الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٠

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 550

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 550 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 206816 / تحميل: 6196
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٠

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

فمثلا نقرأ في شأن قوم لوط الذين لم يؤمنوا بنبيّهم أبدا :( وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ) (١) ونقرأ في سورة الفرقان في الآية ٣١ :( وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ ) .

٤ ـ جبر البيئة خرافة

تبيّن قصّة السّحرة في الآيات المذكورة أنّ القول بأنّ البيئة تملي أو تفرض على صاحبها مساره في الحياة ليس سوى وهم فارغ ، فإنّ الإنسان فاعل مختار ، وصاحب إرادة حرّة ، فإذا صمّم في أي وقت فإنّه يستطيع أن يغيّر مسيره من الباطل إلى الحقّ ، حتّى لو كان كلّ الناس في تلك البيئة غارقين في الذنوب والضلال ، فالسّحرة الذين كانوا لسنين طويلة في ذلك المحيط الملوّث بالشرك ، وكانوا يرتكبون بأنفسهم ويعملون الأعمال المتوغّلة في الشرك عند ما صمّموا على قبول الحقّ والثبات عليه بعشق ، لم يخافوا أي تهديد ، وحقّقوا هدفهم ، وعلى قول المفسّر الكبير العلّامة الطبرسي : (كانوا أوّل النهار كفّارا سحرة ، وآخر النهار شهداء بررة)(٢) .

ومن هنا يتّضح ـ أيضا ـ مدى ضعف وعدم واقعيّة أساطير الماديين ، وخاصة الماركسيين حول نشأة الدين وتكوّنه ، فإنّهم اعتبروا أساس كلّ حركة هو العامل الاقتصادي ، في حين أنّ الأمر هنا كان بالعكس تماما ، لأنّ السّحرة قد حضروا حلبة الصراع نتيجة ضغط أجهزة فرعون من جانب ، والإغراءات الاقتصادية من جانب آخر ، إلّا أنّ الإيمان بالله قد محا كلّ هذه الأمور ، فقد انهار المال والجاه الذي وعدهم فرعون به عند أعتاب إيمانهم ، ووضعوا أرواحهم العزيزة هديّة لهذا العشق!

* * *

__________________

(١) الأعراف ، ٨٤.

(٢) مجمع البيان ، ج ٤ ، ص ٤٦٤. ذيل الآية (١٢٦) من سورة الأعراف.

٤١

الآيات

( وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (٧٧) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (٧٩) )

التّفسير

نجاة بني إسرائيل وغرق الفراعنة :

بعد حادثة المجابهة بين موسى والسّحرة ، وانتصاره الباهر عليهم ، وإيمان جمع عظيم منهم ، فقد غزا موسىعليه‌السلام ودينه أفكار الناس في مصر ، بالرغم من أنّ أكثر الأقباط لم يؤمنوا به ، إلّا أنّ هذا كان ديدنهم دائما ، وكان بنو إسرائيل تحت قيادة موسى مع قلّة من المصريين في حالة صراع دائم مع الفراعنة ، ومرّت أعوام على هذا المنوال ، وحدثت حوادث مرّة موحشة وحوادث جميلة مؤنسة ، أورد بعضها القرآن الكريم في الآية (١٢٧) وما بعدها من سورة الأعراف.

وتشير الآيات التي نبحثها إلى آخر فصل من هذه القصّة ، أي خروج بني إسرائيل من مصر ، فنقول :( وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي ) فتهيّأ بنو

٤٢

إسرائيل للتوجّه إلى الوطن الموعود (فلسطين) ، إلّا أنّهم لمّا وصلوا إلى سواحل النيل علم الفراعنة بهم ، فتعقّبهم فرعون في جيش عظيم ، فرأى بنو إسرائيل أنفسهم محاصرين بين البحر والعدو ، فمن جهة نهر النيل العظيم ، ومن جهة أخرى العدوّ القوي السّفاك الغاضب.

إلّا أنّ الله الذي كان يريد إنقاذ هذه الأمّة المظلومة المحرومة المؤمنة من قبضة الظالمين ، وأن يهلك الظالمين في البحر ، أمر موسى أن امض بقومك( فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً ) طريقا متى ما مضيت فيه فـ( لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى ) .

الطريف هنا أنّ الطريق لم يفتح وحسب ، بل كان طريقا يابسا صلبا بأمر الله ، مع أنّ مياه النهر أو البحر إذا ما انحسرت جانبا فإنّ قيعانها تبقى عادة غير قابلة للعبر عليها.

يقول الراغب في مفرداته : «الدّرك» أقصى عمق البحر ، ويقال للحبل الذي يوصل به حبل آخر ليدرك به الماء «درك» ، وكذلك يقال للخسارة التي تصيب الإنسان «درك» ويقال «دركات النّار» ـ في مقابل درجات الجنّة أي حدودها وطبقاتها السفلى.

ولكن مع ملاحظة أنّ بني إسرائيل ـ وطبقا للآية (٦١) من سورة الشعراء ـ لمّا علموا بخبر مجيء جيش فرعون ، قالوا لموسى :( إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ) ، وهذا يعني أنّ المراد من الدرك في الآية هنا ، أنّ جيش فرعون سوف لن يصل إليكم ، والمراد من (لا تخشى) أنّ أي خطر لا يهدّدكم من ناحية البحر.

وبذلك فإنّ موسى وبني إسرائيل قد ساروا في تلك الطرق التي فتحت في أعماق البحر بعد انحسار المياه عنها. في هذه الأثناء وصل فرعون وجنوده إلى ساحل البحر فدهشوا لهذا المشهد المذهل المثير غير المتوقّع ، ولذلك أعطى فرعون أمرا لجنوده باتّباعهم ، وسار هو أيضا في نفس الطريق :( فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ

٤٣

بِجُنُودِهِ ) (١) .

ممّا لا ريب أنّ جيش فرعون كان مكرها في البداية على أن يسير في هذا المكان الخطير المجهول ، ويتعقّب بني إسرائيل ، وكانت مشاهدة مثل هذه المعجزة العجيبة كافية على الأقل أن يمتنعوا عن الاستمرار في السير في هذا الطريق ، إلّا أنّ فرعون الذي ركب الغرور والعصبية رأسه ، وغرق في بحر العناد والحماقة ، لم يهتمّ لهذه المعجزة الكبيرة ، وأمر جيشه في المسير في هذه الطرق البحرية المربية حتّى دخل من هذه الجهة آخر جندي فرعوني ، في وقت خرج من الجانب الآخر آخر فرد من بني إسرائيل.

في هذه الأثناء صدر الأمر لأمواج المياه أن ترجع إلى حالتها الأولى ، فوقعت عليهم الأمواج كما تسقط البناية الشامخة إذا هدّمت قواعدها( فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ ) (٢) . وبذلك فقد غاص ملك جبّار ظالم مع جنوده وجيشه القهّار في وسط أمواج الماء ، وأصبحوا طعمة جاهزة لسمك البحر!.

أجل ،( وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى ) .

صحيح أنّ جملة (أضلّ) وجملة (ما هدى) تعطي معنى واحدا تقريبا ، وربّما كان هذا هو السبب في أن يعتبرها بعض المفسّرين تأكيدا ، إلّا أنّ الظاهر أنّ هناك تفاوتا فيما بينهما ، وهو أنّ (أضلّ) إشارة إلى الإضلال ، و (ما هدى) إشارة إلى عدم الهداية بعد وضوح الضلالة.

وتوضيح ذلك : إنّ القائد قد يخطئ أحيانا ، ويجرّ أتباعه إلى طريق منحرف ، إلّا أنّه بمجرّد أن ينتبه إلى خطئه يعيدهم إلى طريق الصواب. إلّا أنّ فرعون كان

__________________

(١) وهناك احتمال آخر في تفسير الجملة آنفة الذكر ، وهو أنّ الباء في (بجنوده) قد تكون بمعنى (مع) ، ويصبح مجموع الجملة بهذا المعنى : إنّ فرعون قد عقّب بني إسرائيل مع جنوده ، مع أنّه لا يوجد اختلاف بين هذين التّفسيرين.

(٢) «اليمّ» يعني البحر والنهر العظيم. ويعتقد بعض المحقّقين أن هذه لغة مصرية قديمة وليست عربية. ولمزيد الإيضاح راجع هامش ذيل الآية (١٣٦) من سورة الأعراف.

٤٤

عنيدا إلى الحدّ الذي لم يبيّن لقومه الحقيقة حتّى بعد وضوح الضلال ، ومشاهدته ، واستمرّ في توجيه هؤلاء إلى المتاهات حتّى هلك وإيّاهم.

وعلى كلّ حال ، فإنّ هذه الجملة تنفي كلام فرعون الوارد في الآية (٢٩) من سورة غافر حيث يقول :( وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ ) فإنّ هذه الحوادث بيّنت أنّ هذه الجملة كذبة كبيرة كأكاذيبه الأخرى.

