده صار سيلا ، وإن نقصه كثيرا ساد الجفاف في الأرض ، وتقول الآية الثامنة عشرة من سورة المؤمنين :( وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ ) (1) .

الآية التالية تعرض علامة أخرى على قدرة الله غير المتناهية ، وهو قوله سبحانه وتعالى:( لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ) .

فهو سبحانه خالق الجميع ومالكهم ، وبهذا الدليل يكون قادرا عليهم ، لذا فهم يحتاجون إليه جميعا ، ولا يحتاج هو إلى شيء أو إلى أحد.

ويزداد هذا المعنى إشراقا في قوله سبحانه :( وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) والتحام صفتي الغني والحمد جاء في غاية الإحكام :

أوّلا : لأنّ عددا كبيرا من الناس أغنياء ، إلّا أنّهم بخلاء يستغلّون الآخرين ويعملون لذاتهم فقط ، وقد غرقوا في الغفلة والغرور. وتغلّب على أصحاب الثروة الطائلة هذه الصفات. أمّا غنى الله سبحانه فهو مزيج من اللطف والسماء والجود والكرم ، لذا استحقّ الحمد والثناء من عباده.

__________________

(1) بحثنا في تفسير الآية (103) من سورة الأنعام حول لطف الله. فعلى الراغب مراجعته.

٣٨٩

ثانيا : إنّ الأغنياء غيّر الله تعالى غناهم ظاهري ، وإذا كانوا كرماء فإنّ كرمهم في الواقع ليس منهم ، بل من لطف الله سبحانه وقديم إحسانه ، فكلّ إمكاناتهم إنّما هي من أنعم الله. فالله وحده هو الغني بذاته والجدير بكلّ حمد وثناء.

ثالثا : لأنّ الأغنياء يعملون ما يفيدهم أو يتوخّون فائدته ، أمّا ربّ العالمين سبحانه وتعالى ، فيجود ويرحم ويعفو دون حساب ، ولا ابتغاء فائدة ، ولا سدّ حاجة ، وإنّما يفعل ذلك كرما منه ورحمة ، فهو أهل الحمد والثناء بلا شريك.

وتشير الآية التالية إلى نموذج آخر من تسخير الله تعالى الوجود للإنسان( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ ) وجعل تحت اختياركم جميع المواهب والإمكانات فيها لتستفيدوا منها بأي صورة تريدون ، وكذلك جعل السفن والبواخر التي تتحرّك وتمخر عباب البحار بأمره نحو مقاصدها.( الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ) إضافة إلى( وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) فالكواكب والنجوم تسير في مدارات محدّدة بأمر الله سبحانه وتعالى ، كلّ ذلك لتسير في فاصلة محدّدة لها عن الكواكب الاخرى ، وتمنع اصطدام بعضها ببعض.

وخلق الله طبقات جويّة حول الأرض لتحول دون وصول الأحجار السائبة في الفضاء إلى الأرض وإلحاق الضرر بالبشر.

وذلك من رحمة الله لعباده ولطفه بهم ، فقد خلق الأرض آمنة لعباده ، فلا تصل إليهم الأحجار السائبة في الفضاء ، ولا تصطدم الأجرام الأخرى بالأرض. وهذا ما نلمسه في ختام الآية المباركة( إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ) .

وتتناول الآية الأخيرة أهمّ قضيّة في الوجود ، أي قضيّة الحياة والموت فتقول :( وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ) أي كنتم ترابا لا حياة فيه فألبسكم لباس الحياة( ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ) وبعد انقضاء دورة حياتكم يميتكم( ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ) أي يمنحكم حياة جديدة يوم البعث.

وتبيّن الآية ميل الإنسان إلى نكران نعم الله عليه قائلة :( إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ )

٣٩٠

فرغم كلّ ما أغدق الله على الإنسان من أنعم في الأرض والسّماء ، في الجسم والروح ، لا يحمده ولا يشكره عليها ، بل يكفر بكلّ هذه النعم. ومع أنّه يرى كلّ الدلائل الواضحة والبراهين المؤكدة لوجود الله تبارك وتعالى ، والشاهدة بفضله عليه وإحسانه إليه ينكر ذلك. فما أظلمه وأجهله!

