الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٠

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 550

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 550
المشاهدات: 197238
تحميل: 5312


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 550 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 197238 / تحميل: 5312
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 10

مؤلف:
العربية

المثل. وهذا المثل هو ضعف الذبابة من ناحية ، وقدرتها على سلب ما لدى الأوثان ، وعجز هذه الأوثان عن استرداد ما سلبه الذباب منها ، وهذا المثل ضرب للمشركين من العرب ، لكنّه يعني الناس جميعا ولا يخصّ الأصنام ، بل يعمّ جميع ما دون الله تعالى ، من فراعنة ونماردة ، ومطامع وأهواء ، وجاه وثروة. فكلّها ينطبق عليها المثل ، فلو تكاتفوا وجمعوا عساكرهم وما يملكون من وسائل وطاقات ، لما تمكّنوا من خلق ذبابة ، ولا من استعادة ما سلب الذباب منهم.

سؤال وجواب :

قد يقال : إنّ اختراعات العصر الحديث قد تجاوزت أهميّة خلق ذبابة بمراتب كبيرة!

فوسائل النقل السريعة التي تسبق الريح وتقطع المسافات الشاسعة في طرفة عين ، والأدمغة الألكترونية وأدقّ الأجهزة الحديثة بإمكانها حلّ المعضلات الرياضية بأسرع وقت ممكن ، لا تدع قيمة لهذا المثل في نظر إنسان العصر.

وجواب ذلك هو أنّ صنع هذه الأجهزة ـ بلا شكّ ـ يبهر العقول ، وهو دليل على تقدّم الصناعة البشرية تقدّما مدهشا ، ولكنّه يهون مقابل خلق كائن حي مهما كان صغيرا ، فلو درسنا حياة حشرة كالذبابة ونشاطها البايولوجي بدقّة ، لرأينا أنّ بناء مخّ الذبابة وشبكة أعصابها وجهاز هضمها أعلى بدرجات من أعقد الطائرات ، وأكثر تجهيزا منها ، ولا يمكن مقارنتها بها.

وما زال في قضيّة الحياة وإحساس وحركة المخلوقات أسرار غامضة على العلماء ، وهذه المخلوقات وتركيبها البايولوجي ، هي نفسها غوامض لم تحل بعد.

وقد ذكر علماء الطبيعة أنّ عيني هذه المخلوقات الصغيرة جدّا ، كالحشرات ـ مثلا ـ تتركّب من مئات العيون! فالعينان اللتان تبدوان لنا إثنتين لا أكثر ، هما مؤلّفتان من مئات العيون الدقيقة جدّا ، ويطلق على مجموعها العين المركبة ، فلو

٤٠١

فرضنا أنّ الإنسان صنع موادّ من أجزاء الخليّة التي لا حياة فيها ، فكيف يتمكّن من صنع مئات العيون الصغيرة التي لكلّ منها ناظورها الدقيق ، وقد رصّت طبقاتها بعضها إلى بعض ، وربطت أعصابها بمخّ الحشرة لتنقل المعلومات إليها ، ولتقوم بردّ فعل مناسب لما يحدث حولها؟

لن يستطيع الإنسان خلق مثل هذا الكائن الذي يبدو تافها مع أنّه عالم مفعم بالأسرار البالغة الغموض. ولو فرضنا أنّ الإنسان بلغ ذلك ، فلا يسمّى إنجازه المفترض خلقا ، لأنّه لم يتعدّ التجميع لأجهزة متوفّرة في هذا العالم. فمن يركّب قطع السيّارة لا يسمّى مخترعا.

* * *

٤٠٢

الآيات

( اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) )

سبب النّزول

ذكر بعض المفسّرين أنّ المشركين وعلى رأسهم «الوليد بن المغيرة» ، كانوا عند ما بعث الله الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يقولون مستنكرين : «أأنزل عليه الذكر من بيننا»؟! فنزلت الآية الأولى من الآيات أعلاه لتردّ عليهم( اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً

٤٠٣

وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) (1) .

