الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٠

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 550

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 550
المشاهدات: 197240
تحميل: 5312


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 550 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 197240 / تحميل: 5312
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 10

مؤلف:
العربية

فمثلا نقرأ في شأن قوم لوط الذين لم يؤمنوا بنبيّهم أبدا :( وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ) (1) ونقرأ في سورة الفرقان في الآية 31 :( وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ ) .

4 ـ جبر البيئة خرافة

تبيّن قصّة السّحرة في الآيات المذكورة أنّ القول بأنّ البيئة تملي أو تفرض على صاحبها مساره في الحياة ليس سوى وهم فارغ ، فإنّ الإنسان فاعل مختار ، وصاحب إرادة حرّة ، فإذا صمّم في أي وقت فإنّه يستطيع أن يغيّر مسيره من الباطل إلى الحقّ ، حتّى لو كان كلّ الناس في تلك البيئة غارقين في الذنوب والضلال ، فالسّحرة الذين كانوا لسنين طويلة في ذلك المحيط الملوّث بالشرك ، وكانوا يرتكبون بأنفسهم ويعملون الأعمال المتوغّلة في الشرك عند ما صمّموا على قبول الحقّ والثبات عليه بعشق ، لم يخافوا أي تهديد ، وحقّقوا هدفهم ، وعلى قول المفسّر الكبير العلّامة الطبرسي : (كانوا أوّل النهار كفّارا سحرة ، وآخر النهار شهداء بررة)(2) .

ومن هنا يتّضح ـ أيضا ـ مدى ضعف وعدم واقعيّة أساطير الماديين ، وخاصة الماركسيين حول نشأة الدين وتكوّنه ، فإنّهم اعتبروا أساس كلّ حركة هو العامل الاقتصادي ، في حين أنّ الأمر هنا كان بالعكس تماما ، لأنّ السّحرة قد حضروا حلبة الصراع نتيجة ضغط أجهزة فرعون من جانب ، والإغراءات الاقتصادية من جانب آخر ، إلّا أنّ الإيمان بالله قد محا كلّ هذه الأمور ، فقد انهار المال والجاه الذي وعدهم فرعون به عند أعتاب إيمانهم ، ووضعوا أرواحهم العزيزة هديّة لهذا العشق!

* * *

__________________

(1) الأعراف ، 84.

(2) مجمع البيان ، ج 4 ، ص 464. ذيل الآية (126) من سورة الأعراف.

٤١

الآيات

( وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (79) )

التّفسير

نجاة بني إسرائيل وغرق الفراعنة :

بعد حادثة المجابهة بين موسى والسّحرة ، وانتصاره الباهر عليهم ، وإيمان جمع عظيم منهم ، فقد غزا موسىعليه‌السلام ودينه أفكار الناس في مصر ، بالرغم من أنّ أكثر الأقباط لم يؤمنوا به ، إلّا أنّ هذا كان ديدنهم دائما ، وكان بنو إسرائيل تحت قيادة موسى مع قلّة من المصريين في حالة صراع دائم مع الفراعنة ، ومرّت أعوام على هذا المنوال ، وحدثت حوادث مرّة موحشة وحوادث جميلة مؤنسة ، أورد بعضها القرآن الكريم في الآية (127) وما بعدها من سورة الأعراف.

وتشير الآيات التي نبحثها إلى آخر فصل من هذه القصّة ، أي خروج بني إسرائيل من مصر ، فنقول :( وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي ) فتهيّأ بنو

٤٢

إسرائيل للتوجّه إلى الوطن الموعود (فلسطين) ، إلّا أنّهم لمّا وصلوا إلى سواحل النيل علم الفراعنة بهم ، فتعقّبهم فرعون في جيش عظيم ، فرأى بنو إسرائيل أنفسهم محاصرين بين البحر والعدو ، فمن جهة نهر النيل العظيم ، ومن جهة أخرى العدوّ القوي السّفاك الغاضب.

إلّا أنّ الله الذي كان يريد إنقاذ هذه الأمّة المظلومة المحرومة المؤمنة من قبضة الظالمين ، وأن يهلك الظالمين في البحر ، أمر موسى أن امض بقومك( فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً ) طريقا متى ما مضيت فيه فـ( لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى ) .

الطريف هنا أنّ الطريق لم يفتح وحسب ، بل كان طريقا يابسا صلبا بأمر الله ، مع أنّ مياه النهر أو البحر إذا ما انحسرت جانبا فإنّ قيعانها تبقى عادة غير قابلة للعبر عليها.

يقول الراغب في مفرداته : «الدّرك» أقصى عمق البحر ، ويقال للحبل الذي يوصل به حبل آخر ليدرك به الماء «درك» ، وكذلك يقال للخسارة التي تصيب الإنسان «درك» ويقال «دركات النّار» ـ في مقابل درجات الجنّة أي حدودها وطبقاتها السفلى.

