الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٠

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 550

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 550 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 206767 / تحميل: 6193
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٠

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

ثُمّ إنّ القرآن في الأصل مصدر نحو رجحان ، قال سبحانه :( إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ ) .(١)

قال ابن عبّاس : إذا جمعناه وأثبتناه في صدرك فاعمل به

وقد خُصّ بالكتاب المُنزَّل على نبيِّنا محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فصار له كالعَلَم ، كما أنّ التوراة لمّا أُنزل على موسىعليه‌السلام ، والإنجيل لمّا أُنزل على عيسىعليه‌السلام

قال بعض العلماء : تسمية هذا الكتاب قُرآناً من بين كتب اللّه ، لكونه جامعاً لثَمرَة كُتبِه ، بل لجمعه ثَمرَة جميع العلوم ، كما أشار تعالى إليه بقوله :( وَتَفصيلاً لكلِّ شيء ) .(٢)

وعلى هذا ، فالقرآن مِن قَرَأَ بمعنى : جمع ، ولكن يُحتمل أن يكون بمعنى القراءة ، كما في قوله سبحانه : ( وَقُرآنَ الفَجْر ) (٣) ، أي : قراءته

الحلف بالكتاب :

حلف سبحانه بالكتاب مرَّتين وقال :

١ ـ( حم * والكتابِ المُبِين * إِنّا أَنْزَلْناهُ في لَيْلَةٍ مُبارَكةٍ إِنّا كُنّا مُنْذِرين ) (٤)

٢ ـ( حم * وَالكتابِ المُبِين * إِنّا جَعَلْناهُ قُرآناً عَرَبياً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون ) (٥)

ــــــــــــــــ

(١) القيامة : ١٧ـ ١٨

(٢) الأنعام : ١٥٤

(٣) الإسراء : ٧٨

(٤) الدخان : ١ـ٣

(٥) الزخرف : ١ـ٣

٦١

فالمُقسَم به هو الكتاب ، والمُقسَم عليه في الآية الأولى قوله :( إِنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَة مُباركة ) ، والصِلة بينهما واضحة ، حيث يحلف بالكتاب على أنّه مُنزَّل من جانبه سبحانه في ليلة مباركة

كما أنّ المُقسَم به في الآية الثانية هو الكتاب المبين ، والمُقسَم عليه هو الحلف على أنّه سبحانه جعله قرآناً عربيّاً للتعقّل ، والصِلة بينهما واضحة

ووُصف الكتاب بالمُبين دون غيره ؛ لاَنّ الغاية من نزول الكتاب هو إنذارهم وتعقّلهم ، كما جاء في الآيتين ، حيث قال :( إِنّا كُنّا مُنذرين ) ، وقال :( لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون ) ، وهذا النوع من الغاية ، أي : الإنذار والتعقّل ، يطلب لنفسه أن يكون الكتاب واضحاً مفهوماً ، لا مجهولاً ومعقداً

والكتاب في الأصل مصدر ، ثُمّ سُمّي المكتوب فيه كتاباً

إلى هنا تمّ الحلف بالقرآن والكتاب

بقي هنا الكلام في عظمة المُقسَم به

ويكفي في ذلك أنّه فعله سبحانه ، حيث أنزله لهداية الناس وإنقاذهم من الضلالة

وقد تكلّم غير واحد من المُفكّرين الغربيّين حول عظمة القرآن ، والأحرى بنا أن نرجع إلى نفس القرآن ونَستنطِقه حتى يُبدي رأيه في حقِّ نفسه

أ ـ القرآن نور ينير الطريق لطلاّب السعادة ، قال سبحانه :( قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِين ) (١)

ب ـ إنّه هدى للمُتَّقين ، قال سبحانه : ( هُدىً لِلْمُتَّقين ) (٢) فهو وإن كان هدى لعامّة الناس ، إلاّ أنّه لا يستفيد منه إلاّ المُتَّقون ؛ ولذلك خصَّهم بالذِكر

ــــــــــــــــ

(١) المائدة : ١٥

(٢) البقرة : ٢

٦٢

ج ـ هو الهادي إلى الشريعة الأقوَم ، قال سبحانه :( إِنَّ هذا القُرآنَ يَهدِي لِلَّتي هِي أَقْوم ) (١)

د ـ الغاية من إنزاله قيام الناس بالقِسط ، قال سبحانه :( وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالقِسْطِ ) .(٢)

هـ ـ لا يتطرَّق إليه الاختلاف في فصاحته وبلاغته ، ولا في مضامينه ولا محتواه ، قال سبحانه :( وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيرِ اللّهِ لوَجَدُوا فِيهِ اختلافاً كَثِيراً ) (٣)

و ـ يحثّ الناس إلى التدبُّر والتفكّر فيه :( كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُباركٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ ) (٤)

ز ـ تبيان لكلّ شيء :( وَنَزلْنا عَليْكَ الكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيء ) (٥)

ح ـ نذير للعالمين :( تَبارَكَ الَّذي نَزَّل الفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً ) (٦)

ط ـ فيه أحسن القَصص :( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَص ) (٧)

ــــــــــــــــ

(١) الإسراء : ٩

(٢) الحديد : ٢٥

(٣) النساء : ٨٢

(٤) ص : ٢٩

(٥) النحل : ٨٩

(٦) الفرقان : ١

(٧) يوسف : ٣

٦٣

ي ـ ضُرب فيه للناس من كلِّ مَثل :( وَلَقَدْ صَرَّفْنا في هذا الْقُرآنِ لِلنّاسِ من كُلِّ مَثَل ) (١)

هذه نماذج من الآيات الّتي تصف القرآن ببعض الأوصاف

وللنبي والأئمّة المعصومين كلمات قيِّمة حول التعريف بالقرآن ، ننقل شذرات منها :

قام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطيباً ، فقال :( أيّها الناس ، إنّكم في دار هُدنة ، وأنتم على ظَهرِ سفر ، والسير بكم سريع ، وقد رأيتم الليل والنهار والشمس والقمر يُبليان كلّ جديد ، ويُقرّبان كلّ بعيد ، ويأتيان بكلّ موعود ، فأعدّوا الجهاز لبُعد المُجاز )

فقام المُقداد بن الأسود وقال : يا رسول اللّه ، و ما دار الهُدنة ؟

قال : ( دار بلاغٍ وانقطاعٍ .

فإذا التبست عليكم الفِتن كقطع اللّيل المُظلِم ، فعليكم بالقرآن ، فإنّه شافِع مُشفَّع وماحِل مُصدَّق ، ومَن جعله أَمامَه قادَه إلى الجنّة ، ومَن جعله خلفه ساقه إلى النار

وهو الدليل ، يدلُّ على خير سبيل ، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل ، وهو الفَصل ليس بالهَزل ، وله ظَهْر وبَطْن ، فظاهره حكم وباطنه عِلم ، ظاهره أنيق وباطنه عَميق ، له نجوم وعلى نجومه نجوم ، لا تُحصى عجائبه ولا تبلَى غرائبه ، فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة ، ودليل على المعرفة لمَن عرف الصِفة

فليَجل جال بَصَره ، وليبلغ الصِفة نظره ، ينج مَن عطب ، ويتخلَّص مَن نشب ، فإنّ التَفكُّر حياة قلبِ البصير ، كما يمشي المُستنير في الظلمات بالنور ، فعليكم بحُسنِ التخلّص وقلَّة التربّص ) (٢)

ــــــــــــــــ

(١) الكهف : ٥٤

(٢) الكافي : ٢/٥٩٩ ، كتاب فضل القرآن

٦٤

وقال الإمام علي أمير المؤمنينعليه‌السلام في وصف القرآن :

( ثُمّ أنزلَ عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه ، وسراجاً لا يخبُو توقُّده ،وبحراً لا يُدرك قعرُه ، فهو ينابيع العلم وبحوره ، وبحر لا يَنزِفه المُستنزفون ، وعيون لا يُنضِبُها الماتِحُون ، ومناهل لا يَغيضُها الواردون ) (١)

إلى غير ذلك من الخُطب والكلم حول التعريف بالقرآن ، الواردة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام

ــــــــــــــــ

(١) نهج البلاغة : الخطبة ١٩٨

٦٥

الفصل الخامس : القَسَمُ بالعَصْر

حلف سبحانه بالعصر مرّةً واحدة ، دون أن يقرنه بمُقسَمٍ به آخر ، وقال :( وَالعَصْر * إِنّ الإنْسانَ لَفي خُسْر ) (١)

تفسير الآيات :

العَصْر يُطلق ويراد منه تارة : الدَهر ، وجَمْعه عصور

وأُخرى : العَشيّ مقابل الغداة ، يُقال : العصران : الغداة والعشي ، والعصران : الليل والنهار ، كالقمرين للشمس و القمر

وثالثة : بمعنى الضَغْط ، فيكون مصدر عَصَرْتُ ، والمَعصور الشيء العصر ، والعُصارة نفاية ما يُعصَر ، قال سبحانه :( أَراني أَعْصِرُ خَمراً ) (٢) ، وقال :( وفيهِ يَعْصِرُون ) (٣) ، وقال :( وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجّاجاً ) (٤) أي : السُّحُب الّتي تعتصرُ بالمَطَر

ورابعة : بمعنى ما يُثير الغبار ، قال سبحانه :( فَأَصابَها إعصار ) (٥) .(٦)

