الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٠

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 550

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 550 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 206820 / تحميل: 6196
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٠

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ) بديهي أنّ الآية هنا قصدت فئة من الكفّار لا الكفّار كلّهم ، لأنّ الكثير منهم أسلموا والتحقوا بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبصفوف المسلمين.

قصدت الآية زعماء الكفّار والمعاندين والمتعصّبين بقوّة والحاقدين الذين لم يؤمنوا قطّ ، واستمرّوا في عرقلة المسيرة الإسلامية.

وتعني كلمة «مرية» الشكّ والترديد ، وتبيّن لنا الآية أنّ هؤلاء الكفرة لم يكونوا يوما على يقين ببطلان الإسلام ودعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالرغم من إظهارهم لذلك في كلماتهم ، بل كانوا في شكّ من القرآن والإسلام ، إلّا أنّ تعصّبهم كان يحول دون توصّلهم إلى الحقيقة.

أمّا «الساعة» فقد ذهب البعض إلى أنّها تعني الموت ونظيره ، إلّا أنّ الآيات اللاحقة بيّنت أنّ القصد ختام العالم وعشيّة يوم القيامة ، والتي رافقت كلمة «بغتة».

ويقصد بـ( عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ) عقاب يوم القيامة ، وقد وصف يوم القيامة بالعقم لأنّه لا يوم يليه لينهض المرء للقيام بأعمال خيّرة تعوّض عمّا فاته وتؤثّر في مصيره.

ثمّ أشارت الآية التالية إلى السيادة المطلقة لربّ العالمين يوم القيامة( الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ) وهذا أمر ملازم لله الحاكم الدائم والمالك المطلق ، وليس ليوم القيامة فقط ، بل هو على مدى الزمان ، وبما أنّ في الدنيا مالكين وحكّاما آخرين رغم محدودية ملكياتهم وسلطانهم ورغم أنّها ملكية ظاهرية وسلطان شكلي ، إلّا أنّه قد يولد تصوّرا بأنّ هناك حكّاما ملّاكا غير الله. ولكنّ كلّ هذا يزول وتتّضح حقيقة وحدانية المالك والحاكم يومئذ.

وبتعبير آخر : هناك نوعان من السيادة والملكية : السيادة الحقيقيّة ، وهي للخالق على المخلوق ، والسيادة الاعتبارية الناتجة عن اتّفاق بين الناس ، ويوجد كلا هذا النوعان في الدنيا ، ولكن تزول الحكومات الاعتبارية كلّها يوم القيامة ،

٣٨١

وتبقى السيادة الحقيقيّة لخالق العالم(١) .

وعلى أي حال ، فإنّ الله هو المالك الحقيقي ، فهو إذن الحاكم الحقيقي ، وتعمّ حكومته على المؤمنين والكافرين على السواء ، ونتيجة ذلك كما يقول القرآن المجيد :( فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) الجنّات التّي تتوفّر فيها جميع المواهب وكلّ الخيرات والبركات.

ويضيف القرآن الكريم( وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ ) ما أجمل هذا التعبير! عذاب يذلّ الكفرة والذين كذّبوا بآيات الله ، أولئك الذين عاندوا الله واستكبروا على خلقه يهينهم الله. وقد وصف القرآن العذاب بـ «الأليم» و «العظيم» و «المهين» في آيات مختلفة ، ليلائم كلّ واحد منه الذنب الذي اقترفه المعاندون!.

وممّا يلفت النظر أنّ القرآن المجيد أشار في حديثه عن المؤمنين إلى أمرين «الإيمان» و «العمل الصالح» ، وفي المقابل أشار في حديثه عن الكافرين إلى «الكفر» و «التكذيب بآيات الله» ، وهذا يعني أنّ كلّ منهما متركّب من إعتقاد داخلي وأثر خارجي يبرز في عمل الإنسان ، حيث إنّ لكلّ عمل إنساني أساسا فكريا.

وبما أنّ الآيات السابقة تناولت المهاجرين من الذين طردوا من ديارهم وسلبت أموالهم ، لأنّهم قالوا : ربّنا الله ، ودافعوا عن شريعته ، فقد اعتبرتهم الآية التالية مجموعة ممتازة جديرة بالرزق الحسن وقالت :( وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) .