التّفسير

خمسة تعاليم بنّاءة ومهمّة :

بما أنّ الآيات السابقة تناولت بحث التوحيد والشرك وآلهة المشركين الوهميّة. وبما أنّ بعض الناس قد اتّخذوا الملائكة أو بعض الأنبياء آلهة للعبادة ، فانّ أوّل الآيات موضع البحث تقول بأنّ جميع الرسل هم عباد الله وتابعون لأمره :( اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ ) .

أجل ، اختار الله من الملائكة رسلا كجبرئيل ، ومن البشر رسلا كأنبياء الله الكبار. و «من» هنا للتبعيض ، وتدلّ على أنّ جميع ملائكة الله لم يكونوا رسلا إلى البشر ، ولا يناقض هذا التعبير الآية الأولى من سورة فاطر ، وهي( جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً ) لأنّ غاية هذه الآية بيان الجنس لا العموم والشمولية.

وختام الآية( إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) أي إنّ الله ليس كالبشر ، لا يعلمون أخبار رسلهم في غيابهم ، بل إنّه على علم بأخبار رسله لحظة بعد أخرى ، يسمع كلامهم ويرى أعمالهم.

وتشير الآية الثّانية إلى مسئولية الأنبياء في إبلاغ رسالة الله من جهة ، ومراقبة الله لأعمالهم من جهة أخرى ، فتقول :( يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ ) إنّه يعلم ماضيهم ومستقبلهم( وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ) فالجميع مسئولون في ساحة قدسه.

ليعلم الناس أنّ ملائكة الله سبحانه وأنبياءهعليهم‌السلام عباد مطيعون له مسئولون بين يديه ، لا يملكون إلّا ما وهبهم من لطفه ، وقوله تعالى :( يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ) إشارة إلى واجب ومسئولية رسل الله ومراقبته سبحانه لأعمالهم ، كما جاء في

__________________

(1) تفاسير القرطبي ، وأبو الفتوح الرازي ، والفخر الرازي ، وروح المعاني.

٤٠٤

الآيتين (27) و 28) من سورة الجن( فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ ) (1) .

وقد اتّضح بهذا أنّ القصد من عبارة( ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ) هو الأحداث المستقبلة و( ما خَلْفَهُمْ ) الأحداث الماضية.

الآيتان التاليتان هما آخر آيات سورة الحجّ حيث تخاطبان المؤمنين وتبيّنان مجموعة من التعاليم الشاملة التي تحفظ دينهم ودنياهم وانتصارهم في جميع الميادين ، وبهذه الروعة والجمال تختتم سورة الحجّ.

في البداية تشير الآية إلى أربعة تعليمات( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) وقد بيّنت الآية ركنين من أركان الصلاة ، الركوع والسجود لأهميتهما الاستثنائية في هذه العبادة العظيمة.

والأمر بعبادة الله ـ بعد الأمر بالركوع والسجود ـ يشمل جميع العبادات.

ولفظ «ربّكم» إشارة إلى لياقته للعبادة وعدم لياقة غيره لها ، لأنّه سبحانه وتعالى مالك عبيده وجميع مخلوقاته ومربيّهم.

والأمر بفعل الخير يشمل أعمال الخير دون قيد أو شرط ، وما نقل عن ابن عبّاس من أنّ هذه الآية تتناول صلة الرحم ومكارم الأخلاق هو بيان مصداق بارز لمفهوم الآية العامّ.

ثمّ يصدر الله أمره الخاص بالجهاد بالمعنى الشامل للكلمة ، فيقول عزّ من قائل :( وَجاهِدُوا فِي اللهِ ) .

ومعظم المفسّرين لم يخصّوا هذه الآية بالجهاد المسلّح لأعداء الله ، بل فسّروها بما هي عليه من معنى لغوي عامّ ، بكلّ نوع من الجهاد في سبيل الله

__________________

(1) العلّامة الطباطبائي في تفسير الميزان ذيل الآيات موضع البحث ، يعتبر جملة( يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ) إشارة إلى عصمة الأنبياء وحماية الله لهم ، ومع ملاحظة ما ذكرناه أعلاه فإنّ هذا التّفسير يبدو بعيدا نوعا ما.