والمُراد من الآية أحد المَعنيين الأوّليين :

الأوّل : الدَهر والزمان

الثاني : العَصْر مقابل الغداة

ولا يناسب المعنى الثالث ، أعني : الضغط ، ولا الرابع ، كما هو واضح

ــــــــــــــــ

(١) العصر : ١ـ٢

(٢) يوسف : ٣٦

(٣) يوسف : ٤٩

(٤) النبأ : ١٤

(٥) البقرة : ٢٦٦

(٦) مفردات القرآن : مادّة عصر ، و مجمَع البيان : ٥/٥٣٥

٦٦

وإليك بيان المَعنَيين الأوّلين

١ ـ العَصْر : الدَهْر . وإنّما حلف به ؛ لأنّ فيه عبرة لذوي الأبصار من جهة مرور الليل والنهار

وقد نُسب ذلك القول إلى ابن عبّاس ، والكلبي ، والجبائي

قال الزَمخشري : وأقسَمَ بالزمان ؛ لما في مروره من أصناف العجائب(١)

ولعلّ المُراد من الدهر والزمان اللّذين يُفسِّرون بهما العصر هو تاريخ البشريّة ؛ وذلك لأنّه سبحانه جعل المُقسَم عليه كون الإنسان لفي خسر إلاّ طائفة خاصّة ، ومن المعلوم أنّ خسران الإنسان أنّه هو مِن تصرّم عُمْره ، ومضي حياته من دون أن ينتفع بأغلى رأس مالٍ وقع في يده

وقد نقل الرازي هنا حكاية طريفة ، نأتي بنصِّها :

قال : وعن بعضِ السَلَف ، تعلّمتُ معنى السورة من بائع الثلج ، كان يصيح ويقول : ارحموا مَن يذوب رأس ماله ، ارحموا مَن يذوب رأس ماله ، فقلت : هذا معنى أنّ الإنسان لفي خُسْر ؛ يمرّ به العصر فيمضي عمره ولا يكتسب ، فإذا هو خاسر(٢)

٢ ـ العصر : أحدُ طَرفَي النهار . وأقسم بالعَصر كما أَقسم بالضُحى ، وقال :( والضحى * واللَّيل إذا سَجى ) (٣) ، كما أقسم بالصبح وقال :( والصُّبح إِذا أَسفَر ) (١)

وإنّما أقسَمَ بالعَصرِ لأهمّيّته ، إذ هو في وقت من النهار يحدث فيه تغيير في نظام المَعيشة وحياة البشر ، فالأعمال اليوميّة تنتهي ، والطيور تعود إلى أوكارها ، وتبدأ الشمس بالميل نحو الغروب ، ويستولي الظلام على السماء ، ويخلد الإنسان إلى الراحة

ــــــــــــــــ

(١) الكشّاف : ٣/٣٥٧

(٢) تفسير الفخر الرازي : ٣٢/٨٥

(٣) الضحى : ١ـ٢

٦٧

وهناك قولان آخران :

أ ـ المرادُ عَصْر الرسول ذلك لما تضمَّنته الآيتان التاليتان من شمول الخسران للعالم الإنساني ، إلاّ لمَن اتَّبع الحقّ وصبر عليه ، وهم المؤمنون الصالحون عملاً ، وهذا يؤكّد على أن يكون المراد من العصر عصر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو عصر بزوغ نجم الإسلام في المجتمع البشري ، وظهور الحقّ على الباطل

ب ـ المراد به وقت العصر وهو المروي عن مقاتل ، وإنّما أقسَمَ بها ، لفضلها ، بدليل قوله :( حافِظُوا عَلى الصَّلواتِ وَالصَّلاةِ الوُسْطى ) (٢) ، كما قيل أنّ المراد من قوله تعالى :( تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللّهِ ) (٣) هو صلاة العصر

أضف إلى ذلك ، أنّ صلاة العصر يحصل بها ختم طاعات النهار ، فهي كالتوبةِ تُختَم بها الأعمال.

ولا يخفى أنّ القول الأخير في غاية الضعف ؛ إذ لا صِلة بين القَسَم بصلاة العصر والمُقسَم عليه ، أعني :( الإنْسان لفي خُسر ) ، على أنّه لو كان المُقسَم به هو صلاة العصر ، لماذا اكتفى بالمضاف إليه وحذف المضاف ، مع عدم توفُّر قرينة عليه ؟! ومنه يظهر حال الوجه المُتقدّم عليه

والظاهر أنّ الوجه الأوّل هو الأقوى ؛ حيث أنّ الحلف بالزمان وتاريخ البشرية يتناسب مع الجواب ، أي : خسران الإنسان في الحياة ، كما سيوافيك بيانه

ــــــــــــــــ

(١) المُدّثّر : ٣٤

(٢) البقرة : ٢٣٨

(٣) المائدة : ١٠٦

٦٨

وأمّا المُقسَم عليه ، فهو قوله سبحانه :( إِنَّ الإنسانَ لَفي خُسْر ) ، والمراد من الخسران هو : مضيّ أثمَن شيء لديه وهو عمره ، فالإنسانُ في كلّ لحظة يفقد رأس ماله ، بنحوٍ لا يُعوَّض بشيء أبداً ، وهذه هي سُنَّة الحياة الدنيويّة ، حيث ينصرم عمره ووجوده بالتدريج ، كما تنصرم طاقاته إلى أن يهرم ويموت ، فأيُّ خسران أعظم من ذلك ؟!

وأمّا الصِلة بين المُقسَم به والمُقسَم عليه فأوضح من أن يخفى ؛ لاَنّ حقيقة الزمان حقيقة مُتصرّمة غير قارة ، فهي تنقضي شيئاً فشيئاً ، وهكذا الحال في عمر الإنسان ، فيخسر وينقص رأس ماله بالتدريج

ثُمّ أنّه سبحانه استثنى من الخسران مَن آمن وعمل صالحاً ، وتواصى بالحقِّ وتواصى بالصبر

ووجه الاستثناء واضح ؛ لأنّه بدَّلّ رأس ماله بشيء أغلى وأثمَن ، يستطيع أن يقوم مقام عمره المُنقضي ، فهو بإيمانه وعمله الصالح اشترى حياة دائمة ، حافلة برضوانه سبحانه ونِعمه المادِّية والمعنويّة

يقول سبحانه :( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (١)

ــــــــــــــــ

(١) التوبة : ١١١

٦٩

الفصل السادس : القَسَم بالنَجْم

وردتْ كلمة النجم في القرآن الكريم أربع مرّات في أربع سور(١) ، وحلف به مرَّة واحدة وقال :( وَالنَّجمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى * وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهوى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى ) (٢) ، وهي من السور المكِّية

تفسير الآيات :

النَجْمُ في اللغة : الكوكب الطالِع ، وجمعه نُجوم ، فالنجوم مرّة اسم كالقلوب والجيوب ، ومرّة مصدر كالطلوع والغروب

وأمّا ( هوى ) في قوله :( إِذا هَوى ) ، فيُطلق تارة على ميل النفس إلى الشهوة ، وأُخرى على السقوط من علوٍ إلى سفل

ولكنّ تفسيره بسقوط النجم وغروبه لا يُساعده اللفظ ، وإنّما المُراد هو ميله

وسيوافيك وجه الحلف بالنجم إذا هوى ، أي : إذا مالَ

ثُمّ إنّ المراد من النجم أحد الأمرين :

أ ـ أمّا مُطلَق النجم ، فيشمل كافّة النجوم الّتي هي من آيات عظمة اللّه سبحانه ، ولها أسرار ورموز يعجز الذهن البشري عن الإحاطة بها

ــــــــــــــــ

(١) وهي : النحل : ١٦ ، النجم : ١ ، الرحمن : ٦ ، الطارق : ٣

(٢) النجم : ١ـ٤

٧٠

ب ـ المراد هو نجم الشِعْرَى ، الّذي جاء في نفس السورة ، قال سبحانه :( وَانَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعرى ) (١)

ونظيره القول بأنّ المراد هو الثُريّا ، وهي مجموعة من سبعة نجوم ، ستَّة منها واضحة وواحد خافت النور ، وبه تُختبر قوَّة البَصَرِ

وربّما فُسّر بالقرآن الّذي نزل على قلب رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طيلة ٢٣ سنة ؛ لنزوله نجوماً(٢) ، لكنّ لفظ الآية لا يُساعد على هذا المعنى ، فاللّه سبحانه إمّا أن يحلف بعامّة النجوم ، أو بنجم خاصِّ يهتدي به السائر

ويدلّ على ذلك أنّه قيَّد القَسَم بوقت هويِّه ، ولعلّ الوجه هو أنّ النجم إذا كان في وسط السماء يكون بعيداً عن الأرضِ لا يهتدي به الساري ، لأنّه لا يعلم به المشرق من المغرب ولا الجنوب من الشمال ، فإذا زال ، تبيَّن بزواله جانب المغرب من المشرق(٣)

وأمّا المُقسَم عليه ، فهو قوله سبحانه :( ما ضَلَّ صاحِبكُمْ وَما غوى * وما ينطق عن الهَوى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحيٌ يُوحى )

جمع سبحانه هناك بين الضلال والغَيِّ فنفاهما عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والقرآنُ يستعمل الضلالة في مقابل الهدى ، يقول سبحانه :( يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذا اهْتَدَيْتُمْ ) (٤)

