الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٠

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل3%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 550

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 550 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 211269 / تحميل: 6383
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٠

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

نجاتهم من قبضة الفراعنة ، خاصّة وإنّه وصف الله بصفة رحمته العامّة ، ليكون الأثر أعمق ، وليؤمل هؤلاء في غفران هذا الذنب الكبير :( وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ ) .

الثّالثة : إنّه نبّههم على مقام نبوّته وخلافته لأخيه موسى( فَاتَّبِعُونِي ) .

وأخيرا فإنّه عرفهم بواجباتهم الإلهيّة( وَأَطِيعُوا أَمْرِي ) .

٤ ـ سؤال وجواب؟

لقد أورد المفسّر المعروف «الفخر الرازي» هنا إشكالا وهو ينتظر جوابه والرّد عليه وهو أنّه قال : إنّ الرافضة تمسّكوا بقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى» ثمّ إنّ هارون ما منعته التقيّة في مثل هذا الجمع ، بل صعد المنبر وصرّح بالحقّ ودعا الناس إلى مبايعة نفسه والمنع من متابعة غيره ، فلو كانت أمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الخطأ لكان يجب على عليعليه‌السلام أن يفعل ما فعله هارون وأن يصعد على المنبر من غير تقيّة ولا خوف وأن يقول : فاتّبعوني وأطيعوا أمري. فلمّا لم يفعل ذلك علمنا أنّ الأمّة كانت على الصواب.

إلّا أنّ الرازي غفل في هذا الباب عن مسألتين أساسيتين :

١ ـ إنّ ما يقوله من أنّ علياعليه‌السلام لم يقل شيئا في شأن خلافته التي لا ينازع فيها خطأ محض ، لأنّ في أيدينا وثائق كثيرة تؤكّد أنّ الإمام قد بيّن هذا الموضوع في موارد مختلفة ، تارة بصراحة ، وأخرى تلميحا ، وتلاحظ في نهج البلاغة أمثلة مختلفة كالخطبة الشقشقية ـ الخطبة الثّالثة ـ والخطبة ٨٧ ، ٩٤ ، ١٥٤ ، ١٤٧ ، وكلّها تتحدّث في هذا المجال.

وقد ذكرنا في تفسيرنا هذا ذيل الآية (٦٧) من سورة المائدة بعد ذكر قصّة الغدير ، روايات عديدة ، وأنّ عليّاعليه‌السلام قد استدلّ واستند إلى حديث الغدير مرارا لإثبات موقعه وخلافته. ولمزيد التوضيح راجع ذيل الآية (٦٧) من سورة المائدة.

٢ ـ لقد كانت هناك ظروف خاصّة بعد وفاة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّ المنافقين الذين

٦١

كانوا يعدّون الأيّام يوما بعد يوم وهم يترقّبون وفاة النّبي وكانوا قد أعدّوا أنفسهم ليطعنوا الإسلام الفتيّ طعنة نجلاء ، ولذا نرى أنّ أصحاب الردّة ـ المناوئين للإسلام ـ قد ثاروا مباشرة في زمان أبي بكر ، ولولا اتّحاد المسلمين وفطنتهم وحذرهم لكان من الممكن أن ينزلوا بالإسلام ضربات قاسية ، ومن أجل ذلك سكت عليعليه‌السلام عن حقّه لئلّا يستغلّ العدو هذا الأمر.

ثمّ إنّ هارون ـ مع أنّ موسى كان على قيد الحياة ـ قال بصراحة ردّا على ملامة أخيه له على تقصيره :( إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ ) (١) وهو يوحي بأنّه أيضا قد تراجع بعض الشيء نتيجة الخوف من الاختلاف.

* * *

__________________

(١) سورة طه ، ٩٤.

٦٢

الآيات

( قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤) قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (٩٥) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (٩٧) إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (٩٨) )

التّفسير

نهاية السّامري المريرة :

تعقيبا على البحث الذي تناولته الآيات السابقة حول تقريع موسى وملامته لبني إسرائيل الشديدة على عبادتهم العجل ، تعكس هذه الآيات التي نبحثها ـ في

٦٣

البداية ـ محاورة موسىعليه‌السلام مع أخيه هارونعليه‌السلام ، ثمّ مع السامري.

فخاطب أوّلا أخاه هارون( قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ ) أفلم أقل لك أن( اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) (١) ؟ فلما ذا لم تهب لمحاربة عبادة العجل هذه؟

بناء على هذا ، فإنّ المراد من جملة( أَلَّا تَتَّبِعَنِ ) هو : لماذا لم تتّبع طريقة عملي في شدّة مواجهة عبادة الأصنام؟ أمّا ما قاله بعض المفسّرين من أنّ المراد هو : لماذا لم تثبت معي على التوحيد مع الذين ثبتوا ، ولم تأت معي إلى جبل الطور ، فيبدو بعيدا جدّا ، ولا يتناسب كثيرا والجواب الذي سيبديه هارون في الآيات التالية.

