الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٠

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 550

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 550 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 206627 / تحميل: 6188
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٠

مؤلف:
العربية

١
٢

٣
٤

الآيات

( اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (٤٢) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٤٣) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (٤٤) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (٤٥) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (٤٦) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (٤٧) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٤٨) )

التّفسير

أوّل لقاء مع فرعون الجبّار :

الآن وقد أصبح كلّ شيء مهيّا ، وكلّ الوسائل قد جعلت تحت تصرّف موسى ، فقد خاطب الله سبحانه موسى وهارون. بقوله :( اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي ) الآيات التي تشمل المعجزتين الكبيرتين لموسىعليه‌السلام ، كما تشمل كلّ آيات الله وتعليماته التي هي بذاتها دليل على أحقّية دعوته ، خاصّة وأنّ هذه التعليمات العظيمة المحتوى ظهرت على يد رجل قضى أهمّ سنيّ حياته في «رعي الأغنام»!

٥

ومن أجل رفع معنوياتهما ، والتأكيد على بذل أقصى ما يمكن من المساعي والجهود ، فقد أضاف سبحانه قائلا :( وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي ) وتنفيذ أوامري ، لأنّ الضعف واللين وترك الحزم سيذهب بكلّ جهود كما أدراج الرياح ، فأثبتا ولا تخافا من أي حادثة ، ولا تهنا أمام أي قدرة.

بعد ذلك ، يبيّن الهدف الأصل لهذه الحركة ، والنقطة التي يجب أن تكون هدفا لتشخيص المسار ، فيقول :( اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى ) فإنّه سبب كلّ الشقاء والتعاسة في هذه المنطقة الواسعة ، وما لم يتمّ إصلاحه فسوف لا ينجح أي عمل ، لأنّ عامل تقدّم الأمّة أو تخلّفها ، سعادتها أو شقائها وبؤسها هو قادتها وحكّامها ، ولذلك يجب أن يكونوا هدفكما قبل الجميع.

صحيح أنّ هارون لم يكن في ذلك الحين حاضرا في تلك الصحراء ، ولكن الله أطلعه على هذه الحوادث كما ذكر المفسّرون ، وقد خرج من مصر لاستقبال أخيه موسى لأداء هذه المهمّة ، إلّا أنّه لا مانع مطلقا من أن يخاطبا معا ، وتوجّه إليهما مأمورية تبليغ الرسالة ، في الوقت الذي لم يحضر غير أحدهما.

ثمّ بيّنت الآية طريقة التعامل المؤثّرة مع فرعون ، فمن أجل أن تنفذا إليه وتؤثرا فيه( فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى ) والفرق بين «يتذكّر» و «يخشى» هنا هو أنّكما إذا واجهتماه بكلام لطيف ، رقيق ، ملائم ، وتبيّنان في الوقت ذاته المطالب بصراحة وحزم ، فيحصل أحد الاحتمالين : أن يقبل من صميم قلبه أدلتكما المنطقيّة ويؤمن ، والاحتمال الآخر هو أن يخاف على الأقل من العقاب الإلهي في الدنيا أو الآخرة ، ومن زوال ملكه وقدرته ، فيذعن ويسلم ولا يخالفكما.

ويوجد احتمال ثالث أيضا ، وهو أنّه لا يتذكّر ولا يخشى ، بل سيستمر في طريق المخالفة والمجابهة ، وقد أشير إلى ذلك بكلمة «لعلّ» وفي هذه الصورة فإنّ الحجّة قد تمّت عليه ، وعلى كلّ حال فإنّ القيام بهذا العمل لا يخلو من فائدة.

٦

لا شكّ أنّ الله تعالى يعلم عاقبة عمله ، إلّا أنّ التعبيرات المذكورة آنفا درس لموسى وهارون وكلّ المصلحين والمرشدين إلى طريق الله(١) .

ومع هذه الحال ، فقد كان موسى وهارون قلقين من أنّ هذا الرجل القوي المتغطرس المستكبر ، الذي عمّ رعبه وخشونته كلّ مكان ، قد يقدم على عمل قبل أن يبلّغ موسىعليه‌السلام وهارونعليه‌السلام الدعوة ، ويهلكهما ، لذلك( قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى ) .

«يفرط» من مادّة فرط ـ على وزن شرط ـ أي السبق والعجلة ، ولذلك يقال للشخص الذي يردّ محلّ الماء أوّلا : فارط ، ونقرأ في كلام الإمام عليعليه‌السلام أمّا قبور الموتى بجبانة الكوفة : «أنتم لنا فرط سابق»(٢) .

على كلّ حال ، فإنّ موسى وهارون كانا مشفقين من شيئين : فإمّا أن يقسو فرعون ويستخدم القوّة قبل أن يسمع كلامهما ، أو أنّه يقدم على هذا العمل بعد سماعه هذا الكلام مباشرة ، وكلتا الحالين تهدّد مهمّتهما بالخطر.

إلّا أنّ الله سبحانه قد أجابهما بحزم : فـ( قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى ) وبناء على هذا ، فمع وجود الله القادر معكما في كلّ مكان ، الله الذّي يسمع كلّ شيء ، ويرى كلّ شيء ، وهو حاميكما وسندكما ، فلا معنى للخوف والرعب.

ثمّ يبيّن لهما بدقّة كيفية إلقاء دعوتهما في محضر فرعون في خمس جمل قصار قاطعة غنيّة المحتوى ، ترتبط أوّلها بأصل المهمّة ، والثّانية ببيان محتوى المهمّة ، والثّالثة بذكر الدليل والسند ، والرّابعة بترغيب الذين يقبلونها ، وأخيرا فإنّ الخامسة تكفّلت بتهديد المعارضين.

فتقول أوّلا :( فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ ) والجميل هنا أنّهما بدل أن يقولا : (ربّنا) فإنّهما يقولان (ربّك) ليثيروا عواطف فرعون وإحساساته تجاه هذه النقطة

__________________

(١) لقد بحثنا في معنى (لعلّ) وبأي معنى وردت في القرآن بصورة مفصّلة في ذيل الآية (٨٤) من سورة النساء.

(٢) نهج البلاغة ، الكلمات القصار رقم ١٣٠.

٧

بأنّ له ربّا ، وأنّهما رسولاه ، ويكونان قد أفهماه بصورة ضمنيّة أن ادّعاء الرّبوبية لا يصحّ من أي أحد ، فهي مختصّة بالله.

ثمّ تقول :( فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ ) الصحيح أنّ دعوة موسى لم تكن من أجل نجاة بني إسرائيل من قبضة الفراعنة فقط ، بل كانت ـ وبشهادة سائر آيات القرآن ـ تهدف أيضا إلى نجاة فرعون والفراعنة أنفسهم من قبضة الشرك وعبادة الأوثان. إلّا أنّ أهميّة هذا الموضوع ، وارتباطه المنطقي بموسى كان السبب في أن يضع إصبعه على هذه المسألة بنفسه ، لأنّ استغلال واستعباد بني إسرائيل مع كلّ ذلك التعذيب والأذى لم يكن أمرا يمكن توجيهه.

ثمّ أشارت إلى دليلهما ووثيقتهما ، فتقول : قولا له :( قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ ) فإنّا لا نتكلم اعتباطا أو جزافا ، ولا نتحدّث من دون أن نمتلك الدليل ، وبناء على هذا ، فإنّ العقل يحكم بأن تفكّر في كلامنا على الأقل ، وأنّ تقبله إن كان صحيحا ومنطقيّا.

ثمّ تضيف الآية من باب ترغيب المؤمنين :( وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى ) .

وهذه الجملة يمكن أن تشير أيضا إلى معنى آخر ، وهو أنّ السلامة في هذه الدنيا ، والعالم الآخر من الآلام والعذاب الإلهي الأليم ، ومن مشاكل الحياة الفردية والاجتماعية ، من نصيب أولئك الذين يتّبعون الهدى الإلهي ، وهذه في الحقيقة هي النتيجة النهائية لدعوة موسى.

وأخيرا ، فإنّ الله يأمرهما أن يفهماه العاقبة المشؤومة للتمرّد على هذه الدعوة وعصيانها ، بقولهما له :( إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ) .

من الممكن أن يتوهّم متوهّم عدم تناسب هذه العبارة والحوار الملائم اللذين كانا قد امرا بهما. إلّا أنّ هذا خطأ

محض ، فأي مانع من أن يقول طبيب حريص بأسلوب مناسب لمريضه : كلّ من يستعمل هذا الدواء سيشفى وينجو ، وكلّ من يتركه فسينزل به الموت.

٨

إنّ هذا بيان لنتيجة التعامل غير المناسب مع واقع ما ، ولا يوجد فيه تهديد خاص ، ولا شدّة في التعامل. وبتعبير آخر : فإنّ هذه حقيقة يجب أن تقال لفرعون بدون لفّ ودوران ، وبدون أي تغطية وتورية.

* * *

بحوث

١ ـ قدرة الله العجيبة

لقد رأينا كثيرا ـ على مرّ التاريخ ـ أناسا أقوياء هبّوا للوقوف بوجه الحقّ ، إلّا أنّ الله سبحانه لم يستخدم ويعبّئ جنود الأرض والسّماء من أجل سحقهم وتدميرهم في أي مورد من الموارد ، بل إنّه يغلبهم بسهولة وبساطة ، وبصورة لا تخطر على ذهن أحد ، خاصة وأنّه في كثير من الموارد يبعث هؤلاء نحو أسباب موتهم ، ويؤكل مهمّة إعدامهم إليهم أنفسهم!