ــــــــــــــــ

(١) النجم : ٤٩

(٢) انظر الميزان : ١٩/٢٧ ، مجمع البيان : ٥/١٧٢

(٣) تفسير الفخر الرازي : ٢٨/٢٧٩

(٤) المائدة : ١٠٥

٧١

كما يستعمل الغَيّ في مقابل الرُشد ، يقول سبحانه :( وَإِنْ يَرَوا سَبيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخذوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوا سَبيلَ الغَىِّ يَتَّخِذُوهُ سَبيلاً ) (١)

والمُهمُّ بيان الفرق بين الضلالةِ والغواية ، فنقول :

ذكرَ الرازي : أنّ الضلال أن لا يجد السالك إلى مقصَده طريقاً أصلاً ، والغِواية أن لا يكون له طريق مُستقيم إلى المقصَد يدلّك على هذا أنّك تقول للمؤمن الّذي ليس على طريق السَداد : إنّه سَفيه غير رشيد ، ولا تقول إنّه ضالّ ، والضالّ كالكافر ، والغاوي كالفاسق(٢)

وإلى ذلك يرجع ما يقول الراغب : الغيّ جهلٌ من اعتقادٍ فاسد ، وذلك أنّ الجهل قد يكون من كون الإنسان غير معتقد اعتقاداً لا صالحاً ولا فاسداً ، وقد يكون من اعتقاد شيء ، وهذا النحو الثاني يُقال له : غَيّ(٣)

وعلى هذا ، فالآية بصَدَد بيان نفي الضلالة والغَي عن النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وردّ كلّ نوع من أنواع الانحراف والجهل والضلال والخطأ عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ليردّ به التُهم المُوجّهة إليه من جانب أعدائه

وأمّا بيان الصِلة بين المُقسَم به والمُقسَم عليه فواضح ، لما ذكرنا من أنّ النجم عند الهوى والميل يهتدي به الساري ، كما أنّ النبي يهتدي به الناس ، أي : بقوله وفعله وتقريره

فكما أنّه لا خطأ في هداية النجم لأنّها هداية تكوينيّة ، وهكذا لا خطأ في هداية الوحي المُوحى إليه ، ولذلك قال :( إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى )

ــــــــــــــــ

(١) الأعراف : ١٤٦

(٢) تفسير الفخر الرازي : ٢٨/٢٨٠

(٣) مفردات الراغب : ٣٦٩

٧٢

الفصل السابع : القسم بمواقع النجوم

حَلَفَ سبحانه وتعالى في سورة الواقعة بمواقع النجوم وقال :( فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُوم * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظيم * إِنَّهُ لَقُرآنٌ كَرِيم * فِي كِتابٍ مَكْنُون * لا يَمَسُّهُ إِلاّ المُطَهَّرُون ) (١)

تفسير الآيات :

المُراد من مواقع النجوم مساقِطها حيث تغيب

قال الراغب : الوقوع : ثبوت الشيء وسقوطه ، يُقال : وقع الطائر وقوعاً ، وعلى ذلك يراد منه مطالِعها ومَغاربها ، يقال : مواقع الغَيث أي : مَساقِطه(٢)

ويدلُّ على أنّ المراد هو مطالع النجوم ومغاربها ، أنّ اللّه سبحانه يُقسِم بالنجوم وطلوعها وجَريها وغروبها ، إذ فيها وفي حالاتها الثلاث آية وعبرة ودلالة ، كما في قوله تعالى :( فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الجَوارِ الكُنَّس ) (٣) ، وقال :( وَالنَّجْم إِذا هَوى ) ، وقال :( فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِب )

ــــــــــــــــ

(١) الواقعة : ٧٥ـ ٧٩

(٢) مفردات الراغب : ٥٣٠ ، مادَّة وَقَعَ

(٣) التكوير : ١٥ـ ١٦ .

٧٣

ويرجح هذا القول أيضاً : أنّ النجوم حيث وقعت في القرآن ، فالمراد منها الكواكب ، كقوله تعالى :( وَإدْبار النُّجوم ) (١) ، وقوله :( وَالشَّمْسُ وَالْقَمرُ وَالنُّجُوم ) (٢)

وأمّا المُقسَم عليه : فهو قوله سبحانه :( إِنَّهُ لَقُرآنٌ كَريم * في كِتابٍ مَكْنُون * لا يَمَسُّهُ إِلاّ الْمُطَّهَرُون )

وصفَ القرآن بصفاتٍ أربع :

أ ـ ( لقُرآنٌ كَريم ) والكريم هو البَهيّ الكثير الخير العظيم النفع ، وهو من كلّ شيء أحسنه وأفضله ، فاللّه سبحانه كريم ، وفعله ـ أعني القرآن ـ مثله

وقال الأزهري : الكريم : اسم جامع لما يُحمَد ، فاللّه كريم يُحمَد فِعاله ، والقرآن كريم يُحمَد ؛ لما فيه من الهدى والبيان والعلم والحكمة

ب ـ( في كتابٍ مَكنُون ) ولعلّ المراد منه هو اللوح المحفوظ ، بشهادة قوله :( بَلْ هُوَ قُرآنٌ مَجيد * في لَوحٍ مَحْفُوظ ) (٣) ويُحتمَل أن يكون المراد الكتاب الّذي بأيدي الملائكة ، قال سبحانه :( في صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرةٍ * بِأَيدِي سَفَرَةٍ * كِرامٍ بَررَةٍ ) (٤)

ج ـ( لا يَمَسُّه إِلاّ المُطهَّرون ) فلو رجع الضمير إلى قوله :( لقُرآنٌ كَريم ) ، كما هو المتبادَر ، لأنّ الآيات بصَدَد وصفه وبيان منزلته ، فلا يمسّ المصحف إلاّ طاهر ، فيكون الإخبار بمعنى الإنشاء ، كما في قوله سبحانه :( وَالمُطلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوء ) (٥)

ــــــــــــــــ

(١) الطور : ٤٩

(٢) الحجّ : ١٨

(٣) البروج : ٢١ ـ ٢٢

(٤) عبس : ١٣ ـ ١٦

(٥) البقرة : ٢٢٨

٧٤

ولو قيل برجوع الضمير إلى ( كتابٍ مَكنُون ) ، فيكون المعنى لا يمسّ الكتاب المَكنون إلاّ المطهَّرون

وربّما يُؤيَّد هذا الوجه بأنّ الآية سيقت تنزيهاً للقرآن من أن ينزل به الشياطين ، وأنّ محلّه لا يصل إليه ، فلا يمسّه إلاّ المطهّرون ، فيستحيل على أخابثِ خلق اللّه وأنجسِهم أن يصلوا إليه أو يَمسُّوه ، قال تعالى :( وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطين * وَما يَنْبَغي لَهُمْ وَما يَسْتَطيعُون ) (١)

د ـ( تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمين ) وهذا هو الّذي يُركِّز عليه القرآن في مواقف مختلفة ، وأنّه كتاب اللّه وليس من صنع البشر

وأمّا الصِلة بين القَسَمِ والمُقسَم به فهو واضح ؛ فلاَنّ النجوم بمواقعها ـ أي طلوعها وغروبها ـ يهتدي بها البشر في ظلمات البرِّ والبحر ، فالقرآن الكريم كذلك ، يهتدي به الإنسان في ظلمات الجهل والغَي ، فالنجوم مصابيح حسّية في عالم المادَّة ، كما أنّ آيات القرآن مصابيح معنويَّة في عالم المُجرَّدات

إكمال :

إنّه سبحانه قال :( فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُوم ) ، فالمراد منه القَسَم بلا شكّ ، بشهادة أنّه قال بعده :( وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظيم ) ، فلو كان معنى الآية هو نفي القَسَم ، فلا يُناسب ما بعده ؛ حيث يصفه بأنّه حلف عظيم

وقد اختلف المفسِّرون في هذه الآيات ونظائرها إلى أقوال :

١ ـ ( لا ) زائدة ، مثلها قوله سبحانه :( لئلاّ يَعْلَم )

٢ ـ أصلها ( لأُقسِمُ ) بلام التأكيد ، فلمّا أُشبعَت فتحتها صارت ( لا ) كما في الوقف

٣ ـ ( لا ) نافية ، بمعنى نفي المعنى الموجود في ذهن المُخاطَب ، ثُمّ الابتداء بالقَسَمِ ، كما نقول : لا واللّه ، لا صحَّة لقول الكفّار ، أُقسِم عليه

ــــــــــــــــ

(١) الشعراء : ٢١٠ـ٢١١

٧٥

ثُمّ إنّه سبحانه يصف هذا القَسَم بكونه عظيماً ، كما في قوله :( وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ) ، فقوله : ( عظيم ) وصف ( القَسَم ) ، أُخِّر لحفظِ فواصل الآيات

وهذا القَسَم هو القَسَم الوحيد الّذي وصفه سبحانه بأنّه عظيم

فالحديث هنا هو حديث على الأبعاد ، أبعاد النجوم عنّا وعن بعضها البعض ، في مجرّتنا وفي كلّ المَجرّات