٤٠٥

والاستجابة له وممارسة أعمال البرّ والجهاد مع النفس (الجهاد الأكبر) وجهاد الأعداء والظلمة (الجهاد الأصغر).

نقل العلّامة الطبرسيرحمه‌الله في «مجمع البيان» عن معظم المفسّرين قولهم : إنّ القصد من «حق الجهاد» الإخلاص في النيّة والقيام بالأعمال لله خالصة. ولا شكّ في أنّ حقّ الجهاد له معنى واسع يشمل الكيف والنوع والمكان والزمان وسواها ، ولكن مرحلة «الإخلاص في النيّة» هي أصعب مرحلة في جهاد النفس ، لهذا أكّدتها الآية ، لأنّ عباد الله المخلصين فقط هم الذين لا تنفذ إلى قلوبهم وأعمالهم الوساوس الشيطانية ، رغم قوّة نفاذها وخفائها.

والقرآن المجيد يبدأ تعليماته الخمسة من الخاصّ إلى العامّ ، فبدأ بالركوع فالسجود ، وانتهى بالعبادة بمعناها العامّ الذي يشمل أعمال الخير والطاعات والعبادات وغيرها. وفي آخر مرحلة تحدّث عن الجهاد والمساعي الفرديّة والجماعية باطنا وظاهرا ، في القول والعمل ، وفي الأخلاق والنيّة.

والاستجابة لهذه التعليمات الربّانية مدعاة للفلاح.

ولكن قد يثار سؤال هو : كيف يتحمّل الجسم النحيف هذه الأعمال من المسؤوليات والتعليمات الشاملة الوسعة؟ ولهذا تجيب بقيّد الآية الشريفة ضمنا عن هذه الاستفهامات ، وانّ هذه التعليمات دليل الألطاف الإلهيّة التي منّها سبحانه وتعالى على المؤمنين لتدلّ على منزلتهم العظيمة عنده سبحانه. فتقول الآية أوّلا :( هُوَ اجْتَباكُمْ ) .

أي حمّلكم هذه المسؤوليات باختياركم من بين خلقه.

والعبارة الاخرى قوله جلّ وعلا :( وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) أي إذا دقّقتم جيدا لم تجدوا صعوبة في التكاليف الربّانية لانسجامها مع فطرتكم التي فطركم الله عليها ، وهي الطريق إلى تكاملكم ، وهي ألذّ من الشهد ، لأنّ كلّ واحدة منها له غاية ومنافع تعود عليكم.

٤٠٦

وثالث عبارة( مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ ) إنّ إطلاق كلمة «الأب» على «إبراهيم»عليه‌السلام ، إمّا بسبب كون العرب والمسلمين آنذاك من نسل إسماعيلعليه‌السلام غالبا ، وإمّا لكون إبراهيمعليه‌السلام هو الأب الروحي للموحّدين جميعا على الرغم من خلط المشركين دينه الحنيف بأنواع من الخرافات الجاهلية آنذاك.

ويليها تعبير( هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا ) أي هو سمّاكم المسلمين في الكتب السماوية السابقة ، وفي هذا الكتاب السماوي أيضا (القرآن) ، وإنّ المسلم ليفتخر بأنّه قد أسلم نفسه لله في جميع أوامره ونواهيه.

وقد اختلف المفسّرون لمن يعود ضمير (هو) في العبارة السابقة ، فقال البعض منهم: إنّه يعود إلى الله تعالى ، أي إنّ الله سمّاكم في الكتب السماوية السابقة والقرآن بهذا الاسم الذي هو موضع فخركم ، ويرى آخرون أنّ ضمير (هو) يعود إلى إبراهيمعليه‌السلام ويستدلّون بالآية (128) من سورة البقرة حيث نادى إبراهيمعليه‌السلام ربّه بعد إتمامه بناء الكعبة قائلا :( رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ) .

ونحن نرى أنّ التّفسير الأوّل أصوب ، لأنّه ينسجم مع آخر الآية ذاتها حيث يقول :( هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا ) أي هو سمّاكم المسلمين في الكتب السماوية السابقة والقرآن المجيد ، وهذا القول يناسب اللهعزوجل ولا يناسب إبراهيمعليه‌السلام (1) .