ونرى في قصّة فرعون هذه ، أنّ عدوّه الأصلي ـ أي موسى ـ قد تربّى في أحضانه ، وهو الذي رعاه ، ونشأ في كنفه! ومن الطبيعي أنّ ذلك كان بتخطيط الله سبحانه.

والأروع من ذلك أنّ قابلة موسىعليه‌السلام ـ طبقا لنقل التواريخ ـ كانت من الأقباط ، والنجّار الذي صنع صندوق نجاته كان من الأقباط أيضا ، والذين أخرجوا الصندوق من الماء كانوا من حرّاس فرعون ، والذي فتح الصندوق كانت امرأة فرعون ، واستدعيت أمّ موسى من قبل أتباع فرعون لتكون مرضعة له ، وكانت مطاردة موسىعليه‌السلام بعد حادثة قتل الرجل القبطي قد تمّت من قبل الفراعنة ، وكانت سبب هجرته إلى مدين ليقضي فترة من التعليم والتكامل في مدرسة النّبي «شعيب».

نعم ، عند ما يريد الله سبحانه أن يظهر قوّته فهكذا يفعل ، ليعلم كلّ العصاة والمتمردّين أنّهم أصغر من أن يقفوا أمام إرادة الله ومشيئته.

٩

٢ ـ التعامل المناسب مع الأعداء

إنّ أوّل أوامر القرآن من أجل النفوذ إلى قلوب الناس ـ مهما كانوا ضالّين ومنحطّين ـ هو التعامل المناسب المقترن بالمحبّة والعواطف الإنسانية ، أمّا التوسّل بالعنف فإنّه يتعلّق بالمراحل التالية حينما لا يؤثّر التعامل برفق ، فالهدف هو جذب الناس ليتذكّروا ، وليبصروا طريقهم ، أو أن يخافوا من العواقب المشؤومة للعمل السيء( لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى ) .

إنّ كلّ عقيدة يجب أن تمتلك جاذبية ، ولا تبعد الأفراد عنها بدون مبرّر ، وقصص ووقائع الأنبياء وأئمّة الدينعليهم‌السلام تبيّن بوضوح أنّهم لم ينحرفوا عن هذا المنهج والمسير أبدا طوال حياتهم.

نعم ، من الممكن أن لا تؤثّر أساليب المحبّة واللطف في القلوب الداكنة عند بعض الناس ، ويكون الطريق مقتصرا على استعمال العنف في المكان المناسب ، إلّا أنّه ليس قانونا عامّا وأساسيّا للبدء في العمل ، فإنّ المحبّة هي البداية والمسلك الأوّل ، وهذا هو الدرس الذي تذكره لنا الآية آنفة الذكر.

ممّا يلفت النظر أنّنا نقرأ في بعض الرّوايات : إنّ موسى كان مأمورا بأن ينادي فرعون بأحسن أسمائه ، فربّما يؤثّر ذلك في قلبه المظلم.

٣ ـ هل يوحى إلى غير الأنبياء؟

لا شكّ أنّ للوحي في القرآن الكريم معاني مختلفة : فقد جاء أحيانا بمعنى الصوت الواطئ ، أو القول همسا. وهذا هو المعنى الأصلي لهذا اللفظ في اللغة العربية.

وجاء أحيانا بمعنى الإشارة الرمزية إلى شيء ما ، مثل :( فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ

١٠

سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) (١) .

وأحيانا بمعنى الإلهام الغريزي ، مثل( أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ) (٢) .

وأحيانا بمعنى الأمر التكويني ، الأمر الذي يصدر بلسان الخلقة ، مثل( يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها ) (٣) .

وورد أحيانا بمعنى الإلهام الذي يلقى في قلوب المؤمنين ، وإن لم يكونوا أنبياء أو أئمّة ، مثل :( إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى ) (٤) .

إلّا أنّ أهمّ موارد استعماله في القرآن المجيد هي النداءات الإلهيّة الخاصّة بالأنبياء ، مثل :( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ) (٥) .

فبناء على هذا ، فإنّ لكلمة الوحي معنى واسعا وجامعا يشمل هذه الموارد ، ولهذا فسوف لا نعجب من استعمال كلمة الوحي في شأن أمّ موسى.

٤ ـ سؤال وجواب

من الممكن أن يتساءل البعض عند قراءة هذه الآيات ، وهو : لماذا يقلق موسى ويضطرب ويتردّد مع تلك الوعود الإلهيّة ، إلى أن يقول الله سبحانه له بصراحة : اذهبا فإنّني معكما أسمع كلّ الكلام ، وأرى كلّ شيء ، ولا مجال للقلق مطلقا؟

ويتّضح جواب هذا السؤال من أنّ هذه المهمّة كانت ثقيلة جدّا ، فإنّ موسىعليه‌السلام ـ الذي كان راعيا للأغنام ـ يريد أن يذهب مع أخيه فقط إلى حرب رجل قوي مقتدر ، ومتمرّد عاص ، والذي يحكم بلدا قويّا في ذلك الزمان. ثمّ إنّ

__________________

(١) مريم ، ١١

(٢) النحل ، ٦٨.

(٣) الزلزال ، ٥.

(٤) سورة طه ، ٣٨.

(٥) النساء ، ١٦٣.

١١

هذه الدعوة تبدأ من دعوة فرعون نفسه ، لا أن يذهبا أوّلا إلى الآخرين ليعدّا الأنصار والجيوش ، بل يجب أن يقدحوا أوّل شرارة في قلب فرعون ، وهذه في الحقيقة مهمّة معقّدة جدّا ، وصعبة للغاية.

إضافة إلى أنّ للعلم والمعرفة درجات ومراتب ، فكثيرا ما يعلم الإنسان بشيء يقينا ، إلّا أنّه يرغب أن يصل إلى مرحلة علم اليقين والاطمئنان المطلق ، كما أنّ إبراهيم مع إيمانه القطعي بالمعاد ، فإنّه طلب من الله أن يريه مشهدا من إحياء الموتى في هذه الدنيا ، ليطمئن أكثر.

* * *

١٢

الآيات

( قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (٤٩) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (٥٢) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (٥٣) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (٥٤) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (٥٥) )

التّفسير

من ربّكما؟

لقد حذف القرآن المجيد هنا ـ وكما هي طريقته ـ بعض المطالب التي يمكن فهمها بمعونة الأبحاث الآتية ، وتوجّه مباشرة إلى محاورة موسى وهارون مع فرعون ، والمبحث في الواقع هكذا :

إنّ موسى بعد تلقّى الوحي والرسالة ، وخطّة عمل كاملة في كيفيّة التعامل مع

١٣

فرعون ، تحرّك من تلك الأرض المقدّسة ، والتقى أخاه هارون ـ على حدّ قول المفسّرين ـ قرب مصر ، ثمّ توجّها معا نحو فرعون ، وتمكّنا من الدخول إلى قصر فرعون الأسطوري برغم المشاكل الكثيرة.

فلمّا أصبح موسى أمام فرعون وجها لوجه ، أعاد تلك الجمل الدقيقة المؤثّرة التي علّمه الله إيّاها أثناء الأمر بالرسالة :( إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى ) . واعلم أيضا( إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ) .

فلمّا سمع فرعون هذا الكلام ، كان أوّل ردّ فعله أن( قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى ) .

والعجيب أنّ فرعون المغرور والمعجب بنفسه لم يكن مستعدا حتّى أن يقول : من ربّي الذي تدّعيانه؟ بل قال : من ربّكما؟!

فأجابه موسى مباشرة بجواب جامع جدّا ، وقصير في الوقت نفسه ، عن الله :( قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى ) ففي هذه العبارة الموجزة إشارة إلى أصلين أساسيين من الخلقة والوجود ، وكلّ واحد منهما دليل وبرهان مستقل يوصل إلى معرفة الله :

الأوّل : إنّ الله سبحانه قد وهب لكلّ موجود ما يحتاجه ، وهذا أمر في غاية الأهميّة ممّا يقتضي تأليف عدّة كتب ، بل إنّ كثيرا من الكتب قد الّفت في هذا المجال.

إنّنا إذا دقّقنا قليلا في النباتات والحيوانات التي تعيش في كلّ منطقة ، سواء الطيور ، أو الحيوانات البحرية ، أو الحشرات والزواحف ، فسنرى أنّ لكلّ منها انسجاما تامّا مع محيطها الذي تعيش فيه ، وكلّ ما تحتاجه فهو موجود تحت تصرّفها ، فإنّ هيكل الطيور قد هيّئها للطيران من ناحية شكلها ووزنها وحواسها المختلفة ، وكذلك تكوين وبناء الحيوانات التي تعيش في أعماق البحار.

والثّاني : مسألة هداية وإرشاد الموجودات ، وقد جعلها القرآن باستعماله (ثمّ)

١٤

في الدرجة الثّانية بعد تأمين الاحتياجات.