* * *

ملاحظات

1 ـ الصفات الخاصّة بالله :

بيّنت الآيات السالفة الذكر والآيتان اللتان سبقتها ، أربع عشرة صفة من صفات الله (في نهاية كلّ آية جاء ذكر صفتين من صفات الله) العليم والحليم ـ العفو والغفور ـ السميع والبصير ـ العلي والكبير ـ اللطيف والخبير ـ الغني والحميد ـ الرؤوف والرحيم. وكلّ صفة تكمل ما يقترن بها. وتنسجم معها وتتناسب مع البحث الذي تناولته الآية ، كما مرّ سابقا.

2 ـ الآيات تدلّ على توحيد الله وعلى المعاد

إنّ الآيات السابقة ، مثلما هي دليل على قدرة الله تعالى وتأكيد لما وعد من نصر لعباده المؤمنين ، وشاهد على حقّانيته المقدّسة التي استندت الآيات السالفة الذكر إليها ، فهي دليل على توحيد الله وعلى المعاد ، فإحياء الأرض بالمطر بعد موتها ، ونموّ النبات فيها ، وكذلك حياة الإنسان وموته شاهد على البعث والنشور.

ومعظم الآيات عرضت هذه الأدّلة في البرهنة على حقيقة المعاد يوم القيامة.

وقوله تعالى :( إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ ) تأكيد على إصرار المعاندين على الكفر ، ففي صيغة المبالغة «كفور» دلالة على هذا العناد ، فهذا الإنسان منكر لفضل ربّه مع مشاهدته لآياته العظيمة ، ومصرّ على الانحراف عن هداه ونور رحمته الواسعة.

٣٩١

3 ـ تسخير الأرض والسّماء للإنسان :

لقد سخّر الله هذه الموجودات للإنسان وذلّلها لمصالحه. (وقد بيّنا هذا الموضوع مفصّلا في تفسير الآية (12) إلى (14) من سورة النحل ، وفي تفسير الآية الثّانية من سورة الرعد).

وجاء ذكر السفن في البحار والمحيطات بين النعم ، لأنّها كانت أهمّ وسيلة للنقل والتجارة ، ولم تحلّ محلّها أيّة وسيلة أرخص منها حتّى الآن. ولو توقّفت هذه السفن يوما لا ختلّت منافع البشر ، فالطرق البريّة لا تسدّ حاجة الإنسان إلى النقل والانتقال ، خاصّة في العصر الحاضر الزاخر بالاحتياج إلى النفط المحمول في السن التي لا تفتر عن الحركة ، لتدير عجلة الصناعة في العالم. ولقد تجلّت هذه النعمة اليوم أكثر ، فما تعدل عشرات الآلاف من الصهاريج السيّارة في البرّ ناقلة نفط عملاقة ، ونقل النفط بواسطة الأنابيب النفطيّة لا يستوعب إلّا مناطق محدودة من العالم.

* * *

٣٩٢

الآيات

( لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (68) اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (70) )

التّفسير

لكلّ أمّة عبادة :

تناولت البحوث السابقة المشركين خاصّة ، ومخالفي الإسلام عامّة ، ممّن جادلوا فيما أشرق به الإسلام من مبادئ نسخت بعض تعاليم الأديان السابقة.

وكانوا يرون من ذلك ضعفا في الشريعة الإسلامية ، وقوّة في أديانهم ، في حين أنّ ذلك لا يشكل ضعفا إطلاقا ، بل هو نقطة قوّة ومنهج لتكامل الأديان ولذا جاء الفصل الربّاني جلّيا( لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ ) (1) .

__________________

(1) يرى بعض المفسّرين أنّ هذه الآيات تشير إلى ردّ لما أثاره المشركون من اعتراض قائلين : لماذا لا تأكلون الميتة التي قتلها

٣٩٣

«المناسك» ـ كما قلنا سابقا ـ جمع «منسك» أي مطلق العبادات ، ومن الممكن أن تشمل جميع التعاليم الإلهيّة. لهذا فإنّ الآية تبيّن أنّ لكلّ امّة شرعة ومنهاجا يفي بمتطلّباتها بحسب الأحوال التي تعيشها ، لكنّ ارتقاءها يستوجب تعاليم جديدة تلبّي مطامحها المترقّية ، وهذا ما صدعت به الآية المباركة وأنارته قائلة :( فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ ) . فبما تقدّم لا ينبغي لهم منازعتك في هذا الأمر.

( وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ ) . تخاطب الآية النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يا أيّها النّبي لا يؤثّر هؤلاء في دعوتك الراشدة باعتراضاتهم الضّالة ، فالمهتدي إلى الصراط المستقيم أقوى من الضارب في التيه.

فوصف «الهدى» بالاستقامة ، إمّا تأكيدا لها ، وإمّا إشارة إلى أنّها يمكن أن تتحقّق بطرق مختلفة ، قريبها وبعيدها ، مستقيمها وملتويها ، إلّا أنّ الهداية الإلهيّة أقربها وأكثرها استقامة.

ثمّ أضافت الآية( وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ ) فلو استمرّوا في جدالهم ومنازعتهم معك ، ولم يؤثّر فيهم كلامك. فقل لهم : انّ الله أعلم بأعمالكم ، وستحشرون إليه في يوم يعود الناس فيه إلى التوحيد ، وتحلّ جميع الاختلافات لظهور الحقائق لجميع الناس :( اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ (يَوْمَ الْقِيامَةِ) فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) (1) .

وبما أنّ القضاء بين العباد يوم القيامة بحاجة إلى علم واسع بهم واطّلاع دقيق بأعمالهم ، ختمت الآيات هاهنا بقوله تعالى :( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ ) و( إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ ) .

__________________

الله ، في وقت تأكلون فيه الميتة التي قتلتموها أنتم؟! فنزلت هذه الآيات لتردّ عليهم.

إلّا أنّه يستبعد أن تتضمّن هذه الآيات ذلك. لأنّ أكل الميتة لم تسمح به شريعة ـ في الظاهر ـ لما فيه من ضرر ، حتّى يأتي القرآن ليؤيّد ذلك ويقول : لكلّ شريعة تعاليمها.

(1) هذه الآية قد تخاطب المخالفين للإسلام والنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعلى هذا فإنّ عبارة( اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ ) قول الله على لسان نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويمكن أن تخاطب جميع المسلمين والمخالفين ، وعلى هذا تكون هذه الآية ذات بيان خاص موجّه من الله إلى الجميع.

٣٩٤

أجل ، إنّ جميع ذلك قد ثبت في كتاب علم الله الذي لا حدود له ، كتاب عالم الوجود وعالم العلّة والمعلول ، عالم لا يضيع فيه شيء ، فهو في تغيير دائم ، حتّى لو خرجت أمواج صوت ضعيف من حنجرة إنسان قبل ألفي عام فانّها لا تنعدم ، بل تبقى في هذا الكتاب الجامع لكلّ شيء بدقّة. أي إنّ كلّ ما يجري في هذا الكون مسجّل في لوح محفوظ هو لوح العلم الإلهي ، وكلّ هذه الموجودات حاضرة بين يدي الله سبحانه بجميع صفاتها وخصائصها. وهذا من معاني القدرة الإلهيّة التي نلمسها في قوله تعالى :( إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ) .

* * *

٣٩٥

الآيات

( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) )

التّفسير

معبودات أضعف من ذبابة!

تابعت هذه الآيات الأبحاث السابقة عن التوحيد والشرك ، فتحدّثت ثانية عن المشركين وأفعالهم الخاطئة ، فتقول الآية الأولى :( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ

٣٩٦

يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً ) وهذا يبيّن بطلان عقيدة الوثنيين الذين كانوا يرون أنّ الله سمح لهم بعبادة الأوثان وأنّها تشفع لهم عند الله. وتضيف الآية( وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ ) أي يعبدون عبادة لا يملكون دليلا على صحّتها لا من طريق الوحي الإلهي ، ولا من طريق الاستدلال العقلي ، ومن لا يعمل بدليل يظلم نفسه وغيره ، ولا أحد يدافع عنه يوم الحساب ، لهذا تقول الآية في ختامها :( وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ) .

قال بعض المفسّرين : إنّ النصير هنا الدليل والبرهان ، لأنّ المعيّن الحقيقي هو الدليل ذاته(1) .

