الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١١

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 504

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 504
المشاهدات: 169435
تحميل: 5911


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 504 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 169435 / تحميل: 5911
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 11

مؤلف:
العربية

يقول تعالى أولا :( وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً ) .(1)

وهكذا نجد هؤلاء الكفار يتعجبون! أيّ ادعاء عظيم يدعي؟ أي كلام عجيب يقول!؟ إنّها مهزلة حقّا!

لكن يجب ألا ننسى أنّ رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كان هو ذلك الشخص الذي عاش بينهم أربعين عاما قبل الرسالة ، وكان معروفا بالأمانة والصدق والذكاء والدراية ، لكنّ رؤوس الكفر تناسوا صفاته هذه حينما تعرضت منافعهم الى الخطر ، وتلقوا مسألة دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بالرغم من جميع تلك الشواهد والدلائل الناطقة ـ بالسخرية والاستهزاء حتى لقد اتّهموه بالجنون.

ثمّ يواصل القرآن ذكر مقولات المشركين فينقل عن لسانهم( إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها ) (2) .

لكن القرآن يجيبهم من عدّة طرق ، ففي البداية من خلال جملة واحدة حاسمة يرد على مقولات هذه الفئة التي ما كانت أهلا للمنطق :( وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً ) .

يمكن أن يكون هذا العذاب إشارة إلى عذاب القيامة ، كما قال بعض المفسّرين مثل «الطبرسي» في مجمع البيان ، أو عذاب الدنيا مثل الهزيمة المنكرة يوم «بدر» وأمثالها ، كما قال «القرطبي» في تفسيره المعروف ، ويمكن أن تكون الإشارة إليهما معا.

الملفت للنظر أنّ هذه الفئة الضالة في مقولتها هذه ، وقعت في تناقض فاضح ، فمن جهة تلقت النّبي ودعوته بالسخرية ، إشارة إلى أن ادعاءه بلا أساس ولا

__________________

(1) «هزوا» مصدر ، وجاء هنا بمعنى المفعول ، وهذا الاحتمال وارد أيضا وهو أن يكون مضافا مقدارا (محل هزو) ، أيضا فالتعبير بـ «هذا» للتحقير ولتصغير النّبي.

(2) كلمة (إن) في( إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا ) مخففة ، للتوكيد ، وفي تقدير «إنّه كاد» وضميرها ضمير الشأن.

٢٦١

يستحق أن يؤخذ مأخذ الجد ، ومن جهة أخرى أنّه لو لا تمسكهم بمذهب أجدادهم ، فمن الممكن أن ـ يؤثر عليهم كلام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويضلّهم عن ذلك المذهب ، وهذا يدل على أنّهم كانوا يعتبرون كلامه قويا وجديا ومؤثرا ومحسوبا ، وهذا المنطق المضطرب ليس غريبا عن هؤلاء الأفراد الحيارى اللجوجين.

وكثيرا ما يرى أنّ منكري الحق حينما يقفون قبالة الأمواج المتلاطمة لمنطق القادة الإلهيين ، فإنّهم يختارون أسلوب الاستهزاء تكتيكا من أجل توهينه ودفعه ، في حين أنّهم يخالفون سلوكهم هذا في الباطن ، بل قد يأخذوه بجدية أحيانا ويقفون ضده بجميع امكاناتهم.

الجواب القرآني الثّاني على مقولاتهم ورد في الآية التي بعدها ، موجها الخطاب إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على سبيل المواساة وتسلية الخاطر ، وأيضا على سبيل بيان الدليل على أصل عدم قبول دعوة النّبي من قبل أولئك ، فيقول :( أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ) فهل أنت قادر مع هذا الحال على هدايته والدفاع عنه( أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً ) .

يعني إذا وقف أولئك أمام دعوتك بالاستهزاء والإنكار وأنواع المخالفات ، فلم يكن ذلك لأن منطقك ضعيف ودلائلك غير مقنعة ، وفي دينك شك أو ريبة ، بل لأنّهم ليسوا أتباع العقل والمنطق ، فمعبودهم أهواؤهم النفسية ، ترى أتنتظر أن يطيعك هكذا أشخاص ، أو تستطيع أن تؤثر فيهم!؟

أقوال مختلفة للمفسرين الكبار في معنى جملة :( أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ) : قال جماعة ـ كما قلنا آنفا ـ : إنّ المقصود أنّ لهم صنما ، ذلك هو هواهم النفسي ، وكل أعمالهم تصدر من ذلك المنبع.

في حين أنّ جماعة أخرى ترى أنّ المراد هو أنّهم لا يراعون المنطق بأي شكل في اختيارهم الأصنام ، بل إنّهم متى ما كانت تقع أعينهم على قطعة حجر ، أو شجرة جذابة ، أو شيء آخر يثير هواهم ، فإنّهم يتوهمونه «معبودا» ، فكانوا يجثون

٢٦٢

على ركبهم أمامه ، ويقدمون القربان ، ويسألونه حل مشكلاتهم.