إنّ من الممكن أن يمتلك الإنسان أي شيء من أسباب الحياة ، إلّا أنّه يجهل كيفيّة الاستفادة منها ، والمهمّ أن يعرف طريقة استعمالها ، وهذا هو الشيء الذي نراه في الموجودات المختلفة بوضوح ، وكيف أنّ كلّا منها يستغلّ طاقته بصورة دقيقة في إدامة حياته ، كيف يبني بيتا ، وكيف يتكاثر ، وكيف يربيّ أولاده ويخفيهم ويبعدهم عن متناول الأعداء ، أو يعلمهم كيف يواجهون الأعداء؟

والبشر ـ أيضا ـ لديهم هذه الهداية التكوينيّة ، إلّا أنّ الإنسان لمّا كان موجودا يمتلك عقلا وشعورا ، فقد جعل الله سبحانه هدايته التكوينيّة مع هدايته التشريعيّة بواسطة الأنبياء متلازمة ومتزامنة ، بحيث إنّه إذا لم ينحرف عن ذلك الطريق ، فإنّه سيصل حتما إلى مقصده. وبتعبير آخر فإنّ الإنسان نتيجة لامتلاكه العقل والإرادة ، فإنّ له واجبات ومسئوليات ، وبعد ذلك مناهج تكامليّة ليس للحيوانات مثلها ، ولذلك فإنّه إضافة إلى الهداية التكوينيّة محتاج إلى الهداية التشريعيّة.

وخلاصة القول : إنّ موسىعليه‌السلام يريد أن يفهم فرعون أنّ عالم الوجود هذا غير منحصر فيك ، ولا في أرض مصر ، ولا يختص بالحاضر أو الماضي ، فإنّ لهذا العالم ماضيا ومستقبلا لم أكن ولم تكن فيه ، وتلاحظ مسألتان أساسيتان في هذا العالم : تأمين الحاجات ، ثمّ استغلال الطاقات والقوى في طريق رقي الموجودات ، فإنّها تستطيع جيدا أن تدلّك على ربّنا ، وتعرّفك به ، وكلّما أمعنت النظر في هذا المجال فستحصل على دلالات وبراهين كثيرة على عظمته وقدرته.

فلمّا سمع فرعون هذا الجواب الجامع الجميل ، ألقى سؤالا آخر( قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى ) . وهناك بحث بين المفسّرين في مراد فرعون من هذه الجملة ، فقد أظهروا وجهات نظر مختلفة!

١ ـ فقال بعضهم : إنّ موسىعليه‌السلام لمّا ذكر في آخر جملة من كلامه شمول العذاب الإلهي للمكذّبين بالتوحيد ، فإنّ فرعون سأل : إذن فلما ذا لم يبتل أولئك

١٥

الأقوام المشركين الماضين ، بمثل هذا العذاب؟

٢ ـ وقال بعض : إنّ موسى لمّا قال : إنّ ربّ العالم هو ربّ الجميع ، سأل فرعون : فلما ذا كان الأسلاف من قومنا وكلّ الأقوام الماضية مشركين؟ فهذا يبيّن أنّ الشرك وعبادة الأصنام ليس عملا خاطئا!

٣ ـ وقال آخرون : لمّا كان معنى كلام موسى هو أنّ الجميع سينال نتيجة أعماله في النهاية ، وسيعاقب أولئك الذين عصوا الأوامر الإلهيّة ، فسأل فرعون : فما هو مصير الأقوال الماضية الذين هلكوا واندثروا؟

على كلّ حال ، أجابه موسىعليه‌السلام بقوله :( قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى ) (١) وبناء على هذا فإنّ حساب هؤلاء وكتبهم محفوظة ، وسينالون في النهاية ثواب وعقاب أعمالهم ، فإنّ الحافظ لهذا الحساب هو الله الذي لا يخطئ ولا ينسى ، وبملاحظة ما بيّنه موسى من أصل التوحيد والتعريف بالله ، فإنّ من الواضح جدّا أنّ حفظ هذا الحساب لدى من أعطى كلّ موجود حاجته بدقّة ، ثمّ هداه ليس أمرا صعبا.

وللمفسّرين آراء مختلفة في الفرق بين (لا يضلّ) و (لا ينسى) إلّا أنّ الظاهر هو أن (لا يضلّ) إشارة إلى نفي أي نوع من الخطأ من قبل الله سبحانه ، و (لا ينسى) إشارة إلى نفي النسيان ، أي أنّه سبحانه لا يشتبه في حساب الأفراد عند بداية العمل ، ولا يبتلى بنسيان حفظ حسابهم وأعمالهم ، وعلى هذا فإنّ موسى قد نبّه بصورة ضمنيّة على إحاطة علم الله بكلّ شيء ، لينتبه فرعون إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ أي شيء من عمله لا يخفى على الله وإن كان بمقدار رأس الإبرة ، وسوف ينال عقابه أو ثوابه.

في الحقيقة ، إنّ الإحاطة العلمية لله هي نتيجة الكلام الذي قاله موسى من

__________________

(١) لقد ذكر «كتاب» هنا بصيغة النكرة ، وهذه إشارة إلى عظمة الكتاب الذي تثبت فيه أعمال العباد ، كما نقرأ في آية أخرى :( لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها ) الكهف ـ ٤٩.

١٦

قبل ، وهو أنّ الله الذي أعطى كلّ موجود حاجته ثمّ هداه ، مطّلع على حال كلّ أحد ، وكلّ شيء.

ولمّا كان جانب من حديث موسىعليه‌السلام حول مسألة التوحيد ومعرفة الله ، فإنّه يبيّن هنا فصلا آخر في هذا المجال ، فيقول :( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى ) . وفي مجموع هذه الآية إشارة إلى أربعة أنواع من نعم الله الكبرى.

١ ـ الأرض التي هي مهد استقرار الإنسان ومهاده ، ويستطيع الإنسان العيش عليها براحة وأمان ببركة قانون الجاذبية ، وكذلك الطبقة الغازية العظيمة التي تحيط بالأرض.

٢ ـ الطرق والسبل التي أوجدها الله في الأرض ، والتي تربط جميع مناطقها بعضها بالبعض الآخر ، كما رأينا غالبا وجود طرق ووديان بين سلسلة الجبال التي تناطح السّماء يستطيع الإنسان أن يمرّ من خلالها ويصل إلى مقصده.

٣ ـ الماء الذي هو أساس الحياة ، ومصدر كلّ البركات ، والذي أنزل من السّماء.

٤ ـ الأعشاب والنباتات المختلفة التي تخرج من الأرض بفعل هذا الماء ، ويشكل قسم منها المواد الغذائية للإنسان ، وقسم يستفيد منه الإنسان في صنع الأدوية ، وقسم آخر يصنع ملابسه ، وقسم آخر لوسائل الحياة كالأبواب ، وحتّى البيوت التي تبنى من الخشب ، والسفن ، وكثير من وسائط النقل الأخرى ، بل يمكن القول : إنّ هذه النعم الأربع الكبرى تشكل حسب الترتيب الذي ورد في الآية أولويّات حياة الإنسان ، فقبل كلّ شيء يحتاج الإنسان إلى محلّ سكن وهدوء ، وبعده إلى طرق المواصلات ، ثمّ الماء ، ثمّ المحاصيل الزراعية.

ثمّ أشار إلى خامس النعم وآخرها من سلسلة النعم الإلهيّة هذه ، فقال :( كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ ) ، وهو إشارة إلى ثرواتكم ومنتوجاتكم الحيوانيّة ، والتي تشكّل

١٧

جانبا مهمّا من المواد الغذائية والملابس ووسائل الحياة ، هي أيضا من بركات هذه الأرض وذلك الماء النازل من السّماء.

وفي النهاية ، وبعد أن أشار إلى كلّ هذه النعم ، قال :( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى ) .

ممّا يستحقّ الانتباه أنّ «النهى» جمع «نهية» وهي في الأصل مأخوذة من مادّة «نهي» مقابل الأمر ، وتعني العقل الذي ينهى الإنسان عن القبائح والسيّئات ، وهذه إشارة إلى أنّ كلّ تدبّر وتفكّر من أجل فهم أهميّة هذه الآيات ليس كافيا ، بل إنّ العقل والفكر المسؤول هو الذي يستطيع أن يدرك ويطلع على هذه الحقيقة.

وبما أنّ هذه الآيات دلّلت على التوحيد بخلق الأرض ونعمها ، فقد بيّنت مسألة المعاد بالإشارة إلى الأرض في آخر آية من هذه الآيات أيضا فقالت :( مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى ) وإنّه لتعبير بليغ حقّا ، ومختصر أيضا ، عن ماضي البشر وحاضره ومستقبله ، فكلّنا قد جئنا من التراب ، وكلّنا نرجع إلى التراب ، ومنه نبعث مرّة أخرى!

إنّ رجوعنا إلى التراب ، أو بعثنا منه أمر واضح تماما ، لكن في كيفيّة بدايتنا من التراب تفسيران : الأوّل : إنّنا جميعا من آدم وآدم من تراب. والآخر : إنّنا أنفسنا قد خلقنا من التراب ، لأنّ كلّ المواد الغذائية التي كوّنت أجسام آبائنا وأمهاتنا قد أخذت من هذا التراب.

ثمّ إنّ هذا التعبير ينبّه كلّ العتاة المتمردّين ، والمتّصفين بصفات فرعون ، كي لا ينسوا من أين أتوا ، وإلى أين يذهبون؟ فلما ذا كلّ هذا الغرور والعصيان والطغيان من موجود كان بالأمس ترابا ، وسيكون غدا ترابا أيضا؟

* * *

١٨

ملاحظات

١ ـ كلمتي «المهد» و «المهاد» تعنيان المكان المهيّأ للجلوس والمنام والاستراحة ، وفي الأصل تطلق كلمة المهد على المكان الذي ينام فيه الطفل ، فكأنّ الإنسان طفل وضع في مهد الأرض ، وقد توفّرت في هذا المهد كلّ وسائل الحياة.