ولأنّها كلّها تتحرَّك ، فإنّ الحديث عن مواقعها يصير أيضاً حديثاً على مداراتها ، وحركاتها الأُخرى العديدة ، وسرعاتها ، وعلى علاقاتها بالنجوم الأُخرى ، وعلى القوى العظيمة والحسابات المُعقَّدة الّتي وضعت كلّ نجم في موقعه الخاصّ به ، وحفظته في علاقات متوازنة دقيقة مُحكمَة ، فهي لا يعتريها الاضطراب ، ولا تتغيَّر سُنَنها وقوانينها ، وهي لا تسير خَبطَ عَشواء ، أو في مساراتٍ متقاطعةٍ أو متعارضة ، بل هي تسير كلّها بتساوق وتناغم ، وانسجام وانتظام تامّين دائمين ، آيات على قدرة القادر سبحانه(١)

يقول الفلكيُّون : إنّ من هذه النجوم والكواكب ـ الّتي تزيد على عدَّة بلايين نجم ـ ما يمكن روَيته بالعين المُجرَّدة ، وما لا يُرى إلاّ بالمجاهر والأجهزة ، وما يمكن أن تَحسَّ به الأجهزة دون أن تراه

هذه كلّها تسبحُ في الفلك الغامض ، ولا يوجد أيّ احتمال أن يقترب مجال مغناطيسي لنجمٍ من مجال نجمٍ آخر ، أو يصطدم كوكب بآخر ، إلاّ كما يُحتمَل تصادم مركب في البحر الأبيض المتوسّط بآخر في المحيط الهادي ، يسيران في اتّجاه واحد وبسرعة واحدة ، وهو احتمال بعيد ، وبعيداً جداً ، إن لم يكن مستحيلاً(٢)

ــــــــــــــــ

(١) أسرار الكون في القرآن : ١٩٢

(٢) اللّه والعلم الحديث : ٢٤

٧٦

الفصل الثامن : القَسَمُ بالسماءِ ذات الحُبُك

حَلَفَ سبحانه في سورة الذاريات بأُمورٍ خمسة ، وجعل للأربعة الأُوَل جواباً خاصّاً ، كما جعل للخامس من الأقسام جواباً آخر ، وبما أنّ المُقسَم عليه مُتعدِّد ؛ فصلنا القَسَم الخامس عن الأقسام الأربعة ، وعقدنا له فصلاً في ضمن فصول القَسَمِ المُفرَد

قال سبحانه :( وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا * إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ) (١)

ترى أنّه ذكر للأقسام الأربعة جواباً خاصاً ، أعني قوله :( إِنّما تُوعَدُون لَصادِق * وانّ الدِّين لواقِع )

ثُمّ شرع بحلفٍ آخر ، وقال :( وَالسَّماءِ ذات الحُبُكِ * إِنَّكُم لَفِي قَولٍ مُختَلِف ) (٢)

فهناك قَسَم خامس وهو : ( والسماء ذات الحُبُك ) ، وله جواب خاصّ لا يمتّ لجواب الأقسام الأربعة ، وهو قوله :( إِنَّكُمْ لَفي قولٍ مختلِف )

ــــــــــــــــ

(١) الذاريات : ١ـ ٦

(٢) الذاريات : ٧ـ ٨

٧٧

تفسير الآيات :

الحُبُك : جمع الحِباك ، كالكتب جمع كتاب ، تُستعمَل تارة في الطرائق ، كالطرائق الّتي تُرى في السماء ، وأُخرى في الشَعْرِ المجعد ، وثالثة في حُسن أثرِ الصنعة في الشيء واستوائه

قال الراغب :( والسَّماء ذات الحُبُك ) أي : ذات الطرائق ، فمن الناس مَن تصوّر منها الطرائق المحسوسة بالنجوم والمجرّة

ولعلّ المراد منه هو المعنى الأوّل ، أي : السماء ذات الطرائق المختلفة ، ويؤيّده جواب القَسَم ، وهو اختلاف الناس وتشتُّت طرائقهم ، كما في قوله :( إنّكم لفي قولٍ مختلِف )

وربّما يحتمل أنّ المراد هو المعنى الثالث ، أي : أُقسم بالسماء ذات الحُسنِ والزينة ، نظير قوله تعالى :( إِنّا زَيَّنا السَّماءَ الدُّنيا بزِينةٍ الكَواكِب ) .(١)

ولكنّه لا يناسبه الجواب ، إذ لا يصحّ أن يحلفَ حالِف بالأمواج الجميلة الّتي ترتَسِم بالسُحب أو بالمجرّات العظيمة ، الّتي تبدو كأنّها تجاعيد الشَعْرِ على صفحة السماء ، ثُمّ يقول :( إِنّكم لفي قولٍ مختلِف ) ، أي : إنّكم متناقضون في الكلام

وعلى كلّ حال ، فالمُقسَم عليه هو : التركيز على أنّهم متناقضون في الكلام ، فتارة ينسبون عقائدهم إلى آبائهم وأسلافهم ، فينكرون المعاد ، وأُخرى يستبعدون إحياء الموتى بعد صيرورتهم عظاماً رميم ، وثالثة يرفضون القرآن والدعوة النبويّة ويصفونه بأنّه قول شاعر ، أو ساحر ، أو مجنون ، أو ممّا علّمه بشر ، أو هي من أساطير الأوَّلين

وهذا الاختلاف دليل على بطلان ادّعائكم ، إذ لا تعتمدون على دليلٍ خاصّ ، فانّ تناقض المُدَّعي في كلامه أقوى دليل على بطلانه ونفاقه

ــــــــــــــــ

(١) الصافّات : ٦

٧٨

ثُمّ إنّه سبحانه يقول : إنّ الإعراض عن الإيمان بالمعاد ليس أمراً مختصَّاً بشخصٍ أو بطائفة ، بل هو شيمة كلّ مُخالِف للحقِّ يقول :( يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ) . (١)

والأفْك : الصَرف ، والضمير في ( عنه ) يرجع إلى الكتاب ، من حيث اشتماله على وعد البأس والجزاء ، أي : يُصرَف عن القرآن من صُرف وخالفَ الحقّ

وأمّا الصِلة بين المُقسَم به والمُقسَم عليه فقد ظهر ممّا ذكرنا ؛ لما عرفتَ من أنّ معنى الحُبُك هو الطرائق المختلفة المتنوِّعة ، فناسب أن يحلفَ به سبحانه على اختلافهم وتشتّت آرائهم ، في إنكارهم نبوّة النبي ورسالته ، والكتاب الّذي أُنزل معه ، والمعاد الّذي يدعو إليه

ــــــــــــــــ

(١) الذاريات : ٩

٧٩

القسم الثاني : القَسَم المُتَعدِّد

وفيه فصول :

الفصل الأوّل : القَسَم في سورة الصافّات

حلف سبحانه بالملائكة في السور الأربع التالية :

١ ـ الصافّات ، ٢ ـ الذاريات ، ٣ ـ المُرسلات ، ٤ ـ النازعات

وليس المُقسَم به هو لفظ المَلَكِ أو الملائكة ، وإنّما هو الصِفات البارزة للملائكة ، وأفعالها ، وإليك الآيات :

١ ـ( وَالصّافاتِ صَفّاً * فَالزّاجراتِ زَجْراً * فَالتّالياتِ ذِكراً *إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحد ) .(١)

٢ ـ( والذّارِياتِ ذَرْواً * فَالحامِلاتِ وِقْراً * فَالجارِياتِ يُسراً * فَالمُقَسِّماتِ أَمْراً * إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادق * وَانَّ الدِّين لواقع ) (٢)

٣ ـ( وَالْمُرسَلات عُرفاً * فَالعاصِفاتِ عَصْفاً * وَالنّاشراتِ نَشْراً * فالفارِقات فَرقاً * فالمُلقِياتِ ذِكراً * عُذراً أَو نُذراً * إنّما تُوعَدُونَ لَواقِع ) (٣)

ــــــــــــــــ

(١) الصافّات : ١ـ٤

(٢) الذاريات : ١ـ٦

(٣) المُرسَلات : ١ـ٧

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

سبحانه وتعالى.

ثمّ يأمر الله الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باتّباع سياسة اللين في الدعوة إلى الهدى ودين الحقّ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ ) أي ادفع عدوانهم وسيّئاتهم بالعفو والصفح والإحسان ، وكلامهم البذيء بالكلام المنطقي الموزون :( نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ ) .

والله يعلم أنّ أعمالهم القبيحة وكلامهم البديء وأذاهم القاسي يؤلم الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّهعزوجل يدعو إلى عدم الرّد بالمثل ، بل يوجب أن يكون الردّ بالتي هي أحسن. وهذا خير سبيل لإيقاظ الغافلين والمخدوعين.

ثمّ نقرأ أمرا ربّانيا بالاستعاذة بالله من مكائد الشيطان( وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ ) . إنّه دعاء بالإنقاذ من تربّص الشيطان ومكره الخفي ، ولا يقف الدعاء عند همزات الشياطين بل يستمرّ في الاستعاذة من حضورهم عنده( وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ ) أي حضور الشياطين في اجتماعات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي يؤدّي إلى إغفال المجتمعين وإضلالهم.

ملاحظتان

١ ـ ما معنى همزات الشياطين؟

«الهمزات» جمع «همزة» بمعنى التحريك بقوّة ، وقد أطلقت هذه التسمية على حرف الهمزة ، لأنّها تؤدّي إلى حركة قويّة في نهاية الحلق.

وقال بعض المفسّرين : إنّ «الهمز» و «الغمز» و «الرمز» بمعنى واحد. إلّا أنّ الرمز ذو مرحلة خفيفة ، والغمز أشدّ منها. والهمز ، نهايتها في الشدّة(١) .