* * *

٤٥

الآيات

( يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (٨٠) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (٨١) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (٨٢) )

التّفسير

طريق النجاة الوحيد :

تعقيبا على البحث السابق في نجاة بني إسرائيل بصورة إعجازية من قبضة الفراعنة ، خاطبت هذه الآيات الثلاث بني إسرائيل بصورة عامّة ، وفي كلّ عصر وزمان ، وذكرتهم بالنعم الكبيرة التي منحها الله إيّاهم ، وأوضحت طريق نجاتهم.

فقالت أوّلا :( يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ ) ، ومن البديهي أنّ أساس كلّ نشاط ومجهود إيجابي هو التخلّص من قبضة المتسلّطين ، والحصول على الحرية والاستقلال ، ولذلك أشير إلى هذه المسألة قبل كلّ شيء.

٤٦

ثمّ تشير إلى واحدة من النعم المعنوية المهمّة ، فتقول :( وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ ) ، وهذه إشارة إلى حادثة ذهاب موسىعليه‌السلام مع جماعة من بني إسرائيل إلى مكان ميعادهم في الطور ، ففي ذلك المكان أنزل الله سبحانه ألواح التوراة على موسى وكلّمه ، وشاهدوا جميعا تجلّي الله سبحانه(١) .

وأخيرا أشارت إلى نعمة ماديّة مهمّة من نعم الله الخاصّة ببني إسرائيل ، فتقول :( وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى ) ففي تلك الصحراء كنتم حيارى ، ولم يكن عندكم شيء من الطعام المناسب ، فأدرككم لطف الله ، ورزقكم من الطعام الطيّب اللذيذ ما كنتم بأمسّ الحاجة إليه.

وللمفسّرين بحوث كثيرة فيما هو المراد من (المنّ والسلوى) ، بيّناها في ذيل الآية (٥٧) من سورة البقرة ، بعد ذكر آراء المفسّرين الآخرين وقلنا : إنّه ليس من البعيد أن يكون «المنّ» نوعا من العسل الطبيعي كان موجودا في الجبال المجاورة لتلك الصحراء ، أو نوعا من السكريات المولدة للطاقة من نباتات خاصّة كانت تنمو في أطراف تلك الصحراء. والسلوى نوع من الطيور المحلّلة اللحم شبيها بالحمام. ولمزيد التوضيح راجع تفسير الآية (٥٧) من سورة البقرة.

ثمّ تخاطبهم الآية التالية بعد ذكر هذه النعم الثلاث العظيمة ، فتقول( كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ ) .

الطغيان في النعمة هو أن يتّخذ الإنسان هذه النعم وسيلة للذنب والجحود والكفران والتمرّد والعصيان ، بدل أن يستغلّها في طاعة الله وسعادته ، تماما كما فعل بنو إسرائيل حيث تمتّعوا بكلّ هذه النعم ثمّ ساروا في طريق الكفر والطغيان والمعصية. ولذلك حذّرتهم الآية بعد ذلك فقالت :( فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ

__________________

(١) الشرح المفصل لهذه الحادثة في سورة الأعراف ذيل الآيتين ١٥٥ ـ ١٥٦.

٤٧

عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى ) .

«هوى» في الأصل بمعنى السقوط من المكان المرتفع ، والذّى تكون نتيجته الهلاك عادة ، إضافة إلى أنّه هنا إشارة إلى السقوط الرتبي والبعد عن قرب الله ، والطرد من رحمته.

ولمّا كان من الضروري أن يقترن التحذير والتهديد بالترغيب والبشارة دائما ، لتتساوى كفّتا الخوف والرجاء ، حيث تشكّلان العامل الأساسي في تكامل الإنسان ، ولتفتح أبواب التوبة والرجوع بوجه التائبين ، فقد قالت الآية التالية :( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى ) .

كلمة (غفّار) ، صيغة مبالغة ، وتوحي أنّ الله سبحانه لا يقبل هؤلاء التائبين ويشملهم برحمته مرّة واحدة فقط ، بل سيعمّهم عفوه ومغفرته مرّات ومرّات.

وممّا يستحقّ الانتباه أنّ أوّل شرط للتوبة هو ترك المعصية ، وبعد أن تتطهّر روح الإنسان من هذه التلوّث ، فإنّ الشرط الثّاني هو أن يغمرها نور الإيمان بالله والتوحيد ، وفي المرحلة الثّالثة يجب أن تظهر بر أعم الإيمان والتوحيد ـ والتي هي الأعمال الصالحة والمناسبة ـ على أغصان وجود الإنسان.

وبخلاف سائر آيات القرآن التي تتحدّث عن التوبة والإيمان والعمل الصالح فقط فقد أضافت هذه الآية شرط رابع ، وهو قوله :( ثُمَّ اهْتَدى ) . وقد ذكر المفسّرون لهذه الجملة تفسيرات عديدة ، يبدو أنّ اثنين منها هما الأوفق والأدقّ :

الأوّل : إنّها إشارة إلى أنّ الاستمرار في طريق الإيمان والتقوى والعمل الصالح ، يعني أنّ التوبة تمحو ما مضى وتكون سببا للنجاة ، وهي مشروطة بأن لا يسقط النائب مرّة أخرى في هاوية الشرك والمعصية ، وأن يراقب نفسه دائما كيلا تعيده الوساوس الشيطانيّة وأهواؤه إلى مسلكه السابق.

والثّاني : هذه الجملة إشارة إلى لزوم قبول الولاية ، والالتزام بقيادة القادة

٤٨

الربّانيين ، أي أنّ التوبة والإيمان والعمل الصالح كلّ ذلك سيكون سببا للنجاة والفلاح إذا كان في ظلّ هداية القادة الربّانيين ، ففي زمان تحت قيادة موسىعليه‌السلام ، وفي زمن آخر تحت لواء نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومرّة تحت لواء أمير المؤمنين عليعليه‌السلام ، أمّا اليوم فينبغي أن ننضوي تحت لواء الإمام المهديعليه‌السلام لأنّ أحد أركان الدين قبول دعوة النّبي والانضواء تحت قيادته ثمّ قبول قيادة خليفته ونائبه.

ينقل العلامة الطبرسي في ذيل هذه الآية عن الإمام الباقر أنّه قال : «ثمّ اهتدى إلى ولا يتنا أهل البيت» ثمّ أضاف : «فو الله لو أنّ رجلا عبد الله عمره ما بين الركن والمقام ، ثمّ مات ولم يجيء بولايتنا لأكبّه الله في النّار على وجهه». وقد نقلها العلّامة الحاكم «أبو القاسم الحسكاني» ـ من كبار محدّثي أهل السنّة(١) وقد رويت روايات عديدة في هذا الباب عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن الإمام زين العابدينعليه‌السلام ، والإمام الصادقعليه‌السلام .

ولكي نعلم أنّ ترك هذا الأصل ـ إلى أي حدّ هو ـ مهلك لتاركيه ، يكفي أن نبحث الآيات التالية ، وكيف أنّ بني إسرائيل قد ابتلوا بعبادة العجل والشرك والكفر نتيجة تركهم ولاية موسىعليه‌السلام وخروجهم عن نهجه ونهج خليفته هارونعليه‌السلام .

ومن هنا يتّضح أنّ ما قاله العلّامة الآلوسي في تفسير روح المعاني بعد ذكر جملة من هذه الرّوايات :

«لا شكّ عندنا في وجوب محبّة أهل البيت ، ولكن هذا لا يرتبط ببني إسرائيل وعصر موسى» كلام واه ، لأنّ البحث أوّلا ليس حول المحبّة ، بل حول قبول الولاية والقيادة وثانيا : ليس المراد من انحصار الولاية بأهل البيتعليهم‌السلام ، بل في عصر موسى كان هو وأخوه قائدين ، فكان يلزم قبول ولايتهما ، أمّا في عصر النّبي فتلزم

__________________

(١) مجمع البيان ذيل الآية محلّ البحث.

٤٩

قبول ولايته ، وفي عصر أئمّة أهل البيت يلزم قبول ولايتهمعليهم‌السلام .

ويتّضح أيضا أنّ المخاطب في هذه الآية وإن كانوا بني إسرائيل ، إلّا أنّه لا ينحصر فيهم ولا يختّص بهم ، فإنّ كلّ فرد أو جماعة تطوي هذه المراحل الأربعة فستشملها مغفرة الله سبحانه وعفوه.

* * *

٥٠

الآيات

( وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (٨٣) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (٨٤) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (٨٨) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (٨٩) وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (٩١) )

٥١

التّفسير

صخب السامري :

ذكر في هذه الآيات فصل آخر من حياة موسىعليه‌السلام وبني إسرائيل ، ويتعلّق بذهاب موسىعليه‌السلام مع وكلاء وممثّلي بني إسرائيل إلى الطور حيث موعدهم هناك ، ثمّ عبادة بني إسرائيل للعجل في غياب هؤلاء.

كان من المقرّر أن يذهب موسىعليه‌السلام إلى «الطور» لتلقّي أحكام التوراة ، ويصطحب معه جماعة من بني إسرائيل لتتّضح لهم خلال هذه الرحلة حقائق جديدة حول معرفة الله والوحي.

