الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 174853 / تحميل: 5996
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

بدلا من أن تأتيهم بدليل ، هددتهم بعذاب الله الّذي شمل من سبقهم من الكفّار ، وأنذرتهم بعقابه المخزي فوجهت الخطاب للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلة :( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ) .

فأنتم تعترفون أن هذه الوعود تلقّاها أسلافكم ، فلم يكترثوا بها ، ولم يروا ضررا فهلّا سرتم في الأرض قليلا ، لتشهدوا آثار هؤلاء المجرمين المنكرين للتوحيد والمعاد ، وخاصة الآثار في المناطق القريبة من الحجاز لتنظروا أن الأمر ليس كما تزعمون.

ولكن سيحين موعدكم فلا تعجلوا فأنتم كأولئك ستواجهون المصير المحتوم والعاقبة المخزية إذا لم تصلحوا أنفسكم!.

والقرآن دعا مرارا إلى السير في الأرض ، ومشاهدة آثار الماضين ، والمدن الخاوية الخربة التي حاق بأهلها سوء العذاب ، وقصور الظالمين المتداعية ، والقبور الدارسة والعظام النخرة ، والأموال التي خلفها أصحابها المغرورون!!

إنّ مطالعة تلك الآثار التي تعبّر عن التأريخ الحيّ لأولئك الماضين ، توقظ القلوب الغافلة! وتبصّرها بالحق والواقع كذلك ، فإن مشاهدة واحد من هذه الآثار يترك في القلب أثرا لا تتركه مطالعة عدّة كتب تأريخية!.

(كان لنا بحث مفصل في هذا المجال ذيل الآية ١٣٧ من سورة آل عمران).

ممّا ينبغي ملاحظته أنّه جاء في هذه الآية التعبير بـ «المجرمين» بدلا من «المكذبين» وهو إشارة إلى أن تكذيبهم لم يكن لأنّهم أخطأوا في التحقيق ، بل أساسه العناد واللجاجة. وتلوثهم بأنواع الجرائم!

وحيث أن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يشفق عليهم لإنكارهم ، ويحزن لعنادهم ، ويحترق قلبه من أجلهم ، إذ كان حريصا على هدايتهم ، وكان يواجه مؤامراتهم أيضا فإنّ الآية التالية تسري عن قلب النّبي فتقول له :( وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ) ولا تقلق من مؤامراتهم( وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ) .

١٢١

إلّا أنّ هؤلاء المنكرين المعاندين ، بدلا من أن يأخذوا إنذار النّبي المشفق عليهم مأخذ الجد فيتعظوا بوعظه ويستر شدوا بنصحه ، أخذوا يسخرون منه( وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) .

ومع أنّ المخاطب هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّ الموضوع ذكر بصيغة الجمع «إن كنتم صادقين» لأنّ المؤمنين الصادقين كانوا قد ضموا صوتهم إلى صوت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا فهم مخاطبون بما خوطب به كذلك!

وهنا يردّ القرآن على استهزائهم وسخريتهم بلهجة موضوعية ، فيقول مخاطبا نبيّه :( قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ ) .

فعلام تستعجلون؟! وعلام تستصغرون عقاب الله؟! أفلا ترحمون أنفسكم؟! ترى ، هل عذاب الله ضرب من الهزل أو المزاح؟ فعسى أن يأخذكم الله بعذابه لكلامكم هذا فيهلككم فلم هذا العناد واللجاجة؟!

«ردف» فعل مشتق من (ردف) على وزن (حرف) ومعناه كون الشيء خلف الشيء الآخر ، ولذا يطلق على من يركب الفرس خلف صاحبه (رديف) كما يطلق الرديف على الأشخاص أو الأشياء التي تقف صفا واحدا بعضها خلف بعض.

وهناك كلام عن المراد من العذاب الذي كانوا يستعجلون به ، فقيل : هو ما أصابهم يوم بدر من هزيمة كبرى ، إذ صرع من عتاتهم سبعون رجلا وأسر سبعون رجلا!.

كما ويحتمل أنّ المراد منه العقاب العام الذي دفع أخيرا ، ببركة وجود النّبي إذ كان رحمة للعالمين ، والآية (٣٣) من سورة الأنفال شاهدة عليه( وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ) .

والتعبير بـ «عسى» لعله على لسان النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وحتى لو كان من قبل الله سبحانه ـ فعلى خلاف ما يتصوّره بعضهم ، فإنّه ليس فيه أي إشكال إذ هو إشارة إلى وجود مقدمات الشيء ومقتضياته ، مع إمكان أن تقترن هذه المقدمات

١٢٢

بالمانع ، فلا تصل إلى النتيجة النهائية (فلاحظوا بدقّة)!.

ثمّ يتحدث القرآن في الآية التالية عن هذه الحقيقة : وهي أنّ الله إذا لم يعجل في عقابكم ، فذلك بفضله وبرحمته ، حيث يمهل عباده الإمهال الكافي لإصلاح أنفسهم ، فيقول :( وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ ) .

وإذا كانوا يتصورون أن تأخير العقاب لعدم علم الله سبحانه لما يدور في خلدهم من نيات سيئة وأفكار ضالة ، فهم في غاية الخطأ :( وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ ) (١) .

فهو يعلم خفاياهم بمقدار ما يعلم من ظاهرهم وما يعلنون ، والغيب والشهادة عنده سيّان.

فهذه المفاهيم هي من نتاج علمنا المحدود ، وإلّا فهي في مقابل غير المحدود تفقد معانيها وتتلاشى حدودها.

وهنا ذكر «علم الله بما تكنّ القلوب» مقدما على علمه بالأفعال الخارجية ، ولعل ذلك هو بسبب أهمية النيات والإرادة! كما يمكن أن يكون التقديم لأنّ الأفعال الخارجية ناشئة عن النيات الداخلية ، والعلم بالعلة مقدم على العلم بالمعلول!.

ثمّ يضيف القرآن قائلا : إنّه ليس علم الله منحصرا بما تكن القلوب وما تعلن ، بل علمه واسع مطلق!( وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ ) (٢) .

وواضح أن «الغائبة» لها معنى واسع ، فهي تحمل في مفهومها كلّ ما خفي عن حسّنا وغاب وتشمل أعمال العباد الخفية والنيات الباطنية ، وأسرار

__________________

(١) «تكنّ» مأخوذ من كنّ على وزن جنّ ، وهذا الفعل يطلق على ما تستر فيه الأشياء وتحفظ ، وهنا كناية عن ما يخطر في قلوب الكفّار من خواطر وأفكار عدوانية!

(٢) «الغائبة» اسم فاعل مشتق يدل على الوصف ، وكما يعتقد بعضهم «التاء» ليست في هذه الكلمة للتأنيث ، بل هي إشارة للأشياء المخفية ، فهي للمبالغة في الخفاء إلا أنّه لا مانع من أن نحتمل أن التاء للتأنيث ، وأن موصوفها محذوف ، وتقديره : وما من خصلة غائبة. أو أشياء غائبة ، والله العالم

١٢٣

السماوات والأرض وقيام الناس للحساب يوم القيامة ، زمان نزول العذاب ، وأمثال ذلك. ولا دليل على أن نفسّر «الغائبة» هنا بواحد من هذه الأمور المذكورة آنفا ـ كما ذهب إليه بعض المفسّرين ـ.

والمراد بـ «الكتاب المبين» هو اللوح المحفوظ ، وعلم الله الذي لا نهاية له ، وقد بحثنا هذا الموضوع في ذيل الآية (٥٩) من سورة الأنعام.

* * *

ملاحظات

التحقيق في الآيات المتقدمة يدل على أن منكري المعاد من أجل أن يتنصّلوا من عبء الإيمان بالقيامة والمسؤوليات الناشئة عنه ، كانوا يتوسلون بثلاثة طرق :

١ ـ استبعاد العودة للحياة بعد أن يغدو الإنسان ترابا ، لاعتقادهم أنّ التراب لا يمكن أن يكون أساسا للحياة!

٢ ـ قدم هذه العقيدة وعدم الجدة فيها.

٣ ـ عدم نزول العذاب على منكري المعاد لأنّه لو كان حقّا أن يبتلى المنكرون بالعذاب فلم لا ينزل عليهم!

وقد ترك القرآن الجواب على الإشكالين الأوّل والثاني ، لأنّنا نرى بأم أعيننا أنّ التراب مصدر الحياة وأساسها ، وكنا في البداية ترابا ثمّ صرنا أحياء!

وكون الشيء قديما لا ينقص من أهميّته أيضا لأنّ قوانين هذا العالم الأصيلة ثابتة ومستقرة من الأزل حتى الأبد وفي الأصول الفلسفية والمسائل الرياضيّة والعلوم الأخر أصول كثيرة ثابتة فهل كون امتناع اجتماع النقيضين قديما ، أو جدول ضرب فيثاغورس قديما ، دليلا على ضعفه؟! وإذا رأينا العدل حسنا والظلم سيئا منذ القدم ، ولا يزال كذلك ، فهل هو دليل على بطلانه فكثيرا

١٢٤

ما يتفق أن القدم دليل على الأصالة.

وأمّا في شأن الإشكال الثالث ، فيجيب القرآن : ألّا تعجلوا فعدم نزول العذاب من لطف الله ، فهو يمهلكم ولا يعذبكم عاجلا ، لكن إذا جاء عذابه فلا مفرّ منه.

* * *

١٢٥

الآيات

( إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١) )

التّفسير

عمى القلوب لا يقبلون دعوتك!

كان الكلام في الآيات السابقة عن المبدأ والمعاد أمّا في الآيات ـ محل البحث ـ فيقع الكلام على مسألة النبوّة ، وحقّانيّة القرآن ، ليكتمل بهما هذا البحث!.

ومن جهة أخرى فقد كان الكلام في الآيات السابقة عن علم الله الواسع غير المحدود ، وفي الآيات محل البحث مزيد تفصيل في هذا الشأن.

أضف إلى ذلك أنّ الخطاب كان فيما سبق من الآيات موجها للمشركين ، وهنا يوجه الخطاب نحو الكفار الآخرين كاليهود واختلافاتهم!.

١٢٦

فتقول الآيات أوّلا :( إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) .

لقد اختلف بنو إسرائيل فيما بينهم في مسائل كثيرة! فقد اختلفوا في شأن مريم وعيسىعليهما‌السلام . وفي شأن النّبي الذي بشّرت به «التّوراة» من هو؟

كما أنّهم اختلفوا في ما بينهم في كثير من المسائل الدينية والأحكام الشرعية فجاء القرآن موضحا هذه الأمور بجلاء ، وقال : إن المسيحعليه‌السلام عرف نفسه بصراحة فـ( قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ) (١) .

وقال أيضا : إنّ المسيح ولد من دون أب ، وليس أمره محالا و( إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ) (٢) .

وأمّا النّبي الذي بشرت به التّوراة فتنطبق أوصافه على نبي الإسلام محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا تنطبق على أحد سواه!.

