الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١١

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 504

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 504
المشاهدات: 169402
تحميل: 5911


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 504 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 169402 / تحميل: 5911
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 11

مؤلف:
العربية

2 ـ الحكومة العادلة هي الحكومة الإلهية فقط :

لا شك في أن الإنسان مهما سعى في تهذيب نفسه من الصفات الرذيلة ، خاصّة الكبر والبغضاء وحب الذات والأنانية ، فإنّه قد يبتلى ببعضها دون وعي منه ، إلّا المعصوم من البشر ، إذ يعصمه الله من الخطأ والزلل.

ولهذا السبب نقول : الله وحده هو المشرّع الحقيقي ، لأنّه إضافة إلى علمه المطلق بحاجات الإنسان ، فإنّه يعلم سبل سدّ هذه الحاجات ، وهو الذي لا يزلّ ولا ينحرف بسبب احتياجه وميول الحب والبغض فيه سبحانه.

وقضاء الله والنّبي والإمام المعصوم أفضل قضاء ، ويليهم التابعون السائرون على نهجهم المتوكلون على الله ، إلّا أنّ البشر الذي يصاب بالكبر وحبّ الذات لا يرضخ لهذا القضاء ، فهو يبحث عن قضاء يشبع طمعه وشهواته. ما أجمل العبارة التي استخدمتها الآية الكريمة بحق هؤلاء( أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) .

كما أنّ المرور في مثل هذا الامتحان ، خير دليل على إيمان الإنسان أو عدم إيمانه.

ويستوقفنا قول القرآن في موضع آخر( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (1) .

أجل ، المؤمنون الحقيقيون لا يرتضون قضاءك فحسب ، وإنّما قد سلّموا أنفسهم لك حتّى إن لحقهم ضرر.

أمّا المنافقون ، فلا يقنعون بحكم من الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا ما يحقق مصالحهم ، فهم عبيد لها ، وعلى الرغم من ادعائهم الإيمان ، فهم مشركون حقّا!

* * *

__________________

(1) النساء ، 65.

١٤١

الآيات

( إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54) )

التّفسير

الإيمان والتسليم التام إزاء الحقّ :

لاحظنا في الآيات السابقة ردّ فعل المنافقين ، الذين اسودّت قلوبهم ، وأصبحت ظلمات في ظلمات. وكيف لم يرضخوا لحكم الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكأنّهم يخافون أن يحيف الله ورسوله عليهم ، فيضيع حقّهم!

١٤٢

أمّا الآيات ـ موضع البحث ـ فإنّها تشرح موقف المؤمنين إزاء حكم الله ورسوله ، فتقول( إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا ) .

ما أجمل هذا التعبير المختصر والمفيد( سَمِعْنا وَأَطَعْنا ) !

وقد وردت كلمة «إنّما» في الآية السابقة لتحصر كلام المؤمنين في عبارة( سَمِعْنا وَأَطَعْنا ) والواقع أن حقيقة الايمان يكمن في هاتين الكلمتين فقط.

كيف يمكن أن يرجّح شخص حكم شخص آخر على حكم الله ، وهو يعتقد بأنّ الله عالم بكلّ شيء ، ولا حاجة له بأحد ، وهو الرحمن الرحيم؟ وكيف له أن يقوم بعمل إزاء حكم الله إلّا السمع والطاعة؟

فما أحسن هذه الوسيلة لامتحان المؤمنين الحقيقيين ونجاحهم في الامتحان؟! لهذا تختتم الآية حديثها بالقول :( وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) ولا شك في أنّ الفلاح نصيب الذي يسلّم أمره إلى الله ، ويعتقد بعدله وحكمه في حياته المادية والمعنوية.

وتابعت الآية الثّانية هذه الحقيقة بشكل أكثر عمومية ، فتقول :( وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ ) (1) .

وقد وصفت هذه الآية المطيعين المتقين بالفائزين ، كما وصفت الآية السابقة الذين يرضخون لحكم الله ورسوله بالمفلحين.