ولكن مع ملاحظة أنّ بني إسرائيل ـ وطبقا للآية (61) من سورة الشعراء ـ لمّا علموا بخبر مجيء جيش فرعون ، قالوا لموسى :( إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ) ، وهذا يعني أنّ المراد من الدرك في الآية هنا ، أنّ جيش فرعون سوف لن يصل إليكم ، والمراد من (لا تخشى) أنّ أي خطر لا يهدّدكم من ناحية البحر.

وبذلك فإنّ موسى وبني إسرائيل قد ساروا في تلك الطرق التي فتحت في أعماق البحر بعد انحسار المياه عنها. في هذه الأثناء وصل فرعون وجنوده إلى ساحل البحر فدهشوا لهذا المشهد المذهل المثير غير المتوقّع ، ولذلك أعطى فرعون أمرا لجنوده باتّباعهم ، وسار هو أيضا في نفس الطريق :( فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ

٤٣

بِجُنُودِهِ ) (1) .

ممّا لا ريب أنّ جيش فرعون كان مكرها في البداية على أن يسير في هذا المكان الخطير المجهول ، ويتعقّب بني إسرائيل ، وكانت مشاهدة مثل هذه المعجزة العجيبة كافية على الأقل أن يمتنعوا عن الاستمرار في السير في هذا الطريق ، إلّا أنّ فرعون الذي ركب الغرور والعصبية رأسه ، وغرق في بحر العناد والحماقة ، لم يهتمّ لهذه المعجزة الكبيرة ، وأمر جيشه في المسير في هذه الطرق البحرية المربية حتّى دخل من هذه الجهة آخر جندي فرعوني ، في وقت خرج من الجانب الآخر آخر فرد من بني إسرائيل.

في هذه الأثناء صدر الأمر لأمواج المياه أن ترجع إلى حالتها الأولى ، فوقعت عليهم الأمواج كما تسقط البناية الشامخة إذا هدّمت قواعدها( فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ ) (2) . وبذلك فقد غاص ملك جبّار ظالم مع جنوده وجيشه القهّار في وسط أمواج الماء ، وأصبحوا طعمة جاهزة لسمك البحر!.

أجل ،( وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى ) .

صحيح أنّ جملة (أضلّ) وجملة (ما هدى) تعطي معنى واحدا تقريبا ، وربّما كان هذا هو السبب في أن يعتبرها بعض المفسّرين تأكيدا ، إلّا أنّ الظاهر أنّ هناك تفاوتا فيما بينهما ، وهو أنّ (أضلّ) إشارة إلى الإضلال ، و (ما هدى) إشارة إلى عدم الهداية بعد وضوح الضلالة.

وتوضيح ذلك : إنّ القائد قد يخطئ أحيانا ، ويجرّ أتباعه إلى طريق منحرف ، إلّا أنّه بمجرّد أن ينتبه إلى خطئه يعيدهم إلى طريق الصواب. إلّا أنّ فرعون كان

__________________

(1) وهناك احتمال آخر في تفسير الجملة آنفة الذكر ، وهو أنّ الباء في (بجنوده) قد تكون بمعنى (مع) ، ويصبح مجموع الجملة بهذا المعنى : إنّ فرعون قد عقّب بني إسرائيل مع جنوده ، مع أنّه لا يوجد اختلاف بين هذين التّفسيرين.

(2) «اليمّ» يعني البحر والنهر العظيم. ويعتقد بعض المحقّقين أن هذه لغة مصرية قديمة وليست عربية. ولمزيد الإيضاح راجع هامش ذيل الآية (136) من سورة الأعراف.

٤٤

عنيدا إلى الحدّ الذي لم يبيّن لقومه الحقيقة حتّى بعد وضوح الضلال ، ومشاهدته ، واستمرّ في توجيه هؤلاء إلى المتاهات حتّى هلك وإيّاهم.

وعلى كلّ حال ، فإنّ هذه الجملة تنفي كلام فرعون الوارد في الآية (29) من سورة غافر حيث يقول :( وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ ) فإنّ هذه الحوادث بيّنت أنّ هذه الجملة كذبة كبيرة كأكاذيبه الأخرى.

* * *

٤٥

الآيات

( يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (82) )

التّفسير

طريق النجاة الوحيد :

تعقيبا على البحث السابق في نجاة بني إسرائيل بصورة إعجازية من قبضة الفراعنة ، خاطبت هذه الآيات الثلاث بني إسرائيل بصورة عامّة ، وفي كلّ عصر وزمان ، وذكرتهم بالنعم الكبيرة التي منحها الله إيّاهم ، وأوضحت طريق نجاتهم.

فقالت أوّلا :( يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ ) ، ومن البديهي أنّ أساس كلّ نشاط ومجهود إيجابي هو التخلّص من قبضة المتسلّطين ، والحصول على الحرية والاستقلال ، ولذلك أشير إلى هذه المسألة قبل كلّ شيء.

