الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل13%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 174948 / تحميل: 6003
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

بدلا من أن تأتيهم بدليل ، هددتهم بعذاب الله الّذي شمل من سبقهم من الكفّار ، وأنذرتهم بعقابه المخزي فوجهت الخطاب للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلة :( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ) .

فأنتم تعترفون أن هذه الوعود تلقّاها أسلافكم ، فلم يكترثوا بها ، ولم يروا ضررا فهلّا سرتم في الأرض قليلا ، لتشهدوا آثار هؤلاء المجرمين المنكرين للتوحيد والمعاد ، وخاصة الآثار في المناطق القريبة من الحجاز لتنظروا أن الأمر ليس كما تزعمون.

ولكن سيحين موعدكم فلا تعجلوا فأنتم كأولئك ستواجهون المصير المحتوم والعاقبة المخزية إذا لم تصلحوا أنفسكم!.

والقرآن دعا مرارا إلى السير في الأرض ، ومشاهدة آثار الماضين ، والمدن الخاوية الخربة التي حاق بأهلها سوء العذاب ، وقصور الظالمين المتداعية ، والقبور الدارسة والعظام النخرة ، والأموال التي خلفها أصحابها المغرورون!!

إنّ مطالعة تلك الآثار التي تعبّر عن التأريخ الحيّ لأولئك الماضين ، توقظ القلوب الغافلة! وتبصّرها بالحق والواقع كذلك ، فإن مشاهدة واحد من هذه الآثار يترك في القلب أثرا لا تتركه مطالعة عدّة كتب تأريخية!.

(كان لنا بحث مفصل في هذا المجال ذيل الآية ١٣٧ من سورة آل عمران).

ممّا ينبغي ملاحظته أنّه جاء في هذه الآية التعبير بـ «المجرمين» بدلا من «المكذبين» وهو إشارة إلى أن تكذيبهم لم يكن لأنّهم أخطأوا في التحقيق ، بل أساسه العناد واللجاجة. وتلوثهم بأنواع الجرائم!

وحيث أن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يشفق عليهم لإنكارهم ، ويحزن لعنادهم ، ويحترق قلبه من أجلهم ، إذ كان حريصا على هدايتهم ، وكان يواجه مؤامراتهم أيضا فإنّ الآية التالية تسري عن قلب النّبي فتقول له :( وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ) ولا تقلق من مؤامراتهم( وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ) .

١٢١

إلّا أنّ هؤلاء المنكرين المعاندين ، بدلا من أن يأخذوا إنذار النّبي المشفق عليهم مأخذ الجد فيتعظوا بوعظه ويستر شدوا بنصحه ، أخذوا يسخرون منه( وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) .

ومع أنّ المخاطب هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّ الموضوع ذكر بصيغة الجمع «إن كنتم صادقين» لأنّ المؤمنين الصادقين كانوا قد ضموا صوتهم إلى صوت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا فهم مخاطبون بما خوطب به كذلك!

وهنا يردّ القرآن على استهزائهم وسخريتهم بلهجة موضوعية ، فيقول مخاطبا نبيّه :( قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ ) .

فعلام تستعجلون؟! وعلام تستصغرون عقاب الله؟! أفلا ترحمون أنفسكم؟! ترى ، هل عذاب الله ضرب من الهزل أو المزاح؟ فعسى أن يأخذكم الله بعذابه لكلامكم هذا فيهلككم فلم هذا العناد واللجاجة؟!

«ردف» فعل مشتق من (ردف) على وزن (حرف) ومعناه كون الشيء خلف الشيء الآخر ، ولذا يطلق على من يركب الفرس خلف صاحبه (رديف) كما يطلق الرديف على الأشخاص أو الأشياء التي تقف صفا واحدا بعضها خلف بعض.

وهناك كلام عن المراد من العذاب الذي كانوا يستعجلون به ، فقيل : هو ما أصابهم يوم بدر من هزيمة كبرى ، إذ صرع من عتاتهم سبعون رجلا وأسر سبعون رجلا!.

كما ويحتمل أنّ المراد منه العقاب العام الذي دفع أخيرا ، ببركة وجود النّبي إذ كان رحمة للعالمين ، والآية (٣٣) من سورة الأنفال شاهدة عليه( وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ) .