ثمّ أضاف :( أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ) ؟ لقد كان موسىعليه‌السلام يتحدّث بهذا الكلام مع أخيه وهو في فورة وسورة من الغضب ، وكان يصرخ في وجهه ، وقد أخذ برأسه ولحيته يجرّه إليه. فلمّا رأى هارون غضب أخيه الشديد قال له ـ من أجل تهدئته وليقلّل من فورته ، وكذلك ليبيّن عذره وحجّته في هذه الحادثة ضمنا( ... قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ) .

كان هارون في الحقيقة يشير إلى كلام موسىعليه‌السلام الذي وجّهه إليه عند توجّهه إلى الميقات ، وكان محتواه الدعوة إلى الإصلاح ـ الآية (١٤٢) من سورة الأعراف ـ فهو يريد أن يقول : إنّي إذا كنت قد أقدمت على الاشتباك معهم كان ذلك خلاف أمرك ، وكان من حقّك أن تؤاخذني. وبهذا أثبت هارون براءته ، وخاصّة مع ملاحظة الجملة الأخرى التي وردت الآية (١٥٠) من سورة الأعراف :( إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي ) .

__________________

(١) سورة الأعراف ، ١٤٢.

٦٤

وهنا ينقدح السؤال التالي وهو : لا شكّ أنّ كلّا من موسى وهارون نبي ، فكيف يوجّه موسىعليه‌السلام هذا العتاب واللهجة الشديدة إلى أخيه ، وكيف نفسّر دفاع هارون عن نفسه؟!

ويمكن القول في الجواب : إنّ موسىعليه‌السلام كان متيقّنا من براءة أخيه ، إلّا أنّه أراد أن يثبت أمرين بهذا العمل.

الأوّل : أراد أن يفهم بني إسرائيل أنّهم قد ارتكبوا ذنبا عظيما جدّا ، وأي ذنب؟! الذنب الذي ساق هارون الذي كان نبيّا عظيما إلى المحكمة ، وبتلك الشدّة من المعاملة ، أي إنّ المسألة لم تكن بتلك البساطة التي كان يتصوّرها بنو إسرائيل. فإنّ الانحراف عن التوحيد والرجوع إلى الشرك ، وذلك بعد كلّ هذه التعليمات ، وبعد رؤية كلّ تلك المعجزات وآثار عظمة الحقّ ، أمر لا يمكن تصديقه ، ويجب الوقوف أمامه بكلّ حزم وشدّة.

قد يشقّ الإنسان جيبه ، ويلطم على رأسه عند ما تقع حادثة عظيمة أحيانا ، فكيف إذا وصل الأمر إلى عتاب أخيه وملامته ، ولا شكّ أنّ هذا الأسلوب مؤثّر في حفظ الهدف وترك الأثر النفسي في الأناس المنحرفين ، وبيان عظمة الذنب الذي ارتكبوه. كما لا شكّ في أنّ هارون ـ أيضا ـ كان راضيا كلّ الرضى عن هذا العمل.

الثّاني : هو أن تثبت للجميع براءة هارون من خلال التوضيحات التي يبديها ، حتّى لا يتّهموه فيما بعد بالتهاون في أداء رسالته.

وبعد الانتهاء من محادثة أخيه هارون وتبرئة ساحته ، بدأ بمحاكمة السامري : لماذا فعلت ما فعلت ، وما هدفك من ذلك؟ :( قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُ ) ؟ فأجابه و( قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ) .

ترى ما كان مقصود السامري من كلامه هذا؟! للمفسّرين قولان مشهوران

الأوّل : إنّ مراده هو : إنّني رأيت جبرئيل على فرس ، عند مجيء جيش

٦٥

فرعون إلى ساحل البحر ، يرغّب ذلك الجيش في المسير في تلك الطرق اليابسة في البحر ، وكان يسير أمامهم ، فقبضت شيئا من تراب قدمه ، أو «مركبه» وأدّخرته لهذا اليوم ، فألقيته داخل العجل الذهبي ، وما هذا الصوت إلّا من أثر ذلك التراب الذي أخذته.

الثّاني : إنّني آمنت ـ بداية الأمر ـ بقسم من آثار الرّسول (موسى) ، ثمّ شككت فيها فألقيتها بعيدا وملت إلى عبادة الأصنام ، وكان هذا عندي أجمل وأحلى.

فعلى التّفسير الأوّل فإنّ كلمة «الرسول» تعني جبرئيل ، وعلى التّفسير الثّاني تعني «موسى»عليه‌السلام . «والأثر» في التّفسير الأوّل بمعنى تراب القدم ، وفي الثّاني يعني بعض تعليمات موسىعليه‌السلام . و «نبذتها» على التّفسير الأوّل بمعنى إلقاء التراب داخل العجل ، وعلى الثّاني ترك تعليمات موسىعليه‌السلام . وأخيرا فإن( بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا ) تشير ـ طبق التّفسير الأوّل إلى جبرئيل الذي كان قد تجلّى في هيئته فارس ـ وربّما رآه بعض آخر لكنّهم لم يعرفوه ـ إلّا أنّها تشير ـ وفقا للتفسير الثّاني إلى ما كان لديه من معلومات خاصّة عن دين موسىعليه‌السلام .