غير أنّ شوق موسىعليه‌السلام إلى المناجاة مع الله وسماع ترتيل الوحي كان قد بلغ حدّا بحيث نسي في هذا الطريق ـ حسب الرّوايات ـ كلّ شيء حتّى الأكل والشرب والاستراحة ، فطوى هذا الطريق بسرعة ، ووصل لوحده قبل الآخرين إلى ميقات الله وميعاده. هنا نزل عليه الوحي :( وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى ) ؟

فأجاب موسى على الفور :( قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى ) فليس شوق المناجاة وسماع كلامك لوحده قد سلب قراري ، بل كنت مشتاقا إلى أن آخذ منك أحكام التوراة بأسرع ما يمكن لأؤدّيها إلى عبادك ، ولأنال رضاك عنّي بذلك أجل إنّي عاشق لرضاك ، ومشتاق لسماع أمرك.

وفي هذا اللقاء امتدّت مدّة الإشراقات والتجليّات المعنوية الإلهيّة من ثلاثين ليلة إلى أربعين ، وأدّت الأجواء المهيأة لانحراف بني إسرائيل دورها ، فالسامري ، ذلك الرجل الفطن والمنحرف صنع باستعماله الوسائل التي سنشير إليها فيما بعد عجلا ، ودعا تلك الجماعة إلى عبادته ، وأوقعهم فيها.

لا شكّ في أنّ الأرضيات ، كمشاهدة عبادة المصريين للعجل ، أو مشاهدة مشهد عبادة الأصنام ـ العجل بعد عبور نهر النيل ، وطلب صنع صنم كهؤلاء ، وكذلك تمديد مدّة ميعاد موسى ، وانتشار شائعة موته من قبل المنافقين ، وأخيرا

٥٢

جهل هذه الامّة ، كلّ ذلك كان له أثر في ظهور هذه الحادثة والانحراف الكبير عن التوحيد ، لأنّ الحوادث الاجتماعية لا تقع عادة بدون مقدّمات ، غاية ما هناك أنّ هذه المقدّمات تكون تارة واضحة وعلنية ، وأخرى مستورة وخفيّة.

على كلّ حال ، فإنّ الشرك في أسوأ صورة قد أحاط ببني إسرائيل ، وأخذ بأطرافهم ، خاصة وأنّ كبار القوم كانوا مع موسى في الجبل ، وكان زعيم الأمّة هارون وحيدا دون أن يكون له مساعدون أكفّاء مؤثّرون.

وأخيرا أخبر الله موسى في الميعاد بما جرى لقومه والسامري إذ تحكي الآية التالية ذلك فتقول :( قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ ) .

غضب موسى عند سماعه هذه الكلمات غضبا التهب معه كلّ وجوده ، وربّما كان يقول لنفسه : لقد تحمّلت المصائب والمصاعب خلال هذه السنين الطويلة ، وأرهقت نفسي وواجهت كلّ الأخطار في سبيل أن تركن هذه الامّة إلى التوحيد ، فكيف ذهبت جهودي أدراج الرياح بمجرّد أن غبت عنها عدّة أيّام( فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً ) .

وما أن وقعت عينه على ذلك المنظر القبيح ، منظر عبادة العجل قال( أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً ) . وهذا الوعد الحسن إمّا أن يكون وعد بني إسرائيل بنزول التوراة وبيان الأحكام السماوية فيها ، أو الوعد بالنجاة والإنتصار على الفراعنة ووراثة حكومة الأرض ، أو الوعد بالمغفرة والعفو للذين يتوبون ويؤمنون ويعملون الصالحات ، أو أنّه كلّ هذه الأمور.

ثمّ أضاف :( أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ ) وهو يشير إلى أنّه : هبوا أنّ مدّة رجوعي قد طالت من ثلاثين إلى أربعين يوما ، فإنّ ذا الزمن ليس طويلا ، ألا يجب عليكم أن تحفظوا أنفسكم في هذه المدّة القصيرة؟ وحتّى لو نأيت عنكم سنين طويلة فينبغي أن تلتزموا بالتعاليم الإلهيّة التي تعلمّتموها وتؤمنوا بالمعجزات التي

٥٣

رأيتموها :( أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي ) (١) فقد عاهدتكم على أن تثبتوا على خطّ التوحيد وطريق طاعة الله الخالصة ، وأن لا تنحرفوا عنه قيد أنملة ، إلّا أنّكم نسيتم كلّ كلامي في غيابي ، وكذلك تمردّتم على طاعة أمر أخي هارون وعصيتموه.

فلمّا رأى بنو إسرائيل أنّ موسىعليه‌السلام قد عنّفهم بشدّة ولا مهم على فعلهم وتنبّهوا إلى قبح ما قاموا به من عمل ، هبوا للاعتذار فـ( قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا ) (٢) فلم نكن في الواقع قد رغبنا وصمّمنا على عبادة العجل( وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُ ) .

وللمفسّرين آراء فيما فعله بنو إسرائيل ، وما فعله السامري ، وما هو معنى الآيات ـ محلّ البحث ـ على نحو الدقّة ، ولا يبدو هناك فرق كبير في النتيجة بين هذه الاختلافات.

فذهب بعضهم : إن «قذفناها» تعني أنّنا ألقينا أدوات الزينة التي كنّا قد أخذناها من الفراعنة قبل الحركة من مصر في النّار ، وكذلك ألقى السامري ما كان معه أيضا في النّار حتّى ذاب وصنع منه عجلا.

وقال آخرون : إنّ معنى الجملة أنّنا ألقينا أدوات الزينة بعيدا عنّا ، فجمعها السامري وألقاها في النّار ليصنع منها العجل.

ويحتمل أيضا أن تكون جملة( فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُ ) إشارة إلى مجموع الخطّة التي نفذّها السامري.

__________________

(١) من البديهي أن لا أحد يصمّم على أن يحلّ عليه غضب الله ، بل المراد من العبارة أنّكم في وضع كأنّكم قد صمّمتم مثل هذا التصميم في حقّ أنفسكم.

(٢) «ملك» و «ملك» كلاهما تعني تملّك الشيء ، وكأنّ مراد بني إسرائيل أننا لم نتملّك هذا العمل ، بل وقعنا تحت تأثيره حتّى اختطف قلوبنا وديننا من أيدينا. واعتبر بعض المفسّرين هذه الجملة مرتبطة بجماعة قليلة من بني إسرائيل لم تعبد العجل ، ويقال إنّ ستمائة ألف شخص من هؤلاء أصبحوا من عبدة العجل ، وبقي منهم إثنا عشر ألف فقط على التوحيد. لكن يبدو أنّ التّفسير الذي قلنا أعلاه هو الأصحّ.

٥٤

وعلى كلّ حال ، فإنّ كبير القوم إذا لام من تحت إمرته على ارتكابهم ذنبا ما ، فإنّهم يسعون إلى نفي ذلك الذنب عنهم ، ويلقونه على عاتق غيرهم ، وكذلك عبّاد العجل من بني إسرائيل ، فإنّهم كانوا قد انحرفوا بإرادتهم ورغبتهم عن التوحيد إلى الشرك ، إلّا أنّهم أرادوا أن يلقوا كلّ التبعة على السامري.

على كلّ ، فإنّ السامري ألقى كلّ أدوات زينة الفراعنة وحليهم التي كانوا قد حصلوا عليها عن طريق الظلم والمعصية ـ ولم يكن لها قيمة إلّا أن تصرف في مثل هذا العمل المحرّم ـ في النّار( فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ ) (١) فلمّا رأى بنو إسرائيل هذا المشهد ، نسوا فجأة كلّ تعليمات موسى التوحيديّة( فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى ) .

ويحتمل أيضا أن يكون قائل هذا الكلام هو السامري وأنصاره والمؤمنون به.

وبهذا فإنّ السامري قد نسي عهده وميثاقه مع موسى ، بل مع إله موسى ، وجرّ الناس إلى طريق الضلال : «فنسي».

ولكن بعض المفسّرين فسّروا «النسيان» بالضلال والانحراف ، أو أنّهم اعتبروا فاعل النسيان موسىعليه‌السلام وقالوا : إنّ هذا كلام السامري ، وهو يريد أن يقول : إنّ موسى نسي أنّ هذا العجل هو ربّكم ، إلّا أنّ كلّ ذلك مخالف لظاهر الآية ، وظاهرها هو ما قلناه من أنّ المراد هو أنّ السامري قد أودع عهده وميثاقه مع موسى وربّ موسى في يد النسيان ، وأتّخذ طريق عبادة الأصنام.

وهنا قال الله سبحانه توبيخا وملامة لعبدة الأوثان هؤلاء :( أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً ) فإنّ المعبود الواقعي يستطيع على الأقل أن يلبيّ طلبات عباده ويجيب على أسئلتهم ، فهل يمكن أن يكون سماع خوار العجل من هذا الجسد الذهبي لوحده ، ذلك الصوت الذي لا يشعر بأيّة

__________________

(١) «الخوار» صوت البقرة والعجل ، ويطلق أحيانا على صوت البعير.

