الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٠

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 550

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 550 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 206760 / تحميل: 6193
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٠

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

نجاتهم من قبضة الفراعنة ، خاصّة وإنّه وصف الله بصفة رحمته العامّة ، ليكون الأثر أعمق ، وليؤمل هؤلاء في غفران هذا الذنب الكبير :( وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ ) .

الثّالثة : إنّه نبّههم على مقام نبوّته وخلافته لأخيه موسى( فَاتَّبِعُونِي ) .

وأخيرا فإنّه عرفهم بواجباتهم الإلهيّة( وَأَطِيعُوا أَمْرِي ) .

٤ ـ سؤال وجواب؟

لقد أورد المفسّر المعروف «الفخر الرازي» هنا إشكالا وهو ينتظر جوابه والرّد عليه وهو أنّه قال : إنّ الرافضة تمسّكوا بقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى» ثمّ إنّ هارون ما منعته التقيّة في مثل هذا الجمع ، بل صعد المنبر وصرّح بالحقّ ودعا الناس إلى مبايعة نفسه والمنع من متابعة غيره ، فلو كانت أمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الخطأ لكان يجب على عليعليه‌السلام أن يفعل ما فعله هارون وأن يصعد على المنبر من غير تقيّة ولا خوف وأن يقول : فاتّبعوني وأطيعوا أمري. فلمّا لم يفعل ذلك علمنا أنّ الأمّة كانت على الصواب.

إلّا أنّ الرازي غفل في هذا الباب عن مسألتين أساسيتين :

١ ـ إنّ ما يقوله من أنّ علياعليه‌السلام لم يقل شيئا في شأن خلافته التي لا ينازع فيها خطأ محض ، لأنّ في أيدينا وثائق كثيرة تؤكّد أنّ الإمام قد بيّن هذا الموضوع في موارد مختلفة ، تارة بصراحة ، وأخرى تلميحا ، وتلاحظ في نهج البلاغة أمثلة مختلفة كالخطبة الشقشقية ـ الخطبة الثّالثة ـ والخطبة ٨٧ ، ٩٤ ، ١٥٤ ، ١٤٧ ، وكلّها تتحدّث في هذا المجال.

وقد ذكرنا في تفسيرنا هذا ذيل الآية (٦٧) من سورة المائدة بعد ذكر قصّة الغدير ، روايات عديدة ، وأنّ عليّاعليه‌السلام قد استدلّ واستند إلى حديث الغدير مرارا لإثبات موقعه وخلافته. ولمزيد التوضيح راجع ذيل الآية (٦٧) من سورة المائدة.

٢ ـ لقد كانت هناك ظروف خاصّة بعد وفاة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّ المنافقين الذين

٦١

كانوا يعدّون الأيّام يوما بعد يوم وهم يترقّبون وفاة النّبي وكانوا قد أعدّوا أنفسهم ليطعنوا الإسلام الفتيّ طعنة نجلاء ، ولذا نرى أنّ أصحاب الردّة ـ المناوئين للإسلام ـ قد ثاروا مباشرة في زمان أبي بكر ، ولولا اتّحاد المسلمين وفطنتهم وحذرهم لكان من الممكن أن ينزلوا بالإسلام ضربات قاسية ، ومن أجل ذلك سكت عليعليه‌السلام عن حقّه لئلّا يستغلّ العدو هذا الأمر.

ثمّ إنّ هارون ـ مع أنّ موسى كان على قيد الحياة ـ قال بصراحة ردّا على ملامة أخيه له على تقصيره :( إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ ) (١) وهو يوحي بأنّه أيضا قد تراجع بعض الشيء نتيجة الخوف من الاختلاف.

* * *

__________________

(١) سورة طه ، ٩٤.

٦٢

الآيات

( قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤) قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (٩٥) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (٩٧) إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (٩٨) )

التّفسير

نهاية السّامري المريرة :

تعقيبا على البحث الذي تناولته الآيات السابقة حول تقريع موسى وملامته لبني إسرائيل الشديدة على عبادتهم العجل ، تعكس هذه الآيات التي نبحثها ـ في

٦٣

البداية ـ محاورة موسىعليه‌السلام مع أخيه هارونعليه‌السلام ، ثمّ مع السامري.

فخاطب أوّلا أخاه هارون( قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ ) أفلم أقل لك أن( اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) (١) ؟ فلما ذا لم تهب لمحاربة عبادة العجل هذه؟

بناء على هذا ، فإنّ المراد من جملة( أَلَّا تَتَّبِعَنِ ) هو : لماذا لم تتّبع طريقة عملي في شدّة مواجهة عبادة الأصنام؟ أمّا ما قاله بعض المفسّرين من أنّ المراد هو : لماذا لم تثبت معي على التوحيد مع الذين ثبتوا ، ولم تأت معي إلى جبل الطور ، فيبدو بعيدا جدّا ، ولا يتناسب كثيرا والجواب الذي سيبديه هارون في الآيات التالية.

ثمّ أضاف :( أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ) ؟ لقد كان موسىعليه‌السلام يتحدّث بهذا الكلام مع أخيه وهو في فورة وسورة من الغضب ، وكان يصرخ في وجهه ، وقد أخذ برأسه ولحيته يجرّه إليه. فلمّا رأى هارون غضب أخيه الشديد قال له ـ من أجل تهدئته وليقلّل من فورته ، وكذلك ليبيّن عذره وحجّته في هذه الحادثة ضمنا( ... قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ) .

كان هارون في الحقيقة يشير إلى كلام موسىعليه‌السلام الذي وجّهه إليه عند توجّهه إلى الميقات ، وكان محتواه الدعوة إلى الإصلاح ـ الآية (١٤٢) من سورة الأعراف ـ فهو يريد أن يقول : إنّي إذا كنت قد أقدمت على الاشتباك معهم كان ذلك خلاف أمرك ، وكان من حقّك أن تؤاخذني. وبهذا أثبت هارون براءته ، وخاصّة مع ملاحظة الجملة الأخرى التي وردت الآية (١٥٠) من سورة الأعراف :( إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي ) .

__________________

(١) سورة الأعراف ، ١٤٢.

٦٤

وهنا ينقدح السؤال التالي وهو : لا شكّ أنّ كلّا من موسى وهارون نبي ، فكيف يوجّه موسىعليه‌السلام هذا العتاب واللهجة الشديدة إلى أخيه ، وكيف نفسّر دفاع هارون عن نفسه؟!

ويمكن القول في الجواب : إنّ موسىعليه‌السلام كان متيقّنا من براءة أخيه ، إلّا أنّه أراد أن يثبت أمرين بهذا العمل.

الأوّل : أراد أن يفهم بني إسرائيل أنّهم قد ارتكبوا ذنبا عظيما جدّا ، وأي ذنب؟! الذنب الذي ساق هارون الذي كان نبيّا عظيما إلى المحكمة ، وبتلك الشدّة من المعاملة ، أي إنّ المسألة لم تكن بتلك البساطة التي كان يتصوّرها بنو إسرائيل. فإنّ الانحراف عن التوحيد والرجوع إلى الشرك ، وذلك بعد كلّ هذه التعليمات ، وبعد رؤية كلّ تلك المعجزات وآثار عظمة الحقّ ، أمر لا يمكن تصديقه ، ويجب الوقوف أمامه بكلّ حزم وشدّة.

قد يشقّ الإنسان جيبه ، ويلطم على رأسه عند ما تقع حادثة عظيمة أحيانا ، فكيف إذا وصل الأمر إلى عتاب أخيه وملامته ، ولا شكّ أنّ هذا الأسلوب مؤثّر في حفظ الهدف وترك الأثر النفسي في الأناس المنحرفين ، وبيان عظمة الذنب الذي ارتكبوه. كما لا شكّ في أنّ هارون ـ أيضا ـ كان راضيا كلّ الرضى عن هذا العمل.

الثّاني : هو أن تثبت للجميع براءة هارون من خلال التوضيحات التي يبديها ، حتّى لا يتّهموه فيما بعد بالتهاون في أداء رسالته.

وبعد الانتهاء من محادثة أخيه هارون وتبرئة ساحته ، بدأ بمحاكمة السامري : لماذا فعلت ما فعلت ، وما هدفك من ذلك؟ :( قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُ ) ؟ فأجابه و( قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ) .

ترى ما كان مقصود السامري من كلامه هذا؟! للمفسّرين قولان مشهوران

الأوّل : إنّ مراده هو : إنّني رأيت جبرئيل على فرس ، عند مجيء جيش

٦٥

فرعون إلى ساحل البحر ، يرغّب ذلك الجيش في المسير في تلك الطرق اليابسة في البحر ، وكان يسير أمامهم ، فقبضت شيئا من تراب قدمه ، أو «مركبه» وأدّخرته لهذا اليوم ، فألقيته داخل العجل الذهبي ، وما هذا الصوت إلّا من أثر ذلك التراب الذي أخذته.

الثّاني : إنّني آمنت ـ بداية الأمر ـ بقسم من آثار الرّسول (موسى) ، ثمّ شككت فيها فألقيتها بعيدا وملت إلى عبادة الأصنام ، وكان هذا عندي أجمل وأحلى.

فعلى التّفسير الأوّل فإنّ كلمة «الرسول» تعني جبرئيل ، وعلى التّفسير الثّاني تعني «موسى»عليه‌السلام . «والأثر» في التّفسير الأوّل بمعنى تراب القدم ، وفي الثّاني يعني بعض تعليمات موسىعليه‌السلام . و «نبذتها» على التّفسير الأوّل بمعنى إلقاء التراب داخل العجل ، وعلى الثّاني ترك تعليمات موسىعليه‌السلام . وأخيرا فإن( بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا ) تشير ـ طبق التّفسير الأوّل إلى جبرئيل الذي كان قد تجلّى في هيئته فارس ـ وربّما رآه بعض آخر لكنّهم لم يعرفوه ـ إلّا أنّها تشير ـ وفقا للتفسير الثّاني إلى ما كان لديه من معلومات خاصّة عن دين موسىعليه‌السلام .