قال بعض المفسّرين : إنّ «الرزق الحسن» هو النعم التي تشدّ نظر الإنسان إليها عند مشاهدته لها فلا يدير طرفه عنها ، وإنّ الله وحده هو القادر على أن يمنّ

__________________

(١) الميزان ، المجلّد الرّابع عشر ، ص ٤٣٣.

٣٨٢

على الإنسان بهذا النوع من الرزق

ذكر بعض المفسّرين سببا لنزول هذه الآية خلاصته : «لمّا مات عثمان بن مظعون وأبو سلمة بن عبد الأسد ، قال بعض الناس : من قتل في سبيل الله أفضل ممّن مات حتف أنفه ، فنزلت هذه الآية مسوّية بينهم ، وإنّ الله يرزق جميعهم رزقا حسنا ، وظاهر الشريعة يدلّ على أنّ المقتول أفضل. وقد قال بعض أهل العلم : إنّ المقتول في سبيل الله والميّت في سبيل الله شهيد»(١) .

وعرضت الآية الأخيرة صورة من هذا الرزق الحسن «لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ » فإذا طردوا من منازلهم في هذه الدنيا ولاقوا الصعاب ، فإنّ الله يأويهم في منازل طيّبة في الآخرة ترضيهم من جميع الجهات ، وتعوّضهم ـ على أفضل وجه ـ عمّا ضحّوا به في سبيل الله.

وتنتهي هذه الآية بعبارة( وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ) أجل ، إنّ الله عالم بما يقوم به عباده ، وهو في نفس الوقت حليم لا يستعجل في عقابهم ، من أجل تربية المؤمنين في ساحة الامتحان هذه ، وليخرجوا منها وقد صلب عودهم وازدادوا تقرّبا إلى الله.

* * *

__________________

(١) «الجامع لأحكام القرآن» لأبي عبد الله محمّد بن أحمد الأنصاري القرطبي ، المجلّد ١١ ـ ١٢ ، ص ٨٨.

٣٨٣

الآيات

( ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٦٢) )

سبب النّزول

روي أنّ عددا من المشركين من أهل مكّة واجهوا المسلمين ولم يبق لانتهاء شهر المحرّم إلّا يومان. قال المشركون بعضهم لبعض : إنّ أصحاب محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يحاربون في شهر المحرّم. ولهذا بدأوا بمهاجمة المسلمين ، ورغم إلحاح المسلمين عليهم بإيقاف القتال ، لم يعطوا أذنا صاغية لهذا الطلب ، فاضطرّ المسلمون إلى قتالهم ببطولة فريدة فنصرهم الله ، وهنا نزلت أوّل آية من الآيات المذكورة آنفا(١) .

__________________

(١) «مجمع البيان» و «الدرّ المنثور» في تفسير الآيات موضع البحث.

٣٨٤

التّفسير

من هم المنتصرون؟

حدّثتنا الآيات السابقة عن المهاجرين في سبيل الله ، وما وعدهم الله من رزق حسن يوم القيامة. ومن أجل ألّا يتصورّ المرء أنّ الوعد الإلهي يختصّ بالآخرة فحسب ، تحدّثت الآية ـ موضع البحث ـ في مطلعها عن انتصارهم في ظلّ الرحمة الإلهيّة في هذا العالم :( ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ ) إشارة إلى أنّ الدفاع عن النفس ومجابهة الظلم حقّ طبيعي لكلّ إنسان.

وعبارة «بمثل» تأكيد لحقيقة أنّ الدفاع لا يجوز له أن يتعدّى حدوده.

عبارة( ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ ) هي أيضا إشارة إلى وعد الله بالانتصار لمن يظلم خلال الدفاع عن نفسه ، وعلى هذا فالساكت عن الحقّ والذي يقبل الظلم ويرضخ له ، لم يعده الله بالنصر ، فوعد الله بالنصر يخصّ الذين يدافعون عن أنفسهم ويجابهون الظالمين والجائرين ، فهم يستعدّون بكلّ ما لديهم من قوّة لمجابهة هذا الظلم.

ويجب أن تمتزج الرحمة والسماح بالقصاص والعقاب لتكسب النادمين والتائبين إلى الله ، حيث تنتهي الآية بـ( إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ) .

وتطابق هذه الآية آية القصاص حيث منحت ولي القتيل حقّ القصاص من جهة وأفهمته أنّ العفو فضيلة (للجديرين بها) من جهة أخرى.

وبما أنّ الوعد بالنصر الذي يقوي القلب لا بدّ وأن يصدر من مقتدر على ذلك.