وتفيد مصادر اللغة أنّ «الفوز» و «الفلاح» بمعنى واحد تقريبا ، قال الراغب الأصفهاني في مفرداته : «الفوز : الظفر بالخير مع حصول السلامة» و «الفلاح : الظفر وادراك البغية» (وفي الأصل بمعنى الشق ، وبما أنّ الأشخاص المفلحين يشقون طريقهم إلى مقصدهم ويزيلون العقبات منه أطلق الفلاح على الفوز أيضا) وبما أن

__________________

(1) أصل «يتقه» بسكون القاف وكسر الهاء «يتقه» وقد حذفت الياء منها لأنّها في حالة جزم وقد حذفت إحدى الكسرتين المتاليتين لأنّها ثقيلة للفظ.

١٤٣

الكلام في الآية السابقة كان عن الطاعة بشكل مطلق ، وفي الآية قبلها عن التسليم أمام حكم الله ، وأحدهما عام والآخر خاص ، فنتيجة كليهما واحدة.

وما يستحقّ الملاحظة هو أن الآية الأخيرة ذكرت ثلاثة أوصاف للفائزين : هي: طاعة الله والرّسول ، وخشية الله ، وتقوى الله.

وقال بعض المفسّرين : إنّ الطاعة ذات معنى عام ، والخشية فرعها الباطني ، والتقوى فرعها الظاهري. وقد تحدثت أوّلا عن الطاعة بشكل عامّ ، ثمّ عن باطنها وظاهرها.

وروي عن الإمام الباقرعليه‌السلام في تفسير قوله تعالى :( أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) قال : «إنّ المعني بالآية أمير المؤمنين (عليعليه‌السلام(1) .

ولا خلاف في أنّ علياعليه‌السلام خير مصداق لهذه الآية ، وهذا هو المراد من هذا الحديث فلا يفقد الآية عموميتها.

لحن الآية التالية ـ وكذلك سبب نزولها الذي ذكرته بعض التفاسير ـ يعني أنّ بعض المنافقين تأثروا جدا على ما هم فيه ، بعد نزول الآيات السابقة والتي وجّهت اللوم الشديد إليهم ، فجاءوا إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأقسموا يمينا مغلظة أنّنا نسلّم أمرنا إليك ، ولهذا أجابهم القرآن بشكل حاسم( وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَ ) إلى ميدان الجهاد ، أو يخرجوا من أموالهم وبيوتهم فقل لهم : لا حاجة إلى القسم ، وعليكم عملا اطاعة الله بصدق وإخلاص( قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ) .

يرى كثير من المفسّرين أنّ كلمة «ليخرجن» في هذه الآية يقصد منها الخروج للجهاد في سبيل الله ، غير أنّ المفسّرين آخرين يرون أنّها تقصد عدم التهالك على المال والحياة ، وأتباع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أينما رحل وحلّ وطاعته.

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، المجلد الثالث ، صفحة 616.

١٤٤

وقد وردت كلمة «الخروج» ومشتقاتها في القرآن المجيد بمعنى الخروج إلى ميادين الجهاد تارة ، وترك المنزل والأهل والوطن في سبيل الله تعالى تارة أخرى ، إلّا أنّ الآيات السابقة التي تحدثت عن حكم الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في القضايا المختلفة يجعلنا نتقبل التّفسير الثّاني. بمعنى أن المنافقين جاءوا إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليعربوا عن طاعتهم لحكمهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتسليم له ، فأقسموا على إخراج قسم من أموالهم ، بل أن يتركوا الحياة الدنيا إن أمرهم بذلك.

ولا مانع من الجمع بين التّفسيرين ، أي إنّهم كانوا على استعدادهم لترك أموالهم وأهليهم ، والخروج للجهاد ولتضحية في سبيل الله.

ولكن بما أنّ المنافقين يتقلبون في مواقفهم بحسب الظروف السائدة في المجتمع ، فتراهم يقسمون الأيمان المغلّظة حتى تشعر بأنّهم كاذبون ، فقد ردّ القرآن ـ بصراحة ـ أنّه لا حاجة إلى اليمين ، وإنّما لا بدّ من البرهنة على صدق الادعاء بالعمل ، لأنّ الله خبير بما تعملون. يعلم هل تكذبون في يمينكم ، أم تبغون تعديل مواضعكم واقعا؟

لهذا أكدت الآية التالية ـ التي هي آخر الآيات موضع البحث ـ هذا المعنى ، وتقول للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن :( قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) .