٤٦

ثمّ تشير إلى واحدة من النعم المعنوية المهمّة ، فتقول :( وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ ) ، وهذه إشارة إلى حادثة ذهاب موسىعليه‌السلام مع جماعة من بني إسرائيل إلى مكان ميعادهم في الطور ، ففي ذلك المكان أنزل الله سبحانه ألواح التوراة على موسى وكلّمه ، وشاهدوا جميعا تجلّي الله سبحانه(1) .

وأخيرا أشارت إلى نعمة ماديّة مهمّة من نعم الله الخاصّة ببني إسرائيل ، فتقول :( وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى ) ففي تلك الصحراء كنتم حيارى ، ولم يكن عندكم شيء من الطعام المناسب ، فأدرككم لطف الله ، ورزقكم من الطعام الطيّب اللذيذ ما كنتم بأمسّ الحاجة إليه.

وللمفسّرين بحوث كثيرة فيما هو المراد من (المنّ والسلوى) ، بيّناها في ذيل الآية (57) من سورة البقرة ، بعد ذكر آراء المفسّرين الآخرين وقلنا : إنّه ليس من البعيد أن يكون «المنّ» نوعا من العسل الطبيعي كان موجودا في الجبال المجاورة لتلك الصحراء ، أو نوعا من السكريات المولدة للطاقة من نباتات خاصّة كانت تنمو في أطراف تلك الصحراء. والسلوى نوع من الطيور المحلّلة اللحم شبيها بالحمام. ولمزيد التوضيح راجع تفسير الآية (57) من سورة البقرة.

ثمّ تخاطبهم الآية التالية بعد ذكر هذه النعم الثلاث العظيمة ، فتقول( كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ ) .

الطغيان في النعمة هو أن يتّخذ الإنسان هذه النعم وسيلة للذنب والجحود والكفران والتمرّد والعصيان ، بدل أن يستغلّها في طاعة الله وسعادته ، تماما كما فعل بنو إسرائيل حيث تمتّعوا بكلّ هذه النعم ثمّ ساروا في طريق الكفر والطغيان والمعصية. ولذلك حذّرتهم الآية بعد ذلك فقالت :( فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ

__________________

(1) الشرح المفصل لهذه الحادثة في سورة الأعراف ذيل الآيتين 155 ـ 156.

٤٧

عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى ) .

«هوى» في الأصل بمعنى السقوط من المكان المرتفع ، والذّى تكون نتيجته الهلاك عادة ، إضافة إلى أنّه هنا إشارة إلى السقوط الرتبي والبعد عن قرب الله ، والطرد من رحمته.

ولمّا كان من الضروري أن يقترن التحذير والتهديد بالترغيب والبشارة دائما ، لتتساوى كفّتا الخوف والرجاء ، حيث تشكّلان العامل الأساسي في تكامل الإنسان ، ولتفتح أبواب التوبة والرجوع بوجه التائبين ، فقد قالت الآية التالية :( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى ) .

كلمة (غفّار) ، صيغة مبالغة ، وتوحي أنّ الله سبحانه لا يقبل هؤلاء التائبين ويشملهم برحمته مرّة واحدة فقط ، بل سيعمّهم عفوه ومغفرته مرّات ومرّات.

وممّا يستحقّ الانتباه أنّ أوّل شرط للتوبة هو ترك المعصية ، وبعد أن تتطهّر روح الإنسان من هذه التلوّث ، فإنّ الشرط الثّاني هو أن يغمرها نور الإيمان بالله والتوحيد ، وفي المرحلة الثّالثة يجب أن تظهر بر أعم الإيمان والتوحيد ـ والتي هي الأعمال الصالحة والمناسبة ـ على أغصان وجود الإنسان.

وبخلاف سائر آيات القرآن التي تتحدّث عن التوبة والإيمان والعمل الصالح فقط فقد أضافت هذه الآية شرط رابع ، وهو قوله :( ثُمَّ اهْتَدى ) . وقد ذكر المفسّرون لهذه الجملة تفسيرات عديدة ، يبدو أنّ اثنين منها هما الأوفق والأدقّ :

الأوّل : إنّها إشارة إلى أنّ الاستمرار في طريق الإيمان والتقوى والعمل الصالح ، يعني أنّ التوبة تمحو ما مضى وتكون سببا للنجاة ، وهي مشروطة بأن لا يسقط النائب مرّة أخرى في هاوية الشرك والمعصية ، وأن يراقب نفسه دائما كيلا تعيده الوساوس الشيطانيّة وأهواؤه إلى مسلكه السابق.

