الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٠

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 550

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 550 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 206822 / تحميل: 6196
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٠

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

عن مظاهر معاوية الزائفة، ليبرز حينئذٍ هو وسائر أبطال (الأمويّة) كما هُم جاهليّين، لم تخفق صدورهم بروح الإسلام لحظة، ثأريّين لم تُنسِهم مواهب الإسلام ومراحمه شيئاً من أحقادِ بدرٍ وأُحد والأحزاب.

وبالجملة فإنّ هذه الخطّة ثورةٌ عاصفة في سلمٍ لم يكن منه بُد، أملاه ظرفُ الحسن، إذ التبس فيه الحقّ بالباطل، وتسنّى للطغيان فيه سيطرةٌ مسلّحةٌ ضارية.

وما كان الحسن ببادئ هذه الخطّة ولا بخاتمها، بل أخذها فيما أخذه من إرثه، وتركها مع ما تركه من ميراثه، فهو كغيره من أئمّة هذا البيت، يسترشد الرسالة في إقدامه وفي إحجامه، امتُحن بهذهِ الخطّة فرضَخ لها صابراً محتسباً وخرجَ منها ظافراً طاهراً، لم تُنجّسه الجاهليّة بأنجاسها، ولم تُلبسه من مُدلهمّات ثيابها.

أخذ هذه الخطّة من صلح (الحديبيّة) فيما أثَر من سياسة جدّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وله فيه أسوةٌ حسنة، إذ أنكر عليه بعضُ الخاصّة مِن أصحابه كما أنكر على الحسن صُلح (ساباط) بعض الخاصّة من أوليائه، فلم يهن بذلك عزمه، ولا ضاق به ذرعه.

تهيّأ للحسن بهذا الصلح أنْ يَغرس في طريق معاوية كميناً من نفسه، يثور عليه من حيث لا يشعر فيُرديه، وتسنّى له به أْن يلغم نصر الأمويّة ببارود الأمويّة نفسها، فيجعل نصرها جفاء، وريحا هباء.

لم يطل الوقت حتّى انفجرت أُولى القنابل المغروسة في شروط الصلح، انفجرت من نفس معاوية يوم نشوته بنصره، إذ انضم جيش العراق إلى لوائه في النخيلة، فقال - وقد قام خطيباً فيهم -:( يا أهل العراق، إنّي والله لم أُقاتلكم لتصلّوا ولا لتصوموا، ولا لتزكّوا، ولا لتحجّوا، وإنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وانتم كارهون.

ألا وأنّ كلّ شيء أعطيته للحسن بن عليّ جعلته تحتَ قدمَيَّ هاتين!) .

فلمّا تمّت له البيعة خطب فذكر عليّاً فنال منه، ونال من الحسن، فقام الحسين

١٦١

ليردّ عليه، فقال له الحسن:(على رسلك يا أخي) .

ثمّ قال (عليه السلام) فقال:(أيها الذاكر عليّاً! أنا الحسنُ وأبي عليّ، وأنتَ معاوية وأبوك صخر، وأُمّي فاطمة وأُمّك هند، وجدّي رسولُ الله وجدّك عتبة، وجدّتي خديجة وجدّتك فتيلة، فلعنَ الله أخملنا ذكراً وألأَمَنا حسباً، وشرّنا قديماً، وأقدمنا كفراً ونفاقاً!).

فقالت طوائف من أهل المسجد: (آمين).

ثمً تتابعت سياسة معاوية، تتفجّر بكلّ ما يُخالف الكتاب والسنة مِن كلّ منكرٍ في الإسلام، قتلاً للأبرار، وهتكاً للأعراض، وسلباً للأموال، وسجناً للأحرار، وتشريداً للمصلحين، وتأييداً للمفسدين الذين جعلهم وزراء دولته، كابن العاص، وابن شعبة، وابن سعيد، وابن ارطاة، وابن جندب، وابن السمط، وابن الحكَم، وابن مرجانة، وابن عقبة، وابن سميّة الذي نفاه عن أبيه الشرعي عبيد، وألحقه بالمسافح أبيه أبي سفيان ليجعله بذلك أخاه، يسلّطه على الشيعة في العراق، يسومهم سوء العذاب، يذبّح أبناءهم، ويستَحيي نساءهم، ويفرّقهم عباديد، تحت كلّ كوكب، ويحرق بيوتهم، ويصطفي أموالهم، لا يألو جهداً في ظلمهم بكلّ طريق.

ختم معاوية منكراته هذه بحمل خليعه المهتوك على رقاب المسلمين، يعيث في دينهم ودنياهم، فكان من خليعه ما كان يوم الطف، ويوم الحرّة، ويوم مكّة إذ نصب عليها العرادات والمجانيق!.

هذه خاتمة أعمال معاوية، وإنّها لتلائم كلّ الملاءمة فاتحة أعماله القاتمة.

ومهما يكن من أمر، فالمهم أنّ الحوادث جاءت تفسيرَ خطّة الحسن وتجلوها، وكان أهمّ ما يرمي إليه سلام الله عليه، أنْ يرفع اللثام عن هؤلاء الطغاة، ليحوّل بينهم وبين ما يبيتون لرسالة جدّه من الكيد.

وقد تمّ له كلّ ما أراد، حتّى برح الخفاء، وآذن أمر الأمويّة بالجلاء.

١٦٢

وبهذا استتب لصنوه سيّد الشهداء أنْ يثور ثورته التي أوضح الله بها الكتاب، وجعله فيها عبرة لأولي الألباب.

وقد كانا (عليهما السلام) وجهين لرسالة واحدة، كلّ وجه منهما في موضعه منها، وفي زمانه من مراحلها، يكافئ الآخر في النهوض بأعبائها ويوازنه بالتضحية في سبيلها.

فالحسن لم يبخل بنفسه، ولم يكن الحسين أسخى منه بها في سبيل الله، وإنّما صان نفسه، ويجنّدها في جهادٍ صامت، فلمّا حان الوقت كانت شهادة كربلاء شهادة حسنيّة، قبل أنْ تكون حسينيّة.

وكانا (عليهما السلام) كأنّهما متّفقان على تصميم الخطّة: أنْ يكون للحسن منها دورَ الصابر الحكيم، وللحسين دور الثائر الكريم، لتتألّف من الدورين خطّة كاملة ذاتَ غرضٍ واحد.

وقد وقف الناس - بعد حادثتَي ساباط والطف - يمعنون في الأحداث فيَرَون في هؤلاء الأمويّين عصبةً جاهليّةً منكرة، بحيث لو مثّلت العصبيّات الجلفة النذلة الظلُوم لم تكن غيرهم، بل تكون دونهم في الخطر على الإسلام وأهله.

نعم أدرك الرأي العام بفضل الحسن والحسين وحكمة تدبيرهما، كلّ خافيةٍ من أمر (الأمويّة) وأُمور مسدّدي سهمها على نحوٍ واضح.

أدرك - فيما يتّصل بالأمويّين - أنّ العلاقة بينهم وبين الإسلام إنّما هي علاقة عِداءٍ مُستحكَم، ضرورة أنّه إذا كان المُلك هو ما تَهدِف إليه الأمويّة، فقد بلغه معاوية، وأتاحه له الحسن، فما بالها تلاحقه بالسمّ وأنواع الظلم والهضم، وتتقصّى الأحرار الأبرار من أوليائه لتستأصل شأفتهم وتقتلع بذرتهم؟!..

وإذا كان المُلك وحده هو ما تهدف إليه الأمويّة، فقد أُزيح الحسين من الطريق، وتمّ ليزيد ما يُريد، فما بالها لا تكفّ ولا ترعوي، وإنّما تُسرف أقسى ما

١٦٣

يكون الإسراف والإجحاف في حركةٍ من حركات الإفناء على نمطٍ من الاستهتار، لا يُعهد في تاريخ الجزّارين والبرابرة!!..)(١) .

ثانياً: ردّ سيرة الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومعطياتها إلى أُصول نصرانيّة أو يهوديّة: فقد كتب المُستشرق(درمنغهام) في ذلك قائلاً: (إنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في إحدى الرحلات إلى الشام، التقى بالراهب بُحيرى في جوار مدينة بُصرى، وإنّ الراهب رأى فيه علامات النبوّة على ما تدلّه عليه أنباء الكُتب الدينيّة. وفي الشام عرفَ محمّد أخبار الروم ونصرانيّتهم وكتابهم، ومناوأة الفرس من عبّاد النار لهم وانتظار الوقيعة بهم).

ويستطرد درمنغهام في محاولته لإثبات تأثير النصرانيّة على سيرة الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيقول: (... لم تكن المضاربات الجدليّة لتصرفه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن التأثر بغير الحوادث ودروسها، وحوادثٌ أليمةٌ - كَوفاة أبنائه - جديرةٌ بأنْ تستوقف تفكيرهُ، وأنْ تصرفه كلّ واحدةٍ منها إلى ما كانت خديجة تتقرّب به إلى أصنام الكعبة، وتنحر لهُبَل واللات والعزّى ومناة الثالثة الأُخرى، تريد أنْ تفتدي نفسها من ألم الثكل، فلا يفيد القربان ولا تجدي النحور...

لا ريب إنْ كانت عبادة الأصنام قد بدأت تتزعزع في النفوس، تحت ضغط النصرانيّة الآتية من الشام مُنحدرةً إليها من الروم، ومن اليمن، متخطّية إليها من خليج العرب (البحر الاحمر من بلاد الحبشة). ويستمرّ درمنغهام في نظريّته لتنصير سيرة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في قومه فيقول: (... فلمّا كانت سنة ٦١٠م أو نحوها كانت الحالة النفسيّة التي يُعانيها محمّد على أشدّها، فقد أبهظت عاتقهُ العقيدة بأنّ أمراً جوهريّاً ينقصهُ وينقص قومه، وأنّ الناس نَسوا هذا الأمر الجوهري، وتشبّث كلٌ بصنم قومهِ وقبيلته، وخشيَ الناس الجنّ

____________________

(١) لمزيد من التفصيل في أسرار صلح الإمام الحسن (عليه السلام) راجع: آل ياسين، الإمام الشيخ راضي - صلح الحسن (عليه السلام).