ثمّ تضيف الآية أنّ هذا الأمر لا يخرج عن إحدى حالتين :( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ ) ففي صورة العصيان فقد ادّى وظيفته وهو مسئول عنها كما أنّكم مسئولون عن أعمالكم حين أن وظيفتكم الطاعة ، ولكن( وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ) لأنّه قائد لا يدعو لغير سبيل الله والحقّ والصواب.

في كل الأحوال( وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) وإنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكلّف بإبلاغ الجميع ما أمر الله به ، فإن أطاعوه استفادوا ، وإن لم يطيعوه خسروا. وليس على النّبي أن يجبر الناس على الهداية وتقبّل دعوته.

وما يلفت النظر في الآية السابقة تعبيرها عن المسؤولية بـ «الحمل» الثقيل

١٤٥

وهذا هو الواقع ، فرسالة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تستوجب الإبلاغ عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى الناس طاعته. إنّها لمسؤولية لا يطيق حملها إلّا المخلصون.

ولذا روى الإمام الباقرعليه‌السلام حديثا عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال فيه «يا معشر قرّاء القرآن ، اتقوا اللهعزوجل فيما حملكم من كتابه ، فإنّي مسئول ، وأنتم مسئولون : إنّي مسئول عن تبليغ الرسالة ، وأمّا أنتم فتسألون عما حملتم من كتاب الله وسنّتي»(1) .

* * *

__________________

(1) المصدر السابق.

١٤٦

الآية

( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55) )

سبب النّزول

روى كثير من المفسّرين. ومنهم السيوطي في «أسباب التنزيل» والطبرسي في «مجمع البيان» وسيد قطب في «في ظلال القرآن» والقرطبي في تفسيره ، مع بعض الاختلاف ، سبب نزول هذه الآية أنه : عند ما هاجر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمون إلى المدينة ، استقبلهم الأنصار بترحاب ، ولكن العرب تحالفوا ضدهم.

لهذا كان المسلمون يبيتون ليلتهم والسلاح إلى جانبهم لا يفارقهم ، إذ كانوا في حالة تأهّب تامّ. وقد شقّ على المسلمين ذلك. حتى تساءل البعض : إلى متى يدوم هذا الوضع؟ وهل يأتي زمان نستريح وتطمئنّ أنفسنا ولا نخشى إلّا الله؟ فنزلت الآية السابقة تبشرهم بتحقّق ما يصبون إليه.

١٤٧

التّفسير

حكومة المستضعفين العالمية :

تحدثت الآية السابقة عن طاعة الله ورسوله والتسليم له ، وقد واصلت الآية ـ موضع البحث ـ هذا الموضوع ، وبيّنت نتيجة هذه الطاعة ألا وهي الحكومة العالمية التي : وعدها الله المؤمنين به. فقالت الآية مؤكّدة( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) .

( وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ ) ويجعله متجذرا وثابتا وقويا بين شعوب العالم.

( وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ) وبعد سيادة حكم التوحيد في العالم وإجراء الأحكام الإلهية ، واستقرار الأمن واقتلاع جذور الشرك ،( وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) .

وعلى كلّ حال يبدو من مجمل هذه الآية أنّ الله يبشر مجموعة من المسلمين الذين يتصفون بالإيمان والعمل الصالح بثلاث بشائر :

1 ـ استخلافهم وحكومتهم في الأرض.

2 ـ نشر تعاليم الحقّ بشكل جذري وفي كلّ مكان (كما يستفاد من كلمة «تمكين» ...).

3 ـ انعدام جميع عوامل الخوف والاضطراب.

وينتج من كل هذا أن يعبد الله بكلّ حرية ، وتطبق تعاليمه ولا يشرك به ، ويتمّ نشر عقيدة التوحيد في كلّ مكان.