والتعبير بـ «عسى» لعله على لسان النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وحتى لو كان من قبل الله سبحانه ـ فعلى خلاف ما يتصوّره بعضهم ، فإنّه ليس فيه أي إشكال إذ هو إشارة إلى وجود مقدمات الشيء ومقتضياته ، مع إمكان أن تقترن هذه المقدمات

١٢٢

بالمانع ، فلا تصل إلى النتيجة النهائية (فلاحظوا بدقّة)!.

ثمّ يتحدث القرآن في الآية التالية عن هذه الحقيقة : وهي أنّ الله إذا لم يعجل في عقابكم ، فذلك بفضله وبرحمته ، حيث يمهل عباده الإمهال الكافي لإصلاح أنفسهم ، فيقول :( وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ ) .

وإذا كانوا يتصورون أن تأخير العقاب لعدم علم الله سبحانه لما يدور في خلدهم من نيات سيئة وأفكار ضالة ، فهم في غاية الخطأ :( وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ ) (١) .

فهو يعلم خفاياهم بمقدار ما يعلم من ظاهرهم وما يعلنون ، والغيب والشهادة عنده سيّان.

فهذه المفاهيم هي من نتاج علمنا المحدود ، وإلّا فهي في مقابل غير المحدود تفقد معانيها وتتلاشى حدودها.

وهنا ذكر «علم الله بما تكنّ القلوب» مقدما على علمه بالأفعال الخارجية ، ولعل ذلك هو بسبب أهمية النيات والإرادة! كما يمكن أن يكون التقديم لأنّ الأفعال الخارجية ناشئة عن النيات الداخلية ، والعلم بالعلة مقدم على العلم بالمعلول!.

ثمّ يضيف القرآن قائلا : إنّه ليس علم الله منحصرا بما تكن القلوب وما تعلن ، بل علمه واسع مطلق!( وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ ) (٢) .

وواضح أن «الغائبة» لها معنى واسع ، فهي تحمل في مفهومها كلّ ما خفي عن حسّنا وغاب وتشمل أعمال العباد الخفية والنيات الباطنية ، وأسرار

__________________

(١) «تكنّ» مأخوذ من كنّ على وزن جنّ ، وهذا الفعل يطلق على ما تستر فيه الأشياء وتحفظ ، وهنا كناية عن ما يخطر في قلوب الكفّار من خواطر وأفكار عدوانية!

(٢) «الغائبة» اسم فاعل مشتق يدل على الوصف ، وكما يعتقد بعضهم «التاء» ليست في هذه الكلمة للتأنيث ، بل هي إشارة للأشياء المخفية ، فهي للمبالغة في الخفاء إلا أنّه لا مانع من أن نحتمل أن التاء للتأنيث ، وأن موصوفها محذوف ، وتقديره : وما من خصلة غائبة. أو أشياء غائبة ، والله العالم

١٢٣

السماوات والأرض وقيام الناس للحساب يوم القيامة ، زمان نزول العذاب ، وأمثال ذلك. ولا دليل على أن نفسّر «الغائبة» هنا بواحد من هذه الأمور المذكورة آنفا ـ كما ذهب إليه بعض المفسّرين ـ.

والمراد بـ «الكتاب المبين» هو اللوح المحفوظ ، وعلم الله الذي لا نهاية له ، وقد بحثنا هذا الموضوع في ذيل الآية (٥٩) من سورة الأنعام.

* * *

ملاحظات

التحقيق في الآيات المتقدمة يدل على أن منكري المعاد من أجل أن يتنصّلوا من عبء الإيمان بالقيامة والمسؤوليات الناشئة عنه ، كانوا يتوسلون بثلاثة طرق :

١ ـ استبعاد العودة للحياة بعد أن يغدو الإنسان ترابا ، لاعتقادهم أنّ التراب لا يمكن أن يكون أساسا للحياة!

٢ ـ قدم هذه العقيدة وعدم الجدة فيها.

٣ ـ عدم نزول العذاب على منكري المعاد لأنّه لو كان حقّا أن يبتلى المنكرون بالعذاب فلم لا ينزل عليهم!

وقد ترك القرآن الجواب على الإشكالين الأوّل والثاني ، لأنّنا نرى بأم أعيننا أنّ التراب مصدر الحياة وأساسها ، وكنا في البداية ترابا ثمّ صرنا أحياء!