وعلى كلّ حال ، فإنّ لكلّ واحد من هذين التّفسيرين أنصارا ، وله نقاط واضحة أو مبهمة ، لكن ـ كمحصّلة نهائية ـ يبدو أنّ التّفسير الثّاني هو الأفضل والأنسب من عدّة جهات ، خاصّة وأنّا نقرأ في حديث ورد في كتاب (الإحتجاج) إنّ أمير المؤمنين علياعليه‌السلام لمّا فتح البصرة أحاط الناس به ـ وكان من بينهم «الحسن البصري» وقد جلبوا معهم ألواحا يكتبون فيها ما يقوله أمير المؤمنين عليعليه‌السلام ، فقال له أمير المؤمنين بأعلى صوته : «ما تصنع؟» قال : أكتب آثاركم لنحدّث بها بعدكم ، فقال أمير المؤمنين : «أما إنّ لكلّ قوم سامريا ، وهذا سامري

٦٦

هذه الامّة! إلّا أنّه لا يقول : لا مساس ، ولكنّه يقول : لا قتال»(١) .

ويستفاد من هذا الحديث أنّ السامري كان رجلا منافقا ، فإن توسّل لإغواء الناس وإضلالهم ببعض المطالب والمقولات الصحيحة التي تعلّمها سابقا ، وهذا المعنى ينسجم والتّفسير الثّاني أكثر.

من الواضح أنّ جواب السامري عن سؤال موسىعليه‌السلام لم يكن مقبولا بأي وجه ، ولذلك فإنّ موسىعليه‌السلام أصدر قرار الحكم في هذه المحكمة ، وحكم بثلاثة أحكام عليه وعلى عجله ، فأوّلا :( قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ ) أي يجب عليك الابتعاد عن الناس وعدم الاتّصال بهم إلى آخر العمر ، فكلّما أراد شخص الاقتراب منك ، فعليك أن تقول له : لا تتّصل بي ولا تقربني. وبهذا الحكم الحازم طرد السامري من المجتمع وجعله في عزلة تامّة. منزويا بعيدا عنهم!

قال بعض المفسّرين : إنّ جملة( لا مِساسَ ) إشارة إلى أحد القوانين الجزائية في شريعة موسىعليه‌السلام التي كانت تصدر في حقّ من يرتكب جريمة كبيرة ، وكان ذلك الفرد يبدو كموجود شرّير نجس قذر ، فلا يقربه أحد ولا يقرب أحدا(٢) .

فاضطرّ السامري بعد هذه الحادثة أن يخرج من جماعة بني إسرائيل ويترك دياره وأهله ، ويتوارى في الصحراء ، وهذا هو جزاء الإنسان الذي يطلب الجاه ويريد إغواء جماعة عظيمة من المجتمع ببدعه وأفكاره الضّالة ، ويجمعهم حوله ، ويجب أن يحرم مثل هذا ويعزل ، ولا يتّصل به أيّ شخص ، فإنّ هذا الطرد وهذه العزلة أشدّ من الموت والإعدام على مثل السامري وأضرابه. لأنّه يعامل معاملة النجس الملوّث فيطرد من كلّ مكان.

وقال بعض المفسّرين : إنّ موسى دعا على السامري ولعنه بعد ثبوت جرمه

__________________

(١) نور الثقلين الجزء ٣ ص ٣٩٢.

(٢) تفسير في ظلال القرآن. المجلّد الخامس ص ٤٩٤.

٦٧

وخطئه ، فابتلاه الله بمرض غامض خفي جعله ما دام حيّا لا يمكن لأحد أن يمسّه ، وإذا مسّه فسيبتلى بالمرض. أو أنّ السامري قد ابتلي بمرض نفسي ووسواس شديد ، والخوف من كلّ إنسان ، إذ كان بمجرّد أن يقترب منه أي إنسان يصرخ (لا تمسّني)(١) .

والعقاب الثّاني : إنّ موسىعليه‌السلام قد أسمعه وأعلمه بجزائه في القيامة فقال :( وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ ) (٢) .

والثالث :( وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً ) .

وهنا يأتي سؤالان :

الأوّل : إنّ جملة( لَنُحَرِّقَنَّهُ ) تدلّ على أنّ العجل كان جسما قابلا للاشتعال ، وهذا يؤيّد عقيدة من يقولون : إنّ العجل لم يكن ذهبيّا ، بل تبدّل إلى موجود حي بسبب تراب قدم جبرئيل.

ونقول في الجواب : إنّ ظاهر جملة( جَسَداً لَهُ خُوارٌ ) هو أنّ العجل كان جسدا لا روح فيه ، كان يخرج منه صوت يشبه خوار العجل ، بالطريقة التي قلناها سابقا. أمّا مسألة الإحراق فمن الممكن أن تكون لأحد سببين :

أحدهما : إنّ هذا التمثال لم يكن ذهبيّا خالصا ، بل يحتمل أن يكون من الخشب ، ثمّ إلي بالذهب.

والآخر : إنّه على فرض أنّه كان من الذهب فقط ، فإنّ إحراقه كان للتحقير والإهانة وتعرية شكله الظاهري وإسقاطه ، كما تكرّر هذا الأمر في تماثيل الملوك

__________________

(١) تفسير القرطبي ، الجزء ٦ ، ص ٤٢٨١.

(٢) (لن تخلفه) فعل مبني للمجهول نائب فاعله السامري ، وضميره مفعول ثان ، وفاعل الفعل في الأصل هو الله ، ومعنى الجملة في الجملة : إنّ لك موعدا لا يخلفه الله لك.

٦٨

المستكبرين الجبابرة في عصرنا!

بناء على هذا فإنّهم بعد حرقه كسروه قطعا صغيرة بآلات معيّنة ، ثمّ ألقوا ذرّاته في البحر.

والسؤال الآخر هو : هل يجوز إلقاء كلّ هذا الذهب في البحر ، ألا يعدّ إسرافا؟

والجواب : قد يكون مثل هذا التعامل مع الأصنام واجبا في بعض الأحيان ، إذا أريد منه تحقيق هدف أهمّ وأسمى ، كتحطيم وسحق فكرة عبادة الأصنام ، لئلّا يبقى بين الناس مادّة الفساد ، وتكون باعثا للوسوسة في صدور بعض الناس.

وبعبارة أوضح : فإنّ موسىعليه‌السلام لو أبقى الذهب الذي استعمل في صناعة العجل ، أو قسّمه بين الناس بالسويّة ، فربّما نظر إليه الجاهلون يوما ما نظرة تقديس ، وتحيا فيهم من جديد فكرة عبادة العجل ، فيجب أن تتلف هذه المادّة الغالية الثمن فداء لحفظ عقيدة الناس ، وليس هناك أسلوب آخر لذلك وبهذا فإنّ موسى بطريقته الحازمة وتعامله الجازم الذي اتّخذه مع السامري وعجله استطاع أن يقطع مادّة عبادة العجل ، وأن يمحو آثارها من العقول ، وسنرى فيما بعد كيف أثّر هذا التعامل القاطع مع عبّاد العجل في عقول بني إسرائيل(١) .

وشخص موسى في آخر جملة ، ومع التأكيد الشديد على مسألة التوحيد ، حاكمية نهج الله ، فقال :( إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً ) فليس هو كالأوثان المصنوعة التي لا تسمع كلاما ، ولا تجيب سائلا ، ولا تحلّ مشكلة ، ولا تدفع ضرّا.

__________________

(١) نقرأ نظير هذا التعامل القاطع من أجل قلع جذور الأفكار المنحرفة في شأن مسجد ضرار في القرآن كإشارة سريعة ، وفي التاريخ والحديث بصورة مفصّلة ، بأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أمر أوّلا بحرق مسجد ضرار ، وأن يهدموا الباقي منه ، ويجعلوا مكانه محلّلا لأوساخ وقاذورات وفضلات الناس (ولمزيد التوضيح راجع التّفسير الأمثل في ذيل الآيات ١٠٧ ـ ١١٠ من سورة التوبة).

٦٩

في الواقع ، إنّ جملة( وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً ) جاءت في مقابل وصف العجل وجهله وعجزه الذي ذكر قبل عدّة آيات.

* * *

بحثان

١ ـ يجب الثبات أمام الحوادث الصعبة

إنّ طريقة موسىعليه‌السلام في مقابلة انحراف بني إسرائيل في عبادتهم العجل ، يمكن أن تكون مثلا يقتدى به في كلّ زمان ومكان في مجال مكافحة الانحرافات الصعبة المعقّدة.

فلو أنّ موسىعليه‌السلام كان يريد أن يقف أمام مئات الآلاف من عبدة العجل ويواجههم بالموعظة والنصيحة وقدر من الاستدلال فقط لما حالفه الفوز والنجاح ، فقد كان عليه أن يقف بحزم هنا أمام ثلاثة أمور : أمام أخيه ، والسامري ، وعبدة العجل ، فبدأ أوّلا بأخيه فأخذ بمحاسنه وجرّه إليه وصرخ في وجهه ، فهو في الحقيقة قد شكّل محكمة له ـ وإن كانت قد ثبتت برائته في النهاية ـ حتّى يحسب الآخرون حسابهم.

ثمّ توجّه إلى المسبّب الأصلي لهذه المؤامرة ـ أي السامري ـ فحكمه بحكم كان أشدّ من القتل ، وهو الطرد من المجتمع وعزله وتبديله إلى موجود نجس ملوّث يجب أن يبتعد عنه الجميع ، ثمّ تهديده بعقاب الله الأليم.

ثمّ جاء إلى عبدة العجل من بني إسرائيل ، ووضّح لهم بأنّ ذنبكم كبير لا توبة منه إلّا أن تشهر السيوف ويقتل بعضكم بعضا ليتطهّر هذا المجتمع من الدماء الفاسدة ، وبهذه الطريقة يعدم جماعة من المذنبين بأيديهم ، ليتوارى هذا الفكر الخطر المنحرف عن عقول هؤلاء ، وقد بيّنا شرح هذه الحادثة في ذيل الآيات ٥١ ـ ٥٤ من سورة البقرة تحت عنوان : «توبة لم يسبق لها مثيل».

٧٠

وهكذا فإنّه توجّه أوّلا إلى قائد المجتمع ليرى هل كان في عمله قصور أولا؟

وبعد ثبوت براءته توجّه إلى سبب الفساد ، ثمّ إلى أنصار الفساد ومبتغيه!