وبما أنّ الشياطين صيغة جمع ، فهي تضمّ شياطين الجنّ والإنس ، ظاهرها وخفيّها. ونقرأ في تفسير علي بن إبراهيم أنّ الإمامعليه‌السلام قال في معنى الآية :( قُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ ) : هو ما يقع في قلبك من وسوسة

__________________

(١) تفسير أبو الفتوح الرازي.

٥٠١

الشيطان»(١) .

فإذا كان الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع عصمته ومنزلته السامية عند الله ، يدعوه سبحانه بهذا الدعاء ، فما بالك بمسؤولية الآخرين؟ يجب أن يدعوا الله ألّا يكلهم إلى أنفسهم طرفة عين. وليس فقط ألّا يقعوا تحت تأثير همزات الشياطين ، بل ألّا يحضرهم الشياطين في مجالسهم. فعلى محبّي الحقّ والذّابين عنه وناشديه أن يفوّضوا أمرهم إلى الله ، ليحفظهم من وساوس الشياطين ومكائدهم.

٢ ـ ردّ السيّئة بالحسنة

من أبرز السبل المؤثّرة في مكافحة الأعداء الأشدّاء والمعاندين ردّ السيّئة بالحسنة ، فذلك يوقظ مشاعرهم ، فيحاسبون أنفسهم على ما اقترفوه من أعمال سيّئة ، ويعودون للصواب غالبا. ونجد في سيرة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمّة الهدىعليهم‌السلام هذا المنهج بشكل واضح ، حيث يردّون سيّئات الجنازة بالإحسان إليهم والإنعام عليهم ، فيكسبون ودّهم ، ويفجّرون في جوارحهم استجابة للحقّ ، ورفضا للباطل.

وقد ذكر القرآن المجيد هذه السيرة للمسلمين مرارا باعتبارها مبدأ أساسيّا لاقتلاع السيّئات ، ففي الآية الرّابعة والثلاثين من سورة فصّلت نقرأ( فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) .

والجدير بالذكر أنّ هذا الأمر خاص بحالات لا يسيء العدو الاستفادة من هذا المبدأ ، ويرى إحسانهم إليه أو عفوهم عنه ضعفا منهم ، فيزداد جرأة على العدوان والظلم.

وهذه السيرة لا تعني مساومة الأعداء أو التسليم لهم. وهذا قد يكون السبب في أنّ اللهعزوجل أمر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ذكر هذه التوصية مباشرة بالتعوّذ به من همزات الشياطين وحضورهم حوله.

* * *

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، المجلد الثّالث ، صفحة ٥٥٢.

٥٠٢

الآيتان

( حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠) )

التّفسير

طلب المستحيل :

تابعت هاتان الآيتان ما تناولته الآيات السابقة من عناد المشركين والمذنبين وتمسكهم بالباطل ، فتناولت حالهم الوخيم حين الموت. وأنّهم يستمرّون في باطلهم :( حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ ) (١) .

حينما يجبر المذنب والمشرك على ترك الدنيا لينتقل إلى عالم آخر ، تزول عنه حجب الغفلة والغرور ، فيرى بأمّ عينه مصيره المؤلم ، فلا مال ولا جاه ، فقد عاد كلّ ما يعنيه هباء في هباء ، وهو يشاهد اليوم عاقبة أمره ، وما ارتكبه من ذنوب

__________________

(١) «حتّى» هي في الواقع غاية لجملة محذوفة ، ويفهم من العبارات السابقة أن تقديرها : إنّهم يستمرّون على هذا الحال حتّى إذا جاء أحدهم الموت ، ويستدلّ على ذلك من عبارة «نحن أعلم بما يصفون» التي استفيد منها في الآيتين السابقتين (فتأمّلوا جيدا).

٥٠٣

ومعاص ، فيرتفع صراخه وعويله( قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ) .

ارجعني يا ربّ( لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ ) . ولكن قانون الخلق العادل لا يسمح بمثل هذه العودة ، لا يسمح بعودة الصالح ولا الطالح ، فيأتيه النداء الدامغ( كَلَّا ) .

( إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها ) . كلام لم يصدر من أعماقه. لم يصدر بإرادته ، إنّه يشبه كلام امرئ مسيء يردّد إذا أحسّ بالعقاب ، أو كلام قاتل حين إعدامه. ومتى هدأت العاصفة بوجههم عادوا لسابق أعمالهم القبيحة. وهذا يشبه ما ورد في الآية الثامنة والعشرين من سورة الأنعام( وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ ) .

وتشير الآية في نهايتها إلى عالم البرزخ الغامض بعبارة قصيرة ذات دلالة كبيرة( وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) .

* * *

بحوث

١ ـ من هو المخاطب في قوله تعالى :( رَبِّ ارْجِعُونِ ) ؟

بملاحظة كلمة «ربّ» التي هي مخفّف «ربّي» بمعنى إلهي ، تشير بداية الجملة إلى أنّ المخاطب هو الله سبحانه وتعالى ، إلّا أنّ مجيء «ارجعون» بصيغة الجمع يمنع أن يكون المخاطب هو اللهعزوجل . وهذا التعبيران في الجملة السابقة يثيران سؤالا وتساؤلا.

يرى عدد من المفسّرين أنّ المخاطب هو الله ، وصيغة الجمع هنا للاحترام والتعظيم. ولكن استعمال صيغة الجمع في مخاطبة المفرد ليس مألوفا في العربية ، خاصّة فيما مضى ، ولا نظير له في القرآن المجيد ، وبهذا يتّضح ضعف هذا

٥٠٤

التّفسير(١) .

وقال عدد آخر من المفسّرين : إنّ المخاطب هم الملائكة المكلّفون بقبض الأرواح. وكلمة «ربّ» نوع من الاستعانة بالله ، وهذا مألوف في حياتنا اليوميّة حيث يستغيث المرء بالله في الشدائد ، ثمّ يستنجد الناس ويصرخ : «يا ربّ! يا ربّ! انقذوني ، عجّلوا بمساعدتي» ويبدو هذا التّفسير أقرب إلى الصواب.

٢ ـ تفسير عبارة( فِيما تَرَكْتُ )

قرأنا في الآيات السابقة أنّ الكفّار يستنجدون بالله ليرجعهم إلى الدنيا ليعملوا صالحا فيما تركوا من الأعمال.

ويرى البعض في قوله تعالى :( فِيما تَرَكْتُ ) إشارة إلى أموال تركوها ، لاستعمال تعبير «تركة الميت» بصورة اعتيادية.

وروي حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام يؤكّد هذا المعنى إذ يقول : «من منع قيراطا من الزكاة فليس بمؤمن ولا مسلم ، وهو قوله تعالى :( رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ ) (٢) .

بينما يرى آخرون أنّ لها معنى أوسع ، هو إشارة إلى جميع الأعمال الصالحة التي تركها الإنسان. فيكون المعنى : رباه! أرجعني لاعوّض ما تركته من عمل صالح.

ولا يناقض الحديث السابق مع هذا التّفسير الشامل وهو مصداق واضح له ، علما بأنّ هؤلاء الأشخاص يندمون على ما فاتهم من فرص ، لهذا يرغبون في الرجوع إلى الحياة ليستفيدوا منها في العمل الصالح.

__________________

(١) يرى بعض المفسّرين في الآية التاسعة من سورة القصص في عبارة زوجة فرعون( قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ ) التي نطقت بها حين أخرج موسى من الماء نموذجا لهذا التعبير ، حيث في البداية كان المخاطب فرعون وآخر العبارة خاطبت حاشية فرعون وجنوده الذين كلّفوا بقتل أبناء بني إسرائيل.

(٢) الكافي ، وثواب الأعمال ، ومن لا يحضره الفقيه (حسبما نقله تفسير نور الثقلين ، المجلّد الثّالث ، ص ٥٥٢).

٥٠٥

ويبدو أنّ التّفسير الثّاني أقرب إلى الصواب ، وكلمة «لعليّ» الواردة في جملة( لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً ) يمكن أن تكون علامة على عدم اطمئنان هؤلاء المنحرفين من مستقبلهم ، وأنّ الندامة نتيجة لظروف خاصّة ، تظهر حين موتهم ، ولو عادوا إلى الدنيا لواصلوا أعمالهم ذاتها. وهذا هو عين الحقيقة.

٣ ـ ما الذي تنفيه «كلّا»؟

تأتي «كلّا» في العربية بمعنى الحيلولة ، وإبطال أثر أقوال المخاطب. وتقابل بالضبط كلمة «أي» التي تستخدم لتصديق الكلام.

وفي الجواب عن السؤال الوارد آنفا ، قال البعض : إنّ «كلّا» تنفي طلب الكفّار الرجوع إلى الحياة الدنيا ، أي إنّ طريق العودة ، مغلق ، ولا يمكنكم العودة أبدا.

وقال البعض الآخر : إنّ هذه الكلمة جاءت لنفي ادّعاءاتهم القائلة : لو عدنا إلى الدنيا لعوّضنا ما فاتنا من أعمال صالحة ، فيقال لهم : ما هذا إلّا ادّعاء باطل ، ولو عدتم لواصلتم العمل بنفس نهجكم السابق.