وكون الشيء قديما لا ينقص من أهميّته أيضا لأنّ قوانين هذا العالم الأصيلة ثابتة ومستقرة من الأزل حتى الأبد وفي الأصول الفلسفية والمسائل الرياضيّة والعلوم الأخر أصول كثيرة ثابتة فهل كون امتناع اجتماع النقيضين قديما ، أو جدول ضرب فيثاغورس قديما ، دليلا على ضعفه؟! وإذا رأينا العدل حسنا والظلم سيئا منذ القدم ، ولا يزال كذلك ، فهل هو دليل على بطلانه فكثيرا

١٢٤

ما يتفق أن القدم دليل على الأصالة.

وأمّا في شأن الإشكال الثالث ، فيجيب القرآن : ألّا تعجلوا فعدم نزول العذاب من لطف الله ، فهو يمهلكم ولا يعذبكم عاجلا ، لكن إذا جاء عذابه فلا مفرّ منه.

* * *

١٢٥

الآيات

( إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١) )

التّفسير

عمى القلوب لا يقبلون دعوتك!

كان الكلام في الآيات السابقة عن المبدأ والمعاد أمّا في الآيات ـ محل البحث ـ فيقع الكلام على مسألة النبوّة ، وحقّانيّة القرآن ، ليكتمل بهما هذا البحث!.

ومن جهة أخرى فقد كان الكلام في الآيات السابقة عن علم الله الواسع غير المحدود ، وفي الآيات محل البحث مزيد تفصيل في هذا الشأن.

أضف إلى ذلك أنّ الخطاب كان فيما سبق من الآيات موجها للمشركين ، وهنا يوجه الخطاب نحو الكفار الآخرين كاليهود واختلافاتهم!.

١٢٦

فتقول الآيات أوّلا :( إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) .

لقد اختلف بنو إسرائيل فيما بينهم في مسائل كثيرة! فقد اختلفوا في شأن مريم وعيسىعليهما‌السلام . وفي شأن النّبي الذي بشّرت به «التّوراة» من هو؟

كما أنّهم اختلفوا في ما بينهم في كثير من المسائل الدينية والأحكام الشرعية فجاء القرآن موضحا هذه الأمور بجلاء ، وقال : إن المسيحعليه‌السلام عرف نفسه بصراحة فـ( قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ) (١) .

وقال أيضا : إنّ المسيح ولد من دون أب ، وليس أمره محالا و( إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ) (٢) .

وأمّا النّبي الذي بشرت به التّوراة فتنطبق أوصافه على نبي الإسلام محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا تنطبق على أحد سواه!.

وعلى كل حال فإنّ واحدة من مهامّ القرآن هي مواجهة الاختلافات المتولّدة من اختلاط الخرافات وحقائق التعليمات التي جاء بها الأنبياء وكل نبي مسئول أن يحسم الاختلافات الناشئة من التحريف والخلط بين الحقّ والباطل وحيث أن هذا العبء لا يمكن أن ينهض به رجل أمي لم يسبق له أن يقرأ ، وفي محيط جاهلي ، فيتّضح أنّه مرسل من قبل الله!

ولما كانت مواجهة الاختلافات والوقوف بوجهها مدعاة للهدى والرحمة ، فإنّ الآية التالية تشير إلى هذا «الأصل الكلي» وتقول :( وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ) .

أجل ، إنّه هدى ورحمة من حيث حسم الخلافات ومبارزة الخرافات ، هدى ورحمة لأنّ دليل حقانيته كامن في عظمة محتواه!

__________________

(١) سورة مريم ، الآية ٣٠.

(٢) آل عمران ، الآية ٥٩.

١٢٧

هدى ورحمة لأنّه يهدي إلى سبيل الحق ويدل عليه!.

وذكر «المؤمنين» هنا خاصّة هو لما ذكرناه آنفا من أنّه ما لم تتوفر مرحلة من الإيمان في الإنسان ، وهي مرحلة الاستعداد لقبول الحق والتسليم لله ، فإنّه لا يستطيع الاستفادة من هذا المصدر الإلهي الفيّاض.

وحيث أنّ جماعة من بني إسرائيل وقفت بوجه القرآن والحقائق الواردة فيه ، لأوامر الله ، فإنّ الآية التالية تقول في شأنهم :( إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ) .

وبالرغم من أنّ هذه الآية لم تصرّح بأن قضاء الله بينهم سيكون يوم القيامة

إلّا أنّه بقرينة آيتين أخريين تتحدثان عن اختلافات بني إسرائيل ، وأن الله يقضي بينهم يوم القيامة ، يتّضح أنّ مراد الآية محل البحث هو هذا المعنى ذاته.

ففي الآية (١٧) من سورة الجاثية يقول سبحانه :( إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) .