وعلى كلّ حال ، فإنّ لكلّ واحد من هذين التّفسيرين أنصارا ، وله نقاط واضحة أو مبهمة ، لكن ـ كمحصّلة نهائية ـ يبدو أنّ التّفسير الثّاني هو الأفضل والأنسب من عدّة جهات ، خاصّة وأنّا نقرأ في حديث ورد في كتاب (الإحتجاج) إنّ أمير المؤمنين علياعليه‌السلام لمّا فتح البصرة أحاط الناس به ـ وكان من بينهم «الحسن البصري» وقد جلبوا معهم ألواحا يكتبون فيها ما يقوله أمير المؤمنين عليعليه‌السلام ، فقال له أمير المؤمنين بأعلى صوته : «ما تصنع؟» قال : أكتب آثاركم لنحدّث بها بعدكم ، فقال أمير المؤمنين : «أما إنّ لكلّ قوم سامريا ، وهذا سامري

٦٦

هذه الامّة! إلّا أنّه لا يقول : لا مساس ، ولكنّه يقول : لا قتال»(١) .

ويستفاد من هذا الحديث أنّ السامري كان رجلا منافقا ، فإن توسّل لإغواء الناس وإضلالهم ببعض المطالب والمقولات الصحيحة التي تعلّمها سابقا ، وهذا المعنى ينسجم والتّفسير الثّاني أكثر.

من الواضح أنّ جواب السامري عن سؤال موسىعليه‌السلام لم يكن مقبولا بأي وجه ، ولذلك فإنّ موسىعليه‌السلام أصدر قرار الحكم في هذه المحكمة ، وحكم بثلاثة أحكام عليه وعلى عجله ، فأوّلا :( قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ ) أي يجب عليك الابتعاد عن الناس وعدم الاتّصال بهم إلى آخر العمر ، فكلّما أراد شخص الاقتراب منك ، فعليك أن تقول له : لا تتّصل بي ولا تقربني. وبهذا الحكم الحازم طرد السامري من المجتمع وجعله في عزلة تامّة. منزويا بعيدا عنهم!

قال بعض المفسّرين : إنّ جملة( لا مِساسَ ) إشارة إلى أحد القوانين الجزائية في شريعة موسىعليه‌السلام التي كانت تصدر في حقّ من يرتكب جريمة كبيرة ، وكان ذلك الفرد يبدو كموجود شرّير نجس قذر ، فلا يقربه أحد ولا يقرب أحدا(٢) .

فاضطرّ السامري بعد هذه الحادثة أن يخرج من جماعة بني إسرائيل ويترك دياره وأهله ، ويتوارى في الصحراء ، وهذا هو جزاء الإنسان الذي يطلب الجاه ويريد إغواء جماعة عظيمة من المجتمع ببدعه وأفكاره الضّالة ، ويجمعهم حوله ، ويجب أن يحرم مثل هذا ويعزل ، ولا يتّصل به أيّ شخص ، فإنّ هذا الطرد وهذه العزلة أشدّ من الموت والإعدام على مثل السامري وأضرابه. لأنّه يعامل معاملة النجس الملوّث فيطرد من كلّ مكان.

وقال بعض المفسّرين : إنّ موسى دعا على السامري ولعنه بعد ثبوت جرمه

__________________

(١) نور الثقلين الجزء ٣ ص ٣٩٢.

(٢) تفسير في ظلال القرآن. المجلّد الخامس ص ٤٩٤.

٦٧

وخطئه ، فابتلاه الله بمرض غامض خفي جعله ما دام حيّا لا يمكن لأحد أن يمسّه ، وإذا مسّه فسيبتلى بالمرض. أو أنّ السامري قد ابتلي بمرض نفسي ووسواس شديد ، والخوف من كلّ إنسان ، إذ كان بمجرّد أن يقترب منه أي إنسان يصرخ (لا تمسّني)(١) .

والعقاب الثّاني : إنّ موسىعليه‌السلام قد أسمعه وأعلمه بجزائه في القيامة فقال :( وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ ) (٢) .

والثالث :( وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً ) .

وهنا يأتي سؤالان :

الأوّل : إنّ جملة( لَنُحَرِّقَنَّهُ ) تدلّ على أنّ العجل كان جسما قابلا للاشتعال ، وهذا يؤيّد عقيدة من يقولون : إنّ العجل لم يكن ذهبيّا ، بل تبدّل إلى موجود حي بسبب تراب قدم جبرئيل.

ونقول في الجواب : إنّ ظاهر جملة( جَسَداً لَهُ خُوارٌ ) هو أنّ العجل كان جسدا لا روح فيه ، كان يخرج منه صوت يشبه خوار العجل ، بالطريقة التي قلناها سابقا. أمّا مسألة الإحراق فمن الممكن أن تكون لأحد سببين :

أحدهما : إنّ هذا التمثال لم يكن ذهبيّا خالصا ، بل يحتمل أن يكون من الخشب ، ثمّ إلي بالذهب.