٢ ـ من هو السامري؟

إنّ أصل لفظ (سامري) في اللغة العبرية (شمري) ولمّا كان المعتاد أن يبدّل حرف الشين إلى السين عند تعريب الألفاظ العبرية كما في تبديل «موشى» إلى «موسى» ، و «يشوع» إلى «يسوع» ، نفهم من ذلك أنّ السامري كان منسوبا إلى «شمرون» ، وشمرون هو ابن يشاكر النسل الرّابع ليعقوب.

ومن هنا يتّضح أنّ اعتراض بعض المسيحيين على القرآن المجيد ـ بأنّ القرآن قد عرّف شخصا كان يعيش في زمان موسى وأصبح زعيما ومروّجا لعبادة العجل باسم السامري المنسوب إلى «السامرة» ، في حين أنّ السامرة لم يكن لها وجود أصلا في ذلك الزمان ـ لا أساس له ، لأنّه كما قلنا منسوب إلى شمرون لا السامرة(١) .

على كلّ حال ، فإنّ السامري كان رجلا أنانيا منحرفا وذكيّا في الوقت نفسه ، حيث استطاع أن يستغلّ نقاط ضعف بني إسرائيل وأن يوجد ـ بجرأة ومهارة خاصّة ـ تلك الفتنة العظيمة التي سبّبت ميل الأغلبية الساحقة إلى عبادة الأصنام ، وكذلك رأينا أيضا أنّه لاقى جزاء هذه الأنانيّة والفتنة في هذه الدنيا.

* * *

__________________

(١) أعلام القرآن ، ص ٣٥٩.

٧١

الآيات

( كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (٩٩) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (١٠٠) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (١٠١) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (١٠٢) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (١٠٣) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (١٠٤) )

التّفسير

أسوأ ما يحملون على عاتقهم!

مع أنّ الآيات السابقة كانت تتحدّث حول تاريخ موسى وبني إسرائيل والفراعنة والسامري المليء بالحوادث ، وقد بيّنت في أيّاتها بحوثا مختلفة ، فإنّ القرآن الكريم بعد الانتهاء منها يستخلص نتيجة عامّة فيقول :( كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ ) . ثمّ يضيف( وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً ) قرآنا مليئا بالدروس والعبر ، والأدلّة العقليّة ، وأخبار الماضين وما ينبّه المقبلين ويحذّرهم.

٧٢

إنّ قسما مهمّا من القرآن المجيد يبيّن تاريخ وقصص الماضين ، وذكر كلّ هذه الوقائع التاريخيّة التي جرت على السابقين في القرآن الذي هو كتاب يهتمّ بتربية الإنسان ليس أمرا اعتباطيّا عبثيّا ، بل الغاية منه الاستفادة من الأبعاد المختلفة في تأريخ هؤلاء ، عوامل الإنتصار والهزيمة ، والساعدة والشقاء ، والاستفادة من التجارب الكثيرة المخفية في طيّات تاريخ أولئك السابقين.

وبصورة عامّة ، فإنّ من أكثر العلوم اطمئنانا وواقعيّة هي العلوم التجريبيّة التي تخضع للتجارب في المختبر ، وتظهر نتائجها الدقيقة. والتأريخ مختبر كبير لحياة البشر ، وفي هذا المختبر سرّ شموخ الأمم وسقوطها ، نجاحها وفشلها ، سعادتها وتعاستها ، فكلّها وضعت تحت التجربة وظهرت نتائجها أمام أعيننا ، ونحن نستطيع بالاستفادة من تلك التجارب أن نتعلّم قسما من معارفنا الأكثر اطمئنانا في مجال أمور حياتنا.

وبتعبير آخر ، فإنّ حاصل حياة الإنسان ـ من جهة ـ هو التجربة ، ولا شيء غيرها ، والتاريخ ـ إذا كان خاليا من كلّ أشكال التحريف ـ هو حاصل حياة آلاف السنين من عمر البشر جمعت في مكان واحد في متناول الباحثين والدارسين.

ولهذا السبب يؤكّد أمير المؤمنين عليعليه‌السلام في مواعظه الحكيمة لولده الإمام الحسنعليه‌السلام على هذه النقطة بالذات ، فيقول :

«أي بني ، إنّي وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبلي ، فقد نظرت في أعمالهم ، وفكّرت في أخبارهم ، وسرت في آثارهم حتّى عدت كأحدهم ، بل كأنّي بما أنتهي إليه من أمورهم قد عمّرت مع أوّلهم إلى آخرهم ، فعرفت صفو ذلك من كدره ، ونفعه من ضرره ، فاستخلصت لك من كلّ أمر نخيله»(١) .

بناء على هذا ، فإنّ التاريخ مرآة يعكس الماضي ، وحلقة تربط الحاضر

__________________

(١) نهج البلاغة ، الرسالة ٣١. قسم الرسائل.

٧٣

بالماضي ، ويوسّع ويطيل من عمر الإنسان بمقداره.

التأريخ معلّم يحكي لنا عن سرّ ورمز عزّة الأمم وسقوطها ، فيحذر الظالمين ، ويجسّد المصير المشؤوم للظالمين السابقين الذين كانوا أشدّ منهم قوّة ، ويبشّر رجال الحقّ ويدعوهم للاستقامة والثبات ، ويحمسهم ويحفّزهم على المضي في مسيرهم.

التأريخ هو المشعل الذي يضيء مسير حياة البشر ، ويفتح الطرق ويعبّدها لحركة الجيل الحاضر.

التأريخ مربّي الجيل الحاضر ، وهم سيصنعون تأريخ الغدّ.

والخلاصة ، فإنّ التأريخ أحد أسباب الهداية الإلهية.

ولكن ينبغي الانتباه جيدا ، فبمقدار ما يكون التأريخ الصحيح بنّاء ملهما مربّيا نجد أنّ التواريخ المزيّفة مدعاة للضلال والانحراف ، ومن هذا المنطلق فإنّ مرضى القلوب سعوا دائما إلى تضليل البشر وصدّهم عن سبيل الله ، بتحريف التأريخ ، وينبغي أن لا ننسى أنّ التحريف في التأريخ كثير(١) .

ويلزم بيان هذه الملاحظة أيضا ، وهي أنّ كلمة (ذكر) هنا ، وفي آيات كثيرة أخرى من آيات القرآن الكريم تشير إلى القرآن نفسه ، لأنّ آياته سبب لتذكّر وتذكير البشر ، والوعي والحذر.

ولهذا السبب فإنّ الآية التالية تتحدّث عن الذين ينسون حقائق القرآن ودروس التأريخ وعبره ، فتقول :( مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً ) .

نعم إنّ الإعراض عن الله سبحانه يجرّ الإنسان إلى مثل هذه المتاهات التي تحمله أعباءا ثقيلة من أنواع الذنوب والانحرافات الفكريّة والعقائدية وكلمة (وزر) عادة تعني بحدّ ذاتها الحمل الثقيل ، وذكرها نكرة يؤكّد تأكيدا أكبر على

__________________

(١) لقد بحثنا في مجال التاريخ وأهميته في بداية سورة يوسف ونهايتها وكذلك في ذيل الآية (١٢٠) من سورة هود.

٧٤

هذه المسألة.

ثمّ تضيف :( خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً ) والملفت للنظر هنا أنّ ضمير (فيه) في هذه الآية يعود إلى (الوزر) أي أنّ هؤلاء سيبقون دائما في وزرهم ومسئوليتهم وحملهم الثقيل (ولا دليل لدينا كي نقدّر شيئا هنا ونقول : إنّ هؤلاء سيخلدون في العذاب أو في الجحيم) وهذا بنفسه إشارة إلى مسألة تجسّم الأعمال ، وإنّ الإنسان يرى الجزاء الحسن أو العقاب في القيامة طبقا لتلك الأعمال التي قام بها في هذه الدنيا.

ثمّ تتطرّق الآيات إلى وصف يوم القيامة وبدايته ، فتقول :( يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً ) وكما أشرنا سابقا ، فإنّه يستفاد من آيات القرآن أنّ نهاية هذا العالم وبداية العالم الآخر ستتمّان بحركتين عنيفتين فجائيتين ، وعبّر عن كلّ منهما بـ (نفخة الصور) ، وسنبيّن ذلك في سورة الزمر ذيل الآية ٦٨ إن شاء الله تعالى.

لفظة «زرق» جمع «أزرق» تأتي عادة بمعنى زرقة العين ، إلّا أنّها تطلق أحيانا على القاتم جسده بسبب الشدّة والألم ، فإنّ البدن عند تحمّل الألم والتعب والعذاب يضعف ، ويفقد طراوته ، فيبدو قاتما وكأنّه أزرق.

وفسّر بعضهم هذه الكلمة بمعنى «العمى» ، لأنّ الأشخاص زرق العيون يعانون ويبتلون عادة بضعف شديد في البصر ، وذلك يقترن عادة بكون كلّ شعر بدنهم أبيضا. إلّا أنّما ذكرناه آنفا من تفسير ربّما كان هو الأنسب.

في هذه الحال يتحدّث المجرمون فيما بينهم بإخفات حول مقدار مكوثهم وبقائهم في عالم البرزخ ، فبعضهم يقول : لم تلبثوا إلّا عشر ليال ، أو عشرة أيّام بلياليها :( يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً ) (١) .

__________________

(١) العدد في لغة العرب من ٣ إلى ١٠ يخالف المعدود في الجنس ، فإذا كان العدد مذكّرا كان المعدود مؤنثا ، فإنّ (عشرا) لما

٧٥

لا شكّ أنّ مدّة توقّف هؤلاء كانت طويلة ، إلّا أنّها تبدو قصيرة جدّا في مقابل عمر القيامة. وإنّ تخافتهم هذا بالكلام إمّا هو للرعب والخوف الشديد الذي ينتابهم عند مشاهدة أهوال القيامة ، أو أنّه نتيجة شدّة ضعفهم وعجزهم.

واحتمل بعض المفسّرين أن تكون هذه الجملة إشارة إلى مكثهم في الدنيا ، والذي يعدّ أيّاما قلائل بالنسبة للآخرة وحوادثها المخفية.

ثمّ يضيف :( نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ ) سواء تكلّموا بهمس أم بصراخ ، وبصوت خفي أم عال( إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً ) .

