الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٠

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 550

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 550
المشاهدات: 197237
تحميل: 5312


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 550 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 197237 / تحميل: 5312
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 10

مؤلف:
العربية

المعروفون بالصلاح والاستقامة ، فلم يبق الله للمشركين ذريعة في هذا الصدد إذ قال سبحانه:( أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ) .

فلو كان الرسل مجهولين لتذرّع المنافقون بذلك ، ولأنكروا الرسالات السماوية.

والأمر الآخر أنّ الرسل لا يستسلمون أبدا لأهواء الناس. ولا يقرّون الناس على ما اعتادوه من انحراف ، مثلما نشاهده اليوم حيث التأييد المطلق لكلّ الرغبات العامّة (رغم انحراف الكثير منها). وعلى هذا كان الرسل يواصلون عملهم بإصرار دائم لنشر العقيدة الحقّة رغم رفض عدد كبير من الناس لهم وحقدهم عليهم.

والصفة الاخرى للأنبياء أنّهم لم يطلبوا أجرا من الناس ، ولم يأخذوا منهم شيئا في مقابل نشر الحقّ ، فهم لا يرجون غير الله ، وظلّوا يتجرّعون الفقر والبأساء دون أن يكون لأحد عليهم منّة قطّ ، ليبقوا أحرارا طليقين في نشر دعوتهم بين الناس.

3 ـ لماذا لا يميل أكثر الناس إلى الحقّ؟

لقد استنكرت آيات القرآن الكريم ـ كالآيات السابقة ـ «الأكثرية» من الناس ، في حين نرى أنّ «الأكثرية» يقرّرون اليوم صلاح الشيء أو عدمه فهم معيار الحسن والقبح في المجتمع ، وهذا يثير علامة استفهام كبيرة : وليس الكلام في الآيات التي تذكر الأكثرية مع إضافة ضمير (هم) حيث يكون المراد منها أكثر الكافرين والمشركين وأمثالهم ، بل الكلام حول الآيات التي تذكر عنوان (أكثر الناس) من قبيل :( وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ) (1) .

__________________

(1) البقرة ، 243.

٤٨١

( وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) (1) .

( وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ ) (2) .

( وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) (3) .

( فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً ) (4) .

( وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) (5) .

ومن جهة أخرى اهتمت بعض آيات القرآن بمنهج أكثرية المؤمنين باعتباره معيارا صحيحا للآخرين ، فقد جاء في الآية الخامسة عشرة بعد المائة من سورة النساء :( وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً ).

ونجد في الرّوايات الإسلامية لدى تعارض الرّوايات أنّ أحد المعايير للترجيح هو الشهرة بين أصحاب أئمّة الهدى وأنصارهم وأتباعهم ، كما يقول الإمام الصادقعليه‌السلام : «ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك ، فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه»(6) .

ونقرأ في نهج البلاغة : «والزموا السواد الأعظم ، فإنّ يد الله مع الجماعة ، وإيّاكم والفرقة ، فإنّ الشاذّ من الناس للشيطان ، كما أنّ الشاذّ من الغنم للذئب»(7) .

__________________

(1) الأعراف ، 187.

(2) هود ، 17.

(3) يوسف 103.

(4) الإسراء ، 89.

(5) الأنعام ، 116.

(6) وسائل الشيعة ، المجلّد الثامن عشر ، صفحة 72 (كتاب القضاء الباب التاسع من أبواب صفات القاضي).

(7) نهج البلاغة ، الخطبة 127.

٤٨٢

ونقرأ أيضا في نهج البلاغة : «والزموا ما عقد عليه حبل الجماعة»(1) .

وعلى هذا قد يتراءى للبعض تناقض بين هاتين المجموعتين من الآيات والأحاديث.

ومن جهة أخرى يمكن أن يتصوّر مخالفة الإسلام للديمقراطية التي تعتمد على آراء أكثر الناس ، وهذا ما رفضه القرآن بشدّة.

ولكن بالتدقيق في الآيات والأحاديث السابقة ومقارنة بعضها ببعض يتّضح المفهوم الحقيقي ، وهو أنّ الأكثرية لو كانت من المؤمنين الواعين الذين ينتهجون الحقّ ويرفضون الباطل ، لا لاستحقّوا الاحترام ، وحظي رأيهم بالتقدير والقبول.