ويتّضح ممّا يلي متى تمّ وعد الله هذا؟ أو متى سيتم؟

* * *

١٤٨

بحوث

1 ـ تفسير عبارة( كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ )

هناك اختلاف بين المفسّرين حول الذين أشارت إليهم الآية الشريفة من الذين استخلفوا في الأرض من قبل المسلمين.

البعض من المفسّرين يرى أنّهم آدم وداود وسليمانعليهم‌السلام ، حيث قالت الآية (30) من سورة البقرة حول آدمعليه‌السلام ( إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) وفي الآية (26) من سورة ص جاء بصدد داودعليه‌السلام ( يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ) .

وبما أنّ سليمانعليه‌السلام ورث حكم داودعليه‌السلام بمقتضى الآية (16) من سورة النمل فإنّه قد استخلف في الأرض.

لكن بعض المفسّرين ـ كالعلامة الطباطبائي في الميزان ـ استبعد هذا المعنى ورأى أنّ عبارة( الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) لا تناسب مقام الأنبياء. إذ أنّ القرآن المجيد لم ترد فيه هذه العبارة بخصوص الأنبياء. وإنّما هي إشارة إلى أمم خلت ، وكانت على درجة من الإيمان والعمل الصالح بحيث استخلفها الله في الأرض.

ويرى مفسرون آخرون أنّ هذه الآية إشارة إلى بني إسرائيل ، لأنّهم استخلفوا في الحكم في الأرض بعد ظهور موسىعليه‌السلام وتدمير حكم فرعون والفراعنة ، حيث يقول القرآن المجيد في الآية (127) من سورة الأعراف( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها ) ويضيف( وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ) أي جعلناهم حكاما بعد أن استضعفوا في الأرض.

ولا شكّ في أنّه كان في بني إسرائيل ـ حتى في زمن موسىعليه‌السلام ـ أشخاص عرفوا بفسقهم وكفرهم ، لكنّ الحكم كان بيد المؤمنين الصالحين ، (وبهذا يمكن دفع ما أشكل به البعض على هذا التّفسير) ويظهر أن التّفسير الثّالث أقرب إلى الصواب.

١٤٩

2 ـ الذين وعدهم الله باستخلاف الأرض :

لقد وعد الله المؤمنين ذوي الأعمال الصالحة بالاستخلاف في الأرض وتمكينهم من نشر دينهم وتمتعهم بالأمن الكامل ، فما هي خصائص هؤلاء الموعودين بالاستخلاف؟

هناك اختلاف بهذا الصدد بين المفسّرين : يرى البعض من المفسّرين أنّ الوعد بالاستخلاف خاصّ بأصحاب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين استخلفهم الله في الأرض في عصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . (ولا يقصد بالأرض جميعها ، بل هو مفهوم يطلق على الجزء والكل).

ويرى آخرون أنّه خاصّ بالخلفاء الأربعة الذين خلفوا الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ويرى البعض أنّ مفهومه واسع يشمل جميع المسلمين الذين اتصفوا بهذه الصفات.

ويرى آخرون أنّه إشارة إلى حكومة المهدي (عج) الذي يخضع له الشرق والغرب في العالم ، ويجري حكم الحقّ في عهده في جميع أرجاء العالم ، ويزول الاضطراب والخوف والحرب وتتحقق للبشرية عبادة الله النقية من كلّ أنواع الشرك.

ولا ريب في أنّ هذه الآية تشمل المسلمين الأوائل ، كما أنّ حكومة المهدي (عج) مصداق لها ، إذ يتفق المسلمون كافة من شيعة وسنة على أن المهدي (عج) يملأ الأرض عدلا وقسطا بعد أن ملئت جورا وظلما.

ومع كل هذا لا مانع من تعميمها. وينتج من ذلك تثبيت أسس الإيمان والعمل الصالح بين المسلمين في كلّ عصر وزمان ، وأنّ لهم الغلبة والحكم ذا الأسس الثابتة.