ومن المسلّم به أنّه : لا العشر مدّة طويلة ، ولا اليوم كذلك ، إلّا أنّ هناك تفاوتا بينهما ، وهو أنّ اليوم الواحد إشارة إلى أقل أعداد الآحاد ، والعشرة إشارة إلى أقلّ أعداد العشرات ، ولذلك فإنّ الأوّل يشير إلى مدّة أقل ، ولذلك عبّر القرآن عمّن قال به بـ( أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً ) لأنّ قصر عمر الدنيا أو البرزخ في مقابل عمر الآخرة ، وكذلك كون كيفيتهما وحالهما لا شيء أمام كيفيّة وحال الآخرة ، ويكون أنسب مع أقل الأعداد. (فلاحظوا بدقّة).

* * *

__________________

جاءت هنا بصيغة المذكّر ، فإنّ المضاف إليه هو (ليال) والذي يجب أن يكون مؤنثا حتما ، أمّا لو كان المضاف إليه (أيّام) فكان يجب أن يقال : عشرة. إلّا أنّ بعض أدباء العرب نقل بأنّ العدد إذا ذكر مطلقا وحذف تمييزه فلا تجري القاعدة السابقة ، وبناء على هذا فإنّ (عشرا) هنا إشارة إلى عشرة أيّام.

٧٦

الآيات

( وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (١٠٦) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (١٠٧) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (١٠٨) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (١٠٩) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (١١٠) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (١١١) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (١١٢) )

التّفسير

مشهد القيامة المهول :

تتابع هذه الآيات الكلام في الآيات السابقة عن الحوادث المرتبطة بانتهاء الدنيا وبداية القيامة.

ويظهر من الآية الأولى أنّ الناس كانوا قد سألوا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن مصير الجبال

٧٧

عند انتهاء الدنيا ، وربّما كان ذلك لأنّهم لم يكونوا يصدّقون إمكانية تصدّع وزوال هذه الجبال العظيمة التي امتدّت جذورها في أعماق الأرض وشمخت رؤوسها إلى السّماء ، وإذا كان بالإمكان قلعها من مكانها فأي هواء أو طوفان له مثل هذه القدرة ، ولذلك يقول :( وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ ) والجواب :( فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً ) (١) .

يستفاد من مجموع آيات القرآن حول مصير الجبال أنّها تمرّ عند حلول القيامة بمراحل مختلفة :

في ترجف وتهتزّ أوّلا :( يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ ) (٢) .

ثمّ تتحرّك :( وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً ) (٣) .

وفي المرحلة الثّالثة تتلاشى وتتحوّل إلى كثبان من الرمل :( وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً ) (٤) .

وفي المرحلة الأخيرة سيزحزحها الهواء والطوفان من مكانها ويبعثرها في الهواء وتبدو كالصوف المنفوش :( وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ) (٥)

ثمّ تقول الآية : إنّ الله سبحانه بعد تلاشي الجبال وتطاير ذرّاتها يأتي أمره إلى الأرض( فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً ) (٦) ( لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً ) (٧) وفي ذلك الحين

__________________

(١) «نسف» في اللغة تعني وضع الحبوب الغذائية في الغربال وغربلتها ، أو ذرها في الهواء لينفصل الحبّ عن القشر ، وهنا إشارة إلى تلاشي الجبال وتهشّمها ، ثمّ تناثرها في الهواء.

(٢) سورة المزمل ، ١٤.

(٣) سورة الطور ، ١٠.

(٤) سورة المزمل ، ١٤.

(٥) سورة القارعة ، ٥.

(٦) «القاع» : الأرض المستوية ، وفسّره البعض بأنّه المكان الذي يجتمع فيه الماء. وأمّا «الصفصف» فقد فسّرت أحيانا بأنّها الأرض الخالية من كلّ أنواع النباتات ، وأحيانا بمعنى الأرض المستوية. ويستفاد من مجموع هذين الوصفين أنّ كلّ الجبال والنباتات ستمحى من على وجه الأرض في ذلك اليوم وستبقى الأرض مستوية خالية.

(٧) «العوج» بمعنى الاعوجاج ، و «الأمت» أي الأرض المرتفعة والربية ، وبناء على هذا فإنّ معنى الآية هو أنّه لا يرى في ذلك اليوم أي ارتفاع وانخفاض على وجه الأرض.

٧٨

يدعو الداعي الإلهي جميع البشر إلى الحياة والاجتماع في المحشر للحساب فيلبّي الجميع دعوته ويتّبعونه( يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ ) .

هل إنّ هذا الداعي (إسرافيل) أم ملك آخر من ملائكة الله المقرّبين؟ القرآن لم يشخّص ويحدّد ذلك بدقة ، وكائنا من كان فإنّ أمره نافذ لا يقدر أي أحد على التخلّف عنه.

وجملة «لا عوج» أيمكن أن تكون وصفا لدعوة هذا الداعي ، أو وصفا لاتّباع المدعوين ، أو لكليهما. وممّا يلفت النظر أنّه كما أنّ سطح الأرض يصبح صافيا ومستويا بحيث لا يبقى فيه أي اعوجاج ، فإنّ أمر الله والداعي أيضا كلّ منهما صاف ومستقيم جلي ، واتّباعه واضح لا سبيل لأي انحراف واعوجاج إليه.

عند ذلك : «وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً »(١) . إنّ هدوء الأصوات أو خشوعها هذا إمّا هو لهيمنة العظمة الإلهيّة على عرصة المحشر حيث يخضع لها الجميع ، أو خوفا من الحساب ونتيجة الأعمال ، أو لكليهما.

وبما أنّ بعض الغارقين في الذنوب والمعاصي قد يحتمل أن تنالهم شفاعة الشافعين وتنجيهم ، فإنّه يضيف مباشرة :( يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ) وهذا إشارة إلى أنّ الشفاعة هناك ليست اعتباطية وعشوائية ، بل إنّ هناك تخطيطا دقيقا لها ، سواء ما يتعلّق بالشافعين أو المشفوع لهم ، وما دام الأفراد لا يملكون الأهلية والاستحقاق للشفاعة ، فلا معنى حينئذ لها.

والحقيقة هي أنّ جماعة ينظرون إلى الشفاعة بمنظار خاطئ ، فهم يتصورون أنّها لا تختلف عن أساليب الدنيا ومراوغاتها ، في حين أنّ الشفاعة في منطق الإسلام مرحلة تربوية متقدّمة ، وعامل مساعد لهؤلاء الذين يطوون طريق الحقّ

__________________

(١) «الهمس» ـ كما يقول الراغب في مفرداته ـ يعني الصوت الخفي والمنخفض. وفسّره بعضهم بأنّه الصوت الخفي للقدم الحافية ، والبعض بحركة الشفاء من دون أن يسمع معها صوت ، ولا يوجد تفاوت كبير بين هذه المعاني.

٧٩

بجدّ وسعي إلّا أنّهم يبتلون أحيانا بالنقائص والزلّات ، ولعلّ من الممكن أن يعلو غبار اليأس والقنوط قلوبهم نتيجة هذه الزلّات والهفوات ، هنا تأتي إليهم الشفاعة كقوّة محرّكة وتقول : لا تيأسوا ، واستمروا في طريقكم ، ولا تكفوا أيديكم عن السعي والاجتهاد في هذا المسير ، وإذا ما بدر منكم زلل وهفوات فإنّ هناك شفعاء سيشفعون لكم عند الله الرحمن الذي وسعت رحمته كلّ شيء فيأذن لهم بالشفاعة.

أنّ الشفاعة ليست دعوة للتقاعس ، أو الفرار من تحمّل المسؤولية ، أو أنّها ضوء أخضر لارتكاب المعاصي ، بل هي دعوة إلى الاستقامة في طريق الحقّ ، واجتناب الذنوب قدر الإمكان.

ومع أنّنا قد أوردنا بحث الشفاعة بصورة مفصّلة في ذيل الآية (٤٧ ـ ٤٨) من سورة البقرة ، وفي ذيل الآية (٢٥٥) من سورة البقرة ، لكن لا بأس من أن نضيف هنا قصّة جميلة:

فقد روى العالم الرّباني المرحوم «ياسري» ـ أحد علماء طهران المحترمين ـ أنّ شاعرا يسمّى «حاجبا» كان قد ابتلي بأفكار العوام في مسألة الشفاعة ، فنظّم شعرا قال فيه :

يا حاجب إن كانت معاملتك مع علي في المحشر ، فأنا ضامن لك النجاة واعمل ما شئت من الذنوب.

فرأى أمير المؤمنين علياعليه‌السلام في المنام ، وكان مغضبا ، وقال له : لم تحسن قول الشعر ، فقال : فما ذا أقول؟ فقال : أصلح شعرك وقل : يا حاجب : إن كانت معاملتك مع علي في المحشر فاستح منه وقلّل من ذنوبك ومعاصيك.

ولمّا كان حضور الناس في عرصات القيامة للحساب والجزاء لا بدّ معه من علم الله سبحانه بأعمالهم وسلوكهم ومعاملاتهم ، فإنّ الآية التالية تضيف :( يَعْلَمُ ما

٨٠

الإداريّة، والقدرة على التدبير والدراية ما للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى يخلّفه في سياسة الاُمّة، وتسيير اُمورها الاجتماعيّة والفرديّة.

وربّما يتصوّر أنّنا نقسوا على الصحابة مع ما يكيل لهم الجمهور من تجليل واحترام كبيرين، غير أنّ من يرجع إلى القرآن الكريم، يجد بأنّنا لم نقس على أحد منهم، بل القرآن الكريم هو الذي يقسمهم إلى صنفين، فيمدح صنفاً ويذم صنفاً بصراحة كاملة.

فالصنف الأوّل الذين يمدحهم القرآن ويذكر عنهم بخير يشمل السابقين الأوّلين إلى الإسلام والتابعين لهم، حيث يقول عنهم :

١.( وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) ( التوبة: ١٠٠ ).

٢.( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) ( الفتح: ١٨ ).

٣.( لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) ( الحشر: ٨ ).

٤.( مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ) ( الفتح: ٢٩ ).

__________________

(١) لا يخفى أنّ الرضاية الإلهيّة الواردة في الآية مقيّدة بظرفها ووقتها ( أي ظرف المبايعة ووقتها ) لقوله( إِذْ يُبَايِعُونَكَ ) ، فبقاء الرضاية يحتاج إلى دليل، كما أنّ ادّعاء نفيها يحتاج أيضاً إلى دليل.