وذكر في سبب نزول هذه الآية رواية مؤيدة لهذا المعنى ، وهي أن إحدى السنين العجاف مرّت على قريش ، فضاق عليهم العيش ، فخرجوا من مكّة وتفرقوا فكان الرجل إذا رأى شجرة حسنة أو حجرا حسنا هويه فعبده ، وكانوا ينحرون النعم ويلطخونها بالدم ويسمونها «سعد الصخرة» ، وكان إذا أصابهم داء في إبلهم أغنامهم جاؤوا إلى الصخرة فيمسحون بها الغنم والإبل ، فجاء رجل من العرب بإبل يريد أن يمسح بالصخرة إبله ويتبرك بها ، فنفرت إبله فتفرقت ، فقال الرجل شعرا :

أتيت إلى سعد ليجمع شملنا

فشتتنا سعد فما نحن من سعد

وما سعد إلّا صخرة مستوية

من الأرض لا تهدي لغيّ ولا رشد

ومرّ به رجل من العرب والثعلب يبول عليه فقال شعرا :

وربّ يبول الثعلبان برأسه

لقد ذلّ من بالت عليه الثعالب(1)

التّفسيران أعلاه لا منافاة بينهما ، فأصل عبادة الأصنام ـ التي هي وليدة الخرافات ـ هو اتباع الهوى ، كما أنّ اختيار الأصنام المختلفة بلا أي منطق ، فرع آخر عن أتباع الهوى أيضا.

وسيأتي بحث مفصل في الملاحظات الآتية ، بصدد «اتباع الهوى والشهوات» إن شاء الله.

وأخيرا فإنّ الجواب القرآني الثّالث لهذه الفئة الضالة ، هو قوله :( أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ، إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ) .

يعني لا يؤذينك استهزاؤهم ومقولاتهم السيئة وغير المنطقية أبدا ، لأنّ الإنسان إمّا أن يكون ذا عقل ، ويستخدم عقله ، فيكون مصداقا لـ «يعقلون».

__________________

(1) تفسير علي بن إبراهيم القمي ، طبقا لنقل نور الثقلين ، ج 4 ، ص 20.

٢٦٣

أو أنّه فاقد للعلم ولكنّه يسمع قول العلماء ، فيكون مصداقا لـ «يسمعون» ، لكن هذه الفئة لا من أولئك ولا من هؤلاء ، وعلى هذا فلا فرق بينهم وبين الانعام.

وواضح أنّه لا يتوقع من الأنعام غير الصياح والرفس والأفعال اللامنطقية. بل هم أتعس من الأنعام وأعجز ، إذ أن الأنعام لا تعقل ولا فكر لها ، وهؤلاء لهم عقل وفكر ، وتسافلوا إلى حال كهذه.

المهم هو أنّ القرآن يعبّر بـ «أكثرهم» هنا أيضا ، فلا يعمم هذا الحكم على الجميع ، لأنّه قد يكون بينهم أفراد مخدوعون واقعا ، وحينما يواجهون الحق تنكشف عن أعينهم الحجب تدريجيا ، فيتقبلوا الحق ، وهذا نفسه دليل على أن القرآن يراعي الإنصاف في المباحث القرآنية.

* * *

بحثان

1 ـ اتباع الهوى وعواقبه الأليمة

لا شك أنّ في كيان الإنسان غرائز وميولا مختلفة ، وجميعها ضروري لإدامة حياته ، الغيظ والغضب ، حب النفس ، حب المال والحياة المادية ، وأمثالها ، ولا شك أنّ مبدع الوجود خلقها جميعا لذلك الهدف التكاملي.

لكن المهم هو أنّها تتجاوز حدها أحيانا ، وتخرج عن مجالها ، وتتمرّد على كونها أداة طيعة بيد العقل ، وتصرّ على العصيان والطغيان ، فتسجن العقل ، وتتحكم بكل وجود الإنسان ، وتأخذ زمام اختياره بيدها.

هذا هو ما يعبرون عنه بـ «اتباع الهوى» الذي هو أخطر أنواع عبادة الأصنام ، بل إن عبادة الأصنام تنشأ عنه أيضا ، فليس عبثا أن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اعتبر صنم «الهوى» أعظم وأسوأ الأصنام ، لذا قال : «ما تحت ظل السماء من إله يعبد

٢٦٤

من دون الله أعظم عند الله من هوى متبع».(1)

ونقرأ في حديث آخر عن بعض أئمّة الإسلام «أبغض إله عبد على وجه الأرض الهوى».