وعلى كل حال فإنّ واحدة من مهامّ القرآن هي مواجهة الاختلافات المتولّدة من اختلاط الخرافات وحقائق التعليمات التي جاء بها الأنبياء وكل نبي مسئول أن يحسم الاختلافات الناشئة من التحريف والخلط بين الحقّ والباطل وحيث أن هذا العبء لا يمكن أن ينهض به رجل أمي لم يسبق له أن يقرأ ، وفي محيط جاهلي ، فيتّضح أنّه مرسل من قبل الله!

ولما كانت مواجهة الاختلافات والوقوف بوجهها مدعاة للهدى والرحمة ، فإنّ الآية التالية تشير إلى هذا «الأصل الكلي» وتقول :( وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ) .

أجل ، إنّه هدى ورحمة من حيث حسم الخلافات ومبارزة الخرافات ، هدى ورحمة لأنّ دليل حقانيته كامن في عظمة محتواه!

__________________

(١) سورة مريم ، الآية ٣٠.

(٢) آل عمران ، الآية ٥٩.

١٢٧

هدى ورحمة لأنّه يهدي إلى سبيل الحق ويدل عليه!.

وذكر «المؤمنين» هنا خاصّة هو لما ذكرناه آنفا من أنّه ما لم تتوفر مرحلة من الإيمان في الإنسان ، وهي مرحلة الاستعداد لقبول الحق والتسليم لله ، فإنّه لا يستطيع الاستفادة من هذا المصدر الإلهي الفيّاض.

وحيث أنّ جماعة من بني إسرائيل وقفت بوجه القرآن والحقائق الواردة فيه ، لأوامر الله ، فإنّ الآية التالية تقول في شأنهم :( إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ) .

وبالرغم من أنّ هذه الآية لم تصرّح بأن قضاء الله بينهم سيكون يوم القيامة

إلّا أنّه بقرينة آيتين أخريين تتحدثان عن اختلافات بني إسرائيل ، وأن الله يقضي بينهم يوم القيامة ، يتّضح أنّ مراد الآية محل البحث هو هذا المعنى ذاته.

ففي الآية (١٧) من سورة الجاثية يقول سبحانه :( إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) .

كما ورد في ذيل الآية (٩٣) من سورة يونس ، هذا النص المتقدم نفسه.

ووصف الله «بالعزيز» و «العليم» إشارة إلى ما ينبغي توفره في القاضي من هاتين الصفتين ، «العلم» بصورة كافية و «القدرة» على إجراء الحكم ، والله سبحانه أعلم من الجميع وأعزّهم.

وهذا الكلام إضافة إلى أنّه يبيّن عظمة القرآن ، وهو تهديد لبني إسرائيل ، فهو في الوقت ذاته تسلية عن قلب النّبي وتسرية عنه ، لذا فالآية التالية تقول :( فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ) .

توكل على الله العزيز الذي لا يغلب ، والعليم بكل شيء توكل على الله الذي أنزل القرآن على عظمته فجعله عندك ، فتوكل عليه ولا تقلق من المشركين والمعاندين ، لأنّه يرعاك و( إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ) .

وهنا ينقدح هذا السؤال ، وهو : إذا كان القرآن حقّا مبينا فلما ذا خالفوه؟

١٢٨

فالآيات التالية تجيب على هذا السؤال ، فتقول : إذا كان أولئك لا يذعنون للحق المبين ، ولا يؤثر في قلوبهم هذا الكلام المتين ، فلا مجال للعجب لـ( إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى ) (١) .

بل تسمع الأحياء الذين يبحثون عن الحق وأرواحهم توّاقة إليه ، أمّا إحياء الموتى ـ أو موتى الأحياء ـ لتعصبهم وعنادهم واستمرارهم على الذنب ، فلا ترهق فكرك ونفسك من أجلهم وحتى لو كانوا احياء فإنهم صمّ لا يسمعون فلا يمكنهم أن يسمعوا صوتك ، وخاصة إذا أداروا إليك ظهورهم وابتعدوا عنك( وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ) .

ولعلهم لو كانوا عندك وكنت تصرخ فيهم لبلغت بعض أمواج صوتك إلى مسامعهم ، إلّا أنّهم مع صممهم يبتعدون عنك.

كما أنّهم لو كانوا مع هذه الحال يبصرون بأعينهم لاهتدوا إلى الصراط المستقيم ، ولو ببعض العلامات ، إلّا أنّهم عمي( وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ ) .

وهكذا فقد أوصدت جميع طرق إدراك الحقيقة بوجوههم ، فقلوبهم ميتة ، وآذانهم صمّ موقرة ، وأعينهم عمي! فأنت يا رسول الله( إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ ) ويشعرون في أنفسهم بالإذعان للحق.

وفي الحقيقة إن الآيتين ـ آنفتي الذكر ـ تتحدثان عن مجموعة واضحة من عوامل المعرفة وارتباط الإنسان بالعالم الخارجي وهي :

«حس التشخيص» ، والعقل اليقظ ، في مقابل القلب الميت.

«الأذن الصاغية» لاكتساب الكلام الحق ، عن طريق السمع.

__________________

(١) قال جماعة من المفسّرين : إن هذه الجملة والجمل الأخر التي تليها بمثابة الدليل على لزوم توكل النّبي على الله وعدم يأسه مع أن الظاهر أنّها جواب على سؤال يثار في شأن القرآن وكونه هو «الحق المبين».

١٢٩

«والعين الباصرة» لرؤية وجه الحق ووجه الباطل ، عن طريق البصر.

إلّا أن العناد واللجاجة والتقليد الأعمى والذنب كلها تعمي العين التي بها يرى الإنسان الحقيقة ، وتوفر سمعه ، وتميت قلبه.

ومثل هؤلاء المعاندين المذنبين ، لو جاء جميع الأنبياء والأولياء والملائكة لهدايتهم ، لما أثّروا فيهم شيئا ، لأنّ ارتباطهم بالعالم الخارجي مقطوع ، وهم غارقون في «مستنقع ذواتهم» فحسب!.

ونظير هذا التعبير ورد في سورة البقرة وسورة الروم وسور أخر من القرآن (وكان لنا بحث آخر في نعمة «وسائل المعرفة» في تفسير سورة النحل ذيل الآية ٧٨.

ومرّة أخرى نذكّر بهذه اللطيفة وهي أنّ المراد من الإيمان والتسليم ليس معناه أنّهم قبلوا حقائق الدين من قبل ، فيكون من باب تحصيل الحاصل ، بل الهدف من ذلك أن الإنسان إذا لم يكن فيه شوق للحق وخضوع لأمر الله ، فإنه لا يصغي إلى كلام النّبي أبدا.

* * *

بحثان

١ ـ أسباب التوكل

«التوكل» مأخوذ من «الوكالة» ، وهو في منطق القرآن يعني الاعتماد على الله وجعله وليّا وكيلا ، وعدم القلق والخوف من كثرة المشاكل والموانع وعظم حجمها ، بسبب التوكل على الله!

وهذا الأمر واحد من دلائل الإيمان المهمّة ومدعاة للنصر والتوفيق!.

والطريف أنّ الآيات المتقدمة عدّت التوكل في شيئين :

أحدهما : القدرة والعلم لمن يتوكل عليه الإنسان.

١٣٠

والآخر : وضوح الطريق الذي اختاره الإنسان!.

وفي الحقيقة فإنّ القرآن يقول : لا مدعاة للضعف والخوف والوحشة ، فأنت تعوّل على الله العزيز الذي لا يقهر ، والعليم الخبير بكل شيء هذا من جهة ثمّ إنّك على الطريق الواضح والحق اللائح من جهة أخرى فالمدافع عن الحق المبين علام يخاف؟!

وإذا ما رأيت جماعة خالفتك فلا تحزن أبدا فهي لا تملك عيونا باصرة ، ولا آذانا صاغية ، ولا قلوبا حيّة! وهي خارجة أساسا عن طريق الهداية والتبليغ وإنّما يلتفّ حولك طلاب الحق وعشاق الله ، والعطاشى إلى العدل حيث يخفّون نحو منبع القرآن الزلال ، ليرتووا من نميره العذب.

٢ ـ الموت والحياة في منطق القرآن!

هناك كثير من الألفاظ لها مداليل ومعان شتّى بحسب النظرات المختلفة ، ومن هذه الألفاظ ، لفظا الحياة والموت. «فالحياة» بالنظرة المادية تعني الحياة الطبيعة «الفيزيائية» فحسب ، أي متى كان القلب ينبض ، والدم يجرى في العروق إلى أعضاء الجسم كافة ، وكانت الحركة وعملية الجذب والدفع في البدن ، كان البدن حيا أمّا إذا سكنت هذه الحركة ، فتدل على «الموت» القطعي الذي يعرف بالاختبار الدقيق خلال عدّة لحظات!.

إلّا أنّ النظرة القرآنية تختلف عن النظرة المادية ، فكثير من الناس يعدون أحياء بحسب النظرة المادية ـ إلّا أنّهم أموات بحسب النظرة القرآنية كأولئك الذين أشارت إليهم الآيات المتقدمة وعلى العكس منهم الشهداء ، فهم بحسب الظاهر أموات ، لكنّهم بالمنطق القرآني أحياء خالدون!

والسبب في هذا الاختلاف بين النظرتين ، هو أنّ الإسلام بالإضافة إلى أنّه يعدّ معيار الحياة الإنسانية وشخصية الإنسان في القيم الروحانية ، فهو يرى في

١٣١

إيصال النفع الى الآخرين وعدمه معيار الوجود الحياة وعدمها في الإنسان.

فالإنسان الذي يرى بحسب الظاهر حيّا ، إلّا أنّه غارق في الشهوات ، فلا يسمع صرخة لمظلوم ، ولا صوتا لمنادي الحق ، ولا ينظر بعين بصيرة فيرى آثار الله في خلقه ، ولا يفكر ولو لحظة واحدة في مستقبله وماضيه فمثل هذا الإنسان ميّت في منطق القرآن. أمّا الذين ما تزال آثارهم تملأ الدنيا بعد موتهم ، وأفكارهم أسوة وقدوة للآخرين ، فهؤلاء أحياء خالدون(١) .

وبغض النظر عن هذه الأمور كلّها فالإسلام ـ حسب ما لدينا من المدارك ـ يؤمن بالحياة البرزخية للناس والعجب أن بعض الوهابيين الجهلة يصرون على نفي أي نوع من أنواع الحياة والعلم بعد الوفاة ، حتى للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويمنعون التوسل به ، لأنّه بزعمهم ميّت ولا أثر للميت ، والأعجب من ذلك أنّهم يستندون إلى الآيات ـ محل البحث ـ لتأييد دعواهم!!

في حين أنّ بعضهم الآخر يصرّح على أنّ للنبيّ نوعا من الحياة البرزخية ، حياة أشرف من حياة الشهداء المصرّح بها في القرآن ، وقال : إنّه يسمع سلام المسلّم عليه(٢) .

والرّوايات في هذا الشأن كثيرة وافرة عن الفريقين الشيعة والسنة ، أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة المعصومين يسمعون من يسلّم عليهم من بعيد أو قريب ، ويردّون عليه سلامهم ، كما أنّ أعمال الأمّة تعرض عليهم(٣) .