١٦٤

والأشباح والبوارح، وأهملوا الحقيقة العليا، ولعلّهم لم ينكروها، ولكنّهم نسوها نسياناً هو موت الروح... ولقد عرف أنّ المسيحيّين في الشام ومكّة لهم دين أُوحيَ به (!) وأنّ أقواماً غيرهم نزلت عليهم كلمة الله، وأنّهم عرفوا الحقّ ووَعَوه أنْ جاءهم علم من أنبيّاء أُوحي إليهم به، وكلّما ضلّ الناس بعثت السماء إليهم نبيّاً يهديهم إلى الصراط المستقيم، ويذكرهم بالحقيقة الخالدة.

وهذا الدين الذي جاء بهِ الأنبياء في كلّ الأزمان دين واحد، فكلّما أفسده الناس جاءهم رسول من السماء يقوّم عوجهم، وقد كان الشعب العربي يومئذٍ في أشدّ تيهاء الضلال، أما آن لرحمة الله أنْ تظهر فيهم مرّة أُخرى وأنْ تهديهم إلى الحق؟)(١) .

ويتحدّث عن هذا التزوير للحقائق التاريخيّة الأُستاذ جواد عليّ قائلاً:( إنّ معظم المستشرقين النصارى هُم مِن طبقة رجال الدين، أو ممّن تخرّج من كليّات اللاهوت، وهُم عندما يتطرّقون إلى الموضوعات الحسّاسة من الإسلام يُحاولون جهد إمكانهم ردّها إلى أصل نصراني. وطائفة المستشرقين من اليهود يُجهدون أنفسهم لردّ كل ما هو إسلامي وعربي لأصلٍ يهودي، وكلتا الطائفتين في هذا الباب تبع لسلطان العواطف والأهواء)(٢) .

وفي كتابٍ آخر عمل مستشرق وهو قسّيس انجليكاني على عقد عدّة مقارنات ليظهر إن الإسلام كان حقّاً صورة غير محكمة أو مشوهة للنصرانيّة(٣) .

ثالثاً: اعتماد منهج كيفي مناقض للمنهج العلمي في تناول السيرة الشريفة للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته (عليهم السلام): وإلى ذلك أشار الدكتور جواد عليّ من أنْ (كيناني)

____________________

(١) درمنغهام، أميل - (حياة محمّد) عن رشيد رضا، محمّد (الوحي المحمّدي) ص١٠٠ - ص١٠٨.

(٢) علي، جواد - (تاريخ العرب في الإسلام) - الجزء الأوّل (السيرة النبويّة) ص٩ - ١١.

(٣) د. خليل، عماد الدين - (المستشرقون والسيرة النبويّة) - مجلّة منار الإسلام العدد ٧.

١٦٥

وهو من كِبار المستشرقين الأوائل الذين كتبوا عن حياة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، كان يعتمد منهجاً معكوساً في البحث يذكّرنا بكثير من المختصّين الجُدد في حقل التاريخ الإسلامي، والذين يعملون وفْق منهج خاطئ من أساسه، إذ أنّهم يتبنّون فكرة مُسبقة ثمّ يجيئون إلى وقائع التاريخ لكي يستلّوا منها ما يؤيّد فكرتهم ويستبعدوا ما دون ذلك، فلقد كان (كيناني) ذا رأيٍ وفكرة، وضع رأيه وكونه في السيرة قبل الشروع في تدوينها.

فلمّا شرع فيها استعان بكلّ خبر من الأخبار ظفر به، ضعيفها وقويّها، وتمسّك بها كلّها ولا سيما ما يُلائم رأيه. لم يُبال بالخبر الضعيف، بل قوّاه وسنده وعدّه حجّة وبنى حكمه عليه، ومَن يدري فلعلّه كان يعلم بسلاسل الكذِب المشهورة والمعروفة عند العلماء، ولكنّه عفا عنها وغضَّ نظره عن أقوال أولئك العلماء فيها؛ لأنّه صاحب فكرة يريد إثباتها بأيّة طريقةٍ كانت، وكيف يتمكّن من إثباتها وإظهارها وتدوينها، إذا ترك تلك الروايات وعالجها معالجةَ نقدٍ وجرحٍ وتعديل على أساليب البحث الحديث؟)(١) .

وأشار أيضاً(ايتين القيم) إلى بعض الآراء حول هذا المنهج قائلاً: (لقد أصاب الدكتور سنوك هرمزونية بقوله:

(إنّ سيرة محمّد الحديثة تدلّ على أنّ البحوث التاريخيّة مقضيٌّ عليها بالعقم، إذا سُخّرت لأيّه نظريّةٍ أو رأيٍ سابق). هذه حقيقة يَجمل بمستشرقيّ العصر جميعاً أنْ يضعوها نصب أعينِهم، فإنّها تشفيهم من داء الأحكام السابقة، التي تكلّفهم من الجهود ما يُجاوز حدّ الطاقة فيصلون إلى نتائج لا شكّ خاطئة، فقد يحتاجون في تأييد رأيٍ من الآراء إلى هدم بعض الأخبار وليس هذا بالأمر الهيّن، ثمّ إلى بناء أخبار تقوم مقام ما هدموا، وهذا أمرٌ لا ريب مستحيل.

إنّ العالم في القرن العشرين يحتاج إلى معرفة كثير من العوامل

____________________

(١) علي، جواد - (تاريخ العرب في الإسلام) - الجزء الأوّل (السيرة النبويّة) ص٩٥.

١٦٦

الجوهريّة، كالزمن والبيئة والإقليم والعادات والحاجات والمطامع والميول إلى آخره، لا سيّما إدراك تلك القُوى الباطنة، التي لا تقع تحت مقاييس المعقول والتي يعمل بتأثيرها الأفراد والجماعات)(١) .

وهناك المئات من مفردات المنهج الكيفي والتفسير على ضوء المسبقات والخلفيّات الخاصّة للنصوص التاريخيّة، في العديد من مؤلّفات وكتابات المستشرقين خصوصاً الأوائل منهم، فمثلاً (بروكلمان)(٢) ، لا يشير إلى دور اليهود في تأليب الأحزاب على المدينة ولا إلى نقض بني قريظة عهدها مع الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، في أشدّ ساعات محنته، لكنّه يقول: (ثمّ هاجم المسلمون بني قريظة الذين كان سلوكهم غامضاً على كلّ حال)(٣) ... أمّا (إسرائيل ولفنسون) فيتغاضى عن حادثة نعيم بن مسعود في معركة الخندق، كسببٍ في انعدام الثقة بين المشركين واليهود.

رابعاً: تصوير مواقف الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من اليهود وقبائل العرب الجاهليّة، على أنّها ظلمٌ وتعسّف. ومن أمثلة ذلك ما أشار إليه المستشرق (اسرائيل ولفنسون) بصدد مهاجمة يهود بني النضير، حيث إنّه لا يقرّ بما قاله مؤرّخو الإسلام، من أنّ سبب إعلان الحرب على يهود بني النضير هو محاولتهم اغتيال الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فيقول: (... لكنّ المستشرقين ينكرون صحّة هذه الرواية ويستدلّون على كذِبها بعدم وجود ذكر لها في سورة الحشر التي نزلت بعد إجلاء بني النضير. والذي يظهر

____________________

(١) القيم، ايتين - (الشرق كما يراه الغرب) - المقدّمة ص٤٣ - ٤٤.

(٢) بروكلمان، كارل ( pockelmann ١٨٦٨ - ١٩٥٦م): مستشرق ألماني يُعتبر أحد أبرز المستشرقين في العصر الحديث. أشهر آثاره: (تاريخ الأدب العربي) في خمسة مجلّدات (١٨٩٨ - ١٩٤٢م)، و(تاريخ الشعوب والدول الإسلاميّة)(عام ١٩٣٩م)، وقد نقلهُ إلى العربيّة نبيّه أمين فارس ومنير البعلبكّي / عن البعلبكّي، منير - موسوعة المورد - المجلّد الثاني ص١٢٠.

(٣) بروكلمان، كارل - (تاريخ الشعوب الإسلامية) ص٥٣ - ٥٤.

١٦٧

لكلّ ذي عينين أنّ بني النضير لم يكونوا ينوون الغدر بالنبيّ واغتياله على مثل هذه الصورة؛ لأنّهم كانوا يخشون عاقبة فعلهم من أنصاره، ولو أنّهم كانوا ينوون اغتياله غدراً لما كانت هناك ضرورة لإلقاء الصخرة عليه من فوق الحائط، كان في استطاعتهم أنْ يفاجئوه وهو يُحادثهم إذ لم يكن معه غير قليلٍ من أصحابه)(١) .

أمّا المستشرق(فلهاوزن) فيقول:( لم يبقَ الإسلام على تسامحه بعد بدر، بل شرَع في الأخذ بسياسة الإرهاب في داخل المدينة، وكانت إثارة مشكلة المنافقين علامة على ذلك التحوّل... أمّا اليهود فقد حاول أنْ يُظهرهم بمظهر المعتدين الناكثين للعهد، وفي غضون سنوات قليلة أخرج كلّ الجماعات اليهوديّة أو قضى عليها في الواحات المحيطة بالمدينة، حيث كانوا يكوّنون جماعات متماسكة كالقبائل العربيّة، وقد التمس لذلك أسباباً واهية...) (٢) .

ويتعاطف المستشرق(مرجليوث) مع اليهود، ويرى أنّ اقتحام خيبر محضَ ظلمٍ نزل باليهود لا مبرّر له على الإطلاق(٣) .. ويُؤاخذ المستشرق(نولدكه) القبائل العربيّة، على عدم تحالفهم الدقيق في مواجهة الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ويتمنّى (لو أنّ القبائل العربيّة استطاعت أنْ تعقد بينها محالفات عربيّة دقيقة ضدّ محمّد؛ للدفاع عن طقوسهم وشعائرهم الدينيّة، والذود عن استقلالهم، إذن لأصبح جهادَ محمّد جندهَم غير مجدٍ، إلاّ أنّ عجم العربي عن أنْ يجمع شتات القبائل المتفرّقة قد سمح له أنْ يخضعهم لدينه، القبيلة تلو الأُخرى، وأنْ ينتصر عليهم بكلّ وسيلة، فتارةً بالقوّة وتارةً بالمحالفات الوديّة والوسائل السلميّة)(٤) .

