الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٠

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 550

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 550 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 206811 / تحميل: 6196
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٠

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

الفصل الثالث : الإمام الصادق في ظل جدّه وأبيهعليهم‌السلام

ملامح عصر الإمام زين العابدين ومواقفه

لقد واجه الإمام زين العابدينعليه‌السلام بعد استشهاد أبيه الحسينعليه‌السلام ما يلي :

١ ـ التعاطف مع أهل البيتعليهم‌السلام تعاطفاً كان يفتقد الوعي ويقتصر على الشعور الإيجابي بالولاء مع خلوّه عن الموقف العملي الجادّ .

٢ ـ ثورات انتقاميّة كانت تتحرّك نحو هدف محدود ، وثورات نفعية مصلحيّة ، ونشوء حركات منافقة ، وظهور وعّاظ السلاطين لإسباغ الشرعية على السلطة القائمة .

٣ ـ بروز ظاهرة الشعور بالإثم عند الأمة بسبب ما ارتكبته من خذلان لأبيه الحسين السبطعليه‌السلام لكن هذا الشعور كما هو معروف كان بلا ترشيد واضح ، والعقليات المدبّرة للثورة على الوضع القائم كانت تفكر بالثأر فحسب وهنا خطط الإمام زين العابدينعليه‌السلام لعمله على مرحلتين أو خطوتين :

الخطوة الأولى : تناول الإمامعليه‌السلام ظاهرة الشعور بالإثم وعمل على ترشيدها بعد أن عمّقها بشكل متواصل عبر تذكيره الأمة بمأساة كربلاء والمظالم التي لحقت بآل البيتعليهم‌السلام وقد استغرق هذا التذكير زمناً طويلاً ،

٤١

حيث حاول إعطاء ظاهرة الشعور بالإثم بُعداً فكرياً صحيحاً ليجعل منه أداة دفع وتأثير في عملية البناء والتغيير .

وبعد أن تراكم هذا الشعور شكّل في نهاية الأمر خزيناً داخلياً كانت لا تقوى الأمة أن تصبر عليه طويلاً ، وأصبح الإلحاح على مخرج تعبّر به الأمّة عن ألمها أمراً جدّياً ، حتَّى حدثت الثورة الكبرى وطبيعي أنّ هذا الجو المشحون الذي كان ينبئ بالثورة والإطاحة بالأمويين جعلهم يشددّون الرقابة على الإمام زين العابدينعليه‌السلام باعتباره الرأس المدبّر لهذه المطالبة ولكونه الوريث الشرعي للخلافة بعد أبيه الحسينعليه‌السلام ومن هنا كانت الحكومة الأموية تفسّر أيّ حركة تصدر من الإمامعليه‌السلام على أنّها تمهيد للثورة .

الخطوة الثانية : توزّع نشاط الإمامعليه‌السلام في هذه الخطوة على عدّة اتّجاهات .

الاتجاه الأوّل : قام الإمامعليه‌السلام ببلورة العواطف الهائجة وحاول أن يدفعها باتّجاه الفكر الصحيح ويضع لها الأسس العقائديّة ويجعل منها مقدمة لعملية التغيير التي ينشدها الإمامعليه‌السلام ، وقد تمثّلت في إيجاد الفكر الإسلامي الصحيح الذي طالما تعرّض للتشويه والتحريف ثم إعداد الطليعة الواعية التي تشعر بالمسؤولية وتكون أهلاً لحمل الأمانة الإلهيّة .

الاتّجاه الثاني : تحرّك الإمام زين العابدينعليه‌السلام انطلاقاً من مسؤوليته في حماية الإسلام وبقائه كشريعة دون تحريف وتشويه لمحتواه ضمن عدة نشاطات :

١ ـ النشاط الأول : واجه الإمامعليه‌السلام الحركات الانحرافية والفرق الضالّة والمغالية التي كانت تستهدف الفكر الإسلامي وتعتمد الإسرائيليات والنظريات الهندية واليونانية حول الكون والحياة في فهم القرآن والحديث

٤٢

الشريف ، وقام بنشر مختلف العلوم والفنون وتبيان الصيغة الصحيحة للعلاقات الاجتماعية والسياسية والأخلاقية التي كان قد أصابها الفساد ، كما يتّضح ذلك بجلاء في رسالته المعروفة برسالة الحقوق ، كما ساهم في حل المشاكل التي كانت تهدّد كرامة الدولة الإسلامية كما يلاحظ ذلك جليّاً فيما حدث في جوابه على رسالة ملك الروم حين هدّد الخليفة بالحصار الاقتصادي(١) .

النشاط الثاني : إنّ الأمويين كانوا قد ضيّقوا على حركة الإمامعليه‌السلام ونشاطه مع الأمة إلاَّ أنّ الإمامعليه‌السلام استخدم الدعاء سلاحاً للارتباط الفكري والمعنوي بها ، وحيث إنّ هذا السلاح لم يستهدف الأمويين مباشرة ، توفّر للإمامعليه‌السلام مجالٌ أوسع لمعالجة الظواهر المرضية والانحرافات الأخلاقية .

الاتّجاه الثالث : التأكيد على أهمية العمل الثوري ومكافحة الظلم والانحراف ، وإيقاد روح الجهاد التي كانت خمدت في الأمة عبر سنوات الانحراف ، كما يتجلّى ذلك في دعائه للمختار الذي طالب بثأر الحسين وكان على اتصال دائم بالإمامعليه‌السلام أثناء ثورته من خلال عمّه محمد ابن الحنفيّة .

الاتّجاه الرابع : لم يكن موقف الإمامعليه‌السلام من الحكّام موقف المواجهة والتحدّي المباشر ; إذ لو كان قد فعل الإمام زين العابدينعليه‌السلام ؛ ذلك لما كان يستطيع أن يحقق ما حققه من مكاسب في الأمة في مجال التربية ، ولما توفّرت أجواء سليمة وفرص واسعة لنشاط الإمام الباقرعليه‌السلام من بعده وللجماعة الصالحة التي ربّاها .

لكن هذا لا يعني أن الإمامعليه‌السلام لم يوضح رأيه في الحكومة فلم يترك

ـــــــــــــــــ

(١) البداية والنهاية : ٩/١٢٢ .

٤٣

الأمر ملتبساً على شيعته ، بل كانت للإمام زين العابدينعليه‌السلام مواقف مع الحكّام سوف نشير إلى بعض منها ، وكان هدفه منها إعطاء خطّ في التربية والتغيير حفاظاً على الشيعة من الضياع ; إذ لم تكن الجماعة الصالحة على سبيل المواجهة ولكنها كانت كافية في التحصين في تلك المرحلة على مستوى التربية والإعداد وتأسيساً لمستقبل سياسي أفضل .

ونستطيع أن نلاحظ موقف الإمامعليه‌السلام مع السلطة من خلال رسالته الجوابية إلى عبد الملك حين لامَ عبد الملك الإمامعليه‌السلام على زواجه بأمته التي كان قد أعتقها .

إنّ ردّ الإمامعليه‌السلام على عبد الملك كان يتضمّن تحدّياً للخليفة الذي كان يفكرّ بعقلية جاهلية ; فإنّ الإمامعليه‌السلام وضّح فيها الموقف الإسلامي الذي يلغي كل الامتيازات التي وضعتها الجاهلية بقولهعليه‌السلام :( فلا لؤم على امرئ مسلم إنَّما اللؤمُ لؤم الجاهلية ) .

يظهر هذا التحدّي ممَّا جاء في مصادر التأريخ من أن الخليفة الأموي بعد أن قرأها هو وابنه سليمان ، قال الابن : يا أمير المؤمنين لَشدَّ ما فخر عليك علي بن الحسين !! فردّ الخليفة على ابنه قائلاً : ( يا بنيّ لا تَقل ذلك فإنّها ألسن بني هاشم التي تَفلق الصخر وتغرف من بحر ، إنّ عليّ بن الحسين يا بني يرتفع من حيث يتّضع الناس(١) .

وفي هذا الجواب إشارة إلى أنّ المواجهة مع الإمام من قبل الخليفة لا تخدم سلطان بني أمية .

ومن مواقف الإمام زين العابدينعليه‌السلام تجاه السلطة أيضاً موقفه من

ـــــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٤٦/١٦٥ ، والعقد الفريد : ٧/١٢١ .

٤٤

الزهري ذلك المحدث الذي كان مرتبطاً بالبلاط الأموي ـ فقَد أرسل إليه الإمامعليه‌السلام رسالة قَرعه فيها على شنيع فعله(١) ، وان كان قد علم الإمام بأنّه غارق إلى هامته في موائد السلطان ولهوه ، إلاَّ أنّها رسالة للأجيال .

ومن الأحاديث التي وضعها هذا الرجل دعماً لسياسة بني أمية حينما منعوا حج بيت الله الحرام لمّا كان ابن الزبير مسيطراً على الحرمين الشريفين ما رواه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : لا تشد الرحال إلاَّ إلى ثلاثة : مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى .

ملامح عصر الإمام محمد الباقرعليه‌السلام

استشهد الإمام زين العابدينعليه‌السلام سنة ( ٩٥ هـ ) في أيام حكم الوليد ابن عبد الملك وتوّلى الإمام محمد بن علي الباقرعليه‌السلام مسؤولية الإمامة بوصية من أبيه حيث أعلن عن إمامته أمام سائر أبنائه وعشيرته حين سلّمه صندوقاً فيه سلاح رسول اللهعليه‌السلام وقال له :( يا محمَّد هذا الصندوق فاذهب به إلى بيتك ، ثم قالعليه‌السلام :أما إنّه لم يكن فيه دينار ولا درهم ولكنه مملوءٌ علم ) (٢) .

إذن فهو صندوق يرمز لمسؤولية القيادة الفكرية والعلمية كما أنّ السلاح يرمز لمسؤولية القيادة الثورية .