أمّا قول البعض : إنّ كلمة «الأرض» مطلقة وغير محددة ، وتشمل كلّ الأرض ، وبذلك تنحصر بحكومة المهدي (أرواحنا له الفداء) ، فهو لا ينسجم مع

١٥٠

عبارة( كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) ، لأن خلافة وحكومة السابقين بالتأكيد لم تشمل الأرض كلها.

وإضافة إلى ذلك فإنّ سبب نزول هذه الآية يبيّن لنا ـ على أقلّ تقدير ـ وقوع مثل هذا الحكم في عصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (رغم حدوثه في أواخر حياتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ).

ونقولها ثانية : إنّ نتيجة جهود جميع الأنبياء والمرسلين حصول حكم يسوده التوحيد والأمن الكامل والعبادة الخالية من أيّ نوع من الشرك ، وذلك حين ظهور المهدي (عج) ، وهو من سلالة الأنبياءعليهم‌السلام وحفيد النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو المقصود في هذا الحديث الذي تناقله جميع المسلمين عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم لطوّل الله ذلك اليوم حتى يلي رجل من عترتي ، اسمه اسمي ، يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا»(1) .

وممّا يجدر ذكره هنا قول العلّامة الطبرسي في تفسير هذه الآية : روي عن أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حول هذه الآية : «إنّها في المهدي من آل محمد»(2) .

وذكر تفسير «روح المعاني» وتفاسير عديدة لمؤلفين شيعة عن الإمام السجادعليه‌السلام في تفسير الآية موضع البحث أنه قال : «هم والله شيعتنا ـ أهل البيت ـ يفعل الله ذلك بهم على يدي رجل منّا ، وهو مهدي هذه الأمة يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا ، وهو الذي قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم ...».

وكما قلنا ، لا تعني هذه التفاسير حصر معنى هذه الآية ، بل بيان مصداقها التام ، وممّا يؤسف له عدم انتباه بعض المفسّرين ـ كالآلوسي في روح البيان ـ إلى هذه المسألة ، فرفضوا هذه الأحاديث.

__________________

(1) احتوى كتاب «منتخب الأثر» على مائة وثلاثة وعشرين حديثا بهذا الصدد ، من مصادر إسلامية مختلفة خاصّة السنّية منها. للاستزادة يراجع هذا الكتاب في صفحة 247 ، وما يليها.

(2) مجمع البيان في تفسير الآية موضع البحث.

١٥١

وروى القرطبي المفسّر المشهور من أهل السنة عن المقداد بن الأسود عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «ما على ظهر الأرض بيت حجر ولا مدر إلّا أدخله الله كلمة الإسلام»(1) .

وللحصول على إيضاح أكثر حول حكومة المهديّ (عج) وشرح أدلتها في كتب علماء السنة والشيعة ، يراجع تفسير الآية (33) من سورة التوبة.

3 ـ الهدف النهائي عبادة خالصة :

إنّ مفهوم عبارة( يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ) من الناحية الأدبية سواء كانت جملة حالية أم مستقبلية(2) ، هو أن الهدف النهائي إعداد حكومة عادلة راسخة الأسس ، ينتشر فيها الحقّ والأمن والاطمئنان ، وتكون ذات تحصينات أسسها العبودية لله وتوحيده على نحو ما ذكرته آية قرآنية أخرى تذكر الغاية من الخلق( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) (3) .

عبادة هدفها السامي تربية البشر وتسامي أنفسهم. عبادة لا يحتاج الله إليها ، وإنّما يحتاج إليها البشر لطيّ مراحل تكاملهم الإنساني.

وعلى هذا فإنّ الفكر الإسلامي ليس كالأفكار المادية التي تتوخى مكاسب مادية ورفاهية في الحياة ، بل تكون للحياة المادية قيمة في الإسلام إن أصبحت وسيلة لتحقيق هدف معنوي سام ، فالاهتمام بكون العبادة خالية من شوائب الشرك نافية للأهواء الزّائفة ، يعني أنّه لا يمكن تحقق هذه العبادة الصافية إلّا بتشكيل حكومة عادلة.

__________________

(1) تفسير القرطبي ، المجلد السابع ، صفحة 4292.