أمّا إذا كانوا فئة جاهلة أو واعية لكنّها مستسلمة لرغباتها وشهواتها على علم منها ، فلا طاعة لها ولا رأي. لأنّ اتّباعها يؤدّي إلى الضلالة والضياع ، كما يقول القرآن المجيد.

وعلى هذا الأساس فلو أردنا تحقيق «ديمقراطية سليمة» لوجب السعي أوّلا لتوعية الناس وتكوين جماعة مؤمنة واعية ، ثمّ الاستناد على رأي أكثريتهم كمعيار لسلامة الأهداف الاجتماعية ، وإلّا فإنّ ديمقراطية الأكثرية الضّالة لا تنتج سوى ضلال المجتمع وجرّه إلى جهنّم.

ومن الضروري التنبيه إلى انّنا نعتقد أنّ رأي الأكثرية الواعية المؤمنة إنّما يكون محترما ومقبولا فيما إذا لم يخالف الكتاب والسنّة والأحكام الإلهيّة.

ولجوء الأمم والشعوب في هذا العصر إلى رأي الأكثرية مبعثه انعدام المعيار الموثوق به في قياس ما ينفع المصلحة العامّة وما يضرّها ، فهذه المجتمعات لا تستنير بكتاب ربّاني ولا تلتزم رسالة نبي كريم ، وليس لديها سوى الرجوع إلى

__________________

(1) نهج البلاغة ، الخطبة 151.

٤٨٣

رأي العامّة. وبما أنّ المتسلّطين لا يسعون لتوعية رعاياهم ، بل يجتهدون في استدامة غفلة الناس وضآلة اطّلاعهم على ما ينهض بتقدّمهم وازدهار حياتهم ، ليتسنّى لهؤلاء الاستمرار في الهيمنة على الناس والعبث بمصيرهم ، لذلك جعلوا الأكثرية الكميّة معيارا لإسكات الأصوات المعترضة.

ولو دقّقّنا في وضع المجتمعات المعاصرة والقوانين والأنظمة السائدة ، لوجدنا أكثر مصائبهم نابعة من اللجوء إلى ما يسمّى رأي الأكثرية.

فما أسوأ القوانين وأقبح المقرّرات التي جعلتها «الأكثرية» ، وما أكثر الفتن والحروب التي اندلعت بسبب رأي الأكثرية الجاهلة ، وما أعظم المظالم وأشكال العدوان التي قرّرت الأكثرية صحّتها ومشروعيتها!!

* * *

٤٨٤

الآيات

( وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (80) )

التّفسير

طرق التوعية الإلهيّة المختلفة :

عرضت الآيات السابقة الحجج التي يتذرّع بها منكرو الحقّ في رفض الرسالات وإيذاء الأنبياءعليهم‌السلام . وتناولت هذه الآيات إتمام الحجّة عليهم من قبل الله تعالى وتوعيتهم.

فتقول أوّلا : إنّنا تارة نشملهم برعايتنا ونرزقهم من وفير النعمة لينتبهوا ،

٤٨٥

ولكن :( وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) .

والله تعالى يبتليهم لعلّهم يعون حين لا تجدي بهم رحمته سبحانه ، لكنّ طائفة غالبة منهم لم يستيقظوا حتّى بالبلاء المذلّ( وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ ) (1) .

«التضرّع» ـ كما أسلفنا ـ مشتقّة من الضرع بمعنى الثدي ، فالتضرّع يعني الحلب ، ثمّ استعملت بمعنى التسليم المخالط بالتواضع والخضوع.

وتعني هذه الآية أنّ المشركين لم يتخلّوا عن غرورهم وعنادهم وتكبّرهم ، ولم يستسلموا للحقّ حتّى وهم يواجهون أشدّ النكبات عصفا بهم.

وإذا ما فسّر التضرّع في الرّوايات بأنّه رفع اليدين نحو السّماء للدعاء ، فهو أحد مصاديق هذا المعنى الواسع.

فالله تعالى يواصل هذه الرحمة والنعمة والعقوبات ، والمشركون يواصلون طغيانهم وعنادهم( حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ) (2) .

الواقع ، أنّ نوعين من العقاب الإلهي : أوّلهما «عقاب الابتلاء» ، وثانيهما «عقاب الاستيصال» والاقتلاع من الجذور ، والهدف من العقاب الأوّل وضع الناس في صعوبات وآلام ليدركوا مدى ضعفهم وليتركوا مركب الغرور.