لهذا تستعرض الآية قدرة الله في عالم الوجود التي لا تنتهي ، فتقول :( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ ) فما أن يقل من أحدهما حتّى يزداد في الآخر وفق نظام مدروس.

كلمة «يولج» مشتقّة من «الإيلاج» وهو في الأصل من الولوج أي الدخول.

وهذه العبارة ـ كما قلنا ـ تشير إلى التغييرات التدريجيّة المنظّمة تنظيما تامّا ،

٣٨٥

كمسألة الليل والنهار ، فما يقلّ أحدهما إلّا ليزداد الآخر على مدى فصول السنة.

وربّما تكون إشارة إلى شروق الشمس وغروبها الذي لا يحدث فجأة بسبب الظروف الجويّة الخاصّة (بالهواء المحيط بالأرض) حيث تمتدّ أشعّة الشمس في البداية نحو طبقات الهواء العليا ، ثمّ تنتقل إلى الطبقات السفلى. وكأنّ النهار يلج في الليل ويطرد جيش قوى الظلام.

وعكس ذلك ما يقع حين الغروب ، حيث تلملم أشعّة الشمس خيوطها من الطبقات السفلى للأرض ، فيسودها الظلام تدريجيّا حتّى ينتهي آخر خيط من أشعّة الشمس ويسيطر جيش الظلام على الجميع. ولو لا هذه الظاهرة ، فسيكون الشروق والغروب على حين غرّة ، فيلحق الأذى بالإنسان جسما وروحا ، ويحدث هذا التغيير السريع أيضا مشاكل كثيرة في النظام الاجتماعي.

ولا مانع من إشارة الآية السالفة الذكر إلى هذين التّفسيرين.

وتنتهي الآية بـ( وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) أجل ، إنّ الله يلبّي حاجة المؤمنين ، ويطّلع على حالهم وأعمالهم ، ويعينهم برحمته عند اللزوم. مثلما يطّلع على أعمال ومقاصد أعداء الحقّ.

وآخر آية من الآيات السالفة الذكر في الواقع دليل على ما مضى حيث تقول :( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) .

إن شاهدتم انتصار الحقّ وهزيمة الباطل ، فإنّ ذلك بلطف الله الذي ينجد المؤمنين ويترك الكافرين لوحدهم.

إنّ المؤمنين ينسجمون مع قوانين الوجود العامّة ، بعكس الكافرين الذين يكون مآلهم إلى الفناء والعدم بمخالفتهم تلك القوانين. والله حقّ وغيره باطل.

وجميع البشر والمخلوقات التي ترتبط بشكل ما بالله تعالى هي حقّ أيضا. أمّا

٣٨٦

غيرها فباطل بمقدار ابتعادها عنهعزوجل (١) .

وكلمة «عليّ» مشتقّة من «العلو» بمعنى ذي المنزلة الرفيعة ، وتطلق أيضا على القادر والقاهر الذي لا تقف أمامه قدرة.

أمّا كلمة «الكبير» فهي إشارة إلى سعة علم الله وقدرته ، وطبيعي أنّ من يملك هذه الصفات بإمكانه مساعدة أحبّائه وتدمير أعدائه ، إذن فليطمئن المؤمنون إلى ما وعدهم الله تعالى.

* * *

__________________

(١) نقرأ في «الميزان» أنّ إطلاق الحقّ على الله والباطل على غيره ، لأنّ الحقّ الذي لم يختلط بباطل أبدا هو الله سبحانه وتعالى ، أو لكونه عزوجل مستقلا في حقّانيته والآخرون تابعين له.

٣٨٧

الآيات

( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (٦٦) )

التّفسير

دلائل الله في ساحة الوجود :

تحدّثت الآيات السابقة عن قدرة الله غير المحدودة وأنّه الحقّ المطلق ، وبيّنت هذه الآيات الأدلّة المختلفة على هذه القدرة الواسعة والحقّ المطلق وتقول أوّلا :( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً ) .

لقد اخضّرت الأرض المرتدية رداء الحزن ـ من أثر الجفاف ـ بعد ما نزل

٣٨٨

المطر عليها. فأصبحت تسرّ الناظرين. أجل( إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ) . وكلمة «لطيف» مشتقّة من «اللطف» بمعنى العمل الجميل الذي يمتاز برقّته. ولهذا يطلق على الرحمة الإلهيّة الخاصّة لفظ «اللطف». وكلمة «الخبير» تعني المطّلع على الأمور الدقيقة.