ونقرأ في حديث ورد في صحيح البخاري في قصّة معركة بدر أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مع بعض أصحابه وقف على «القليب» وقد ألقيت فيه أجساد قتلى المشركين ، فناداهم بأسمائهم ، وقال : هلّا أطعتم الله ورسوله ، لقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ،

__________________

(١) كان لنا بحث مفصل «في الموت والحياة الروحيين» في ذيل الآية (٢٤) من سورة الأنفال.

(٢) الرسالة الثّانية من الهديّة السنية لمحمّد بن عبد الوهاب ، ص ٤١.

(٣) لمزيد من الإيضاح يراجع كتاب كشف الارتياب ص ١٠٩ للسيد محسن الأمين العاملي.

١٣٢

فهل وجدتم ما وعد ربّكم حقا فقال عمر : يا رسول الله ، تكلم أجسادا لا روح فيها فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : «والذي نفس محمّد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم»(١) .

ونقرأ في قصّة الجمل عن الأصبغ بن نباتة ، أنّه لما انهزم أصحاب الجمل ركب عليعليه‌السلام بغلة رسول الله الشهباء وسار في القتلى يستعرضهم فمرّ بـ «كعب بن سور» قاضي البصرة وهو قتيل ، فقال : أجلسوه ، فأجلس. فقال : ويلمّك يا كعب بن سور ، لقد كان لك علم لو نفعك ولكن الشيطان أضلك فأزلّك فعجلك إلى النّار(٢) .

ونقرأ في نهج البلاغة ـ أيضا ـ أنّهعليه‌السلام بعد رجوعه من صفين بلغ مقبرة كانت خلف سور الكوفة ، فخاطب الموتى فقال كلاما في تقلب الدنيا ثمّ قال : «هذا ما عندنا فما خبر ما عندكم ثمّ أضافعليه‌السلام أمّا لو أذن لهم في الكلام لأخبروكم أن خير الزاد التقوى»(٣) .

وهذا بنفسه دليل على أنّهم يسمعون إلّا أنّهم لا يسمح لهم بالردّ ولو أذن لهم لأجابوا!.

فجميع هذه التعبيرات «إشارة» إلى حياة الإنسان البرزخية.

* * *

__________________

(١) صحيح البخاري ، ج ٥ ، ص ٩٧ ، باب قتل أبي جهل.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، ج ١ ، ص ٢٤٨.

(٣) نهج البلاغة ـ الكلمات القصار رقم ١٣٠.

١٣٣

الآيات

( وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (٨٢) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (٨٥) )

التّفسير

لمّا كانت الآية السابقة تتحدث عن استعجال الكفّار بالعذاب ونزوله ، أو تحقق القيامة وانتظارهم بفارغ الصبر ووقوع ذلك ، وكانوا يقولون للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) . ومتى يوم القيامة؟! فإنّ الآيات ـ محل البحث ـ تشير إلى بعض الحوادث التي تقع بين يدي القيامة ، وتجسد عاقبة المنكرين الوخيمة ، فتقول :( وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ ) .

والمراد من قوله تعالى :( وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ ) هو صدور أمر الله وما وعدهم من العقاب والجزاء أو وقوع يوم القيامة وحضور علائمها ، العلائم التي يخضع لها كل من يراها ، ويستسلم لأمر الله ، ويحصل عنده اليقين بأنّ وعد الله حق ، وأن

١٣٤

القيامة قد اقتربت وحينئذ توصد أبواب التوبة لأنّ الإيمان في مثل هذه الظروف يقع اضطرارا.

وبالطبع فإنّ هذين المعنيين متلازمان لأنّ اقتراب القيامة يقترن بنزول العذاب ومجازاة الكافرين.

ولكن ما هي «دابة الأرض»؟ وما مصداقها؟ وأية مهمّة تحملها؟ فالقرآن يجمل ولا يفصل ، وكأنّه يريد أن يترك الموضوع مجملا غامضا ، ليكون الكلام فيه أكثر تأثيرا وباعثا على التهويل.

فيقول مختصرا : يخرج الله موجودا يتحرك «أو دابة من الأرض» بين يدي القيامة ، فيتكلم مع الناس ويقول : «إنّ الناس كانوا لا يؤمنون بآيات الله».

وبتعبير آخر : إنّ مهمّة هذه الدابة هي تفريق الصفوف وتمييز المنافقين والمنكرين من المؤمنين.

وبديهي أن المنكرين يرجعون إلى أنفسهم عند مشاهدة هذه الآيات ، ويندمون على ما سلف منهم وعلى أيّامهم المظلمة ، ولكن ما عسى أن ينفعهم الندم وأبواب التوبة موصدة؟!

وهناك مسائل كثيرة ومطالب وفيرة في خصوصيات «دابة الأرض» وجزئياتها وصفاتها في الرّوايات الإسلامية الواردة في كتب الفريقين ، الشيعة وأهل السنة ، وسنتعرض إليها ذيل هذه الآيات في باب البحوث إن شاء الله.

ثمّ تشير الآيات إلى علامة أخرى من علامات القيامة ، فتقول :( وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ ) .

«والحشر» معناه إخراج جماعة ما من مقرّها والسير بها نحو ميدان الحرب أو غيره! و «الفوج» ، كما يقول الراغب في المفردات : الجماعة التي تتحرك بسرعة.

وأمّا «يوزعون» فمعناه حبس الجماعة وإيقافها حتى يلحق الآخر منها بالأوّل وهذا التعبير يطلق ـ عادة ـ على الجماعات الكثيرة ، نظير ما قرأنا في

١٣٥

شأن جنود سليمان في هذه السورة ذاتها.

فبناء على هذا يستفاد من مجموع الآية أن يوما سوف سيأتي يحشر الله فيه من كل أمّة جماعة ، ويهيؤهم للحساب والجزاء على أعمالهم!.

والكثير من الأعاظم يعتقدون بأنّ هذه الآية تشير إلى مسألة الرجعة وعودة جماعة من الصالحين وجماعة من الطالحين إلى هذه الدنيا قبيل يوم القيامة لأنّ التعبير لو كان عن القيامة لم يكن قوله «نحشر من كل أمّة فوجا» صحيحا إذ في القيامة يكون الحشر عاما للجميع ، كما جاء في الآية (٤٧) من سورة الكهف قوله تعالى :( وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ) .

والشاهد الآخر على أنّ الآيات هذه تتحدث عمّا يقع قبيل القيامة ، هو أن الآيات التي قبلها كانت تتحدث عن الحوادث التي تقع قبل القيامة ، والآيات التي تلي الآيات محل البحث تتحدث عن الحوادث التي تقع قبيل القيامة أيضا فمن البعيد أن تتحدث الآيات السابقة واللاحقة عن ما يقع قبل القيامة ، وهذه الآيات محل البحث ـ فقط ـ تتحدث عن ما يقع في يوم القيامة.

وهناك روايات كثيرة في هذا الصدد عن مسألة الرجعة سنتناولها في البحوث القادمة إن شاء الله ، إلّا أن المفسّرين من أهل السنة يعتقدون أن الآية ناظرة إلى يوم القيامة ، وقالوا : إنّ المراد بالفوج هو إشارة إلى رؤساء الجماعات وأئمتهم! وأمّا عدم الانسجام بين الآيات الذي يحدثه هذا التّفسير ، فقالوا : إنّ الآيات بحكم التأخير والتقديم ، فكأن الآية (٨٣) حقّها أن تقع بعد الآية (٨٥).

إلّا أننا نعلم أن تفسير الفوج بالمعنى الآنف الذكر خلاف الظاهر ، وكذلك عدم انسجام الآيات بأنّها في حكم التأخير والتقديم هو خلاف الظاهر أيضا.

( حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (١) .

__________________

(١) جملة (أمّا ذا كنتم تعملون) جملة استفهاميّة و (أما) مركبة من (أم) التي هي حرف عطف وتأتي بعد همزة

١٣٦

وقائل هذا الكلام هو الله سبحانه ، والمراد من «الآيات» هي المعاجز التي يأتي بها الأنبياء ، أو أوامر الله ، أو الجميع!.

والمراد من جملة( وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً ) هو أنّكم بدون أن تتحققوا وتطّلعوا على حقيقة الأمر ، كذبتم الآيات ، وهذا منتهى الجهل وعدم المعرفة أن ينكر الإنسان شيئا دون أن يتحقق منه!.

وفي الحقيقة فإنّهم يسألون عن شيئين.

الأوّل : تكذيبهم دون أن يفحصوا عن الحق.

والآخر : عن أعمالهم التي كانوا يقومون بها.

وإذا كانت الآية ـ آنفة الذكر ـ تتحدث عن القيامة ، فمفهومها واضح. وأمّا إذا كانت تشير إلى مسألة الرّجعة ـ كما يقتضيه انسجام الآيات ـ فهي إشارة إلى أنّه عند ما يرجع إلى هذه الدنيا طائفة من المجرمين فولي الأمر الذي يمثل الله ، وهو خليفته في الأرض ، يتحقق منهم ويسألهم عمّا فعلوه في حياتهم ، ثمّ يجازيهم حسب ما يستحقون من الجزاء الدنيوي ، ولا يمنع هذا من عذاب الآخرة ، كما أن كثيرا من المجرمين ينالون الحدّ الشرعي في هذه الدنيا ، ويستوفون جزاءهم ، فإذا لم يتوبوا فإنّ ما يستحقون من العقاب ينتظرهم في الآخرة.

وبديهي أنّ هؤلاء المجرمين لا يستطيعون الإجابة على أيّ من هذين السؤالين ، لذلك فإنّ الآية الأخيرة من الآيات محل البحث تضيف قائلة :( وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ ) .

وهذا القول أو العذاب دنيوي ، إذا فسّرنا الآية بالرجعة ، أو هو عذاب الآخرة إذا فسّرنا الآية بيوم القيامة.

* * *

__________________

الاستفهام عادة ، وتسمّى بالمعادلة ، و (ما) الاستفهامية. ومعنى الآية : أو أيّ شيء كنتم تعملون.

١٣٧

بحوث

١ ـ ما هي دابة الأرض؟!

«الدّابة» معناها ما يدب ويتحرك ، و «الأرض» معناها واضح وخلافا لما يتصوّره بعضهم بأنّ الدّابة تطلق على غير الإنسان بل الحق أنّها ذات مفهوم واسع يشمل الإنسان أيضا ، كما نقرأ في الآية (٦) من سورة هود( وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها ) ، وفي الآية (٦١) من سورة النحل( وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ ) .

وفي الآية (٢٢) من سورة الأنفال( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ) .

إلّا أنّه ـ كما ذكرنا في تفسير الآية آنفا ـ فإنّ القرآن لا يفصّل في بيان هذه الكلمة وإنّما يذكرها على إجمالها ، فكأنّ البناء كان على الإجمال والإبهام ، والوصف الوحيد المذكور لها بأنّها تكلم الناس وتميز المؤمن من غير المؤمن إلّا أنّ هناك كلاما طويلا في الرّوايات الإسلامية وأقوال المفسّرين في الشأن ، ويمكن تلخيص مجموعها في تفسيرين :

١ ـ فطائفة تعتقد بأنّ هذه «الدابة» حيوان غير مألوف ومن غير جنس الإنسان له شكل عجيب ، ونقلوا له عجائب شبيهة بما يخرق العادات والمعاجز!.