وبالرغم من توالي الثورات التي تلت واقعة الطف والتي كان الإمام الباقرعليه‌السلام قد عاصرها جميعاً مع أبيهعليه‌السلام بقي موقف الأعمّ الأغلب من الناس الاستجابة لمنطق السيف الأموي إلى جانب القسم الآخر الذي آمن بأنّ الحكّام الأمويين يمثّلون الخلافة الإسلامية .

ـــــــــــــــــ

(١) تحف العقول : ٢٧٢ ـ ٢٧٧ .

(٢) بصائر الدرجات ٤/٤٤ و٤٨ ، وأصول الكافي ١/٣٠٥ وعنهما في بحار الأنوار : ٤٦/٢٢٩ .

٤٥

كما أنّه عاصر عمليات الهدم الفكري والتحريف والمسخ الثقافي الذي مارسه الأمويون بحق الرسالة والقيم الإسلامية .

وعند مجيء سليمان بن عبد الملك إلى الحكم بعد وفاة أخيه الوليد بن عبد الملك سنة ( ٩٦ هـ ) أصدر قرارات جديدة استراحت الأمة بسببها قليلاً حيث أمر بالتَنكيل ( بآل ) الحجاج بن يوسف الثقفي وطرد كلّ عمّاله وولاته(١) كما أطلق سراح المسجونين في سجون الحجّاج(٢) .

وفي سنة ( ٩٩ هـ ) تقلّد الحكم الأموي عمر بن عبد العزيز فازدادت الحريّات في مدّة خلافته القصيرة ، كما يراه بعض المؤرّخين ، كما أنّه عالج مشكلة الخراج التي قال عنها بأنّها سنّة خبيثة سنّها عمّال السوء(٣) .

وعامل العلويين معاملة خالف فيها أسلافه فقد جاء في كتابه لعامله على المدينة : ( فأقسم في ولد علي من فاطمة رضوان الله عليهم عشرة آلاف دينار فطالما تخطّتهم حقوقهم )(٤) ورَدَّ فدكاً ـ التي كان قد صادرها الخليفة الأوّل ـ على الإمام الباقرعليه‌السلام (٥) ورفع سبّ الإمام عليّعليه‌السلام الذي كان قد سنّه معاوية(٦) .

أمّا الناحية الفكرية : فتبعاً للتغيّرات السياسية نلمس تطوّراً في الجانب الفكري أيضاً ؛ فقد برزت في هذا الظرف تيارات فكريّة جديدة واتجّه الناس

ـــــــــــــــــ

(١) الكامل ، ابن الأثير : ٤/١٣٨ .

(٢) تاريخ ابن عساكر : ٤/٨٠ .

(٣) الكامل : ٥/٢٩ وتاريخ الطبري : ٨/١٣٩ .

(٤) مروج الذهب : ٣/١٩٤ .

(٥) الكامل : ٤/١٦٤ والمناقب : ٤/٢٠٧ وسفينة البحار : ٢/٣٧٢ .

(٦) انظر الفكر السامي ١/٢٧٦ عن صحيح مسلم ، وتاريخ اليعقوبي ٢/٢٢٣ و٢٣٠ و٢٣٥ و٣٠٥ ، وشرح النهج للمعتزلي ٥/٩٨ تاريخ الخميس : ٢/٣١٧ .

٤٦

للبحث والدرس وتلقّي المعرفة الإسلامية ورفع المنع الحكومي عن تدوين الحديث النبوي وبدأت تتميّز مدرسة أهل الحديث عن مدرسة أهل الرأي ومال الموالي من غير العرب إلى مدرسة أهل الرأي في الكوفة ، وتزعّم أبو حنيفة هذه المدرسة في حينها ضد مدرسة أهل الحديث في المدينة(١) .

وكنتيجة طبيعية للإخفاق الذي سجّلته الحركات الفكرية ، ظهرت فكرة الاعتزال التي نادى بها ( واصل بن عطاء ) في البصرة عندما اعتزل حلقة درس أستاذه ( الحسن البصري ) وهي تعتبر تعديلاً لفكرة الخوارج التي لم تلقَ رواجاً حينما قالت بكفر مرتكب الكبيرة(٢) ، والمرجئة التي قالت بأنّه لا تضر مع الإيمان معصية(٣) فقال واصل ( مؤسس اتّجاه الاعتزال والمتوفى في ١٣١هـ ) : إنّ صاحب الكبيرة ليس بمؤمن بإطلاق بل هو في منزلة بين منزلتين أي إنّ مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر لكنّه فاسق والفاسق يستحق النار بفسقه(٤) .

هذه صورة مجملة عن الواقع الذي عايشه الإمام الصادقعليه‌السلام خلال مرحلة قيادة أبيه الباقرعليه‌السلام .

متطلّبات عصر الإمام الباقرعليه‌السلام

ونلخّص دور الإمام الباقرعليه‌السلام في ثلاثة خطوط أساسية :

الخط السياسي ، وإكمال بناء الجماعة الصالحة ، وتأسيس جامعة أهل البيتعليه‌السلام العلمية .

ـــــــــــــــــ

(١) ضحى الإسلام لأحمد أمين : ٢/١٧٨ .

(٢) الملل والنحل : ١/١٥٨ .

(٣) تاج العروس ، مادة رجأ .

(٤) الأغاني : ٧ / ١٥ .

٤٧

١ ـ الخط السياسي للإمام الباقر عليه‌السلام

لقد كان الخيار السياسي للإمام الباقرعليه‌السلام في فترة تصدّيه للإمامة هو الابتعاد عن الصدام والمواجهة مع الأمويين وهذا واضح من خلال تصريحه الذي تضمّن بياناً للجوّ السائد وحالة الأمة ومستوى وعيها آنذاك :( إنْ دَعَوْناهم لم يستجيبوا لنا ) (١) .

كما نجده فيما بعد يستوعب سياسة الانفتاح والاعتدال التي أبداها عمر ابن عبد العزيز ، سواء كان هذا الاعتدال بدافع ذاتي لعلاقته بالإمامعليه‌السلام ، أم بدافع الضغوط الخارجيّة وخوفه من انهيار الدولة الأموية .

إنّ الإمام قد رسم خطّه السياسي في هذه المرحلة بأسلوبين :

الأسلوب الأول : تصريح الإمامعليه‌السلام برأيه حول عمر بن عبد العزيز وحكومته قبل تصدّي عمر للخلافة فعن أبي بصير ، قال : كنت مع أبي جعفر الباقرعليه‌السلام في المسجد ودخل عمر بن عبد العزيز وعليه ثوبان ممصّران متكئاً على مولى له فقالعليه‌السلام :( لَيَلِيَنَّ هذا الغلام [ أي سوف يتولّى السُلطة ]فيظهر العدل ) (٢) .

ولكن الإمامعليه‌السلام قدح في ولايته باعتبار وجود مَن هو أولى منه .

الأسلوب الثاني : أسلوب المراسلة واللقاء فقد روي أنّ عمر بن

ـــــــــــــــــ

(١) الإرشاد ، للشيخ المفيد : ٢٨٤ .

(٢) سفينة البحار : ٢/١٢٧ .

٤٨

عبد العزيز كرّم الإمام أبا جعفرعليه‌السلام وعظّمه وقد أرسل خلفه فنون ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود وكان من عُبّاد أهل الكوفة فاستجاب له الإمامعليه‌السلام وسافر إلى دمشق فاستقبله عمر استقبالاً رائعاً واحتفى به وجَرَت بينهما أحاديث وبقي الإمام أيّاماً في ضيافته(١) .

ومن المراسلات ما جاء أنّه : كتب عمر للإمامعليه‌السلام بقصد الاختبار فأجابه الإمام برسالة فيها موعظة ونصيحة له(٢) ، ولكن سياسة الابتعاد عن الصدام المباشر لم تمنع الإمام الباقرعليه‌السلام من أن يقف من الأمة بشكل عام ومن الأمويين وهشام بن عبد الملك بشكل خاص موقف التحدّي الفكري والعقائدي والعلمي لبيان الحق المغتصب وكشف ستار الباطل الذي كان قد أسدله الحكّام على الحق ورموزه .

وحين حجّ هشام بن عبد الملك بن مروان سنة من السنين وكان قد حجّ في تلك السنة محمّد بن علي الباقرعليه‌السلام وابنه جعفر ، قال جعفر بن محمدعليه‌السلام في بعض كلامه :( الحمد لله الذي بعث محمّداً نبيّاً وأكرمنا به ، فنحن صفوة الله على خلقه وخيرته من عباده فالسعيد مَن اتّبعنا والشقيّ مَن خالفَنَا ، ومن الناس مَن يقول : إنّه يتولاَّنا وهو يتولّى أعدائنا ومَن يليهم من جلسائهم وأصحابهم ، فهو لم يسمع كلام ربّنا ولم يعمل به ) (٣) .

فبيّنعليه‌السلام مفهوم القيادة الإلهية ومصداقها الحقيقي الذي يمثّلها آنئذ .

وهذا الطرح وان كان فيه نوع مجابهة صريحة للحاكم وما يدور في

ـــــــــــــــــ

(١) تاريخ دمشق : ٥١/٣٨ .

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢/٣٠٥ .

(٣) دلائل الإمامة : ١٠٤ ـ ١٠٩ ، بحار الأنوار : ٤٦/٣٠٦ .

٤٩

أذهان الناس لكنّه لم يكن مغامرة ; لأنّ الظرف كان بحاجة إلى مثل هذا الطرح والتوضيح ، بالرغم من أنّه قد أدّى إلى أن يستدعي هشام الإمامين الباقر والصادقعليهما‌السلام إلى الشام فيما بعد .

٢ ـ إكمال بناء الجماعة الصالحة

لم تكن عملية بناء الجماعة الصالحة وليدة عصر الإمام الباقرعليه‌السلام فقد باشرها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم لإمام عليعليه‌السلام ، حيث نجد لأشخاص أمثال مالك الأشتر وهاشم المرقال ، ومحمد بن أبي بكر ، وحجر بن عدي ، وميثم التمّار ، وكميل بن زياد ، وعبد الله بن العباس ، دوراً كبيراً في الصراع الذي خاضه الإمام عليعليه‌السلام مع مناوئيه .