وإذا تأملنا جيدا في أعماق هذا القول ، نعلم جيدا لماذا كان اتباع الهوى مصدر الغفلة ، كما يقول القرآن :( وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ ) .(2)

ومن جهة أخرى فإن اتباع الهوى منبع الكفر وعدم الإيمان ، كما يقول القرآن( فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ ) .(3)

ومن جهة ثالثة فإنّ اتباع الهوى أسوأ الضلال ، يقول القرآن الكريم :( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ ) .(4)

من جهة رابعة فإن اتباع الهوى نقطة مقابلة لطلب الحق ، ويخرج الإنسان عن طريق الله ، كما نقرأ في القرآن :( فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) .(5)

ومن جهة خامسة فإن اتباع الهوى مانع من العدل والإنصاف كما نقرأ في القرآن :( فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا ) .(6)

وأخيرا ، فإنّ نظام السماء والأرض إذا دار حول محور أهواء وشهوات الناس ، فإنّ الفساد سوف يعمّ كلّ ساحة الوجود :( وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ ) .(7)

__________________

(1) تفسير الدر المنثور ، في ذيل الآية مورد البحث ، نقلا عن تفسير الميزان ، ج 15 ، ص 257.

(2) سورة الكهف ، الآية 28.

(3) سورة طه ، الآية 16.

(4) سورة القصص ، الآية 50.

(5) سورة ص ، الآية 26.

(6) سورة النساء ، الآية 135.

(7) سورة المؤمنون ، الآية 71.

٢٦٥

وفي الروايات الإسلامية أيضا ، نلاحظ تعبيرات مؤثرة في هذا الصدد :

نقرأ في رواية عن علىعليه‌السلام : «الشقي من انخدع لهواه وغروره».(1)

وفي حديث آخر عنهعليه‌السلام ، نقرأ أن : «الهوى عدو العقل».(2)

نقرأ أيضا : «الهوى أسّ المحن».(3)

وعنهعليه‌السلام : «لا دين مع هوى»(4) و «لا عقل مع هوى».(5)

والخلاصة أن اتباع الهوى ليس من الدين وليس من العقل ، وليس عاقبة اتباع الهوى إلّا التعاسة والمحن والبلاء ، ولا يثمر إلّا المسكنة والشقاء والفساد.

أحداث حياتنا والتجارب المرّة التي رأيناها في أيّام العمر بالنسبة إلينا وإلى الآخرين ، شاهد حي على جميع النكات التي وردت في الآيات والرّوايات أعلاه بصدد اتباع الهوى.

نرى أفرادا يتجرعون المرارة إلى آخر أعمارهم ، جزاء ساعة واحدة من أتباع الهوى.

ونعرف شبابا صاروا أسارى مصيدة الإدمان الخطير ، والانحرافات الجنسية والأخلاقية ، على أثر انقيادهم للهوى ، بحيث تحولوا إلى موجودات ذليلة لا قيمة لها ، وفقدوا كل قواهم وطاقاتهم الذاتية.

في التأريخ المعاصر والماضي ، نلتقي بأسماء الذين قتلوا آلافا وأحيانا ملايين من الناس الأبرياء ، من أجل

أهوائهم ، بحيث أن الأجيال تذكر أسماءهم المخزية بالسوء إلى الأبد.

هذا الأصل لا يقبل الاستثناء ، فحتى العلماء والعبابدون أهل السابقة مثل

__________________

(1) نهج البلاغة ، الخطبة 86.

(2) غرر الحكم ، الجملة 265.

(3) غرر الحكم ، الجملة 1048.

(4) غرر الحكم ، الجملة 10531.

(5) غرر الحكم ، الجملة 10541.

٢٦٦

(بلعم بن باعورا) سقطوا من قمة العظمة الإنسانية إلى الهاوية ، نتيجة انقيادهم لهوى النفس ، حيث يمثلهم القرآن بالكلب النجس الذي لا ينفك عن النباح (الآية 176 سورة الأعراف).

لهذا فلا عجب أن يقول النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمير المؤمنينعليه‌السلام : «إنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنان ، اتباع الهوى وطول الأمل ، أمّا اتباع الهوى فيصدّ عن الحق ، وأمّا طول الأمل فينسي الآخرة».(1)

وردت أيضا في النقطة المقابلة ـ يعني ترك أتباع الهوى ـ آيات وروايات توضح عمق هذه المسألة من وجهة نظر الإسلام ، إلى حد أن يعدّ مفتاح الجنّة الخوف من الله ، ومجاهدة النفس :( وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى ) .(2)

يقول عليعليه‌السلام : «أشجع الناس من غلب هواه».(3)

وقد نقلت قصص كثيرة في حالات محبي الحق وأولياء الله ، والعلماء والعظماء ، حيث نالوا المقامات العالية نتيجة ترك أتباع الهوى ، هذه المقامات لم تكن ممكنة بالطرق العادية.