وخامس عبارة خصّ بها المسلمين وجعلهم قدوة للأمم الاخرى ، هي قوله المبارك :( لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ) .

و «الشهيد» هو الشاهد ، وهي كلمة مشتقّة من شهود ، بمعنى اطلاع المرء على

__________________

(1) إنّ هذا الدين سمّاه القرآن المجيد بصراحة واضحة (الإسلام) كما جاء في الآية الثّالثة من سورة المائدة( وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ) . كما ذكرت آيات عديدة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باعتباره( أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ) الأنعام ، 14. الزمر ، 12.

٤٠٧

أمر أو حدث شهده بنفسه. وكون الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شاهدا على جميع المسلمين يعني اطلاعه على أعمال أمّته ، وينسجم هذا المفهوم مع حديث (عرض الأعمال) وبعض الآيات القرآنية التي أشارت إلى ذلك ، حيث تعرض أعمال أمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليه في نهاية كل أسبوع فتطلع روحه الطاهرة عليها جميعا ، فهو شاهد على أمّته.

وذكرت بعض الأحاديث أنّ معصومي هذه الامّة الأئمّة الطاهرينعليهم‌السلام هم أيضا شهود على أعمال الناس ، نقرأ في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام قوله : «نحن حجج الله في خلقه ونحن شهداء الله وأعلامه في بريته»(1) .

في الحقيقة إنّ المخاطب في عبارة «لتكونوا» وحسب ظاهر الكلمة هو الامّة جميعا ، وقد يكون المراد قادة هذه الامّة ، فمخاطبة الكلّ وإرادة الجزء أمر متعارف في المحادثة اليومية. ومثال ذلك ما جاء في الآية (20) من سورة المائدة( وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً ) . حيث نعلم أنّ عددا قليلا منهم أصبحوا ملوكا.

وهناك معنى آخر لكلمة شهود ، هي «الشهادة العمليّة» أي كون أعمال الفرد أنموذجا للآخرين وقدوة لهم ، وهكذا يكون جميع المسلمين الحقيقيين شهودا ، لأنّهم أمّة تقتدي بهم الأمم بما لديهم من دين يمكنهم أن يكونوا مقياسا للسمو والفضل بين جميع الأمم.

وجاء في حديث عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا بعث الله نبيّا جعله شهيدا على قومه ، وإنّ الله تبارك وتعالى جعل أمّتي شهداء على الخلق ، حيث يقول : ليكون الرّسول شهيدا عليكم ، وتكونوا شهداء على الناس»(2) .

أي كما يكون النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قدوة وأسوة حسنة لامّته ، تكونون أنتم أيضا أسوة وقدوة للناس ، وهذا التّفسير لا يناقض الحديث السابق فجميع الامّة شهداء ،

__________________

(1) كتاب «إكمال الدين» للشيخ الصدوق حسبما نقل عنه تفسير نور الثقلين ، المجلّد الثّالث ، صفحة 526. كما أكّدت ذلك أحاديث أخرى في هذا المجال.

(2) تفسير البرهان ، المجلّد الثّالث ، صفحة 105.

٤٠٨

والأئمّة الطاهرين شهود ممتازون على هذه الامّة(1) .

وإعادة الآية في ختامها بشكل مركّز الواجبات الخمسة في ثلاث جمل هي( فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ ) فانّ الله هو قائدكم وناصركم ومعينكم :( هُوَ مَوْلاكُمْ ) و( فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ) .

والحقيقة أنّ جملة( فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ) دليل على عبارة( وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ ) أي إنّ الله أمركم بالاعتصام به لكونه خير الموالي وأجدر الأعوان.

ربّنا : تفضّل علينا بالتوفيق للاعتصام بذاتك المقدّسة ، ولنكون أسوة في الارتباط بالخالق والخلق ، وقدوة وشاهدا على الآخرين ، ووفّقنا لإكمال هذا التّفسير الجامع والنموذجي لكتابك المنزل.

ربّنا : كما دعوتنا في قرآنك الكريم وفي كتبك السماوية الاخرى بالمسلمين ، فوفّقنا للتسليم لأمرك ، وأمحض لنا طاعتك.