وبلطف الله تنمو البذرة تحت الأرض ، ثمّ ترتفع خلافا لقانون جاذبية الأرض ، وترى الشمس وتشمّ نسيم الهواء حتّى تصبح نباتا مثمرا أو شجرة باسقة.

وهو الذي أنزل المطر فمنح التربة الجافّة لطفا ورقة لتسمح للبذرة بالحركة والنمو. وهو خبير بجميع الاحتياجات والمراحل التي تمرّ بها هذه البذرة حتّى ترتفع نحو السّماء. يرسل الله المطر بقدرة وبخبرة منه ، فإن زاده صار سيلا ، وإن نقصه كثيرا ساد الجفاف في الأرض ، وتقول الآية الثامنة عشرة من سورة المؤمنين :( وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ ) (١) .

الآية التالية تعرض علامة أخرى على قدرة الله غير المتناهية ، وهو قوله سبحانه وتعالى:( لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ) .

فهو سبحانه خالق الجميع ومالكهم ، وبهذا الدليل يكون قادرا عليهم ، لذا فهم يحتاجون إليه جميعا ، ولا يحتاج هو إلى شيء أو إلى أحد.

ويزداد هذا المعنى إشراقا في قوله سبحانه :( وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) والتحام صفتي الغني والحمد جاء في غاية الإحكام :

أوّلا : لأنّ عددا كبيرا من الناس أغنياء ، إلّا أنّهم بخلاء يستغلّون الآخرين ويعملون لذاتهم فقط ، وقد غرقوا في الغفلة والغرور. وتغلّب على أصحاب الثروة الطائلة هذه الصفات. أمّا غنى الله سبحانه فهو مزيج من اللطف والسماء والجود والكرم ، لذا استحقّ الحمد والثناء من عباده.

__________________

(١) بحثنا في تفسير الآية (١٠٣) من سورة الأنعام حول لطف الله. فعلى الراغب مراجعته.

٣٨٩

ثانيا : إنّ الأغنياء غيّر الله تعالى غناهم ظاهري ، وإذا كانوا كرماء فإنّ كرمهم في الواقع ليس منهم ، بل من لطف الله سبحانه وقديم إحسانه ، فكلّ إمكاناتهم إنّما هي من أنعم الله. فالله وحده هو الغني بذاته والجدير بكلّ حمد وثناء.

ثالثا : لأنّ الأغنياء يعملون ما يفيدهم أو يتوخّون فائدته ، أمّا ربّ العالمين سبحانه وتعالى ، فيجود ويرحم ويعفو دون حساب ، ولا ابتغاء فائدة ، ولا سدّ حاجة ، وإنّما يفعل ذلك كرما منه ورحمة ، فهو أهل الحمد والثناء بلا شريك.

وتشير الآية التالية إلى نموذج آخر من تسخير الله تعالى الوجود للإنسان( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ ) وجعل تحت اختياركم جميع المواهب والإمكانات فيها لتستفيدوا منها بأي صورة تريدون ، وكذلك جعل السفن والبواخر التي تتحرّك وتمخر عباب البحار بأمره نحو مقاصدها.( الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ) إضافة إلى( وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) فالكواكب والنجوم تسير في مدارات محدّدة بأمر الله سبحانه وتعالى ، كلّ ذلك لتسير في فاصلة محدّدة لها عن الكواكب الاخرى ، وتمنع اصطدام بعضها ببعض.

وخلق الله طبقات جويّة حول الأرض لتحول دون وصول الأحجار السائبة في الفضاء إلى الأرض وإلحاق الضرر بالبشر.

وذلك من رحمة الله لعباده ولطفه بهم ، فقد خلق الأرض آمنة لعباده ، فلا تصل إليهم الأحجار السائبة في الفضاء ، ولا تصطدم الأجرام الأخرى بالأرض. وهذا ما نلمسه في ختام الآية المباركة( إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ) .

وتتناول الآية الأخيرة أهمّ قضيّة في الوجود ، أي قضيّة الحياة والموت فتقول :( وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ) أي كنتم ترابا لا حياة فيه فألبسكم لباس الحياة( ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ) وبعد انقضاء دورة حياتكم يميتكم( ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ) أي يمنحكم حياة جديدة يوم البعث.