٥٥

إرادة ، دليلا على جواز عبادة العجل ، وصحّة تلك العبادة؟

وعلى فرض أنّه أجابهم عن أسئلتهم ، فإنّه لا يعدو أن يكون كإنسان عاجز لا يملك نفع غيره ولا ضرّه ، بل وحتّى نفسه ، فهل يمكن أن يكون معبودا وهو على هذا الحال؟

أي عقل يسمح بأن يعبد الإنسان تمثالا لا روح له يظهر منه بين الحين والآخر صوت غير مفهوم ، ويعظمه ويخضع أمامه؟

ولا شكّ أنّ هارون ، خليفة موسى ونبي الله الكبير ، لم يرفع يده عن رسالته في هذا الصخب والغوغاء ، وأدّى واجبه في محاربة الانحراف والفساد قدر ما يستطيع ، كما يقول القرآن :( وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ ) ثمّ أضاف :( وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ ) .

لقد كنتم عبيدا فحرّركم ، وكنتم أسرى فأطلقكم ، وكنتم ضالّين فهداكم ، وكنتم متفرّقين مبعثرين فجمعكم ووحدّكم تحت راية رجل ربّاني ، وكنتم جاهلين فألقى عليكم نور العلم وهداكم إلى صراط التوحيد المستقيم ، فالآن( فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي ) .

أنسيتم أنّ أخي موسى قد نصّبني خليفة له وفرض عليكم طاعتي؟ فلما ذا تنقضون الميثاق؟ ولماذا ترمون بأنفسكم في هاوية الفناء؟

إلّا أنّ بني إسرائيل تمسكوا بهذا العجل عنادا ، ولم يؤثّر فيهم المنطق السليم القوي لهذا الرجل ، ولا أدلّة هذا القائد الحريص ، وأعلنوا مخالفتهم بصراحة :( قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى ) (١) .

والخلاصة : إنّهم ركبوا رؤوسهم وقالوا : الأمر هو هذا ولا شيء سواه ، ويجب أن نعبد العجل حتّى يرجع موسى ونطلب منه الحكم والقضاء ، فلعلّه يسجد معنا

__________________

(١) (لن نبرح) من مادّة (برح) بمعنى الزوال ، وإنّ ما نراه في أنّ معنى جملة (برح الخفاء) أي الظهور والوضوح لأنّ زوال الخفاء ليس إلّا الظهور ، ولمّا كانت (لن) تدلّ على النفي ، فإنّ معنى جملة (لن نبرح) أننا سنستمر في هذا العمل.

٥٦

للعجل! وعلى هذا فلا تتعب نفسك كثيرا ، وكفّ عنّا يدك! وبهذا لم يذعن بنو إسرائيل لأمر العقل ولا لأمر خليفة قائدهم وزعيمهم أيضا.

ولكن ، كما كتب المفسّرون ـ والقاعدة تقتضي ذلك أيضا ـ فإنّ هارون لمّا أدّى رسالته في هذه المواجهة ، ولم يقبل أكثر بني إسرائيل كلامه ، ابتعد عنهم بصحبة القلّة الذين اتّبعوه ، لئلّا يكون اختلاطهم بهؤلاء دليلا على إمضاء طريقهم المنحرف.

والعجيب أنّ بعض المفسرين ذكروا أنّ هذا التبدّل والانحراف في بني إسرائيل قد حدث في أيّام قليلة فحسب ، فبعد أن مضت (٣٥) يوما على ذهاب موسىعليه‌السلام إلى ميقات ربّه ، شرع السامري بعمله ، وطلب من بني إسرائيل أن يجمعوا كلّ أدوات الزينة التي أخذوها كعارية من الفراعنة وما أخذوه منهم بعد غرقهم ، ووضعوها جميعا في اليوم السادس والثلاثين والسابع والثلاثين والثامن والثلاثين في موقد النّار ، وأذابوها ثمّ صنعوا منها تمثال العجل ، وفي اليوم التاسع والثلاثين دعاهم السامري إلى عبادته ، فقبلها جماعة عظيمة ـ وعلى بعض الرّوايات ستمائة ألف شخص ـ وفي اليوم التالي ، أي في نهاية الأربعين يوما ، رجع موسى(١) .

ولكن افترق عنهم هارون مع القلّة من المؤمنين الثابتين ، والذين كان عددهم قرابة اثني عشر ألفا ، في حين أنّ الأغلبية الجاهلة كادوا أن يقتلوه!

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث.

٥٧

بحوث

١ ـ شوق اللقاء!

قد يكون قول موسىعليه‌السلام في جواب سؤال الله تعالى له حول استعجاله إلى الميقات حيث قال :( وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى ) عجيبا لدى من لم يعرف شأن جاذبية عشق الله ، إلّا أن الذين أدركوا هذه الحقيقة بكلّ وجودهم ، والذين إذا اقترب موعد الوصال اشتدّ لهيب العشق في أفئدتهم ، يعلمون جيدا أيّة قوّة خفيّة كانت تجرّ موسىعليه‌السلام إلى ميقات الله ، وكان يسير سريعا بحيث تخلّف عنه قومه الذين كانوا معه.

لقد كان موسىعليه‌السلام قد تذوق حلاوة الوصال والحبّ والمناجاة مع الله مرارا ، فكان يعلم أنّ كلّ الدنيا لا تعدل لحظة من هذه المناجاة.

أجل هذا هو طريق الذين تجاوزوا مرحلة العشق المجازي نحو مرحلة العشق الحقيقي عشق المعبود الأزلي المقدّس والكمال المطلق ، والحسن واللطف الذي لا نهاية له ، وكلّ ما عند المحسنين الصالحين جميعا عنده بمفرده ، بل إنّ جمال وحسن المحسنين كلّه ومضة بسيطة من إحسانه الدائم الخالد. فيا إلهنا الكبير من علينا بذرّة من هذا العشق المقدّس.

يقول الإمام الصادقعليه‌السلام ـ كما روي عنه ـ «المشتاق لا يشتهي طعاما ، ولا يلتذّ شرابا ، ولا يستطيب رقادا ، ولا يأنس حميما ، ولا يأويّ دارا ويعبد الله ليلا ونهارا ، راجيا بأن يصل إلى ما يشتاق إليه كما أخبر الله عن موسى بن عمران في ميعاد ربّه بقوله: وعجّلت إليك ربّ لترضى»(١) .

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، الجزء ٣ ، ص ٣٨٨.

٥٨

٢ ـ الحركات المناوئة لنهضة الأنبياء!

من الطبيعي أن توجد في مقابل كلّ ثورة حركة مضادّة تسعى إلى تحطيم نتائج الثورة ، وإلى إرجاع المجتمع إلى مرحلة ما قبل الثورة ، وليس سبب ذلك معقّدا ولا غامضا ، لأنّ انتصار ثورة ما لا يعني فناء كلّ العناصر الفاسدة من الفترة السابقة دفعة واحدة ، بل تبقى حثالات منهم تبدأ نشاطها من أجل الحفاظ على وجودها وكيانها ، ومع اختلاف ظروف ومقدار وكيفيّة هؤلاء ، فإنّهم يقومون بأعمال تناهض الثورة سرّا أمّ علانية.

وفي حركة موسى بن عمران الثورية نحو توحيد واستقلال وحرية بني إسرائيل ، كان السامري زعيم هذه الحركة الرجعيّة المضادّة ، فقد كان عالما ـ كبقيّة قادة الحركات الرجعيّة ـ بنقاط ضعف قومه جيدا ، وكان يعلم أنّه قادر على أن يستغلّ هذه النقاط فيثير الفتنة فيهم ، فسعى أن يصنع من أدوات الزينة والذهب التي هي آلهة عبيد الدنيا ، وتجلب اهتمام عوام الناس ، عجلا على هيئة خاصة ، وجعله في مسير حركة الريح ـ أو بالاستعانة بأيّة وسيلة أخرى ـ ليخرج منه صوت. وذلك بانتهاز فرصة مناسبة ـ وهي غيبة موسى لعدّة أيّام ـ ونظرا إلى أنّ بني إسرائيل بعد النجاة من الغرق ، ومرورهم على قوم يعبدون الأصنام ، طلبوا من موسى صنما ، والخلاصة أنّهّ استغلّ كلّ نقاط الضعف النفسي ، والفرض المكانية والزمانية المناسبة ، وبدأ خطّته المضادّة للتوحيد. وقد نظّم هذه المواد بمهارة فائقة بحيث حرّف في مدّة قصيرة أغلبية الجهلة من بني إسرائيل عن خطّ التوحيد إلى طريق الشرك.

وبالرغم من أنّ هذه الخطّة قد أحبطت بمجرّد رجوع موسى وقوّة إيمانه ومنطقه بنور الوحي ، ولكن إذا لم يرجع موسى فما ذا كان سيحدث؟ إنّهم إمّا كانوا سيقتلون أخاه هارون حتما ، أو سيحجمونه بحيث لا يصل صوته إلى أحد.

أجل إنّ كلّ ثورة تحارب في البداية بهذه الصورة ، فيجب الحذر دائما ،

٥٩

ومراقبة تحرّكات الشرك الرجعية ، والقضاء على المؤامرات وهي في وكرها ومهدها.