ربّنا : انصرنا على أعدائك وأعداء دينك الذين أرادوا بالإسلام والقرآن كيدا ، فأنت نعم المولى ونعم النصير.

نهاية سورة الحجّ

* * *

__________________

(1) شرحنا ذلك بإسهاب في آخر الآية (143) من سورة البقرة ، وكذلك في تفسير الآية (41) من سورة النساء.

٤٠٩
٤١٠

سورة المؤمنين

مكيّة

وعدد آياتها مائة وثماني عشرة آية

٤١١
٤١٢

«سورة المؤمنون»

فضيلة سورة المؤمنون :

ذكرت أحاديث مروية عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمّة أهل البيتعليهم‌السلام فضائل لهذه السورة. فعن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «من قرأ سورة المؤمنين ، بشّرته الملائكة يوم القيامة بالروح والريحان وما تقرّ به عينه عند نزول ملك الموت»(1) .

وروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام «من قرأ سورة المؤمنين ختم الله له بالسعادة إذا كان يدمن قراءتها في كلّ جمعة ، وكان منزله في الفردوس الأعلى مع النبيّين والمرسلين»(2) .

ونؤكّد أنّ فضيلة السورة ، ليست فقط في تلاوتها ، وإنّما يجب أن يرافق ذلك التمعّن في معانيها والعمل بما أوجبته ، لأنّ هذا الكتاب يبني الذات الإنسانية ويربّيها ، فهو برنامج عملي لتكامل الإنسان ، ولو طابق المرء برنامجه العملي مع محتوى هذه السورة ـ حتّى إن طابق مع آياتها الأولى التي تبيّن صفات المؤمنين ـ لنال النصيب الأوفر من لدن العلي القدير.

لهذا ذكر في رواية عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال حين نزلت الآيات الأولى من هذه السورة : «لقد أنزل إليّ عشر آيات من أقامهنّ دخل الجنّة»(3) .

__________________

(1) تفسير مجمع البيان ، المجلّد السابع ، صفحة 98.

(2) روح المعاني ، المجلّد الثامن عشر ، صفحة 2.

(3) روح المعاني ، المجلّد الثامن عشر ، صفحة 2.

٤١٣

عبارة «أقام» التي ذكرت مكان «قرء» تعبّر عن الحقيقة التي ذكرناها أعلاه ، فالهدف تطبيق ما تضمنّته هذه الآيات وليس تلاوتها فقط.

مضمون سورة المؤمنين :

القسم المهمّ من هذه السورة ـ كما يبدو من اسمها ـ تحدّث عن صفات المؤمنين البارزة ، ثمّ تناولت السورة العقيدة والعمل بها ، وهي تتمّة لتلك الصفات.

ويمكن إجمالا تقسيم مواضيع هذه السورة إلى الأقسام التالية :

القسم الأوّل : يبدأ بالآية( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ) وينتهي بعدد من الآيات التي تذكر صفات هي مدعاة لفلاح المؤمنين ، وهذه الصفات دقيقة وشاملة تغطّي جوانب الحياة المختلفة للفرد والمجتمع.

وبما أنّ أساسها الإيمان والتوحيد ، فقد أشار القسم الثّاني من هذه المواضيع إلى علائم أخرى للمؤمنين ، التوحيد وآيات عظمة الله وجلاله في عالم الوجود ، فعدّدت نماذج لذلك العالم العجيب في خلق السّماء والأرض والإنسان والحيوان والنبات.

ولإتمام الجوانب العمليّة ، شرح القسم الثّالث ما حدث لعدد من كبار الأنبياء ، كنوح وهود وموسى وعيسىعليهم‌السلام ، وبيّن شرائح من تأريخ حياتهم للعبرة والموعظة.

وفي القسم الرّابع وجّه الخطاب سبحانه وتعالى إلى المستكبرين يحذّرهم ببراهين منطقيّة تارة ، وأخرى بتعابير دافعة عنيفة ، ليعيد القلوب إلى طريق الصواب بالعودة إليهعزوجل .

وبيّن القسم الخامس ـ في بحث مركّز ـ المعاد.