أمّا هدف العقاب الثّاني الذي ينزل بالمعاندين المستكبرين فهو إزالتهم عن مجرى الحياة ، وتطهيرها من عراقيلهم ، لأنّه لم يبق لهم حقّ الحياة في نظام الحقّ ،

__________________

(1) «استكانوا» مشتقّة من السكون ، بمعنى الصمت في حالة الخضوع والخشوع ، وبهذه الصورة ستكون من باب «افتعال» التي كانت في الأصل استكنوا. أشبعت فتحة الكاف وبدّلت إلى ألف. فأصبحت استكانوا. وقال البعض : إنّها مشتقّة من كون ، ومن باب «استفعال» أي طلب الإقامة في مكان بخضوع وخشوع. وعلى كلّ حال فإنّها تبيّن حالة العبد الخاضع لربّه ، وقد اعتبرها البعض بمعنى الدعاء بسبب كونه أحد مصاديق الخضوع والتواضع. أمّا الاحتمال الثالث ، فهي مشتقّة عن «الكين» على وزن «عين» ومن باب الاستفعال ، لأنّها تعني الخضوع أيضا. وجميع هذه المعاني متقاربة.

(2) «المبلس» كلمة مشتقّة من «الإبلاس». بمعنى الألم الشديد الناتج عن شدّة أثر الحادثة. وتدفع بالإنسان إلى الصمت والحيرة واليأس.

٤٨٦

ولهذا يستوجب اقتلاع هذه الأشواك من طريق تكامل البشر.

وبيّن المفسّرين اختلاف في قصد الآية من عبارة( باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ ) .

فالكثيرون يرون أنّه الموت ، ثمّ العذاب وعقاب يوم القيامة.

وآخرون يرونه القحط الشديد الذي واجه المشركين سنين عديدة بدعاء من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأصبحوا لا يجدون ما يأكلون ، حتّى تناولوا ما تشمئز منه الأنفس.

وغيرهم يرونه العقاب الأليم الذي نزل على المشركين بضربات سيوف جند الإسلام في معركة بدر.

وهناك احتمال أنّ الآية لا تختّص بفئة معيّنة ، بل هي استعراض لقانون شامل عامّ للعقوبات الإلهيّة ، يبدأ من الرحمة ، فالتنبيه والعقاب التربوي ، وينتهي بعذاب الاقتلاع من الجذور والدمار(1) .

ثمّ تناول القرآن المجيد القضيّة من باب آخر ، فعددّ النعم الإلهيّة لدفع الناس إلى الشكر( وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ ) والتأكيد على (الأذن والعين والعقل) لأنّها الأجهزة التي بها يتعرّف الإنسان على المحسوسات والقضايا ، فالأشياء الحسيّة يبلغها بالعين والأذن ، والقضايا غير الحسّية يدركها بالعقل.

ومعرفة أهميّة حاسّتي النظر والسمع يكفي لتصوّر حالة الإنسان الذي يفقدهما ، إذ تظلم الدنيا بعينه. وبفقدان هاتين الحاسّتين بالولادة تفقد حواسّ أخرى عملها. فالأصمّ بالولادة يكون بالبداهة أبكم ، فانطلاق اللسان مرتبط بسمع الإنسان وبفقدهما يفقد الإنسان وسيلة ارتباطه مع الآخرين.

وبعد هاتين الحاسّتين اللتين هما مفتاح الإدراك لعالم المادّة ، يأتي العقل الذي ينتزع الأفكار ممّا تموّنه به الحواسّ ، ويجتاز الطبيعة إلى ما وراءها ، ومهمّته

__________________

(1) الآية( إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ) التي ذكرت قبل هذه الآيات تؤيّد هذا التّفسير.

٤٨٧

النقد والاستنتاج والترتيب والتعميم وتحليل محصّلة حاسّتي البصر والسمع وسواهما ، أفلا يستحقّ الذين لا يشكرونه على هذه الأدوات الثلاث للمعرفة الذمّ واللوم؟ ألا يكفي التدقيق في تفاصيلها دليلا على معرفة الخالق وعظيم إحسانه للعباد؟

وتقديم ذكر الاذن والعين على العقل في الآية المذكورة له ما يسوّغه. ولكن لماذا تقدّم السمع على البصر؟ يحتمل ـ كما يقول العلماء ـ أنّ أذن الوليد تعمل أوّلا ، ثمّ عينه ، فالعينان مغلقتان في عالم الرحم وليست لديهما أي استعداد وقابلية على مشاهدة أمواج النور ، ولذلك تبقيان هكذا بعد الولادة قليلا ، ثمّ تتعودان النور تدريجيّا.