وكذلك يجب الالتفات إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ كثيرا من الثورات الحقيقيّة تعتمد في البداية ـ ولأسباب مختلفة ـ على فرد أو أفراد معينين ، بحيث أنّهم إذا فقدوا وغابوا عن الساحة سيعود الخطر ويهدّد الثورة من جديد ، ولذلك يجب السعي من أجل خلق الموازين الثقافية الثورية في عمق المجتمع بأسرع ما يمكن ، وكذلك تربية الناس بشكل لا تهزّهم العواصف المضادّة للثورة ، بل يقفون كالجبل الأصمّ أمام كلّ حركة رجعيّة متخلّفة.

وبتعبير آخر ، فإنّ واحدة من وظائف القادة المخلصين أن ينقلوا الموازين والمعايير منهم إلى المجتمع ، ولا شكّ أنّ هذا الأمر المهمّ يحتاج إلى مضي زمان ، إلّا أنّه يجب السعي لاختصار هذا الزمن إلى أقلّ ما يمكن.

أمّا من كان السامري؟ وكيف كانت عاقبة أمره؟ فسنتحدّث عنه في الآيات المقبلة إن شاء الله تعالى.

٣ ـ مراحل القيادة

لا شكّ أنّ هارونعليه‌السلام لم يأل جهدا في أداء رسالته عند غياب موسىعليه‌السلام ، إلّا أنّ جهل الناس من جهة ، وترسبّات مرحلة العبودية والرقّ وعبادة الأصنام من جهة أخرى ، قد أفشلت جهوده ، فهو قد نفّذ واجبه ـ حسب الآيات محل البحث ـ على أربع مراحل:

الأولى : إنّه نبّه هؤلاء وأعلمهم أنّ هذا العمل يشكّل تيار انحرافي ، وهو موضع اختبار خطير للجميع لتصحو العقول الغافلة ، وليعي الناس ويفكّروا لئلّا يغلبوا على أمرهم ، إذ قال لهم :( يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ ) .

الثّانية : إنّه ذكرهم بنعم الله المختلفة عليهم منذ بدء ثورة موسىعليه‌السلام إلى زمان

٦٠

٦١

بعد معرفة أنّ الأصل الأوّلي ومقتضى القاعدة الأوّليّة، هو أنّ الشارع إذا أوردً عنواناً معيّناً في دليلٍ من الأدلّة فإنّه يجب أن يبقى على معناه اللغوي.

أي أنّ كلّ دليل وردَ من الشارع يبقى على معناه اللغوي ما لم ينقله الشارع إلى الحقيقة الشرعيّة، هذا من جهة.

ومن جهةٍ أخرى، هناك أمر آخر يضيفه الأصوليّون، وهو تحقّق هذا العنوان وحصوله في الخارج.

فنحن تارة نتكلّم في مرحلة التأطير والتنظير، وفي أفق الذهن، أو في أفق اللوح باعتباره القانون، فحينئذٍ يبقى المعنى على حاله.

وتارةً نتكلّم عن مرحلة أخرى هي غير التنظير القانوني، بل هي مرحلة التطبيق في الخارج والوجود في الخارج، في هذه المرحلة أيضاً، فما لم يعبّدنا الشارع ويتصرّف في الوجود الخارجيّ لأيّ عنوان، فالأصل الأوّلي هو أن يكون وجوده ومجاله أيضاً عرفيّاً، سواء كان له وجودٌ تكويني، أو كان له وجود اعتباري لدى العرف، إلاّ أن يجعل الشارع له وجوداً خاصّاً بأن ينصب دليلاً على ذلك.

٦٢

أمثلةٌ على تحديد الوجود الخارجي للموضوع من الشارع المقدّس

مثال 1: في تحقّق الطلاق، لو قال الزوج: طلّقتُ امرأتي، أو أطلّقُكِ، أو سأُطلّقك، فكلّ هذه الصيغ لا يمضيها الشارع ولا يقرّها، وهي غير محقّقة، ولا موجّدة للطلاق، وإن كانت في العرف موجدةً له، لكن عند الشارع لا أثر لها، إلاّ أن يقول: أنتِ طالق، بلفظ اسم الفاعل المراد منه اسم المفعول.

هنا الشارع وإن لم يتصرّف في ماهيّة الطلاق ولم يتصرّف في عنوانه، بل أبقاه على معناه اللغوي، لكنّه تصرّف في كيفيّة وجوده وحصوله في الخارج.

مثال 2: الحلف لا يكون حلفاً شرعيّاً بالله، والنذر لا يكون نذراً لله إلاّ أن تأتي به بالصيغة الخاصّة، فهذا تصرّف في كيفيّة الوجود، فإن دلّ الدليل على كيفيّة تصرّف خاصّة من الشارع وفي كيفيّة الوجود، فلا يتحقّق ذلك الأمر إلاّ بها.

أمّا إذا لم يقم الدليل من الشارع على ذلك، فمقتضى القاعدة الأوّليّة أنّ وجوده يكون وجوداً عرفيّاً - تكوينيّاً كان أو اعتباريّاً - ما لم يرد دليل من الشارع لتحديد وجوده وحصوله في الخارج.

نرجع إلى محلّ البحث، لو لم يكن دليل إلاّ عموم آية( لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ) .

وعموم آية:( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) ، وقلنا: إنّ المعنى يبقى على حاله، حيث إنّ الشارع لم يتصرّف في معناه

٦٣

اللغوي الذي هو ما يقال عنه مرحلة تقنين القانون، ولم يتصرّف أيضاً في مرحلة التطبيق الخارجي من جهة خارجيّة، فما يتّفق عليه العرف بحيث يصبح تبياناً وإضاءةً لمعنى من المعاني الدينيّة، يصبح شعيرةً وشعاراً.

ويجدر التنبيه هنا على أنّ وجودات الأشياء على قسمين:

الوجودُ التكويني والوجود الاعتباري للأشياء

القسم الأوّل: هو الوجود التكويني مثل: وجود الماء، الحجر، الشجر، الإنسان، الحيوان.

القسم الثاني: وجود غير تكويني، بل هو اعتباري - أي فرضي، ولو من العرف - مثل: البيع، فالبائع والمشتري يتّفقان على البيع بخصوصيّاته، فيتقيّدان بألفاظ الإيجاب والقبول فيها، فحينئذٍ: هذا البيع، أو الإجارة، أو الوصيّة، أو المعاملة ليس لها وجود حسّي خارجيّ؛ وإنّما وجودها بكيفيّات اعتباريّة فرضيّة في عالَم فرضي يُمثّل القانون، سواء قانون الوضع البشري، أو حتّى قانون الوضع الشرعي عند الفقهاء، إذ يحملون هذا على الاعتبار الفرضي، فهو عالَم اعتبار لمَا يتّخذه العقلاء من فرضيّات.

العقلاء يفترضون عالَماً فرضيّاً معيّناً، لوحة خاصّة بالعقلاء، لوحة القانون العقلائي.

فوجودات الأشياء على أنحاء: تارةً نَسق الوجود التكويني، وتارة نَسق الوجود الاعتباري، وإن كانت اعتبارات الشارع، وتقنينات الشارع، وفرضيّات الشارع وقوانينه، يُطلق عليها أيضاً اعتبار شرعي، ولكن من الشارع.

٦٤

خلاصةُ القول

إنّ كلّ عنوان أُخذ في دليلٍ - كالبيع، أو الهبة، أو الوصيّة، أو الشعائر، أو الطلاق، أو الزوجيّة - إذا أُبقيَ على معناه اللغوي، وأيضاً أُبقي على ما هو عليه من الوجود عند العرف فبها، غاية الأمر أنّ الوجود عند العرف ليس وجوداً تكوينيّاً، بل وجودٌ طارئ اعتباري في لوحة تقنيناتهم وفي لوحة اعتبارهم، مثلاً: حينما يقول الشارع في الآية الكريمة:( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) (1) ليس معناه: أنّ البيع الذي هو بيع عند الشارع قد أحلّه الله ؛ لأنّ ذلك يكون تحصيل الحاصل، لأنّ البيع الذي عند الشارع هو حلال من أساسه، بل المقصود من:( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) ، وكذلك:( أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ) (2) المراد أنّ البيع والعقود التي تكون متداولة في أُفق اعتباركم أنتم أيها العقلاء قد أوجبتُ - أنا الشارع - الوفاء بها، وقد أحللتُها لكم، فإذاً قد أبقاها الشارع على ما هي عليه من وجود ومعنىً لغوي عند العقلاء والعرف.

وقد يتصرّف الشارع في بعض الموارد - كما بينّا في الطلاق - حيث يقيّدها بوجود خاص.

فحينئذٍ، يتبيّن أنّ الأشياء قد يبقيها الشارع على معناها اللغوي، ويبقي وجودها في المقام الآخر على ما هي عليه من وجود إمّا تكويني أو

____________________

(1) البقرة: 275.

(2) المائدة: 1.

٦٥

اعتباري.