____________________

(١) ولفنسون، إسرائيل - (تاريخ اليهود في بلاد العرب) - ص١٣٠ - ١٣٧.

(٢) فلهاوزن، يوليوس - (الدولة العربيّة وسقوطها) - ص١٥ - ١٦.

(٣) الدكتور خليل، عماد الدين - (المستشرقون والسيرة النبويّة) مجلّة منار الإسلام - العدد ٧.

(٤) نولدكه، ثيودور - (تاريخ العالم للمؤرّخين) الجزء ٨ - ص١١.

١٦٨

خامساً: تصوير سيرة النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على أنّها نتاج بيئته: يقول المستشرق(جب):

( إنّ محمّداً ككلّ شخصيّة مُبدعة، قد تأثّرت بضرورات الظروف الخارجيّة عنه المحيطة به، من جهة أُخرى قد شقّ طريقاً جديداً بين الأفكار والعقائد السائدة في زمانه، والدائرة في المكان الذي نشأ فيه... وقليل ما هو معروف - على سبيل التأكيد - عن حياته وظروفه المبكّرة... ولكن الشيء الذي يصحّ أنْ يُبحث ماضيه الاجتماعي....

لقد كان أحد سكان (مدينة) غير رئيسيّة، وليس هناك ما يصحّ أنْ يصوّره بأكثر من أنّه (بدوي)، شارك في الفكرة والنظرة في الحياة التي كانت للبدو الرُحّل من الناس، و(مكّة) في ذات الوقت لم تكن خلاءً بعيداً عن صخب العالم، وعن حركته في التعامل، بل كانت مدينة ذات ثروة اقتصاديّة، ولها حركة دائبة كمركز للتوزيع التجاري بين المحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسّط.

و(سكّانها) مع احتفاظهم بطابع البساطة العربيّة الأوليّة في سلوكهم ومنشآتهم، اكتسبوا معارفَ واسعةً بالإنسان والمدن، عن طريق تبادلهم الاقتصادي والسياسي مع العرب الرحل، ومع الرسميّين من رجال الإمبراطوريّة الرومانيّة، وهذه التجارب قد كوّنت في زعماء مكّة ملَكات عقليّة، وضروباً من الفطنة وضبط النفس لم تكن موجودةً عند كثير من العرب.

ثمّ إنّ (السيادة الروحيّة) التي اكتسبها المكّيون من قديم الزمان على العرب الرحّل، زادت قوّةً ونموّاً بفضل الإشراف على عدد من (المقدّسات الدينيّة) التي وجِدت داخل مكّة وبالقرب منها، وانطباع هذا الماضي الممتاز لـ (مكّة)، يمكن أنْ نقف على أثره واضحاً في كلّ ادوار حياة محمّد...

وبتعبيرٍ إنساني: إنّ محمّداً نجح لأنّه كان واحداً من المكّيّين!... ولكن بجانب هذا الازدهار في(مكة)، كانت هناك ناحية أُخرى مظلمة خلّفتها تلك الشرور المعروفة لجماعة اقتصاديّة ثريّة، فيها فجوات واسعة من الغنى والفقر! هذه الناحية، هي ناحية الإجرام الإنساني الذي تمثّل في الأرقّاء

١٦٩

والخدَم وفي الحواجز الاجتماعيّة... وواضح من دعوة محمّد الصارخة إلى مكافحة الظلم الاجتماعي، أنّ هذه الناحية كانت سبباً من الأسباب العميقة لثورته الداخليّة (النفسيّة)) !(١)

ويستطرد (جب) في محاولته لإثبات أنّ الاتّجاه الديني للرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وسعْيه لإنشاء حكومة دينيّة وجماعة دينيّة، إنّما كان بتأثير الطابع القدسي الديني لمكّة وزعامتها الدينيّة لباقبي المدن العربيّة الأُخرى، وارتباط وضعها الاقتصادي بهذه الزعامة الدينيّة، الذي أدّى إلى وقوع الصراع بينهم وبين الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من أجل ذلك، فيقول (جب): (ولكن نواة هذه الثورة النفسيّة لم تظهر في صورة (إصلاح اجتماعي)، بل بدلاً من ذلك دفعته إلى (اتجاه ديني) أعلنه في اعتقادٍ ثابت لا يتأرجح: بأنّه رسولٌ من الله، لينذر أتباعه بإنذار الرسُل الساميّين القديم: توبوا، فجزاء الله حق!!. وكل ما وُجِد بعد ذلك كان نتيجةً منتظرة للتصادم بين هذا الاعتقاد (بأنّه رسول) وبين الكفر به، ومعارضته من فريقٍ بعد فريق....

وهناك حقيقة واحدة مؤكّدة (في تاريخه) وهي: أنّ الدافع له كان (دينيّاً) على الإطلاق، فمن بدء حياته كداعٍ كانت نظرته إلى الأشخاص والأحداث وحكمه عليها نظرة تأثر فيها، بما عنده من صورة عن الحكومة الدينيّة وأغراضها في عالم الإنسان!!.. ومحمّد في البداية، لم يكن نفسه على علمٍ بأنّه صاحب دعوةٍ إلى دين جديد! بل كانت معارضة المكّيّين له، وخصومتهم له من مرحلةٍ إلى أُخرى، هي التي قادته أخيراً وهو بالمدينة - بعد أنّ هاجر إليها - إلى إعلان الإسلام كجماعة دينيّة جديدة، بإيمانها الخاص، وبمنشآتها الخاصّة.

ويبدو أنّ معارضة المكّيّين له لم تكن محافظتهم وتمسّكهم بالقديم، أو

____________________

(١) جب، (المذهب المحمّدي) ص٤٧.

١٧٠

بسبب عدم رغبتهم في الإيمان، بل ترجع أكثر ما ترجع إلى أسباب سياسيّة واقتصاديّة، لقد تملّكهم الخوف من آثار دعوته، التي تؤثّر على ازدهارهم الاقتصادي وبالأخص تلك الآثار التي يجوز أنْ تلحق ضرراً بالقيمة الاقتصاديّة لمقدّساتهم... وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ المكيّين قد تصوّروا - أسرع ممّا تصوّر محمّدٌ نفسه - أنّ قبولهم لتعاليمه ربّما يُمهّد لنوعٍ معقّد من السلطة السياسيّة داخل جماعتهم، التي كانت تحكمها فئة قليلة حتّى ذلك الوقت)(١) .

سادساًَ: يقول الدكتور(رشدي فكار): إنّ محاولة المستشرقين تحقيق مخطّطاتهم بالنفاذ من باب السيرة النبويّة، والتعامل معها كتراث بشري دنيوي، لا كمعتبِر لوحي السماء. وقد قام المستشرق (جولد صيهر) بدور رئيس في التشكيك بصدق السنة النبويّة، حيث ادّعى هو وغيره أنّها جُمِعت بعد وفاة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بوقتٍ طويل، وهذا يفقدها الكثير من مصداقيّتها، بل راح إلى أبعد من ذلك، فادّعى أنّ الحديث النبوي هو نتيجة لتطوّر المسلمين.

أمّا المستشرق(الفريد غيوم) في كتابه (الحديث في الإسلام) والمستشرق(تريثون) في كتابه (الإسلام عقيدة وعمل)، فقد حاول كل منهما الطعن في طرق جمع السنة المطهرة، زاعمين أنّ السنة النبويّة الصحيحة لم يُكتب لها البقاء؛ لأنّها لم تدوّن، بل كانت تُتناقل شفاهةً بين الأفراد لمدّة قرنين من الزمان(٢) .

ويشير المستشرق(درمنغهام) إلى هذه الادّعاءات، ويذكر لنا نمطاً آخر منها فيقول: (من المؤسف حقّاً أنْ غالى بعض هؤلاء المتخصّصين - من أمثال (موبر) و(مرجليوث) و(نولدكه) و(سبرنجر) و(دوزي) و(كيتاني) و(مارسين) و(غريم) و(جولد صيهر) و(غود فروا) وغيرهم - في النقد أحيانا، فلم تزل كتبهم عاملَ هدمٍ على الخصوص، ومن المُحزن

____________________

(١) جب، (المذهب المحمّدي) - ص٢٧ - ٢٩.

(٢) الجندي، أنور - (أبرز أهداف المستشرقين) - مجلّة منار الإسلام - العدد ٨ السنة ١٤.

١٧١

ألاّ تزال النتائج التي انتهى إليها المستشرقون سلبيّةً ناقصة...

ومن دواعي الأسف أنْ كان الأب(لامانس)، الذي هو من أشهر المستشرقين المعاصرين من أشدّهم تعصّباً، وأنّه شوّه كتبه الرائعة الدقيقة وأفسدها بكرهه للإسلام ونبيّ الإسلام، فعند هذا العالِم اليسوعي أنّ الحديث إذا وافق القرآن كان منقولاً عن القرآن، فلا أدري كيف يُمكن تأليف التاريخ، إذا اقتضى تطابق الدليلين تهادمهما بحكم الضرورة، بدلاً من أنْ يؤيّد أحدهما الأخر؟)(١) .

والأكثر غرابة هو موقف بعض المستشرقين من القرآن كمصدر أساسي من مصادر السيرة النبويّة، فهم ينفون الكثير من وقائع السيرة إذا لم تكن واردة في القرآن الكريم، وهم بعبارةٍ أُخرى، يريدون أنْ يُوهموا بهذه الحجّة أنّ عمليّة انتقائهم المغرضة لبعض وقائع السيرة، وترك البعض الأخر - بهدف هدم هذه السيرة ونفيها - لم يكن جزافاً، بل كان على أساس الاتّكاء على المصدر الفيصل لدى المسلمين، في بيان حقائق دينهم ونبيّهم.