٨١

غير أنّ هناك آيات جمّة ـ إلى جانب ذلك ـ تدلّ على عدم كون الصحابة كلّهم عدولاً، بل وممدوحين، إذ فيهم المنافق الذي يقلّب الاُمور على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وفيهم من مرد على النفاق ونبت عليه:( وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ ) ( التوبة: ١٠١).

ومنهم من خلط عملاً صالحاً بعمل سيّئ:( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا ) ( التوبة: ١٠٢ ).

وطائفة قد بلغ ضعف إيمانهم إلى حدّ الدنوّ إلى الارتداد والعودة إلى الجاهليّة:( وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ ) ( آل عمران: ١٥٤ ).

وطائفة قد بلغ مبلغ إيمانهم بالله ورسوله أنّهم كلّما أعتورهم الخوف وداهمهم الخطر، لاذوا بالفرار، قال سبحانه عنهم:( إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا *هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا *وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إلّا غُرُورًا *وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إلّا فِرَارًا *وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إلّا يَسِيرًا *وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِن قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْئُولاً *قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ المَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لاَّ تُمَتَّعُونَ إلّا قَلِيلاً *قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا *قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إلّا قَلِيلاً *أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الخَيْرِ أُولَٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا *يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الأَحْزَابُ

٨٢

يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إلّا قَلِيلاً ) ( الأحزاب: ١٠ ـ ٢٠ ).

وهذه الآيات، تشرح بصراحة ما عليه جماعة كثيرة من أصحاب النبيّ ولا تختصّ بالمنافقين، لقوله سبحانه:( إِذْ جَاءُوكُم مِن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ ) وقوله سبحانه:( وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ) عاطفاً لها على المنافقين فقال( وَالَّذِينَ ) ولم يقل ( الذين ).

نعم كانت في صحابة النبيّ ثلة جليلة بالغة منتهى الإيمان والعمل، وهم الذين عناهم الله تعالى بقوله:( ولـمّارَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إلّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا *مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) . ( الأحزاب: ٢٢ ـ ٢٣ ).

إجابةٌ عن سؤال

ولعل القائل يقول: بأنّهم كيف لم يبلغوا الدرجة الكاملة في أمر القيادة مع أنّهم، حطّموا امبراطوريتين كبيرتين، وبنوا فوق أنقاضها صرح الإسلام، أضف إلى ذلك، أنّه سبحانه وصفهم في سورة الفتح بقوله:( فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ ) ( الفتح: ٢٩ ).

فهو يدل على كفاءتهم في أمر القيادة والاعتماد على أنفسهم، حيث شبّههم بالزرع المستغلظ القائم على سوقه.

ولكن الإجابة على هذا السؤال سهلة بعد الوقوف على ما نذكره :

١. إنّ التسلّط على الامبراطوريّتين لم يكن نتيجة قوة القيادة وصحتها، بل كان لقوّة تعاليم الإسلام، أكبر سهم في نفوذهم وسيطرتهم عليهما، حيث كانت التعاليم بمجرّدها تسحر القلوب، وتجذب العقول وتفتح الطريق خاصّة بين تلك الشعوب التي طالما عاشت الضغط والحرمان، وعانت من الظلم والاضطهاد المرير.

٨٣

٢. إنّ التأريخ يشهد، بأنّ الامبراطوريتين كانتا تلفظا أنفاسهما الأخيرة، وكانتا قد بلغتا درجةً كبيرةً من الضعف، فساعد الإسلام على سقوطها واندحارها.

ويشهد على ذلك، أنّ الشعوب التي كانت تعيش تحت حكميهما كانت تسارع إلى استقبال الفتح الإسلامي وترحّب بحكم المسلمين ونظامهم، فتفتح أبواب المدن لعساكر الإسلام وتبدي رغبتها الشديدة في العيش تحت لواء الحكومة الإسلامية.

روى البلاذريّ: ( لـمّا ردّ المسلمون على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج، وقالوا: قد شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم، فأنتم على أمركم، قال أهل حمص لهم :

لولايتكم وعدلكم أحبّ إلينا ممّا كنّا فيه من الظلم والغشم، ولندفعنّ جند هرقل عن المدينة مع عاملكم. و

ونهض اليهود وقالوا: والتوراة، لايدخل عامل هرقل مدينة حمص إلّا أن نغلب ونجهد. فأغلقوا الأبواب وحرسوها، وكذلك فعل أهل المدن التي صولحت من النصارى واليهود.

وقالوا: إن ظهر الروم وأتباعهم على المسلمين صرنا إلى ما كنّا عليه وإلاّ فإنّا على أمرنا ما بقي للمسلمين عدد فلمّا هزم الله الكفرة وأظهر المسلمين فتحوا مدنهم وأخرجوا المقلسين فلعبوا وأدّوا الخراج )(١) .

٣. إنّ المراجع للتأريخ الإسلاميّ يجد أنّ أمير المؤمنين عليّاًعليه‌السلام كان له السهم الأوفر في القيادة، وتحقيق الانتصارات التي أصابها المسلمون بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ويدلّ على تلك المساهمة الفعلية، ما قاله عليّعليه‌السلام عندما شاوره عمر بن الخطاب في الخروج بنفسه إلى غزو الروم: « إنّك متى تسر إلى هذا العدو بنفسك، فتلقهم فتنكب، لا تكن للمسلمين كانفة دون أقصى بلادهم. ليس بعدك مرجع يرجعون إليه، فابعث إليهم رجلاً محرباً، واحفز معه أهل البلاء والنصيحة، فإن أظهر الله فذاك ما تحب، وإن

__________________

(١) فتوح البلدان للبلاذريّ: ١٤٣.

٨٤

تكن الاخرى كنت ردءاً للناس ومثابةً للمسلمين »(١) .

وبالرغم من أنّهعليه‌السلام قد اقصي عن الخلافة، ولم يكن يخطر بباله أنّ العرب تزعج هذا الأمر ـ من بعد النبيّ ـ عن أهله، فإّنه لم يمسك يده عن نصرة المسلمين، عندما لاحظ رجوع الناس عن الإسلام يريدون محق دين محمد، والعودة إلى الجاهلية وفي ذلك يكتب إلى أهل مصر مع مالك الأشتر لـمّا ولاّه إمارتها ويقول: « حتّى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً، تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنّما هي متاع أيام قلائل يزول منها ما كان، كما يزول السراب أو كما يتقشّع السحاب فنهضت في تلك الأحداث حتّى زاح الباطل وزهق، واطمأنّ الدين وتنهنه »(٢) .

٤. إنّ الفرق الكبير بين قيادتهم وقيادة من كان يجب أن يسلّم الأمر إليه إنّا يعلم، لو باشرت تلك الطائفة الاخرى أمر القيادة، فعند ذلك نعلم مدى صحة قيادة الطائفة الاولى.

وبما أنّ الأمر لم يسلّم إلى من كان يجب تسليم الأمر إليه. صارت قيادتهم عندنا قيادةً عاريةً عن الضعف والنقص.

والذي يدل على ذلك. أنّ القيادة بعد النبيّ جرّت على المسلمين أكبر المآسي والويلات، خصوصاً عندما أخذت بنو اميّة وبنو العباس زمام الأمر، وعادت الخلافة الإسلاميّة ملكاً عضوضاً وحكماً قيصرياً كسروياً.

وللبحث عن أحوال الصحابة ومواقفهم في القرآن الكريم، مجال آخر ربّما نتوفّق للبحث عنها في وقت آخر. ولا نريد بهذه الكلمة تعكير الصفو، أو تمزيق الوحدة، وإنّما نريد أن نوقف القارئ الكريم على الحقيقة على وجه الإجمال.

وخلاصة القول، أنّ الصحابة ليس كلّهم عدولاً يقتدى بهم ويستضاء بنورهم ،

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ١٣٠ ( طبعة عبده ).

(٢) نهج البلاغة: قسم الكتب الرقم (٦٢).

٨٥

بل هم على أقسام تحدّث عنها القرآن الكريم، ويقف عليها من استشفّ الحقيقة عن كثب، كما لم تبلغ الاُمّة إلى حد الإكتفاء الذاتي في القيادة، كما هو محط البحث.

ب ـ الاُمّة الإسلاميّة والخطر الثلاثيّ

من الواضح لكل مطلع على أوضاع الاُمّة الإسلاميّة قبيل وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ الدولة الإسلاميّة الحديثة التأسيس كانت محاصرة من جهتي الشمال والغرب بأكبر إمبراطوريّتين عرفهما تأريخ تلك الفترة، إمبراطوريّتان كانتا على جانب كبير من القوة والبأس والقدرة العسكرية المتفوّقة مما لم يتوصّل المسلمون إلى أقل درجة منها وتلك الامبراطوريّتان هما: الروم، وإيران.

هذا من الخارج.

وأمّا من الداخل، فقد كان الإسلام والمسلمون يعانون من جماعة المنافقين الذين كانوا يشكّلون العدوّ الداخلي المبطّن ( أو ما يسمى بالطابور الخامس ).

ولأجل أن نعرف مدى الخطر المتوجّه من هذه الجهات الثلاث على الاُمّة والدولة الإسلاميّة يجدر بنا أن ندرس كلّ واحدة منها بالتفصيل :

١. خطر إمبراطوريّة إيران

لقد كانت إيران إمبراطوريّةً ضخمةً، ذات حضارة متقدمة زاهرة، وذات سلطان عريض فرضته على عدد كبير من المستعمرات أحقاباً مديدةً من السنين، ممّا أكسبت ملوكها وزعماءها روح التسلّط والسيطرة، وأصبح من العسير أن يعترفوا بسيادة أمّة طالما كانت تعيش تحت سلطانهم في العراق واليمن، وهم الذين لم يعترفوا بالسيادة لأحد قروناً طويلةً، فلأجل هذه الغطرسة والأنانية شمخ الامبراطور الفارسيّ (خسرو برويز ) بأنفه عندما أتته دعوة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فمزّق رسالته المباركة التي كتبهاصلى‌الله‌عليه‌وآله يدعوه فيها إلى الإسلام وعبادة الله تعالى وكتب إلى عامله باليمن :

٨٦

( ابعث إلى هذا الرجل بالحجاز [ ويعني الرسول ] رجلين من عندك جلدين فليأتياني به )(١) .