٢ ـ كلمة «أزواجا» التي أخذت من مادّة «زوج» يمكن أن تكون إشارة إلى أصناف وأنواع النباتات ، كما يمكن أن تكون إشارة خفيّة إلى مسألة الزوجيّة في عالم النباتات ، والتي سنتحدّث عنها في ذيل آية مناسبة إن شاء الله تعالى.

٣ ـ ورد عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حديث في اصول الكافي في تفسير (أولو النهى) ، جاء فيه : «إنّ خياركم أولو النهى» قيل : يا رسول الله ، ومن أولو النهى؟ قال : «هم أولو الأخلاق الحسنة ، والأحلام الرزينة ، وصلة الأرحام ، والبررة بالأمّهات والآباء ، والمتعاهدين للفقراء والجيران واليتامى ، ويطعمون الطعام ، ويفشون السلام في العالم ، ويصلّون والناس نيام غافلون»(١) .

وفي حديث آخر نقل عن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، أنّ رجلا سأله : يا ابن عمّ خير خلق الله ، ما معنى السجدة الأولى؟ فقال : «تأويله : اللهمّ إنّك منها خلقتني ـ يعني من الأرض ـ ورفع رأسك ومنها أخرجتنا ، والسجدة الثّانية وإليها تعيدنا ، ورفع رأسك من الثّانية ومنها تخرجنا تارة أخرى»(٢) .

* * *

__________________

(١) اصول الكافي ، الجزء الثّاني ، باب «المؤمن وعلاماته وصفاته» الحديث ٣٢.

(٢) بحار الأنوار ، ج ٨٥ ، ص ١٣٢

١٩

الآيات

( وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (٥٦) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (٥٨) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (٦٠) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (٦١) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (٦٢) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (٦٣) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (٦٤) )

التّفسير

فرعون يهيء نفسه للجولة الأخيرة :

تعكس هذه الآيات مرحلة أخرى من المواجهة بين موسى وفرعون ، ويبدأ

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

التدريجي وقبول الانقسام والتجزّي - لكان مادّيّاً متغيّراً وقابلاً للانقسام، وليس كذلك، فإنّ كلّ أحدٍ إذا رجع إلى هذه المشاهدة النفسانيّة اللاّزمة لنفسه، وذكر ما كان يجده من هذه المشاهدة منذ أوّل شعوره بنفسه ؛ وجده معنىً مشهوداً واحداً باقياً على حاله من غير أدنى تعدّدٍ وتغيّر، كما يجد بدنه وأجزاء بدنه، والخواصّ الموجودة معها متغيّرة متبدّلة من كلّ جهةٍ في مادّتها وشكلها وسائر أحوالها وصورها، وكذا وجده معنىً بسيطاً غير قابلٍ للانقسام والتجزّي، كما يجد البدن وأجزائه وخواصّه - وكلّ مادّة وأمرٍ مادّيٍّ كذلك - ؛ فليست النفس هي البدن ولا جزءاً من أجزائه، ولا خاصّة من خواصّه، سواء أدركناه بشيءٍ من الحواسّ، أو بنحوٍ من الاستدلال، أو لم ندرك ؛ فإنّها جميعاً مادّية كيفما فُرضت، ومن حكم المّادة التغيّر وقبول الانقسام، والمفروض أنْ ليس في مشهودنا المسمّى بالنفس شيء من هذه الأحكام ؛ فليست النفس بمادّيّة بوجه.

وأيضاً، هذا الذي نشاهده، نشاهده أمراً واحداً بسيطاً، ليس فيه كثرة من الأجزاء، ولا خليط من خارج، بل هو واحد صِرْف، فكلّ إنسانٍ يشاهد ذلك من نفسه، ويرى أنّه هو وليس بغيره، فهذا المشهود أمرٌ مستقلٌّ في نفسه، لا ينطبق عليه حدّ المادّة، ولا يوجد فيه شيء من أحكامها اللاّزمة، فهو جوهر مجرّد عن المادّة متعلّق بالبدن نحو تعلّق يوجب اتحاداً ما له بالبدن، وهو التعلّق التدبيري ؛ وهو المطلوب.

وقد أنكر تجرّد النفس جميع المادّيّين، وجمعٌ من الإلهيّين من المتكلّمين والظاهريّين من المحدثين، واستدلّوا على ذلك، وردّوا ما ذُكر من البرهان بما لا يخلو عن تكلّف من غير طائل.

قال المادّيّون: إنّ الأبحاث العلميّة على تقدّمها وبلوغها اليوم إلى غاية

٤١

الدقّة في فحصها وتجسّسها، لم تجد خاصّة من الخواصّ البدنيّة إلاّ وجدت علّتها المادّيّة، ولم تجد أثراً روحيّاً لا يقبل الانطباق على قوانين المادّة حتّى تحكم بسببها بوجود روح مجرّدة.

قالوا: وسلسلة الأعصاب تؤدّي الإدراكات إلى العضو المركزي وهو الجزء الدماغي، على التوالي وفي نهاية السرعة، ففيه مجموعة متّحدة ذات وضع واحد لا يتميّز أجزائها ولا يُدرك بطلان بعضها وقيام الآخر مقامه، وهذا الواحد المتحصّل هو نفسنا التي نشاهدها ونحكي عنها ب-: أنا.

فالذي نرى أنّه غير جميع أعضائنا صحيح، إلاّ أنّه لا يثبت أنّه غير البدن وغير خواصّه، بل هو مجموعة متّحدة من جهة التوالي والتوارد لا نغفل عنه، فإنّ لازم الغفلة عنه - على ما تبيّن - بطلان الأعصاب، ووقوفها عن أفعالها وهو الموت، والذي نرى أنّه ثابت صحيح لكنّه لا من جهة ثباته وعدم تغيّره في نفسه بل الأمر مشتبه على المشاهدة من جهة توالي الواردات الإدراكيّة وسرعة ورودها، كالحوض الذي يرد عليه الماء من جانب ويخرج من جانب بما يساويه وهو مملوء دائماً، فما فيه من الماء يجده الحسّ واحداً ثابتاً، وهو بحسب الواقع لا واحدٌ ولا ثابت، وكذا يجد عكس الإنسان، أو الشجر أو غيرهما فيه واحداً ثابتا، وليس واحداً ثابتاً بل هو كثيرٌ متغيّر تدريجاً بالجريان التدريجي الذي لأجزاء الماء فيه، وعلى هذا النحو وجود الثبات والوحدة والشخصيّة التي نرى في النفس.

قالوا: فالنفس التي يُقام البرهان على تجرّدها من طريق المشاهدة الباطنيّة، هي في الحقيقة مجموعة من خواصّ طبيعيّة، وهي: الإدراكات العصبيّة، التي هي نتائج حاصلة من التأثير والتأثّر المتقابلين بين جزء المادّة الخارجيّة وجزء المركّب العصبي، ووحدتها وحدة اجتماعيّة لا وحدة واقعيّة حقيقيّة.

٤٢

أقول : أمّا قولهم: ( إنّ الأبحاث العلميّة المبتنية على الحسّ والتجربة، لم تظفر في سيرها الدقيق بالروح، ولا وجدت حكماً من الأحكام غير قابل التعليل إلاّ بها )، فهو كلام حقٍّ لا ريب فيه، لكنّه لا ينتج انتفاء النفس المجرّدة التي أُقيم البرهان على وجودها، فإنّ العلوم الطبيعيّة الباحثة عن أحكام الطبيعة، وخواص المادّة، إنّما تقدر على تحصيل خواصّ موضوعها الذي هو المادّة، وإثبات ما هو من سنخها، وكذا الخواص والأدوات المادّيّة، التي نستعملها لتتميم التجارب المادّيّة، إنّما لها أن تحكم في الأُمور المادّيّة، وأمّا ما وراء المادّة والطبيعة فليس لها أن تحكم فيها نفياً ولا إثباتاً، وغاية ما يشعر البحث المادّي به هو عدم الوجدان، وعدم الوجدان غير عدم الوجود، وليس من شأنه - كما عرفت - أن يجد ما بين المادّة التي هي موضوعها ولا بين أحكام المادّة وخواصّها، التي هي نتائج بحثها، أمراً مجرّداً خارجاً عن سنخ المادّة، وحكم الطبيعة.

والذي جرّأهم على هذا النفي ؛ زعمهم أنّ المثبتين لهذه النفس المجرّدة، إنّما أثبتوها لعثورهم إلى أحكام حيويّة من وظائف الأعضاء، ولم يقدروا على تعليلها العلمي، فأثبتوا النفس المجرّدة لتكون موضوعاً مُبْدئاً لهذه الأفاعيل، فلمّا حصل العلم اليوم على عللها الطبيعيّة لم يبق وجهٌ للقول بها. ونظير هذا الزعم ما زعموه في باب إثبات الصانع.

وهو اشتباهٌ فاسدٌ، فإنّ المثبتين لوجود هذه النفس لم يثبتوها لذلك، ولم يسندوا بعض الأفاعيل البدنيّة إلى البدن، فيما علله ظاهرة، وبعضها إلى النفس فيما علله مجهولة، بل أسندوا الجميع إلى العلل البدنيّة بلا واسطة وإلى النفس بواسطتها، وإنّما أسندوا إلى النفس ما لا يمكن إسناده إلى البدن ألبتّة، وهو علم الإنسان بنفسه ومشاهدته ذاته، كما مرّ.