وليست الأذنان هكذا ، حتّى أنّ بعضهم يرى أنّها قادرة على السماع حتّى في الرحم(1) . فهي تسمع صوت دقّات قلب الامّ.

إنّ بيان المواهب الثلاث أعلاه يشكّل دافعا لمعرفة واهب هذه النعم ، وهو المنعم الوحيد حقّا (مثلما يرى علماء العقائد في بعث شكر المنعم أساسا لوجوب معرفة الله عقلا).

وتناولت الآية اللاحقة خلق الله سبحانه للإنسان من التراب ، فتقول :( وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ ) (2) .

وبما أنّه ـ جلّ اسمه ـ خلقكم من الأرض ، لذلك ستعودون إليها مرّة ثانية ، ثمّ يبعثكم :( وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) .

ولو فكّرتم في خلقكم من تراب لا قيمة له ، لدلّكم على خالق الوجود سبحانه ، وعرّفكم على كريم لطفه بكم وإحسانه إليكم ، وقادكم إلى الإيمان به

__________________

(1) تحدّثنا عن أجهزة التعرّف الثلاثة في تفسير الآية (78) من سورة النحل.

(2) «ذرأ» مشتقّة من الذرء (على وزن زرع). وهي في الأصل بمعنى الخلق والإيجاد والإظهار ، إلّا أنّ كلمة (ذرو) وهي أيضا على وزن فعل بمعنى البعثرة. الآية الأولى من النوع الأوّل.

٤٨٨

وبالمعاد.

وبعد ذكر خلق الإنسان ، تناولت الآية المذكورة آنفا دلائل أخرى من بديع صنع الله تعالى( وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) .

وبهذا الترتيب بدأ البيان القرآني من الدافع لاستيقاظ القلب وانبعاثه على معرفة ربّه سبحانه وانتهى بذكر بعض أهمّ الآيات الأنفسيّة والآفاقية ، فالقول المبارك استعرض مسيرة الإنسان منذ الولادة حتّى الموت والعودة إلى الله تعالى ، التي تتمّ مراحلها جميعا بإرادة الله العزيز الحكيم.

وممّا يلفت النظر جعل الله الموت والحياة إلى جانب اختلاف الليل والنهار ، وذلك لكون النور والظلام في عالم الوجود كالموت والحياة للكائنات ، فمثلما يجد الخلق حركته ونشاطه بين أفواج النور ، ويستخفي بين أستار الظلام ، كذلك تبدأ الأحياء حركتها ونشاطها في نور الحياة ، وتستخفي في ظلمة الموت ، ولكليهما صفة التدرّج.

وسبق أن قلنا بأنّ «اختلاف» الليل والنهار قد يعني تواليهما حيث يخلف الليل النهار ، ويخلف النهار الليل. وقد يعني اختلافهما وتفاوتهما التدريجي الذي يوجد الفصول الأربعة ، ويقود دورة الحياة في عالم النبات في ظلّ نظام دقيق.

وكلّ هذه المسائل يمكن أن تكون السبيل إلى معرفة الله ، إذا انتبه لها الإنسان وتأمّلها بفطنة.

ولهذا تقول الآية في النهاية :( أَفَلا تَعْقِلُونَ ) ؟!

* * *

٤٨٩

الآيات

( بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (81) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90) )

التّفسير

القرآن يدعو الضمائر إلى التحكيم :

دعت الآيات السابقة منكري الله والمعاد إلى التفكّر في خلق عالم الوجود وآيات الآفاق والأنفس ، وأضافت هذه الآيات أنّ هؤلاء تركوا عقولهم واتّبعوا

٤٩٠

أسلافهم وقلّدوهم تقليدا أعمى :( بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ ) .

ثمّ إنّ هؤلاء ملكهم التعجّب و:( قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ) (1) .