وتبيّن الآية ميل الإنسان إلى نكران نعم الله عليه قائلة :( إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ )

٣٩٠

فرغم كلّ ما أغدق الله على الإنسان من أنعم في الأرض والسّماء ، في الجسم والروح ، لا يحمده ولا يشكره عليها ، بل يكفر بكلّ هذه النعم. ومع أنّه يرى كلّ الدلائل الواضحة والبراهين المؤكدة لوجود الله تبارك وتعالى ، والشاهدة بفضله عليه وإحسانه إليه ينكر ذلك. فما أظلمه وأجهله!

* * *

ملاحظات

١ ـ الصفات الخاصّة بالله :

بيّنت الآيات السالفة الذكر والآيتان اللتان سبقتها ، أربع عشرة صفة من صفات الله (في نهاية كلّ آية جاء ذكر صفتين من صفات الله) العليم والحليم ـ العفو والغفور ـ السميع والبصير ـ العلي والكبير ـ اللطيف والخبير ـ الغني والحميد ـ الرؤوف والرحيم. وكلّ صفة تكمل ما يقترن بها. وتنسجم معها وتتناسب مع البحث الذي تناولته الآية ، كما مرّ سابقا.

٢ ـ الآيات تدلّ على توحيد الله وعلى المعاد

إنّ الآيات السابقة ، مثلما هي دليل على قدرة الله تعالى وتأكيد لما وعد من نصر لعباده المؤمنين ، وشاهد على حقّانيته المقدّسة التي استندت الآيات السالفة الذكر إليها ، فهي دليل على توحيد الله وعلى المعاد ، فإحياء الأرض بالمطر بعد موتها ، ونموّ النبات فيها ، وكذلك حياة الإنسان وموته شاهد على البعث والنشور.

ومعظم الآيات عرضت هذه الأدّلة في البرهنة على حقيقة المعاد يوم القيامة.

وقوله تعالى :( إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ ) تأكيد على إصرار المعاندين على الكفر ، ففي صيغة المبالغة «كفور» دلالة على هذا العناد ، فهذا الإنسان منكر لفضل ربّه مع مشاهدته لآياته العظيمة ، ومصرّ على الانحراف عن هداه ونور رحمته الواسعة.

٣٩١

٣ ـ تسخير الأرض والسّماء للإنسان :

لقد سخّر الله هذه الموجودات للإنسان وذلّلها لمصالحه. (وقد بيّنا هذا الموضوع مفصّلا في تفسير الآية (١٢) إلى (١٤) من سورة النحل ، وفي تفسير الآية الثّانية من سورة الرعد).

وجاء ذكر السفن في البحار والمحيطات بين النعم ، لأنّها كانت أهمّ وسيلة للنقل والتجارة ، ولم تحلّ محلّها أيّة وسيلة أرخص منها حتّى الآن. ولو توقّفت هذه السفن يوما لا ختلّت منافع البشر ، فالطرق البريّة لا تسدّ حاجة الإنسان إلى النقل والانتقال ، خاصّة في العصر الحاضر الزاخر بالاحتياج إلى النفط المحمول في السن التي لا تفتر عن الحركة ، لتدير عجلة الصناعة في العالم. ولقد تجلّت هذه النعمة اليوم أكثر ، فما تعدل عشرات الآلاف من الصهاريج السيّارة في البرّ ناقلة نفط عملاقة ، ونقل النفط بواسطة الأنابيب النفطيّة لا يستوعب إلّا مناطق محدودة من العالم.

* * *

٣٩٢

الآيات

( لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (٦٧) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨) اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧٠) )

التّفسير

لكلّ أمّة عبادة :

تناولت البحوث السابقة المشركين خاصّة ، ومخالفي الإسلام عامّة ، ممّن جادلوا فيما أشرق به الإسلام من مبادئ نسخت بعض تعاليم الأديان السابقة.

وكانوا يرون من ذلك ضعفا في الشريعة الإسلامية ، وقوّة في أديانهم ، في حين أنّ ذلك لا يشكل ضعفا إطلاقا ، بل هو نقطة قوّة ومنهج لتكامل الأديان ولذا جاء الفصل الربّاني جلّيا( لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ ) (١) .