واستمرت عملية البناء بشكل فاعل في عصر الإمامين الحسن والحسينعليهما‌السلام ، ثم تقلّص النشاط المباشر في بناء هذه القاعدة وتوسيعها ، ثم استمرّت عملية البناء في العقود الأخيرة من حياة الإمام زين العابدينعليه‌السلام وتكاملت في عصر الإمام الباقرعليه‌السلام حيث سنحت الفرصة له بأن يتحرك نحو تطوير الجماعة الصالحة بتوضيح أهدافها التي تمثّلت في الدفاع عن المجتمع الإسلامي وحفظ الشريعة الإسلامية من التحريف إلى جانب توسيع القاعدة كمّاً مع تطويرها كيفاً .

ونقتصر فيما يلي على بعض ما قام به الإمام الباقرعليه‌السلام من خطوات :

الخطوة الأولى : أخذ الإمامعليه‌السلام يعمّق ويوضّح صفات الجماعة الصالحة الموالية لأهل البيتعليهم‌السلام ودورها في المجتمع ، فقد جاء في وصفه لهذه الجماعة قولهعليه‌السلام :( إنّما شيعتنا ـ شيعة علي ـالمتباذلون في ولايتنا المتحابّون في

٥٠

مودّتنا ، المتزاورون لإحياء أمرنا ، الذين إذا غضبوا لم يظلموا ، وإذا رضوا لم يسرفوا ، بركة على مَنْ جاوروا ، سلم لمَن خالطوا ) (١) ، وقال أيضاً :( شيعتنا من أطاع الله ) (٢) .

وبهذا أراد الإمامعليه‌السلام أن يرسّخ الكمالات الإنسانية في جانبي الأخلاق والعبادة التي تعرّضت للضياع طيلة سنوات المحنة ، ويوضّح أن الانتماء لخطّ أهل البيتعليهم‌السلام هو بالعمل والتحلّي بهذه الصفات .

الخطوة الثانية : قام الإمامعليه‌السلام ـ بالإضافة إلى توضيح مستوى الروح الإيمانية التي ينبغي أن يتَمتّع بها أفراد الجماعة الصالحة ـ بشحذِ هممها وتربيتها على روح الصبر والمقاومة لكي تمتلك القدرة على مواصلة العمل في سبيل الله ومواجهة التحدّيات المستمرّة وعدم التنازل أمام الإغراءات أو الضغوط الظالمة ، فقد جاء في كلامهعليه‌السلام لرجل حين قال له : والله إنّي لأحبّكم أهل البيت فقالعليه‌السلام :( فاتّخذ للبلاء ، جلباباً ، فو الله إنّه لأسرع إلينا وإلى شيعتنا من السيل في الوادي ، وبنا يبدو البلاء ثم بكم ، وبنا يبدو الرخاء ثم بكم ) (٣) .

هكذا رسم الإمامعليه‌السلام معالم الطريق الشائك أمامه ، إنّه طريق مفروش بالدماء والدموع ، والإمام رائد المسيرة على هذا الطريق يصيبه البلاء أوّلاً قبل أن يصيب شيعتَه .

وقد كان الإمامعليه‌السلام يذكّرهم بمعاناة الشيعة قبل هذا الظرف بقولهعليه‌السلام :( قتلت شيعتنا بكلّ بلدة وقُطِعت الأيدي والأرجل على الظنة وكان مَن يذكر بحبّنا والانقطاع إلينا سُجن ونُهب مالُه وهُدِمَت داره ) (٤) .

ومن الأعمال التي قام بها الإمامعليه‌السلام في بناء الجماعة الصالحة هو إلزام

ـــــــــــــــــ

(١) تحف العقول : ٢٩٥و ٣٠٠ .

(٢) تحف العقول : ٢٩٥و ٣٠٠ .

(٣) بحار الأنوار : ٤٦/٣٦٠ ، وأمالي الشيخ الطوسي : ٩٥ .

(٤) حياة الإمام الحسنعليه‌السلام دراسة وتحليل : ٢/٢٥٧ .

٥١

أتباعه وخاصّته بمبدأ التقية ؛ حفاظاً عليهم من القمع والإرهاب والإبادة التي طالما تعرّضوا لها وقد اعتبر هذا المبدأ من الواجبات الشرعية ذات العلاقة بالإيمان ، فكان يوصيِهم بالتقية قائلاً :( التقيّة ديني ودين آبائي ، ومَن لا إيمان له لا تقيّة له ) (١) .

ومن المبادئ التي تتداخل مع التقيّة : كتمان السرّ ، فقد جاء عنهعليه‌السلام في وصيّته لجابر بن يزيد الجعفي في أوّل لقاء له بالإمامعليه‌السلام : أن لا يقول لأحد أنّه من أهالي الكوفة ، وليظهر بمظهر رجل من أهل المدينة وجابر الجعفي هذا قد أصبح فيما بعد صاحب سرّ الإمامعليه‌السلام ، ولشدّة فاعليّته وتأثيره في الأمة أمر هشام بن عبد الملك واليه في الكوفة بأن يأتيه برأس جابر ، لكنّ جابراً قد تظاهر بالجنون قبل أن يصدر الأمر بقتله حسب إرشادات الإمام الباقرعليه‌السلام التي كانت تصله سرّاً ، فقد جاء في كتاب هشام إلى واليه : أن أُنظر رجلاً يقال له جابر بن يزيد الجعفي فاضرب عنقه وابعث إليَّ برأسه .

فالتفت إلى جلسائه فقال لهم : مَن جابر بن يزيد الجعفي ؟ قالوا : أصلحك الله ، كان رجلاً له علم وفضل وحديث وحجّ فجنّ وهو ذا في الرحبة مع الصبيان على القصب يلعب معهم .

قال : فأشرف عليه فإذا هو مع الصبيان يلعب على القصب فقال : الحمد لله الذي عافاني من قتله(٢) .

وكان في هذه المرحلة رجال كتموا تشيّعهم وما رسوا نشاطات مؤثرة في حياة الأمة فكرية وعسكرية وفقهية مع الاحتفاظ بعلاقاتهم ، فمن فقهاء الشيعة : سعيد بن المسيّب ، والقاسم بن محمد ، فقد كانا بارزين بين علماء ذلك العصر

ـــــــــــــــــ

(١) أصول الكافي : ٢/١٧٤ .

(٢) بحار الأنوار : ٤٦/٢٨٢ ، والكافي : ١/٣٩٦ .

٥٢

في الفقه وغيره إلاَّ أنّه لم تكن لهم صبغة التشيّع الصريح ، فقد شاع عن سعيد بن المسيّب أنّه كان يجيب أحياناً برأي غيره من علماء عصره أو برأي مَن سبقه من الصحابة ؛ مخافة أن يصيبه ما أصاب سعيد بن جبير ويحيى بن أم الطويل وغيرهما ممّن تعرّضوا للقتل والتشريد بسبب تشيّعهم .

وهذا موسى بن نصير من رجالات الكوفة العسكريين وزهّادها المؤمنين ممّن عرف بولائه لأهل البيتعليهم‌السلام هو وأبوه نصير ، ولقد غضب عليه معاوية إذ لم يخرج معه لصفِّين ، وموسى هو الذي فتح الفتوحات العظيمة في بلاد المغرب وكان تحت إمرته مولاه طارق بن زياد وولده عبد العزيز وبسبب تشيّعه غضب عليه سليمان بن عبد الملك وقبل أن يقتله عرّضه لأنواع العذاب فقتل ولده أمامه وألزمه بدفع مبلغ كبير(١) .

وكان لجابر الجعفي وزرارة وأبان بن تغلب وغيرهم دور بالغ في نجاح حركة الإمام الفكريّة ، وأصبحوا ـ فيما بعد ـ النواة لجامعته ، وبقي هؤلاء بعد وفاة الإمام الباقرعليه‌السلام بصحبة ولده الصادقعليه‌السلام ليمارسوا مسؤولياتهم بحجم أكبر كما سيأتي توضيحه .

٣ ـ تأسيس جامعة أهل البيت عليهم‌السلام

جاءت فكرة زرع البذرة الفكرية وتشكيل النواة الأولى لجامعة علمية إسلامية في هذهِ المرحلة كضرورة حضارية لمواجهة التحدّي الحاضر ونسف البنى الفكرية لكل الأطروحات السابقة التي وجدت من ظروف المحنة مناخاً مناسباً لبثّ أفكارها .

كما تأتي ضرورة وجود تيّار فكري يبلور الأفكار الإسلامية الأصيلة

ـــــــــــــــــ

(١) تاريخ اليعقوبي : ٢/٢٩٤ .

٥٣

ويعبّئ بها ذهن الأمة ويفوّت الفرصة على الظالمين في حالة تبدّل الظروف .

ويمكن تلخيص الأسباب التي شكّلت عاملاً مهمّاً في التهيئة لنجاح هذه الجامعة فيما يلي :

١ ـ لقد عُزلت الأمة عن تبني أفكار الأئمة من أهل البيتعليهم‌السلام وفقههم أكثر من قرن وبقيت تتناقله الخواص في هذه الفترة عن طريق الكتابة والحفظ شفاهاً وبالطرق السرّية .

٢ ـ في هذه الفترة طرحت على العالم الإسلامي تساؤلات فكريّة ومستجدّات كثيرة لم تمتلك الأمة لها حلاًّ بسبب اتّساع البلاد الإسلامية وتبدّل الظروف وحاجات المسلمين .

٣ ـ شعر المسلمون في هذا الظرف بأهمية البحث عن مبدأ فكري يتكفّل حلّ مشكلاتهم ; لأنّ النصّ المحرّف واجتهادات الصحابة أصبح متخلّفاً عن المواكبة ، بل أصبح بنفسه مشكلة أمام المسلم لتعارضه مع العقل والحياة .