2 ـ لماذا أضلّ من الأنعام!؟

لتجسيد أهمية الموضوع في الآيات أعلاه ، يبيّن القرآن أوّلا : أن الذين اتّخذوا أهواءهم آلهة يعبدونها هم كالأنعام ، وبعد ذلك يضيف مشددا : بل هم أضل! نظير هذا التعبير ورد أيضا في الآية (172) من سورة الأعراف في أهل النار الذين يؤولون إلى هذا المصير نتيجة عدم الاستفادة من السمع والبصر والعقل ،

__________________

(1) سفينة البحار ، ج 2 ، ص 728 (ذيل مادة هوى) ونهج البلاغة ، الخطبة 28 و 42.

(2) سورة النازعات ، الآية 40.

(3) سفينة البحار ، ج 1 ، ص 689 (مادة شجع).

٢٦٧

يقول تعالى :( أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ ) .

(أضل) وإن كانت واضحة إجمالا ، لكن المفسّرين قدموا بحوثا جيدة في هذه المسألة ، وهي ـ مع تحليل وإضافات :

1 ـ إذا لم تفهم الأنعام شيئا ، وليس لها أذن سامعة وعين باصرة ، فذلك لعدم استعدادها الذاتي ، لكن الأعجز منها الإنسان الذي تكمن في وجوده خميرة جميع السعادات ، والذي أفاض الله عليه قدرا عظيما من الاستعدادات ليستطيع أن يكون خليفة الله في الأرض ، ولكن أفعاله الذميمة بلغت به حدّا أسقطته عن مستوى الأنعام ، وأذهبت كل لياقاته هدرا ، وهوى من رتبة مسجود الملائكة إلى حضيض الشياطين الذليلة. وهذا هو الأضل والمؤلم حقا.

2 ـ الأنعام غير مسئولة تقريبا ، وليست مشمولة بالجزاء الإلهي ، في حين أنّ البشر الضالين يجب عليهم أن يحملوا عبء كل أعمالهم على عواتقهم ، ليروا جزاء أعمالهم بلا نقص أو زيادة.

3 ـ تؤدي الأنعام للإنسان خدمات كثيرة ، وتنجز له أعمالا مختلفة ، أمّا طغاة البشر العصاة فلا تتأتى منهم أية منفعة ، بل يسببون آلافا من البلاءات والمصائب.

4 ـ الأنعام لا خطر منها على أحد ، فإذا كان ثمّة خطر منها ، فخطر محدود ، لكن الويل من الإنسان غير المؤمن ، والمستكبر ، عابد الهوى ، الذي يؤجج أحيانا نار حرب يذهب ضحيتها الملايين من الناس.

5 ـ إذا لم يكن للأنعام قانون ومنهج ، فإنّها تتبع مسارا عيّنه الله لها على شكل غرائز ، فهي تتحرك على ذلك الخط. أمّا الإنسان المتمرد ، فلا يعترف بقوانين تكوينية ولا قوانين تشريعية ، ويعتبر هواه وشهواته حاكما على كل شيء.

6 ـ الأنعام لا تبرير لديها لأعمالها أصلا ، فإذا خالفت فهي المخالفة ، وإذا أرادت أن تمضي في طريقها حين تمضي فذلك هو الواقع ، أمّا الإنسان المتكبر

٢٦٨

السفاك ، عابد الهوى فكثيرا ما يبرر جميع جرائمه بالشكل الذي يدعي فيه أنّه يؤدي مسئولياته الإلهية والإنسانية.

ولهذا ، فلا موجود أكبر خطرا وأشد ضررا من إنسان متبع للهوى ، عديم الايمان ومتمرد.

ولهذا وصمته الآية (22) من سورة الأنفال بلقب( شَرَّ الدَّوَابِ ) وكم هو مناسب هذا اللقب؟!!

* * *

٢٦٩

الآيات

( أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (49) وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (50) )

التّفسير

حركة الظلال :

في هذه الآيات كلام في أقسام مهمّة من النعم الإلهية ، على سبيل بيان أسرار التوحيد ومعرفة الله ، الأمور التي يزيدنا التفكر فيها معرفة بخالقنا وقربا منه ، ومع الالتفات إلى أنّ المحاورات الكثيرة في الآيات الماضية كانت مع المشركين ، تتّضح صلة وارتباط هذه الآيات بالآيات السابقة.

٢٧٠

في هذه الآيات ، كلام في نعمة «الضلال» ثمّ في آثار وبركات «الليل» و «النوم والاستراحة» و «ضياء» النهار و «هبوب الرياح» و «نزول المطر» و «إحياء الأراضي الموات» و «سقاية» الأنعام والناس.

يقول تعالى أولا :( أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ، وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ) .