٢. خطر الروم

كانت الامبراطوريّة البيزنطيّة تقع في شمال الجزيرة العربية، وكانت تشغل بال النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله دائماً، ولم يبارحه التفكير في خطرها حتى رحل إلى ربّه.

ولقد كان لهذا القلق مبرّره، فإنّ هذه الامبراطورية على غرار الامبراطوريّة الإيرانية، كانت ذات صفة توسّعيّة، وكان قادتها يقمعون أي حركة ومحاولة من مستعمراتهم للخروج من فلكها.

ولقد وقعت بين هذه الامبراطوريّة وبين المسلمين اشتباكات عديدةً. وكان أوّل اشتباك مسلّح وأوّل صدام عسكريّ عنيف هو الذي وقع في السنة الثامنة من الهجرة، وذلك عندما بعث النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ( الحارث بن عمير الأزدي ) مع رسالة إلى ( الحارث بن أبي شمر الغساني ) يدعوه فيها وقومه إلى الإسلام، فلمّا وصل إلى ( مؤتة ) تعرّض له ( شرحبيل بن عمرو الغساني )، وضرب عنقه(٢) .

ولمّا كان قتل الرسل أمراً ممنوعاً في جميع الحالات والظروف، وكان يعني أعتداءً على الجهة المرسلة، فإنّ هذا الفعل ( اعني قتل رسول النبيّ ) كشف عن استهانتهم بقوة الإسلام وأمره، وعن تعصبهم ضدّه، وعدم اعترافهم بكيانه السياسيّ، وقد حملت هذه الاُمور النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله على، أن يجهّز لهم جيشاً من ثلاثة آلاف مقاتل، ويوجّهه إلى ( مؤتة ) وقد قتل في هذه الموقعة من اختارهم لقيادة الجيش وهم جعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة، وأخذ اللواء بعدهم خالد بن الوليد، ورجع الجيش الإسلاميّ من تلك الواقعة منهزماً أمام الجيش البيزنطيّ.

__________________

(١) الكامل للجزري ٢: ١٤٥.

(٢) اُسد الغابة ١: ٣٤١ ـ ٣٤٢.

٨٧

ولقد أثار إخفاق المسلمين وهزيمتهم في هذه المعركة، واستشهاد القادة الثلاثة، لوعةً ونقمةً في نفوس المسلمين اتّجاه الروم. كما أنّه زاد من جرأة جيوش الروم، ولأجل ذلك توجّه الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى تبوك في السنة التاسعة يقصد غزو ذلك الجيش المعادي، ولكنّه لم يلق أحداً فأقام في تبوك أياماً، وصالح أهلها على الجزية، وقد حققت هذه الحملة هدفاً كبيراً وبعيداً على الصعيد السياسيّ وأنست تقهقر الجيش الإسلاميّ المحدود في طاقاته، أمام جحافل الروم المجهّزة بأحسن تجهيز(١) .

ولم يكتف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بهذه الحملة، بل عمد في أخريات حياته إلى بناء جيش إسلاميّ بقيادة ( أسامة بن زيد ) لمواجهة جيش الروم(٢) .

٣. خطر المنافقين

إنّ الدارس للمجتمع الإسلاميّ إبّان الدعوة الإسلاميّة، والمطّلع على تركيبته يجد، أنّ ذلك المجتمع كان يزخر بوجود المنافقين بين صفوفه.

والمنافقون هم الذين استسلموا للمدّ الإسلاميّ وأسلموا بألسنتهم دون قلوبهم إمّا خوفاً أو طمعاً. فكانوا يتجاهرون بالولاء للإسلام والمودّة للمسلمين، ولكنّهم يضمرون لهم كل سوء ويتحيّنون الفرص، لتوجيه الضربات إلى الدين الجديد، وضرب المسلمين بعضهم ببعض، وإضعاف الدولة الإسلاميّة من الداخل بإثارة الفتن، بين أفرادها وأبنائها، والسعي لتمزيق صفوفهم وإشعال الحروب الداخليّة فيما بينهم بإيقاظ النخوة الجاهليّة التي طهّر الإسلام أرض الجزيرة منها.

وربّما كانوا يتربّصون بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله الدوائر، حتّى أنّهم كادوا له ذات مرّة، وأرادوا أن يجفلوا به بعيره في العقبة عند عودته من حجة الوداع، وربّما اتّفقوا مع اليهود والمشركين لتوجيه الضربات إلى الكيان الإسلاميّ من الداخل تخلّصاً من هذا الدين الذي هدّد

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام ٢: ٥١٥ ـ ٥٢٩.

(٢) الملل والنحل ١: ٢٩ ( طبعة القاهرة )، الطبقات الكبرى ٤: ٦٥، الكامل في التاريخ ٢: ٢١٥.

٨٨

مصالحهم.

ولقد كان المنافقون ولايزالون أشدّ خطراً من أي شيء آخر على الإسلام وذلك، لأنّهم كانوا يوجّهون ضرباتهم بصورة ماكرة وخفية، وبنحو يخفى على العاديين من الناس(١) .

وإليك طرفاً ممّا ذكره القرآن الكريم حولهم، فهم متآمرون يبيّتون خلاف ما يظهرونه ويبدونه أما م النبيّ إذ يقول:( وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ ) ( النساء: ٨١ ).

وهم يريدون الشر للمسلمين دائماً، ولذلك يذيعون الشائعات التي من شأنها إضعاف معنويات المسلمين إذ يقول عنهم:( وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ) ( النساء: ٨٣ ).

وهم يريدون الفتنة دائماً، لذلك يقلبون الوقائع ويخفون الحقائق كما يقول القرآن:( لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّىٰ جَاءَ الحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ) ( التوبة: ٤٨ ).

وهم لا يرتدعون عن أي عمل يحقّق مصالحهم وأغراضهم المضادّة للإسلام، حتّى ولو كان بالتحالف مع المشركين والكفار، بل حتّى ولو كان باعطاء الوعود الكاذبة لهم، والتغرير بهم وخذلانهم عند اللقاء، وعدم الوفاء بالوعد:( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ *لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ ) ( الحشر: ١١ ـ ١٢ ).

__________________

(١) لقد تصدّى القرآن الكريم، لفضح المنافقين والتشهير بجماعتهم، وخططهم، الجهنّمية ضدّ الدين والنبيّ والاُمّة في أكثر السور القرآنيّة، مثل البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال والتوبة والعنكبوت والأحزاب ومحمّد والفتح والمجادلة والحديد والحشر، كما نزلت في حقّهم سورة خاصّة تسمّى بسورة المنافقين.

٨٩

ولذلك، شدّد القرآن الكريم في ذكر عذابهم أكثر من أي جماعة اخرى إذ يقول:( إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) ( النساء: ١٤٥ ).

ويحدثنا التأريخ كيف لعب المنافقون دوراً خبيثاً، وخطيراً في تعكير الصفو وإفساح المجال أمام أعداء الإسلام الأجانب ـ سواء قبل قوة الإسلام وبعدها ـ للمكر بالإسلام والكيد له، والمؤامرة عليه، بحيث لولا وجود النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لأتوا على ذلك الدين، ولقضوا على كيانه وأطاحوا بصرحه، وأطفأوا نوره.

وقد كان من المحتمل ـ بقوة ـ أن يتّحد هذا الثلاثي الخطر ( الفرس والروم والمنافقون ) لاكتساح الإسلام واجتثاث جذوره، وخاصّة بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وغياب شخصه عن الساحة.

وكان من المحتمل جداً، أن يتفق هذا الثلاثي ـ الناقم على الإسلام ـ على محو الدين، وهدم كلّ ما بناه الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله طوال ثلاثة وعشرين عاماً من الجهود والمتاعب، وتضييع كلّ ما قدّمه المسلمون من تضحيات في سبيل إقامته.

ج ـ العشائريّات تمنع من الاتّفاق على قائد

لقد كان من أبرز ما يتميّز به المجتمع العربيّ قبل الإسلام، هو النظام القبلي، والتقسيمات العشائرية التي كانت تحتلّ ـ في ذلك المجتمع ـ مكانةً كبرى، وتتمتّع بأهمّية عظيمة.

فلقد كان شعب الجزيرة العربية، غارقاً في هذا النظام الذي كان سائداً في كلّ أنحائها.

صحيح أنّ جميع القبائل العربية ـ آنذاك ـ كانت ترجع ـ في الأصل ـ إلى قبيلتي، القحطانيين ( وهم اليمنيّون ) والعدنانيين ( وهم الحجازيّون )، إلّا أنّ هذا التقسيم الثنائيّ قد تحوّل بمرور الزمن، إلى تقسيمات كثيرة وعديدة، حتّى أصبح من العسير، إحصاء القبائل العربيّة وأفخاذها وفروعها وبطونها.

٩٠

فمن يراجع الكتب التالية: ( بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب ) تأليف السيد محمود شكري الآلوسي، و ( المفصّل في تأريخ العرب ) تأليف علي جواد، الجزء (٤) الفصل (٤٦)، و ( معجم قبائل العرب القديمة والحديثة ) تأليف عمر رضا كحالة الجزء (٣). من يراجع هذه المؤلفات التي تشرح النظام القبليّ وأبعاده في المجتمع العربيّ قبل الإسلام، يعرف ـ معرفةً كاملةً ـ مدى تغلغل وتوسّع النمط القبليّ عند العرب، ومدى تأثير القبيلة وعدد بطونها وأفخاذها وفروعها، تلك القبائل والأفخاذ والبطون التي كانت تبدأ أسماؤها ـ في الغالب ـ بلفظة ( آل ) مثل، آل النعمان وآل جفنة، أو لفظة ( بنو)، كبني أشجع وبني بكر وبني تغلب، أو كان يطلق على جميع أبنائها اسم الجدّ الأعلى للقبيلة مثل، غطفان وخزاعة ( وهما ـ في الحقيقة ـ اسمان للجدود ولكنّهما اطلقا على القبيلة ).

ولقد كان للقبيلة أكبر الدور في الحياة العربية ـ قبل الإسلام ـ وعلى أساسها كانت تدور المفاخرات وتنشد القصائد، وتبنى الأمجاد، كما كانت هي، منشأ أكثر الحروب وأغلب المنازعات التي ربّما كانت تستمرّ قرناً أو قرنين من الزمان، كما حدث بين الأوس والخزرج، أكبر قبيلتين عربيّتين في يثرب ( المدينة )، وكلّفهم آلاف القتلى قبل دخول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة.