وتناول القسم السادس سيادة الله على عالم الوجود ، وإطاعة العالم ولأوامره.

٤١٤

وأخيرا تناول القسم السابع حساب يوم القيامة ، وجزاء الخير للمحسنين ، وعقاب المذنبين. وينهي السورة ببيان الغاية من خلق الإنسان.

فالسورة مجموعة من دروس العقيدة والعمل ، وقضايا التوعية وشرح لنهج المؤمنين من البداية حتّى النهاية.

إنّ هذه السورة ـ كما سبق أن ذكرنا ـ نزلت في مكّة ، إلّا أنّ بعض المفسّرين ذكروا أنّ عددا من آياتها نزل في المدينة ، وكان الدافع لذلك وجود آية الزكاة فيها ، لأنّ الزكاة شرّعت لأوّل مرّة في المدينة اثر نزول الآية( خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً ) التوبة (103) ، حيث أمر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بجمع الزكاة من المسلمين.

إلّا أنّه يجب الانتباه إلى أنّ للزكاة مفهوما واسعا يشمل الواجب والمستحبّ ، ولا يتحدّد معناه بالزكاة الواجبة فقط ، لهذا نقرأ في الأحاديث أنّ الصلاة والزكاة مترادفتان(1) .

وإضافة إلى ذلك فإنّ بعض المفسّرين يرون أنّ الزكاة كانت واجبة في مكّة أيضا ، غير أنّها كانت بصورة مجملة أوجبت على كلّ مسلم مساعدة المحتاجين بمقدار من ماله ، ثمّ أصبحت وفق برنامج محدّد ودقيق بعد تشكيل الحكم الإسلامي في المدينة ، حيث حدّد نصابها ، وعيّن العاملين عليها ، وبعثهم الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المناطق الإسلامية لجمع الزكاة(2) .

* * *

__________________

(1) جاء في حديث عن الإمام الباقر والإمام الصادق عليهما‌السلام : «فرض الله الزكاة مع الصلاة».

(2) تفسير روح المعاني ، المجلّد الثامن عشر ، صفحة 2.

٤١٥

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (9) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (11) )

التّفسير

صفات المؤمنين البارزة :

إختيار اسم المؤمنين لهذه السورة ـ كما تقدّم ـ لأنّه جاء في بدايتها آيات شرحت بعبارات وجيزة معبّرة صفات المؤمنين ، وممّا يلفت النظر أنّها أشارت إلى مستقبل المؤمنين السعيد قبل بيان صفاتهم ، استنارة للشوق في قلوب المسلمين

٤١٦

للوصول إلى هذا الفخر العظيم باكتساب صفة المؤمنين. تقول الآية( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ) .

كلمة «أفلح» مشتقّة من الفلح والفلاح ، وتعني في الأصل الحرث والشقّ ، ثمّ أطلقت على أي نوع من النصر والوصول إلى الهدف والسعادة بشكل عام ، والحقيقة أنّ المنتصرين يزيلون من طريقهم كلّ الموانع والحواجز لينالوا الفلاح والسعادة ، ويشقّون طريقهم لتحقيق أهدافهم في الحياة. ولكلمة الفلاح معنى واسعا بضمّ الفلاح المادّي والمعنوي ، ويكون الاثنان للمؤمنين.

فالفلاح الدنيوي أن يحيا الإنسان حرّا مرفوع الرّسول عزيز النفس غير محتاج ، ولا يمكن تحقيق كلّ ذلك إلّا في ظلال الإيمان والتمسّك بالله وبرحمته.

أمّا فلاح الآخرة فهو الحياة في نعيم خالد إلى جانب أصدقاء جديرين طاهرين ، حياة العزّ والرفعة.

ويلخّص الراغب الاصفهاني خلال شرحه هذه المفردة بأنّ الفلاح الدنيوي في ثلاثة أشياء : البقاء والغنى والعزّ ، وأمّا الفلاح الاخروي ففي أربعة أشياء : بقاء بلا فناء ، وغناء بلا فقر ، وعزّ بلا ذلّ ، وعلم بلا جهل.

ثمّ تشرح الآية هذه الصفات فتؤكّد قبل كلّ شيء على الصلاة فتقول :( الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ ) .