والثّاني : هذه الجملة إشارة إلى لزوم قبول الولاية ، والالتزام بقيادة القادة

٤٨

الربّانيين ، أي أنّ التوبة والإيمان والعمل الصالح كلّ ذلك سيكون سببا للنجاة والفلاح إذا كان في ظلّ هداية القادة الربّانيين ، ففي زمان تحت قيادة موسىعليه‌السلام ، وفي زمن آخر تحت لواء نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومرّة تحت لواء أمير المؤمنين عليعليه‌السلام ، أمّا اليوم فينبغي أن ننضوي تحت لواء الإمام المهديعليه‌السلام لأنّ أحد أركان الدين قبول دعوة النّبي والانضواء تحت قيادته ثمّ قبول قيادة خليفته ونائبه.

ينقل العلامة الطبرسي في ذيل هذه الآية عن الإمام الباقر أنّه قال : «ثمّ اهتدى إلى ولا يتنا أهل البيت» ثمّ أضاف : «فو الله لو أنّ رجلا عبد الله عمره ما بين الركن والمقام ، ثمّ مات ولم يجيء بولايتنا لأكبّه الله في النّار على وجهه». وقد نقلها العلّامة الحاكم «أبو القاسم الحسكاني» ـ من كبار محدّثي أهل السنّة(1) وقد رويت روايات عديدة في هذا الباب عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن الإمام زين العابدينعليه‌السلام ، والإمام الصادقعليه‌السلام .

ولكي نعلم أنّ ترك هذا الأصل ـ إلى أي حدّ هو ـ مهلك لتاركيه ، يكفي أن نبحث الآيات التالية ، وكيف أنّ بني إسرائيل قد ابتلوا بعبادة العجل والشرك والكفر نتيجة تركهم ولاية موسىعليه‌السلام وخروجهم عن نهجه ونهج خليفته هارونعليه‌السلام .

ومن هنا يتّضح أنّ ما قاله العلّامة الآلوسي في تفسير روح المعاني بعد ذكر جملة من هذه الرّوايات :

«لا شكّ عندنا في وجوب محبّة أهل البيت ، ولكن هذا لا يرتبط ببني إسرائيل وعصر موسى» كلام واه ، لأنّ البحث أوّلا ليس حول المحبّة ، بل حول قبول الولاية والقيادة وثانيا : ليس المراد من انحصار الولاية بأهل البيتعليهم‌السلام ، بل في عصر موسى كان هو وأخوه قائدين ، فكان يلزم قبول ولايتهما ، أمّا في عصر النّبي فتلزم

__________________

(1) مجمع البيان ذيل الآية محلّ البحث.

٤٩

قبول ولايته ، وفي عصر أئمّة أهل البيت يلزم قبول ولايتهمعليهم‌السلام .

ويتّضح أيضا أنّ المخاطب في هذه الآية وإن كانوا بني إسرائيل ، إلّا أنّه لا ينحصر فيهم ولا يختّص بهم ، فإنّ كلّ فرد أو جماعة تطوي هذه المراحل الأربعة فستشملها مغفرة الله سبحانه وعفوه.

* * *

٥٠

الآيات

( وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (89) وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91) )

٥١

التّفسير

صخب السامري :

ذكر في هذه الآيات فصل آخر من حياة موسىعليه‌السلام وبني إسرائيل ، ويتعلّق بذهاب موسىعليه‌السلام مع وكلاء وممثّلي بني إسرائيل إلى الطور حيث موعدهم هناك ، ثمّ عبادة بني إسرائيل للعجل في غياب هؤلاء.

كان من المقرّر أن يذهب موسىعليه‌السلام إلى «الطور» لتلقّي أحكام التوراة ، ويصطحب معه جماعة من بني إسرائيل لتتّضح لهم خلال هذه الرحلة حقائق جديدة حول معرفة الله والوحي.

غير أنّ شوق موسىعليه‌السلام إلى المناجاة مع الله وسماع ترتيل الوحي كان قد بلغ حدّا بحيث نسي في هذا الطريق ـ حسب الرّوايات ـ كلّ شيء حتّى الأكل والشرب والاستراحة ، فطوى هذا الطريق بسرعة ، ووصل لوحده قبل الآخرين إلى ميقات الله وميعاده. هنا نزل عليه الوحي :( وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى ) ؟

فأجاب موسى على الفور :( قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى ) فليس شوق المناجاة وسماع كلامك لوحده قد سلب قراري ، بل كنت مشتاقا إلى أن آخذ منك أحكام التوراة بأسرع ما يمكن لأؤدّيها إلى عبادك ، ولأنال رضاك عنّي بذلك أجل إنّي عاشق لرضاك ، ومشتاق لسماع أمرك.

وفي هذا اللقاء امتدّت مدّة الإشراقات والتجليّات المعنوية الإلهيّة من ثلاثين ليلة إلى أربعين ، وأدّت الأجواء المهيأة لانحراف بني إسرائيل دورها ، فالسامري ، ذلك الرجل الفطن والمنحرف صنع باستعماله الوسائل التي سنشير إليها فيما بعد عجلا ، ودعا تلك الجماعة إلى عبادته ، وأوقعهم فيها.