هذه الدابة تخرج في آخر الزمان ، وتتحدث عن الإيمان والكفر ، وتفضح المنافقين وتسمهم بميسمها!

٢ ـ وطائفة تعتقد ـ حسب الرّوايات الإسلامية الواردة في هذا الشأن ـ أنّها إنسان فوق العادة ـ إنسان متحرك فعّال! وواحد من أفعاله الأصلية تمييز المؤمنين عن المنافقين ووسمهم حتى أنّه يستفاد من بعض الرّوايات أن معه عصا موسىعليه‌السلام وخاتم سليمان ونحن نعرف أن عصا موسى رمز للقدرة والإعجاز ، وخاتم سليمان رمز للحكومة والسلطة الإلهية! فإذا هذا الإنسان

١٣٨

رجل قويّ ذو سلطة وهيمنة!

وقد جاء في حديث عن «حذيفة بن اليمان» عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في وصف هذه الدابة قوله : «لا يدركها طالب ولا يفوتها هارب ، فتسم المؤمن بين عينيه ويكتب بين عينيه مؤمن ، وتسم الكافر بين عينيه ويكتب بين عينيه كافر ، ومعها عصا موسى وخاتم سليمان»(١) .

وقد طبق هذا المفهوم في روايات كثيرة على «أمير المؤمنين»عليه‌السلام ففي تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّ رجلا قال لعمار بن ياسر : في القرآن آية شغلت بالي وجعلتني في شك قال عمار : أيّة آية هي؟ قال : آية( وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ ) فيقول عمار : والله لا أجلس على الأرض ولا آكل طعاما ولا أشرب ماء حتى أريكها. ثمّ يأخذه عمار إلى الإمام علي ، وهو يأكل طعاما فلما بصر به الإمام علي ناداه فجاء عمار عنده وأكل معه!.

فتعجب الرجل ولم يصدق هذا المشهد ، إذ كان عمار قد حلف ووعده أن لا يجلس على الأرض ولا يأكل ولا يشرب حتى يريه دابة الأرض ، فكأنّه نسي وعده!.

فلمّا قام عمار وودّع عليّا قال له الرجل : عجيب منك أن تقسم بالله أن لا تأكل ولا تشرب ولا تجلس على الأرض ، حتى تريني دابة الأرض! فقال له عمار : أريتكها لو كنت تعقل(٢) .

ونظير هذا المعنى في تفسير العياشي ، إلّا أنّه ورد اسم «أبي ذر» مكان عمار(٣) .

__________________

(١) مجمع البيان ذيل الآية محل البحث.

(٢) مجمع البيان ذيل الآيات محل البحث

(٣) المصدر السابق.

١٣٩

وينقل العلّامة المجلسيرحمه‌الله في بحار أنواره بسند معتبر عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال : انتهى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام وهو نائم في المسجد قد جمع رملا ووضع رأسه عليه ، فحرّكه برجله ، ثمّ قال : قم يا دابة الله ، فقال رجل من أصحابه : يا رسول الله أنسمّي بعضنا بعضا بهذا الاسم؟

فقال لهم : «لا والله ما هو إلّا له خاصّة وهو الدابة التي ذكر الله في كتابه( وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ ) ثمّ قال : يا علي إذا كان آخر الزمان أخرجك الله في أحسن صورة ، ومعك ميسم تسم به أعداءك»(١) .

وبناء على هذه الرّواية ، فالآية تنطبق على الرجعة وتنسجم هي والآية التي تليها في الرجعة!.

ويقول المرحوم «أبو الفتوح الرازي» في تفسيره في ذيل الآية : طبقا للأخبار التي جاءتنا عن طريق أصحابنا ، فإن دابة الأرض كناية عن المهدي «صاحب الزمانعليه‌السلام »(٢) .

ومع الأخذ بنظر الإعتبار لهذا الحديث والأحاديث المتقدمة ، يمكن أن يستفاد من دابة الأرض مفهوم واسع ، ينطبق على أي إمام عظيم يخرج في آخر الزمان ويميز الحق عن الباطل.

وهذا التعبير الوارد في الرّوايات الاسلامية بأن معه عصا موسىعليه‌السلام التي هي رمز القوة والإنتصار ، وخاتم سليمانعليه‌السلام الذي يرمز للحكومة الإلهية ، قرينة على أن دابة الأرض إنسان نشط فعال فوق العادة!.

كما أنّ ما ورد في الرّوايات الإسلامية من أنّها تسم المؤمن بين عينيه فيكتب مؤمنا ، وتسم الكافر فيكتب كافرا ينسجم والقول بأنّها إنسان!.

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٥٣ ، ص ٥٢ ، خ ٣.

(٢) تفسير الرازي ، ج ٨ ص ٤٢٣.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

كما أن من الطبيعي أن يثير دهشتهم، ويذهلهم.. بعد أن لم يكن بينهم رجالات كفاة، يدركون ألاعيب السياسة، ودهاء ومكر الرجال. وقد عبر عن دهشتهم هذه نفس الخليفة الذي اختاروه، واستعاضوا به عن المأمون. فلقد قال ابن شكلة معاتبا العباسيين:

فـلا جزيت بنو العباس خيراً

على رغمي ولا اغتبطت بري

أتـوني مـهطعين، وقد أتاهم

بـوار الـدهر بالخبر الجلي

وقد ذهل الحواضن عن بنيها

وصـد الثدي عن فمه الصبي

وحـل عصائب الأملاك منها

فـشدت فـي رقاب بني علي

فضجت أن تشد على رؤوس

تـطالبها بـميراث النبي(١)

ب ـ ولكن دهشتهم وغضبهم لا قيمة لهما، في جانب ذهاب الخلافة عنهم بالكلية، وسفك دمائهم.. وقد أوضح لهم ذلك في رسالة منه إليهم، حيث قال: (.. وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى، بعد استحقاق منه لها في نفسه، فما كان ذلك مني إلا أن أكون الحاقن لدمائكم، والذائد عنكم، باستدامة المودة بيننا وبينهم.). والرسالة مذكورة في أواخر هذا الكتاب.

وقريب من ذلك ما جاء في وثيقة العهد، مخاطباً (أهل بيت أمير المؤمنين) حيث قال لهم: (.. راجين عائدته في ذلك (أي في البيعة للرضاعليه‌السلام ) في جمع ألفتكم، وحقن دمائكم، ولم شعثكم، وسد ثغوركم.) فليغضبوا إذن قليلاً، فإنهم سوف يفرحون في نهاية الأمر كثيراً، وذلك عندما يعرفون الأهداف الحقيقية، التي كانت تكمن وراء تلك اللعبة، وأنها لم تكن إلا من أجل الإبقاء عليهم، واستمرار وجودهم في الحكم، والقضاء على أخطر خصومهم، الذين لن يكون الصدام المسلح معهم في صالحهم، إنهم دون شك عندما تؤتي تلك اللعبة ثمارها سوف يشكرونه، ويعترفون له بالجميل، ويعتبرون أنفسهم مدينين له مدى الحياة، ولسوف يذكرون دائما قوله لهم في رسالته المشار إلها آنفاً: (.. فإن تزعموا أني أردت أن يؤول إليهم (يعني للعلويين) عاقبة ومنفعة، فإني في تدبيركم، والنظر لكم، ولعقبكم، ولأبنائكم من بعدكم.).

____________

(١) التنبيه والإشراف ص ٣٠٣، والولاة والقضاة للكندي ص ١٦٨.

١٨١

ومضمون هذه العبارة بعينه ـ تقريباً ـ قد جاء في وثيقة العهد، حيث قال فيها، موجها كلامه للعباسيين، رجاء أن يلتفتوا لما يرمي إليه من لعبته تلك.. فبعد أن طلب منهم بيعة منشرحة لها صدورهم ـ قال ـ: (.. عالمين بما أراد أمير المؤمنين بها، وآثر طاعة الله، والنظر لنفسه، ولكم فيها، شاكرين الله على ما ألهم أمير المؤمنين، من قضاء حقه في رعايتكم، وحرصه على رشدكم، وصلاحكم، راجين عائدته في ذلك في جمع ألفتكم، وحقن دمائكم إلخ. ما قومناه..).

لا شك أنه إذا غضب عليه العباسيون، فإنه يقدر على إرضائهم في المستقبل، (وقد حدث ذلك بالفعل) عندما يطلعهم على حقيقة نواياه، ومخططاته، وأهدافه، ولكنه إذا خسر مركزه، وخلافته، فإنه لا يستطيع ـ فيما بعد ـ أن يستعيدها بسهولة، أو أن يعتاض عنها بشيء ذي بال.

ج ـ: إن من الإنصاف هنا أن نقول: إن اختيار المأمون للرضاعليه‌السلام ولياً للعهد، كان اختياراً موفقاً للغاية، كما سيتضح، وإنه لخير دليل على حنكته ودهائه، وإدراكه للأسباب الحقيقية للمشاكل التي كان يواجهها المأمون، ويعاني منها ما يعاني.

د ـ: إن من الأمور الجديرة بالملاحظة هنا هو أن اختيار المأمون لولي عهده، الذي لم يقبل إلا بعد التهديد بالقتل.. كان ينطوي في بادئ الرأي على مغامرة لا تنسجم مع ما هو معروف عن المأمون من الدهاء والسياسة، إذا ما أخذت مكانة الإمامعليه‌السلام ، ونفوذه بنظر الاعتبار، سيما مع ملاحظة: أنه هو الذي كان يشكل أكبر مصدر للخطر على المأمون، ونظام حكمه، حيث إنه كان يحظى بالاحترام والتقدير، والتأييد الواسع في مختلف الفئات والطبقات في الأمة الإسلامية.

ولكننا إذا دققنا الملاحظة نجد أن المأمون لم يقدم على اختيار الإمام وليا للعهد، إلا وهو على ثقة من استمرار الخلافة في بني أبيه، حيث كان الإمامعليه‌السلام يكبره بـ (٢٢) سنة، وعليه فجعل ولاية العهد لرجل بينه، وبين الخليفة الفعلي هذا الفارق الكبير بالسن، لم يكن يشكل خطراً على الخلافة، إذ لم يكن من المعروف، ولا المألوف أن يعيش ولي العهد ـ وهو بهذه السن المتقدمة ـ لو فرض سلامته من الدسائس والمؤامرات!.. إلى ما بعد الخليفة الفعلي، فإن ذلك من الأمور التي يبعد احتمالها جداً.