٤٣

وأمّا قولهم: ( إنّ الإنيّة المشهودة للإنسان على صفة الوحدة، هي عدّة من الإدراكات العصبيّة الواردة على المركز، على التوالي، وفي نهاية السرعة - ولها وحدة اجتماعية - ) فكلام لا محصّل له، ولا ينطبق عليه الشهود النفساني ألبتّة، وكأنّهم ذهلوا عن شهودهم النفساني ؛ فعدلوا عنه إلى ورود المشهودات الحسّيّة إلى الدماغ، واشتغلوا بالبحث عمّا يلزم ذلك من الآثار التالية، وليت شعري، إذا فرض أنّ هناك أُموراً كثيرة بحسب الواقع لا وحدة لها ألبتّة، وهذه الأُمور الكثيرة التي هي الإدراكات أُمور مادّيّة ليس ورائها شيء آخر إلاّ نفسها، وأنّ الأمر المشهود الذي هو النفس الواحدة هو عين هذه الإدراكات الكثيرة، فمِن أين حصل هذا الواحد الذي لا نشاهد غيره ؟!

ومن أين حصلت هذه الوحدة المشهودة فيها عياناً ؟!

والذي ذكروه من وحدتها الاجتماعية كلام أشبه بالهزل منه بالجد ؛ فإنّ الواحد الاجتماعي هو كثير في الواقع من غير وحدة، وإنّما وحدتها في الحسّ أو الخيال - كالدار الواحد والخطّ الواحد مثلاً - لا في نفسه، والمفروض، في محلّ كلامنا، أنّ الإدراكات والشعورات الكثيرة في نفسها هي شعور واحد عند نفسها، فلازم قولهم:

إنّ هذه الإدراكات في نفسها كثيرة لا ترجع إلى وحدة أصلاً، وهي بعينها شعور واحد نفساني واقعاً، وليس هناك أمر آخر له هذه الإدراكات الكثيرة فيدركها على نعت الوحدة، كما يدرك الحاسّة أو الخيال المحسوسات، أو المخيّلات الكثيرة المجتمعة على وصف الوحدة الاجتماعية، فإنّ المفروض أنّ مجموع الإدراكات الكثيرة في نفسها، نفس الإدراك النفساني الواحد في نفسه، ولو قيل: إنّ المُدْرك هاهنا الجزء الدماغي، يدرك الإدراكات الكثيرة على نعت الوحدة ؛ كان الإشكال بحاله، فإنّ المفروض: أنّ إدراك الجزء الدماغي نفس هذه الإدراكات الكثيرة

٤٤

المتعاقبة بعينها، لا أنّ للجزء الدماغي قوّة إدراك تتعلّق بهذه الإدراكات، كتعلّق القوى الحسيّة بمعلوماتها الخارجيّة وانتزاعها منها صوراً حسّيّة، فافهم ذلك.

والكلام في كيفيّة حصول الثبات والبساطة في هذا المشهود، الذي هو متغيّر متجزّئ في نفسه كالكلام في حصول وحدته، مع أنّ هذا الفرض أيضاً - أعني أن تكون الإدراكات الكثيرة المتوالية المتعاقبة مشعورةً بشعورٍ دماغيٍّ على نعت الوحدة - نفسه فرض غير صحيح، فما شأن الدماغ والقوّة التي فيه، والشعور الذي لها، والمعلوم الذي عندها ؟!

وهي جميعاً أُمورٌ مادّيّةٌ، ومن شأن المادّة والمادّي الكثرة والتغيّر وقبول الانقسام، وليس في هذه الصورة العلميّة شيء من هذه الأوصاف والنعوت، وليس غير المادة والمادي هناك شيء.

وقولهم: ( إنّ الأمر يشتبه على الحسّ أو القوّة المُدْرِكة، فيدرك الكثير المتجزّي المتغيّر واحداً بسيطاً ثابتاً ) غلط واضح، فإنّ الغلط والاشتباه من الأُمور النسبيّة التي تحصل بالمقايسة والنسبة، لا من الأُمور النفسيّة، مثال ذلك أنّا نشاهد الأجرام العظيمة السماويّة صغيرة كالنقاط البيض، ونغلط في مشاهدتنا هذه على ما تبيّنه البراهين العلميّة، وكثير من مشاهدات حواسّنا، إلاّ أنّ هذه الأغلاط، إنّما تحصل وتوجد إذا قايسنا ما عند الحسّ ممّا في الخارج من واقع هذه المشهودات، وأمّا ما عند الحسّ في نفسه، فهو أمرٌ واقعيٌّ كنقطة بيضاء لا معنى لكونه غلطاً ألبتّة.

والأمر فيما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ حواسّنا وقوانا المُدْرِكة إذا وجدت الأُمور الكثيرة المتغيِّرة المتجزّية على صفة الوحدة والثبات والبساطة ؛ كانت القوى المُدْرِكة غالطة في إدراكها، مشتبهة في معلومها

٤٥

بالقياس إلى المعلوم الذي في الخارج، وأمّا هذه الصورة العلميّة الموجودة عند القوّة فهي واحدة ثابتة بسيطة في نفسها ألبتّة، ولا يمكن أن يُقال للأمر الذي هذا شأنه: إنّه مادّي لفقده أوصاف المادّة العامّة.

فقد تحصّل من جميع ما ذكرنا: أنّ الحجّة التي أوردها المادّيون من طريق الحسّ والتجربة إنّما ينتج عدم الوجدان، وقد وقعوا في المغالطة بأخذ عدم الوجود ( وهو مدَّعاهم ) مكان عدم الوجدان، وما صوّروه لتقرير الشهود النفساني - المثبت لوجود أمرٍ واحدٍ بسيطٍ ثابتٍ - تصوير فاسد، لا يوافق لا الأُصول المادّيّة المسلِّمة بالحسّ والتجربة، ولا واقع الأمر الذي هو عليه في نفسه.

وأمّا ما افترضه الباحثون في علم النفس الجديد، في أمر النفس، وهو أنّه الحالة المتّحدة الحاصلة من تفاعل الحالات الروحيّة من الإدراك والإرادة والرضا والحب وغيرها، المنتجة لحالة متّحدة مؤلّفة، فلا كلام لنا فيه، فإن لكلّ باحثٍ أنّ يفترض موضوعاً، ويضعه موضوعاً لبحثه، وإنّما الكلام فيه من حيث وجوده وعدمه في الخارج والواقع، مع قطع النظر عن فرض الفارض وعدمه، وهو البحث الفلسفي، كما هو ظاهر على الخبير بجهات البحث.

وقال قوم آخرون من نُفاة تجرّد النفس من الملِّيّين: إنّ الذي يتحصّل من الأُمور المربوطة بحياة الإنسان: كالتشريح والفيزيولوجي، إنّ هذه الخواص الروحيّة الحيويّة تستند إلى جراثيم الحياة والسلولات التي هي الأُصول في حياة الإنسان، وسائر الحيوان، وتتعلّق بها، فالروح خاصّة، وأثر مخصوص فيها لكلّ واحدٍ منها أرواح متعدّدة، فالذي يسمّيه الإنسان روحاً لنفسه، ويحكي عنه ب-: أنا: مجموعة متكوّنة من أرواح غير محصورة على نعت الاتحاد

٤٦

والاجتماع، ومن المعلوم أنّ هذه الكيفيّات الحيويّة، والخواصّ الروحيّة، تبطل بموت الجراثيم والسلولات، وتفسد بفسادها، فلا معنى للروح الواحدة المجرّدة الباقية بعد فناء التركيب البدني، غاية الأمر أنّ الأُصول المادّيّة المكتشَفة بالبحث العلمي لمّا لم تفِ بكشف رموز الحياة ؛ كان لنا أن نقول: إنّ العلل الطبيعيّة لا تفي بإيجاد الروح، فهي معلولة لموجود آخر وراء الطبيعة، وأمّا الاستدلال على تجرّد النفس من جهة العقل محضاً فشيء لا يقبله ولا يصغي إليه العلم اليوم، لعدم اعتمادها على غير الحسّ والتجربة، هذا.

أقول : وأنت خبير بأنّ جميع ما أوردناه على حجّة الماديّين وارد على هذه الحجّة المختلَقة من غير فرق، ونزيدها أنّها مخدوشة:

أوّلاً : بأنّ عدم وفاء الأُصول العلميّة المكتَشَفة إلى اليوم ببيان حقيقة الروح والحياة، لا ينتج عدم وفائها أبداً، ولا عدم انتهاء هذه الخواص إلى العلل المادّيّة في نفس الأمر على جهلٍ منّا، فهل هذا إلاّ مغالطة وُضع فيها العلم بالعدم مكان عدم العلم ؟!

وثانياً : بأنّ استناد بعض حوادث العالم - وهي الحوادث المادّيّة - إلى المادّة وبعضها الآخر - وهي الحوادث الحيويّة - إلى أمر وراء المادّة - وهو الصانع - قول بأصلين في الإيجاد، ولا يرتضيه المادّي ولا الإلهي، وجميع أدلّة التوحيد تُبطله.

وهنا إشكالات أُخر أوردوها على تجرّد النفس، مذكورة في الكتب الفلسفيّة والكلاميّة، غير أنّ جميعها ناشئة عن عدم التأمّل والإمعان فيما مرّ من البرهان، وعدم التثبّت في تعقّل الغرض منه ؛ ولذلك أضربنا عن إيرادها، والكلام

٤٧

عليها، فمَن أراد الوقوف عليها فعليه بالرجوع إلى مظانّها، والله الهادي(١) انتهى كلامه.

وأمّا الكلام في الجهة الثانية - وهي دلالة القرآن والسنّة على أنّ للإنسان روحاً ونفساً غير البدن، فنقتصر فيه على نقل جملةٍ من الآيات الكريمة:

١ -( وَ لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ‌ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‌ ) (آل عمران ١٦٩ - ١٧١ ).