لا شكّ في أنّ الأرضيات ، كمشاهدة عبادة المصريين للعجل ، أو مشاهدة مشهد عبادة الأصنام ـ العجل بعد عبور نهر النيل ، وطلب صنع صنم كهؤلاء ، وكذلك تمديد مدّة ميعاد موسى ، وانتشار شائعة موته من قبل المنافقين ، وأخيرا

٥٢

جهل هذه الامّة ، كلّ ذلك كان له أثر في ظهور هذه الحادثة والانحراف الكبير عن التوحيد ، لأنّ الحوادث الاجتماعية لا تقع عادة بدون مقدّمات ، غاية ما هناك أنّ هذه المقدّمات تكون تارة واضحة وعلنية ، وأخرى مستورة وخفيّة.

على كلّ حال ، فإنّ الشرك في أسوأ صورة قد أحاط ببني إسرائيل ، وأخذ بأطرافهم ، خاصة وأنّ كبار القوم كانوا مع موسى في الجبل ، وكان زعيم الأمّة هارون وحيدا دون أن يكون له مساعدون أكفّاء مؤثّرون.

وأخيرا أخبر الله موسى في الميعاد بما جرى لقومه والسامري إذ تحكي الآية التالية ذلك فتقول :( قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ ) .

غضب موسى عند سماعه هذه الكلمات غضبا التهب معه كلّ وجوده ، وربّما كان يقول لنفسه : لقد تحمّلت المصائب والمصاعب خلال هذه السنين الطويلة ، وأرهقت نفسي وواجهت كلّ الأخطار في سبيل أن تركن هذه الامّة إلى التوحيد ، فكيف ذهبت جهودي أدراج الرياح بمجرّد أن غبت عنها عدّة أيّام( فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً ) .

وما أن وقعت عينه على ذلك المنظر القبيح ، منظر عبادة العجل قال( أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً ) . وهذا الوعد الحسن إمّا أن يكون وعد بني إسرائيل بنزول التوراة وبيان الأحكام السماوية فيها ، أو الوعد بالنجاة والإنتصار على الفراعنة ووراثة حكومة الأرض ، أو الوعد بالمغفرة والعفو للذين يتوبون ويؤمنون ويعملون الصالحات ، أو أنّه كلّ هذه الأمور.

ثمّ أضاف :( أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ ) وهو يشير إلى أنّه : هبوا أنّ مدّة رجوعي قد طالت من ثلاثين إلى أربعين يوما ، فإنّ ذا الزمن ليس طويلا ، ألا يجب عليكم أن تحفظوا أنفسكم في هذه المدّة القصيرة؟ وحتّى لو نأيت عنكم سنين طويلة فينبغي أن تلتزموا بالتعاليم الإلهيّة التي تعلمّتموها وتؤمنوا بالمعجزات التي

٥٣

رأيتموها :( أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي ) (1) فقد عاهدتكم على أن تثبتوا على خطّ التوحيد وطريق طاعة الله الخالصة ، وأن لا تنحرفوا عنه قيد أنملة ، إلّا أنّكم نسيتم كلّ كلامي في غيابي ، وكذلك تمردّتم على طاعة أمر أخي هارون وعصيتموه.

فلمّا رأى بنو إسرائيل أنّ موسىعليه‌السلام قد عنّفهم بشدّة ولا مهم على فعلهم وتنبّهوا إلى قبح ما قاموا به من عمل ، هبوا للاعتذار فـ( قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا ) (2) فلم نكن في الواقع قد رغبنا وصمّمنا على عبادة العجل( وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُ ) .

وللمفسّرين آراء فيما فعله بنو إسرائيل ، وما فعله السامري ، وما هو معنى الآيات ـ محلّ البحث ـ على نحو الدقّة ، ولا يبدو هناك فرق كبير في النتيجة بين هذه الاختلافات.

فذهب بعضهم : إن «قذفناها» تعني أنّنا ألقينا أدوات الزينة التي كنّا قد أخذناها من الفراعنة قبل الحركة من مصر في النّار ، وكذلك ألقى السامري ما كان معه أيضا في النّار حتّى ذاب وصنع منه عجلا.

وقال آخرون : إنّ معنى الجملة أنّنا ألقينا أدوات الزينة بعيدا عنّا ، فجمعها السامري وألقاها في النّار ليصنع منها العجل.

ويحتمل أيضا أن تكون جملة( فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُ ) إشارة إلى مجموع الخطّة التي نفذّها السامري.

__________________

(1) من البديهي أن لا أحد يصمّم على أن يحلّ عليه غضب الله ، بل المراد من العبارة أنّكم في وضع كأنّكم قد صمّمتم مثل هذا التصميم في حقّ أنفسكم.