إنّ ذلك لا يصدق!( لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ ) فكانت وعودا كاذبة ، و( إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) فإعادة الخلق أسطورة ، والحساب والكتاب أساطير أخرى ، وكذا الجنّة والنّار.

ولكون الكفّار والمشركين أشدّ خوفا من اليوم الآخر وما فيه من هول الحساب وعدل الكتاب ، تذرّعوا بالأوهام لتسويغ إعراضهم عن الحقّ وتمسّكهم بالباطل.

ولهذا سدّدت الآيات موضع البحث ضربة قويّة إلى هذا المنطق الواهي من ثلاث طرق : بتذكيرها الإنسان بمالكية

الله لعالم الوجود المترامي الأطراف ، وربوبيته له ، وسيادته عليه. وتستنتج ـ من جميع الأبحاث ـ قدرة الله وسهولة المعاد عليه سبحانه ، وأنّ عدالته وحكمته تستلزمان أن يعقب هذا العالم عالم آخر وحياة أخرى.

وممّا يلفت النظر أنّ القرآن يأخذ من المشركين اعترافا بكلّ مسألة ، فيعيد كلامهم ليثبت إقرارهم.

يقول أوّلا :( قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) .

ثمّ تضيف الآية أنّهم يؤمنون بالله خالق الوجود وفق نداء الفطرة النابع من ذاتهم ، وسيجيبونك و:( سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ) فأجبهم :( قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) كيف تتصوّرون استحالة إحياء الموتى بعد اعترافكم الصريح؟

ثمّ يأمر رسوله مرّة ثانية أن يسألهم :( قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ

__________________

(1) تقديم التراب على العظام إما لعودة التراب إلى الحياة الأولى هي أعجب من عودة العظام ، وإما لأن الأجداد أصبحوا ترابا والآباء عظاما نخرة ، وإما لصيرورة لحم الإنسان ترابا قبل العظام ، ثم تتحول العظام إلى تراب.

٤٩١

الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) .

فيأتي الجواب نابعا من الفطرة التي فطرة الله الناس عليها ، وهي الاعتراف بربوبيّته تعالى( سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ) وبعد هذا الاعتراف الواضح فلما ذا لا تخافون الله ، ولا تعترفون بالمعاد وبعث الإنسان مرّة ثانية :( قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ ) .

واسألهم مرّة أخرى عن سيادة الله على السماوات والأرض( قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ) . ومن الذي يجير اللاجئين وجميع المحرومين ولا يحتاج إلى اللجوء إلى أحد :( وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ ) ،( إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) .

فيعترفون بأنّ العالم ومالكيته وحكومته وإجارة الآخرين يعود لله فقط( سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ) .

( قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ) أي : كيف تقولون : إنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سحركم رغم كلّ هذا الاعتراف والإقرار منكم؟!

إنّها لحقائق اعترفتم بها في كلّ مرحلة ، فقد أقررتم بأنّه سبحانه مالك الوجود وخالقه ، وأنّه المدير والمدبّر والحاكم والملجأ ، فكيف لا يستطيع من له كلّ هذه القدرة والحكم والحكمة ، إعادة الإنسان إلى تراب وبعثه ثانية كما خلقه أوّل مرّة؟

لماذا تفرّون من الخضوع للحقيقة؟ ولماذا تتّهمون النّبي الأكرم بالسحر وقلوبكم تعترف بهذه الحقائق؟!

وأخيرا يقول القرآن في عبارة مختصرة ذات دلالة كبيرة بأنّه ليس سحرا ولا شعوذة ولا شيء آخر :( بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) .

لقد بيّن الله الحقائق للناس بإرساله الأنبياء والرسل إليهم ولكنّهم عصوا أمره ، ولم يستجيبوا له فيما يحييهم من عبادته وإقامة أحكامه الهادية لكلّ خير ، المنقذة من كلّ شرّ.

* * *

٤٩٢

ملاحظات

1 ـ معنى عدد من الكلمات

«الأساطير» جمع «أسطورة» قال بعض اللغويين : إنّها مشتقّة من «السطر» بمعنى الصف ، فيطلق على الكلمات التي اصطفّت في خطّ واحد لفظ السطر.