كما أنّ التأريخ يشهد لنا، كيف كاد التنازع القبليّ في قضية بناء الكعبة الشريفة ووضع الحجر الأسود في موضعه أيام الجاهلية، أن يؤدي إلى الاختلاف فالصراع الدموي، والاقتتال المرير، لولا تدخّل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي حسم الأمر بطريقة أرضت جميع القبائل المتنافسة، وأطفأت نار الفتنة التي كادت أن تأكل كلّ أخضر ويابس(١) .

ونظراً لما كان يتمتع به رؤساء هذه القبائل من نفوذ، وكانت تلك الجماعات تملك من قوّة ورابطة ـ في ذات الوقت ـ فقد سعى الرسول الأكرم ـ وبحكمة كبرى ـ أن

__________________

(١) راجع السيرة النبويّة لابن هشام ١: ١٩٦ تحت عنوان اختلاف قريش فيمن يضع الحجر ولعقة دم، ومروج الذهب ٢: ٢٧٨ تحت عنوان بناء قريش الكعبة واختلافهم في وضع الحجر الأسود وحكم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فيهم.

٩١

يستفيد من قدرة تلك القبائل ونفوذ رؤسائها، في إنجاح الدعوة الإسلامية وتقوية أركانها، والتغلّب على أعدائها من الكفّار والمشركين وغيرهم من المعارضين.

إلاّ أنّ هذا النظام ( القبلي ) لما كان ينطوي عليه ـ في نفس الوقت ـ من سيئات جسيمة، وتبعات لا يمكن التغاضي عنها، ومنافاتها مع ما ينشده الإسلام ويدعو اليه من الوحدة والاتّحاد بين جميع أفراد المسلمين، فقد سعى الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله في محو الروح القبلية، وتذويب الفوارق العشائرية. وصهر تلك التجمّعات المتشتّتة المتباينة في بوتقة الإيمان الموحّد، والصف الإسلامي الواحد، ولكنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله رغم ما أوجده في ضوء التعاليم الإسلامية من تحوّلات عظيمة في حياة العرب، إلّا أنّ أكثر هذه التحوّلات كانت تتعلّق بقضايا العقيدة، والمسائل الأخلاقية والروابط الاجتماعية ولم يكن من الممكن أن ينقلب شكل النظام القبليّ العربيّ في خلال ( ٢٣ عاماً ) ويتبدل كليةً. ويدلّ على ذلك، وجود بقايا من هذا النظام في القسم الأكبر من شبه الجزيرة العربية مثل اليمن ونجد والحجاز و و.

إنّ اُصول هذه العشائر ـ في ابّان العهد الإسلاميّ ـ وإن كانت عبارةً عن حمير وكهلان وقضاعة ومضر وربيعة، إلّا أنّ هذه القبائل الأساسية تفرّعت وتشعّبت باستمرار، إلى قبائل وأفخاذ وفروع، وكان لكل قبيلة وفخذ منها شيخ ورئيس يرأس الجماعة وتكون له الكلمة والقيادة وتعطي له الإحترام والطاعة.

وقد كانت النفسيات والأخلاق العشائرية، المتوغّلة في نفوسهم بحيث لم تنعدم انعداماً كلياً، رغم ما تلقاه اُولئك من التعاليم الإسلاميّة والتربية القرآنية، ولذلك كانت تظهر بين الفينة والاخرى، وينشأ بسببها النزاع ويكاد يتوسّع لولا حكمة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وتدبيره.

فقد ذكر ابن هشام، حادثةً عند عودة النبيّ والمسلمين من غزو بني المصطلق، بدأت من قضية صغيرة وكادت أن تتطوّر إلى نزاع قبليّ واسع لولا تصرّف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

قال: ( بينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عائداً من غزو بني المصطلق وقد نزل عند ماء، وردت

٩٢

واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له: جهجاه بن مسعود يقود فرسه، فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهنيّ حليف بني عوف بن الخزرج على الماء فاقتتلا فصرخ الجهنيّ: يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين(١) ، فغضب عبد الله بن أبي بن سلول وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم، غلام حدث، فقال: أو قد فعلوها، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعدنا وجلابيب قريش [ أي من أسلم من المهاجرين ] إلّا كما قال الأوّل: سمّن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ، ثم أقبل على من حضره من قومه، فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا إلى غير داركم، فسمع ذلك زيد بن أرقم فمشى به إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وذلك عند فراغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من عدوّه، فأخبره الخبر، وعنده عمر بن الخطاب فقال: مر به عباد بن بشر فليقتله، فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : فكيف يا عمر إذا تحدّث الناس أنّ محمّداً يقتل أصحابه ؟ لا، ولكن أذّن بالرحيل، وذلك في ساعة لم يكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يرتحل فيها فارتحل الناس(٢) .

كما أنّ هناك حادثةً اخرى تدلّ على أنّ مادة الاختلاف كانت كامنةً في أعماقهم، وكانت مستعدةً للإنفجار في كلّ لحظة، وبأقل تحريك، وإيقاد للعصبيات والرواسب القبليّة الجاهليّة.

فها هو ابن هشام ينقل: أنّ شأس بن قيس وكان شيخاً من اليهود قد أسنّ، عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم، مرّ ذات يوم على نفر من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدّثون فيه، فغاضه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من

__________________

(١) قال السهيليّ: ( لـمّا سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله هذه الكلمات قال: « دعوها فإنّها دعوة منتنة » يعني أنّها كلمة خبيثة لأنّها من دعوى الجاهليّة، وجعل الله المؤمنين إخوةً وحزباً واحداً، فإنّما ينبغي أن تكون الدعوة للمسلمين ).

(٢) السيرة النبويّة لابن هشام ٢: ٢٩٠ ـ ٢٩١.

٩٣

العداوة في الجاهلية. فقال: قد اجتمع ملأُ بني قيلة بهذه البلاد لا والله مالنا معهم إذا اجتمع ملأهم بها من قرار، فأمر فتىً شابّاً من يهود كان معهم، فقال: اعمد إليهم، فاجلس معهم، ثمّ اذكر يوم بعاث وما كان قبله، وانشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار.

وكان يوم بعاث يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظفر فيه يومئذ للأوس على الخزرج، وكان على الأوس يومئذ حضير بن سماك الأشهليّ، أبو أسيد بن حضير، وعلى الخزرج عمرو النعمان البياضيّ، فقتلا جميعاً

قال ابن هشام: قال أبو قيس بن الأسلت :

على أن قد فجعت بذي حفاظ

فعاودني له حزن رصين

فأما تقتلوه فإنّ عمراً

أعض برأسه عضب سنين

وهذان البيتان في قصيدة له، وحديث يوم بعاث أطول ممّا ذكرت.

قال ابن هشام: ففعل [ ذلك الشاب ما أراده شأس ] فتكلّم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتّى تواثب رجلان من الحييّن على الركب، أوس بن قيظي أحد بني حارثة بن الحارث من الأوس، وجبّار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج، فتقاولا ثمّ قال أحدهما لصاحبه، إن شئتم رددناها الآن جذعة [ أي رددنا الآخر إلى أوّله وأعدنا الاقتتال والتنازع ] فغضب الفريقان جميعاً وقالوا: قد فعلنا، موعدكم الظاهرة [ أي الحرّة ] السلاح السلاح فخرجوا إليها فبلغ ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتّى جاءهم، فقال: « يا معشر المسلمين، الله الله أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام، وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألّف به بين قلوبكم » فعرف القوم أنّها نزعة [ أي إفساد بين الناس ] من الشيطان وكيد من عدوّهم، فبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً، ثمّ انصرفوا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدوّ الله شأس بن قيس، فأنزل الله تعالى في شأس بن قيس وما صنع:( قُلْ يَا أَهْلَ

٩٤

الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا تَعْمَلُونَ *قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) ( العمران: ٩٨ ـ ٩٩ ).

وأنزل الله في أوس بن قيظيّ وجبّار بن صخر ومن كان معهما من قومهما، الذين صنعوا ما صنعوا عمّا أدخل عليهم شأس من أمر الجاهلية:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ *وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ *يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إلّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * إلى أخر قوله تعالى ـوَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ( آل عمران: ١٠٠ ـ ١٠٥ )(١) .

وممّا يدلّ أيضاً على وجود رواسب الخلاف عند قبيلتي الأوس والخزرج حتّى بعد دخولهم في الإسلام، وانضوائهم تحت لوائه في صف واحد، ما نقله الشيخ البخاري في صحيحه، في قصّة الإفك قال، قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو على المنبر: « يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي، والله ما علمت على أهلي إلّا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلّا خيراً، وما يدخل على أهلي إلّا معي ».

قالت عائشة: فقام سعد بن معاذ(٢) أخو بني عبد الأشهل فقال: أنا يا رسول الله أعذرك، فإن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا.

قالت: فقام رجل من الخزرج وهوسعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، قالت: وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحميّة، فقال لسعد بن معاذ: كذبت لعمرو الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل.

فقام أسيد بن حضير، وهو ابن عمّ سعد [ بن معاذ ]، فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمرو الله لنقتلنّه، فإنّك منافق تجادل عن المنافقين.

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام ١: ٥٥٥ ـ ٥٥٧.

(٢) فيه تأمل، فإنّ سعداً توفّي قبل غزو بني المصطلق.

٩٥

قالت عائشة: فصار الحيّان ( الأوس والخزرج ) حتّى همّوا أن يقتتلوا، ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قائم على المنبر.

قالت: فلم يزل رسول الله يخفّضهم ( أي يهدّئهم )حتّى سكتوا وسكت(١) .