لا شك أنّ هذا الجزء من الآية إشارة إلى أهمية نعمة الظلال الممتدة والمتحركة.

الظلال التي لا تثبت على حال ، بل هي في حركة وانتقال.

ولكن أي ظل هو المقصود بالآية؟ ثمّة أقوال في أوساط المفسّرين :

بعضهم يقول : هذا الظل الممتد والمنتشر هو ذلك الظل المنتشر على الأرض بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس ، وأهنأ الظلال والساعات هي تلك ، هذا النور الشفاف ، والظل المنبسط ، يبدأ عند طلوع الفجر ، يتلاشى عند طلوع الشمس حيث يأخذ مكانه الضياء.

ويرى البعض الآخر أن المقصود هو ظل الليل بأجمعه ، الذي يبدأ من لحظة الغروب وينتهي عند لحظة طلوع الشمس ، لأنّنا نعلم أنّ الليل في الحقيقة هو ظل نصف الكرة الأرضية المواجه للشمس ، وهو ظل مخروطي يكون في الطرف الآخر ومنتشرا في الفضاء الواسع. وهذا الظل المخروطي في حركة دائمة ومع طلوع الشمس على منطقة يزول عنها ليتشكل في أخرى.

وقال آخرون : المقصود هو الظل الذي يظهر للأجسام بعد الظهر فينبسط شيئا فشيئا بالتدريج.

طبيعي ، أنّه لو لم تكن الجمل الآتية ، لكنّا نفهم من هذه الجملة معنى واسعا يشمل جميع الظلال الشاسعة ، لكن سائر القرائن التي وردت على أثرها تدل على أن التّفسير الأوّل أكثر تناسبا ، لأنّه تعالى يقول على أثر ذلك :( ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً ) .

٢٧١

إشارة إلى أن مفهوم الظل لم يكن ليتّضح لو لم تكن الشمس ، فالظل من حيث الأصل يخلق بسبب ضياء الشمس ، لأنّ «الظل» يطلق عادة على الظلمة الخفيفة اللون التي تظهر الأشياء فيها ، وهذا في حالة ما إذا أضاء النور جسما مانعا لنفوذ النور ، فإن الظل يبدو في الجهة المقابلة. بناء على هذا فليس تشخيص الظل يتم بواسطة النور طبقا لقاعدة «تعرف الأشياء بأضدادها» فقط ، بل إنّ وجوده أيضا من بركة النور.

بعد ذلك يبيّن تعالى : ثمّ إنّنا نجمعه جمعا وئيدا( ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً ) .

من المعلوم أن الشمس حينما تطلع فإنّ الظلال تزول تدريجيا ، حتى يحين وقت الظهر حيث ينعدم الظل تماما في بعض المناطق ، لأنّ الشمس آنئذ تستقر تماما فوق رأس كل موجود ، وفي مناطق أخرى يصل إلى أقل من طول الشاخص ، ولهذا فالظل لا يظهر ولا يختفي دفعة واحدة ، وهذا نفسه حكمة الخالق ، ذلك لأنّ الانتقال من النور إلى الظلمة بشكل فجائي يكون ضارا بجميع المخلوقات. لكن هذا النظام المتدرج في هذه الحالة الانتقالية له أكبر المنفعة بالنسبة إلى الموجودات ، دون أن يكون له أي ضرر.

التعبير بـ «يسيرا» إشارة إلى انقباض الظل التدريجي ، أو إشارة إلى أن نظام النور والظلمة الخاص ، شيء يسير هين بالنسبة إلى قدرة الخالق. وكلمة (إلينا) تأكيد على هذه القدرة أيضا.

على أية حال ، لا شك أن الإنسان كما يحتاج إلى أشعة «النور» في حياته ، فهو كذلك يحتاج إلى «الظل» لتعديل ومنع «النور» أوقات اشتداده ، فكما أنّ أشعة النور المستديمة تربك الحياة ، كذلك فإنّ الظل الدائم الساكن مهلك أيضا.

في الحالة الأولى تحترق جميع الموجودات ، وفي الحالة الثّانية تنجمد جميعا ، ولكن هذا النظام المتناوب من «النور» و «الظل» هو الذي يجعل الحياة ممكنة وسائغة للإنسان.

٢٧٢

لذا فإنّ آيات قرآنية أخرى تعدّ وجود الليل والنهار ، الواحد تلو الآخر ، من النعم الإلهية العظيمة ، ففي موضع يقول تعالى :( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ ، أَفَلا تَسْمَعُونَ ) . ويضيف مباشرة( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ ) .(1)

ويستنتج من هذا القول أنّ هذا النظام من رحمة الله الذي جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا وتستريحوا فيهما ، ولتستفيدوا في تحصيل المعاش من فضله ، ولعلكم تشكرون( وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) .(2)

ولهذا يعد القرآن «الظل الممدود» إحدى نعم الجنّة ، حيث لا نور معش مرهق ، ولا ظلمة موحشة.