٤ ـ في هذا العصر ظهرت مدارس فكرية متطرّفة مثل مدرسة الرأي القائلة بالقياس والاستحسان ، زاعمة أنّ للنصوص التي نقلت عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قليلة(١) لا تفي بالغرض ، الأمر الذي تسرّب فيه العنصر الذاتي للمجتهد ودخل الإنسان بذوقه الخاص إلى التشريع(٢) ، كما ظهرت مدرسة الحديث قِبال

ـــــــــــــــــ

(١) هذا في غير مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام الذين حرصوا على نقل تراث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وواجهوا منع تدوين السنّة النبوية بالحث على التدوين والنقل والتعليم ؛ لئلاَّ تندرس معالم الدين .

(٢) فقد عرف حسن أبي حنيفة أنّه لم يصح عنده من أحاديث الرسول الفقهية سوى سبعة حشر حديثاً راجع مقدمة ابن خلدون : ٣٧٢ .

٥٤

مدرسة الرأي والتي عرفت بالجمود على ظاهر النص ولم تتفرّغ لتمييز صحيح النصوص من غيره .

٥ ـ غياب القدوة الحسنة والجماعة الصالحة التي تشكّل مناخاً لنمو الفضيلة وزرع الأمل في نفوس الأمة باتّجاه الأهداف الربّانيّة .

في هذا الظرف الذي ذهب فيه الخوف واستطاع المسلم أن يبحث عن المعرفة وعن حل لمشكلاته الفكرية ، قام الإمام الباقرعليه‌السلام بتشكيل حلقاته العلمية في مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ؛ فكان وجودهعليه‌السلام مركز جذب لقلوب طلاب الحقيقة فالتفّ حوله صحابة أبيه الإمام زين العابدينعليه‌السلام ، وبدأ منذ ذلك الحين بالتركيز على بناء الكادر العلمي آملاً أن يواجه به المشكلات الفكرية التي بدأت تغزو الأمة المسلمة وكان يشكّل هذا الكادر فيما بعد الأرضية اللازمة لمشروع الإمام الصادقعليه‌السلام المرتقب ، فتناول الإمامعليه‌السلام أهمّ المشكلات الفكرية التي كان لها ارتباط وثيق بحياة الناس العقائدية والأخلاقية والسياسية .

وزجّ الإمام بكادره العلمي وسط الأمة بعد أن عبّأه بكل المؤهّلات التي تمكّنهُ من خوض المعركة الفكرية حينما قال لأبان بن تغلب :( اجلس في مسجد المدينة وافت الناس فإنّي أحبّ أن أرى في شيعتي مثلك ) (١) .

وعندما يدرك الأصحاب مغزى هدف الإمام من هذا التوجيه وضرورة الحضور مع الناس ؛ يتصدّى هؤلاء بأنفسهم لمعالجة المشكلات الفكرية وإبطال الشبه عن طريق الحوار والمناظرة حسب الخط الذي رسمه لهم الإمامعليه‌السلام في وقت سابق .

ـــــــــــــــــ

(١) اختيار معرفة الرجال للكشي ٢/٦٢٢ ، ح ٦٠٣ .

٥٥

قال عبد الرحمن بن الحجاج : كنّا في مجلس أبان بن تغلب فجاء شاب فقال له : يا أبا سعيد أخبرني كم شهد مع علي بن أبي طالب من أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ وأدرك أبان مراده فانبرى قائلاً : كأنّك تريد أن تعرف عليّاً بمَن تبعه من أصحاب رسول الله ؟ فقال هو ذاك .

فأجابه أبان : والله ما عرفنا فضلهم ـ أي الصحابة ـ إلاَّ باتّباعهم إيّاه .

وتعميقاً لهذا التوجيه وبنفس السياق يبادر محبوب أهل البيت ولسانهم مؤمن الطاق ليواجه أفكار حركة الخوارج ويردّ على جرأتها في التشكيك بموقف الإمام عليعليه‌السلام من مسألة التحكيم(١) .

يدخل مؤمن الطاق على بعض زعماء الخوارج في الكوفة فيقول له : أنا على بصيرة من ديني وقد سمعتك تصف العدل فأحببت الدخول معك ، فيقول الخارجي لأصحابه إن دخل هذا معكم نفعكم.

فيقول له مؤمن الطاق : لِمَ تبرّأتم من عليّ بن أبي طالب واستحللتم قتله وقتاله ؟

يجيبه الخارجي : لأنّه حكّم الرجال في دين الله .

فيقول له : وكلَّ من حكّم في دين الله استحللتم قتله ؟

فيجيب الخارجي : نعم .

فيقول له : أخبرني عن الدين الذي جئت أُنظارك به لأدخل معك فيه ، إن غَلَبَتْ حجّتي حجّتك ، من يوقِفُ المخطئ منّا عن خطئه ويحكم للمصيب بصوابه ؟

فيشير الضحّاك إلى رجل من أصحابه ويقول : هذا هو الحكم بيننا .

ـــــــــــــــــ

(١) معجم رجال الحديث : ١/٢١ ـ ٢٢ وتنقيح المقال : ١/٤ .

٥٦

هنا يتوجّه مؤمن الطاق إلى مَن كان حاضراً من الخوارج ويقول : زعيمكم هذا قد حكّم في دين الله(١) وهكذا يفحمهم بحجّته البالغة ومنطقه القويم .

وقبل أن ننتهي من حياة الإمامعليه‌السلام نشير إلى ثلاث وقائع تاريخية لها صلة بالمرحلة التي سوف يتصدّى لها الإمام الصادقعليه‌السلام .

الواقعة الأولى : إنّ هشام بن عبد الملك هو واحد من الحكّام الأمويين الَّذين نصبوا العداوة لأهل البيت ، بل نراه قد زاد على غيره حتَّى أنّه على أثر الخطبة التي خطبها الإمام الصادقعليه‌السلام في مكة والتي أوضح فيها معنى القيادة ولمَن تكون القيادة ، يأمر هشام فور رجوعه إلى الشام بجلب الإمامين الباقر والصادقعليهما‌السلام إلى دمشق لغرض التنكيل بهما .

وبعد اللقاء بهشام تفوّق الإمام الباقرعليه‌السلام في البلاط الأموي في الحوار الذي أجراه مع هشام ثم حواره مع عالم النصارى في الشام ، يسمح لهما هشام بالرجوع إلى المدينة ولكنّه يأمر أمير ( مدين ) ـ وهي المدينة الواقعة في طريقهما ـ بإيذائهما فقد جاء في رسالته : إنّ ابن أبي تراب الساحر محمّد بن علي وابنه جعفر الكذابين فيما يظهران من الإسلام ، قد وردا عليّ فلمّا صرفتهما إلى يوم الدين مالا إلى القسسين والرهبان ، وتقربّا إليهم بالنصرانية فكرهت النكال لقربهما ، فإذا مرّا بانصرافهما عليكم فليناد في الناس : برئت الذمّة ممّن باعهما وشاراهما وصافحهما وسلّم عليهما ، ورأى أمير المؤمنين قتلهما ودوابّهما وغلمانهما لارتدادهما والسلام(٢) .

ولم يترك هشام الإمام الباقرعليه‌السلام حُرّاً يتحرّك في المدينة ، ولم يسترح

ـــــــــــــــــ

(١) الإمام الصادق والمذاهب الأربعة : ٢/ ٧٢ .

(٢) دلائل الإمامة : ١٠٤ ـ ١٠٩ وبحار الأنوار : ٤٦ ـ ٣٠٦ .

٥٧

من تواجده في الساحة الإسلامية حتَّى أقدم على قتله غيلةً بالسمّ سنة (١١٤هـ)(١) .

الواقعة الثانية : في هذهِ الفترة تحفّز زيد بن علي بن الحسينعليه‌السلام وصمّم على الثورة ضد هشام بن عبد الملك على أثر تصرّفات الأمويين ، ولا سيّما تصرّف هشام المهين بحق زيد ، والنيل من كرامته ، وما كان يفعله هشام بحق الشيعة بشكل خاص .

لقد دخل زيد على هشام فسلّم عليه بالإمرة فلم يردّ السلام إهانةً له ، بل أغلظ في الكلام ولم يفسح له في المجلس .

فقال زيد : السلام عليك يا أحول ، فإنّك ترى نفسك أهلاً لهذا الاسم فغضب هشام وجرت بينهما محاورة كان نصيب هشام فيها الفشل ، وخرج زيد وهو يقول : ما كره قومٌ حرّ السيوف إلاَّ ذلّوا .

وأمر هشام بردّه وقال له : اُذكر حوائجك ، فقال زيد : أما وأنت ناظر على أمور المسلمين فلا وخرج من عنده وقال : مَن أحبّ الحياة ذلّ(٢) .

ومضى زيد إلى الكوفة ثمّ خطّط للثورة واستشار بذلك الإمام الباقرعليه‌السلام .

قال الإمام الصادقعليه‌السلام :إنّ عمّي أتى أبي فقال إنّي أريد الخروج على هذا الطاغية .

ولمّا أزمع على الخروج أتاه جابر بن يزيد الجعفي فقال له : إنّي سمعت أخاك أبا جعفر يقول :إنّ أخي زيد بن علي خارج ومقتول وهو على الحق فالويل لمَن خذله ، والويل لمَن حاربه ، والويل لمَن يقتله فقال له زيد : يا جابر لم يسعني أن أسكت وقد خولف كتاب الله تعالى

ـــــــــــــــــ

(١) شذرات الذهب : ١/١٤٩ ، تاريخ بن الأثير : ٤/٢١٧ ، طبقات الفقهاء : ٣٦ .

(٢) تاريخ الطبري : حوادث سنة ( ١٢١ ) ، وتاريخ ابن عساكر : ٦ / ٢٢ ـ ٢٣ .

٥٨

وتحوكم بالجبت والطاغوت(١) .

الواقعة الثالثة : ولمّا قربت وفاة الإمام محمّد الباقرعليه‌السلام دعا بأبي عبد الله جعفر الصادقعليه‌السلام فقال له :إنّ هذه الليلة التي وُعدت فيها ثم سلّم إليه الاسم الأعظم ومواريث الأنبياء والسلاح وقال له :يا أبا عبد الله ، الله الله في الشيعة فقال أبو عبد الله :لا تركتهم يحتاجون إلى أحد ... (٢) .