والآخر : إنّه على فرض أنّه كان من الذهب فقط ، فإنّ إحراقه كان للتحقير والإهانة وتعرية شكله الظاهري وإسقاطه ، كما تكرّر هذا الأمر في تماثيل الملوك

__________________

(١) تفسير القرطبي ، الجزء ٦ ، ص ٤٢٨١.

(٢) (لن تخلفه) فعل مبني للمجهول نائب فاعله السامري ، وضميره مفعول ثان ، وفاعل الفعل في الأصل هو الله ، ومعنى الجملة في الجملة : إنّ لك موعدا لا يخلفه الله لك.

٦٨

المستكبرين الجبابرة في عصرنا!

بناء على هذا فإنّهم بعد حرقه كسروه قطعا صغيرة بآلات معيّنة ، ثمّ ألقوا ذرّاته في البحر.

والسؤال الآخر هو : هل يجوز إلقاء كلّ هذا الذهب في البحر ، ألا يعدّ إسرافا؟

والجواب : قد يكون مثل هذا التعامل مع الأصنام واجبا في بعض الأحيان ، إذا أريد منه تحقيق هدف أهمّ وأسمى ، كتحطيم وسحق فكرة عبادة الأصنام ، لئلّا يبقى بين الناس مادّة الفساد ، وتكون باعثا للوسوسة في صدور بعض الناس.

وبعبارة أوضح : فإنّ موسىعليه‌السلام لو أبقى الذهب الذي استعمل في صناعة العجل ، أو قسّمه بين الناس بالسويّة ، فربّما نظر إليه الجاهلون يوما ما نظرة تقديس ، وتحيا فيهم من جديد فكرة عبادة العجل ، فيجب أن تتلف هذه المادّة الغالية الثمن فداء لحفظ عقيدة الناس ، وليس هناك أسلوب آخر لذلك وبهذا فإنّ موسى بطريقته الحازمة وتعامله الجازم الذي اتّخذه مع السامري وعجله استطاع أن يقطع مادّة عبادة العجل ، وأن يمحو آثارها من العقول ، وسنرى فيما بعد كيف أثّر هذا التعامل القاطع مع عبّاد العجل في عقول بني إسرائيل(١) .

وشخص موسى في آخر جملة ، ومع التأكيد الشديد على مسألة التوحيد ، حاكمية نهج الله ، فقال :( إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً ) فليس هو كالأوثان المصنوعة التي لا تسمع كلاما ، ولا تجيب سائلا ، ولا تحلّ مشكلة ، ولا تدفع ضرّا.

__________________

(١) نقرأ نظير هذا التعامل القاطع من أجل قلع جذور الأفكار المنحرفة في شأن مسجد ضرار في القرآن كإشارة سريعة ، وفي التاريخ والحديث بصورة مفصّلة ، بأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أمر أوّلا بحرق مسجد ضرار ، وأن يهدموا الباقي منه ، ويجعلوا مكانه محلّلا لأوساخ وقاذورات وفضلات الناس (ولمزيد التوضيح راجع التّفسير الأمثل في ذيل الآيات ١٠٧ ـ ١١٠ من سورة التوبة).

٦٩

في الواقع ، إنّ جملة( وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً ) جاءت في مقابل وصف العجل وجهله وعجزه الذي ذكر قبل عدّة آيات.

* * *

بحثان

١ ـ يجب الثبات أمام الحوادث الصعبة

إنّ طريقة موسىعليه‌السلام في مقابلة انحراف بني إسرائيل في عبادتهم العجل ، يمكن أن تكون مثلا يقتدى به في كلّ زمان ومكان في مجال مكافحة الانحرافات الصعبة المعقّدة.

فلو أنّ موسىعليه‌السلام كان يريد أن يقف أمام مئات الآلاف من عبدة العجل ويواجههم بالموعظة والنصيحة وقدر من الاستدلال فقط لما حالفه الفوز والنجاح ، فقد كان عليه أن يقف بحزم هنا أمام ثلاثة أمور : أمام أخيه ، والسامري ، وعبدة العجل ، فبدأ أوّلا بأخيه فأخذ بمحاسنه وجرّه إليه وصرخ في وجهه ، فهو في الحقيقة قد شكّل محكمة له ـ وإن كانت قد ثبتت برائته في النهاية ـ حتّى يحسب الآخرون حسابهم.

ثمّ توجّه إلى المسبّب الأصلي لهذه المؤامرة ـ أي السامري ـ فحكمه بحكم كان أشدّ من القتل ، وهو الطرد من المجتمع وعزله وتبديله إلى موجود نجس ملوّث يجب أن يبتعد عنه الجميع ، ثمّ تهديده بعقاب الله الأليم.

ثمّ جاء إلى عبدة العجل من بني إسرائيل ، ووضّح لهم بأنّ ذنبكم كبير لا توبة منه إلّا أن تشهر السيوف ويقتل بعضكم بعضا ليتطهّر هذا المجتمع من الدماء الفاسدة ، وبهذه الطريقة يعدم جماعة من المذنبين بأيديهم ، ليتوارى هذا الفكر الخطر المنحرف عن عقول هؤلاء ، وقد بيّنا شرح هذه الحادثة في ذيل الآيات ٥١ ـ ٥٤ من سورة البقرة تحت عنوان : «توبة لم يسبق لها مثيل».