بعد ذكر نعمة الظلال ، تناول القرآن الكريم بالشرح نعمتين أخريين متناسبتين معها تناسبا تاما ، فيكشف جانبا آخر من أسرار نظام الوجود الدالة على وجود الله ، يقول تعالى:( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً ) .

كم هو تعبير جميل ورائع( جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً ) هذا الحجاب الظلامي الذي لا يستر الناس فقط ، بل كل الموجودات على الأرض ويحفظها كاللباس ، ويلتحفه الإنسان كالغطاء الذي يستفيد منه أثناء النوم ، أو لإيجاد الظلام.

ثمّ يشير تعالى إلى نعمة النوم( وَالنَّوْمَ سُباتاً ) .

«السبات» في اللغة من «سبت» (على وزن وقت) بمعنى القطع ، ثمّ جاء بمعنى تعطيل العمل للاستراحة ، ولذا فإنّ أوّل أيّام الأسبوع يسمّونه في لغة العرب «يوم السبت» وهي تسمية أخذت من طريقة اليهود ، لأنّه يوم تعطيلهم.

__________________

(1) القصص ، 71 و 72.

(2) القصص ، 73.

٢٧٣

هذا التعبير ـ في الحقيقة ـ إشارة إلى تعطيل جميع الفعاليات الجسمانية أثناء النوم ، لأنّنا نعلم أن قسما مهما من الأفعال البدنية يتوقف كليا في حال النوم ، وقسما آخر مثل عمل القلب وجهاز التنفس يؤدي عمله بصورة وئيدة جدّا ، ويستمر بصورة أكثر هدوء كيما يرتفع التعب وتتجدد القوى.

النوم في وقته وبحسب الحاجة إليه ، مجدد لجميع طاقات البدن ، وباعث للنشاط والقوّة ، وأفضل وسيلة لهدوء الأعصاب ، بعكس الأرق خصوصا لفترة طويلة ـ فهو ضار جدّا وقد يؤدي الى الموت أيضا. ولهذا فإنّ قطع برنامج النوم واحد من أهم أساليب التعذيب حيث يحطم كل مقاومة الإنسان بسرعة.

وفي ختام الآية ، أشار تعالى إلى نعمة «النهار» فقال تعالى :( وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً ) .

كلمة «النشور» في الأصل من النشر بمعنى البسط ، في مقابل الطي وربّما كان هذا التعبير إشارة إلى انتشار الروح في أنحاء البدن ، حين اليقظة التي تشبه الحياة بعد الموت ، أو إشارة إلى انتشار الناس في ساحة المجتمع ، والحركة للمعاش على وجه الأرض. نقرأ في حديث عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه كان يقول كل صباح : «الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور».(1)

فضياء النهار من حيث روح وجسم الإنسان باعث على الحركة حقّا ، كما أن الظلام باعث على النوم والهدوء.

في عالم الطبيعة أيضا ، فإنّ الحركة والنشاط تشمل جميع الموجودات الحية ويستجد انبعاث فيها بمجرّد سطوع أوّل اشعة للشمس ، فينطلق كل واحد منها إلى سبيله ، وحتى النباتات تتنفس وتتغذى وتنموا وتنضج أمام النور ، أمّا عند مغيب الشمس ، فكأن الطبيعة تنفخ في صور انتهاء العمل والسكون ، الطيور تؤوب إلى

__________________

(1) تفسير القرطبي.

٢٧٤

أوكارها ، الموجودات الحية تفيء إلى الاستراحة والنوم ، حتى النباتات تغطّ في نوع من النوم.

بعد بيان هذه المواهب العظيمة ـ التي هي أهم ركائز الحياة الإنسانية ـ يتناول القرآن الكريم موهبة أخرى مهمّة جدّا فيقول :( وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ، وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً ) .

لا يخفى أن دور الرياح هو أنّها الطلائع المتقدمة لنزول الرحمة الإلهية ، وإلّا فلن تنزل قطرة مطر على الأرض العطشى أبدا.

صحيح أن ضياء الشمس يبخر ماء البحار فيتصاعد في الفضاء ، وتراكم هذه الأبخرة في طبقة عليا باردة يشكل الغيوم الممطرة ، ولكن إذا لم تحمل الرياح هذه الغيوم المثقلة من أعالي المحيطات باتجاه الأراضي اليابسة ، فستتحول هذه الغيوم إلى مطر وستهطل على نفس ذلك البحر.

والخلاصة أن وجود بشائر الرحمة هذه ، التي تتحرك بشكل دائم في كل ارجاء الأرض ، سبب رواء الجفاف على الأرض ، ونزول المطر الباعث على الحياة وتشكيل الأنهار والعيون والآبار ، ونمو أنواع النباتات.