١٨٢

ه‍ ـ: ولهذا.. ولأن ما أقدم عليه لم يكن منتظراً من مثله، وهو الذي قتل أخاه من أجل الخلافة والملك، ولأنه من تلك السلالة المعادية لأهل البيتعليهم‌السلام .. احتاج المأمون إلى أن يثبت صدقه، وإخلاصه فيما أقدم عليه، وأن يقنع الناس بصفاء نيته، وسلامة طويته.. فأقدم لذلك. على عدة أعمال:

فأولاً: أقدم على نزع السواد شعار العباسيين، ولبس الخضرة شعار العلويين وكان يقول: إنه لباس أهل الجنة(١) . حتى إذا ما انتهى دور هذه الظاهرة بوفاة الإمام الرضاعليه‌السلام وتمكنه هو من دخول بغداد عاد إلى لبس السواد شعار العباسيين، بعد ثمانية أيام فقط من وصوله، على حد قول أكثر المؤرخين، وقيل: بل بقي ثلاثة أشهر. نزع الخضرة رغم أن العباسيين، تابعوه، وأطاعوه في لبسها، وجعلوا يحرقون كل ملبوس يرونه من السواد، على ما صرح به في مآثر الإنافة، والبداية والنهاية، وغير ذلك.

____________

(١) الإمام الرضا ولي عهد المأمون ص ٦٢ عن ابن الأثير.

١٨٣

وثانياً: ولنفس السبب(١) أيضاً نراه قد ضرب النقود باسم الإمام الرضاعليه‌السلام .

وثالثاً: أقدم للسبب نفسه على تزويج الإمام الرضاعليه‌السلام ابنته، رغم أنها كانت بمثابة حفيدة له، حيث كان يكبرها الإمامعليه‌السلام بحوالي أربعين سنة. كما أنه زوج ابنته الأخرى للإمام الجوادعليه‌السلام الذي كان لا يزال صغيراً، أي ابن سبع سنين(٢) .

ومن يدري: فلعله كان يهدف من تزويجهما أيضاً إلى أن يجعل عليهما رقابة داخلية. وأن يمهد السبيل، لكي تكون الأداة الفعالة، التي

____________

(١) التربية الدينية ص ١٠٠.

(٢) راجع مروج الذهب ج ٣ / ٤٤١، وغيره من كتب التاريخ. وفي الطبري ج ١١ / ١١٠٣، طبع ليدن، والبداية والنهاية ج ١٠ / ٢٦٩: أنهعليه‌السلام لم يدخل بها إلا في سنة ٢١٥ للهجرة، ولكن يظهر من اليعقوبي ج ٢ / ٤٥٤ ط صادر: أنه زوج الجواد ابنته بعد وصوله إلى بغداد، وأمر له بألفي ألف درهم، وقال: إني أحببت أن أكون جداً لامرئ ولده رسول الله، وعلي بن أبي طالب، فلم تلد منه انتهى. وهذا يدل على أنه قد بادر إلى تزويج الجواد بعد قتل أبيه الرضاعليه‌السلام ليبرئ نفسه من الاتهام بقتل الرضاعليه‌السلام ، حيث إن الناس كانوا مقتنعين تقريباً بذلك ومطمئنين إليه، وسيأتي في أواخر الكتاب البحث عن ظروف وملابسات وفاتهعليه‌السلام ويلاحظ: أن كلمة المأمون هذه تشبه إلى حد بعيد كلمة عمر بن الخطاب حينما أراد أن يبرر إصراره غير الطبيعي على الزواج بأم كلثوم بنت عليعليه‌السلام حتى لقد استعمل أسلوباً غير مألوف في التهديد والوعيد من أجل الوصول إلى ما يريد.

١٨٤

يستعملها في القضاء على الإمامعليه‌السلام ، كما كان الحال بالنسبة لولده الإمام الجواد، الذي قتل بالسم الذي دسته إليه ابنة المأمون، بأمر من عمها المعتصم(١) ، فيكون بذلك قد أصاب عدة عصافير بحجر واحد. كما يقولون..

ويجب أن نتذكر هنا: أن المأمون كان قد حاول أن يلعب نفس هذه اللعبة مع وزيره الفضل بن سهل، فألح عليه أن يزوجه ابنته فرفض، وكان الرأي العام معه، فلم يستطع المأمون أن يفعل شيئاً، كما سنشير إليه.. لكن الإمامعليه‌السلام لم يكن له إلى الرفض سبيل، ولم يكن يستطيع أن يصرح بمجبوريته على مثل هكذا زواج. لأن الرأي العام لا يقبل ذلك منه بسهولة.. بل ربما كان ذلك الرفض سبباً في تقليل ثقة الناس بالإمام، حيث يرون حينئذٍ أنه لا مبرر لشكوكه تلك، التي تجاوزت ـ بنظرهم حينئذٍ ـ كل الحدود المألوفة والمعروفة..

وعلى كل حال: فإن كل الشواهد والدلائل تشير إلى أن زواج الإمام من ابنة المأمون كان سياسياً، مفروضاً إلى حد ما.. كما أننا لا نستبعد أن يكون زواج المأمون من بوران بنت الحسن بن سهل سياسياً أيضاً، حيث أراد بذلك أن يوثق علاقاته مع الإيرانيين، ويجعلهم يطمئنون إليه، خصوصاً بعد عودته إلى بغداد، وتركه مروا، وليبرئ نفسه من دم الفضل بن سهل، ويكتسب ثقة أخيه الحسن بن سهل، المعرف بثرائه ونفوذه.

ورابعاً: وللسبب نفسه أيضاً كان يظهر الاحترام والتبجيل للإمامعليه‌السلام ـ وإن كان يضيق عليه في الباطن(٢) ـ وكذلك كانت الحال بالنسبة لإكرامه للعلويين، حيث قد صرح هو نفسه بأن إكرامه لهم ما كان إلا سياسة منه ودهاء، ومن أجل الوصول إلى أهداف سياسية معينة، فقد قال في رسالته للعباسيين، المذكورة في أواخر هذا الكتاب: (.. وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى.. فما كان ذلك مني، إلا أن أكون الحاقن لدمائكم، والذائد عنكم، باستدامة المودة بيننا وبينهم. وهي الطريق أسلكها في إكرام آل أبي طالب، ومواساتهم في الفيء، بيسير ما يصيبهم منه.).

____________

(١) ولعله قد استفاد ذلك من سلفه معاوية، وما جرى له مع الإمام الحسن السبطعليه‌السلام .

(٢) وقد سبقه إلى مثل ذلك سليمان عم الرشيد، عندما أرسل غلمانه، فأخذوا جنازة الكاظمعليه‌السلام من غلمان الرشيد، وطردوهم. ثم نادوا عليه بذلك النداء المعروف، اللائق بشأنه، فمدحه الرشيد، واعتذر إليه، ولام نفسه، حيث لم يأخذ في اعتباره ما يترتب على ما أقدم عليه من ردة فعل لدى الشيعة، ومحبي أهل البيتعليهم‌السلام ، والذين قد لا يكون للرشيد القدرة على مواجهتهم. وتبعه أيضاً المتوكل، حيث جاء بالإمام الهاديعليه‌السلام إلى سامراء، فكان يكرمه في ظاهر الحال، ويبغي له الغوائل في باطن الأمر، فلم يقدره الله عليه.. على ما صرح به ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة ص ٢٢٦، والمجلسي في البحار ج ٥٠ / ٢٠٣، والمفيد في الإرشاد ص ٣١٤.

١٨٥

ويذكرني قول المأمون: (ومواساتهم في الفيء إلخ..) بقول إبراهيم بن العباس الصولي ـ وهو كاتب القوم وعاملهم ـ في الرضا عندما قربه المأمون:

يـمن عـليكم بأموالكم

وتعطون من مئة واحدا

و ـ: إن المأمون ـ ولا شك ـ كان يعلم: أن ذلك كله ـ حتى البيعة للإمام ـ لا يضره ما دام مصمما على التخلص من ولي عهده هذا بأساليبه الخاصة. بعد أن ينفذ ما تبقى من خطته الطويلة الأجل، للحط من الإمام قليلاً قليلاً، حتى يصوره للرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر ـ كما صرح هو نفسه(١) ، وكما صرح بذلك أيضاً عبد الله بن موسى في رسالته إلى المأمون، والتي سوف نوردها في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله، حيث يقول له فيها: (.. وكنت ألطف حيلة منهم. بما استعملته من الرضا بنا، والتستر لمحننا، تختل واحداً فواحداً منا إلخ.)(٢) .

إلى غير ذلك من الشواهد والدلائل، التي لا تكاد تخفى على أي باحث، أو متتبع..

أهداف المأمون من البيعة:

هذا.. وبعد كل الذي قدمناه، فإننا نستطيع في نهاية المطاف: أن نجمل أهداف المأمون، وما كان يتوخاه من أخذ البيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد بعده.. على النحو التالي:

الهدف الأول:

أن يأمن الخطر الذي كان يتهدده من قبل تلك الشخصية الفذة، شخصية الإمام الرضاعليه‌السلام الذي كانت كتبه تنفذ في المشرق والمغرب، وكان الأرضى في الخاصة والعامة ـ باعتراف نفس المأمون ـ، حيث لا يعود باستطاعة الإمامعليه‌السلام أن يدعو الناس إلى الثورة ولا أن يأتي بأية حركة ضد الحكم، بعد أن أصبح هو ولي العهد فيه. ولسوف لا ينظر الناس إلى أية بادرة عدائية منه لنظام الحكم القائم إلا على أنها نكران للجميل، لا مبرر لها، ولا منطق يدعمها.

____________

(١) سنتكلم في القسم الرابع من هذا الكتاب، حول تصريحات المأمون، وخططه بنوع من التفصيل إن شاء الله تعالى.

(٢) مقاتل الطالبيين ص ٦٢٩.

١٨٦

وقد أشار المأمون إلى ذلك، عندما صرح بأنه: خشي إن ترك الإمام على حاله: أن ينفتق عليه منه ما لا يسده، ويأتي منه عليه ما لا يطيقه فأراد أن يجعله ولي عهده ليكون دعاؤه له. كما سيأتي بيانه في فصل: مع بعض خطط المأمون إن شاء الله تعالى.

الهدف الثاني:

أن يجعل هذه الشخصية تحت المراقبة الدقيقة، والواعية من قرب، من الداخل والخارج، وليمهد الطريق من ثم إلى القضاء عليها بأساليبه الخاصة. وقد أشرنا فيما سبق، إلى أننا لا نستبعد أن يكون من جملة ما كان يهدف إليه من وراء تزويجه الإمام بابنته، هو: أن يجعل عليه رقيبا داخليا موثوقا عنده هو، ويطمئن إليه الإمام نفسه.

وإذا ما لاحظنا أيضاً، أن: (المأمون كان يدس الوصائف هدية ليطلعنه على أخبار من شاء..)(١) ، وأنه كان: للمأمون على كل واحد صاحب خبر(٢) . (.. فإننا نعرف السر في إرساله بعض جواريه إلى الإمام الرضاعليه‌السلام بعنوان: هدية.. وقد أرجعها الإمامعليه‌السلام إليه مع عدة أبيات من الشعر، عندما رآها اشمأزت من شيبه)(٣) .