٧٠

وهكذا فإنّه توجّه أوّلا إلى قائد المجتمع ليرى هل كان في عمله قصور أولا؟

وبعد ثبوت براءته توجّه إلى سبب الفساد ، ثمّ إلى أنصار الفساد ومبتغيه!

٢ ـ من هو السامري؟

إنّ أصل لفظ (سامري) في اللغة العبرية (شمري) ولمّا كان المعتاد أن يبدّل حرف الشين إلى السين عند تعريب الألفاظ العبرية كما في تبديل «موشى» إلى «موسى» ، و «يشوع» إلى «يسوع» ، نفهم من ذلك أنّ السامري كان منسوبا إلى «شمرون» ، وشمرون هو ابن يشاكر النسل الرّابع ليعقوب.

ومن هنا يتّضح أنّ اعتراض بعض المسيحيين على القرآن المجيد ـ بأنّ القرآن قد عرّف شخصا كان يعيش في زمان موسى وأصبح زعيما ومروّجا لعبادة العجل باسم السامري المنسوب إلى «السامرة» ، في حين أنّ السامرة لم يكن لها وجود أصلا في ذلك الزمان ـ لا أساس له ، لأنّه كما قلنا منسوب إلى شمرون لا السامرة(١) .

على كلّ حال ، فإنّ السامري كان رجلا أنانيا منحرفا وذكيّا في الوقت نفسه ، حيث استطاع أن يستغلّ نقاط ضعف بني إسرائيل وأن يوجد ـ بجرأة ومهارة خاصّة ـ تلك الفتنة العظيمة التي سبّبت ميل الأغلبية الساحقة إلى عبادة الأصنام ، وكذلك رأينا أيضا أنّه لاقى جزاء هذه الأنانيّة والفتنة في هذه الدنيا.

* * *

__________________

(١) أعلام القرآن ، ص ٣٥٩.

٧١

الآيات

( كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (٩٩) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (١٠٠) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (١٠١) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (١٠٢) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (١٠٣) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (١٠٤) )

التّفسير

أسوأ ما يحملون على عاتقهم!

مع أنّ الآيات السابقة كانت تتحدّث حول تاريخ موسى وبني إسرائيل والفراعنة والسامري المليء بالحوادث ، وقد بيّنت في أيّاتها بحوثا مختلفة ، فإنّ القرآن الكريم بعد الانتهاء منها يستخلص نتيجة عامّة فيقول :( كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ ) . ثمّ يضيف( وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً ) قرآنا مليئا بالدروس والعبر ، والأدلّة العقليّة ، وأخبار الماضين وما ينبّه المقبلين ويحذّرهم.

٧٢

إنّ قسما مهمّا من القرآن المجيد يبيّن تاريخ وقصص الماضين ، وذكر كلّ هذه الوقائع التاريخيّة التي جرت على السابقين في القرآن الذي هو كتاب يهتمّ بتربية الإنسان ليس أمرا اعتباطيّا عبثيّا ، بل الغاية منه الاستفادة من الأبعاد المختلفة في تأريخ هؤلاء ، عوامل الإنتصار والهزيمة ، والساعدة والشقاء ، والاستفادة من التجارب الكثيرة المخفية في طيّات تاريخ أولئك السابقين.

وبصورة عامّة ، فإنّ من أكثر العلوم اطمئنانا وواقعيّة هي العلوم التجريبيّة التي تخضع للتجارب في المختبر ، وتظهر نتائجها الدقيقة. والتأريخ مختبر كبير لحياة البشر ، وفي هذا المختبر سرّ شموخ الأمم وسقوطها ، نجاحها وفشلها ، سعادتها وتعاستها ، فكلّها وضعت تحت التجربة وظهرت نتائجها أمام أعيننا ، ونحن نستطيع بالاستفادة من تلك التجارب أن نتعلّم قسما من معارفنا الأكثر اطمئنانا في مجال أمور حياتنا.

وبتعبير آخر ، فإنّ حاصل حياة الإنسان ـ من جهة ـ هو التجربة ، ولا شيء غيرها ، والتاريخ ـ إذا كان خاليا من كلّ أشكال التحريف ـ هو حاصل حياة آلاف السنين من عمر البشر جمعت في مكان واحد في متناول الباحثين والدارسين.

ولهذا السبب يؤكّد أمير المؤمنين عليعليه‌السلام في مواعظه الحكيمة لولده الإمام الحسنعليه‌السلام على هذه النقطة بالذات ، فيقول :

«أي بني ، إنّي وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبلي ، فقد نظرت في أعمالهم ، وفكّرت في أخبارهم ، وسرت في آثارهم حتّى عدت كأحدهم ، بل كأنّي بما أنتهي إليه من أمورهم قد عمّرت مع أوّلهم إلى آخرهم ، فعرفت صفو ذلك من كدره ، ونفعه من ضرره ، فاستخلصت لك من كلّ أمر نخيله»(١) .