إنّ قسما من هذه الرياح المتقدمة لقطعات الغيوم ، في حركتها وامتزاجها برطوبة ملائمة ، تبعث النسيم المنعش الذي تشم منه رائحة المطر ، هذه الرياح مثل البشير الذي ينبئ عن قدوم مسافر عزيز.

التعبير بـ «الرياح» بصيغة الجمع لعله إشارة إلى أنواع مختلفة منها ، فبعض شمالي ، وبعض جنوبي ، وبعض يهب من الشرق إلى الغرب ، ومنها ما يهب من الغرب إلى الشرق ، فتكون سببا في انتشار الغيوم في كل الآفاق.(1)

المهم هنا هو أن «الماء» قد وصف بـ «الطهور» التي هي صيغة مبالغة من

__________________

(1) يجب الانتباه إلى أنّ «بشرا» ـ بسكون الشين مخفف ـ «بشرا» ـ بضم الشين ـ الذي هو جمع «بشور» (على وزن قبول) بمعنى مبشر وبشير.

٢٧٥

الطهارة والنقاء ولهذا فمفهوم الطهارة والتطهير يعني أن الماء طاهر بذاته ، ويطهر الأشياء الملوثة ثمّة أشياء كثيرة غير الماء طاهرة ، ولكنّها لا تستطيع أن تكون مطهرة لغيرها!

وعلى أية حال ، فمضافا إلى خاصية الإحياء ، فإنّ للماء خاصية كبيرة الأهمية هي التطهير ، فلو لا الماء فإنّ أجسامنا ونفوسنا وحياتنا تتسخ وتتلوث في ظرف يوم واحد والماء وإن لم يكن قاتلا للميكروب عادة ، ولكنّه يستطيع إزالتها وطردها بسبب خاصيته الفذة (الإذابة). ومن هذه الناحية فإنّه يقدم مساعدة مؤثرة جدّا في مسألة سلامة الإنسان ومكافحة أنواع الأمراض.

مضافا إلى أن تنقية الروح من التلوث بواسطة الغسل والوضوء تكون بالماء ، إذن فالماء مطهر للروح والجسم معا.

لكن خاصية التطهير هذه مع ما لها من الأهمية ، اعتبرت في الدرجة الثّانية ، لذا يضيف القرآن الكريم في الآية التي بعدها بأنّ الهدف من نزول المطر هو الإحياء :( لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً ) (1) .

وأيضا( وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً ) .

* * *

ملاحظات

وهنا ملاحظات مهمّة :

1 ـ في هذه الآية ورد الكلام عن الأنعام والأناسي الكثيرة مع أن جميع الناس والحيوانات تستفيد من ماء المطر!!

هذه إشارة إلى البدو الرحل وساكني الخيام الذين ليس لديهم ماء مطلقا

__________________

(1) ينبغي الالتفات إلى أن «بلدة» هنا بمعنى الصحراء ، ومع أنّ هذا اللفظ مؤنث ، فصفته التي هي «ميتا» وردت بصيغة المذكر ، ذلك لأن المراد بالمعنى «المكان» وهو مذكر.

٢٧٦

سوى ماء المطر حيث يستفيدون منه مباشرة ، هذه النعمة الكبيرة محسوسة لديهم أكثر فحينما تظهر السحب في السماء ويمطل عليهم المطر ، وتمتلئ الأراضي المنخفضة من ماء المطر الزلال ، فيرتوون منه ويسقون أنعامهم ، ويشعرون بنشاط الحياة يدبّ في وجودهم ووجود أنعامهم.

2 ـ جملة «نسقيه» من مادة «إسقاء» وفرقها عن «سقى» كما قال الراغب في المفردات وآخرون من المفسّرين ، هو أنّ الإسقاء بمعنى تهيئة الماء وجعله للسقاية ، ليشرب منه الإنسان متى أراد ، في حين أن مادة «سقى» بمعنى أن يعطى من يريد الماء حتى يشرب ، وبعبارة أخرى فإن الإسقاء له معنى أوسع وأعم.

3 ـ في هذه الآية ، ورد الكلام أوّلا عن الأراضي الميتة ، ثمّ الأنعام ثمّ الأناسي ، وهذا التعبير ربّما كان لأن الأراضي إذا لم تحي بالمطر ، فلن يكون للأنعام طعام ، وإذا لم تعش الأنعام ، فلن يستطيع الإنسان إن يتعذى منها.

4 ـ طرح مسألة الإحياء بالماء بعد مسألة التطهير ، قد يكون إشارة إلى الارتباط الوثيق بين هاتين المسألتين (حول آثار الإحياء بالماء ، ثمّة بحث مفصل في ذيل الآية 30 سورة الأنبياء).