ولم يكتف بذلك، بل وضع على الإمامعليه‌السلام عيوناً آخرين، يخبرونه بكل حركة من حركاته، وكل تصرف من تصرفاته.

فقد كان: (هشام بن إبراهيم الراشدي من أخص الناس عند الرضاعليه‌السلام ، وكانت أمور الرضا تجري من عنده، وعلى يده، ولكنه لما حمل إلى مرو اتصل هشام بن إبراهيم بذي الرئاستين، والمأمون،

____________

(١) تاريخ التمدن الإسلامي ج ٥ جلد ٢ ص ٥٤٩، نقلاً عن: العقد الفريد ج ١ / ١٤٨.

(٢) تاريخ التمدن الإسلامي ج ٤ جلد ٢ ص ٤٤١، نقلاً عن: المسعودي ج ٢ / ٢٢٥، وطبقات الأطباء ج ١ / ١٧١، (٣) البحار ج ٤٩ / ١٦٤، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ١٧٨.

١٨٧

فحظي بذلك عندهما. وكان لا يخفي عليهما شيئاً من أخباره، فولاه المأمون حجابة الرضا. وكان لا يصل إلى الرضا إلا من أحب، وضيق على الرضا، فكان من يقصده من مواليه، لا يصل إليه. وكان لا يتكلم الرضا في داره بشيء إلا أورده هشام على المأمون، وذي الرئاستين..)(١) وعن أبي الصلت: أن الرضا (كان يناظر العلماء، فيغلبهم، فكان الناس يقولون: والله، إنه أولى بالخلافة من المأمون، فكان أهل الأخبار يرفعون ذلك إليه..)(٢) وأخيراً.. فإننا نلاحظ: أن جعفر بن محمد بن الأشعث، يطلب من الإمامعليه‌السلام : أن يحرق كتبه إذا قرأها، مخافة أن تقع في يد غيره، ويقول الإمامعليه‌السلام مطمئناً له: «إني إذا قرأت كتبه إلي أحرقتها.)(٣) إلى غير ذلك من الدلائل والشواهد الكثيرة، التي لا نرى أننا بحاجة إلى تتبعها واستقصائها.

الهدف الثالث:

أن يجعل الإمامعليه‌السلام قريباً منه، ليتمكن من عزله عن الحياة الاجتماعية، وإبعاده عن الناس، وإبعاد الناس عنه، حتى لا يؤثر عليهم بما يمتلكه من قوة الشخصية، وبما منحه الله إياه من العلم، والعقل، والحكمة. ويريد أن يحد من ذلك النفوذ له، الذي كان يتزايد باستمرار، سواء في خراسان، أو في غيرها.

وأيضاً.. أن لا يمارس الإمام أي نشاط لا يكون له هو دور رئيس فيه، وخصوصاً بالنسبة لرجال الدولة، إذ قد يتمكن الإمامعليه‌السلام من قلوبهم، ومن ثم من تدبير شيء ضد النظام القائم. دون أن يشعر أحد.

____________

(١) البحار ج ٤٩ / ١٣٩، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ٧٧، ٧٨، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ١٥٣.

(٢) شرح ميمية أبي فراس ص ٢٠٤، والبحار ج ٤٩ / ٢٩٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢٣٩.

(٣) كشف الغمة ج ٣ / ٩٢، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ١٨٧، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢١٩.

١٨٨

والأهم من ذلك كله:

أنه كان يريد عزل الإمامعليه‌السلام عن شيعته، ومواليه، وقطع صلاتهم به، وليقطع بذلك آمالهم، ويشتت شملهم، ويمنع الإمام من أن يصدر إليهم من أوامره، ما قد يكون له أثر كبير على مستقبل المأمون، وخلافته.

وبذلك يكون أيضاً قد مهد الطريق للقضاء على الإمامعليه‌السلام نهائياً، والتخلص منه بالطريقة المناسبة، وفي الوقت المناسب.

وقد قال المأمون إنه: (يحتاج لأن يضع من الإمام قليلاً قليلا، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر. ثم يدبر فيه بما يحسم عنه مواد بلائه.) كما سيأتي.

وقد قرأنا آنفاً أنه: (كان لا يصل إلى الرضا إلا من أحب ـ أي هشام بن إبراهيم ـ وضيق على الرضا، فكان من يقصده من مواليه، لا يصل إليه).

كما أن الرضا نفسه قد كتب في رسالته منه إلى أحمد بن محمد البيزنطي، يقول:((وأما ما طلبت من الإذن علي، فإن الدخول إلي صعب، وهؤلاء قد ضيقوا علي في ذلك الآن، فلست تقدر الآن، وسيكون إن شاء الله...)) (١) .

____________

(١) رجال المامقاني ج ١ / ٧٩، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢١٢.

١٨٩

كما أننا نرى أنه عندما وصل إلى القادسية، وهو في طريقه إلى مرو، يقول لأحمد بن محمد بن أبي نصر: (إكتر لي حجرة لها بابان: باب إلى الخان، وباب إلى خارج، فإنه أستر عليك..)(١) .

ولعل ذلك هو السبب في طلبه من الإمامعليه‌السلام ، ومن رجاء بن أبي الضحاك: أن يمرا عن طريق البصرة، فالأهواز إلخ.. ما سيأتي: ولا نستبعد أيضاً أن يكون عزل الإمام عن الناس، هو أحد أسباب إرجاع الإمام الرضا عن صلاة العيد مرتين(٢) . وللسبب نفسه أيضاً فرق عنه تلامذته، عندما أخبر أنه يقوم بمهمة التدريس، وحتى لا يظهر علم الإمام، وفضله.. إلى آخر ما هنالك من صفحات تاريخ المأمون السوداء.

الهدف الرابع:

إن المأمون في نفس الوقت الذي يريد فيه أن يتخذ من الإمام مجناً يتقي به سخط الناس على بني العباس، ويحوط نفسه من نقمة الجمهور. يريد أيضاً، أن يستغل عاطفة الناس ومحبتهم لأهل البيت ـ والتي زادت ونمت بعد الحالة التي خلفتها الحرب بينه وبين أخيه ـ ويوظف ذلك في صالحه هو، وصالح الحكم العباسي بشكل عام.

أي أنه كان يهدف من وراء لعبته تلك، والتي كان يحسب أنها سوف تكون رابحة جداً ـ إلى أن يحصل على قاعدة شعبية، واسعة، وقوية. حيث كان يعتقد ويقدر: أن نظام حكمه سوف ينال من التأييد، والقوة، والنفوذ، بمقدار ما كان لتلك الشخصية من التأييد، والنفوذ والقوة.. وإذا ما استطاع في نهاية الأمر أن يقضي عليها، فإنه يكون قد أمن خطراً عظيماً، كان يتهدده من قبلها، بمقدار ما كان لها من العظمة والخطر.

____________

(١) بصائر الدرجات ص ٢٤٦، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ١٥٥.

(٢) هذه القضية معروفة ومشهورة، فراجع: الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص ٢٤٦، ٢٤٧، ومطالب السؤول، لمحمد بن طلحة الشافعي، طبعة حجرية ص ٨٥، وإثبات الوصية للمسعودي ص ٢٠٥، ومعادن الحكمة ص، ١٨٠، ١٨١، ونور الأبصار ص ١٤٣، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٥، وإعلام الورى ص ٣٢٢، ٣٢٣، وروضة الواعظين ج ١ / ٢٧١، ٢٧٢، وأصول الكافي ج ١ / ٤٨٩، ٤٩٠، والبحار ج ٤٩ / ١٣٥، ١٣٦، ١٧١، ١٧٢، وعيون أخبار الرضا، وإرشاد المفيد، وأعيان الشيعة، وكشف الغمة، وغير ذلك.

ولسوف يأتي فصل: خطة الإمام، وغيره من الفصول، ما يتعلق بذلك إن شاء الله تعالى.

١٩٠

إن المأمون قد اختار لولاية عهده رجلاً يحظى بالاحترام والتقدير من جميع الفئات والطبقات، وله من النفوذ، والكلمة المسموعة، ما لم يكن لكل أحد سواه في ذلك الحين. بل لقد كان الكثيرون يرون: أن الخلافة حق له، وينظرون إلى الهيئة الحاكمة على أنها ظالمة له وغاصبة لذلك الحق:

يقول الدكتور الشيبي، وهو يتحدث عن الرضاعليه‌السلام : (إن المأمون جعله ولي عهده، لمحاولة تألف قلوب الناس ضد قومه العباسيين، الذين حاربوه، ونصروا أخاه..)(١) .

ويقول:. (.. وقد كان الرضا من قوة الشخصية، وسمو المكانة: أن التف حوله المرجئة، وأهل الحديث، والزيدية، ثم عادوا إلى مذاهبهم بعد موته.)(٢) .

وكذلك هو يقول ـ وهو مهم فيما نحن بصدده ـ: (.. إن الرضا لم يكن بعد توليته العهد إمام الشيعة وحدهم، وإنما مر بنا:

____________

(١) الصلة بين التصوف والتشيع ص ٢٢٣، ٢٢٤.. ونحن لا نوافق الدكتور الشيبي على أنه كان يريد التقوي بذلك على العباسيين، كما اتضح، وسيتضح إن شاء الله.

(٢) المصدر السابق ص ٢١٤.

١٩١

أن الناس، حتى أهل السنة، والزيدية، وسائر الطوائف الشيعية المتناحرة.. قد اجتمعت على إمامته، وإتباعه، والالتفاف حوله.)(١) .

وهذا كما ترى تصريح واضح منه بهدف المأمون، الذي نحن بصدد بيانه.

ويقول محمد بن طلحة الشافعي مشيراً إلى ذلك، في معرض حديثه عن الإمام الرضاعليه‌السلام : (.. نما إيمانه، وعلا شأنه، وارتفع مكانه، وكثر أعوانه، وظهر برهانه، حتى أدخله الخليفة المأمون محل مهجته، وأشركه في مملكته.)(٢) .

وتقدم أنهعليه‌السلام كان ـ باعتراف المأمون ـ (الأرضى في الخاصة والعامة) وأن كتبه كانت تنفذ في المشرق والمغرب، حتى إن البيعة له بولاية العهد، لم تزده في النعمة شيئاً.. وأنه كان له من قوة الشخصية ما دفع أحد أعدائه لأن يقول في حقه للمأمون: (هذا الذي بجنبك والله صنم يعبد دون الله) إلى آخر ما هنالك، مما قدمنا (غيضاً من فيض منه).

كما وتقدم أيضاً قول المأمون في رسالته للعباسيين: (.. وإن تزعموا: أني أردت أن يؤول إليهم عاقبة ومنفعة ـ يعني للعلويين ـ، فإني في تدبيركم، والنظر لكم. ولعقبكم، وأبنائكم من بعدكم..)، وأيضاً عبارته التي كتبها المأمون بخط يده في وثيقة العهد، فلا نعيد.

وهكذا.. فما على العباسيين إلا أن ينعموا بالاً، ويقروا عيناً، فإن المأمون كان يدبر الأمر لصالحهم ومن أجلهم.. وليس كما يقوله الدكتور الشيبي، وغيره من أنه أراد أن يحصل على التأييد الواسع، ليقابل العباسيين، ويقف في وجههم.