ومن جهةٍ أخرى، فإنّ العلامة أو (الدال) إمّا عقليّة أو طبعيّة، أو وضعية..

فهل الشعائر أو الشعيرة هي علامة تكوينيّة، أم عقليّة، أم طبعيّة، أم هي وضعيّة؟

الشعيرةُ علامة وضعيّة

نرى أنّ الشعيرة والشعار هي علامة وضعيّة وليست عقليّة ولا طبعيّة، وهنا مفترق خطير في تحليل الماهيّة؛ للتصدّي للكثير من الإشكالات أو النظريّات التي تُقال في قاعدة الشعائر.

نقول: إنّ الشعيرة هي علامة وضعيّة، بمعنى أنّ لها نوعاً من الاقتران والربط والعلقة الاعتباريّة، فالوضع هو اعتباري وفرضي بين الشيئين.

والأمر كذلك في الأمور الدينيّة أيضاً، مثلاً كان شعار المسلمين في بدر: (يا منصور أمِت)(1) ، حيث يستحب في باب الجهاد أن يضع قائد جيش المسلمين علامة وشعاراً معيّناً للجيش.

الشعائر أو الشعارة: هي ربط اعتباري ووضع جعلي فطبيعتها عند العرف هو الاعتبار، حتّى شعار الدولة، وشعار المؤسّسات، وشعار الأندية، والوزارات..

والشركات التجارية، والفِرق الرياضيّة، لكنّ كلّ ذلك أمر اعتباري..

____________________

(1) المنصور من أسماء الله سبحانه، أمِت: يعني أمِت الكافرين.

٦٦

فهو علامة حسّيّة دالّة على معنى معيّن، لكنّ الوضع والعلقة فيه اعتباريّة.

فلابدّ من الالتفات إلى تحليلٍ أعمق لماهيّة الشعائر والشعيرة، فماهيّة الشعار والشعيرة علامة حسّيّة لمعنى من المعاني الدينيّة، ولكنّ هذه العلامة ليست تكوينيّة، ولا عقليّة، ولا طبعيّة، وإنّما هي علامة وضعيّة.

فالشعائر هي التي تفيد الإعلام، وكلّ ما يُعلِم على معنى من المعاني الدينيّة، أو يدلّ على شيء له نسبة إلى الله عزّ وجل، فإنّ هذا الإعلام والربط بين الـمَعلم والـمُعلم به، وهذا الربط هو في الماهيّة وضعي اعتباري.

فالموضوع يتحقّق بالعُلقة، والوضع الاعتباري.

وإذا كان تحقّق ماهيّة الشعائر والشعيرة بالعُلقة الوضعيّة الاعتباريّة، وافتراضنا أنّ الشارع لم يتصرّف في كيفيّة الوجود، بمعنى أنّ المتشرّعة إذا اختاروا واتّخذوا سلوكاً ما علامة لمعنى ديني معيّن، فبالتالي يكون ذلك السلوك من مصاديق الشعائر.

وكما قلنا: إنّ ماهيّة الشعائر تتجسّد في كلّ ما يوجب الإعلام والدلالة فيها وضعيّة، والواضع ليس هو الشارع ؛ لأنّه لم يتصرّف بالموضوع، فبذلك يكون الوضع قد أُجيز للعرف والعقلاء.

كما ذكرنا في البيع أنّ له ماهيّة معيّنة، وكيفيّة خاصّة حسب ما يقرِّره العقلاء، وكيفيّة وجوده اعتباريّة، وذَكرنا أنّ الشارع إن لم يتصرّف في الماهيّة والمعنى في الدليل الشرعي، ولم يتصرّف في كيفيّة الوجود، فالماهيّة تبقى على حالها عند العقلاء، بخلاف الطلاق الذي تصرّف الشارع في كيفيّة وجوده في الخارج.

٦٧

الشعائرُ ومناسك الحج

وممّا تقدّم: تبيّن خطأ عدّ مناسك الحجّ - بما هي مناسك - شعائر.

حيث إنّ الشعائر صفة عارضة لها، وليست الشعائر هي عين مناسك الحجّ كما فسّرها بعض اللغويّين.

بيان ذلك: حينما نقول مثلاً: (الإنسانُ أبيض)، هل يعني أنّ الماهيّة النوعيّة للإنسان هي البياض، كلاّ، أو حين نقول: (الإنسان قائم)، فهل يعني أنّ الماهيّة النوعيّة للإنسان هي القيام، كلاّ، إذ القيام والبياض أو السمرة أو السواد ليست ماهيّةً للإنسان، وإنّما هذه عوارض قد تعرض على الماهيّة وقد تزول عنها.

إنّ كُنه الإنسان وماهيّته بشيء آخر، لا بهذه العوارض، وكذلك مناسك الحجّ، إذ ليست ماهيّة المنسك هي الشعار، بل الشِعار هو ما يكمُن وينطوي فيه جنبة الإعلام والعلانيّة لشيء من الأشياء.

مثال آخر: لفظة (زيد) كنهها ليس أنّها سِمة لهذا الإنسان، كُنهها: هو صوت متموّج يتركّب من حروف معيّنة، نعم، من عوارضها الطارئة عليها أنّها سِمة واسم وعلامة لهذا الإنسان، وهذا من عوارضها الاعتباريّة لا الحقيقيّة، حيث إنّها علامة على ذلك الجسم.

إذاً جنبة العلاميّة لون عارض على أعمال الحج، أو على العبادات، أو على الموارد الأخرى، لا أنّها عين كنه أعمال الحج، وليس كون الشعائر هي نفس العباديّة، ولا كون العباديّة هي الشعائر.

أمّا كيف يسمح الشارع في أن يتصرّف العرف بوضع الشعائر أو غير ذلك، فهذا ما سنقف عليه لاحقاً إن شاء الله تعالى.

٦٨

الترخيصُ في جَعل الشعائر بيد العُرف

إنّ الشارع حينما لا يتصرّف في معنى معيّن، ولا في وجوده في الخارج، فهل يعني هذا تسويغاً من الشارع في أن يتّخذ العرف والعقلاء ما شاءوا من علامة لمعاني الدين وبشكلٍ مطلق؟ أم هناك حدود وقيود، وما الدليل على ذلك؟

هل اتّخاذ المسلمين لهذه المعالِم الحسّيّة مَعلماً وشعاراً، سواء كانت مَعالم جغرافيّة: كموقع بدر، وغدير خمّ، أو مَعلماً زمنيّاً: كمولد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وهجرته، وتواريخ الوقائع المهمّة، أو مَعلماً آخر غير زماني ولا مكاني، كأن يكون ممارسةً فعليّة، هل هذا فيه ترخيص من الشارع أم لا؟

للإجابة على هذا السؤال المهمّ لابدّ من تحرير النقاط التالية:

النقطة الأولى: وهذه هي جهة الموضوع في قاعدة الشعائر الدينيّة، وهي: أنّ العناوين التي ترد في لسان الشارع إذا لم يرد دليل آخر يدلّ على نقلها من الوضع اللغوي إلى الوضع الجديد والمعنى الجديد، فهي تبقى على حالها، وعلى معانيها الأوّليّة اللغويّة.

النقطة الثانية: أنّ تحقّق تلك الموضوعات وكيفيّة وجودها في الخارج، إن كان الشارع صرّح وتصرّف بها فنأخذ بذلك، وإلاّ فإنّها ينبغي أن تبقى على كيفيّة وجودها العرفي أو التكويني.

النقطة الثالثة: أنّ وجودات الأشياء على نسقَين:

( أ ) بعض الوجودات وجودات تكوينيّة.

٦٩

(ب) وبعض الوجودات وجودات اعتباريّة.

وقد أشرنا سابقاً لذلك، ولكن لزيادة التوضيح نقول: إنّ عناوين أغلب المعاملات وجودها اعتباري: كالبيع، والإجارة، والهبة، والوصيّة، والطلاق، والنكاح وما شابه ذلك، كلّ هذه العناوين كانت وجودات لدى العرف والعقلاء( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ... ) ،( أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ... ) وغيرها من العناوين.

فآية:( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ... ) لسانٌ شرعي وقضيّة شرعيّة تتضمّن حكماً شرعيّاً وهو الحلّيّة، بمعنى حلّيّة البيع وصحّته وجوازه، ولم يتصرّف الشارع بماهيّة البيع، ولا بكيفيّة وجوده، إلاّ ما استُثني(1) ، فكيفيّة وجوده عند العرف والعقلاء تكون معتبرة، فما يصدق عليه وما يسمّى وما يطلق عليه (بيع) في عرف العقلاء جُعل موضوعاً لقضيّة شرعيّة، وهي حلّيّة ذلك البيع، وإلاّ فإنّ هذا الدليل( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ... ) ليس المقصود منه البيع الشرعي، إذ البيع الشرعيّ أحلّه الله، ولو كان البيع المراد في هذا اللسان هو البيع الشرعي، لمَا كان هناك معنىً لحلّيّته؛ لأنّه سوف يكون تحصيلاً للحاصل، البيع الشرعي إذا كان شرعيّاً فهو حلال بذاته، فكيف يُرتّب عليه الشارع حكماً زائداً وهو الحلّيّة.