(2) في الصورة الأولى الجملة الحالية للضمير «هم» الذي جاء في الآيات السابقة. وفي الصورة الثّانية تقدر بـ «ليعبدونني» واحتمل آخرون أنها جملة استئنافية وهو احتمال ضعيف.

(3) الذاريات ، 65.

١٥٢

هذا ويمكن كسب مجموعة من الناس إلى جانب الحقّ بالتربية والتعليم والتبليغ المستمر ، ولا يمكن تعميم هذه الحالة في المجتمع إلّا بتشكيل حكومة عادلة يقودها المؤمنون الصالحون ، ولهذا سعى الأنبياء إلى تشكيل مثل هذه الحكومة خاصّة الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فبمجرّد وصولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة المنورة ، وفي أوّل فرصة ، شكّل نموذجا لها.

ويمكن الاستنتاج من ذلك أنّ جميع الجهود ـ من حرب وسلام وبرامج تثقيفية واقتصادية وعسكرية ـ تنصّب في ظلّ هذه الحكومة في مسيرة العبودية لله الخالية من كل شائبة من شوائب الشرك.

ولا بدّ من القول : إنّه لا يعني خلو الأرض من المذنبين والمنحرفين في ظلّ حكومة الصالحين المؤمنين الذين يمكّنهم الله من نشر الحقّ والعدل ، وعبادته عبادة خالية من صور الشرك ، بل مفهوم هذه الحكومة هو أنها تدار من قبل المؤمنين الصالحين ، والصفة السائدة في المجتمع هي خلوه من الشرك. وبما أن الإنسان خلق حرّا ، فإن مجال الانحراف موجود حتى في أفضل المجتمعات الإنسانية (فتأملوا جيدا).

* * *

١٥٣

الآيتان

( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) )

التّفسير

استحالة الفرار من حكومته تعالى :

وعدت الآية السابقة المؤمنين الصالحين بالخلافة في الأرض ، وتعبئ هاتان الآيتان الناس للتمهيد لهذه الحكومة ، وخلال نفيها وجود حواجز كبيرة لهذا العمل ، تضمن هي بذاتها نجاحه. وفي الحقيقة أن إحدى هاتين الآيتين بيّنت المقتضي ، بينما نفت الثّانية المانع ، فهي تقول أوّلا :( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ) .

وهي الوسيلة التي توثق الصلة بين الخالق والمخلوق ، وتقرّب الناس إلى بارئهم ، وتمنع عنهم الفحشاء والمنكر.

( وَآتُوا الزَّكاةَ ) وهي الوسيلة التي تربط الإنسان بأخيه الإنسان ، وتقلل الفواصل بينهما ، وتقوي ارتباطهما العاطفي.

وبشكل عام يكون في كلّ شيء تبعا للرسول :( وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) طاعة

١٥٤

تكونون بسببها من المؤمنين الصالحين الجديرين بقيادة الحكم في الأرض( لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) وتكونون لائقين لحمل رأية الحقّ والعدل.

وإذا احتملتم أن الأعداء الأقوياء المعاندين يمنعوكم من تحقق ما وعدكم الله إيّاه ، فذلك غير ممكن ، لأن قادر على كلّ شيء ، ولا يحجب إرادته شيء ، ولهذا( لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ ) فهؤلاء الكفار لا يستطيعون الفرار من عقاب الله وعذابه في الأرض ، ولا يقتصر ذلك على الدنيا فقط ، بل أنّهم في الآخرة( مَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) .

وكلمة «معجزين» جمع «معجز» ، المشتقّة من الإعجاز بمعنى نفاذ القدرة ، وأحيانا يتابع المرء شخصا يفر من يديه ، ولا يمكنه القبض عليه وقد خرج من سلطته فهو يعجزه ، لهذا استعملت كلمة «معجز» بهذا المعنى ، وكذلك تشير الآية السابقة إلى المعنى ذاته ، ومفهومها أنّكم لا يمكنكم الفرار من حكومة الله.

* * *

١٥٥

الآيات

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) )

التّفسير

آداب الدخول إلى المكان الخاصّ بالوالدين :

إنّ أهم مسألة تابعتها هذه السورة ـ كما ذكرنا ـ هي مسألة العفاف العام

١٥٦

ومكافحة كل انحطاط خلقي ، بأبعاده المختلفة.