(2) «ملك» و «ملك» كلاهما تعني تملّك الشيء ، وكأنّ مراد بني إسرائيل أننا لم نتملّك هذا العمل ، بل وقعنا تحت تأثيره حتّى اختطف قلوبنا وديننا من أيدينا. واعتبر بعض المفسّرين هذه الجملة مرتبطة بجماعة قليلة من بني إسرائيل لم تعبد العجل ، ويقال إنّ ستمائة ألف شخص من هؤلاء أصبحوا من عبدة العجل ، وبقي منهم إثنا عشر ألف فقط على التوحيد. لكن يبدو أنّ التّفسير الذي قلنا أعلاه هو الأصحّ.

٥٤

وعلى كلّ حال ، فإنّ كبير القوم إذا لام من تحت إمرته على ارتكابهم ذنبا ما ، فإنّهم يسعون إلى نفي ذلك الذنب عنهم ، ويلقونه على عاتق غيرهم ، وكذلك عبّاد العجل من بني إسرائيل ، فإنّهم كانوا قد انحرفوا بإرادتهم ورغبتهم عن التوحيد إلى الشرك ، إلّا أنّهم أرادوا أن يلقوا كلّ التبعة على السامري.

على كلّ ، فإنّ السامري ألقى كلّ أدوات زينة الفراعنة وحليهم التي كانوا قد حصلوا عليها عن طريق الظلم والمعصية ـ ولم يكن لها قيمة إلّا أن تصرف في مثل هذا العمل المحرّم ـ في النّار( فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ ) (1) فلمّا رأى بنو إسرائيل هذا المشهد ، نسوا فجأة كلّ تعليمات موسى التوحيديّة( فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى ) .

ويحتمل أيضا أن يكون قائل هذا الكلام هو السامري وأنصاره والمؤمنون به.

وبهذا فإنّ السامري قد نسي عهده وميثاقه مع موسى ، بل مع إله موسى ، وجرّ الناس إلى طريق الضلال : «فنسي».

ولكن بعض المفسّرين فسّروا «النسيان» بالضلال والانحراف ، أو أنّهم اعتبروا فاعل النسيان موسىعليه‌السلام وقالوا : إنّ هذا كلام السامري ، وهو يريد أن يقول : إنّ موسى نسي أنّ هذا العجل هو ربّكم ، إلّا أنّ كلّ ذلك مخالف لظاهر الآية ، وظاهرها هو ما قلناه من أنّ المراد هو أنّ السامري قد أودع عهده وميثاقه مع موسى وربّ موسى في يد النسيان ، وأتّخذ طريق عبادة الأصنام.

وهنا قال الله سبحانه توبيخا وملامة لعبدة الأوثان هؤلاء :( أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً ) فإنّ المعبود الواقعي يستطيع على الأقل أن يلبيّ طلبات عباده ويجيب على أسئلتهم ، فهل يمكن أن يكون سماع خوار العجل من هذا الجسد الذهبي لوحده ، ذلك الصوت الذي لا يشعر بأيّة

__________________

(1) «الخوار» صوت البقرة والعجل ، ويطلق أحيانا على صوت البعير.

٥٥

إرادة ، دليلا على جواز عبادة العجل ، وصحّة تلك العبادة؟

وعلى فرض أنّه أجابهم عن أسئلتهم ، فإنّه لا يعدو أن يكون كإنسان عاجز لا يملك نفع غيره ولا ضرّه ، بل وحتّى نفسه ، فهل يمكن أن يكون معبودا وهو على هذا الحال؟

أي عقل يسمح بأن يعبد الإنسان تمثالا لا روح له يظهر منه بين الحين والآخر صوت غير مفهوم ، ويعظمه ويخضع أمامه؟

ولا شكّ أنّ هارون ، خليفة موسى ونبي الله الكبير ، لم يرفع يده عن رسالته في هذا الصخب والغوغاء ، وأدّى واجبه في محاربة الانحراف والفساد قدر ما يستطيع ، كما يقول القرآن :( وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ ) ثمّ أضاف :( وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ ) .

لقد كنتم عبيدا فحرّركم ، وكنتم أسرى فأطلقكم ، وكنتم ضالّين فهداكم ، وكنتم متفرّقين مبعثرين فجمعكم ووحدّكم تحت راية رجل ربّاني ، وكنتم جاهلين فألقى عليكم نور العلم وهداكم إلى صراط التوحيد المستقيم ، فالآن( فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي ) .

أنسيتم أنّ أخي موسى قد نصّبني خليفة له وفرض عليكم طاعتي؟ فلما ذا تنقضون الميثاق؟ ولماذا ترمون بأنفسكم في هاوية الفناء؟

إلّا أنّ بني إسرائيل تمسكوا بهذا العجل عنادا ، ولم يؤثّر فيهم المنطق السليم القوي لهذا الرجل ، ولا أدلّة هذا القائد الحريص ، وأعلنوا مخالفتهم بصراحة :( قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى ) (1) .