٢ -( وَ لاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَ لٰکِنْ لاَ تَشْعُرُونَ‌ ) ( البقرة ١٥٤ ).

٣ - (وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غُدُوّاً وعشيّاً ويوم تقوم الساعة أدْخِلُوا آل فروعون أشدّ العذاب ) ( المؤمن ٤٥ - ٤٦ ).

واعلم أنّ هذه الآيات الثلاث تدلّ على أمرين:

أوّلهما : الحياة البرزخيّة للشهداء وأئمّة الكفر فقط دون غيرهما، أي لا يُستفاد منها عموم الحياة البرزخيّة للجميع، والاستدلال عليه بآيات أُخر لا يخلو عن منع وإشكال.

ثانيهما : أنّ للإنسان شيئاً آخر وراء البدن لا يموت بموت البدن وفنائه، وهو المستحقّ للثواب والعذاب، وهو الذي يُسمّى بالروح والنفس.

٤ -( فَلَوْ لاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ‌ ) ( الواقعة ٨٣ ).

___________________

(١) ص ٣٦٤ إلى ٣٧٠ ج١ تفسير الميزان.

٤٨

٥ -( کَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِي ) ( القيامة ٢٦ ).

٦ -( إِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ کَافِرُونَ‌ * قُلْ يَتَوَفَّاکُمْ مَلَکُ الْمَوْتِ الَّذِي وُکِّلَ بِکُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّکُمْ تُرْجَعُونَ‌ ) ( السجدة ١٠ ).

أقول : ملك الموت لا يتوفّى الجسم الذي يُدفن في الأرض ويضلّ فيها، بل يتوفّى النفس.

٧ -( وَ لَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَ الْمَلاَئِکَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَکُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ.. ) ( الأنعام ٩٣ ).

٨ -( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِکُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَ يُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذٰلِکَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَکَّرُونَ‌ ) ( الزمر ٤٢)(١) .

___________________

(١) وقد يُقال أنّ قوله تعالى( هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاکُمْ بِاللَّيْلِ وَ يَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُکُمْ فِيهِ ) ( الأنعام ٦٠ )، يدلّ على موت الإنسان في المنام، والحال أنّه حيّ نائم.

وقد يُجاب عنه بأنّ الموت والنوم يشتركان في انقطاع تصرّف النفس في البدن، كما أنّ البعث بمعنى الإيقاظ بعد النوم يشارك البعث بمعنى الإحياء بعد الموت في عود النفس إلى تصرّفها في البدن بعد الانقطاع، فلأجله عُدت الإنامة توفياً، وإن شئت فقل إنّ التوفّي على قسمين: توفّي مؤقّت وهو الإنامة، وتوفّي يستمر وهو الإماتة كما يُستفاد من قوله تعالى:

( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِکُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَ يُرْسِلُ الْأُخْرَى... ) ( الزمر آية ٤٢).

ويقول بعض الأطبّاء: إنّ حياة النوم ليست بها حسّ ولا وعي ولا حركة.

ويجب أن نعرف أنّ للنوم درجات، والدرجات السطحيّة منه يخالطها بعض اليقظة، وبعض الحسّ والحركة من تقليب وخلافه.

وأمّا الدرجات العميقة فلا، ونفس الشيء يحدث في التخدير وفقد الوعي المؤقّت، وفقد الوعي الدائم كتلف قشرة المخّ الكامل ( ص ٣٤٤ الحياة الإنسانيّة ).

أقول : وبعد فقد بقى الفرق العلمي بين الموت والنوم، وأخواته المشار إليها، وكذا الجنون وبيانه على عهدة العلوم.

وسيأتي في الفصل الثاني من المسألة التاسعة

=

٤٩

( البحث الرابع ) : النفس والروح مفهومان لحقيقةٍ واحدةٍ، فهما موجود واحد قطعاً، ومهما قيل في الفرق بينهما فهو بلحاظ الاعتبارات والمراتب لا غير، فإنّ كلّ إنسان يُدرك من ضميره أنّه واحد لا اثنان !

وتخيّل التعدّد من أوهام العوام، ومَن بحكمهم من مدّعي العلم المبتلين بالجهل المركّب.

ويناسب هنا أنْ نرجع إلى الكتاب والسنّة ؛ لنرى رأيهما في حقّهما وما يتعلّق بهما من خصوصياتهما.

أمّا الروح فقد استُعملت في القرآن في معانٍ مختلفةٍ غير ما به حياة الإنسان وشخصيّته، بل ليس فيه أنّ آدمعليه‌السلام أعطاه الله روحاً، وإنّما فيه أنّه تعالى نفخ في آدم من روحه ( الحجر ٢٩ - ص٧٢ ) كما ورد ( مثله ) في حقّ عيسىعليه‌السلام ، فلعلّ المراد من النفخ هو الإحياء فقط لا أنّ آدم وعيسى صاحبا روح(١) .

وأمّا قوله تعالى:( ويسئلونك عن الرُّوح قُلِ الرُّوح من أمر ربّي ) فالمراد بها مجهول، ويُحتمل أنّها الروح الأمين، أو روح القُدُس(٢) ، أو أُريد به ما أُريد بقوله تعالى:( تَنَزَّلُ الْمَلاَئِکَةُ وَ الرُّوحُ ) ، وبقوله:( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلاَئِکَةُ صَفّاً ) ، أو روح الإنسان. لكن في الأحاديث أنّه خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل...(٣) .

وأمّا قوله تعالى:( أُولٰئِکَ کَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) ( المجادلة ٢٢ ) فهي الروح المؤيّدة للمؤمنين - رزقنا الله بفضله -

___________________

=

عشرة حول النسيج الشبكي ما ينفع للمقام، وكذا في الفصل الرابع في جواب الإشكال السابع.

(١) نعم الأحاديث تدلّ على أن للإنسان روحاً كما تأتي.

(٢) بناءً على أنّه غير الروح الأعلين أي جبرئيل وفيه بحث.

(٣) لاحظ ج١٨ وغيره من بحار الأنوار.

٥٠

وليست بروح تنشأ منها الحياة الإنسانية، كما لا يخفى.

وأما النفس والأنفس فقد وردت في القرآن كثيراً، وإليك بعض ما يتعلّق بها:

١ - النفس هي المسؤولة عن أعمال الإنسان كقوله تعالى:( ثُمَّ تُوَفَّى کُلُّ نَفْسٍ مَا کَسَبَتْ ) ( البقرة ٢٨١ )، وقوله:

( وَ وُفِّيَتْ کُلُّ نَفْسٍ مَا کَسَبَتْ وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَ‌ ) (١) .

والآيات الدالّة عليه كثيرة(٢) .

٢ - أنّها تذوق الموت وإليها أُسند القتل، كقوله تعالى:( کُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ) ( آل عمران ١٨٠ )، ( الأنبياء ٢٥ )، ( العنكبوت ٥٧ ).

٣ - أنّها تُلْهَم فجورها وتقواها.

٤ - أنّها المكلّفة:( لاَ يُکَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ) ( البقرة ٢٨٦ )، ولاحظ سورة الأنعام ١٥٢، والأعراف ٤٢، والمؤمنون ٦٢، والطلاق ٧.

٥ - أنّها أمّارة بالسوء، وأنّها لوّامة، ومطمئنة وترجع إلى ربّها راضيةً مرضيّة.

٦ - أنّها متنعّمة في الجنّة، ( الزخرف ٧١ - فُصّلت ٣١ )(٣) .

وأمّا الأحاديث المعتَبَرة الواردة في المقام فقد استوفيناها في موسوعتنا الحديثيّة( معجم الأحاديث المعتبرة ) وذكرنا بعضها في سائر كتبنا ( گوناگون ج١ - عقايد براى همه وغيرها )، وإليك جملة منها:

١ - صحيح أبي ولاّد المروي في الكافي عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال: قلت له: جعلت فداك يروون أنّ أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر

___________________

(١) آل عمران أية ٢٥.

(٢) البقرة ٤٨، ١٢٣، ٢٨١، آل عمران ٢٥..

(٣) ونسب إلى النفس - أيضاً - زائداً على ما في المتن: الإيمان والتفريط في جنب الله، والوسوسة، والتسويل، والشّحّ، والاشتهاء، والهوى، والأكنان، والحرج، والإخفاء، والاستيقان في آيات أُخر.

٥١

حول العرش، فقال: ( لا، المؤمن أكرم على الله مِن أن يجعل روحه في حوصلة طير ( و ) لكن في أبدان كأبدانهم )(١) .

٢ - صحيح محمّد بن قيس المروي في الخصال عن الإمام الباقرعليه‌السلام قال: سأل الشامي... عن العين التي تأوي إليها أرواح المشركين ؟ فقال: ( هي عينٌ يُقال لها سلمى )(٢) .

٣ - صحيح الكناسي المروي في الكافي، عن الباقرعليه‌السلام ...: ( إنّ لله جنّة خلقها الله في المغرب... وإليها تخرج أرواح المؤمنين من حفرهم عند كلّ مساء... وإنّ لله ناراً في المشرق خلقها ليسكنها أرواح الكفار... )(٣) .

٤ - صحيح الأحول المروي فيه قال: سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن الروح التي في آدم قوله:( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) (٤) ، قال: ( هذه روح مخلوقة، والروح في عيسى مخلوقة)(٥) .

٥ - حسنة حمران، قال: سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن قول الله عزّ وجلّ:( وَرُوحٌ مِنْهُ ) (٦) قال: ( هي روح الله مخلوقة خلقها الله في آدم وعيسى )(٧) .