ومن الأمثلة على ذلك ما يدّعيه المستشرق(شبنغلر) (٢) من أنّ اسم النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ورد في أربع سوِر من القرآن هي آل عمران والأحزاب ومحمّد والفتح، وكلّها سوِر مدنيّة، ومِن ثمّ فإنّ لفظة(محمّد) لم تكن اسم علَم للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قبل الهجرة، وإنّما اتّخذه بتأثير قراءته للإنجيل واتّصاله بالنصارى(٣) ، ومن الأمثلة أيضاً ما أشار إليه المستشرق(إسرائيل

____________________

(١) درمنغهام، إميل - (حياة محمّد) - المقدّمة ص٨، ١٠ - ١١.

(٢) شبنغلر، (أوزوولد Spengler Oswald ١٨٨٠ - ١٩٣٦م): فيلسوف ألماني قال بأنّ الحضارات تولد وتنضج ثمّ تموت كالكائنات الحيّة سَواء بسواء، وأنّ الحضارة الغربيّة المعاصرة هي في طريقها إلى الموت، وبأنّ حضارة أُخرى جديدة من آسيا سوف تحلّ محلّها، أهمّ آثاره: (انحطاط الغرب) وهو يقع في مجلّدين.

عن البعلبكّي، منير - موسوعة المورد م٩ ص١٠١.

(٣) علي، جواد. (تاريخ العرب في الإسلام) الجزء الأول ص٧٨ وهوامشها، ويمكننا أنْ ننقض على (شبنغلر) هذا فنسأله: إذا كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد التقط اسم محمّد من خلال قراءته لنبوءات الإنجيل، = فأين إذن (محمّد) الحقيقي الذي بُشر به في كتب النصارى؟

١٧٢

ولفنسون) - الذي مرّ ذكره - بصدد مهاجمة يهود بني النضير، من أنّ مؤرّخي المسلمين يذكرون سبباً آخر لإعلان الحرب على هذه الطائفة اليهوديّة، ذلك هو محاولتهم اغتيال الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

ويدّعي(ولفنسون) أنّ المستشرقين يقولون بغير ذلك فيقول: (لكنّ المستشرقين ينكرون صحّة هذه الرواية ويستدلّون على كذبها بعدم وجودِ ذكرٍ لها في سورة الحشر، التي نزلت بعد إجلاء بني النضير)(١) .

ويُعتبر ما ذكره(مونتغمري وات) - بصدد تثبيت الشبهات وتكريس الشكوك حول معطيات السيرة النبويّة، ومصداقيّتها القدسيّة، على أساس الدليل والحجّة القاطعة - قناعاً يقنع به ذلك المنهج الاعتباطي المُغرض؛ لأنّه هو نفسه لم يلتزم بما قاله، وكشف من خلال كتاباته زيف ادّعائه وحقيقة منهجه الكيفي، ممّا يجعلنا نتحفّظ من قوله: (إذا أردنا أنْ نصحّح الأغلاط المكتسبة من الماضي بصدد (محمّد)، فيجب علينا في كلّ حالة من الحالات لا يقوم الدليل القاطع على ضدّها أنْ نتمسّك بصلابة بصدقه، ويجب أنْ لا ننسى أيضاً أنّ الدليل القاطع يتطلّب لقبوله أكثر من كونه ممكناً، وأنّه في مثل هذا الموضوع يصعب الحصول عليه)(٢) .

سابعاً: الانطلاق من المنطق الوضعي العلماني، وطريقة التفكير الأوربيّة في تناول السيرة الشريفة للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته (عليهم السلام): حاول المستشرقون أنْ يخترقوا السيرة النبويّة، ويُخضعوا حياة نبيّ الإسلام (محمّد) (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته (عليهم السلام) لعلوم الغربيّين في التربية والسيكولوجيا(٣) .

إنّ المنطق الوضعي العلماني والرؤية الأوربيّة في منهج البحث التاريخي أدّى

____________________

(١) ولفنسون، إسرائيل - (تاريخ اليهود في بلاد العرب) - ص١٣٥ - ١٣٧.

(٢) وات، مونتغمري - (محمّد في مكّة) - ص٩٤.

(٣) الجندي، أنور - (أبرز أهداف المستشرقين) - مجلّة منار الإسلام العدد ٨ - السنة ١٤.

١٧٣

إلى أنْ تقع مجموعة من المستشرقين في تزوير وتحريف الحقائق التاريخيّة، منها قولهم: (إنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يكن يخطو خطوةً واحدة، وهو يعلم مسبقاً ما الذي يليها...)، أي إنّه كان يتحرّك وفق ما تمليه عليه الظروف الراهنة من متطلّبات ولوازم، دونما أيّ تخطيط شمولي وأُفقٍ عالمي، كما هو وارد في القرآن الكريم ومتواتر فيما نُقل من السيرة النبويّة.

ومن أبرز من تبنّى هذه المقولة هو المستشرق(فلهاوزن) ومجموعته الاستشراقيّة، إذ قالوا بإقليميّة دعوة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) للإسلام في عصرها المكّي، وإنّه لم ينتقل إلى المرحلة العالميّة - في العصر المدني - إلاّ بعد أنْ أتاحت له الظروف ذلك، ولم يكن ليفكّر بذلك من قبل.

وقد أشار المستشرق(سير توماس أرنولد) إلى هذه الرؤية الخاطئة لدى زملائهِ بقوله: (من الغريب أنْ ينكر بعض المؤرّخين أنّ الإسلام قد قُصد به مؤسّسه في بادئ الأمر، أنْ يكون ديناً عالميّاً برغم هذه الآيات البيّنات)(١) .

وقد سبقَت الإشارة إلى أنّ المستشرق الفرنسي(دينيه)، الذي أعلن إسلامه قال في هذا الصدد أيضاً: (إنّه من المتعذّر إنْ لم يكن من المستحيل، أنْ يتجرّد المُستشرقون عن عواطفهم وبيئتهم نزعاتهم المختلفة، وإنّهم لذلك قد بلغ تحريفهم لسيرة النبيّ والصحابة مَبلغاً يُخشى على صورتها الحقيقيّة من شدّة التحريف فيها، ورغم ما يزعمون من أتباعهم لأساليب النقد البريئة ولقوانين البحث العلمي الجاد، فإنّا نلمس من خلال كتاباتهم محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يتحدّث بلهجةٍ ألمانيّة إذا كان المؤلّف ألمانيّاً، وبلهجةٍ إيطاليّة إذا كان الكاتب إيطاليّاً.

وهكذا تتغيّر صورة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بتغيّر جنسيّة الكاتب، وإذا بحثنا في هذهِ السيرة عن الصورة الصحيحة فأنا لا نكاد نجد لها من أثر.

إنّ المستشرقين يقدّمون لنا صوراً خياليّة

____________________

(١) أرنولد، سير توماس - (الدعوة إلى الإسلام) - ص٤٨.

١٧٤

هي أبعد ما تكون عن الحقيقة، إنّها أبعد عن الحقيقة من أشخاص القصص التأريخيّة التي يؤلّفها أمثال (وولتر سكوت) و(الكسندر دوماس).

وذلك أنّ هؤلاء يصوّرون أشخاصا من أبناء قومهم، فليس عليهم إلاّ أنْ يحسبوا حساب اختلاف الأزمنة، أمّا المُستشرقون فلم يمكنهم أنْ يلبسوا الصورة الحقيقيّة لأشخاص السيرة فصوّروهم حسب منطقهم الغربي وخيالهم العصري...).

ولتقريب الفكرة يضرب(دينيه) مثلاً عكسيّاً: (ما رأي الأوربيّين في عالم مِن أقصى الصين يتناول المتناقضات، التي تكثر عن مؤرّخي الفرنسيّين ويمحصّها بمنطقه الشرقي البعيد، ثمّ يهدم قصّة(الكاردينال ريشيليو) (١) كما نعرفها ليعيد إلينا ريشيليو آخر له عقليّة كاهن من كهنة بكّين وسماته وطباعه؟

إنّ مستشرقي العصر الحاضر قد انتهوا إلى مثل هذه النتيجة، فيما يتعلّق برسمهم الحديث لسيرة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ويُخيّل الينا أنّنا نسمع محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يتحدّث في مؤلّفاتهم إمّا باللهجة الألمانيّة أو الانجليزيّة أو الفرنسيّة، ولا نتمثّلهُ قط بهذه العقليّة والطباع التي ألصقت به، يحدّثُ عُرباً باللغة العربيّة)، ويختم هذا المستشرق المسلم كلامه بالقول: (إنّ صورة نبيّنا الجليلة التي خلّفها المنقولٍ الإسلامي، تبدو أجمل وأسمى إذا قيست بهذه الصورة المصطنعة الضئيلة، التي صيغت في ظلال المكاتب بجهدٍ جهيد)(٢) ، وأخيرا فإنّ هذا النمط من أنماط النماذج المختارة في العقليّات

____________________

(١) (ريشيليو)، آرمان جان دوبليسي (١٥٨٥ - ١٦٤٢م) كاردينال وسياسي فرنسي، كبير وزراء لويس الثالث عشر والحاكم الفعلي لفرنسا (١٦٢٨ - ١٦٤٢م) قضى على نفوذ نبلاء الإقطاع ونفوذ البروتستانت السياسي. سعى إلى إذلال آل هابسبورغ في حرب الأعوام الثلاثين. أجرى إصلاحات ماليّة وعسكريّة وتشريعيّة، وشجّع التجارة، ورعى الفنون، وأنشأ الأكاديميّة الفرنسيّة. عن البعلبكّي، منير - (المورد) - الجزء الثامن - ص١٥٠.

(٢) دينيه، إيتين - (محمّد رسول الله) - ترجمة عبد الحليم محمود - المقدّمة ص٢٧ - ٢٨، ٤٣ - ٤٤.

١٧٥

الاستشراقيّة والمصبّات الموضوعيّة، التي وقع الجهد الاستشراقي عليها، يكشف لنا بوضوح مدى التعصّب والمنهجيّة المغرضة، والدوافع التبشيريّة والاستعماريّة في وقائع الحركة الاستشراقيّة وأعمال المستشرقين، فكانت النتائج التي تمخضّت والمعطيات التي أُفرِزت ذات ثلاثة أبعاد أساسيّة:

الأوّل: كان بمثابة مسح ميداني للشرق الإسلامي فكريّاً وحضاريّاً.