__________________

(١) يرى بعض المفسّرين أنّ هذه الآيات تشير إلى ردّ لما أثاره المشركون من اعتراض قائلين : لماذا لا تأكلون الميتة التي قتلها

٣٩٣

«المناسك» ـ كما قلنا سابقا ـ جمع «منسك» أي مطلق العبادات ، ومن الممكن أن تشمل جميع التعاليم الإلهيّة. لهذا فإنّ الآية تبيّن أنّ لكلّ امّة شرعة ومنهاجا يفي بمتطلّباتها بحسب الأحوال التي تعيشها ، لكنّ ارتقاءها يستوجب تعاليم جديدة تلبّي مطامحها المترقّية ، وهذا ما صدعت به الآية المباركة وأنارته قائلة :( فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ ) . فبما تقدّم لا ينبغي لهم منازعتك في هذا الأمر.

( وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ ) . تخاطب الآية النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يا أيّها النّبي لا يؤثّر هؤلاء في دعوتك الراشدة باعتراضاتهم الضّالة ، فالمهتدي إلى الصراط المستقيم أقوى من الضارب في التيه.

فوصف «الهدى» بالاستقامة ، إمّا تأكيدا لها ، وإمّا إشارة إلى أنّها يمكن أن تتحقّق بطرق مختلفة ، قريبها وبعيدها ، مستقيمها وملتويها ، إلّا أنّ الهداية الإلهيّة أقربها وأكثرها استقامة.

ثمّ أضافت الآية( وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ ) فلو استمرّوا في جدالهم ومنازعتهم معك ، ولم يؤثّر فيهم كلامك. فقل لهم : انّ الله أعلم بأعمالكم ، وستحشرون إليه في يوم يعود الناس فيه إلى التوحيد ، وتحلّ جميع الاختلافات لظهور الحقائق لجميع الناس :( اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ (يَوْمَ الْقِيامَةِ) فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) (١) .

وبما أنّ القضاء بين العباد يوم القيامة بحاجة إلى علم واسع بهم واطّلاع دقيق بأعمالهم ، ختمت الآيات هاهنا بقوله تعالى :( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ ) و( إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ ) .

__________________

الله ، في وقت تأكلون فيه الميتة التي قتلتموها أنتم؟! فنزلت هذه الآيات لتردّ عليهم.

إلّا أنّه يستبعد أن تتضمّن هذه الآيات ذلك. لأنّ أكل الميتة لم تسمح به شريعة ـ في الظاهر ـ لما فيه من ضرر ، حتّى يأتي القرآن ليؤيّد ذلك ويقول : لكلّ شريعة تعاليمها.

(١) هذه الآية قد تخاطب المخالفين للإسلام والنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعلى هذا فإنّ عبارة( اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ ) قول الله على لسان نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويمكن أن تخاطب جميع المسلمين والمخالفين ، وعلى هذا تكون هذه الآية ذات بيان خاص موجّه من الله إلى الجميع.

٣٩٤

أجل ، إنّ جميع ذلك قد ثبت في كتاب علم الله الذي لا حدود له ، كتاب عالم الوجود وعالم العلّة والمعلول ، عالم لا يضيع فيه شيء ، فهو في تغيير دائم ، حتّى لو خرجت أمواج صوت ضعيف من حنجرة إنسان قبل ألفي عام فانّها لا تنعدم ، بل تبقى في هذا الكتاب الجامع لكلّ شيء بدقّة. أي إنّ كلّ ما يجري في هذا الكون مسجّل في لوح محفوظ هو لوح العلم الإلهي ، وكلّ هذه الموجودات حاضرة بين يدي الله سبحانه بجميع صفاتها وخصائصها. وهذا من معاني القدرة الإلهيّة التي نلمسها في قوله تعالى :( إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ) .

* * *

٣٩٥

الآيات

( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤) )

التّفسير

معبودات أضعف من ذبابة!

تابعت هذه الآيات الأبحاث السابقة عن التوحيد والشرك ، فتحدّثت ثانية عن المشركين وأفعالهم الخاطئة ، فتقول الآية الأولى :( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ

٣٩٦

يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً ) وهذا يبيّن بطلان عقيدة الوثنيين الذين كانوا يرون أنّ الله سمح لهم بعبادة الأوثان وأنّها تشفع لهم عند الله. وتضيف الآية( وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ ) أي يعبدون عبادة لا يملكون دليلا على صحّتها لا من طريق الوحي الإلهي ، ولا من طريق الاستدلال العقلي ، ومن لا يعمل بدليل يظلم نفسه وغيره ، ولا أحد يدافع عنه يوم الحساب ، لهذا تقول الآية في ختامها :( وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ) .