٦ - صحيح أبي بصير المروي في الكافي، قال: سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن قول الله عزّ وجلّ:( وَ يَسْأَلُونَکَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) (٨) ،

___________________

(١) ص ٢٦٨ ج٦ بحار الأنوار.

(٢) ص ٢٧٤ نفس المصدر.

(٣) ص ٢٩٠ المصدر.

(٤) الحجر آية ٢٩.

(٥) ص ١٣٣ ج١ الكافي.

(٦) النساء آية ١٧١.

(٧) الكافي ١: ١٣٣.

(٨) الإسراء آية ٨٥.

٥٢

قال: ( خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل(١) ... )

٧ - معتبرة ابن أبي يعفور المرويّة في العلل عن الصادقعليه‌السلام :

( إنّ الأرواح جنود مجنّدة فما تعارف منها في الميثاق ائتلف ههنا، وما تناكر منها في الميثاق اختلف ههنا )(٢) .

أقول : هذا المضمون وارد في عدّة من الأحاديث، لكنّ أكثرها ضعيفة سنداً فتكون مؤيّدة لها.

٨ - موثّقة ابن بكير، عن الباقرعليه‌السلام : (... وخلق الله أرواح شيعتنا قبل أبدانهم بألفَي عام)(٣) .

أقول : خلقة الأرواح قبل الأبدان بألفي عام وردت في جملة من الأحاديث(٤) ، ولا يبعد حصول الاطمئنان بصدور بعضها عن الأئمّةعليهم‌السلام ، والظاهر أنّها تنافي قول بعض الفلاسفة: إنّ الروح جسمانيّة الحدوث روحانيّة البقاء، ولذا أوّله في الأسفار تأويلاً باطلاً.

واعلم أنّ الروح لا تُطلق على الإنسان المركّب منها ومن البدن، بل يطلق على نفسها فقط، بخلاف النفس، فإنّها تطلق على خصوص معناها، كما تُطلق على معنىً يُعبّر عنه بالفارسيّة بكلمة ( خود، خودتان، خودما )، أي: على مجموع الإنسان، كقوله تعالى:( فسلِّموا على أنفُسِكُم ) (٥) ، بل ربّما على ما استحال البدن والنفس فيه ؛ كما في حقّه تعالى:( وَ يُحَذِّرُکُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ) (٦) .

___________________

(١) الكافي ١: ٢٧٣، نسخة الكومبيوتر.

(٢) ص ١٣٩ ص ٥٨ البحار.

(٣) ص ١٣٨ ج ١ الكافي.

(٤) النور آية ٦١.

(٥) لاحظ ج٥٨ وغيره من بحار الأنوار.

(٦) آل عمران آية ٢٨ و ٣٠.

٥٣

بقي شيء وهو: أنّ عوام المسلمين يزعمون أنّ الروح لا تأمر بالشرّ بل تأمر بالخير دائماً، وأمّا النفس، فهي تأمر بالخير والشرّ، ولعلّ وجه هذا الزعم أنّ القرآن أسند الشرّ إلى النفس ولم يسنده إلى الروح، لكنّ القرآن لم يفصّل القول في الروح الإنسانيّة، كما عرفت، وما تقدّم من الأحاديث المعتبرة يكفي في ضعف الزعم المذكور.

وبالجملة : هما مفهومان لمصداقٍ واحدٍ كما عرفت.

وأمّا الكلام في الجهة الثالثة - وهي دلالة العلم على وجود الروح - فهو طويل نقتصر فيه هنا على كلام بعض الفضلاء فقط ؛ حتى لا يطول بنا المقام:

والمادّة التي يتكوّن منها الدماغ، هي عين المادّة التي تنشأ منها بقيّة أعضاء الجسد، ونوع الحياة الذي يتسبّب في نشوء الجميع واحد. فإنّ أصل الجنين خليّة واحدة ثمّ تتكثّر، وعليه، يلزم أن تكون الوظائف التي تقوم بها مختلف أعضاء الجسم من جنسٍ واحدٍ دون اختلاف تخصّصاتها، وهي وظائف غير إراديّة ولا فكريّة، لأنّها اللاّرادة، ويستحيل بحسب سنن الكون وموجوداته أن يتولّد - بصورة آليّة - المريد من غير المريد والمفكِّر من غير المفكِّر.

وماقيل من أنّ: الإرادة، والفكر، والشعور، وغيرها من الأنشطة الإنسانيّة الاختياريّة، إنّما تنشأ من الدماغ نتيجة تفاعلات كيميائية وفيزيائية، غير صحيح ؛ فإنّ كلّ تفاعلٍ لابُدّ له من عامل، فهو إن كان خارجيّاً يلزم استناد إرادته وأفكاره ومشاعره المختلفة غير اختياريّة له، مع أن المادّيّين لم يستطيعوا - ولن يستطيعوا - ولا مرّة واحدة أن يضعوا العناصر والمركّبات في أنابيب الاختبار، ثمّ يدفعونها بالتأشيرات المعنويّة بدلاً من العوامل المادّيّة المعهودة.

٥٤

وإن كان داخليّاً فما هو ؟

هل هو مجرد احتكاك الخلايا والأعصاب، أم هو مجرد وصول الدماء إلى عروق الدماغ، أم هو شيءٌ آخر ؟

فليكن أيّ شيء فلماذا تتحدّد وتختلف نتائج ذلك التفاعل الكيميائي المزعوم، باختلاف الأشخاص من جهة، وباختلاف الأزمان والساعات والأحوال في الشخص الواحد من جهةٍ أُخرى ؟

إنّ محتويات الأدمغة واحدة في الأشخاص والأزمان، وأنشطتهما المادّيّة واحدة، فلماذا تتعدّد إذن نتائج التفاعلات التي تحدث فيها ؟

فتتعدّد الأفكار، وتتعدّد المشاعر والأحاسيس، وتعدّد الاكتشافات، وتتعدّد المواهب عند الأشخاص، بل وتعدّد عند الشخص الواحد في ساعتين...، أقول : ولا تفسير له سوى الإقرار بوجود الروح...(١) . انتهى ما أردنا نقله.

واعلم أنّ الاعتقاد بوجود الروح، لا ينقص من أهميّة المخّ وعظم عمله، فلا تغفل، ويقول طبيب مسلم: إنّ كثيراً من العلماء، ذكروا أنّ المظاهر النفسيّة: كالوعي، والإدراك، والانفعال، والذاكرة، والقدرة على التعلّم، والإحساس النهائي للّذّة والألم، وكلّ هذه المظاهر النفسيّة لم يثبت علميّاً - إلى الآن - أنّ مراكزها النهائيّة موجودة في خلايا المخّ.

والحقيقة أنّنا نتعلّم الطبّ حسب المدرسة الغربيّة، التي ينفصل عندها العلم عن الدين، فهي ترى: أنّ المظاهر النفسيّة عبارة عن تفاعلات كيمياوية معقّدة تحدث داخل خلايا المخّ، وهذا أمر لم يثبت علميّاً للآن(٢) .

أقول : ولتأثير الروح والمخّ وأهمّيّة كلتيهما لنضرب مثلاً، ونشبّه

___________________

(١) ص ١٢٧ إلى ص١٣١ رؤية إسلاميّة لزراعة بعض الأعضاء البشريّة، نقلنا عنها بعض القليل مع الاختصار.

(٢) ص٨٦ نفس المصدر.

٥٥

الروح بالمصوِّر، وخلايا المخّ بجهاز التصوير، والصورة كما تحتاج إلى المصوِّر تحتاج إلى آلة التصوير ولا يغني أحدهما عن الآخر في إنتاج الصورة.

( البحث الخامس ) في بدء حياة الإنسان.

المتدبّر في البحثين الأخيرين، يقتنع بسهولة أنّ الحياة الإنسانيّة إنّما هي بتعلّق الروح بالبدن، كما أنّ موت الإنسان بانقطاع هذا التعلّق نهائياً، ولا ربط لحياة الخلايا بحياة الإنسان، ولا موته بموتها، وهذا الذي اعتقده علماء الإسلام، هو الصحيح المطابق للبراهين العقليّة أيضاً.

وإنْ شئت فقل: إنّ قوام إنسانيّة الإنسان بروحه لا ببدنه، وإنّ فُرض موجوداً تامّاً في الخارج وكان جميع خلاياه حيّة، فالجنين مهما تكامل وتنامى فهو - قبل تعلّق الروح - جنين الإنسان، وما يؤل إلى الإنسان وليس بإنسان نفسه.

متى تتعلّق الروح بالبدن ؟

هذا هو السؤال المهمّ في المقام، ولا يصلح علم الطب وعلم الأجنّة، وسائر العلوم للإجابة عليه، لحدّ الآن، ولا أظنّ اهتداء العقل إليه أيضاً، فلا بُدّ من الرجوع إلى الدين فيه، لكنّ القرآن الكريم - وحسب فهمي - ليس فيه ما يدلّ على توقيت تعلّق الروح بالبدن، سوى قوله تعالى:( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَکَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ‌ ) (١) ، ولا بُعد في إرادة تعلّق الروح بالجنين من هذه الآية، إذ إنشاء الجنين مخلوقاً آخر لا يناسب إلاّ صيرورته ذات روح، ويؤكِّده قوله:( فَتَبَارَکَ اللَّهُ... ) ، بل يدلّ على إرادة التعلّق المذكور بعض الروايات المعتبرة الآتية، لكن لا يُستفاد أنّ تعلق الروح

___________________

(١) المؤمنون آية ١٤.