الثاني: التشويه الموضوعي للفكر الإسلامي والحضارة القائمة عليه، بهدف منع تأثّر المجتمع الأوربّي به، إضافةً إلى تكوين ارتكاز ذهني عن تخلّف المسلمين وجهلهم المركّب ليكون مبرّراً لاستعمارهم.

الثالث: النيل من العقائد الإسلاميّة (في القرآن وفي الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)... إلخ)، وتشويه حقائقها بهدف نفي قدسيّتها من نفوس المسلمين، وبذلك يمكن فكّ الارتباط بينهم وبين معتقداتهم، ليتم الجانب السلبي من عمليّة التغيير للمجتمعات الإسلاميّة.

وبهذه الأبعاد أو قل المقدّمات الثلاث تتهيّأ الأرضية المناسبة لقيام أوربّا بالغزو التبشيري والاستعماري للشرق الإسلامي فكريّاً وسياسيّاً وعسكريّاً، فيبرز الجانب الايجابي من عمليّة التغيير للمجتمعات الإسلامية إلى الواقع.

١٧٦

الفصل الخامس

نماذج من كبار المستشرقين في منهج

تناولهم للشّرق الإسلامي

* ارندجان فنسنك Arandjan Wensink

* صموئيل زويمر Samual Zwemer

* لويس ماسنيون Louis Massignon

١٧٧

١٧٨

طيلة قرون وحتّى فترة متأخّرة من القرن العشرين، لم تتعرّف الشعوب الغربيّة على الشرق الإسلامي، من خلال مصادره الخاصّة وتراثه المباشر، وإنّما عرفوه من خلال رجال متخصّصين، وعلى رأسهم المستشرقون الذين جالوا بلدان الشرق الإسلامي، وسجّلوا مشاهداتهم الحسيّة من الواقع، ونقلوا إلى جامعاتهم ومعاهدهم الآلاف من الكتب والمصادر والوثائق، وأخضعوها للدرس والتحليل.

وعلى أساس من خلفيّاتهم الغربيّة ومنطقهم العلماني وشعورهم الاستعدائي لكلّ ما ينتمي للإسلام فكراً ومجتمعاً، واستهدافهم المتناغم مع التطلّعات الاستعماريّة لدول الغرب، صوّروا الإسلام ومجتمعه للغربيّين، بل طرحوه لأُمم العالم وشعوبه بثوبٍ جديد نسجته عقولُهم على ضوء نظريّتهم وخلفيّاتهم تلك، فخرج مشوّهاً في حقيقته، مزيّناً بأثوابِ التحديث وبريق التقدّم الزائف، حتّى أصبحت كتبهم ومؤلّفاتهم عن الشرق الإسلامي هي المصادر الأساسيّة، ومراجع التعريف والدراسة الوحيدة تقريباً للشرق الإسلامي في جميع معاهد وجامعات الغرب، بل وأغلب الجامعات التي أُنشئت على المنهج الغربي في أنحاء العالم.

وفي سبيل تسليط الضوء على هذه الحقيقة، رأينا أنْ ندرس منهج تفكير وطريقة تناول نماذج من رجال الغرب، تُعتبر من أكبر مَن تصدّى لدراسة الشرق الإسلامي وتعريفه، والعمل على أرضه وفي وسط مجتمعاته، ولا يمكننا أنْ نخرج عن دائرة المستشرقين في هذه النماذج؛ لأنّهم هُم وحدهم الذين تتوفّر فيهم خصائص الشموليّة والتخصّص في مثل هذه الدراسات، خصوصاً وأنّ كبارهم هم أصحاب

١٧٩

مدارس متميّزة ورائدة في مجال دراسة الشرق الإسلامي إيديولوجيّاً واجتماعيّاً.

إنّ انتقاءنا لنماذج من كبار رجال الاستشراق، سيكون منسجماً مع هدفنا في تشخيص وتقويم منهج دراسة الغربيّين للشرق الإسلامي وتعريفه، كما أنّ الأساس الذي اعتمدناه في هذا الانتقاء هو الدور الخطير فكريّاً وميدانيّاً لهؤلاء الرجال، والذي سيكشف لنا عن الأثر السلبي الكبير الذي تركوه على الذهنيّة الغربيّة في فهم الإسلام ومجتمعاته من جهة، وعن التخريب الفكري والاجتماعي الذي أحدثوه في المجتمعات الإسلاميّة، عن طريق صياغة إيديولوجيّات وبرامج تغيير لحرف توجّهات هذه المجتمعات عن مسارها الإسلامي، ومحق هويّتها الدينيّة من جهة أُخرى.

وبذلك استغنى الاستعمار الغربي عن الأُسلوب العسكري المباشر في السيطرة على الشرق الإسلامي، واكتفى بالاستعمار الفكري والمنهجي، المتمثّل بجملة من المبادئ والأُطروحات الحديثة التي أُلبست ثوب القوميّة أو الوطنيّة تارة، وثوب التمدّن والتحديث تارةً أُخرى، وثوب الدفاع عن حقّ الشعوب وحريّتها الفكريّة تارةً ثالثة.

وفيما يلي ثلاثة نماذج رائدة في هذا المجال نتناولها تِباعاً:

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

المعين هو الماء الجاري. ويرى البعض أنّ «المعين» مشتق من «العين» أي نبع الماء الظاهر الذي يمكن مشاهدته بالعين المجرّدة(١) .

وفي هذا إشارة مجملة إلى المكان الآمن الوارف البركات والخيرات ، الذي منّ اللهعزوجل به على هذه الامّ وابنها وجعلهما في أمان من شرّ الأعداء ، يؤدّيان واجباتهما باطمئنان.

واختلف المفسّرون في هذا المكان ، فبعض يرى أنّ مولد السيّد المسيحعليه‌السلام كان في «الناصرة» (من مدن الشام). وقد جعله الله وأمّه في مكان آمن ذي خيرات ، وحافظ عليه من شرّ الأعداء الذين أرادوا أن يكيدوا بعد علمهم بولادته ومستقبله.

ويرى آخرون أنّ هذا المكان الآمن هو «مصر» ، لأنّ مريمعليها‌السلام وابنها السيّد المسيحعليه‌السلام عاشا فترة من حياتهما في مصر طلبا للنجاة من شرّ الأعداء.

وقال غيرهم : إنّ المسيحعليه‌السلام ولد في «دمشق» ، وذهب سواهم إلى أنّه في «الرملة» في الشمال الشرقي من القدس ، حيث عاش المسيح وامّهعليهما‌السلام في كلّ من هذه المناطق فترة من حياتهما. ويحتمل أن يكون مولد السيّد المسيحعليه‌السلام في صحراء القدس ، وقد جعله الله أمنا لهذه الامّ والوليد ، وفجرّ لهما ماء معينا ورزقهم من النخل الجافّ رطبا جليّا.

وعلى كلّ حال ، فقد كانت الآية دليلا على حماية الله تعالى الدائمة لرسله ولمن يدافع عنهم. وتأكيدا على أنّ إرادة الله هي الأقوى ، فلو أراد الملأ كلّهم قتل رسوله دون إذنه لما تمكّنوا. فالوحدة وقلّة الأنصار والأتباع لا تكون سببا لهزيمتهم إطلاقا.

* * *

__________________

(١) في الحالة الأولى تكون الميم جزءا من الكلمة ، وهي على وزن «فعيل» ، وفي الثّانية الميم زائدة وهي على وزن مفعول «مثل مبيع».

٤٦١

الآيات

( يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤) )

التّفسير

جميع الامّة يد واحدة :

تحدّثت الآيات السابقة عن ماضي الأنبياء وأممهم ، أمّا هذه الآيات فخاطبت الجميع فقالت :( يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ) .

الفرق بينكم أيّها الأنبياء وبين سواكم من البشر ، ليس في أنّكم لا تتّصفون بصفاتهم كالحاجة إلى الطعام والشراب والنوم والراحة ، وإنّما بسموّكم ، ففيما يتهافت الناس على إشباع شهواتهم بما طاب وخبث وقد جعلوا من الأكل هدفهم النهائي ، زكت أنفسكم ، واختارت الطّيبات وصالح الأعمال.

بين عبارتي( كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ ) و( اعْمَلُوا صالِحاً ) ارتباط واضح ، فلنوع

٤٦٢

الغذاء أثر في نفس الإنسان وعقله وسلوكه. وقد ذكرت الأحاديث الإسلامية أنّ تناول الغذاء الحرام يمنع استجابة الدعاء.

وروي عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله لرجل سأله عن استجابة دعائه «طهّر مأكلك ولا تدخل بطنك الحرام»(١) و(٢) .

وقوله تعالى :( إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ) بنفسه دليل مستقبل على وجوب القيام بالعمل الصالح ، لأنّ الإنسان عند ما يعلم بأنّ الله يراقب أعماله ، ولا يخفى عليه شيء وسوف نحاسبه بدقّة على ذلك ، فلا شكّ في أنّ الالتفات إلى هذا الأمر يساعد في إصلاح عمله.

مضافا إلى أنّ تعابير الآية هذه تبعث في الإنسان الشعور بضرورة تقديم الشكر لله على ما أنعم عليه من الطيّبات ، وبذلك تؤثّر في عمله أيضا.

وبهذا بيّنت الآية ثلاثة مؤثّرات في العمل الصالح :

الأوّل : طيب الغذاء الذي يورث صفاء القلب ونقاوته.

والثّاني : شكر الله تعالى على ما أنعم به من رحمته.

الثّالث : الشعور اليقظ بمراقبة الله سبحانه للأعمال كلّها.

أمّا كلمة «الطيب» فهي كما قلنا تعني كلّ شيء نظيف وطاهر. وهي نقيض كلمة «الخبيث» قال الراغب الاصفهاني في مفرداته : الطيب يعني : كلّ ما يسرّ الإنسان حسيّا وروحيا ، أمّا من الناحية الشرعية فهو الحلال الطاهر.

والقرآن المجيد ذكر الطيب والطيبات في كثير من الموارد :

( يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ ) (٣) . ثمّ لا يقصر الأمر على الرسل ، بل :

__________________

(١) وسائل الشيعة ، المجلّد الرّابع ، الدعاء الباب (٦٧) الحديث (٤).