بهذا العرض ننتهي من تصوير حياة الإمام الصادق مع أبيه لتبدأ مرحلة تصدّيه للإمامة ، وبها يبدأ عصر جديد من العمل والجهاد والإصلاح .

ـــــــــــــــــ

(١) راجع تيسير المطالب : ١٠٨ ـ ١٠٩ .

(٢) إثبات الهداة : ٥/٣٣٠ .

٥٩

الباب الثالث :

وفيه فصول :

الفصل الأوّل : ملامح عصر الإمام الصادقعليه‌السلام .

الفصل الثاني : دور الإمامعليه‌السلام في تثبيت معالم الرسالة .

الفصل الثالث : دور الإمامعليه‌السلام في بناء الجماعة الصالحة .

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

سبحانه وتعالى.

ثمّ يأمر الله الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باتّباع سياسة اللين في الدعوة إلى الهدى ودين الحقّ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ ) أي ادفع عدوانهم وسيّئاتهم بالعفو والصفح والإحسان ، وكلامهم البذيء بالكلام المنطقي الموزون :( نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ ) .

والله يعلم أنّ أعمالهم القبيحة وكلامهم البديء وأذاهم القاسي يؤلم الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّهعزوجل يدعو إلى عدم الرّد بالمثل ، بل يوجب أن يكون الردّ بالتي هي أحسن. وهذا خير سبيل لإيقاظ الغافلين والمخدوعين.

ثمّ نقرأ أمرا ربّانيا بالاستعاذة بالله من مكائد الشيطان( وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ ) . إنّه دعاء بالإنقاذ من تربّص الشيطان ومكره الخفي ، ولا يقف الدعاء عند همزات الشياطين بل يستمرّ في الاستعاذة من حضورهم عنده( وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ ) أي حضور الشياطين في اجتماعات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي يؤدّي إلى إغفال المجتمعين وإضلالهم.

ملاحظتان

١ ـ ما معنى همزات الشياطين؟

«الهمزات» جمع «همزة» بمعنى التحريك بقوّة ، وقد أطلقت هذه التسمية على حرف الهمزة ، لأنّها تؤدّي إلى حركة قويّة في نهاية الحلق.

وقال بعض المفسّرين : إنّ «الهمز» و «الغمز» و «الرمز» بمعنى واحد. إلّا أنّ الرمز ذو مرحلة خفيفة ، والغمز أشدّ منها. والهمز ، نهايتها في الشدّة(١) .

وبما أنّ الشياطين صيغة جمع ، فهي تضمّ شياطين الجنّ والإنس ، ظاهرها وخفيّها. ونقرأ في تفسير علي بن إبراهيم أنّ الإمامعليه‌السلام قال في معنى الآية :( قُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ ) : هو ما يقع في قلبك من وسوسة

__________________

(١) تفسير أبو الفتوح الرازي.

٥٠١

الشيطان»(١) .

فإذا كان الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع عصمته ومنزلته السامية عند الله ، يدعوه سبحانه بهذا الدعاء ، فما بالك بمسؤولية الآخرين؟ يجب أن يدعوا الله ألّا يكلهم إلى أنفسهم طرفة عين. وليس فقط ألّا يقعوا تحت تأثير همزات الشياطين ، بل ألّا يحضرهم الشياطين في مجالسهم. فعلى محبّي الحقّ والذّابين عنه وناشديه أن يفوّضوا أمرهم إلى الله ، ليحفظهم من وساوس الشياطين ومكائدهم.

٢ ـ ردّ السيّئة بالحسنة

من أبرز السبل المؤثّرة في مكافحة الأعداء الأشدّاء والمعاندين ردّ السيّئة بالحسنة ، فذلك يوقظ مشاعرهم ، فيحاسبون أنفسهم على ما اقترفوه من أعمال سيّئة ، ويعودون للصواب غالبا. ونجد في سيرة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمّة الهدىعليهم‌السلام هذا المنهج بشكل واضح ، حيث يردّون سيّئات الجنازة بالإحسان إليهم والإنعام عليهم ، فيكسبون ودّهم ، ويفجّرون في جوارحهم استجابة للحقّ ، ورفضا للباطل.

وقد ذكر القرآن المجيد هذه السيرة للمسلمين مرارا باعتبارها مبدأ أساسيّا لاقتلاع السيّئات ، ففي الآية الرّابعة والثلاثين من سورة فصّلت نقرأ( فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) .

والجدير بالذكر أنّ هذا الأمر خاص بحالات لا يسيء العدو الاستفادة من هذا المبدأ ، ويرى إحسانهم إليه أو عفوهم عنه ضعفا منهم ، فيزداد جرأة على العدوان والظلم.

وهذه السيرة لا تعني مساومة الأعداء أو التسليم لهم. وهذا قد يكون السبب في أنّ اللهعزوجل أمر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ذكر هذه التوصية مباشرة بالتعوّذ به من همزات الشياطين وحضورهم حوله.

* * *

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، المجلد الثّالث ، صفحة ٥٥٢.

٥٠٢

الآيتان

( حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠) )

التّفسير

طلب المستحيل :

تابعت هاتان الآيتان ما تناولته الآيات السابقة من عناد المشركين والمذنبين وتمسكهم بالباطل ، فتناولت حالهم الوخيم حين الموت. وأنّهم يستمرّون في باطلهم :( حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ ) (١) .

حينما يجبر المذنب والمشرك على ترك الدنيا لينتقل إلى عالم آخر ، تزول عنه حجب الغفلة والغرور ، فيرى بأمّ عينه مصيره المؤلم ، فلا مال ولا جاه ، فقد عاد كلّ ما يعنيه هباء في هباء ، وهو يشاهد اليوم عاقبة أمره ، وما ارتكبه من ذنوب

__________________

(١) «حتّى» هي في الواقع غاية لجملة محذوفة ، ويفهم من العبارات السابقة أن تقديرها : إنّهم يستمرّون على هذا الحال حتّى إذا جاء أحدهم الموت ، ويستدلّ على ذلك من عبارة «نحن أعلم بما يصفون» التي استفيد منها في الآيتين السابقتين (فتأمّلوا جيدا).

٥٠٣

ومعاص ، فيرتفع صراخه وعويله( قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ) .

ارجعني يا ربّ( لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ ) . ولكن قانون الخلق العادل لا يسمح بمثل هذه العودة ، لا يسمح بعودة الصالح ولا الطالح ، فيأتيه النداء الدامغ( كَلَّا ) .

( إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها ) . كلام لم يصدر من أعماقه. لم يصدر بإرادته ، إنّه يشبه كلام امرئ مسيء يردّد إذا أحسّ بالعقاب ، أو كلام قاتل حين إعدامه. ومتى هدأت العاصفة بوجههم عادوا لسابق أعمالهم القبيحة. وهذا يشبه ما ورد في الآية الثامنة والعشرين من سورة الأنعام( وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ ) .

وتشير الآية في نهايتها إلى عالم البرزخ الغامض بعبارة قصيرة ذات دلالة كبيرة( وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) .

* * *

بحوث

١ ـ من هو المخاطب في قوله تعالى :( رَبِّ ارْجِعُونِ ) ؟

بملاحظة كلمة «ربّ» التي هي مخفّف «ربّي» بمعنى إلهي ، تشير بداية الجملة إلى أنّ المخاطب هو الله سبحانه وتعالى ، إلّا أنّ مجيء «ارجعون» بصيغة الجمع يمنع أن يكون المخاطب هو اللهعزوجل . وهذا التعبيران في الجملة السابقة يثيران سؤالا وتساؤلا.

يرى عدد من المفسّرين أنّ المخاطب هو الله ، وصيغة الجمع هنا للاحترام والتعظيم. ولكن استعمال صيغة الجمع في مخاطبة المفرد ليس مألوفا في العربية ، خاصّة فيما مضى ، ولا نظير له في القرآن المجيد ، وبهذا يتّضح ضعف هذا

٥٠٤

التّفسير(١) .

وقال عدد آخر من المفسّرين : إنّ المخاطب هم الملائكة المكلّفون بقبض الأرواح. وكلمة «ربّ» نوع من الاستعانة بالله ، وهذا مألوف في حياتنا اليوميّة حيث يستغيث المرء بالله في الشدائد ، ثمّ يستنجد الناس ويصرخ : «يا ربّ! يا ربّ! انقذوني ، عجّلوا بمساعدتي» ويبدو هذا التّفسير أقرب إلى الصواب.

٢ ـ تفسير عبارة( فِيما تَرَكْتُ )

قرأنا في الآيات السابقة أنّ الكفّار يستنجدون بالله ليرجعهم إلى الدنيا ليعملوا صالحا فيما تركوا من الأعمال.

ويرى البعض في قوله تعالى :( فِيما تَرَكْتُ ) إشارة إلى أموال تركوها ، لاستعمال تعبير «تركة الميت» بصورة اعتيادية.

وروي حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام يؤكّد هذا المعنى إذ يقول : «من منع قيراطا من الزكاة فليس بمؤمن ولا مسلم ، وهو قوله تعالى :( رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ ) (٢) .

بينما يرى آخرون أنّ لها معنى أوسع ، هو إشارة إلى جميع الأعمال الصالحة التي تركها الإنسان. فيكون المعنى : رباه! أرجعني لاعوّض ما تركته من عمل صالح.

ولا يناقض الحديث السابق مع هذا التّفسير الشامل وهو مصداق واضح له ، علما بأنّ هؤلاء الأشخاص يندمون على ما فاتهم من فرص ، لهذا يرغبون في الرجوع إلى الحياة ليستفيدوا منها في العمل الصالح.

__________________

(١) يرى بعض المفسّرين في الآية التاسعة من سورة القصص في عبارة زوجة فرعون( قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ ) التي نطقت بها حين أخرج موسى من الماء نموذجا لهذا التعبير ، حيث في البداية كان المخاطب فرعون وآخر العبارة خاطبت حاشية فرعون وجنوده الذين كلّفوا بقتل أبناء بني إسرائيل.