____________

(١) المصدر السابق ص ٢٥٦.

(٢) مطالب السؤول ص ٨٤، ٨٥. وقريب منه ما في: الإتحاف بحب الأشراف ص ٥٨.

١٩٢

إشارة هامة لا بد منها:

هذا.. ويحسن بنا أن نشير هنا: إلى ما قاله ابن المعتز في الروافض. وإلقاء نظرة فاحصة على السبب الذي جعلهم مستحقين لهذه الحملة الشعواء منه.. فهو يقول:

لـقد قـال الروافض في علي

مـقالاً جـامعاً كـفراً وموقا

زنـادقة أرادت كـسب مـال

مـن الـجهال فـاتخذته سوقا

وأشـهـد أنـه مـنهم بـريّ

وكـان بـأن يـقتلهم خـليقا

كـما كـذبوا عـليه وهو حي

فـأطعم نـاره مـنهم فـريقا

وكـانوا بالرضا شغفوا زماناً

وقـد نفخوا به في الناس بوقا

وقـالـوا: إنـه رب قـديرا

فكم لصق السواد به لصوقا(١)

وهذه الأبيات تعبر عن مدى صدمة ابن المعتز، وخيبة أمله في الروافض، الذين ضايقه جداً امتداد دعوتهم في طول البلاد الإسلامية، وعرضها. وخصوصاً في زمن الرضا. والذي لم يجد شيئاً يستطيع أن ينتقص به إمامهم الرضاعليه‌السلام سوى أنه كان أسود اللون، وأن الروافض قالوا: إنه رب قدير.. وسر حنقه هذا على الروافض ليس هو إلا عقيدتهم في عليعليه‌السلام ـ التي كان يراها خطراً حقيقياً على القضية العباسية ـ والتي تتلخص بأنهعليه‌السلام : يستحق الخلافة بالنص. وهذه العقيدة والمقالة هي التي جعلتهم يستحقون من ابن المعتز أن يجمع لهم بين وصفي الكفر والزندقة، واتهامه لهم، بأنهم يقصدون بذلك كسب المال من الجهال. ثم يتهمهم بأنهم قد قالوا بنفس هذه المقالة في علي الرضاعليه‌السلام ، فقالوا: إنه الإمام الثابت إمامته بالنص، وشهروا بذلك، حتى علم به عامة الناس، ونفخوا به في الناس بوقاً.. وحتى لقد التف حوله أهل الحديث، والزيدية. بل والمرجئة، وأهل السنة، على حد تعبير الشيبي، وقالوا: بإمامة أبيه، ثم بإمامته.

____________

(١) ديوان ابن المعتز ص ٣٠٠، ٣٠١، والأدب في ظل التشيع ص ٢٠٦.

١٩٣

وبديهي.. أن لا يرتاح ابن المعتز، الذي كان في صميم الأسرة العباسية لهذا الامتداد للتشيع، ولمقالة الروافض، حيث إن ذلك يعني أن الأئمة الذين هم بين الرضا، وعلي أمير المؤمنينعليهما‌السلام ، كلهم تثبت إمامتهم بالنص.

ولقد بلغ من حنقه عليهم، بسبب ذلك الامتداد الواسع لعقيدتهم ـ وخصوصاً في زمان الرضا ـ أن دفعه إلى أن يخلط عن عمد، أو عن غير عمد بين عقيدة الروافض هذه، وبين عقيدة الغلاة، حيث أضاف إلى مقالة الروافض تلك مقالة أخرى، هي: القول بإلوهية عليعليه‌السلام .

وإذا كنا واثقين من أن الفرق الشاسع بين عقيدة الروافض، وعقيدة الغلاة، لم يكن ليخفى على مثل ابن المعتز، بل على من هو أقل منه بمراتب، فإننا سوف ندرك بما لا مجال معه للشك: أن يقصد بهذا الخلط المتعمد: التشنيع على الروافض، وتهجين عقيدتهم، إذ أنه يقصد ب‍ـ (الروافض)، ـ حسبما هو صريح كلامه ـ خصوص القائلين بإمامة الرضا، وإمامة علي أمير المؤمنين، ومن بينهما. وهو يعلم وكل أحد يعلم: أنه ليس فيهم من يقول بإلوهية أحدهما، أو إلوهيتهما، أو إلوهية غيرهما من أئمة أهل البيتعليهم‌السلام .

وأخيراً.. فإن قول واعتراف ابن المعتز هذا ـ وهو من نعلم ـ لخير دليل على مدى تحرر الشيعة في زمن الرضا، واتساع نفوذهم، وعلى أن شخصية الرضاعليه‌السلام ، كانت قد استقطبت قطاعاً واسعاً، إن لم نقل: أنه القطاع الأكبر من الأمة الإسلامية، في طول البلاد وعرضها، في تلك الفترة من الزمن، وقد تقدم بعض ما يدل على ذلك، فلا نعيد.

الهدف الخامس:

هذا.. ونستطيع أن نقول أيضاً: إنه كان يريد أن يقوي من دعائم حكمه، حيث قد أصبح الحكم يمتلك شخصية تعنو لها الجباه بالرضا والتسليم، ولقد كان الحكم بأمس الحاجة إلى شخصية من هذا القبيل. في مقابل أولئك المتزلفين القاصرين، الذين كانوا يتجمعون حول الحكم العباسي، طلبا للشهرة، وطمعا بالمال، والذين لم يعد يخفى على أحد حالهم ومآلهم.. وعلى الأخص بعد أن رأى فشلهم في صد حملات علماء الملل الأخرى، والذين كانوا قد ضاعفوا نشاطاتهم، عندما رأوا ضعف الدولة، وتمزقها، وتفرقها إلى جماعات وأحزاب.

نعم.. لقد كان الحكم يحتاج إلى العلماء الأكفاء، والأحرار في تفكيرهم، وفي نظرتهم الواعية للإنسان والحياة، ولم يعد بحاجة إلى المتزلفين، والجامدين، والانهزاميين، ولهذا نراه يستبعد أصحاب الحديث الجامدين، الذين كان أكثرهم في الجهة المناوئة له، يشدون من أزرها، ويقيمون أودها..

١٩٤

ويقرب المعتزلة: كبشر المريسي، وأبي الهذيل العلاف وأضرابهما. ولكن الشخصية العلمية، التي لا يشك أحد في تفوقها على جميع أهل الأرض علماً وزهدا، وورعاً وفضلاً الخ. كانت منحصرة في الإمام الرضاعليه‌السلام ، باعتراف من نفس المأمون، كما قدمنا، ولهذا فقد كان الحكم يحتاج إليها أكثر من احتياجه لأية شخصية أخرى، مهما بلغت.

الهدف السادس:

ولعل من الأهمية بمكان بالنسبة إليه، أنه يكون في تلك الفترة المليئة بالقلاقل والثورات، قد أتى الأمة بمفاجئة مثيرة، من شأنها أن تصرف أنظار الناس عن حقيقة ما يجري، وما يحدث، وعن واقع المشاكل التي كان يعاني الحكم والأمة منها، وما أكثرها.

وقد عبر إبراهيم بن المهدي، عن دهشة بني العباس في أبياته المتقدمة. حتى لقد ذهل ـ على حد قوله ـ الحواضن عن بنيها! وصد الثدي عن فمه الصبي!

وبعد هذا. فلسنا بحاجة إلى كبير عناء، لإدراك مدى دهشة غيرهم: ممن رأوا وسمعوا بمعاملة العباسيين لأبناء عمهم. ولسوف ندرك مدى عظمة دهشتهم تلك إذا ما لاحظنا: أنهم كانوا سياسياً أقل وعيا وتجربة من مثل إبراهيم بن المهدي، الذي عاش في أحضان الخلافة. وكان بمرأى ومسمع من ألاعيب السياسة، ومكر الرجال.

الهدف السابع:

طبيعي بعد هذا: أنه قد أصبح يستطيع أن يدعي، بل لقد ادعى بالفعل ـ على ما في وثيقة العهد ـ: أن جميع تصرفاته، وأعماله، لم يكن يهدف من ورائها، إلا الخير للأمة، ومصلحة المسلمين، وحتى قتله أخاه، لم يكن من أجل الحكم، والرياسة، بقدر ما كان من أجل خير المسلمين، والمصلحة العامة، يدل على ذلك: أنه عندما رأى أن خير الأمة، إنما هو في إخراج الخلافة من بني العباس كلية، وهم الذين ضحوا الكثير في سبيلها، وقدموا من أجلها ما يعلمه كل أحد ـ عندما رأى ذلك ـ وأن ذلك لا يكون إلا بإخراجها إلى ألد أعدائهم، سارع إلى ذلك، بكل رضى نفس، وطيبة خاطر.. وليكون بذلك قد كفر عن جريمته النكراء، والتي كانت أحد أسباب زعزعة ثقة الناس به، ألا وهي: قتله أخاه الأمين، العزيز على العباسيين والعرب. وليكون بذلك، قد ربط الأمة بالخلافة، وكسب ثقتها فيها، وشد قلوب الناس، وأنظارهم إليها، حيث أصبح باستطاعتهم أن ينتظروا منها أن تقيم العدل، وترفع الظلم، وأن تكون معهم، وفي خدمتهم، وتعيش قضاياهم. وليكون لها من ثم من المكانة والتقدير، وما يجعلها في منأى ومأمن من كل من يتحينون بها الفرص، ويبغون لها الغوائل.

١٩٥

ويدل على ذلك ـ عدا عما ورد في وثيقة العهد ـ ما ورد من أن المأمون كتب إلى عبد الجبار بن سعد المساحقي، عامله على المدينة: أن اخطب الناس، وادعهم إلى بيعة الرضا، فقام خطيبا، فقال:

(يا أيها الناس، هذا الأمر الذي كنتم فيه ترغبون، والعدل الذي كنتم تنتظرون، والخير الذي كنتم ترجون، هذا علي بن موسى، بن جعفر، بن محمد، بن علي، بن الحسين، بن علي بن أبي طالب:

ســتـة آبــاؤهـم مــا هــم

من أفضل من يشرب صوب الغمام(١)

وقد أكد ذلك بحسن اختياره، إذ قد اختار هذه الشخصية، التي تمثل ـ في الحقيقة ـ أمل الأمة، ورجاءها، في حاضرها، ومستقبلها، وتكون النتيجة ـ بعد ذلك ـ أنه يكون قد حصل على حماية لكل تصرف يقدم عليه في المستقبل، وكل عمل يقوم به.. مهما كان غريباً، ومهما كان غير معقول، فإن على الأمة أن تعتبره صحيحاً وسليماً، لا بد منه، ولا غنى عنه، وإن لم تعرف ظروفه، ودوافعه الحقيقية. بل وحتى مع علمها بها، فإن عليها أن تؤول ما يقبل التأويل، وإلا. فإن عليها أن تدفن رأسها في التراب، وتتناسى ما تعلم. أو أن تعتبر نفسها قاصرة عن إدراك المصالح الحقيقية الكامنة في تلك التصرفات الغريبة، وأن ما أدركته ـ ولو كان حقاً ـ لا واقع له، ولا حقيقة وراءه. ويدل على ذلك بشكل واضح أبيات ابن المعتز الآتية ص ٣٠٥/٣٠٦ يقول ابن المعتز:

وأعـطاكم الـمأمون حـق خلافة

لـنا حـقها لـكنه جـاد بـالدنيا

لـيعلمكم أن الـتي قـد حرصتموا

عليها وغودرتم على أثرها صرعى

يـسير عـليه فـقدها غـير مكثر

كـما ينبغي للصالحين ذوي التقوى

____________

(١) العقد الفريد ج ٣ / ٣٩٢، طبع مصطفى محمد بمصر سنة ١٩٣٥ و (ما) في البيت زائدة.. ولا يخفى ما في البيت، وقد أثبتناه، كما وجدناه.