٥٦

بالجنين في أيّ شهرٍ من شهور الحمل، وإنّما يُستفاد من الآية المذكورة أنّه بعد كسوة العظام لحماً. وإن قدّر الطب بشكلٍ دقيقٍ محسوسٍ على تعيين زمن كسوتها لحماً لم يقدر على زمان تعلّق الروح بالجنين، إذ لا دليل على أنّه بعدها بلا فصل، بل ظاهر قوله:( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ ) ، الفصل بينهما، فلا يبقى أمامنا للحصول على جواب السؤال المذكور سوى الأحاديث، فنقول:

١ - الصحيح المرويّ في التهذيب عن أمير المؤمنينعليه‌السلام :

(... فإذا أُنشئ فيه خلقٌ آخر، وهو الروح، فهو حينئذٍ نفس، ألف دينار كاملة إن كان ذكراً، وإن كان أُنثى فخمسمئة دينار )(١) .

٢ - صحيح محمّد بن مسلم المرويّ في الكافي، قال:

سألت أبا جعفرعليه‌السلام ... قلت: فما صفة النطفة التي تُعرف بها ؟

فقال: ( النطفة تكون بيضاء مثل النخامة الغليظة، فتمكث في الرحم إذا صارت أربعين يوماً، ثمّ تصير إلى علقة.

قلت: فما صفة خلقة العلقة التي تُعرف بها ؟

فقال: هي علقة كعلقة الدم المحجمة الجامدة تمكث في الرحم بعد تحويلها عن النطفة أربعين يوماً، ثمّ تصير مضغة.

قلت: فما صفة المضغة وخلقتها التي تُعرف بها ؟

قال: هي مضغة لحمٍ حمراءَ فيها عروقٌ خضرٌ مشتبكة، ثمّ تصير إلى عظم.

قلت: فما صفة خلقته إذا كان عظماً ؟

فقال: إذا كان عظماً شقّ له السمع والبصر، ورُتّبت جوارحه، فإذا كان كذلك فإنّ فيه الديّة كاملة )(٢) ، ورواه الشيخ في تهذيبه بتفاوت(٣) .

أقول : لم يذكر في هذا الصحيح توقيت المضغة بأربعين يوماً، ولا

___________________

(١) ص ٢٨٥ ج ١٠ نسخة الكومبيوتر.

(٢) ص ٣٤٥ ج ٧ الكافي.

(٣) ص ٤٧٥ ج ٢٦ جامع الأحاديث.

٥٧

يضر، فإنّه مذكور في صحيح زرارة وغيره، الآتية في مسألة الإجهاض(١) . ولم يذكر تعلّق الروح بالجنين أيضاً.

أقول : لا يُفهم من هذه الأحاديث مع الآية أنّ بدء الحياة الإنسانيّة، في أوّل الشهر الخامس من الحمل، أي في اليوم ١٢١ من الحمل، بل يُحتمل نفخ الروح بأطول من ذلك، كما لا يخفى، بل في رواية أبي شبل:

( هيهاتَ يا أبا شبل، إذا مضت الخمسة الأشهر فقد صارت فيه الحياة، وقد استوجب الديّة)(٢) ، ولعلّه اشتباه ومحرّف الأربعة الأشهر، لكنّه محتمل، إذ لا يخالفه نصٌّ معتبر، سوى معتبرة ابن الجهم الآتية(٣) ، ولا بُدّ لك أن تُلاحظ ما يأتي من الآية والأحاديث في المسألة الآتية، مع هذه الأحاديث جمعاً.

ومقتضى النظر الدقيق، أنّ جميع الأحاديث لا تدلّ على أنّ نفخ الروح يكون في أوّل الشهر الخامس من الحمل، حتّى معتبرة ابن الجهم في المطلب الأوّل من المسألة الآتية، وإنْ كانت مشعرة بها، نعم مدلولها نفخ الروح في الجنين بعد أربعة أشهر، فلاحظ وتأمّل جيّداً، والله العالم.

ولعلّه لأجل ما ذكرنا ؛ قال صاحب الجواهرقدس‌سره في باب الدية ( ص٣٦٥ ج٤٣ ): بل عن ظاهر الأصحاب عدم اعتبار مضيّ الأربعة أشهر في الحكم بحياته على وجه يترتّب عليه الديّة، وإن قال الصادقعليه‌السلام في خبر زرارة:

( السّقط إذا تمّ له أربعة أشهر غُسِّل )(٤) .

وأفتى الأصحاب بمضمونه، إلاّ أنّ ذلك لا يقتضي تحقّق العنوان في المقام.

أقول : أي حياة الجنين لوجوب الدية الكاملة.

___________________

(١) لاحظ ص ٦٤ هذا الكتاب.

(٢) جامع الأحاديث ٢٦ / ٤٨١.

(٣) الكافي ٧: ٣٤٦، نسخة الكومبيوتر.

(٤) الكافي ٣: ٢٠٦.

٥٨

المسألة السادسة

حول إجهاض الجنين(١)

الإجهاض: إلقاء حَمْلٍ ناقص الخَلْق بغير تمام، سواء من المرأة أو من غيرها، وكثيراً ما يُعبّر عن الإجهاض بالإسقاط، أو الطرح أو الإلقاء، وفي المقام مطالب ننقلها عن الأطبّاء:

١ - الثابت في علم الأجنّة أنّ الحياة موجودة في الحيوان المنوي قبل التلقيح، وموجودة في البويضة قبل الالتقاء، وقد يلتقي الحيوان المنوي والبويضة ويُسفر عن ذلك حمل عنقود وليس إنساناً، والحمل العنقودي ليس جنيناً، وإنّما مجرد خلايا لا تكون في مجموعها أي شكل من الأشكال، وإنّما شكلها شكل عنقود العنب، وبعد فترةٍ من الزمن يتقلّص الرحم ويطرد هذا المحتوى، ولكن ليس فيه ما يدلّ على الإنسان، أو على صورة الإنسان، أو على الحياة، وهو - أيضاً - نتيجة التقاء الحيوان المنوي بالبويضة(٢) .

٢ - فترة الإنشاء - يعني به قوله تعالى:( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ ) (٣) -

___________________

(١) الإجهاض - كما في معاجم اللُّغة واستعمال الفقهاء - هو إلقاء الحمْل ناقص الخَلْق، أو ناقص المدّة.

وقد أطلق مجمع اللُّغة العربية كلمة الإجهاض: على خروج الجنين قبل الشهر الرابع، وكلمة الإسقاط على إلقائه ما بين الشهر الرابع والسابع. هكذا قيل.

(٢) قال بعض الأطباء: إنّ البويضة المخصبة من ناحية خلويّة بالتأكيد هي ليست الجنين، إنّ جزءً يسيراً منها يتكوّن منه الجنين، وهذا يحدث في اليوم العاشر بعد العلوق، وقد لا يحدث فتكون بويضةً فاسدةً لا ينتج عنها جنين، وقد يحدث منها حمل عنقودي، وقد يحدث توأم... ص٦٧٧، الرؤية الإسلامية لبعض الممارسات الطبّيّة.

(٣) المؤمنون آية ١٤.

٥٩

حسبما رأيناه في الفيلم: أنّه في الأُسبوع السادس أو السابع بعد الفترة من الأُسبوع الأوّل إلى الأُسبوع السادس كانت مجموعة من الأنسجة لم تظهر بالفيلم، وإنّما ظهر لنا من بعد الأُسبوع السادس، وبعد الأربعين يوماً بدأ يتخلّق، بدأ يظهر الرأس وتظهر الأطراف، بدء خَلْقٍ آخر... ( و) من بعد الأُسبوع السادس ما هو إلاّ نموٌّ وليس تكويناً جديداً(١) .

٣ - إنّ الجنين يتحرّك ويتحرّك من قبل نهاية الشهر الرابع بزمن ٍطويل، ولكنّ السيّدة لا تحس به ؛ لأنّ الكيس المائي الذي يسبح فيه يكون في البداية كبيراً فسيحاً بالنسبة لجسمه الصغير، ويمرّ زمن حتّى يكبر الجنين، فتستطيع لكماته وركلاته أنْ تطال جدار الرحم ؛ فتشعر بها السيّدة بعد أربعة أشهر من الحمل، بل إنّ لدينا الآن من الأجهزة ما نسمع به دقّات قلب الجنين وهو في الأُسبوع الخامس، ولدينا من الأجهزة ما نرصد به حركة الجنين حتّى مِن قبل ذلك...(٢) .

وقيل: إنّ الحركة متّصلة قبل ذلك ؛ لأنّ الخلايا منذ المراحل الأُولى في حركة، حتّى إنْ لم ترها الأجهزة ؛ لأنّ الخلايا تتحرّك، وترتّب نفسها إلى آخره(٣) .

٤ - مبرِّرات الإجهاض في الغرب قد اتّسعت حتّى بلغت خاتمة المطاف بالإجهاض حسب الطلب !!!

ومن المبرِّرات: الدواعي الطبّيّة، لكن وسع في بعض البلاد مدلولها فبدأت بالخطر على حياة الأُمّ إن استمرّ الحمل، ثمّ الخطر على صحّتها، ثمّ على صحّتها الجسميّة، أو النفسيّة، ثمّ عليها في الحاضر وفي المستقبل المنظور، ثمّ على الصحّة الجسميّة أو

___________________

(١) ص٢٣٤ وص٢٣٥، الإنجاب في ضوء الإسلام.

(٢) ص٢٥٤ وص٢٥٥، نفس المصدر.

(٣) ص٢٨٢، نفس المصدر.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550