ولا ضير في أن تكون هذه الكلمة ـ في الوقت ذاته ـ إشارة إلى نفي إثنين من المعاني. كما يجب ملاحظة أنّ هذا الطلب ـ رغم وروده في الآية محل البحث من قبل المشركين فقط ـ ليس خاصّا بهم ، بل هو طلب جميع المذنبين والظالمين والمنحرفين ، إذ يندمون على ما فاتهم لحظة موتهم ، حين يرون مصيرهم الأليم ماثلا لأعينهم ، فيرجون الله ليعيدهم إلى الحياة الدنيا ، إلّا أنّ الله يزجرهم بقوله : «كلّا».

٤ ـ ما هو عالم البرزخ؟

وأين هو؟

وما هو الدليل لإثبات وجود هذا العالم بين الدنيا والآخرة؟

وهل يكون البرزخ للجميع ، أم لمجموعة معيّنة؟

٥٠٦

وأخيرا ماذا سيكون وضع المؤمنين والصالحين والكفّار والمسيئين فيه؟

هذه أسئلة أشارت الآيات والأحاديث السابقة إليها ، لهذا نجيب عنها حسبما يسمح به وضع هذا الكتاب.

تعني كلمة «البرزخ» في الأصل الشيء الذي يقع حائلا بين شيئين ، ثمّ استعملت لكلّ ما يقع بين أمرين. ولهذا أتت كلمة البرزخ للدلالة على عالم يقع بين عالم الدنيا والآخرة.

والدليل على وجود عالم البرزخ ، أو عالم القبر ، أو عالم الأرواح ، نجده في الأدلّة النقلية ، فقد دلّ عليه صريح آيات القرآن أحيانا وظاهرها أحيانا أخرى.

والآية موضع البحث( وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) ظاهرة في وجود عالم البرزخ. رغم أنّ البعث رغب في القول بأنّ كلمة «البرزخ» في هذه الآية تعني العائق والمانع من العودة إلى الدنيا ، غير أنّ هذا المعنى يبدو غريبا ، لأنّ عبارة( إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) دليل على وقوع عالم البرزخ بين الدنيا والآخرة ، وليس بين الإنسان والدنيا.

ومن الآيات التي تصرّح بوجود مثل هذا العالم ، الآيات الخاصّة بحياة الشهداء ، مثل( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) الآية (١٦٩) من سورة آل عمران ، والخطاب فيها موجّه إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . أمّا الآية (١٥٤) من سورة البقرة فإنّها خطاب لجميع المؤمنين :( وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ ) .

وعالم «البرزخ» ليس للمؤمنين ذوي الدرجة الرفيعة كالشهداء فقط ، بل للكفّار الطغاة كفرعون وأعوانه أيضا ، وهذا ما صرّحت به الآية (٤٦) من سورة المؤمن( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ ) .

وذكرت آيات أخرى عالم البرزخ ولكن لا تصل إلى صراحة وظهور الآيات

٥٠٧

السابقة.

وما يجب الانتباه إليه في موضع البرزخ هو أنّ الآيات ـ باستثناء الآية التي نحن بصددها والتي ذكرته بشكل عامّ ـ استعرضت البرزخ بشكل خاصّ ، كما في ذكره عن الشهداء أو آل فرعون.

إلّا أنّ الواضح أنّه لا خصوصيّة لآل فرعون لأنّ في العالم الكثير من أمثالهم ، ولا للشهداء ، لأنّ القرآن الكريم اعتبر النّبيّين والصدّيقين والصالحين مع الشهداء ، كما جاء في الآية (٦٩) من سورة النساء( فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ ) .

ولنا حديث عن كون البرزخ لعامّة الناس أو لفئة منهم ، سنورده في ختام هذا البحث إن شاء الله.

أمّا الرّوايات : فهناك أحاديث كثيرة في كتب الفريقين الشيعة والسنّة تتحدّث بعبارات مختلفة عن عالم البرزخ ، وعالم القبر ، وعالم الأرواح. أي تتحدّث عن العالم الذي يفصل بين الدنيا والآخرة ، ومنها :

١ ـ جاء في حديث معروف ذكر في الكلمات القصار في نهج البلاغة أنّ عليّاعليه‌السلام حينما وصل إلى جبانة الكوفة عند عودته من حرب صفين ، توجّه إلى القبور ونادى الأموات قائلا : «يا أهل الديار الموحشة والمحال المقفرة والقبور المظلمة! يا أهل التربة! يا أهل القربة! يا أهل الوحدة! يا أهل الوحشة! أنتم لنا فرط سابق ونحن لكم تبع لا حق! أمّا الدور فقد سكنت ، وأمّا الأزواج فقد نكحت ، وأمّا الأموال فقد قسّمت ، هذا خبر ما عندنا فما خبر ما عندكم»؟

ثمّ التفت إلى أصحابه فقال : «أما لو اذن لهم في الكلام لأخبروكم أنّ خير الزاد التقوى»(١) .

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، رقم «١٣٠».

٥٠٨

وبهذا يتّضح عدم إمكان حمل هذه العبارات على المجاز والكناية ، بل هي تخبرنا عن حقيقة وجود حياة البرزخ بعد الموت ، وتمكّن الموتى ـ لو سمح لهم ـ من الحديث إلينا.

٢ ـ ونقرأ حديثا آخر رواه الأصبغ بن نباتة يذكر فيه أمير المؤمنين عليعليه‌السلام أنّه خرج من الكوفة ، ومرّ حتّى أتى الغريين فجازه ، فلحقناه وهو مستلق على الأرض بجسده ، ليس تحته ثوب.

فقال له : قنبر : يا أمير المؤمنين ألا أبسط ثوبي تحتك؟

قال : لا ، هل هي إلّا تربة مؤمن أو مزاحمته في مجلسه؟

قال الأصبغ : فقلت : يا أمير المؤمنين ، تربة مؤمن قد عرفناه كانت أو تكون.

فما مزاحمته في مجلسه؟

فقال : «يا ابن نباتة ، لو كشف لكم لرأيتم (في المختصر المطبوع ص ٤ : لألفيتم) أرواح في هذا الظهر حلقا يتزاورون ويتحدّثون ، إنّ في هذا الظهر روح كلّ مؤمن ، وبوادي برهوت نسمة كلّ كافر»(١) .

٣ – وجاء في حديث آخر عن الإمام علي بن الحسينعليه‌السلام قوله : «إنّ القبر إمّا روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النّار»(٢) .

٤ – وروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «البرزخ القبر وهو الثواب والعقاب بين الدنيا والآخرة والله ما نخاف عليكم إلّا البرزخ»(٣) .

٥ – وجاء في كتاب الكافي أنّه سئل الإمام : وما البرزخ؟ فأجابه : «القبر من حين موته إلى يوم القيامة»(٤) .

__________________

(١) بحار الأنوار ، المجلّد السادس ، صفحة ٢٤٣.

(٢) تفسير نور الثقلين ، المجلّد الثّاني ، صفحة ٥٥٣.

(٣) المصدر السابق.

(٤) المصدر السابق ، صفحة ٥٥٤.

٥٠٩

٦ ـ وروى الشيخ الكلينيرحمه‌الله في الكافي عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن الحسن بن محبوب ، عن أبي ولّاد الحنّاط ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام ، قال : قلت له : جعلت فداك ، يروون أنّ أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر حول العرش ، فقال: «لا ، المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طير ، ولكن في أبدان كأبدانهم»(١) .

هذا الحديث يشير إلى مصير روح الإنسان ، فهي من جهة تشبه هذا الجسم المادّي ، إلّا أنّه يمتلك نوعا من التجرّد البرزخي.

٧ ـ كما نقرأ في حديث آخر جاء في كتاب الكافي عن الإمام الصادقعليه‌السلام : سألته عن أرواح المؤمنين فأجاب : «في حجرات في الجنّة ، يأكلون من طعامها ويشربون من شرابها. ويقولون ربّنا أقم لنا الساعة وأنجز لنا ما وعدتنا»(٢) .

٨ ـ روى صاحب الكافي عن سهل بن زياد ، عن إسماعيل بن مهران ، عن درست بن أبي منصور ، عن ابن مسكان ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام ، قال : «إنّ الأرواح في صفة الأجساد في شجرة في الجنّة تعارف ، فإذا تساءل قدّمت الروح على الأرواح تقول : دعوها فإنّها قد أفلتت من هول عظيم ، ثمّ يسألونها : ما فعل فلان؟ وما فعل فلان؟ فإن قالت لهم : تركته حيّا ارتجوه ، وإن قالت لهم : قد هلك ، قالوا : قد هوى هوى»(٣) .

تقصد الأحاديث أعلاه بالجنّة والنّار البرزخيتين ، وليس العائدتين ليوم القيامة ، والفرق بينهما كبير.

والأحاديث في هذا المجال عديدة ، وقد رتّبت في أبواب مختلفة نشير إلى قسم منها :

__________________

(١) كتاب الكافي ، حسبما نقله بحار الأنوار ، المجلّد السادس ، صفحة ٢٦٨.

(٢) بحار الأنوار ، المجلّد السادس ، صفحة ٢٦٩.

(٣) المصدر السابق.

٥١٠

أحاديث تتحدّث عن سؤال القبر وعذابه.

وأحاديث تتناول اتّصال الأرواح مع أسرها ومشاهدة وضعهم.

أحاديث تتحدّث عن ليلة المعراج واتّصال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أرواح الأنبياء والمرسلين.

أحاديث تنصّ على ابتلاء الإنسان بنتائج أعماله سواء كانت طيّبة أمّ سيّئة.

بعد موته وأمثالها(١) .