فالأسطورة : الكتابة أو السطور التي تركها لنا الآخرون ، ولأنّ كتابات القدماء تحتوي على أساطير خرافية ، تطلق الأساطير على الحكايات والقصص الخرافية الكاذبة. وقد تكرّرت كلمة الأساطير في القرآن المجيد تسع مرّات. وجميعها جاء على لسان الكفّار لتوجيه مخالفتهم لأنبياء الله تعالى.

«الربّ» تعني ـ كما قلنا في تفسير سورة الحمد ـ المالك المصلح ، ولهذا لا يطلق على كلّ مالك ، وإنّما يختّص بالمالك الذي يسعى لإصلاح وحفظ وإدارة ملكه حفظا جيّدا ، وتطلق كلمة «ربّ» أحيانا على المربّي والمعلّم أيضا.

«الملكوت» مشتقّة من «الملك» (على وزن كفر) ، بمعنى الحكومة والمالكية ، وإضافة الواو والتاء للتأكيد والمبالغة.

«العرش» يعني السرير ذا القوائم العالية ، ويطلق أحيانا على السقف وشبهه.

وعند ما تتعلّق هذه الكلمة بالله سبحانه ، فإنّها تعني عالم الوجود كلّه ، فهو كلّه دون جلاله المقدّس وحكمه الحكيم.

وقد تطلق أحيانا على عالم ما وراء الطبيعة (ميتافيزيقيا) مقابل «الكرسي» الذي يعني عالم الطبيعة والمادّة ، مثال ذلك( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ) (1) (2) .

__________________

(1) بحثنا موضوع العرش بإسهاب في تفسير الآية (54) من سورة الأعراف.

(2) البقرة ، 255.

٤٩٣

2 ـ تأكيد المعاد بالاستناد إلى قدرة الله الشاملة

يستنتج من آيات القرآن أنّ معظم مخالفة المنكرين للمعاد يدور حول مسألة المعاد الجسماني ، ودهشتهم من عودة الروح والحياة ثانية إلى الإنسان بعد أن يصير ترابا ، من هنا عدّدت الآيات معالم قدرة الله في عالم الوجود ، وأكّدت خلقه لكلّ شيء من عدم ، ليؤمنوا بالحياة بعد الموت ، وتزول استحالتها من تصوّرهم.

وبحثت هذه الآيات هذه المسألة من خلال بيان قدرة الله على الأرض وسكّانها. وقدرته على السموات والعرش العظيم ، وقدرته على إدارة عالم الخلق والنشر ، وهذه السبل الثلاثة مصاديق لمفهوم واحد. ويحتمل أيضا أنّ كلا من هذه الأبحاث الثلاثة يشير إلى وجهة نظر المنكرين للمعاد ، فلو كان إنكاركم للمعاد يعود إلى أنّ العظام البالية قد خرجت من دائرة حكومة الله وملكيّته ، فهذا خطأ ، لأنّكم تعترفون أنّ الله تعالى هو مالك الأرض ومن عليها.

وإنّ كان إنكاركم لأنّ بعث الأموات يحتاج إلى إله مقتدر ، فأنتم تعترفون بأنّ الله ربّ السماوات والعرش.

وإن كان جحودكم أنّكم في شكّ من تدبير العالم بعد الحياة الجديدة وبعد بعث الأموات ، فهو أيضا في غير مورده ، لأنّكم قبلتم تدبيره واعترفتم بقدرته على إدارة عالم الوجود ، وجوار من لا جار له (أي كلّ الموجودات) حيث يتكفّل برعايتها وتدبير أمورها ، فعلى هذا لا مجال لإنكاركم أيضا. وإجابة الكفّار في الحالات الثلاث بشكل منسجم موحّد( سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ) تؤكّد التّفسير الأوّل.

3 ـ اختلاف نهايات الآيات

والجدير بالاهتمام هو أنّه بعد السؤال الأوّل وإجابته جاءت عبارة :( أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) .

وبعد السؤال الثّاني وإجابته جاءت عبارة( أَفَلا تَتَّقُونَ ) .

٤٩٤

وبعد السؤال الثّالث وإجابته جاءت عبارة( فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ) .

وهذه عبارات تنبيه شديدة للكفّار واستنكار لما هم عليه من باطل بشكل متدرّج ومرحلة بعد أخرى ، وهو أسلوب متعارف ينسجم مع الأساليب المعروفة في التعليم والتربية المنطقيّة. فإذا احتاج المربّي إلى إدانة شخص ، يبدأ أوّلا بتنبيهه بلطف ، ثمّ بحزم ، وبعد ذلك يعنّفه!