كما يحتمل أن يكون النصير مرشدا ومكمّلا للبحث السابق ، أي أنّ المشركين لا يدعمهم دليل إلهي ولا عقلي ، وليس لهم قائد ولا مرشد ولا معلّم يهديهم ويسدّدهم للحقّ الذي فقدوا حمايته والاستنارة به ، بظلمهم أنفسهم ، ولا خلاف بين هذه التفاسير الثلاثة التي يبدو أنّ أوّلها أكثر وضوحا من غيره.

وتشير الآية الثّانية موضع البحث إلى عناد الوثنيين واستكبارهم عن الاستجابة لآيات الله تعالى ، في جملة وجيزة لكنّها ذات دلالات كبيرة :( وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ ) (2) .

وهنا يسفر التناقض بين المنطق القرآني القويم وتعصّب الجاهلية الذي لا يرضخ للحقّ ولا يفتح قلبه لندائه الرحيم ، فما تليت عليهم آيات ربّهم إلّا ظهرت علائم الاستكبار عنها في وجوههم حتّى إنّهم( يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا ) أي كأنّهم يريدون مهاجمة الذين يتلون عليهم آيات الله ـعزوجل ـ وضربهم بقبضات أيديهم ، تنفيسا عن التكبّر البغيض في قرارة أنفسهم.

كلمة «يسطون» مشتقّة من «السطوة» أي رفع اليد ومهاجمة الطرف الآخر ، وهي في الأصل ـ كما قال الراغب الاصفهاني في مفرداته ـ قيام الفرس على

__________________

(1) الميزان ، وتفسير الفخر الرازي ، في تفسير الآية موضع البحث.

(2) «المنكر» مصدر ميمي يعني الإنكار ، وبما أنّ الإنكار أمر باطني لا يمكن مشاهدته ، فالمراد هنا علائمه ونتائجه.

٣٩٧

رجليه ورفع يديه ، ثمّ استعملت بالمعنى الذي ذكرناه.

ولو فكّر الإنسان منطقيّا لما أغضبه حديث لا يرضاه ، ولما ثار مقطّبا متهيّئا للهجوم على محدّثه مهما خالفه. بل يحاول ردّه ببيان منطقي.

وانفعال المشركين على النحو المتقدّم دليل على انهيار تفكيرهم وغلبة الجهل والباطل عليهم.

وعبارة( يَكادُونَ يَسْطُونَ ) التي تتألّف من فعلين مضارعين ، دليل على استمرار حالة الهجوم والسباب في ذات المشركين وتأصّلها فيهم ، فتارة يفعلونه ، وأخرى تبدو علائمه على وجوههم حين لا تسمح به الأحوال.

وقد أمر القرآن المجيد الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجبه هؤلاء المتغطرسين هاتفا( قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ ) (1) .

أي إن زعمتم أنّ هذه الآيات البيّنات شرّ ، لأنّها لا تنسجم مع أفكاركم المنحرفة ، فإنّني أخبركم بما هو شرّ منها ، ألا وهو عقاب الله الأليم ، النّار التي أعدّها الله جزاء( وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) ،( وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) . أجل ، إنّ النّار المحرقة لأسوإ مكان للمتشدّدين الحادّي المزاج الذين أحرقت نار عصبيّتهم ولجاجهم قلوبهم ، لأنّ العقاب الإلهي يتناسب دائما مع كيفية الذنب والعصيان.

وترسم الآية الآتية صورة معبّرة لما كان عليه الوثنيون ، وما يعبدونه من أشياء ضعيفة هزيلة تكشف عن بطلان آراء المشركين وعقيدتهم ، مخاطبة للناس جميعا خطابا هاديا أن( يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ) وتدبّروا فيه جيدا( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ) .

أجل ، لو اجتمعت الأوثان كلّها ، وحتّى العلماء والمفكّرين والمخترعين

__________________

(1) إنّ «النّار» هنا خبر لمبتدأ محذوف تقديره : هي النّار ، واحتمل البعض أنّ النّار مبتدأ وجملة «وعدها الله» خبر لها ، إلّا أنّ القول الأوّل هو الأصوب. وفعل «وعد» أخذ هنا مفعولين ، الأوّل «الذين كفروا» الذي تأخّر والثّاني «الهاء» التي تقدّمت ذلك للتخصيص.