«خاشعون» مشتقّة من خشوع ، بمعنى التواضع وحالة التأدّب يتخذها الإنسان جسما وروحا بين يدي شخصيّة كبيرة ، أو حقيقة مهمّة تظهر في الإنسان وتبدو علاماتها على ظاهر جسمه.

والقرآن اعتبر الخشوع صفة المؤمنين ، وليس إقامة الصلاة ، إشارة منه إلى أنّ الصلاة ليست مجرّد ألفاظ وحركات لا روح فيها ولا معنى ، وإنّما تظهر في المؤمن حين إقامة الصلاة حالة توجّه إلى الله تفصله عن الغير وتلحقه بالخالق ، ويغوص في ارتباط مع الله ، ويدعوه بتضرّع في حالة تسود جسمه كلّه ، فيرى نفسه ذرّة إزاء

٤١٧

الوجود المطلق لذات الله ، وقطرة في محيط لا نهاية له.

لحظات هذه الصلاة درسا للمؤمن في بناء ذاته وتربيتها ، ووسيلة لتهذيب نفسه وسمو روحه.

وقد جاء في حديث عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين شاهد رجلا يلهو بلحيته وهو يصلّي قوله : «أمّا لو خشع قلبه لخشعت جوارحه»(1) .

إشارة منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أنّ الخشوع الباطني يؤثّر في ظاهر الإنسان. وكان كبار قادة المسلمين يؤدّون صلاتهم بخشوع حتّى تحسبهم في عالم آخر ، يذوبون في الله ، حيث نقرأ عنهم في حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «إنّه كان يرفع بصره إلى السّماء في صلاته ، فلمّا نزلت الآية طأطأ رأسه ورمى ببصره إلى الأرض»(2) .

وثاني صفة للمؤمنين بعد الخشوع ممّا تذكره الآية( وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ) حقّا نرى جميع حركات وسكنات المؤمنين تتجّه لهدف واحد مفيد وبنّاء ، لأنّ «اللغو» يعني الأعمال التافهة غير المفيدة ، وكما قال بعض المفسّرين فإنّ اللغو كلّ قول أو عمل لا فائدة فيه ، وإذا فسّر البعض اللغو بالباطل.

وبعض فسّره بالمعاصي كلّها.

وآخر بمعنى الكذب.

وآخر : السباب أو السباب المتقابل.

والبعض الآخر قال : إنّه يعني الغناء واللهو واللعب.

وآخر : إنّه الشرك. فإنّ هذه المعاني مصاديق ذلك المفهوم العام.

وطبيعي أنّ اللغو لا يشمل الأفعال والكلام التافه فقط ، وإنّما يعني الآراء التافهة التي لا أساس لها ، التي تنسي العبد ربّه وتشغله بها دون الأمور المفيدة ، إذن فاللغو يتضمّن كلّ هذا ، والحقيقة أنّ المؤمنين لم يخلقوا من أجل الانشغال بآراء

__________________

(1) تفسير الصافي ، وتفسير مجمع البيان ، في تفسير الآية موضع البحث.

(2) تفسير مجمع البيان ، وتفسير الفخر الرازي ، للآية موضع البحث.

٤١٨

باطلة أو كلام تافه ، بل هم معرضون عنها ، كما قال القرآن الكريم.

وتشير الآية الثّالثة إلى ثالث صفة من صفات المؤمنين الحقيقيين ، وهي ذات جانب اجتماعي ومالي حيث تقول :( وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ ) (1) .

ربّما تكون السورة مكّية ، كما قلنا سابقا ، نزلت في وقت لم تشرّع فيه الزكاة بعد بمعناها المعروف ، لذلك نجد اختلافا بين المفسّرين في تفسير هذه الآية ، ولكن الذي يبدو أصوب هو أنّ الزكاة لا تنحصر بالزكاة الواجبة الأداء ، وإنّما هناك أنواع كثيرة منها مستحبّة ، فالزكاة الواجبة شرعت في المدينة ، إلّا أنّ الزكاة المستحبّة كانت موجودة قبل هذا.