فلسان الأدلّة الشرعيّة - والتي وردت فيها عناوين معيّنة - إذا لم يتصرّف الشارع بها ولم يتعبّد بدلالة زائدة، تبقى على ما هي عليه من المعاني

____________________

(1) مثل: حُرمة وفساد بيع المكيل والموزون بجنسه مع التفاضل؛ لأنّه ربا، ومثل: بطلان بيع الكالئ بالكالئ وغيرها.

٧٠

الأوّليّة، وتبقى على ما هي عليه عند عُرف العقلاء.

حينئذٍ يأتي البيان المزبور في لفظة (الشعائر) الواردة في عموم الآيات:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ) (1) أو:( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ.. ) (2) وقد مرّ بنا أنّ ماهيّة الشعيرة، أو الشعائر التي هي بمعنى العلامة إذا أُضيفت إلى الله عزّ وجل، أو أُضيفت إلى الدين الإسلامي، أو أُضيفت إلى باب من أبواب الشريعة، فإنّها تعني علامة ذلك الباب، أو علامة أمر الله، أو علامة أحكام الله وما شابه ذلك.

والعلامة - كما ذكرنا - ليست عين المنسك، وليست عين العبادة، وليست عين الأحكام الأخرى في الأبواب المختلفة؛ وإنّما العلامة أو الإعلام شيء طارئ زائد على هذه الأمور، كاللون الذي يكون عارضاً وطارئاً على الأشياء، فيكون طارئاً على العبادة، أو المنسك، أو الحُكم المعيّن.

فجنبة الإعلام والنشر في ذلك الحُكم، أو في تلك العبادة، أو ذلك المنسك، تتمثّل بالشعيرة والشعائر، وبهذا النحو أيضاً تُستعمل في شعائر الدولة أو شعائر المؤسّسة والوزارة - مثلاً - فهي ليست جزءاً من أجزاء الوزارة أو المؤسّسة مثلاً، وإنّما هي علامةٌ عليها.

فالنتيجة: أنّ الشعيرة والشعائر والشِعار تبقى على حالها دون تغيير في كلا الصعيدين: صعيد المعنى اللغوي، وصعيد كيفيّة الوجود في الخارج.

____________________

(1) المائدة: 2.

(2) الحجّ: 32.

(1) الحجّ: 36.

٧١

فإطلاق الشعائر على مناسك الحجّ ليس من جهة وجودها التكويني أو الطبعي، بل من جهة الجعل والاتّخاذ من الله عزّ وجل:( وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ) (1) يعني: باتّخاذ وضعي واعتباري أصبحت علامة ونبراساً للدين.

هذه الشعائر في مناسك الحج، جُعلت - بالوضع والاعتبار - علامةً للدين، ولعلوّ الدين، ولرقيّه وانتشاره وعزّته ونشر أحكامه.

بعد هذا البسط يتّضح من ماهيّة الشعيرة ومن وجود الشعيرة، أنّ وجودها ليس تكوينيّاً، والمقصود ليس نفي تكوينيّة وجود ذات الشعيرة، بل إنّ تَعَنون الشيء بأنّه شعيرة وجعله علامة على شيء آخر تَعنونه هذا، وجعله كذلك ليس تكوينيّاً بل اعتباريّاً، وإلاّ فالبُدن هي من الإبل، ووجودها تكويني.

ولكن كونها شعيرة وعلامة على حُكم من أحكام الدين، أو على عزّة الإسلام شيء اعتباري، نظير بقيّة الدلالات التي تدلّ على مدلولات أخرى بالاعتبار والجعل.

فالشعائر وإن كانت وجودات في أنفسها تكوينيّة، ولكن عُلقتها ودلالتها على المعاني اتّخاذيّة واعتباريّة، بواسطة عُلقة وضعيّة ربطيّة اعتباريّة، هذا من جهة وجودها.

ومن جهةٍ أخرى، فقد دلّلنا على أنّ الشعائر والشعيرة تكون بحسب ما تُضاف إليه، كما قد يتّخذ المسلمون الشعائر في الحرب مثلاً، كما وردَ

____________________

(1) الحجّ: 36.

٧٢

دليل خاص في باب الجهاد على استحباب اتّخاذ المسلمين شعاراً لهم، مثل ما اتّخذه المسلمون في غزوة بدر، وهو شعار: (يا منصور أمِت).

فالمقصود إذا لم يرد لدينا دليل خاصّ على التصرّف في معنى الشعائر أو الشعيرة - التي هي بمعنى العلامة كما ذكرنا - فإنّه يبقى على معناه اللغوي الأوّلي.

الوجودُ الاعتباري للشعيرة

وكذلك في الوجود الخارجي، إذ المفروض أنّ المتشرّعة إذا اتّخذوا شيئاً ما كشعيرة، يعني علامة على معنى ديني سامي، معنىً من المعاني الدينيّة السامية، أو حكماً من الأحكام العالية، وجعلوا له علامة، شعيرة وشِعار وشعائر. فالمفروض جَعل ذلك بما هي شعيرة لا بما هي هي، أي: بوجودها النفسي، لكن بما هي شعيرة، (كاللفظ بما هو دال على المعنى، لا يكون دالاً على المعنى إلاّ بالوضع..) فالشعيرة بما هي شعيرة، أي بما هي علامة دالّة على معنى سامي من المعاني الدينيّة، وتشير بما هي علامة على حُكم من الأحكام الدينيّة الركنيّة مثلاً، أو الأصليّة وهي دلالة اعتباريّة اتّخاذيّة وضعيّة.

وهذا يعني أنّها مجعولة في ذهن الجاعل، وبالتبادل وبالاتفاق تصبح شيئاً فشيئاً شعيرة وشِعار، مثل ما يجري في العرف بأن يضعوا للمنطقة الفلانيّة اسماً معيّناً مثلاً، وبكثرة الاستعمال شيئاً فشيئاً ينتشر بينهم ذلك الاسم فيتواضعون عليه، ويتعارف بينهم أنّ هذه المنطقة تُعرف باسم كذا، ويحصل الاستئناس في استعمال اللفظ في ذلك المعنى، فينتشر ويتداول، فحينئذٍ يكون اللفظ المخصوص له دلالة على المعنى المعيّن دلالةً وضعيّةً.

٧٣

خلاصةُ القول

إلى هنا عرفنا أنّ في آية:( لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ) (1) ، وآية:( وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) (2) ثلاثة مَحاور:

محور الحُكم، ومحور المتعلّق، ومحور الموضوع.

فنقول: لو كنّا نحن ومقتضى القاعدة، لو كنّا نحن وهاتين الآيتين الشريفتين فقط وفقط فحينئذٍ، نقول: إنّ المعنى لشعائر الله - كالزوال، وكدِلوك الشمس - بقيَ على ما هو عليه في المعنى، ووجوده أيضاً على ما هو عليه من وجود، وقد بيّنّا في كيفيّة وجوده أنّها ليست تكوينيّة، بل هي وضعيّة واعتباريّة واتخاذيّة، كما في آية( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ... ) نبقيه على ما هو عليه من معنى، ونُبقيه على ما هو عليه من وجود، ووجوده هو وجود اعتباري لدى العقلاء.

وكذلك الأمر في شعائر الله، حيث هناك موارد قد تصرَّف فيها الشارع بنفسه وجعلَ شيئاً ما علامة، وغاية هذا التصرّف هو جعل أحد مصاديق الشعائر، كالمناسك في الحجّ.

وهناك موارد لم يتصرّف الشارع بها ولم يتّخذ بخصوصها علامات معيّنة.

وإنّما اتّخذ المتشرِّعة والمكلّفون شيئاً فشيئاً فعلاً من الأفعال - مثلاً -

____________________

(1) المائدة: 2.

(2) سورة الحج: 32.

٧٤

علامة وشعاراً على معنى من المعاني الإسلاميّة، فتلك الموارد يشملها عموم الآية:( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) (1) ، وكذلك يشملها عموم:( لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ) (2) .

فلو كنّا نحن وهاتين الآيتين فقط، يتقرّر أنّ معنى الشعائر ووجودها هو اتّخاذي بحسب اتّخاذ العرف.

لكن قبل أن يتّخذها العرف شعيرة ومشاعر، وقبل أن يتواضع عليها العرف، والمتشرِّعة والعقلاء والمكلّفون لا تكون شعيرة، وإنّما تتحقّق شعيريّتها بعد أن تتفشّى وتنتشر ويتداول استعمالها، فتصبح رسماً شعيرة وشعائر، ويشملها عموم( لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ) ، و( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ... ) .

فالمفروض أنّ المعنى اللغوي لشعائر الله، هو معنىً عام طُبّق في آية سورة المائدة، أو في آية سورة الحجّ على مناسك الحجّ.

ولكن لم تُحصر الشعائر بمناسك الحجّ، بل الآية الكريمة دالّة على عدمه:( وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ) (3) ، و (من) دالّة على التبعيض والتعميم.