٣٩٨

جميعا ، لما استطاعوا خلق ذبابة. فكيف تجعلون أوثانكم شركاء لخالق السموات والأرض وما فيهنّ من آلاف مؤلّفة من أنواع المخلوقات في البرّ والبحر ، في الصحاري والغابات ، وفي أعماق الأرض؟ الله الذي خلق الحياة في أشكال مختلفة وصور بديعة ومتنوّعة بحيث أنّ كلّ مخلوق من المخلوقات يثير في الإنسان كلّ الإعجاب والتقدير ، فأين هذه الآلهة الضعيفة من الله الخالق القادر الحكيم المتعال؟

وتستكمل الآية البيان عن ضعف الأوثان وعجزها المطلق وأنّها ليست غير قادرة على خلق ذبابة فحسب ، بل( وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ) كأنّ الآية تهتف فيهم : ما الدافع لجعل موجود ضعيف تهزمه الذبابة حاكما عليكم وحلّالا لمشاكلكم؟!

ويعلو صدى الحقّ في تقرير ضعف الوثن وعبدته في قوله تعالى :( ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ) .

وقد ورد في الرّوايات أنّ الوثنيين من قريش نصبوا أوثانهم حول الكعبة ، وأغرقوها بالمسك والعنبر وأحيانا بالزعفران والعسل ، وطافوا حولها وهم يردّدون (لبّيك اللهمّ لبّيك ، لبّيك لا شريك لك ، إلّا شريك هو لك تملكه وما ملك)! والانحياز عن التوحيد واضح في هذه التلبية ، والشرك مؤكّد فيها ، فقد جعلوا هذه الموجودات التافهة شركاء لله الواحد الأحد ، وهم يرون الذّباب يحوم عليها ويسرق منها العسل والزعفران والمسك دون أن تستطيع إعادة ما سلب منها!

وقد عرض القرآن المجيد هذه الصورة ليكشف عن ضعف هذه الأوثان ، وتفاهة منطق المشركين في تسويغ عبادتهم لهذه الأوثان ، وذكرّهم بعجز آلهتهم عن استعادة ما سرقه الذباب منها وعدم قدرتها على الدفاع عن نفسها لعلّهم ينتبهون على تفاهة ما يعبدون من دون الله تعالى.

أمّا ما المراد من «الطالب» و «المطلوب»؟

٣٩٩

الصحيح هو ما سبق أن قلناه من أنّ الطالب هو عبدة الأوثان ، والمطلوب هو الأوثان ذاتها ، وكلاهما لا يقدر على شيء.

وقال البعض : إنّ الطالب هو الذّباب ، والمطلوب الأصنام (لأنّ الذباب يجتمع عليها ليسلب منها غذاءه).

وقال الآخرون : الطالب هو الأصنام ، والمطلوب هو الذباب (لأنّه لو فكّرت الأصنام في خلق ذبابة واحدة لما استطاعت ذلك) وأصحّ هذه التفاسير هو الأوّل.

وبعد أن عرض القرآن الكريم هذه المثال الواضح الدافع ، قرّر حقيقة مهمّة ، وهي( ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) .

فالمشركون لو كانوا على أدنى معرفة بالله تعالى لما أنزلوا قدره إلى مستوى هذه الآلهة الضعيفة العاجزة ولما جعلوا مصنوعاتهم شركاء له ، تعالى عمّا يفعلون علوّا كبيرا ، ولو كان لديهم أدنى معرفة بقدرة الله لضحكوا من أنفسهم وسخروا من أفكارهم. وتقول الآية في النهاية :( إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) .

أجل ، إنّ الله قادر على كلّ شيء ولا مثيل لقدرته ولا حدّ ، فهو ليس كآلهة المشركين التي لو اجتمعت لما تمكّنت من خلق ذبابة ، بل ليس لها القدرة على إعادة ما سلبه الذباب منها.

* * *

بحث

مثال واضح لبيان نقاط الضعف :

يرى عدد من المفسّرين أنّ القرآن جاء بمثل في آياته المذكورة آنفا ، إلّا أنّه لم يبيّن المثل بصراحة ، بل أشار إلى مواضع أخرى في القرآن ، أو أنّ المثل هنا جاء لإثبات أمر عجيب ، وليس بمعنى المثل المعروف.

ولا شكّ في أنّ هذا خطأ ، لأنّ القرآن دعا عامّة الناس إلى التفكّر في هذا

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550