بناء على هذا ، فإنّ التاريخ مرآة يعكس الماضي ، وحلقة تربط الحاضر

__________________

(١) نهج البلاغة ، الرسالة ٣١. قسم الرسائل.

٧٣

بالماضي ، ويوسّع ويطيل من عمر الإنسان بمقداره.

التأريخ معلّم يحكي لنا عن سرّ ورمز عزّة الأمم وسقوطها ، فيحذر الظالمين ، ويجسّد المصير المشؤوم للظالمين السابقين الذين كانوا أشدّ منهم قوّة ، ويبشّر رجال الحقّ ويدعوهم للاستقامة والثبات ، ويحمسهم ويحفّزهم على المضي في مسيرهم.

التأريخ هو المشعل الذي يضيء مسير حياة البشر ، ويفتح الطرق ويعبّدها لحركة الجيل الحاضر.

التأريخ مربّي الجيل الحاضر ، وهم سيصنعون تأريخ الغدّ.

والخلاصة ، فإنّ التأريخ أحد أسباب الهداية الإلهية.

ولكن ينبغي الانتباه جيدا ، فبمقدار ما يكون التأريخ الصحيح بنّاء ملهما مربّيا نجد أنّ التواريخ المزيّفة مدعاة للضلال والانحراف ، ومن هذا المنطلق فإنّ مرضى القلوب سعوا دائما إلى تضليل البشر وصدّهم عن سبيل الله ، بتحريف التأريخ ، وينبغي أن لا ننسى أنّ التحريف في التأريخ كثير(١) .

ويلزم بيان هذه الملاحظة أيضا ، وهي أنّ كلمة (ذكر) هنا ، وفي آيات كثيرة أخرى من آيات القرآن الكريم تشير إلى القرآن نفسه ، لأنّ آياته سبب لتذكّر وتذكير البشر ، والوعي والحذر.

ولهذا السبب فإنّ الآية التالية تتحدّث عن الذين ينسون حقائق القرآن ودروس التأريخ وعبره ، فتقول :( مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً ) .

نعم إنّ الإعراض عن الله سبحانه يجرّ الإنسان إلى مثل هذه المتاهات التي تحمله أعباءا ثقيلة من أنواع الذنوب والانحرافات الفكريّة والعقائدية وكلمة (وزر) عادة تعني بحدّ ذاتها الحمل الثقيل ، وذكرها نكرة يؤكّد تأكيدا أكبر على

__________________

(١) لقد بحثنا في مجال التاريخ وأهميته في بداية سورة يوسف ونهايتها وكذلك في ذيل الآية (١٢٠) من سورة هود.

٧٤

هذه المسألة.

ثمّ تضيف :( خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً ) والملفت للنظر هنا أنّ ضمير (فيه) في هذه الآية يعود إلى (الوزر) أي أنّ هؤلاء سيبقون دائما في وزرهم ومسئوليتهم وحملهم الثقيل (ولا دليل لدينا كي نقدّر شيئا هنا ونقول : إنّ هؤلاء سيخلدون في العذاب أو في الجحيم) وهذا بنفسه إشارة إلى مسألة تجسّم الأعمال ، وإنّ الإنسان يرى الجزاء الحسن أو العقاب في القيامة طبقا لتلك الأعمال التي قام بها في هذه الدنيا.

ثمّ تتطرّق الآيات إلى وصف يوم القيامة وبدايته ، فتقول :( يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً ) وكما أشرنا سابقا ، فإنّه يستفاد من آيات القرآن أنّ نهاية هذا العالم وبداية العالم الآخر ستتمّان بحركتين عنيفتين فجائيتين ، وعبّر عن كلّ منهما بـ (نفخة الصور) ، وسنبيّن ذلك في سورة الزمر ذيل الآية ٦٨ إن شاء الله تعالى.

لفظة «زرق» جمع «أزرق» تأتي عادة بمعنى زرقة العين ، إلّا أنّها تطلق أحيانا على القاتم جسده بسبب الشدّة والألم ، فإنّ البدن عند تحمّل الألم والتعب والعذاب يضعف ، ويفقد طراوته ، فيبدو قاتما وكأنّه أزرق.

وفسّر بعضهم هذه الكلمة بمعنى «العمى» ، لأنّ الأشخاص زرق العيون يعانون ويبتلون عادة بضعف شديد في البصر ، وذلك يقترن عادة بكون كلّ شعر بدنهم أبيضا. إلّا أنّما ذكرناه آنفا من تفسير ربّما كان هو الأنسب.

في هذه الحال يتحدّث المجرمون فيما بينهم بإخفات حول مقدار مكوثهم وبقائهم في عالم البرزخ ، فبعضهم يقول : لم تلبثوا إلّا عشر ليال ، أو عشرة أيّام بلياليها :( يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً ) (١) .