والخلاصة : إنّهم ركبوا رؤوسهم وقالوا : الأمر هو هذا ولا شيء سواه ، ويجب أن نعبد العجل حتّى يرجع موسى ونطلب منه الحكم والقضاء ، فلعلّه يسجد معنا

__________________

(1) (لن نبرح) من مادّة (برح) بمعنى الزوال ، وإنّ ما نراه في أنّ معنى جملة (برح الخفاء) أي الظهور والوضوح لأنّ زوال الخفاء ليس إلّا الظهور ، ولمّا كانت (لن) تدلّ على النفي ، فإنّ معنى جملة (لن نبرح) أننا سنستمر في هذا العمل.

٥٦

للعجل! وعلى هذا فلا تتعب نفسك كثيرا ، وكفّ عنّا يدك! وبهذا لم يذعن بنو إسرائيل لأمر العقل ولا لأمر خليفة قائدهم وزعيمهم أيضا.

ولكن ، كما كتب المفسّرون ـ والقاعدة تقتضي ذلك أيضا ـ فإنّ هارون لمّا أدّى رسالته في هذه المواجهة ، ولم يقبل أكثر بني إسرائيل كلامه ، ابتعد عنهم بصحبة القلّة الذين اتّبعوه ، لئلّا يكون اختلاطهم بهؤلاء دليلا على إمضاء طريقهم المنحرف.

والعجيب أنّ بعض المفسرين ذكروا أنّ هذا التبدّل والانحراف في بني إسرائيل قد حدث في أيّام قليلة فحسب ، فبعد أن مضت (35) يوما على ذهاب موسىعليه‌السلام إلى ميقات ربّه ، شرع السامري بعمله ، وطلب من بني إسرائيل أن يجمعوا كلّ أدوات الزينة التي أخذوها كعارية من الفراعنة وما أخذوه منهم بعد غرقهم ، ووضعوها جميعا في اليوم السادس والثلاثين والسابع والثلاثين والثامن والثلاثين في موقد النّار ، وأذابوها ثمّ صنعوا منها تمثال العجل ، وفي اليوم التاسع والثلاثين دعاهم السامري إلى عبادته ، فقبلها جماعة عظيمة ـ وعلى بعض الرّوايات ستمائة ألف شخص ـ وفي اليوم التالي ، أي في نهاية الأربعين يوما ، رجع موسى(1) .

ولكن افترق عنهم هارون مع القلّة من المؤمنين الثابتين ، والذين كان عددهم قرابة اثني عشر ألفا ، في حين أنّ الأغلبية الجاهلة كادوا أن يقتلوه!

* * *

__________________

(1) مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث.

٥٧

بحوث

1 ـ شوق اللقاء!

قد يكون قول موسىعليه‌السلام في جواب سؤال الله تعالى له حول استعجاله إلى الميقات حيث قال :( وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى ) عجيبا لدى من لم يعرف شأن جاذبية عشق الله ، إلّا أن الذين أدركوا هذه الحقيقة بكلّ وجودهم ، والذين إذا اقترب موعد الوصال اشتدّ لهيب العشق في أفئدتهم ، يعلمون جيدا أيّة قوّة خفيّة كانت تجرّ موسىعليه‌السلام إلى ميقات الله ، وكان يسير سريعا بحيث تخلّف عنه قومه الذين كانوا معه.

لقد كان موسىعليه‌السلام قد تذوق حلاوة الوصال والحبّ والمناجاة مع الله مرارا ، فكان يعلم أنّ كلّ الدنيا لا تعدل لحظة من هذه المناجاة.

أجل هذا هو طريق الذين تجاوزوا مرحلة العشق المجازي نحو مرحلة العشق الحقيقي عشق المعبود الأزلي المقدّس والكمال المطلق ، والحسن واللطف الذي لا نهاية له ، وكلّ ما عند المحسنين الصالحين جميعا عنده بمفرده ، بل إنّ جمال وحسن المحسنين كلّه ومضة بسيطة من إحسانه الدائم الخالد. فيا إلهنا الكبير من علينا بذرّة من هذا العشق المقدّس.

يقول الإمام الصادقعليه‌السلام ـ كما روي عنه ـ «المشتاق لا يشتهي طعاما ، ولا يلتذّ شرابا ، ولا يستطيب رقادا ، ولا يأنس حميما ، ولا يأويّ دارا ويعبد الله ليلا ونهارا ، راجيا بأن يصل إلى ما يشتاق إليه كما أخبر الله عن موسى بن عمران في ميعاد ربّه بقوله: وعجّلت إليك ربّ لترضى»(1) .

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، الجزء 3 ، ص 388.

٥٨

2 ـ الحركات المناوئة لنهضة الأنبياء!