وقد تناولت الآيات ـ موضع البحث ـ إحدى المسائل التي ترتبط بهذه المسألة ، وشرحت خصائصها ، وهي استئذان الأطفال البالغين وغير البالغين للدخول إلى الغرفة المخصصة للزوجين.

فتقول أوّلا :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ) فيجب على عبيدكم وأطفالكم الاستئذان في ثلاث أوقات( مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ) .

«الظهيرة» تعني كما يقول «الراغب الإصفهاني» في مفرداته «والفيروزآبادي» في القاموس المحيط : منتصف النهار وقريب الظهر حيث ينزع الناس عادة الملابس الإضافية ، وقد يختلي الزوج بزوجته.

( ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ ) أي هذه ثلاث أوقات للخلوة خاصّة بكم.

«العورة» مشتقّة من «العار» ، أي : العيب. وأطلق العرب على العضو التناسلي العورة ، لأنّ الكشف عنه عار.

كما تعني العورة الشقّ الذي في الجدار أو الثوب ، وأحيانا تعني العيب بشكل عامّ.

وعلى كلّ فإنّ إطلاق كلمة (العورة) على هذه الأوقات الثلاثة بسبب كون الناس في حالة خاصّة خلال هذه الأوقات الثلاثة ، حيث لا يرتدون الملابس التي يرتدونها في الأوقات الأخرى.

وطبيعي أنّ المخاطب هنا هم أولياء الأطفال ليعلموهم هذه الأصول ، لأنّ الأطفال لم يبلغوا بعد سنّ التكليف لتشملهم الواجبات الشرعية.

كما أنّ عمومية الآية تعني شمولها الأطفال البنين والبنات ، وكلمة «الّذين» التي هي لجمع المذكر السالم ، لا تمنع أن يكون مفهوم الآية عاما ، لأنّ هذه العبارة

١٥٧

استعملت في كثير من الموارد وقصد بها المجموع ، كما في آية وجوب الصوم ، فلفظ «الّذين» هناك يعمّ المسلمين كافة (سورة البقرة الآية 83).

ولا بدّ من القول بأنّ هذه الآية تتحدّث عن أطفال مميّزين يعرفون القضايا الجنسية ، ويعلمون ماذا تعني العورة. لهذا أمرتهم بالاستئذان عند الدخول إلى غرفة الوالدين ، وهم يدركون سبب هذا الاستئذان ، وجاءت عبارة «ثلاث عورات» شاهدا آخرا على هذا المعنى ولكن هل أن الحكم المتعلق بمن ملكت أيديكم يختص بالعبيد الذكور منهم أو يشمل الإماء والجواري ، هناك أحاديث مختلفة في هذا المجال ، ويمكن ترجيح الأحاديث التي تؤيد ظاهر الآية ، أي شمولها الغلمان والجواري.

وتختتم الآية بالقول :( لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ ) فلا حرج ولا إثم عليكم وعليهم إذا دخلوا بدون استئذان في غير هذه الأوقات الثلاثة ، أجل :( كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) .

كلمة( طَوَّافُونَ ) مشتقة من «الطواف» بمعنى الدوران حول شيء ما ، وقد جاءت بصيغة مبالغة لتأكيد تعدد الطواف.

وبما أنّ عبارة( بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ ) جاءت بعد كلمة( طَوَّافُونَ ) فإنّ مفهوم الجملة يكون : إنه مسموح لكم بالطواف حول بعضكم في غير هذه الأوقات الثلاثة ، ولكم أن تتزاوروا فيما بينكم ويخدم بعضكم بعضا.

وكما قال «الفاضل المقداد» في كنز العرفان ، فإنّ هذه العبارة بمنزلة دليل على عدم ضرورة الاستئذان في غير هذه الأوقات ، لأنّ المسألة تتعقد إن رغبتم في الاستئذان كلّ مرّة(1) .