(٢) تناولنا شرح ذلك في تفسير الآية (١٨٦) من سورة البقرة.

(٣) المؤمنون ، ٥١.

٤٦٣

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ ) (١) بل إنّ ما يصل إلى مقام القرب هو الطيّب من الأعمال والأقوال :

( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) (٢) .

وأحد امتيازات الإنسان الكبيرة على سائر الموجودات أنّ الله تعالى رزقه من الطيّبات:( وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً ) (٣) .

كما جاء في حديث موجز ثر المعنى عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عرض لهذه الحقيقة «يا أيّها الناس ، إنّ الله طيّب لا يقبل إلّا طيّبا»(٤) .

ثمّ دعت الآية جميع الأنبياء وأتباعهم إلى توحيد الله والتزام تقواه( وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً ) فالاختلافات الموجودة بينكم ، وكذلك بين أنبيائكم ليست دليلا على التعدّدية إطلاقا.( وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ) .

فنحن بين يدي دعوة واعية إلى وحدة الجماعة والقضاء على ما يثير التفرقة ، ليعيش الناس أمّة واحدة ، كما أنّ الله ربّهم واحد أحد.

ولهذا يجب أن ينتهج الناس ما نهجه الأنبياءعليهم‌السلام إذ دعوا إلى اتّباع تعاليم موحدّة ، ذات أساس واحد في كلّ مكان «توحيد الله ومعرفة الحقّ ، الاهتمام بالمعاد والتكامل في الحياة ، والاستفادة من الطيّبات والقيام بالأعمال الصالحة.

والدفاع عن العدل والمبادئ الإنسانيّة».

ويرى بعض المفسّرين أنّ كلمة «أمّة» تعني هنا الدين والعقيدة. وليس المجتمع. إلّا أنّ ضمير الجمع في جملة( أَنَا رَبُّكُمْ ) دليل على أنّ (الامّة) تعني

__________________

(١) البقرة ، ١٧٢.

(٢) فاطر ، ١٠.

(٣) الإسراء ، ٧٠.

(٤) تفسير القرطبي ، المجلّد السابع ، صفحة ٤٥١٩ (حول الآية موضع البحث).

٤٦٤

الناس جميعا.

وقد وردت كلمة «الامّة» في القرآن المجيد بمعنى «الجماعة» غالبا ، وندر ورودها بمعنى «الدين» مثل( إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ ) (١) .

وممّا يلفت النظر أنّ هذا المعنى تضمّنته الآية ٩٢ من سورة الأنبياء مع فارق بسيط( إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) . في وقت شرحت الآيات السابقة لهذه الآية حياة كثير من الأنبياء ، و «هذه» في الحقيقة إشارة إلى أمم الأنبياء السابقين ، الذين كانوا يشكّلون أمّة واحدة بحسب التعاليم الإلهيّة ، حيث تحرّكوا جميعا لتحقيق هدف واحد.

وقد حذّرت الآية التالية البشر من الفرقة والاختلاف ، بعد أن تمّت في الآية السابقة دعوتهم إلى التمسّك بالواحدة فقالت :( فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً ) وممّا يثير الدهشة أنّ( كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) .

«الزبر» جمع «زبرة» على وزن «لقمة» تعني بعض شعر الحيوان خلف رأسه.

يجمعه الراعي ليفصله عن باقي الشعر. ثمّ أطلقت هذه الكلمة على كلّ شيء ينفصل عن أصله ، فتقول الآية :( فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً ) . إشارة منها إلى تفرّق الامّة إلى مجموعات وفئات مختلفة.

واحتمل البعض الآخر أنّ الزبر جمع «زبور» بمعنى كتاب ، وتعني أنّ كلّ فئة منهم كانت تمسك بكتاب منزل وتنفي ما عداه من الكتب السماوية ، مع أنّ مصدرها واحد. ولكن عبارة( كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) تدعم التّفسير الأوّل ، فكلّ حزب يتحدّث بما تشتهي نفسه ، ويصرّ على رأيه.

تستعرض الآية حقيقة نفسيّة واجتماعية هي أنّ التعصّب الجاهلي للأحزاب

__________________

(١) الزخرف ، ٢٣.

٤٦٥

والفئات يمنع وصولها إلى الحقيقة! لأنّ كلّا منها قد اتّخذ سبيلا خاصّا به ، وأصبح في قوقعة لا تسمح لنور جديد بالدخول إلى قلبه ، ولا بنسيم معنوي يهبّ على روحه ليكشف لها حقيقة من الحقائق.

وهذه الحالة نتجت عن حبّ الذات المفرط والعناد ، وهما أكبر عدوّ للحقيقة ، ولوحدة الامّة. إنّ الاعتزاز بالنمط الذي تعيشه كلّ فئة واحتقار سواه يجعل الإنسان يصمّ أذنيه عن كلّ صوت يخالف ما اعتقده. ويغطّي رأسه بثوبه ، أو يلجأ إلى الفرار خوفا من تجلّي حقيقة على خلاف ما اعتاد عليه كما يذكر القرآن المجيد عن حال المشركون زمن نوحعليه‌السلام وعلى لسان هذا النّبي المرسل :( وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً ) (١) .

ولا يمكن للإنسان النجاة بنفسه والوصول إلى الحقّ إلّا بالتخلّص من هذه الحالة وإنهاء عناده.

ولهذا تقول الآية الأخيرة هنا :( فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ ) أي اتركهم على حالهم حتّى يأتي أجلهم ، أو يأتيهم الله بعذاب منه ، فليس لهم سوى هذا ، لأنّهم أصرّوا على البقاء في جهلهم ومتاهتهم.

وكلمة «حين» قد تكون إشارة إلى وقت الموت ، أو نزول العذاب ، أو كليهما.

وأمّا «الغمرة» على وزن «ضربة» فهي بالأصل من «غمر» أي إتلاف كلّ شيء. ثمّ أطلق غمر وغامر على الماء الكثير الذي يزيل كلّ شيء يواجهه ويواصل جريانه ، ثمّ أطلق على الجهل والبلايا التي يغرق فيها الإنسان. كما استعملته الآية السابقة بمعنى الغفلة والضياع والجهل والضلال.

* * *

__________________

(١) سورة نوح ، ٧.

٤٦٦

الآيات

( أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (٥٦) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (٦١) )

التّفسير

المسارعون في الخيرات :

تعرّض ما سبق من الآيات المباركة للأحزاب والمجموعات المعاندة التي غلب عليها التعصّب وحبّ الذات ، وتمسّكوا بأفكارهم الضالّة وفرحوا بما لديهم.

بينما أشارت الآيات موضع البحث إلى بعض تصوراتهم الأنانيّة :( أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ ) هو من أجل أنّنا :( نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ ) .

فهل يتصوّرون أنّ أموالهم الوافرة وكثرة أولادهم دليل على أنّهم على حقّ ،

٤٦٧

ودليل على قرب منزلتهم من الله؟( بَلْ لا يَشْعُرُونَ ) أنّ كثرة أموالهم وأولادهم نوع من العذاب ، أو مقدّمة للعذاب ولعقاب الله ، إنّهم لا يدركون أنّ ما أغدق عليهم ربّهم من نعم إنّما هو من أجل أن يتورّطوا في العقاب الإلهي. ويمسي عقابهم أشدّ ألما ، لأنّ الإنسان إذا أغلقت دونه أبواب النعمة ثمّ حلّ به العذاب ، فقد لا يكون بتلك الدرجة موجعا ومؤلما أمّا الذين يعيشون في أوساط مرفّهة ثمّ يلقى بهم في دهاليز السجون والزنزانات المرعبة ، فسيكون ألم ذلك شديدا عليهم جدّا.

كما أنّ زيادة النعمة من شأنها أن تزيد حجب الغفلة والغرور عليهم فتمنعهم من العودة إلى طريق الصواب.

وهذا هو ما أشارت إليه معظم آيات القرآن في قضيّة (الاستدراج في النعم)(١) .

وكلمة «نمدّ» مشتقة من «الإمداد» وهو إتمام النقص والحيلولة دون القطع ، وإيصال الشيء إلى نهايته.

وبعد نفي تصورات هؤلاء الغافلين ، تستعرض هذه الآيات وضع المؤمنين والمسارعين في الخيرات ، وتبيّن صفاتهم الرئيسيّة ، فتقول :( إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ) . والخشية لا تعني مطلقا الخوف ، بل تعني الخوف المقترن بالتعظيم والتقديس.

وكلمة «المشفق» مشتقّة من «الإشفاق» ومن أصل : الشفق ، أي : الضياء المخالط للظلمة ، وتعني الخوف الممزوج بالمحبّة والإجلال.

ولكون الخشية ذات جانب عاطفي ، والإشفاق ذا جانب عملي ، ذكرا معا إيضاحا للعلّة والمعلول في الآية. فهي تعني أنّ الخوف المخلوط بتعظيم الله قد استقرّ في قلوبهم ، وقد بدت علائمه في أعمالهم والتزامهم بالتعاليم الإلهيّة. أي أنّ

__________________

(١) للاطلاع بشكل أوسع على موضوع الاستدراج يراجع تفسير الآية ١٨٢ من سورة الأعراف.

٤٦٨

الإشفاق مرحلة تكاملية للخشية ، وهوما يؤثّر في عمل الإنسان فيجنّبه ارتكاب الذنوب ، ويدفعه إلى القيام بمسؤولياته.

ثمّ تضيف الآية( وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ) .

وتأتي بعد مرحلة الإيمان بآيات الله ، مرحلة تنزيهه عن كلّ شبهة وشريك ، فتقول الآية :( وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ ) .

ونفي الشرك جاء نتيجة للإيمان بآيات الله تعالى ، وهو معلول الإيمان ، أي أنّ الإيمان بالله يشير إلى صفاته تعالى الثبوتية ، ونفي الشرك يشير إلى صفاته تعالى السلبية. وعلى كلّ حال فقد تضمّنت هذه العبارة نفي أنواع الشرك ، سواء كانت جليّة أم خفيّة.