(٢) الكافي ، وثواب الأعمال ، ومن لا يحضره الفقيه (حسبما نقله تفسير نور الثقلين ، المجلّد الثّالث ، ص ٥٥٢).

٥٠٥

ويبدو أنّ التّفسير الثّاني أقرب إلى الصواب ، وكلمة «لعليّ» الواردة في جملة( لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً ) يمكن أن تكون علامة على عدم اطمئنان هؤلاء المنحرفين من مستقبلهم ، وأنّ الندامة نتيجة لظروف خاصّة ، تظهر حين موتهم ، ولو عادوا إلى الدنيا لواصلوا أعمالهم ذاتها. وهذا هو عين الحقيقة.

٣ ـ ما الذي تنفيه «كلّا»؟

تأتي «كلّا» في العربية بمعنى الحيلولة ، وإبطال أثر أقوال المخاطب. وتقابل بالضبط كلمة «أي» التي تستخدم لتصديق الكلام.

وفي الجواب عن السؤال الوارد آنفا ، قال البعض : إنّ «كلّا» تنفي طلب الكفّار الرجوع إلى الحياة الدنيا ، أي إنّ طريق العودة ، مغلق ، ولا يمكنكم العودة أبدا.

وقال البعض الآخر : إنّ هذه الكلمة جاءت لنفي ادّعاءاتهم القائلة : لو عدنا إلى الدنيا لعوّضنا ما فاتنا من أعمال صالحة ، فيقال لهم : ما هذا إلّا ادّعاء باطل ، ولو عدتم لواصلتم العمل بنفس نهجكم السابق.

ولا ضير في أن تكون هذه الكلمة ـ في الوقت ذاته ـ إشارة إلى نفي إثنين من المعاني. كما يجب ملاحظة أنّ هذا الطلب ـ رغم وروده في الآية محل البحث من قبل المشركين فقط ـ ليس خاصّا بهم ، بل هو طلب جميع المذنبين والظالمين والمنحرفين ، إذ يندمون على ما فاتهم لحظة موتهم ، حين يرون مصيرهم الأليم ماثلا لأعينهم ، فيرجون الله ليعيدهم إلى الحياة الدنيا ، إلّا أنّ الله يزجرهم بقوله : «كلّا».

٤ ـ ما هو عالم البرزخ؟

وأين هو؟

وما هو الدليل لإثبات وجود هذا العالم بين الدنيا والآخرة؟

وهل يكون البرزخ للجميع ، أم لمجموعة معيّنة؟

٥٠٦

وأخيرا ماذا سيكون وضع المؤمنين والصالحين والكفّار والمسيئين فيه؟

هذه أسئلة أشارت الآيات والأحاديث السابقة إليها ، لهذا نجيب عنها حسبما يسمح به وضع هذا الكتاب.

تعني كلمة «البرزخ» في الأصل الشيء الذي يقع حائلا بين شيئين ، ثمّ استعملت لكلّ ما يقع بين أمرين. ولهذا أتت كلمة البرزخ للدلالة على عالم يقع بين عالم الدنيا والآخرة.

والدليل على وجود عالم البرزخ ، أو عالم القبر ، أو عالم الأرواح ، نجده في الأدلّة النقلية ، فقد دلّ عليه صريح آيات القرآن أحيانا وظاهرها أحيانا أخرى.

والآية موضع البحث( وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) ظاهرة في وجود عالم البرزخ. رغم أنّ البعث رغب في القول بأنّ كلمة «البرزخ» في هذه الآية تعني العائق والمانع من العودة إلى الدنيا ، غير أنّ هذا المعنى يبدو غريبا ، لأنّ عبارة( إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) دليل على وقوع عالم البرزخ بين الدنيا والآخرة ، وليس بين الإنسان والدنيا.

ومن الآيات التي تصرّح بوجود مثل هذا العالم ، الآيات الخاصّة بحياة الشهداء ، مثل( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) الآية (١٦٩) من سورة آل عمران ، والخطاب فيها موجّه إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . أمّا الآية (١٥٤) من سورة البقرة فإنّها خطاب لجميع المؤمنين :( وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ ) .

وعالم «البرزخ» ليس للمؤمنين ذوي الدرجة الرفيعة كالشهداء فقط ، بل للكفّار الطغاة كفرعون وأعوانه أيضا ، وهذا ما صرّحت به الآية (٤٦) من سورة المؤمن( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ ) .

وذكرت آيات أخرى عالم البرزخ ولكن لا تصل إلى صراحة وظهور الآيات

٥٠٧

السابقة.

وما يجب الانتباه إليه في موضع البرزخ هو أنّ الآيات ـ باستثناء الآية التي نحن بصددها والتي ذكرته بشكل عامّ ـ استعرضت البرزخ بشكل خاصّ ، كما في ذكره عن الشهداء أو آل فرعون.

إلّا أنّ الواضح أنّه لا خصوصيّة لآل فرعون لأنّ في العالم الكثير من أمثالهم ، ولا للشهداء ، لأنّ القرآن الكريم اعتبر النّبيّين والصدّيقين والصالحين مع الشهداء ، كما جاء في الآية (٦٩) من سورة النساء( فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ ) .

ولنا حديث عن كون البرزخ لعامّة الناس أو لفئة منهم ، سنورده في ختام هذا البحث إن شاء الله.

أمّا الرّوايات : فهناك أحاديث كثيرة في كتب الفريقين الشيعة والسنّة تتحدّث بعبارات مختلفة عن عالم البرزخ ، وعالم القبر ، وعالم الأرواح. أي تتحدّث عن العالم الذي يفصل بين الدنيا والآخرة ، ومنها :

١ ـ جاء في حديث معروف ذكر في الكلمات القصار في نهج البلاغة أنّ عليّاعليه‌السلام حينما وصل إلى جبانة الكوفة عند عودته من حرب صفين ، توجّه إلى القبور ونادى الأموات قائلا : «يا أهل الديار الموحشة والمحال المقفرة والقبور المظلمة! يا أهل التربة! يا أهل القربة! يا أهل الوحدة! يا أهل الوحشة! أنتم لنا فرط سابق ونحن لكم تبع لا حق! أمّا الدور فقد سكنت ، وأمّا الأزواج فقد نكحت ، وأمّا الأموال فقد قسّمت ، هذا خبر ما عندنا فما خبر ما عندكم»؟

ثمّ التفت إلى أصحابه فقال : «أما لو اذن لهم في الكلام لأخبروكم أنّ خير الزاد التقوى»(١) .

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، رقم «١٣٠».

٥٠٨

وبهذا يتّضح عدم إمكان حمل هذه العبارات على المجاز والكناية ، بل هي تخبرنا عن حقيقة وجود حياة البرزخ بعد الموت ، وتمكّن الموتى ـ لو سمح لهم ـ من الحديث إلينا.

٢ ـ ونقرأ حديثا آخر رواه الأصبغ بن نباتة يذكر فيه أمير المؤمنين عليعليه‌السلام أنّه خرج من الكوفة ، ومرّ حتّى أتى الغريين فجازه ، فلحقناه وهو مستلق على الأرض بجسده ، ليس تحته ثوب.

فقال له : قنبر : يا أمير المؤمنين ألا أبسط ثوبي تحتك؟

قال : لا ، هل هي إلّا تربة مؤمن أو مزاحمته في مجلسه؟

قال الأصبغ : فقلت : يا أمير المؤمنين ، تربة مؤمن قد عرفناه كانت أو تكون.

فما مزاحمته في مجلسه؟

فقال : «يا ابن نباتة ، لو كشف لكم لرأيتم (في المختصر المطبوع ص ٤ : لألفيتم) أرواح في هذا الظهر حلقا يتزاورون ويتحدّثون ، إنّ في هذا الظهر روح كلّ مؤمن ، وبوادي برهوت نسمة كلّ كافر»(١) .

٣ – وجاء في حديث آخر عن الإمام علي بن الحسينعليه‌السلام قوله : «إنّ القبر إمّا روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النّار»(٢) .

٤ – وروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «البرزخ القبر وهو الثواب والعقاب بين الدنيا والآخرة والله ما نخاف عليكم إلّا البرزخ»(٣) .

٥ – وجاء في كتاب الكافي أنّه سئل الإمام : وما البرزخ؟ فأجابه : «القبر من حين موته إلى يوم القيامة»(٤) .

__________________

(١) بحار الأنوار ، المجلّد السادس ، صفحة ٢٤٣.

(٢) تفسير نور الثقلين ، المجلّد الثّاني ، صفحة ٥٥٣.

(٣) المصدر السابق.

(٤) المصدر السابق ، صفحة ٥٥٤.

٥٠٩

٦ ـ وروى الشيخ الكلينيرحمه‌الله في الكافي عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن الحسن بن محبوب ، عن أبي ولّاد الحنّاط ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام ، قال : قلت له : جعلت فداك ، يروون أنّ أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر حول العرش ، فقال: «لا ، المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طير ، ولكن في أبدان كأبدانهم»(١) .

هذا الحديث يشير إلى مصير روح الإنسان ، فهي من جهة تشبه هذا الجسم المادّي ، إلّا أنّه يمتلك نوعا من التجرّد البرزخي.

٧ ـ كما نقرأ في حديث آخر جاء في كتاب الكافي عن الإمام الصادقعليه‌السلام : سألته عن أرواح المؤمنين فأجاب : «في حجرات في الجنّة ، يأكلون من طعامها ويشربون من شرابها. ويقولون ربّنا أقم لنا الساعة وأنجز لنا ما وعدتنا»(٢) .

٨ ـ روى صاحب الكافي عن سهل بن زياد ، عن إسماعيل بن مهران ، عن درست بن أبي منصور ، عن ابن مسكان ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام ، قال : «إنّ الأرواح في صفة الأجساد في شجرة في الجنّة تعارف ، فإذا تساءل قدّمت الروح على الأرواح تقول : دعوها فإنّها قد أفلتت من هول عظيم ، ثمّ يسألونها : ما فعل فلان؟ وما فعل فلان؟ فإن قالت لهم : تركته حيّا ارتجوه ، وإن قالت لهم : قد هلك ، قالوا : قد هوى هوى»(٣) .