__________________

(١) العدد في لغة العرب من ٣ إلى ١٠ يخالف المعدود في الجنس ، فإذا كان العدد مذكّرا كان المعدود مؤنثا ، فإنّ (عشرا) لما

٧٥

لا شكّ أنّ مدّة توقّف هؤلاء كانت طويلة ، إلّا أنّها تبدو قصيرة جدّا في مقابل عمر القيامة. وإنّ تخافتهم هذا بالكلام إمّا هو للرعب والخوف الشديد الذي ينتابهم عند مشاهدة أهوال القيامة ، أو أنّه نتيجة شدّة ضعفهم وعجزهم.

واحتمل بعض المفسّرين أن تكون هذه الجملة إشارة إلى مكثهم في الدنيا ، والذي يعدّ أيّاما قلائل بالنسبة للآخرة وحوادثها المخفية.

ثمّ يضيف :( نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ ) سواء تكلّموا بهمس أم بصراخ ، وبصوت خفي أم عال( إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً ) .

ومن المسلّم به أنّه : لا العشر مدّة طويلة ، ولا اليوم كذلك ، إلّا أنّ هناك تفاوتا بينهما ، وهو أنّ اليوم الواحد إشارة إلى أقل أعداد الآحاد ، والعشرة إشارة إلى أقلّ أعداد العشرات ، ولذلك فإنّ الأوّل يشير إلى مدّة أقل ، ولذلك عبّر القرآن عمّن قال به بـ( أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً ) لأنّ قصر عمر الدنيا أو البرزخ في مقابل عمر الآخرة ، وكذلك كون كيفيتهما وحالهما لا شيء أمام كيفيّة وحال الآخرة ، ويكون أنسب مع أقل الأعداد. (فلاحظوا بدقّة).

* * *

__________________

جاءت هنا بصيغة المذكّر ، فإنّ المضاف إليه هو (ليال) والذي يجب أن يكون مؤنثا حتما ، أمّا لو كان المضاف إليه (أيّام) فكان يجب أن يقال : عشرة. إلّا أنّ بعض أدباء العرب نقل بأنّ العدد إذا ذكر مطلقا وحذف تمييزه فلا تجري القاعدة السابقة ، وبناء على هذا فإنّ (عشرا) هنا إشارة إلى عشرة أيّام.

٧٦

الآيات

( وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (١٠٦) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (١٠٧) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (١٠٨) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (١٠٩) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (١١٠) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (١١١) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (١١٢) )

التّفسير

مشهد القيامة المهول :

تتابع هذه الآيات الكلام في الآيات السابقة عن الحوادث المرتبطة بانتهاء الدنيا وبداية القيامة.

ويظهر من الآية الأولى أنّ الناس كانوا قد سألوا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن مصير الجبال

٧٧

عند انتهاء الدنيا ، وربّما كان ذلك لأنّهم لم يكونوا يصدّقون إمكانية تصدّع وزوال هذه الجبال العظيمة التي امتدّت جذورها في أعماق الأرض وشمخت رؤوسها إلى السّماء ، وإذا كان بالإمكان قلعها من مكانها فأي هواء أو طوفان له مثل هذه القدرة ، ولذلك يقول :( وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ ) والجواب :( فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً ) (١) .

يستفاد من مجموع آيات القرآن حول مصير الجبال أنّها تمرّ عند حلول القيامة بمراحل مختلفة :

في ترجف وتهتزّ أوّلا :( يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ ) (٢) .

ثمّ تتحرّك :( وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً ) (٣) .

وفي المرحلة الثّالثة تتلاشى وتتحوّل إلى كثبان من الرمل :( وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً ) (٤) .

وفي المرحلة الأخيرة سيزحزحها الهواء والطوفان من مكانها ويبعثرها في الهواء وتبدو كالصوف المنفوش :( وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ) (٥)

ثمّ تقول الآية : إنّ الله سبحانه بعد تلاشي الجبال وتطاير ذرّاتها يأتي أمره إلى الأرض( فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً ) (٦) ( لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً ) (٧) وفي ذلك الحين

__________________

(١) «نسف» في اللغة تعني وضع الحبوب الغذائية في الغربال وغربلتها ، أو ذرها في الهواء لينفصل الحبّ عن القشر ، وهنا إشارة إلى تلاشي الجبال وتهشّمها ، ثمّ تناثرها في الهواء.

(٢) سورة المزمل ، ١٤.

(٣) سورة الطور ، ١٠.

(٤) سورة المزمل ، ١٤.

(٥) سورة القارعة ، ٥.

(٦) «القاع» : الأرض المستوية ، وفسّره البعض بأنّه المكان الذي يجتمع فيه الماء. وأمّا «الصفصف» فقد فسّرت أحيانا بأنّها الأرض الخالية من كلّ أنواع النباتات ، وأحيانا بمعنى الأرض المستوية. ويستفاد من مجموع هذين الوصفين أنّ كلّ الجبال والنباتات ستمحى من على وجه الأرض في ذلك اليوم وستبقى الأرض مستوية خالية.