فكيف كان يجوز ـ والحال هذه ـ أن يترك الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله اُمّته المفطورة على العصبيّات القبليّة، وعلى الاستئثار بالسلطة والزعامة وحرصها على النفس، ورفض سلطة الآخر ؟

فهل كان يجوز للنبيّ أن يترك تعيين مصير الخلافة لتقوم به أمّة هذه حالها، وفي تعيينه قطع لدابر الاختلاف والفرقة ؟

وهل كان من المحتمل أن تتفق كلمة الاُمّة جمعاء على واحد ولا تخضع للرواسب القبليّة ولا تبرز إلى الوجود مرّة اخرى ما مضى من الصراعات والتطلّعات العشائرية، وما يتبع ذلك من حزازات ؟

أم هل يصلح لقائد يهتمّ ببقاء دينه واُمّته أن يترك أكبر الاُمور وأعظمها، وأشدّها دخالةً في حفظ الدين، إلى أمّة نشأت على الاختلاف، وتربّت على الفرقة، مع أنّه كان يرى الاختلاف منهم في حياته أحياناً أيضاً كما عرفت ؟

إنّ التأريخ يدلّ على أنّ هذا الأمر قد وقع فعلاً بعد وفاة النبيّ ـ في السقيفة التي سيأتي ذكرها مفصّلاً ـ حيث سارعت كلّ قبيلة إلى ترشيح نفسها للزعامة، منتحلةً لنفسها حججاً وأعذاراً وطالبةً ما تريد بكلّ ثمن حتّى بتجاهل المبادئ وتناسي التعاليم الإسلاميّة، والوصايا النبويّة.

فقد ذكر ابن هشام تحت عنوان « أمر سقيفة بني ساعدة، تفرّق الكلمة » نقلاً عن عمر بن الخطاب، ما يدلّ على اختلاف الكلمة وعدم الاتفاق على أحد :

قال عمر: لـمّا جلسنا ( أي في سقيفة بني ساعدة ) قام واحد من الأنصار فأثنى

__________________

(١) صحيح البخاري ٥: ١١٩ باب غزو بني المصطلق.

٩٦

على الله بما هو أهله ثمّ قال :

( أمّا بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منّا، وقد دفّت دافّة من قومكم ( أي جاء جماعة ببطء ) وإذا هم يريدون أن يحتازونا ( أي يدفعوننا ) من أصلنا، ويغصبونا الأمر ).

... فقام أبو بكر وقال :

( أمّا ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن تعرف العرب هذا الأمر ( أي الزعامة ) إلّا لهذا الحيّ من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيّهما شئتم ) وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجّراح :

ثمّ قام وقال قائل من الأنصار ( أنا جذيلها المحكّك، وعذيلها المرجّب، منّا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش ).

قال عمر بن الخطاب: ( فكثر اللغط ( أي اختلاف الأصوات ودخول بعضها على بعض )، وارتفعت الأصوات حتّى تخوّفت الاختلاف )(١) .

ولم يقتصر اختلاف الاُمّة على هذا الذي ذكرناه، بل ظهرت مظاهر التشتت القبليّ حتّى بعد ما جرى في السقيفة من بيعة من فيها لأبي بكر، حيث راح المهاجرون والأنصار يتهاجون فيما بينهم، وجرت بينهم مشادات كلاميّة وشعريّة هجائيّة، هاجم فيها كلّ فريق الفريق الآخر بأشدّ أنواع الهجاء نقلها المؤرّخون ونذكر منها شيئاً :

فقد جاء في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد نقلاً عن كتاب الموفّقيّات: لـمّا بويع أبو بكر وراح أبو سفيان بن حرب يدّعي الفضل لقريش ويذكر اُموراً في هذا المجال، قال حسّان بن ثابت :

تنادى سهيل وابن حرب وحارث

وعكرمة الشاني لنا ابن أبي جهل

قتلنا أباه وانتزعنا سلاحه

فأصبح بالبطحا أذلّ من النعل

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام ٢: ٦٥٩ ـ ٦٦٠.

٩٧

فأمّا سهيل فاحتواه ابن دخشم

أسيراً ذليلاً لا يمرّ ولا يحلي

وصخر بن حرب قد قتلنا رجاله

غداة لوا بدر فمرجله يغلي

اولئك رهط من قريش تبايعوا

على خطّة ليست من الخطط الفضل

وأعجب منهم قابلوا ذاك منهم

كأنّا اشتملنا من قريش على ذحل

وكلّهم ثان عن الحقّ عطفه

يقول اقتلوا الأنصار بئس من فعل

نصرنا وآوينا النبيّ ولم نخف

صروف الليالي والبلاء على رجل

بذلنا لهم أنصاف مال أكفّنا

كقسمة أيسار الجزور من الفضل

ونحمي ذمار الحيّ فهو بن مالك

ونوقد نار الحرب بالحطب الجزل

فكان جزاء الفضل منّا عليهم

جهالتهم حمقاً وما ذاك بالعدل

فبلغ شعر حسّان قريشاً، فغضبوا وأمروا أبي عزّة شاعرهم أن يجيبه، فقال :

معشر الأنصار خافوا ربّكم

واستحيروا الله من شّر الفتن

إنّني أرهب حرباً لاقحاً

يشرق المرضع فيها باللبن

جرّها سعد وسعد فتنة

ليت سعد بن عبّاد لم يكن

خلف برهوت خفيّاً شخصه

بين بصرى ذي رعين وجدن

ليس ما قدّر سعد كائناً

ما جرى البحر وما دام حضن

ليس بالقاطع منّا شعرةً

كيف يرجى خير أمر لم يحن

ليس بالمدرك منها أبداً

غير أضغاث أماني الوسن

واتّفق أن اجتمع الأنصار والمهاجرين في مجلس، فأفاضوا الحديث عن يوم السقيفة، فقال عمرو بن العاص: والله لقد دفع الله عنّا من الأنصار عظيمةً، ولما دفع الله عنهم أعظم، كادوا والله أن يحلّوا حبل الإسلام كما قاتلوا عليه، ويخرجوا منه من أدخلوا فيه ؟ ولقد قاتلونا أمس فغلبونا، ولو قاتلناهم اليوم لغلبناهم على العاقبة، فلم يجبه أحد وانصرف إلى منزله وقد ظفر فقال :

٩٨

ألا قل لأوس إذا جئتها

وقل إذا ما جئت للخزرج

تمنّيتم الملك في يثرب

فأنزلت القدر لم تنضج

إلى آخر الأبيات.

فلمّا بلغ الأنصار مقالته وشعره، بعثوا إليه لسانهم وشاعرهم النعمان بن العجلان فقال لعمرو وهو في جماعة من قريش: ( والله يا عمرو ما كرهتم من حربنا إلّا ما كرهنا من حربكم، وما كان اللّه ليخرجكم من الإسلام بمن أدخلكم فيه، إن كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: « الأئمّة من قريش » فقد قال: « لو سلك النّاس شعباً وسلك الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار » فأمّا المهاجرون والأنصار فلا فرق بينهم، ولكنّك وترت بني عبد مناف بمسيرك إلى الحبشة، لقتل جعفر وأصحابه، ووترت بني مخزوم بإهلاك عمارة بن الوليد ).

ثمّ أنشد أبياتاً يمتدح فيها قومه الأنصار ويهجو المهاجرين.

فلمّا انتهى شعر النعمان وكلامه إلى قريش غضب كثير منهم.

وقد طالت المماحكات والمشاجرات الكلاميّة وطال التهاجي الحاد بين الصحابة حتّى قال أحدهم :

أيال قريش أصلحوا ذات بيننا

وبينكم قد طال حبل التماحك

فلا خير فيكم بعدنا فارفقوا بنا

ولا خير فينا بعد فهر بن مالك

فلا تذكروا ما كان منّا ومنكم

ففي ذكر ما قد كان مشيُ التساوك(١)

إنّ ما نقلناه لك هنا، هو غيض من فيض ممّا جرى بين صحابة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله من المنازعات والاختلافات في مسألة القيادة، فهل كان يجوز ترك مثل هذا المجتمع غير المتّفق في تطلعاته وآرائه دون نصب قائد يكون نصبه قاطعاً لدابر الاختلاف ومانعاً من مأساة التمزّق والتقاطع والفرقة ؟.

* * *

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٦: ١٧ ـ ٣٨ ( طبعة مصر ).

٩٩

تلك محاسبات عقليّة واجتماعيّة من واقع المجتمع الإسلاميّ الأوّل، تدلّنا على أنّ الحقّ في مسألة القيادة في المجتمع الإسلاميّ بعد وفاة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله هو أن يستخلفصلى‌الله‌عليه‌وآله ( قائداً ) للاُمّة، وراعياً لمصالحها وشؤونها، لما في نفس التنصيب من مصلحة وقطع دابر الاختلاف.

فمثل هذه المحاسبات، تمنع القائد الحكيم أن يترك الاُمّة من بعده من دون أن يعيّن لها قيادةً تحافظ على الكيان الإسلاميّ الناشيء من الأخطار المحدقة به، وتقود الاُمّة الإسلاميّة الفتية في الطريق الشائك إلى الهدف المرسوم لها، والغاية المطلوبة.

إنّ القائد الحكيم، والرئيس المحنّك هو من يعتبر بالأوضاع الاجتماعيّة لاُمّتة والظروف المحيطة بها، ويأخذ بنظر الاعتبار ما يمكن أنّ يحدث لها جرّاء غيبته ووفاته، ثمّ يرسم على ضوء تلك الظروف والأحوال، والتوقّعات والمحاسبات ما يراه صالحاً للاُمّة ولمستقبلها، وأهم تلك الاُمور هو تعيين القائد لها، والمدير لشؤونها من بعده.

إنّ أوضاع المسلمين آنذاك، والظروف الحرجة المحيطة بهم، كانت تقتضي أن لا يدع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله تلك الاُمّة الحديثة العهد بالإسلام وتلك الدولة الفتية الجديدة البنيان، لآراء الاُمّة وإرادتها لتختار هي بنفسها قائدها ورئيسها، وهي في خضمّ تلك الأخطار، والظروف الحسّاسة البالغة الخطورة، إذ ربمّا كانت تبتلي ـ في ذلك الأمر ـ بالخلاف الذريع، والفرقة الكبيرة، فتسهل للخصم سبيل السيطرة عليها وتمكّنه من مؤامراته ونواياه.

إنّ عدم بلوغ الاُمّة الإسلاميّة حدّ الاكتفاء الذاتيّ في القيادة والادارة، مع الأخذ بنظر الاعتبار الأخطار التي كانت تحدق بها، والرواسب القبليّة الجاهليّة، وعدم قدرتها على التغلّب على كلّ ذلك لوحدها، كانت توجب على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بحكم العقل السليم، أن ينصّب للاُمّة قائداً يدبّر شؤونها ويجمع شتاتها ويحافظ على وحدتها، ويقود سفينتها إلى شاطيء الأمن والدعة والسلام.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550