تقصد الأحاديث أعلاه بالجنّة والنّار البرزخيتين ، وليس العائدتين ليوم القيامة ، والفرق بينهما كبير.

والأحاديث في هذا المجال عديدة ، وقد رتّبت في أبواب مختلفة نشير إلى قسم منها :

__________________

(١) كتاب الكافي ، حسبما نقله بحار الأنوار ، المجلّد السادس ، صفحة ٢٦٨.

(٢) بحار الأنوار ، المجلّد السادس ، صفحة ٢٦٩.

(٣) المصدر السابق.

٥١٠

أحاديث تتحدّث عن سؤال القبر وعذابه.

وأحاديث تتناول اتّصال الأرواح مع أسرها ومشاهدة وضعهم.

أحاديث تتحدّث عن ليلة المعراج واتّصال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أرواح الأنبياء والمرسلين.

أحاديث تنصّ على ابتلاء الإنسان بنتائج أعماله سواء كانت طيّبة أمّ سيّئة.

بعد موته وأمثالها(١) .

البرزخ والاتّصال بعالم الأرواح

رغم أنّ الكثير ممّن يدّعون بأنّهم على اتّصال بعالم الأرواح كاذبون ، أو أنّهم يعانون نوعا من الوهم والخيال ، لكن ثبت أنّ الاتّصال بعالم الأرواح ممكن ، وقد تحقّق فعلا لبعض العلماء ، حتّى أنّهم توصّلوا إلى بعض الحقائق عن طريق الأرواح.

وهذه القضيّة بذاتها دليل واضح على وجود عالم البرزخ وحقيقته ، فهي تبيّن أنّ بعد عالم الدنيا والموت وقبل القيامة في الآخرة ، هناك عالم آخر قائم بذاته(٢) .

كما أنّ الأدلّة العقليّة لإثبات تجرّد الروح وبقائها بعد فناء الجسم بنفسها دليل آخر على وجود عالم البرزخ (فتأمّلوا جيدا).

صورة عن عالم البرزخ

يتّفق علماء الإسلام على أصل وجود البرزخ وما يقع فيه من نعمة ونقمة مع بعض اختلافات جزئيّة بين هؤلاء العلماء ، ويتّفق علماء السنّة والشيعة على وجود البرزخ باستثناء عدد قليل غير ملحوظ.

__________________

(١) جمع هذه الأحاديث المرحوم السيّد عبد الله شبّر في كتاب سمّاه «تسلية الفوائد في بيان الموت والمعاد».

(٢) للاطلاع أكثر بهذا الصدد ، راجع مسألة الاتّصال بالأرواح في كتاب (عودة الروح والاتّصال بها) وكتاب (العالم بعد الموت).

٥١١

والدليل على الاتّفاق بين هؤلاء العلماء واضح ، وهو تصريح الآيات القرآنية بوجود البرزخ وما فيه من نعمة وعذاب ، كما أسلفنا. ومنها ما صرّح بذلك في الحديث عن الشهداء :( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (١) وليس فقط هذه المجموعة من الصالحين قد أنعم الله عليها ، بل إنّ مجموعة من أسوأ الطغاة والمجرمين يعذّبهم الله ، كما أنّ تعذيب آل فرعون بعد الموت وقبل القيامة قد أشارت إليه الآية ٤٦ من سورة غافر (المؤمن).

والأحاديث متواترة بهذا الصدد ، فلا نقاش في وجود عالم البرزخ أساسا ، والمهمّ أن نعرف حياة البرزخ وشكلها ، فقد ذكرت له صورة مختلفة ، أوضحها أنّ أرواح البشر بعد ترك هذه الدنيا ، تدخل أجساما لطيفة سامية عن آثار هذه المادّة القذرة ، إلّا أنّها على شكل أجسامنا ، ويقال لكلّ منها (الجسم المثالي) وهو ليس مجردا تمام التجرية ، ولا هو مادّيا محضا. إنّه يمتاز بتجرّد برزخي معيّن ، وشبّهه بعضهم بما عليه الروح في أثناء ما يراه النائم ، إذ تسرّ الروح رؤية النعم ، وتعذّبها مشاهدة المناظر المؤلمة ، ولذلك أثّر في جسمنا هذا ، إذ نبكي عند رؤية حلم مزعج ، ونفزع مذعورين من هول ما نرى ، أو نضحك من أعماقنا من طرافة ما نحلم به في نومنا.

ويرى جماعة أنّ الروح تقوم بنشاط في الجسم المثالي ، بل يرون أكثر من ذلك ، ألا وهو قدرة الأرواح القويّة على اكتساب حالة التجرّد البرزخي في يقظة الإنسان أيضا. أي تنفصل الروح عن الجسم. وتتحرّك في الجسم المثالي برغبتها أو بالتنويم المغناطيسي ، تتحرّك في العالم لتطّلع على بعض القضايا(٢) .

__________________

(١) سورة آل عمران ، ١٦٩ و ١٧٠.

(٢) يصرّح العلّامة المجلسي في تناوله هذا الموضوع في بحار الأنوار : إنّ تشبيه البرزخ بالحلم وما يتراءى للإنسان وارد في

٥١٢

بل إنّ البعض قال بوجود الجسم المثالي في جسم كلّ إنسان ، وإنّه ينفصل عنه في بداية الحياة البرزخية ، ويمكن أن يقع ذلك كما قلنا في هذه الدنيا.

وإذا رفضنا جميع هذه الصفات للجسم المثالي ، فلا يمكن نفي الموضوع أصلا ، بسبب إشارة أحاديث عديدة إليه ، ولانعدام المانع العقلي منه.

وبهذا يتّضح جواب الاعتراض القائل بأنّ الإعتقاد بالجسم المثالي يستوجب الإعتقاد بالتناسخ ، الذي يعني انتقال الروح من جسم إلى آخر.

لقد ردّ الشيخ البهائي هذا الإحتجاج بوضوح ، فقال : إنّ التناسخ الذي يرى بطلانه جميع المسلمين ، هو عودة الروح بعد تفسّخ الجسم الذي كانت فيه إلى جسم آخر في هذه الدنيا.

أمّا اختصاص الروح بالجسم المثالي في عالم البرزخ حتّى يوم القيامة ، ثمّ عودتها إلى الجسم الأوّل بأمر من الله تعالى لا علاقة له بالتناسخ ، والسبب أنّنا ننفي التناسخ بشدّة ونكفّر الذي يعتقد به ، هو قولهم بأزليّة الأرواح وانتقالها الدائمي من جسم إلى آخر ، وإنكارهم المعاد الجسماني في عالم الآخرة(١) .

والقول بوجود الجسم المثالي في باطن الجسم المادّي يجلي الجواب عن هذا الإشكال ، إذ لا تنتقل الروح من جسم إلى آخر ، بل تترك بعض قوالبها ، وتستمرّ في قالب آخر في حياتها البرزخية.

والسؤال الآخر هو أنّه يفهم من آيات قرآنية أن لا حياة برزخية لمجموعة من الناس ، كما جاء في الآية الخامسة والخمسين والسادسة والخمسين من سورة الروم!( يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ ، وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ

__________________

أكثر من الروآيات ، ويمكن أن تكون للنفوس القوية السامية عدة أجسام مثالية ، وبهذا تفسر الأحاديث القائلة بحضور الأئمة الميامين لدى المحتضرين حين نزعهم الأخير. (بحار الأنوار ، المجلد السادس ، صفحة ٢٦١).

(١) بحار الأنوار ، المجلد السادس ، صفحة ٢٧٧.

٥١٣

وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) .

وجواب هذا الاعتراض ، جاء في أحاديث فحواها أنّ الناس ثلاث فئات : فئة مؤمنة مخلصة في إيمانها ، وفئة مخلصة في كفرها ، وفئة متوسطة ومستضعفة.

وإنّ عالم البرزخ خاص بالفئتين الأولى والثّانية ، أمّا الثّالثة فتعبر عالم البرزخ في حالة من عدم الاطلاع (لاطلاع أوسع على هذه الأحاديث يراجع المجلّد السادس من بحار الأنوار ، بحث أحوال البرزخ والقبر).

* * *

٥١٤

الآيات

( فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (١٠٤) )

التّفسير

جانب من عقاب المسيئين :

تحدّث الآيات السابقة عن عالم البرزخ ، وأعقبتها آيات تناولت القيامة بالبحث ، وتناولت كذلك جانبا من وضع المذنبين في عالم الآخرة.

فهي تقول أوّلا :( فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ ) من المعلوم ـ بالاستناد إلى آيات القرآن الكريم ـ أنّ النفخ في الصور يجري مرّتين. أولاهما في نهاية هذا العالم ، حيث يموت من في الأرض والسماوات.

وفي ثانيتهما يبدأ بعث من في القبور ، ليعودوا لحياة جديدة ، وليستعدّوا للحساب والجزاء.

٥١٥

«النفخ في الصور» يعني النفخ في البوق ، إلّا أنّ هذه العبارة لها مفهوم خاصّ سنبيّنه إن شاء الله في شرح الآية ٦٨ من سورة الزمر.

وعلى كلّ حال ، فإنّ الآية السابقة أشارت إلى ظاهرتين من ظواهر يوم القيامة :

أولاهما : انتهاء مسألة النسب ، لأنّ رابطة الاسرة والقبيلة التي تسود حياة الناس في هذا العالم تؤدّي في كثير من الحالات إلى نجاة المذنبين من العقاب ، إذ يستنجدون بأقربائهم في حلّ مشاكلهم. أمّا الوضع يوم القيامة فيختلف ، حيث كلّ إنسان وعمله ، فلا معين له ، ولا نفع في ولده ، أو أخيه ، أو والده.