(٧) «العوج» بمعنى الاعوجاج ، و «الأمت» أي الأرض المرتفعة والربية ، وبناء على هذا فإنّ معنى الآية هو أنّه لا يرى في ذلك اليوم أي ارتفاع وانخفاض على وجه الأرض.

٧٨

يدعو الداعي الإلهي جميع البشر إلى الحياة والاجتماع في المحشر للحساب فيلبّي الجميع دعوته ويتّبعونه( يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ ) .

هل إنّ هذا الداعي (إسرافيل) أم ملك آخر من ملائكة الله المقرّبين؟ القرآن لم يشخّص ويحدّد ذلك بدقة ، وكائنا من كان فإنّ أمره نافذ لا يقدر أي أحد على التخلّف عنه.

وجملة «لا عوج» أيمكن أن تكون وصفا لدعوة هذا الداعي ، أو وصفا لاتّباع المدعوين ، أو لكليهما. وممّا يلفت النظر أنّه كما أنّ سطح الأرض يصبح صافيا ومستويا بحيث لا يبقى فيه أي اعوجاج ، فإنّ أمر الله والداعي أيضا كلّ منهما صاف ومستقيم جلي ، واتّباعه واضح لا سبيل لأي انحراف واعوجاج إليه.

عند ذلك : «وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً »(١) . إنّ هدوء الأصوات أو خشوعها هذا إمّا هو لهيمنة العظمة الإلهيّة على عرصة المحشر حيث يخضع لها الجميع ، أو خوفا من الحساب ونتيجة الأعمال ، أو لكليهما.

وبما أنّ بعض الغارقين في الذنوب والمعاصي قد يحتمل أن تنالهم شفاعة الشافعين وتنجيهم ، فإنّه يضيف مباشرة :( يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ) وهذا إشارة إلى أنّ الشفاعة هناك ليست اعتباطية وعشوائية ، بل إنّ هناك تخطيطا دقيقا لها ، سواء ما يتعلّق بالشافعين أو المشفوع لهم ، وما دام الأفراد لا يملكون الأهلية والاستحقاق للشفاعة ، فلا معنى حينئذ لها.

والحقيقة هي أنّ جماعة ينظرون إلى الشفاعة بمنظار خاطئ ، فهم يتصورون أنّها لا تختلف عن أساليب الدنيا ومراوغاتها ، في حين أنّ الشفاعة في منطق الإسلام مرحلة تربوية متقدّمة ، وعامل مساعد لهؤلاء الذين يطوون طريق الحقّ

__________________

(١) «الهمس» ـ كما يقول الراغب في مفرداته ـ يعني الصوت الخفي والمنخفض. وفسّره بعضهم بأنّه الصوت الخفي للقدم الحافية ، والبعض بحركة الشفاء من دون أن يسمع معها صوت ، ولا يوجد تفاوت كبير بين هذه المعاني.

٧٩

بجدّ وسعي إلّا أنّهم يبتلون أحيانا بالنقائص والزلّات ، ولعلّ من الممكن أن يعلو غبار اليأس والقنوط قلوبهم نتيجة هذه الزلّات والهفوات ، هنا تأتي إليهم الشفاعة كقوّة محرّكة وتقول : لا تيأسوا ، واستمروا في طريقكم ، ولا تكفوا أيديكم عن السعي والاجتهاد في هذا المسير ، وإذا ما بدر منكم زلل وهفوات فإنّ هناك شفعاء سيشفعون لكم عند الله الرحمن الذي وسعت رحمته كلّ شيء فيأذن لهم بالشفاعة.

أنّ الشفاعة ليست دعوة للتقاعس ، أو الفرار من تحمّل المسؤولية ، أو أنّها ضوء أخضر لارتكاب المعاصي ، بل هي دعوة إلى الاستقامة في طريق الحقّ ، واجتناب الذنوب قدر الإمكان.

ومع أنّنا قد أوردنا بحث الشفاعة بصورة مفصّلة في ذيل الآية (٤٧ ـ ٤٨) من سورة البقرة ، وفي ذيل الآية (٢٥٥) من سورة البقرة ، لكن لا بأس من أن نضيف هنا قصّة جميلة:

فقد روى العالم الرّباني المرحوم «ياسري» ـ أحد علماء طهران المحترمين ـ أنّ شاعرا يسمّى «حاجبا» كان قد ابتلي بأفكار العوام في مسألة الشفاعة ، فنظّم شعرا قال فيه :

يا حاجب إن كانت معاملتك مع علي في المحشر ، فأنا ضامن لك النجاة واعمل ما شئت من الذنوب.

فرأى أمير المؤمنين علياعليه‌السلام في المنام ، وكان مغضبا ، وقال له : لم تحسن قول الشعر ، فقال : فما ذا أقول؟ فقال : أصلح شعرك وقل : يا حاجب : إن كانت معاملتك مع علي في المحشر فاستح منه وقلّل من ذنوبك ومعاصيك.

ولمّا كان حضور الناس في عرصات القيامة للحساب والجزاء لا بدّ معه من علم الله سبحانه بأعمالهم وسلوكهم ومعاملاتهم ، فإنّ الآية التالية تضيف :( يَعْلَمُ ما

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550