١٩٦

وعلى كل حال، فإنه يتفرع على ما ذكرناه:

أولاً: إنه بعد أن أقدم على ما أقدم عليه، فليس من المنطقي بعد للعرب أن يسخطوا عليه، بسبب معاملة أبيه، أو أخيه، وسائر أسلافه لهم، فإن المرء بما كسب هو، لا بما كسب أهله، ولا تزر وازرة وزر أخرى.

وكيف يجوز لهم أن يغضبوا بعد، وهو قد أرجع الخلافة إليهم، بل وإلى أعرق بيت فيهم. وعرفهم عملا: أنه لا يريد لهم، ولغيرهم، إلا الصلاح والخير..

وليس لهم بعد حق في أن ينقموا عليه معاملته القاسية لهم، ولا قتله أخاه، ولا أن يزعجهم، ويخيفهم تقريبه للإيرانيين، ولا جعله مقر حكمه مروا إلى آخر ما هنالك.. ما دام أن الخلافة قد عادت إليهم، على حسب ما يشتهون، وعلى وفق ما يريدون.

ومن هنا.. فلا يجب أن نعجب كثيراً، حين نراهم: قد تلقوا بيعة الرضا بنفوس طيبة، وقلوب رضية. حتى أهل بغداد نرى أنهم قد تقبلوها إلى حد كبير، فقد نص المؤرخون ـ ومنهم الطبري، وابن مسكويه ـ على أن بعضهم وافق، والبعض الآخر ـ وهم أنصار بني العباس ـ رفض. وهذا يدل دلالة واضحة: على أن بغداد، معقل العباسيين الأول، كانت تتعاطف مع العلويين إلى درجة كبيرة..

١٩٧

بل ونص المؤرخون، على أن: إبراهيم بن المهدي، المعروف بابن شكلة، الذي بويع له في بغداد غضبا من تولية الرضا للعهد: لم يستطع أن يسيطر إلا على بغداد، والكوفة والسواد(١) ، بل وحتى الكوفة قد استمرت الحرب قائمة فيها على ساق وقدم أشهراً عديدة بين أنصار المأمون، وعليهم الخضرة، وأنصار العباسيين وعليهم السواد(٢) .

وثانياً: وأما الإيرانيون عامة، والخراسانيون خاصة، والمعروفون بتشيعهم للعلويين، فقد ضمن المأمون استمرار تأييدهم له، وثقتهم به، بعد أن حقق لهم غاية أمانيهم. وأغلى أحلامهم، وأثبت لهم عملاً، حبه لمن يحبون، ووده لمن يودون.. وأن لا ميزة عنده لعباسي على غيره، ولا لعربي على غيره، وأن الذي يسعى إليه، هو ـ فقط خير الأمة، ومصلحتها، بجميع فئاتها، ومختلف طبقاتها، وأجناسها.

ملاحظة هامة:

إن من الجدير بالملاحظة هنا: أن الرضاعليه‌السلام كان قد قدم إلى إيران قبل ذلك. والظاهر أنه قدمها في حدود سنة ١٩٣ ه‍. أي في الوقت المناسب لوفاة الرشيد، فقد ذكر الرضي المعاصر للمجلسي في كتابه: ضيافة الإخوان: أن علياً الرضاعليه‌السلام كان مستخفياً في قزوين في دار داوود بن سليمان الغازي أبي عبد الله، ولداوود نسخة يرويها عن الرضاعليه‌السلام ، وأهل قزوين يروونها عن داوود، كإسحاق بن محمد، وعلي بن مهرويه(٣) .

وقال الرافعي في التدوين: (وقد اشتهر اجتياز علي بن موسى الرضا بقزوين. ويقال: إنه كان مستخفيا في دار داوود بن سليمان الغازي، روى عنه النسخة المعروفة، وروى عنه إسحاق بن محمد، وعلي بن مهرويه، وغيرهما.

____________

(١) راجع البداية والنهاية ج ١٠ / ٢٤٨، وغيره من كتب التاريخ. وزاد أحمد شلبي في كتابه: التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ج ٣ / ١٠٥ ـ زاد على ذلك: المدائن أيضاً.

(٢) راجع: الكامل لابن الأثير ج ٥ / ١٩٠، والبداية والنهاية ج ١٠ / ٢٤٨، وغير ذلك.

(٣) راجع كتاب: ضيافة الإخوان مخطوط في مكتبة المدرسة الفيضية في قم، في ترجمة أبي عبد الله القزويني، وعلي بن مهرويه القزويني.

١٩٨

قال الخليل: وابنه المدفون في مقبرة قزوين، يقال: إنه كان ابن سنتين، أو أصغر)(١) انتهى كلام الرافعي.

والمراد بالخليل في كلامه، هو الخليل بن عبد الله بن أحمد بن إبراهيم الخليلي، القزويني، وهو الحافظ المشهور، مصنف كتاب الإرشاد، وكتاب تاريخ قزوين، الذي فرغ من تأليفه حوالي سنة أربعمائة هجرية، وكانت وفاته سنة ٤٤٦ ه‍.

الهدف الثامن:

لقد كان من نتائج اختياره الإمام، والبيعة له بولاية العهد ـ التي كان يتوقعها ـ: أن أخمد ثورات العلويين في جميع الولايات والأمصار.

ولعله لم تقم أية ثورة علوية ضد المأمون ـ بعد البيعة للرضا، سوى ثورة عبد الرحمان بن أحمد في اليمن. وكان سببها ـ باتفاق المؤرخين ـ هو فقط: ظلم الولاة وجورهم، وقد رجع إلى الطاعة بمجرد الوعد بتلبية مطالبه.

بل لا بد لنا أن نضيف إلى ذلك:

أ ـ : إنه ليس فقط أخمد ثوراتهم. بل لقد حصل على ثقة الكثيرين منهم، ومن والاهم، وشايعهم. والخراسانيون منهم، ويشير المأمون إلى هذا المعنى في رسالته، التي أرسلها إلى عبد الله بن موسى، حيث يقول:

(.. ما ظننت أحداً من آل أبي طالب يخافني، بعد ما عملته بالرضا) والرسالة مذكورة في أواخر هذا الكتاب.. كما أنه كتب للعباسيين في بغداد في رسالته، التي أشرنا إليها غير مرة، يقول لهم: إنه يريد بذلك أن يحقن دماءهم، ويذود عنهم، باستدامة المودة بنيهم، وبين العلويين.

ب: بل ونزيد هنا على ما تقدم: أنه قد بايعه منهم ومن أشياعهم من لم يكن بعد قد بايعه، وهم قسم كبير جداً، بل لقد بايعه أكثر المسلمين، ودانوا له بالطاعة، بعد أن كانوا مخالفين له ممتنعين عن بيعته، حسبما قدمناه.

وهذه دون شك هي إحدى أمنيات المأمون، بل هي أجل أمنياته وأغلاها.

ج: قال ابن القفطي في معرض حديثه عن عبد الله بن سهل ابن نوبخت:

(.. هذا منجم مأموني، كبير القدر في صناعته، يعلم المأمون قدره في ذلك. وكان لا يقدم إلا عالما مشهودا له، بعد الاختيار..

____________

(١) التدوين قسم ٢ ورقة ٢٣٥ مخطوط في مكتبة دار التبليغ الإسلامي في قم، ترجمة علي الرضا..

١٩٩

وكان المأمون قد رأى آل أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب متخشين، متخفين، من خوف المنصور، ومن جاء بعده من بني العباس. ورأى العوام قد خفيت عنهم أمورهم بالاختفاء، فظنوا ما يظنونه بالأنبياء، ويتفوهون بما يخرجهم عن الشريعة، من التغالي.

فأراد معاقبة العامة على هذا الفعل.

ثم فكر: أنه إذا فعل هذا بالعوام زادهم إغراء به، فنظر نظراً دقيقاً، وقال: لو ظهروا للناس، ورأوا فسق الفاسق منهم، وظلم الظالم، لسقطوا من أعينهم، ولانقلب شكرهم لهم ذماً.

ثم قال: إذا أمرناهم بالظهور خافوا، واستتروا، وظنوا بنا سوءاً، وإنما الرأي: أن نقدم أحدهم، ويظهر لهم إماماً، فإذا رأوا هذا أنسوا، وظهروا، وأظهروا ما عندهم من الحركات الموجودة في الآدميين، فيحقق للعوام حالهم، وما هم عليه، مما خفي بالاختفاء، فإذا تحقق ذلك أزلت من أقمته، ورددت الأمر إلى حالته الأولى. وقوي هذا الرأي عنده، وكتم باطنه عن خواصه.. وأظهر للفضل ابن سهل: أنه يريد أن يقيم إماماً من آل أمير المؤمنين علي (صلوات الله عليه).

وفكر هو وهو: فيمن يصلح، فوقع إجماعهما على الرضا، فأخذ الفضل بن سهل في تقرير ذلك. وترتيبه وهو لا يعلم باطن الأمر. وأخذ في اختيار وقت لبيعة الرضا، فاختار طالع السرطان، وفيه المشتري الخ)(١) .

ثم ذكر أن عبد الله بن سهل أراد اختبار المأمون، فأخبره أن البيعة لا تتم إذا وقعت في ذلك الوقت، فهدده المأمون بالقتل إن لم تقع البيعة في ذلك الوقت بالذات، لأنه سوف يعتبر أنه هو الذي أفسد عليه ما كان دبره الخ..

وابن القفطي هنا، لا يبدو أنه يعتبر الإمام الرضاعليه‌السلام من أولئك الذين يريد المأمون إظهار تفاهاتهم للناس، ولكنه يوجه نظره إلى بقية العلويين في ذلك.. ونحن إن كنا لا نستبعد من المأمون ما ذكره ابن القفطي هنا لكننا لا نستطيع أن نعتبر أن هذا كان من الأسباب الرئيسية لدى المأمون، إذ لا نعتقد أن المأمون كان من السذاجة بحيث يجهل أن بقية العلويين لم يكونوا ـ إجمالاً ـ على الحال التي كان يريد أن يظهرهم عليها للناس، وأنهم كانوا أكثر تديناً والتزاماً من أي فئة أخرى على الإطلاق..

____________

(١) تاريخ الحكماء ص ٢٢١، ٢٢٢.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592