قال بعض المفسّرين : إنّ النصير هنا الدليل والبرهان ، لأنّ المعيّن الحقيقي هو الدليل ذاته(١) .

كما يحتمل أن يكون النصير مرشدا ومكمّلا للبحث السابق ، أي أنّ المشركين لا يدعمهم دليل إلهي ولا عقلي ، وليس لهم قائد ولا مرشد ولا معلّم يهديهم ويسدّدهم للحقّ الذي فقدوا حمايته والاستنارة به ، بظلمهم أنفسهم ، ولا خلاف بين هذه التفاسير الثلاثة التي يبدو أنّ أوّلها أكثر وضوحا من غيره.

وتشير الآية الثّانية موضع البحث إلى عناد الوثنيين واستكبارهم عن الاستجابة لآيات الله تعالى ، في جملة وجيزة لكنّها ذات دلالات كبيرة :( وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ ) (٢) .

وهنا يسفر التناقض بين المنطق القرآني القويم وتعصّب الجاهلية الذي لا يرضخ للحقّ ولا يفتح قلبه لندائه الرحيم ، فما تليت عليهم آيات ربّهم إلّا ظهرت علائم الاستكبار عنها في وجوههم حتّى إنّهم( يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا ) أي كأنّهم يريدون مهاجمة الذين يتلون عليهم آيات الله ـعزوجل ـ وضربهم بقبضات أيديهم ، تنفيسا عن التكبّر البغيض في قرارة أنفسهم.

كلمة «يسطون» مشتقّة من «السطوة» أي رفع اليد ومهاجمة الطرف الآخر ، وهي في الأصل ـ كما قال الراغب الاصفهاني في مفرداته ـ قيام الفرس على

__________________

(١) الميزان ، وتفسير الفخر الرازي ، في تفسير الآية موضع البحث.

(٢) «المنكر» مصدر ميمي يعني الإنكار ، وبما أنّ الإنكار أمر باطني لا يمكن مشاهدته ، فالمراد هنا علائمه ونتائجه.

٣٩٧

رجليه ورفع يديه ، ثمّ استعملت بالمعنى الذي ذكرناه.

ولو فكّر الإنسان منطقيّا لما أغضبه حديث لا يرضاه ، ولما ثار مقطّبا متهيّئا للهجوم على محدّثه مهما خالفه. بل يحاول ردّه ببيان منطقي.

وانفعال المشركين على النحو المتقدّم دليل على انهيار تفكيرهم وغلبة الجهل والباطل عليهم.

وعبارة( يَكادُونَ يَسْطُونَ ) التي تتألّف من فعلين مضارعين ، دليل على استمرار حالة الهجوم والسباب في ذات المشركين وتأصّلها فيهم ، فتارة يفعلونه ، وأخرى تبدو علائمه على وجوههم حين لا تسمح به الأحوال.

وقد أمر القرآن المجيد الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجبه هؤلاء المتغطرسين هاتفا( قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ ) (١) .

أي إن زعمتم أنّ هذه الآيات البيّنات شرّ ، لأنّها لا تنسجم مع أفكاركم المنحرفة ، فإنّني أخبركم بما هو شرّ منها ، ألا وهو عقاب الله الأليم ، النّار التي أعدّها الله جزاء( وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) ،( وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) . أجل ، إنّ النّار المحرقة لأسوإ مكان للمتشدّدين الحادّي المزاج الذين أحرقت نار عصبيّتهم ولجاجهم قلوبهم ، لأنّ العقاب الإلهي يتناسب دائما مع كيفية الذنب والعصيان.

وترسم الآية الآتية صورة معبّرة لما كان عليه الوثنيون ، وما يعبدونه من أشياء ضعيفة هزيلة تكشف عن بطلان آراء المشركين وعقيدتهم ، مخاطبة للناس جميعا خطابا هاديا أن( يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ) وتدبّروا فيه جيدا( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ) .

أجل ، لو اجتمعت الأوثان كلّها ، وحتّى العلماء والمفكّرين والمخترعين

__________________

(١) إنّ «النّار» هنا خبر لمبتدأ محذوف تقديره : هي النّار ، واحتمل البعض أنّ النّار مبتدأ وجملة «وعدها الله» خبر لها ، إلّا أنّ القول الأوّل هو الأصوب. وفعل «وعد» أخذ هنا مفعولين ، الأوّل «الذين كفروا» الذي تأخّر والثّاني «الهاء» التي تقدّمت ذلك للتخصيص.