* * *

٤٩٥

الآيتان

( مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) )

التّفسير

الشرك يجرّ العالم نحو الدمار :

تناولت الآيات السابقة بحوثا في المعاد والملك والحكم والربوبيّة ، أمّا هذه الآيات فقد تناولت نفي الشرك ، واستعرضت جانبا من انحرافات المشركين.

وردّتها عليهم بالأدلّة الساطعة ، قائلة :( مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ ) .

إنّ الإعتقاد بوجود ابن لله لا ينحصر في المسيحيين الذين يرون النّبي عيسىعليه‌السلام ابنا حقيقيّا له! فقد كان المشركون يرون الملائكة بنات لله ، ولعلّ المسيحيين أخذوا هذه الفكرة من المشركين القدماء ، وعلى أساس أنّ الولد جزء من الأب ، فلذلك اعتقدوا بأنّ الملائكة أو المسيحعليه‌السلام لهم حصّة من الالوهيّة ، وهذا أوضح مظهر للشرك.

٤٩٦

ثمّ بيّنت الآية بطلان الشرك : أنّه لو كان هناك آلهة متعدّدة تحكم العالم ، فسيكون لكلّ إله مخلوقاته الخاصّة به يحكم عليها ويدبّر أمورها.

وسيكون تبعا لذلك أنظمة متعدّدة للعالم ، لأنّ كلّ واحد من الآلهة يدير منطقته بنظام خاص( إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ ) وهذا ينافي وحدة النظام الحاكم في هذا العالم.

( وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ ) وهذه نتيجة محتومة لكلّ صراع ، إذ يسعى كلّ طرف فيه لغلبة الآخرين والهيمنة عليهم ، وهذا سيكون بذاته سببا آخر لتفكّك النظام الموحّد السائد في العالم.

وجاء في ختام الآية تقديس لله سبحانه( سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ ) .

وزبدة الكلام ما نجده بوضوح من سيادة نظام موحّد لساحة الوجود كلّه.

فالقوانين السائدة لهذا العالم في أرضه وسمائه واحدة ، والنظام الحاكم لذرّة واحدة هو ذاته يحكم المجموعة الشمسيّة المنظومات الكبيرة ، ولو أتيحت لنا صورة مكبّرة لذّرة واحدة لحصّلنا على شكل المنظومة الشمسيّة ، والعكس صحيح.

وقد برهن العلماء في تجاربهم في مختلف العلوم ، باستخدام أدقّ الأجهزة وأحدثها على وحدة النظام السائد لهذا العالم كلّه. هذا من جهة.

ومن جهة أخرى إنّ الاختلاف والتباين يلازمان التعدّد دوما. فلو تشابهت صفات شيئين تمام التشابه لكانا شيئا واحدا ، إذ لا معنى لثنائيتهما عندئذ ، ولو فرضنا لهذا العالم آلهة عديدة لوقع أثر هذا التعدّد على مخلوقات العالم والنظام الحاكم له ، ولانتفت وحدة نظام الخلق.

مضافا إلى أنّ كلّ موجود لا بدّ أن يسعى لاستكمال وجوده إلّا الوجود الكامل من كلّ جهة فلا معنى للتكامل في وجوده حينئذ ، فلو فرضنا وجود مناطق خاصّة لكلّ إله من هذه الآلهة المزعومة ، وطبعا لا يكون لكلّ منها كمال مطلق ،

٤٩٧

ومن الطبيعي أيضا أنّها سوف تسعى لاستكمال ذاتها ، وتحاول ضمّ بقيّة المناطق إلى حوزتها ، وهذا السعي للتكامل والتنافس في الاقتدار مدعاة لوقوع العالم فريسة بين مخالب الناقصين الباحثين عن السيطرة على غيرهم ، والنتيجة هي فساد العالم ودماره.

وبهذا تكون كلتا الجملتين في الآية إشارة إلى دليل منطقي واحد ، ولا تصل النوبة إلى حصر الجملة في جهة إقناعية وليست منطقية.