بعد هذا تأتي مرحلة الإيمان بالمعاد والبعث ، والاهتمام الخاص الذي يوليه المؤمنون الحقيقيّون لهذه القضيّة ، التي تساعدهم عمليّا في السيطرة على أعمالهم وأقوالهم ، فتقول الآية :( وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ ) .

إنّهم ليسوا كالشخص الكسول الدنيء الهمّة الذي يأتي بأقلّ الأعمال ثمّ يتصوّر انّه من المقرّبين عند الله. ويتملّكه العجب والغرور بحيث يرى الآخرين صغار وحقراء ، بل إنّ هؤلاء لا يطمئنّون ولا يبتهجون بأكبر عمل مهما زكا وسما ، بل وينجزون الأعمال الصالحة التي تعادل عبادة الثقلين. ومع كلّ هذا يقولون : آه من قلّة الزاد وبعد السفر!

وبعد شرح الآيات السابقة لهذه الصفات الأربعة تقول الآية :( أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ ) والأعمال الحسنة ، والسعادة الحقيقيّة ليست كما يتصوّرها المترفون الغافلون المغرورون بالحياة الدنيا. إنّما هي في إنجاز الأعمال الصالحة قربة إلى الله كما يفعل المؤمنون الصادقون ، المتّصفون بالخصائص الإيمانيّة والأخلاقية السالفة الذكر الذين يسارعون في الخيرات.

٤٦٩

وقد رسمت الآيات السابقة صورة واضحة لصفات هذه القدوة من المؤمنين ، فبدأت أوّلا بالخوف الممتزج بتعظيم الله ، وهو الدافع إلى الإيمان به ونفي الشرك عنه. وانتهت بالإيمان بالمعاد حيث محكمة العدل الإلهي ، الذي يشكّل الشعور بالمسؤولية. ويدفع الإنسان إلى كلّ عمل طيّب. فهي تبيّن أربع خصال للمؤمنين ونتيجة واحدة. (فتأمّلوا جيدا).

قوله «يسارعون» من باب «مفاعلة» وتعني «التسابق» ، وهو تعبير جميل يصوّر حال المؤمنين وهم يتسابقون إلى هدف كبير سام. كما يبيّن تنافسهم في إنجاز الأعمال الصالحة دون ملل وكلل.

* * *

٤٧٠

الآيات

( وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٢) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (٦٣) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (٦٥) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦) )

( مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (٦٧) )

التّفسير

قلوب في الجهل مغمورة! :

بما أنّ خصال المؤمنين هي سبب القيام بالأعمال الخيّرة التي أشارت إليها الآيات السابقة ، فهنا يثار هذا التساؤل بأنّ هذه الخصال والقيام بهذه الأعمال لا تتيسّر لكلّ أحد.

فتجيب أوّل آية ـ من الآيات موضع البحث ـ عن ذلك فتقول :( وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ) وكلّ إنسان يكلّف حسب عقله وطاقته.

٤٧١

وهذه إشارة إلى أنّ الواجبات الشرعيّة هي في حدود طاقة الإنسان. وأنّها تسقط عنه إذا تجاوزت هذه الحدود ، وكما يقول علماء أصول الفقه : إنّ هذه القاعدة حاكمة على جميع الواجبات الشرعيّة ومقدّمة عليها.

وقد يسأل : كيف يحاسب كلّ البشر على أعمالهم كلّها صغيرها وكبيرها؟

فتجيب الآية( وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) فهناك صحيفة أعمال الإنسان المحفوظة لدى الله العلي القدير. وهي تنطق بالحقّ عمّا اقترفه الإنسان من ذنوب ، فلا يمكنه إنكارها(١) .

وربّما كان القصد من الكتاب الذي لدى الله هو اللوح المحفوظ. ولفظ «لدينا» يؤكّد هذا التّفسير.

والخلاصة أنّ الآية المذكورة آنفا تؤكّد حفظ الأعمال على أهلها من خير أو شرّ ، فهي مسجّلة بدقّة ، والإيمان بهذه الحقيقة يشجّع الصالحين على القيام بأعمال الخير ، واجتناب الأعمال السيّئة.

وتعبير( يَنْطِقُ بِالْحَقِ ) الذي وصف صحيفة أعمال البشر تشبه القول : إنّ الرسالة الفلانية ذات تعبير واضح ، أي : لا يحتاج إلى شرح. وكأنّها ناطقة بذاتها ، فهي تجلّي الحقيقة.

وعبارة( وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) تبيّن أنّه لا ظلم ولا جور ولا غفلة يوم الحساب ، فكلّ شيء في سجلّ معلوم.

ولكون هذه الحقائق مؤثّرة في الواعين من الناس فحسب ، أضافت الآية التالية بأنّ هؤلاء الكفّار المعاندين غارقون في دوّامة الجهل والغفلة لدرجة أنّهم غافلون عمّا ينتظرهم من الوعيد :( بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا ) (٢) .

__________________

(١) لقد شرحنا بإسهاب صحيفة أعمال الإنسان وحقيقتها في التّفسير الأمثل حين تفسير الآية (١٣) من سورة الإسراء وكذلك حين تفسير الآية (٤٩) من سورة الكهف.

(٢) يمكن أن تكون كلمة «هذا» إشارة إلى صحيفة الأعمال ويوم الحساب ، أو القرآن المجيد ، أو أعمال الصالحين التي أشارت

٤٧٢

وهذا الانغمار في الجهل لا يسمح بمعرفة هذه الحقائق ، ويمنع الضالّين من العودة إلى أنفسهم وإلى الله تعالى.

وتضيف هذه الآية( وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ ) ، وقد أورد المفسّرون تفاسير لقوله سبحانه :( وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ ) فبعضهم قال : إنّها تعني الأعمال السيّئة التي يقترفها الناس عن جهالة (فعلى هذا تكون «ذلك» إشارة إلى جهلهم) ، والأعمال هي الذنوب التي يرتكبها الإنسان عن غير علم ووعي وقال آخرون : إنّ المراد هو أنّهم إضافة إلى كفرهم ارتكبوا أنواعا من الأعمال السيّئة.

واحتمل آخرون اختلاف برنامج الكفرة عن برنامج المؤمنين اختلافا كبيرا.

ونحن نرى عدم اختلاف هذه التفاسير فيما بينها في نهاية الأمر ، ويمكن الجمع بينها ، المهمّ هو الانتباه إلى أنّ مصدر الأعمال الشريرة يكمن في انغمار القلوب في الجهالة.

ولكن هؤلاء المترفين يبقون في هذه الغفلة ما داموا في نعيمهم ، فإذا جاءهم العذاب فهم يصرخون كالوحوش من شدّة العذاب الإلهي ، كما تقول الآية :( حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ ) .

فيخاطبون( لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ ) .

أمّا لماذا ورد ذكر «المترفين» هنا فحسب مع أنّ المذنبين لا يختصّون بهم؟

السبب هو إمّا لكونهم قادة للضالّين ، أو لأنّ عذابهم شديد جدّا.

ثمّ إنّ هذا العذاب يحتمل أن يكون دنيويّا أو اخرويّا أو كليهما. حيث يصيبهم العذاب في هذه الدنيا أو في الآخرة فيرتفع صراخهم ، ويستغيثون فلا يغاثون.

وتكشف الآية التالية عن سبب هذا المصير المشؤوم( قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى

__________________

الآيات السابقة إليها.

٤٧٣

عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ ) بدلا من الاستفادة منها والانتباه للواقع.

كلمة «تنكصون» مشتقّة من النكوص ، بمعنى السير بشكل معاكس.

و «أعقاب» جمع «عقب» على وزن «فعل» وتعني عقب القدم.

وهذه الجملة كناية عن شخص يسمع كلاما غير مرغوب فيه ، فيرتعب لدرجة يسير فيها القهقرى على عقبي قدميه.

ثمّ إنّه لا يرجع إلى الوراء لمجرد سماعه آيات الله ، وإنّما يصبح ممّن وصفتهم الآية( مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ ) (١) .

وإضافة إلى ذلك( سامِراً تَهْجُرُونَ ) أي يتسامرون في لياليهم ويتحدّثون عن النّبي والقرآن بالباطل.

وكلمة «سامرا» مشتقّة من «سمر» على وزن «نصر» بمعنى التحدّث ليلا.

وقال البعض : إنّها تعني ظلّ القمر في الليل حيث يختلط السواد مع البياض فيه ، وبما أنّ المشركين من العرب كانوا يتسامرون حول الكعبة في الليالي المقمرة ، وجلّ حديثهم يتناول النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالباطل ، فوردت هذه الكلمة لهذا الغرض. ويقال «سمراء» لمن اختلط بياضها بشيء من السواد.

و( تَهْجُرُونَ ) مشتقة من «هجر» وتعني بالأصل الابتعاد والانفصال ، وقد وردت بمعنى الهذيان الصادر من المريض. لأنّ كلامه في تلك الحالة غير سليم.

ويبعث على النفور. كما أنّ الهجر (على وزن كفر) يعني السباب ، وهو أيضا يبعث على الابتعاد والقطيعة.

وقد جاءت كلمة «تهجرون» في الآية بالمعنى الأخير. فتقول : إنّ المشركين

__________________

(١) هناك اختلاف بين المفسّرين في من يعود إليه الضمير في (به). فذهب بعض أنّه يعود إلى المسجد الحرام والحرم المكّي ، لأنّ سدنة الكعبة استكبروا لاعتبارهم أنفسهم أصحاب الحرم المكّي ، وهذا الاحتمال ضعيف لأنّ الآيات السابقة لم تتناول الكعبة والحرم. ويبدو أنّ هذا الضمير يعود إلى القرآن المجيد والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيكون معنى الآية : إنّكم استكبرتم إزاء القرآن ونبي الإسلام. أو أنّها تشير إلى سيرهم المعاكس ، فهم استكبروا ولم يهتموا به.

٤٧٤

من العرب كانوا يتسامرون حتّى ساعات متأخّرة من الليل ، وهم يهذون ويكيلون السباب والشتائم كالمرضى.