من الطبيعي أن توجد في مقابل كلّ ثورة حركة مضادّة تسعى إلى تحطيم نتائج الثورة ، وإلى إرجاع المجتمع إلى مرحلة ما قبل الثورة ، وليس سبب ذلك معقّدا ولا غامضا ، لأنّ انتصار ثورة ما لا يعني فناء كلّ العناصر الفاسدة من الفترة السابقة دفعة واحدة ، بل تبقى حثالات منهم تبدأ نشاطها من أجل الحفاظ على وجودها وكيانها ، ومع اختلاف ظروف ومقدار وكيفيّة هؤلاء ، فإنّهم يقومون بأعمال تناهض الثورة سرّا أمّ علانية.

وفي حركة موسى بن عمران الثورية نحو توحيد واستقلال وحرية بني إسرائيل ، كان السامري زعيم هذه الحركة الرجعيّة المضادّة ، فقد كان عالما ـ كبقيّة قادة الحركات الرجعيّة ـ بنقاط ضعف قومه جيدا ، وكان يعلم أنّه قادر على أن يستغلّ هذه النقاط فيثير الفتنة فيهم ، فسعى أن يصنع من أدوات الزينة والذهب التي هي آلهة عبيد الدنيا ، وتجلب اهتمام عوام الناس ، عجلا على هيئة خاصة ، وجعله في مسير حركة الريح ـ أو بالاستعانة بأيّة وسيلة أخرى ـ ليخرج منه صوت. وذلك بانتهاز فرصة مناسبة ـ وهي غيبة موسى لعدّة أيّام ـ ونظرا إلى أنّ بني إسرائيل بعد النجاة من الغرق ، ومرورهم على قوم يعبدون الأصنام ، طلبوا من موسى صنما ، والخلاصة أنّهّ استغلّ كلّ نقاط الضعف النفسي ، والفرض المكانية والزمانية المناسبة ، وبدأ خطّته المضادّة للتوحيد. وقد نظّم هذه المواد بمهارة فائقة بحيث حرّف في مدّة قصيرة أغلبية الجهلة من بني إسرائيل عن خطّ التوحيد إلى طريق الشرك.

وبالرغم من أنّ هذه الخطّة قد أحبطت بمجرّد رجوع موسى وقوّة إيمانه ومنطقه بنور الوحي ، ولكن إذا لم يرجع موسى فما ذا كان سيحدث؟ إنّهم إمّا كانوا سيقتلون أخاه هارون حتما ، أو سيحجمونه بحيث لا يصل صوته إلى أحد.

أجل إنّ كلّ ثورة تحارب في البداية بهذه الصورة ، فيجب الحذر دائما ،

٥٩

ومراقبة تحرّكات الشرك الرجعية ، والقضاء على المؤامرات وهي في وكرها ومهدها.

وكذلك يجب الالتفات إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ كثيرا من الثورات الحقيقيّة تعتمد في البداية ـ ولأسباب مختلفة ـ على فرد أو أفراد معينين ، بحيث أنّهم إذا فقدوا وغابوا عن الساحة سيعود الخطر ويهدّد الثورة من جديد ، ولذلك يجب السعي من أجل خلق الموازين الثقافية الثورية في عمق المجتمع بأسرع ما يمكن ، وكذلك تربية الناس بشكل لا تهزّهم العواصف المضادّة للثورة ، بل يقفون كالجبل الأصمّ أمام كلّ حركة رجعيّة متخلّفة.

وبتعبير آخر ، فإنّ واحدة من وظائف القادة المخلصين أن ينقلوا الموازين والمعايير منهم إلى المجتمع ، ولا شكّ أنّ هذا الأمر المهمّ يحتاج إلى مضي زمان ، إلّا أنّه يجب السعي لاختصار هذا الزمن إلى أقلّ ما يمكن.

أمّا من كان السامري؟ وكيف كانت عاقبة أمره؟ فسنتحدّث عنه في الآيات المقبلة إن شاء الله تعالى.

3 ـ مراحل القيادة

لا شكّ أنّ هارونعليه‌السلام لم يأل جهدا في أداء رسالته عند غياب موسىعليه‌السلام ، إلّا أنّ جهل الناس من جهة ، وترسبّات مرحلة العبودية والرقّ وعبادة الأصنام من جهة أخرى ، قد أفشلت جهوده ، فهو قد نفّذ واجبه ـ حسب الآيات محل البحث ـ على أربع مراحل:

الأولى : إنّه نبّه هؤلاء وأعلمهم أنّ هذا العمل يشكّل تيار انحرافي ، وهو موضع اختبار خطير للجميع لتصحو العقول الغافلة ، وليعي الناس ويفكّروا لئلّا يغلبوا على أمرهم ، إذ قال لهم :( يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ ) .

الثّانية : إنّه ذكرهم بنعم الله المختلفة عليهم منذ بدء ثورة موسىعليه‌السلام إلى زمان

٦٠