البرزخ والاتّصال بعالم الأرواح

رغم أنّ الكثير ممّن يدّعون بأنّهم على اتّصال بعالم الأرواح كاذبون ، أو أنّهم يعانون نوعا من الوهم والخيال ، لكن ثبت أنّ الاتّصال بعالم الأرواح ممكن ، وقد تحقّق فعلا لبعض العلماء ، حتّى أنّهم توصّلوا إلى بعض الحقائق عن طريق الأرواح.

وهذه القضيّة بذاتها دليل واضح على وجود عالم البرزخ وحقيقته ، فهي تبيّن أنّ بعد عالم الدنيا والموت وقبل القيامة في الآخرة ، هناك عالم آخر قائم بذاته(٢) .

كما أنّ الأدلّة العقليّة لإثبات تجرّد الروح وبقائها بعد فناء الجسم بنفسها دليل آخر على وجود عالم البرزخ (فتأمّلوا جيدا).

صورة عن عالم البرزخ

يتّفق علماء الإسلام على أصل وجود البرزخ وما يقع فيه من نعمة ونقمة مع بعض اختلافات جزئيّة بين هؤلاء العلماء ، ويتّفق علماء السنّة والشيعة على وجود البرزخ باستثناء عدد قليل غير ملحوظ.

__________________

(١) جمع هذه الأحاديث المرحوم السيّد عبد الله شبّر في كتاب سمّاه «تسلية الفوائد في بيان الموت والمعاد».

(٢) للاطلاع أكثر بهذا الصدد ، راجع مسألة الاتّصال بالأرواح في كتاب (عودة الروح والاتّصال بها) وكتاب (العالم بعد الموت).

٥١١

والدليل على الاتّفاق بين هؤلاء العلماء واضح ، وهو تصريح الآيات القرآنية بوجود البرزخ وما فيه من نعمة وعذاب ، كما أسلفنا. ومنها ما صرّح بذلك في الحديث عن الشهداء :( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (١) وليس فقط هذه المجموعة من الصالحين قد أنعم الله عليها ، بل إنّ مجموعة من أسوأ الطغاة والمجرمين يعذّبهم الله ، كما أنّ تعذيب آل فرعون بعد الموت وقبل القيامة قد أشارت إليه الآية ٤٦ من سورة غافر (المؤمن).

والأحاديث متواترة بهذا الصدد ، فلا نقاش في وجود عالم البرزخ أساسا ، والمهمّ أن نعرف حياة البرزخ وشكلها ، فقد ذكرت له صورة مختلفة ، أوضحها أنّ أرواح البشر بعد ترك هذه الدنيا ، تدخل أجساما لطيفة سامية عن آثار هذه المادّة القذرة ، إلّا أنّها على شكل أجسامنا ، ويقال لكلّ منها (الجسم المثالي) وهو ليس مجردا تمام التجرية ، ولا هو مادّيا محضا. إنّه يمتاز بتجرّد برزخي معيّن ، وشبّهه بعضهم بما عليه الروح في أثناء ما يراه النائم ، إذ تسرّ الروح رؤية النعم ، وتعذّبها مشاهدة المناظر المؤلمة ، ولذلك أثّر في جسمنا هذا ، إذ نبكي عند رؤية حلم مزعج ، ونفزع مذعورين من هول ما نرى ، أو نضحك من أعماقنا من طرافة ما نحلم به في نومنا.

ويرى جماعة أنّ الروح تقوم بنشاط في الجسم المثالي ، بل يرون أكثر من ذلك ، ألا وهو قدرة الأرواح القويّة على اكتساب حالة التجرّد البرزخي في يقظة الإنسان أيضا. أي تنفصل الروح عن الجسم. وتتحرّك في الجسم المثالي برغبتها أو بالتنويم المغناطيسي ، تتحرّك في العالم لتطّلع على بعض القضايا(٢) .

__________________

(١) سورة آل عمران ، ١٦٩ و ١٧٠.

(٢) يصرّح العلّامة المجلسي في تناوله هذا الموضوع في بحار الأنوار : إنّ تشبيه البرزخ بالحلم وما يتراءى للإنسان وارد في

٥١٢

بل إنّ البعض قال بوجود الجسم المثالي في جسم كلّ إنسان ، وإنّه ينفصل عنه في بداية الحياة البرزخية ، ويمكن أن يقع ذلك كما قلنا في هذه الدنيا.

وإذا رفضنا جميع هذه الصفات للجسم المثالي ، فلا يمكن نفي الموضوع أصلا ، بسبب إشارة أحاديث عديدة إليه ، ولانعدام المانع العقلي منه.

وبهذا يتّضح جواب الاعتراض القائل بأنّ الإعتقاد بالجسم المثالي يستوجب الإعتقاد بالتناسخ ، الذي يعني انتقال الروح من جسم إلى آخر.

لقد ردّ الشيخ البهائي هذا الإحتجاج بوضوح ، فقال : إنّ التناسخ الذي يرى بطلانه جميع المسلمين ، هو عودة الروح بعد تفسّخ الجسم الذي كانت فيه إلى جسم آخر في هذه الدنيا.

أمّا اختصاص الروح بالجسم المثالي في عالم البرزخ حتّى يوم القيامة ، ثمّ عودتها إلى الجسم الأوّل بأمر من الله تعالى لا علاقة له بالتناسخ ، والسبب أنّنا ننفي التناسخ بشدّة ونكفّر الذي يعتقد به ، هو قولهم بأزليّة الأرواح وانتقالها الدائمي من جسم إلى آخر ، وإنكارهم المعاد الجسماني في عالم الآخرة(١) .

والقول بوجود الجسم المثالي في باطن الجسم المادّي يجلي الجواب عن هذا الإشكال ، إذ لا تنتقل الروح من جسم إلى آخر ، بل تترك بعض قوالبها ، وتستمرّ في قالب آخر في حياتها البرزخية.

والسؤال الآخر هو أنّه يفهم من آيات قرآنية أن لا حياة برزخية لمجموعة من الناس ، كما جاء في الآية الخامسة والخمسين والسادسة والخمسين من سورة الروم!( يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ ، وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ

__________________

أكثر من الروآيات ، ويمكن أن تكون للنفوس القوية السامية عدة أجسام مثالية ، وبهذا تفسر الأحاديث القائلة بحضور الأئمة الميامين لدى المحتضرين حين نزعهم الأخير. (بحار الأنوار ، المجلد السادس ، صفحة ٢٦١).

(١) بحار الأنوار ، المجلد السادس ، صفحة ٢٧٧.

٥١٣

وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) .

وجواب هذا الاعتراض ، جاء في أحاديث فحواها أنّ الناس ثلاث فئات : فئة مؤمنة مخلصة في إيمانها ، وفئة مخلصة في كفرها ، وفئة متوسطة ومستضعفة.

وإنّ عالم البرزخ خاص بالفئتين الأولى والثّانية ، أمّا الثّالثة فتعبر عالم البرزخ في حالة من عدم الاطلاع (لاطلاع أوسع على هذه الأحاديث يراجع المجلّد السادس من بحار الأنوار ، بحث أحوال البرزخ والقبر).

* * *

٥١٤

الآيات

( فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (١٠٤) )

التّفسير

جانب من عقاب المسيئين :

تحدّث الآيات السابقة عن عالم البرزخ ، وأعقبتها آيات تناولت القيامة بالبحث ، وتناولت كذلك جانبا من وضع المذنبين في عالم الآخرة.

فهي تقول أوّلا :( فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ ) من المعلوم ـ بالاستناد إلى آيات القرآن الكريم ـ أنّ النفخ في الصور يجري مرّتين. أولاهما في نهاية هذا العالم ، حيث يموت من في الأرض والسماوات.

وفي ثانيتهما يبدأ بعث من في القبور ، ليعودوا لحياة جديدة ، وليستعدّوا للحساب والجزاء.

٥١٥

«النفخ في الصور» يعني النفخ في البوق ، إلّا أنّ هذه العبارة لها مفهوم خاصّ سنبيّنه إن شاء الله في شرح الآية ٦٨ من سورة الزمر.

وعلى كلّ حال ، فإنّ الآية السابقة أشارت إلى ظاهرتين من ظواهر يوم القيامة :

أولاهما : انتهاء مسألة النسب ، لأنّ رابطة الاسرة والقبيلة التي تسود حياة الناس في هذا العالم تؤدّي في كثير من الحالات إلى نجاة المذنبين من العقاب ، إذ يستنجدون بأقربائهم في حلّ مشاكلهم. أمّا الوضع يوم القيامة فيختلف ، حيث كلّ إنسان وعمله ، فلا معين له ، ولا نفع في ولده ، أو أخيه ، أو والده.

وثانيتهما : سيطرة الخوف على الجميع ، فلا يسأل أحد عن حال غيره بسبب الخوف الشديد من العقاب الإلهي ، هو يوم كما أطّلعنا عليه في مطلع سورة الحجّ :

( يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ ) كما يحتمل أن تقصد عبارة( وَلا يَتَساءَلُونَ ) عدم طلب أحدهم العون من الآخر ، لأنّهم جميعا يعرفون عدم جدوى ذلك.

وقال بعض المفسّرين : إنّ المراد من هذه العبارة هي عدم السؤال عن الأنساب فهي تأكيد لقوله تعالى :( فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ ) .