وثانيتهما : سيطرة الخوف على الجميع ، فلا يسأل أحد عن حال غيره بسبب الخوف الشديد من العقاب الإلهي ، هو يوم كما أطّلعنا عليه في مطلع سورة الحجّ :

( يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ ) كما يحتمل أن تقصد عبارة( وَلا يَتَساءَلُونَ ) عدم طلب أحدهم العون من الآخر ، لأنّهم جميعا يعرفون عدم جدوى ذلك.

وقال بعض المفسّرين : إنّ المراد من هذه العبارة هي عدم السؤال عن الأنساب فهي تأكيد لقوله تعالى :( فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ ) .

ويبدو التّفسير الأوّل أوضح من غيره ، رغم عدم التناقض فيما بينها ، ويمكن أن تشير العبارة السابقة إلى هذه المعاني كلّها.

ورأى مفسّرون آخرون أنّه يستفاد من عدّة آيات تساؤل الناس يوم القيامة ، كما جاء في الآية (٢٧) من سورة الصافات ، حيث تساءل المذنبون لدى مواجهة النّار( وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ ) . كما تحدّثت هذه السورة في الآية الخمسين عن أهل الجنّة ساعة استقرارهم في الجنّة متقابلين ، فقالت :( فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ ) إنّهم تساءلوا عن رفاق لهم في الحياة الدنيا انحرفوا

٥١٦

عن السبيل السوي فاقتيدوا إلى النّار.

كما جاء نظير هذا المعنى في الآية (٢٥) من سورة الطور ، فكيف تنسجم هذه الآيات مع الآية موضع البحث ، وهي تنصّ على عدم تساؤل الناس يوم القيامة؟.

لو دقّقنا مليّا في مضمون الآيات محلّ البحث لاتّضح لنا جواب هذا السؤال ، فالآيات الخاصّة بإثبات سؤال بعضهم للآخر إنّما تتحدّث في حالة استقرارهم في الجنّة ، أو في النّار. في وقت تنفي الآيات محل البحث تساؤل الناس حين البعث ، حيث يسيطر الرعب على الجميع. حتّى أنّ الناس ينسون جميع من حولهم ويذهلون عنهم من هول الحشر. وبتعبير آخر : للقيامة مواقف ولكلّ موقف شأن معيّن ، والإشكال المذكور نجم عن عدم تشخيص هذه المواقف.

وبعد وقوع القيامة تبدأ مرحلة الحساب وقياس الأعمال بميزان خاصّ بيوم القيامة :( فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) .

«الموازين» جمع «ميزان» وهو وسيلة للقياس. وكما قلنا سابقا : إنّ الميزان لا يعني ما نعرفه في هذه الدنيا لوزن الموادّ ، إنّ الميزان في هذه الآية يعني وسيلة ملائمة لقياس قيمة أعمال الإنسان ، أي : للميزان مفهوم واسع يشمل جميع وسائل القياس. وكما ورد في الأحاديث المختلفة أنّه ميزان تقاس به الأعمال والناس ، وهم قادة الإسلام الكبار ، في الحديث : «إنّ أمير المؤمنين والأئمّة من ذريته هم الموازين»(١) .

وعلى هذا فإنّ الرسل وأوصياءهم هم الذين يقاس الناس وأعمالهم بهم ، ليتبيّن إلى أي درجة يشبهونهم. وبهذا يتميّز الناس ثقيلهم من خفيفهم ، وثمينهم من تافههم ، وعالمهم من جاهلهم. كما يتّضح لنا سرّ ذكر الموازين بصيغة الجمع ، لأنّ قادة الناس الكبار في السابق ـ وهم موازين القياس ـ قد تعدّدوا في التاريخ.

__________________

(١) بحار الأنوار ، المجلّد السابع ، صفحة ٢٥١ (الطبعة الجديدة).

٥١٧

ويمكن أن يكون الأنبياء والأئمّة وعباد الله المخلصون قدوة في مجال معيّن أو أكثر على وفق الظروف التي مرّوا بها ، فاشتهروا ببعض الصفات دون أخرى ، فواحدهم ميزان بما اشتهر به من حسنات وخصال حميدة.

( وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ ) وهم الذين فقدوا الإيمان والعمل الصالح ، فوزنهم خفيف يوم القيامة ، لأنّهم خسروا رأسمال وجودهم :( فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ ) عبارة( خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ) تصريح بحقيقة خسران المذنبين لأكبر رأسمال لهم ـ أي وجودهم ـ في سوق تجارة الدنيا دون أن يحصلوا على مقابل.

وتشرح الآيات التالية عذابهم الأليم( تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ ) ألسنة النّار ولهيبها المحرق تضرب وجوههم كضرب السيف( وَهُمْ فِيها كالِحُونَ ) وهم من شدّة الألم وعذاب النّار ، في عبوس واكفهرار.

وكلمة «تلفح» مشتقّة من «لفح» على وزن «فتح» وتعني في الأصل ضربة السيف ، وقد وردت هنا كناية ، لأنّ لهيب النّار ، أو نور الشمس المحرقة ، وريح السموم ، تضرب وجه الإنسان كضرب السيف.

وأمّا كلمة «كالح» فإنّها مشتقّة من «كلوح» على وزن «فعول» بمعنى التعبيس واكفهرار الوجه. وقد فسّره عدد كبير من المفسّرين بتقلّص في جلد الوجه بحيث يبقى الثغر مفتوحا لا يمكن إغلاقه(١) .

* * *

__________________

(١) تفسير القرطبي ، وتفسير الفخر الرازي ، وتفسير مجمع البيان ، وتفسير الميزان ، الآيات موضع البحث.

٥١٨

ملاحظات

١ ـ اليوم الذي لا يعتنى فيه بالأنساب :

المفاهيم التي تسود حياة الإنسان المادّية في هذا العالم ، ستتغيّر في عالم الآخرة ، ومنها العلاقات الودّية ، والأواصر الأسريّة التي تحلّ مشاكل كثيرة في هذه الحياة ، وأحيانا تشكّل النظام الذي يسيطر على سائر العلاقات الاجتماعية.

وإذا كان الانتساب للقبائل والأسر في الدنيا لا يعارض الإيمان بالله تعالى والعمل الصالح ، فإنّه ينتفي يوم القيامة ، فلا انتساب لشخص أو طائفة أو قبيلة. وإذا كان الناس هاهنا يساعد أحدهم الآخر ، ويحلّ له مشاكله وينتصر له ويفخر به ، فإنّهم ليسوا كذلك يوم القيامة ، فلا خبر عن الأموال الكثيرة ، ولا عن الأولاد( يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) (١) .

حتّى من ينتسبون إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاضعون لهذا الحكم ، ولهذا نلاحظ أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة الأطهار طردوا عنهم من كان من المقرّبين في النسب الهاشمي ، إمّا لعدم إيمانه ، أو لانحرافه عن الإسلام الأصيل ، وأظهروا تنفّرهم وبراءتهم منه. رغم أنّه روي عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «كل حسب(٢) ونسب منقطع يوم القيامة إلّا حسبي ونسبي»(٣) .

يقول العلّامة الطباطبائي (رضوان الله عليه) في الميزان : إنّ هذا الحديث هو نفسه الذي رواه بعض محدّثي أهل السنّة في كتبهم ، مرّة عن عبد الله بن عمر ، وأخرى عن عمر بن الخطاب ، وأحيانا عن صحابة آخرين للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

في الوقت الذي نرى أنّ الآية ـ موضع البحث ـ ذات طابع عامّ ، فهي تتحدّث

__________________

(١) الشعراء ، ٨٩.

(٢) الحسب : كلّ فخر للإنسان ، بالآباء والأجداد. ويعني أحيانا الخلق السليم للشخص ذاته ، وهنا قصد المعنى الأوّل. (يراجع لسان العرب في كلمة حسب).

(٣) مجمع البيان آخر الآية موضع البحث.

٥١٩

عن انقطاع جميع الأنساب يوم القيامة ، وهذا ما تؤازره المبادئ القرآنية وسيرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في معاملة المنحرفين التي تفيد أنّه لا فرق بين الناس في هذا المجال.

لهذا نقرأ في حديث رواه ابن شهر آشوب في كتابه المناقب عن طاووس اليماني

عن الإمام زين العابدينعليه‌السلام أنّه قال : «خلق الله الجنّة لمن أطاع وأحسن ولو كان عبدا حبشيّا ، وخلق النّار لمن عصاه ولو كان سيّدا قرشيا»(١) .

وما ذكر لا ينفي احترام السادة المتّقين من آل الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهذا الاحترام في حقيقته احترام للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما جاء في القرآن والحديث في فضلهم ومنزلتهم ناظر حسب الظاهر إلى هذا المعنى.

٢ ـ حكاية الأصمعي المؤثّرة :

ومن المناسب هنا ذكر حكاية نقلها «الغزالي» في كتابه «بحر المحبّة» عن الأصمعي ، تؤيّد ما ذهبنا إليه وذات مسائل جديرة بالاهتمام.

يقول الأصمعي «كنت أطوف حول الكعبة في ليلة مقمرة ، فسمعت صوتا حنونا لرجل يناجي ربّه. بحثت عن صاحبه وإذا به شاب جميل رشيق القامة يبدو عليه الطيب. وقد تعلّق بأستار الكعبة ، وكان يقول في مناجاته :

يا سيّدي ومولاي ، نامت العيون وغابت النجوم ، وأنت ملك حيّ قيّوم ، لا تأخذك سنة ولا نوم ، غلقت الملوك أبوابها ، وأقامت عليها حرّاسها وحجّابها ، وقد خلا كلّ حبيب بحبيبه ، وبابك مفتوح للسائلين ، فها أنّا سائلك ببابك مذنب فقير ، خاطئ مسكين ، جئتك أرجو رحمتك يا رحيم ، وأن تنظر إليّ بلطفك يا كريم!

ثمّ أنشد :

__________________

(١) مناقب ابن شهر آشوب (وفق ما نقله تفسير نور الثقلين ، المجلّد الثّالث ، ص ٥٦٤).

٥٢٠

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550