كما ورد في ذيل الآية (٩٣) من سورة يونس ، هذا النص المتقدم نفسه.

ووصف الله «بالعزيز» و «العليم» إشارة إلى ما ينبغي توفره في القاضي من هاتين الصفتين ، «العلم» بصورة كافية و «القدرة» على إجراء الحكم ، والله سبحانه أعلم من الجميع وأعزّهم.

وهذا الكلام إضافة إلى أنّه يبيّن عظمة القرآن ، وهو تهديد لبني إسرائيل ، فهو في الوقت ذاته تسلية عن قلب النّبي وتسرية عنه ، لذا فالآية التالية تقول :( فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ) .

توكل على الله العزيز الذي لا يغلب ، والعليم بكل شيء توكل على الله الذي أنزل القرآن على عظمته فجعله عندك ، فتوكل عليه ولا تقلق من المشركين والمعاندين ، لأنّه يرعاك و( إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ) .

وهنا ينقدح هذا السؤال ، وهو : إذا كان القرآن حقّا مبينا فلما ذا خالفوه؟

١٢٨

فالآيات التالية تجيب على هذا السؤال ، فتقول : إذا كان أولئك لا يذعنون للحق المبين ، ولا يؤثر في قلوبهم هذا الكلام المتين ، فلا مجال للعجب لـ( إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى ) (١) .

بل تسمع الأحياء الذين يبحثون عن الحق وأرواحهم توّاقة إليه ، أمّا إحياء الموتى ـ أو موتى الأحياء ـ لتعصبهم وعنادهم واستمرارهم على الذنب ، فلا ترهق فكرك ونفسك من أجلهم وحتى لو كانوا احياء فإنهم صمّ لا يسمعون فلا يمكنهم أن يسمعوا صوتك ، وخاصة إذا أداروا إليك ظهورهم وابتعدوا عنك( وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ) .

ولعلهم لو كانوا عندك وكنت تصرخ فيهم لبلغت بعض أمواج صوتك إلى مسامعهم ، إلّا أنّهم مع صممهم يبتعدون عنك.

كما أنّهم لو كانوا مع هذه الحال يبصرون بأعينهم لاهتدوا إلى الصراط المستقيم ، ولو ببعض العلامات ، إلّا أنّهم عمي( وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ ) .

وهكذا فقد أوصدت جميع طرق إدراك الحقيقة بوجوههم ، فقلوبهم ميتة ، وآذانهم صمّ موقرة ، وأعينهم عمي! فأنت يا رسول الله( إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ ) ويشعرون في أنفسهم بالإذعان للحق.

وفي الحقيقة إن الآيتين ـ آنفتي الذكر ـ تتحدثان عن مجموعة واضحة من عوامل المعرفة وارتباط الإنسان بالعالم الخارجي وهي :

«حس التشخيص» ، والعقل اليقظ ، في مقابل القلب الميت.

«الأذن الصاغية» لاكتساب الكلام الحق ، عن طريق السمع.

__________________

(١) قال جماعة من المفسّرين : إن هذه الجملة والجمل الأخر التي تليها بمثابة الدليل على لزوم توكل النّبي على الله وعدم يأسه مع أن الظاهر أنّها جواب على سؤال يثار في شأن القرآن وكونه هو «الحق المبين».

١٢٩

«والعين الباصرة» لرؤية وجه الحق ووجه الباطل ، عن طريق البصر.

إلّا أن العناد واللجاجة والتقليد الأعمى والذنب كلها تعمي العين التي بها يرى الإنسان الحقيقة ، وتوفر سمعه ، وتميت قلبه.

ومثل هؤلاء المعاندين المذنبين ، لو جاء جميع الأنبياء والأولياء والملائكة لهدايتهم ، لما أثّروا فيهم شيئا ، لأنّ ارتباطهم بالعالم الخارجي مقطوع ، وهم غارقون في «مستنقع ذواتهم» فحسب!.

ونظير هذا التعبير ورد في سورة البقرة وسورة الروم وسور أخر من القرآن (وكان لنا بحث آخر في نعمة «وسائل المعرفة» في تفسير سورة النحل ذيل الآية ٧٨.

ومرّة أخرى نذكّر بهذه اللطيفة وهي أنّ المراد من الإيمان والتسليم ليس معناه أنّهم قبلوا حقائق الدين من قبل ، فيكون من باب تحصيل الحاصل ، بل الهدف من ذلك أن الإنسان إذا لم يكن فيه شوق للحق وخضوع لأمر الله ، فإنه لا يصغي إلى كلام النّبي أبدا.