٣٩٨

جميعا ، لما استطاعوا خلق ذبابة. فكيف تجعلون أوثانكم شركاء لخالق السموات والأرض وما فيهنّ من آلاف مؤلّفة من أنواع المخلوقات في البرّ والبحر ، في الصحاري والغابات ، وفي أعماق الأرض؟ الله الذي خلق الحياة في أشكال مختلفة وصور بديعة ومتنوّعة بحيث أنّ كلّ مخلوق من المخلوقات يثير في الإنسان كلّ الإعجاب والتقدير ، فأين هذه الآلهة الضعيفة من الله الخالق القادر الحكيم المتعال؟

وتستكمل الآية البيان عن ضعف الأوثان وعجزها المطلق وأنّها ليست غير قادرة على خلق ذبابة فحسب ، بل( وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ) كأنّ الآية تهتف فيهم : ما الدافع لجعل موجود ضعيف تهزمه الذبابة حاكما عليكم وحلّالا لمشاكلكم؟!

ويعلو صدى الحقّ في تقرير ضعف الوثن وعبدته في قوله تعالى :( ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ) .

وقد ورد في الرّوايات أنّ الوثنيين من قريش نصبوا أوثانهم حول الكعبة ، وأغرقوها بالمسك والعنبر وأحيانا بالزعفران والعسل ، وطافوا حولها وهم يردّدون (لبّيك اللهمّ لبّيك ، لبّيك لا شريك لك ، إلّا شريك هو لك تملكه وما ملك)! والانحياز عن التوحيد واضح في هذه التلبية ، والشرك مؤكّد فيها ، فقد جعلوا هذه الموجودات التافهة شركاء لله الواحد الأحد ، وهم يرون الذّباب يحوم عليها ويسرق منها العسل والزعفران والمسك دون أن تستطيع إعادة ما سلب منها!

وقد عرض القرآن المجيد هذه الصورة ليكشف عن ضعف هذه الأوثان ، وتفاهة منطق المشركين في تسويغ عبادتهم لهذه الأوثان ، وذكرّهم بعجز آلهتهم عن استعادة ما سرقه الذباب منها وعدم قدرتها على الدفاع عن نفسها لعلّهم ينتبهون على تفاهة ما يعبدون من دون الله تعالى.

أمّا ما المراد من «الطالب» و «المطلوب»؟

٣٩٩

الصحيح هو ما سبق أن قلناه من أنّ الطالب هو عبدة الأوثان ، والمطلوب هو الأوثان ذاتها ، وكلاهما لا يقدر على شيء.

وقال البعض : إنّ الطالب هو الذّباب ، والمطلوب الأصنام (لأنّ الذباب يجتمع عليها ليسلب منها غذاءه).

وقال الآخرون : الطالب هو الأصنام ، والمطلوب هو الذباب (لأنّه لو فكّرت الأصنام في خلق ذبابة واحدة لما استطاعت ذلك) وأصحّ هذه التفاسير هو الأوّل.

وبعد أن عرض القرآن الكريم هذه المثال الواضح الدافع ، قرّر حقيقة مهمّة ، وهي( ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) .

فالمشركون لو كانوا على أدنى معرفة بالله تعالى لما أنزلوا قدره إلى مستوى هذه الآلهة الضعيفة العاجزة ولما جعلوا مصنوعاتهم شركاء له ، تعالى عمّا يفعلون علوّا كبيرا ، ولو كان لديهم أدنى معرفة بقدرة الله لضحكوا من أنفسهم وسخروا من أفكارهم. وتقول الآية في النهاية :( إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) .

أجل ، إنّ الله قادر على كلّ شيء ولا مثيل لقدرته ولا حدّ ، فهو ليس كآلهة المشركين التي لو اجتمعت لما تمكّنت من خلق ذبابة ، بل ليس لها القدرة على إعادة ما سلبه الذباب منها.

* * *

بحث

مثال واضح لبيان نقاط الضعف :

يرى عدد من المفسّرين أنّ القرآن جاء بمثل في آياته المذكورة آنفا ، إلّا أنّه لم يبيّن المثل بصراحة ، بل أشار إلى مواضع أخرى في القرآن ، أو أنّ المثل هنا جاء لإثبات أمر عجيب ، وليس بمعنى المثل المعروف.

ولا شكّ في أنّ هذا خطأ ، لأنّ القرآن دعا عامّة الناس إلى التفكّر في هذا

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550