وهذا الأسلوب أسلوب الجبناء وضعاف النفوس ، الذين يلجأون إلى ظلمة الليل ، ليكيلوا السباب ، حيث يفتقدون المنطق السليم الذي يمكنهم من التحدّث برجولة في وضح النهار. إنّهم اختاروا ظلام الليل بعيدين عن أنظار الناس ، ليصلوا إلى أهدافهم المشئومة ، فلجأوا إلى السباب والباطل من أجل التنفيس عن أحقادهم الجاهلية. يقول القرآن الكريم : إنّ سبب تعاستكم وما ستنالون من عذاب الله الأليم هو أنّكم استكبرتم عن قبول الحقّ. ولم ترضخوا بتواضع لآيات الله. كما لم يكن تعاملكم مع النّبي بشكل منطقي صحيح. ولولا ذلك لاهتديتم إلى طريق الحقّ والسعادة.

* * *

٤٧٥

الآيات

( أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٠) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (٧٤) )

التّفسير

أعذار المنكرين المختلفة :

تحدّثت الآيات السابقة عن إعراض الكفّار واستكبارهم إزاء الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وتناولت هذه الآيات أعذارهم في هذا المجال والرّد عليهم ، وشرحت الدوافع الحقيقيّة لإعراض المشركين عن القرآن والرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،

٤٧٦

ويمكن تلخيصها في خمس مراحل :

الأول :( أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ ) .

فأوّل سبب لتعاستهم هو تعطيل التفكّر في مضمون دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولو تفكّروا مليّا لما بقيت مشكلة لديهم.

وفي المرحلة الثّانية تقول الآية :( أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ ) . سألت الآية مستنكرة : أكانت الدعوة إلى التوحيد والمعاد ، والهدى إلى الأعمال الصالحة مختصّة بهم دون آبائهم الأوّلين ، ليحتجّوا بأنّها بدعوة ، ويقولوا : لماذا لم يبعثه الله للأوّلين ، وهو لطيف بعباده؟

ليس لهم ذلك ، لأنّ الإسلام من حيث المبادئ له مضمون سائر الرسالات التي حملها الأنبياءعليهم‌السلام فهذا التبرير غير منطقي ولا معنى له!

وفي المرحلة الثّالثة تقول الآية :( أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ) .

أي إذا كانت هذه الدعوة صادرة من شخص مجهول ومشكوك ، فيحتمل أن يقولوا بأنّ كلامه حقّ ، إلّا أنّ هذا الرجل مشكوك وغير معروف لدينا ، نخدع بكلامه. ولكنّهم يعرفون ماضيك جيدا ، وكانوا يدعونك محمّدا الأمين ، ويعترفون بعقلك وعلمك وأمانك ، ويعرفون جيدا والديك وقبيلتك ، فلا حجّة لهم!

وفي المرحلة الرّابعة تقول الآية :( أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ ) أي انّه مجنون ، فبعد اعترافهم بأنّك لست مجهولا بالنسبة لهم ، إلّا أنّهم يشكّكون في سلامة عقلك وينسبونك إلى الجنون ، لأنّ ما تدعو إليه لا ينسجم مع عقائدهم ، فلذلك اتّخذوا هذا دليلا على جنونك.

يقول القرآن المجيد لنفي هذه الحجّة :( بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِ ) وكلامه شاهد على هذه الحقيقة ، ويضيف( وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ ) .

أجل ، إنّ كلمات الرّسول راشدة حكيمة ، إلّا أنّهم ينكرونها لعدم انسجامها مع أهوائهم النفسيّة. فألصقوا به تهمة الجنون! في الوقت الذي لا ضرورة في توافق

٤٧٧

الحقّ مع رغبات الناس( وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ ) .

لأنّه لا يوجد مقياس يحدّد أهواء الناس ، مضافا إلى أنّها تميل إلى الشرّ والفساد غالبا ، ولو اتّبعتها قوانين الوجود لعمّت الفوضى في الكون ولفسد العالم.

وتأكيدا لذلك تقول الآية :( بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ ) (١) أي منحناهم القرآن الذي هو أساس للذكر والتوجّه إلى الله ، وسبب لرفعتهم وشرفهم ، إلّا أنّهم أعرضوا عن هذا المنار الذي يضيء لهم درب السعادة والشرف.

وفي المرحلة الخامسة تقول الآية : هل أنّ عذرهم في فرارهم من الحقّ هو أنّك تريد منهم أجرا على دعوتك :( أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) (٢) .

فلو طلب قائد ديني أجرا من الناس مقابل وعظهم ودعوتهم إلى الحقّ لأعطى المتعذّرين ذريعة للإعراض عنه والطعن عليه ، فيعرضون عنه بحجّة عدم قدرتهم المالية ، ويتّهمونه بأنّه ما دعاهم إلّا ابتغاء منافع خاصّة به.

مضافا إلى أنّ البشر ما يملك من شيء ليمنحه؟ أليس الله سبحانه وتعالى رزّاق العباد؟

والقرآن الكريم بإيضاحه هذه المراحل الخمس برهن على أنّ هؤلاء الحمقى (المشركين) لا يرضخون للحقّ ، وأنّ أعذارهم في إنكار الحقّ أعذار واهية.

وجاءت الآية التالية باستنتاج عام لكلّ ما مضى :( وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) صراط مستقيم دلائله واضحة واستقامته معلومة ، فالطريق

__________________

(١) يمكن أن تفسّر عبارة «ذكرهم» بمعنى تذكّرهم وتوقظهم ، ويمكن أن تفسر بمعنى شرفهم وحيثيّتهم في المجتمع البشري ، وفي الوقت ذاته لا تناقض بين هذين المفهومين ، وقد استفدنا من كليهما في تفسير الآية.

(٢) الخرج والخراج مشتق من الخروج ، ويعني الشيء الذي يستخرج من المال أو من حاصل الأرض الزراعية. إلّا أنّ الخرج ذو معنى أوسع من الخراج. وكما يقول الراغب الاصفهاني في مفرداته : الخرج أعمّ من الخراج ، وجعل الخرج بإزاء الدخل ، وقال تعالى :( فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً ) والخرج مختّص في الغالب بالضريبة على الأرض أو أجرتها.

٤٧٨

المستقيم أقصر الطرق بين نقطتين ، وهو طريق واحد ، والطريق الملتوية على يساره ويمينه غير متناهية.

ورغم أنّ الرّوايات الإسلامية تفسّر الصراط المستقيم بولاية عليعليه‌السلام (١) إلّا أنّها تكشف ـ كما قلنا مرارا ـ عن المصداق الأكمل لذلك ، ولا تتنافى مع المصاديق الاخرى كالقرآن والإيمان بالمبدأ والمعاد والتقوى والجهاد والعدل.

وتستعرض الآية التالية النتيجة الطبيعيّة لهذا الموضوع ، فتقول :( وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ ) .

كلمة «ناكب» مشتقّة من «النكب» و «النكوب» أي الانحراف عن الطريق. و «نكبت الدنيا» تقع في مقابل إقبال الدنيا ، وتعني إدبار الدنيا وإعراضها عن المرء.

ومن الواضح أنّ الصراط يقصد به هنا ما في الآية السابقة ، وبديهي أنّ الذي ينحرف عنه في الآخرة فمكانه النّار وبئس المصير ، لأنّ المرء يثاب في الآخرة على أعماله في هذه الدنيا.

وعدم إيمان المرء بالآخرة مرتبط بانحرافه عن طريق الحقّ الناجم عن عدم شعوره بالمسؤولية ، فقد روي عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام : «إنّ الله جعلنا أبوابه وصراطه وسبيله والوجه الذي يؤتى منه ، فمن عدل عن ولايتنا أو فضل علينا غيرنا فإنّهم عن الصراط لناكبون»(٢) .

* * *

بحوث

١ ـ التمسّك بالحقّ أو بالأهواء النفسيّة

أشارت الآيات السابقة ـ بشكل عابر ـ إلى التناقض بين التمسّك بالحقّ وبين الأهواء النفسيّة ، وهي إشارة ذات مدلول كبير ، حيث تقول :( وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، المجلد الثالث صفحة ٥٤٨.

(٢) أصول الكافي (وفق ما نقله تفسير نور الثقلين ، المجلد الثالث ، صفحة ٥٤٩).

٤٧٩

أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ ) . وتفسير هذه المسألة ليس صعبا للأسباب الآتية :

الف ـ لا شكّ في أنّ أهواء الناس متفاوتة ، وقد ينقض بعضها بعضا ، حتّى بالنسبة لشخص واحد فقد تتناقض أهواؤه.

ولو استسلم الحقّ لهذه الأهواء لنتج عن ذلك الفساد وعمّت الفوضى. لماذا؟

لأنّ كلّ فرد له صنم ومعبود ، فلو حكمت هذه الآلهة الكثيرة والمتضادّة هذا العالم المترامي الأطراف ، لظهر الفساد وتعمّ الفوضى من جرّاء ذلك ، وهذا لا يخفى على أحد.

ب ـ إنّ أهواء الناس مع قطع النظر عن تناقضها ، فهي تميل نحو الفساد والشرّ ولو سادت الوجود والمجتمع البشري ، فالنتيجة لا تكون سوى الفساد والشرّ.

ج ـ إنّ الميول والأهواء ذات بعد واحد ، ولا تنظر إلى الأمور إلّا من زاوية واحدة وتغفل عن بقيّة الأبعاد ، ومن المعلوم أنّ أحد العوامل المهمّة في الفساد والخراب هو المنهج ذو البعد الواحد الذي يغفل عن الأبعاد الاخرى.

والآية محلّ البحث تشبه من بعض جوانبها ما ورد في الآية الثّانية والعشرين من سورة الأنبياء( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا ) .

وبديهي أنّ الحقّ كالصراط المستقيم واحد لا نظير له ، بينما الأهواء النفسية متعدّدة كأوثان المشركين. فأيّما نتّبع الحقّ أم الهوى؟ أنتّبع الهوى الذي هو مصدر الفساد في السّماء والأرض وفي جميع الموجودات ، أم الحقّ الذي هو رمز الواحدة ، والتوحيد والنظام والانسجام؟

الجواب في غاية الوضوح والإشراق.

٢ ـ صفات القائد

أوضحت الآيات السابقة عددا من صفات القادة إلى طريق الحقّ ، فهم

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550