وذهب مفسّرون آخرون إلى احتمال أن تكون الزكاة واجبة كحكم شرعي في مكّة لكن دون تحديد ، حيث كان الواجب على كلّ مسلم مساعدة المحتاجين بما يتمكّن ، إلّا أنّه أصبح للزكاة أسلوبها الخاص عقب تشكيل الحكم الإسلامي وتأسيس بيت مال المسلمين ، حيث تحدّدت أنصبتها من كلّ محصول ومال.

وأصبح لها جباة يجبونها من المسلمين بأمر من الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

أمّا ما يراه بعض المفسّرين أمثال الفخر الرازي والآلوسي في «روح المعاني» والراغب الاصفهاني في مفرداته من أنّ الزكاة هنا تعني عمل الخير أو تزكية المال أو تطهير الروح ، فبعيد ، لأنّ القرآن المجيد كلّما ذكر الصلاة مع الزكاة يقصد بالزكاة الإنفاق المالي ، ولو فسّرناه بغير هذا ، فذلك يحتاج إلى قرينة واضحة لا توجد في هذه الآيات.

ورابع صفة من صفات المؤمنين هي الطهارة والعفّة بشكل تامّ ، واجتناب أي معصية جنسية ، حيث تقول الآية :( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ ) (2) يحفظونها

__________________

(1) الزكاة تعني هنا أنّ لها مصدرا ، ولهذا استعملت عبارة «فاعلون» بعدها. وقال مفسّرون آخرون : إنّه يمكن أن تعني الزكاة ذلك المعنى المعروف عنها ، أي مقدار من المال ، ولهذا تكون (فاعلون) بمعنى مؤدّون.

(2) «الفروج» جمع فرج ، وهو كناية عن الجهاز التناسلي.

٤١٩

ممّا يخالف العفّة( إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ) .

بما أنّ الغريزة الجنسية أقوى الغرائز عند الإنسان تمرّدا ، ولضبط النفس عنها يحتاج المرء إلى التقوى والإيمان القوي ، لهذا أكدّت الآية التالية على هذه المسألة( فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ ) .

إنّ عبارة المحافظة على «الفروج» قد تكون إشارة إلى أنّ فقدان المراقبة المستمرة في هذا المجال تؤدّي بالفرد إلى خطر التلوث بالانحرافات الكثيرة.

أمّا عبارة( أَزْواجِهِمْ ) فهي تشمل الزوجين الذكر والأنثى ، رغم أنّ بعض مفسّري أهل السنّه وقعوا في خطأ في تفسير هذه الآية سنشير إليه لا حقا.

ويمكن أن تكون عبارة( غَيْرُ مَلُومِينَ ) إشارة إلى الرأي الخاطئ عند المسيحيين الذي أصبح يشكّل انحرافا في عقيدتهم ، وهو أنّ أي اتّصال جنسي يعتبر فعلا غير لائق بالإنسان وتركه فضيلة له ، حتّى نرى القساوسة الكاثوليك ـ نساء ورجالا ـ ممّن طلّق الدنيا يحيون عزّابا ويتصوّرون الزواج بأي شكل كان خلافا لمنزلة الإنسان الروحية وهذه القضيّة شكلية فحسب ، حيث يختار هؤلاء لإشباع غرائزهم سبلا خفيّة متعدّدة. ذكرتها كتبهم)(1) .

وعلى كلّ حال فإنّ الله لم يخلق في الإنسان غريزة كجزء من مكوّناته المثلى ، ثمّ يعتبرها تناقض منزلة الإنسان عنده.

وكون الزوجات حلّا للأزواج في علاقتهنّ الجنسيّة باستثناء أيّام العادة الشهرية وأمثالها ، لا تحتاج إلى شرح. وكذلك كون الجواري حلالا عند ما يكنّ على وفق شروط ذكرتها الكتب الفقهيّة وليس كما يتصوّر البعض أنّ كلّ واحدة منهنّ ودون شرط حلّ لمالكها ، وفي الحقيقة لهنّ شروط الزوجة في حالات كثيرة.

__________________

(1) يراجع بهذا المورد قصّة الحضارة لويل ديورانت.

٤٢٠