* * *

بحثان

١ ـ أسباب التوكل

«التوكل» مأخوذ من «الوكالة» ، وهو في منطق القرآن يعني الاعتماد على الله وجعله وليّا وكيلا ، وعدم القلق والخوف من كثرة المشاكل والموانع وعظم حجمها ، بسبب التوكل على الله!

وهذا الأمر واحد من دلائل الإيمان المهمّة ومدعاة للنصر والتوفيق!.

والطريف أنّ الآيات المتقدمة عدّت التوكل في شيئين :

أحدهما : القدرة والعلم لمن يتوكل عليه الإنسان.

١٣٠

والآخر : وضوح الطريق الذي اختاره الإنسان!.

وفي الحقيقة فإنّ القرآن يقول : لا مدعاة للضعف والخوف والوحشة ، فأنت تعوّل على الله العزيز الذي لا يقهر ، والعليم الخبير بكل شيء هذا من جهة ثمّ إنّك على الطريق الواضح والحق اللائح من جهة أخرى فالمدافع عن الحق المبين علام يخاف؟!

وإذا ما رأيت جماعة خالفتك فلا تحزن أبدا فهي لا تملك عيونا باصرة ، ولا آذانا صاغية ، ولا قلوبا حيّة! وهي خارجة أساسا عن طريق الهداية والتبليغ وإنّما يلتفّ حولك طلاب الحق وعشاق الله ، والعطاشى إلى العدل حيث يخفّون نحو منبع القرآن الزلال ، ليرتووا من نميره العذب.

٢ ـ الموت والحياة في منطق القرآن!

هناك كثير من الألفاظ لها مداليل ومعان شتّى بحسب النظرات المختلفة ، ومن هذه الألفاظ ، لفظا الحياة والموت. «فالحياة» بالنظرة المادية تعني الحياة الطبيعة «الفيزيائية» فحسب ، أي متى كان القلب ينبض ، والدم يجرى في العروق إلى أعضاء الجسم كافة ، وكانت الحركة وعملية الجذب والدفع في البدن ، كان البدن حيا أمّا إذا سكنت هذه الحركة ، فتدل على «الموت» القطعي الذي يعرف بالاختبار الدقيق خلال عدّة لحظات!.

إلّا أنّ النظرة القرآنية تختلف عن النظرة المادية ، فكثير من الناس يعدون أحياء بحسب النظرة المادية ـ إلّا أنّهم أموات بحسب النظرة القرآنية كأولئك الذين أشارت إليهم الآيات المتقدمة وعلى العكس منهم الشهداء ، فهم بحسب الظاهر أموات ، لكنّهم بالمنطق القرآني أحياء خالدون!

والسبب في هذا الاختلاف بين النظرتين ، هو أنّ الإسلام بالإضافة إلى أنّه يعدّ معيار الحياة الإنسانية وشخصية الإنسان في القيم الروحانية ، فهو يرى في

١٣١

إيصال النفع الى الآخرين وعدمه معيار الوجود الحياة وعدمها في الإنسان.

فالإنسان الذي يرى بحسب الظاهر حيّا ، إلّا أنّه غارق في الشهوات ، فلا يسمع صرخة لمظلوم ، ولا صوتا لمنادي الحق ، ولا ينظر بعين بصيرة فيرى آثار الله في خلقه ، ولا يفكر ولو لحظة واحدة في مستقبله وماضيه فمثل هذا الإنسان ميّت في منطق القرآن. أمّا الذين ما تزال آثارهم تملأ الدنيا بعد موتهم ، وأفكارهم أسوة وقدوة للآخرين ، فهؤلاء أحياء خالدون(١) .

وبغض النظر عن هذه الأمور كلّها فالإسلام ـ حسب ما لدينا من المدارك ـ يؤمن بالحياة البرزخية للناس والعجب أن بعض الوهابيين الجهلة يصرون على نفي أي نوع من أنواع الحياة والعلم بعد الوفاة ، حتى للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويمنعون التوسل به ، لأنّه بزعمهم ميّت ولا أثر للميت ، والأعجب من ذلك أنّهم يستندون إلى الآيات ـ محل البحث ـ لتأييد دعواهم!!

في حين أنّ بعضهم الآخر يصرّح على أنّ للنبيّ نوعا من الحياة البرزخية ، حياة أشرف من حياة الشهداء المصرّح بها في القرآن ، وقال : إنّه يسمع سلام المسلّم عليه(٢) .