السؤال الوحيد الباقي في هذا المورد هو أنّ البرهان المذكور يصحّ فيما لو فرضنا أنّ الآلهة تسعى للتغلّب والسيطرة المطلقة ، أمّا لو فرضناها حكيمة وعالمة ، فما المانع من أنّ تدير العالم بالتشاور فيما بينها؟

لقد أجبنا عن هذا السؤال في تفسيرنا للآية الثّانية والعشرين من سورة النساء ، في بحث برهان التمانع ، ولا حاجة لتكراره هاهنا.

والآية التالية تردّ على المشركين المغالطين فتقول :( عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ ) أي إنّ الله يعلم ظاهر الأشياء وباطنها ، فكيف تتصوّرون وجود إله آخر تعرفونه أنتم ولا يعرفه الربّ الذي خلقكم والذي يعلم الغيب والشهادة في هذا العالم؟

هذا البيان يشبه ما ورد في الآية الثامنة عشرة من سورة يونس( قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ) ؟!

وبهذه العبارة يبطل تصوراتهم الخرافيّة :( فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .

وختام هذه الآية يشبه ختام الآية الثامنة عشرة من سورة يونس وهو( سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) . وهذا يدلّ على وحدة الموضوع.

كما أنّ هذه العبارة تهديد موجّه للمشركين بأنّ الله الّذي يعلم السرّ والعلن ، يعلم ما تقولونه. وسيحاسبكم عليه يوم القيامة في محكمته العادلة.

* * *

٤٩٨

الآيات

( قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) )

التّفسير

تعوّذوا بالله من همزات الشياطين :

مع مخاطبة هذه الآيات للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واصلت مقاصد الآيات السابقة في تهديد الكفّار والمشركين المعاندين بأنواع العذاب الإلهي( قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ ) (1) .

( رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) هاهنا دعاء بالنجاة من الهلاك ، والانفصال من الظالمين الذين ينتظرهم سوء العذاب ، ولا شكّ أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم

__________________

(1) «إمّا» في الآية أعلاه مركّبة من «إنّ» الشرطية و «ما» الزائدة. وقد استعملت هنا للتأكيد. ومن أجل أن ترد (إنّ الشرطية) على الفعل المقرون بنون التأكيد يجب أن تفصل بينهما «ما».

٤٩٩

يعمل ما يعرضه للعذاب ، وليس من العدل الإلهي أن يأخذ البريء بالمذنب ، بل لو أنّ رجلا كان يعبد الله في قوم لأنقذه الله سبحانه ممّا يعمّهم به من البلاء.

فهذا الدعاء من الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما كان بأمر من الله تعالى ، لهدفين : ليحذّر الكفّار والمشركين من سوء المنقلب الذي يتوجّب أن يسلّم الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه إلى الله جلّ وعلا ويطلب منه النجاة ، والآخر : ليعلّم أصحابه وأتباعه جميعا التسليم إلى الحقّ ، وألّا يتصوّروا أنّهم في مأمن من عذابه.

أمّا ماذا يقصد بهذا العذاب؟

يرى معظم المفسّرين أنّه العقاب الدنيوي الذي ابتلى الله به المشركين ، ومنه الهزيمة المرّة التي ألحقها بهم في معركة بدر(1) ومع التوجّه إلى أنّ سورة «المؤمنون» مكّية نزلت يوم مواجهة المؤمنين لضغوط كبيرة. لهذا كانت هذه الآيات بلسم لجراحهم وتسلية لخواطرهم (وجاء بهذا المعنى أيضا في سورة يونس الآية 46).

إلّا أنّ بعض المفسّرين احتملوا أنّه يشمل العذاب الدنيوي والاخروي معا(2) .

ويبدو التّفسير الأوّل أقرب لمراد الآية.

وتأكيدا لهذا الموضوع ولنفي كلّ شكّ لدى الأعداء ، ولتسلية خاطر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين ، أضافت الآية اللاحقة( وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ ) .

ولقد تجلّت قدرة الله سبحانه في ساحات مختلفة بعد ذلك ـ ومنها معركة بدر ـ حيث غلبت قلّة من المؤمنين جموع الأعداء الغفيرة بقوّة الإيمان وبنصر من الله

__________________

(1) يراجع تفاسير مجمع البيان ، والميزان ، وفي ظلال القرآن ، وأبو الفتوح الرازي ، وروح المعاني ، في تفسير الآيات موضع البحث.

(2) التّفسير الكبير للفخر الرازي ، في تفسير الآيات موضع البحث.

٥٠٠