في الآية الأخيرة ـ مورد البحث ـ يشير تعالى إلى القرآن فيقول : جعلنا هذه الآيات بينهم بصور مختلفة ومؤثرة ليتذكروا وليتعرفوا من خلاله على قدرة الخالق ، لكن كثيرا من الناس لم يتخذوا موقفا إزاء ذلك إلّا الإنكار والكفران :( وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً ) .

وإن أرجع كثير من المفسّرين مثل العلامة الطبرسي في تفسيره ، والشيخ الطوسي في تفسير التبيان ، والعلامة الطباطبائي في تفسير الميزان وآخرين ، الضمير في جملة «صرفناه» إلى المطر ، حيث يكون مفهومها هكذا : أنزلنا المطر في جهات ومناطق مختلفة من الأرض ، ووزعناه بين الناس ليتذكروا هذه النعمة العظمى.

٢٧٧

لكن الحق أن هذا الضمير يرجع إلى القرآن وآياته ، لأن هذا التعبير (بصيغة الفعل الماضي والمضارع) ورد في عشرة مواضع من القرآن المجيد ، حيث أرجع في تسعة مواضع إلى آيات القرآن وبياناته صراحة ، وأتبع بجملة «ليذكروا» أو ما يشابهها في موارد متعددة. على هذا فمن البعيد جدا أن يأخذ هذا التعبير مفهوما آخر في هذا المورد الواحد.

ومن حيث الأصل فإنّ «تصريف» التي هي بمعنى التحويل من حال إلى حال ، ليس لها تناسب كثير مع نزول المطر ، في وقت هي أكثر تناسبا مع آيات القرآن التي تأتي في أنحاء مختلفة ، أحيانا بصورة وعد ، وأحيانا بصورة أمر ، وأخرى بصورة نهي ، وأحيانا بصورة قصص الماضين.

* * *

٢٧٨

الآيات

( وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (55) )

التّفسير

بحران متجاوران : عذب فرات وملح أجاج :

الآية الأولى ـ مورد البحث ـ أشارت إلى عظمة مقام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يقول تعالى : لو أردنا لبعثنا نبيّا في كل مدينة وبلد ، لكنّنا لم نفعل هذا وألقينا مسئولية هداية العالمين على عاتقك :( وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً ) .

كما أنّ اللهعزوجل ـ طبقا للآيات السابقة ـ قادر على إرسال قطرات المطر الباعث على الحياة إلى كل الأراضي الميتة ، فله القدرة أيضا على إنزال الوحي

٢٧٩

والنبوّة على قلب نبيّ في كل قرية ، وأن يبعث لكل أمة نذيرا ، لكن الله يختار لعباده ما هو أصلح ، لأنّ تمركز النبوّة في وجود فرد واحد يكون باعثا على وحدة وانسجام الناس ، ومانعا من كل فرقة وتشتت.

ويحتمل أن بعض المشركين أوردوا هذا الاشكال وهو : ألم يكن من الأفضل أن يبعث الله نبيّا في كل مدينة وقرية؟!

لكن القرآن يقول في ردّهم : لو أراد الله ذلك لفعل ، لكن هذا التشتت ليس في صالح الأمم والشعوب قطعا.

وعلى أية حال ، فكما أن هذه الآية دليل على عظمة مقام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهي دليل كذلك على وجوب وحدة القائد ، وعلى ثقل عبء مسئوليته.

وبنفس هذا الدليل ، يبيّن الله تبارك وتعالى في الآية التالية ، أمرين إلهيين مهمين يشكلان منهجين أساسيين للأنبياء ، فيوجه الخطاب أوّلا إلى الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقول:( فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ ) .

لا تخط أية خطوة على طريق التوافق مع انحرافاتهم ، فإنّ التوافق مع المنحرفين آفة الدعوة إلى الله ، قف أمامهم بقوّة ، واسع إلى إصلاحهم ، لكن كن حذرا ولا تتسلم لأهوائهم وخرافاتهم.

أمّا القانون الثّاني فهو : جاهد أولئك بالقرآن :( وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً ) .

جهادا كبيرا بعظمة رسالتك ، وبعظمة جهاد كل الأنبياء الماضين ، الجهاد الذي يشمل جميع الأبعاد الروحية والفكرية للناس ، ويشمل كل الأصعدة المادية والمعنوية.

لا شك أن المقصود من الجهاد في هذا الموضع هو الجهاد الفكري والثقافي والتبليغي وليس الجهاد المسلح ، ذلك لأنّ هذه السورة مكية ، والأمر بالجهاد المسلح لم يكن قد نزل في مكّة. وعلى قول العلامة «الطبرسي» في مجمع البيان ، أن هذه الآية دليل واضح على أنّ الجهاد الفكري والتبليغي في مواجهة وساوس

٢٨٠