ويبدو التّفسير الأوّل أوضح من غيره ، رغم عدم التناقض فيما بينها ، ويمكن أن تشير العبارة السابقة إلى هذه المعاني كلّها.

ورأى مفسّرون آخرون أنّه يستفاد من عدّة آيات تساؤل الناس يوم القيامة ، كما جاء في الآية (٢٧) من سورة الصافات ، حيث تساءل المذنبون لدى مواجهة النّار( وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ ) . كما تحدّثت هذه السورة في الآية الخمسين عن أهل الجنّة ساعة استقرارهم في الجنّة متقابلين ، فقالت :( فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ ) إنّهم تساءلوا عن رفاق لهم في الحياة الدنيا انحرفوا

٥١٦

عن السبيل السوي فاقتيدوا إلى النّار.

كما جاء نظير هذا المعنى في الآية (٢٥) من سورة الطور ، فكيف تنسجم هذه الآيات مع الآية موضع البحث ، وهي تنصّ على عدم تساؤل الناس يوم القيامة؟.

لو دقّقنا مليّا في مضمون الآيات محلّ البحث لاتّضح لنا جواب هذا السؤال ، فالآيات الخاصّة بإثبات سؤال بعضهم للآخر إنّما تتحدّث في حالة استقرارهم في الجنّة ، أو في النّار. في وقت تنفي الآيات محل البحث تساؤل الناس حين البعث ، حيث يسيطر الرعب على الجميع. حتّى أنّ الناس ينسون جميع من حولهم ويذهلون عنهم من هول الحشر. وبتعبير آخر : للقيامة مواقف ولكلّ موقف شأن معيّن ، والإشكال المذكور نجم عن عدم تشخيص هذه المواقف.

وبعد وقوع القيامة تبدأ مرحلة الحساب وقياس الأعمال بميزان خاصّ بيوم القيامة :( فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) .

«الموازين» جمع «ميزان» وهو وسيلة للقياس. وكما قلنا سابقا : إنّ الميزان لا يعني ما نعرفه في هذه الدنيا لوزن الموادّ ، إنّ الميزان في هذه الآية يعني وسيلة ملائمة لقياس قيمة أعمال الإنسان ، أي : للميزان مفهوم واسع يشمل جميع وسائل القياس. وكما ورد في الأحاديث المختلفة أنّه ميزان تقاس به الأعمال والناس ، وهم قادة الإسلام الكبار ، في الحديث : «إنّ أمير المؤمنين والأئمّة من ذريته هم الموازين»(١) .

وعلى هذا فإنّ الرسل وأوصياءهم هم الذين يقاس الناس وأعمالهم بهم ، ليتبيّن إلى أي درجة يشبهونهم. وبهذا يتميّز الناس ثقيلهم من خفيفهم ، وثمينهم من تافههم ، وعالمهم من جاهلهم. كما يتّضح لنا سرّ ذكر الموازين بصيغة الجمع ، لأنّ قادة الناس الكبار في السابق ـ وهم موازين القياس ـ قد تعدّدوا في التاريخ.

__________________

(١) بحار الأنوار ، المجلّد السابع ، صفحة ٢٥١ (الطبعة الجديدة).

٥١٧

ويمكن أن يكون الأنبياء والأئمّة وعباد الله المخلصون قدوة في مجال معيّن أو أكثر على وفق الظروف التي مرّوا بها ، فاشتهروا ببعض الصفات دون أخرى ، فواحدهم ميزان بما اشتهر به من حسنات وخصال حميدة.

( وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ ) وهم الذين فقدوا الإيمان والعمل الصالح ، فوزنهم خفيف يوم القيامة ، لأنّهم خسروا رأسمال وجودهم :( فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ ) عبارة( خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ) تصريح بحقيقة خسران المذنبين لأكبر رأسمال لهم ـ أي وجودهم ـ في سوق تجارة الدنيا دون أن يحصلوا على مقابل.

وتشرح الآيات التالية عذابهم الأليم( تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ ) ألسنة النّار ولهيبها المحرق تضرب وجوههم كضرب السيف( وَهُمْ فِيها كالِحُونَ ) وهم من شدّة الألم وعذاب النّار ، في عبوس واكفهرار.

وكلمة «تلفح» مشتقّة من «لفح» على وزن «فتح» وتعني في الأصل ضربة السيف ، وقد وردت هنا كناية ، لأنّ لهيب النّار ، أو نور الشمس المحرقة ، وريح السموم ، تضرب وجه الإنسان كضرب السيف.

وأمّا كلمة «كالح» فإنّها مشتقّة من «كلوح» على وزن «فعول» بمعنى التعبيس واكفهرار الوجه. وقد فسّره عدد كبير من المفسّرين بتقلّص في جلد الوجه بحيث يبقى الثغر مفتوحا لا يمكن إغلاقه(١) .

* * *

__________________

(١) تفسير القرطبي ، وتفسير الفخر الرازي ، وتفسير مجمع البيان ، وتفسير الميزان ، الآيات موضع البحث.

٥١٨

ملاحظات

١ ـ اليوم الذي لا يعتنى فيه بالأنساب :

المفاهيم التي تسود حياة الإنسان المادّية في هذا العالم ، ستتغيّر في عالم الآخرة ، ومنها العلاقات الودّية ، والأواصر الأسريّة التي تحلّ مشاكل كثيرة في هذه الحياة ، وأحيانا تشكّل النظام الذي يسيطر على سائر العلاقات الاجتماعية.

وإذا كان الانتساب للقبائل والأسر في الدنيا لا يعارض الإيمان بالله تعالى والعمل الصالح ، فإنّه ينتفي يوم القيامة ، فلا انتساب لشخص أو طائفة أو قبيلة. وإذا كان الناس هاهنا يساعد أحدهم الآخر ، ويحلّ له مشاكله وينتصر له ويفخر به ، فإنّهم ليسوا كذلك يوم القيامة ، فلا خبر عن الأموال الكثيرة ، ولا عن الأولاد( يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) (١) .

حتّى من ينتسبون إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاضعون لهذا الحكم ، ولهذا نلاحظ أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة الأطهار طردوا عنهم من كان من المقرّبين في النسب الهاشمي ، إمّا لعدم إيمانه ، أو لانحرافه عن الإسلام الأصيل ، وأظهروا تنفّرهم وبراءتهم منه. رغم أنّه روي عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «كل حسب(٢) ونسب منقطع يوم القيامة إلّا حسبي ونسبي»(٣) .

يقول العلّامة الطباطبائي (رضوان الله عليه) في الميزان : إنّ هذا الحديث هو نفسه الذي رواه بعض محدّثي أهل السنّة في كتبهم ، مرّة عن عبد الله بن عمر ، وأخرى عن عمر بن الخطاب ، وأحيانا عن صحابة آخرين للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

في الوقت الذي نرى أنّ الآية ـ موضع البحث ـ ذات طابع عامّ ، فهي تتحدّث

__________________

(١) الشعراء ، ٨٩.

(٢) الحسب : كلّ فخر للإنسان ، بالآباء والأجداد. ويعني أحيانا الخلق السليم للشخص ذاته ، وهنا قصد المعنى الأوّل. (يراجع لسان العرب في كلمة حسب).

(٣) مجمع البيان آخر الآية موضع البحث.

٥١٩

عن انقطاع جميع الأنساب يوم القيامة ، وهذا ما تؤازره المبادئ القرآنية وسيرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في معاملة المنحرفين التي تفيد أنّه لا فرق بين الناس في هذا المجال.

لهذا نقرأ في حديث رواه ابن شهر آشوب في كتابه المناقب عن طاووس اليماني

عن الإمام زين العابدينعليه‌السلام أنّه قال : «خلق الله الجنّة لمن أطاع وأحسن ولو كان عبدا حبشيّا ، وخلق النّار لمن عصاه ولو كان سيّدا قرشيا»(١) .

وما ذكر لا ينفي احترام السادة المتّقين من آل الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهذا الاحترام في حقيقته احترام للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما جاء في القرآن والحديث في فضلهم ومنزلتهم ناظر حسب الظاهر إلى هذا المعنى.

٢ ـ حكاية الأصمعي المؤثّرة :

ومن المناسب هنا ذكر حكاية نقلها «الغزالي» في كتابه «بحر المحبّة» عن الأصمعي ، تؤيّد ما ذهبنا إليه وذات مسائل جديرة بالاهتمام.

يقول الأصمعي «كنت أطوف حول الكعبة في ليلة مقمرة ، فسمعت صوتا حنونا لرجل يناجي ربّه. بحثت عن صاحبه وإذا به شاب جميل رشيق القامة يبدو عليه الطيب. وقد تعلّق بأستار الكعبة ، وكان يقول في مناجاته :

يا سيّدي ومولاي ، نامت العيون وغابت النجوم ، وأنت ملك حيّ قيّوم ، لا تأخذك سنة ولا نوم ، غلقت الملوك أبوابها ، وأقامت عليها حرّاسها وحجّابها ، وقد خلا كلّ حبيب بحبيبه ، وبابك مفتوح للسائلين ، فها أنّا سائلك ببابك مذنب فقير ، خاطئ مسكين ، جئتك أرجو رحمتك يا رحيم ، وأن تنظر إليّ بلطفك يا كريم!

ثمّ أنشد :

__________________

(١) مناقب ابن شهر آشوب (وفق ما نقله تفسير نور الثقلين ، المجلّد الثّالث ، ص ٥٦٤).

٥٢٠

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550