فإذن، اللفظ حسب معناه اللغوي عام، ونفس السياق - الذي هو سياق تطبيقي - ليس من أدوات الحصر، كما ذكرَ علماء البلاغة ؛ فإنّهم لم يجعلوا

____________________

(1) الحجّ: 32.

(2) المائدة: 2.

(3) الحج: 36.

٧٥

تطبيق العام على المصداق من أدوات الحصر.

بل عُلّل تعظيم مناسك الحج لكونها من الشعائر، فيكون من باب تطبيق العام على أفراده، وذَكرنا أنّ أغلب علماء الإماميّة - من مفسّريهم، وفقهائهم، ومحدّثيهم - ذَهبوا في فتاواهم وتفاسيرهم إلى عموم الآية لا إلى خصوصها، ومنهم: الشيخ الطوسي في التبيان، حيث ذَكر أقوالاً كثيرة نقلاً عن علماء العامّة، ثُمّ بعد ذلك ذهب إلى أقوائيّة عموم الآية، وإنّه لا دليل على تخصيصها.

كما أنّ هناك دليلاً على ذلك من الآية الشريفة( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ) (1) ، حيث إنّ من الواضح أنّ حُرمات الله أعمّ من حُرمات الحجّ، هنا الموضوع للحُكم هو مُطلق حُرمات الله، وكذلك الأمر بالنسبة لشعائر الله في الآية الأخرى.

فإذن لو كنّا نحن ومقتضى هاتين الآيتين، فهاتان الآيتان - بحسب معناهما اللغوي، وبحسب وجودهما بين العقلاء وعُرف المكلّفين - وجودهما اعتباري اتّخاذي، ولو من قِبَل المتشرِّعة.

هذا الكلام بحسب اللسان الأوّلي في أدلّة الشعائر وقاعدة الشعائر، أمّا بحسب اللسان الإلزامي، فالأمر أوضح بكثير كما سنتعرّض إليه.

الاعتراضُ بتوقيفيّة الشعائر

في مقابل ذلك، أدُّعي وجود أدلّة تُثبت اختصاص جعل الشعائر بيد

____________________

(1) الحج: 30.

٧٦

الشارع المقدّس من حيث تطبيق وجودها، كما أنّ الشارع حينما جعل البيع، صار له وجود وكيفيّة خاصّة، وهو ذلك الوجود الذي رتّب عليه الحلّيّة، وأخذَ فيه قيوداً معيّنة.

ويقرِّر ذلك بعينه في بحث الشعائر، كما هو الحال في الطلاق، حيث إنّ الشارع جعلَ له كيفيّة وجود خاصّة.

فالشعائر لابد أن تُتّخذ وتُجعل من قِبَل الشارع، ومن ثُمّ يَحرم انتهاكها، أمّا مجرّد اتّخاذها - والتعارف عليها والتراضي بها من قِبَل العرف والعقلاء - لا يجعلها شعيرة ولا يترتّب عليها الحُكم، أي: وجوب التعظيم وحرمة الهتك.

أدلّةُ المُعترض:

الأوّل: باعتبار أنّ الشعائر تعني أوامر الله، ونواهي الله، وأحكام الله، فلابدّ أن تكون الشعائر من الله، فكيف يوكَّل تشريعها غير الله سبحانه( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ ) (1) .

الثاني: ما في الآية من سورة الحجّ( وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ) (2) من كونها شعائر الله، إنّما هو بجعل الشارع لا بجعل المتشرِّعة.

وآية( لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ) (3) ، وآية:( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ

____________________

(1) الأنعام: 57.

(2) الحج: 36.

(3) المائدة: 2.

٧٧

فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ) (1) ترتبط كلّ منها بموارد مناسك الحجّ، ومناسك الحجّ مجعولة بجعل الشارع.

فالحاصل أنّ ألفاظ الآيات ظاهرة في أنّ جعل الشعائر إنّما هو جعل من الله، وليس هو جعل وإنشاءٌ واتخاذٌ حسب قريحة واختيار المتشرِّعة.

الثالث: لو كانت الشعائر بيد العرف لاتّسع هذا الباب وترامى، ولمَا حُدّ بحدّ، بحيث يُعطى الزمام للعرف وللمتشرِّعة بأن يجعلوا لأنفسهم شعائر كيف ما اختاروا واقترحوا، وبالتالي سوف تطرأ على الدين تشريعات جديدة وأحكام مستحدَثة ورسوم وطقوس متعدّدة، حسب ما يراه العرف والمتشرِّعة، فتُجعل شعائر دينيّة.

فإيكال الشعائر إلى العرف والمتشرّعة وإلى عامّة الناس المتديّنين، سوف يستلزم إنشاء تشريع دين جديد وفقَ ما تُمليه عليهم رغباتهم وخلفيّاتهم الذهنيّة والاجتماعيّة.

الرابع: يلزم من ذلك تحليل الحرام، وتحريم الحلال، حيث سيتّخذون بعض ما هو محرّم شعائر فيجعلونها عَلَماً وعلامة على أمر ديني، وهذا تحليل للحرام، أو قد يجعلون لأشياء محلّلة حرمة معيّنة مثلاً ؛ لأنّها إذا اتُّخذت شعيرة وعُظِّمت فسوف يُجعل لها حرمة، مع أنّ حكمها في الأصل كان جواز الإحلال والابتذال.

أمّا بعد اتّخاذها شعيرة فقد أصبح ابتذالها حراماً وتعظيمها واجباً، فيلزم من ذلك تحريم الحلال.

____________________

(1) الحج: 30.

٧٨

جوابُ الاعتراض:

والجواب تارةً إجمالاً وأخرى تفصيلاً.. أمّا الجواب الإجمالي: فهو وجود طائفة الأدلّة من النوع الثاني والثالث، حيث مرّ أنّ لقاعدة الشعائر الدينيّة ثلاثة أنواع من الأدلّة:(1)

النوع الأول: لسان الآيات التي وردت فيها نفس لفظة الشعيرة والشعائر.

النوع الثاني: لسان آخر، وهو ظاهر الآيات التي وردت في وجوب نشر الدين، وإعلاء كلمة الله سبحانه، وبثّ الشريعة السمحاء.

وقد قلنا: إنّ قاعدة الشعائر الدينيّة تتقوّم برُكنين:

ركن الإعلام والنشر والبثّ، والانتشار لتلك العلامة الدينيّة ولِذيها.

وركن علوّ الدين واعتزازه، وهذا اللسان نلاحظه في جميع الألسن لبيان القاعدة، سواء كان في اللسان الأوّل الذي وردت فيه بلفظ الشعائر، أو في اللسان الثاني الذي لم يرد فيه لفظ الشعائر.

النوع الثالث : أو اللسان الثالث من الأدلّة: الذي ذكرنا بأنّه العناوين الخاصّة في الألفاظ الخاصّة.

فلو بنينا على نظريّة هذا المعترض؛ فإننّا لن ننتهي إلى النتيجة التي يتوخّاها بأنّ الشعائر حقيقة شرعيّة، أو وجودها حقيقة شرعيّة، لأنّ النتيجة

____________________

(1) راجع ص: 31 - 38 من هذا الكتاب.

٧٩

التي يريد أن يتوصّل إليها هي الحكم ببدعيّة كثير من الرسوم والطقوس التي تمارَس باسم الشعائر الدينيّة المستجدّة والمستحدَثة، وهذه النتيجة سوف لا يصل إليها حتّى لو سلّمنا بأنّ الشعائر الدينيّة هي بوضع الشارع وبتدخّله؛ لعدم انسجام ذلك مع النَمَطين الأخيرين من لسان أدلّ الشعائر، والوجه في ذلك يتّضح بتقرير الجواب التفصيلي على إشكالات المعترِض.

الجوابُ التفصيلي الأوّل

يتمّ بيانه عبر ثلاث نقاط:

النقطة الأولى: تعلّق الأوامر بطبيعة الكلّي

ما ذكرهُ علماء الأصول: من أنّ الشارع إذا أمرَ بفعل كلّي، مثل: الأمر بالصلاة( أَقِيمُواْ الصَّلاَةَ ) (1) ، أو الأمر بعتق رقبة، أو الاعتكاف، ولم يُخصِّص ذلك الفعل بزمن معيّن، أو بمكان معيّن، أو بعوامل معيّنة؛ وإنّما أمرَ بهذه الطبيعة على حدودها الكلّيّة، كأن يأمر الشارع مثلاً بصلاة الظهرين بين الحدّين، أي: بين الزوال والغروب، فالمكلّف يختار الصلاة في أيّ فردٍ زمني من هذه الأفراد، وإن كان بعض الأفراد له فضيلة، إلاّ أنّ المكلّف مُفوّض في إيجاد طبيعة الصلاة، وماهيّة الصلاة، وفعل الصلاة في أيّ فرد شاء، وفي أيّ آنٍ من الآنات بين الزوال والغروب، سواء في أوّل الوقت، أو وسط الوقت، أو آخر الوقت، كما أنّه مفوّض ومخيّر في إيقاع الصلاة في هذا المسجد، أو في ذلك المسجد، أو في منزل، جماعة أو فرادى، وبعبارة

____________________

(1) البقرة: 43، 83، 110.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550