وبيّنت الآية التالية الحكم بالنسبة للبالغين ، حيث تقول :( وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ

__________________

(1) كنز العرفان ، المجلد الثاني ، صفحة 225.

١٥٨

مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) .

وكلمة «الحلم» على وزن «كتب» بمعنى العقل والكناية عن البلوغ ، الذي يعتبر توأما لطفرة عقلية وفكرية ، ومرحلة جديدة في حياة الإنسان.

وقيل أنّ الحلم بمعنى الرؤيا ، فهي كناية عن احتلام الشباب حين البلوغ.

وعلى كلّ حال يستفاد من الآية السابقة ، أنّ الحكم بالنسبة للبالغين يختلف عنه بالنسبة للأطفال غير البالغين ، لأنّ أولئك يجب عليهم استئذان الوالدين في الأوقات الثلاثة فقط ، لأنّ حياتهم قد امتزجت مع حياة والديهم بدرجة يستحيل بها الاستئذان كلّ مرة ، وكما أنّهم لم يعرفوا المشاعر الجنسية بعد. أمّا الشباب البالغ ، فهم مكلّفون في جميع الأوقات بالاستئذان حين الدخول على الوالدين.

ويخصّ هذا الحكم المكان المخصّص لاستراحة الوالدين. أمّا إذا كان في غرفة عامّة يجلس فيها آخرون أيضا ، فلا حاجة للاستئذان منهما بالدخول.

والجدير بالذكر إنّ عبارة( كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) إشارة إلى الكبار الذين يستأذنون من الوالدين حين الدخول إلى غرفتهما. وقد أردفت الآية الشباب الذين بلغوا الرشد بهؤلاء ، الكبار.

وتقول الآية في الختام للتأكيد والاهتمام الفائق :( كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) .

وهذا هو نفس التعبير الذي جاء في آخر الآية السابقة دون تغيير ، باستثناء استعمال الآية السابقة كلمة «الآيات» وهذه استعملت كلمة «آياته» ولا فرق في معناهما.

وسنتناول بحث ميزات هذا الحكم ، وكذلك فلسفته في ذيل تفسير هذه الآيات.

وفي آخر الآيات ـ موضع البحث ـ استثناء لحكم الحجاب ، حيث استثنت النساء العجائز والمسنّات من هذا الحكم ، فقال :( وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا

١٥٩

يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ ) .

ولهذا الاستثناء شرطان :

أولهما : وصول هذه العجائز إلى عمر لا يتوقع أن يتزوجن فيه ، أو بعبارة أخرى : أن يفقدن كلّ جاذبية أنثوية.

وثانيهما : ألا يتزيّن بزينة بعد رفع حجابهنّ ، ويتّضح بذلك أنّه لا ضير في رفع الحجاب بعد إجراء هذين الشرطين. ولهذا استثناهنّ الإسلام من حكم الحجاب.

كما أنّ ـ من الواضح ـ أنّه لا يقصد برفع العجائز للحجاب إباحة خلع الملابس كلها والتعرّي ، بل خلع اللباس الفوقاني فقط. وكما عبّرت عنه بعض الأحاديث بالجلباب والخمار.

وجاء في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام في شرح هذه الآية : «الخمار والجلباب» ، قلت : بين يدي من كان؟ قال : «بين يدي من كان غير متبرجة بزينة».(1)

كما وردت أحاديث أخرى عن أهل البيتعليهم‌السلام بهذا المضمون أو ما يقاربه(2) .

وتضيف الآية في ختامها( وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَ ) .

فالإسلام يرغب في أن تكون المرأة أكثر عفّة وأنقى وأطهر. ولتحذير النساء اللواتي يسئن الاستفادة من هذه الحرية ، ويتحدثن أو يتصرفن بأسلوب لا يليق بشرفهنّ ، تقول الآية محذرة إيّاهن :( وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) كلّما تقولونه يسمعه الله ، وما تكتمون في قلوبكم أو في أذهانكم يعلمه الله أيضا.

* * *

__________________

(1) وسائل الشيعة ، المجلد 14 كتاب النكاح صفحة 147 ، الباب 110.

(2) للاستزادة يراجع المصدر السابق.

١٦٠