والرّوايات في هذا الشأن كثيرة وافرة عن الفريقين الشيعة والسنة ، أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة المعصومين يسمعون من يسلّم عليهم من بعيد أو قريب ، ويردّون عليه سلامهم ، كما أنّ أعمال الأمّة تعرض عليهم(٣) .

ونقرأ في حديث ورد في صحيح البخاري في قصّة معركة بدر أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مع بعض أصحابه وقف على «القليب» وقد ألقيت فيه أجساد قتلى المشركين ، فناداهم بأسمائهم ، وقال : هلّا أطعتم الله ورسوله ، لقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ،

__________________

(١) كان لنا بحث مفصل «في الموت والحياة الروحيين» في ذيل الآية (٢٤) من سورة الأنفال.

(٢) الرسالة الثّانية من الهديّة السنية لمحمّد بن عبد الوهاب ، ص ٤١.

(٣) لمزيد من الإيضاح يراجع كتاب كشف الارتياب ص ١٠٩ للسيد محسن الأمين العاملي.

١٣٢

فهل وجدتم ما وعد ربّكم حقا فقال عمر : يا رسول الله ، تكلم أجسادا لا روح فيها فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : «والذي نفس محمّد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم»(١) .

ونقرأ في قصّة الجمل عن الأصبغ بن نباتة ، أنّه لما انهزم أصحاب الجمل ركب عليعليه‌السلام بغلة رسول الله الشهباء وسار في القتلى يستعرضهم فمرّ بـ «كعب بن سور» قاضي البصرة وهو قتيل ، فقال : أجلسوه ، فأجلس. فقال : ويلمّك يا كعب بن سور ، لقد كان لك علم لو نفعك ولكن الشيطان أضلك فأزلّك فعجلك إلى النّار(٢) .

ونقرأ في نهج البلاغة ـ أيضا ـ أنّهعليه‌السلام بعد رجوعه من صفين بلغ مقبرة كانت خلف سور الكوفة ، فخاطب الموتى فقال كلاما في تقلب الدنيا ثمّ قال : «هذا ما عندنا فما خبر ما عندكم ثمّ أضافعليه‌السلام أمّا لو أذن لهم في الكلام لأخبروكم أن خير الزاد التقوى»(٣) .

وهذا بنفسه دليل على أنّهم يسمعون إلّا أنّهم لا يسمح لهم بالردّ ولو أذن لهم لأجابوا!.

فجميع هذه التعبيرات «إشارة» إلى حياة الإنسان البرزخية.

* * *

__________________

(١) صحيح البخاري ، ج ٥ ، ص ٩٧ ، باب قتل أبي جهل.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، ج ١ ، ص ٢٤٨.

(٣) نهج البلاغة ـ الكلمات القصار رقم ١٣٠.

١٣٣

الآيات

( وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (٨٢) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (٨٥) )

التّفسير

لمّا كانت الآية السابقة تتحدث عن استعجال الكفّار بالعذاب ونزوله ، أو تحقق القيامة وانتظارهم بفارغ الصبر ووقوع ذلك ، وكانوا يقولون للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) . ومتى يوم القيامة؟! فإنّ الآيات ـ محل البحث ـ تشير إلى بعض الحوادث التي تقع بين يدي القيامة ، وتجسد عاقبة المنكرين الوخيمة ، فتقول :( وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ ) .

والمراد من قوله تعالى :( وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ ) هو صدور أمر الله وما وعدهم من العقاب والجزاء أو وقوع يوم القيامة وحضور علائمها ، العلائم التي يخضع لها كل من يراها ، ويستسلم لأمر الله ، ويحصل عنده اليقين بأنّ وعد الله حق ، وأن

١٣٤

القيامة قد اقتربت وحينئذ توصد أبواب التوبة لأنّ الإيمان في مثل هذه الظروف يقع اضطرارا.

وبالطبع فإنّ هذين المعنيين متلازمان لأنّ اقتراب القيامة يقترن بنزول العذاب ومجازاة الكافرين.

ولكن ما هي «دابة الأرض»؟ وما مصداقها؟ وأية مهمّة تحملها؟ فالقرآن يجمل ولا يفصل ، وكأنّه يريد أن يترك الموضوع مجملا غامضا ، ليكون الكلام فيه أكثر تأثيرا وباعثا على التهويل.

فيقول مختصرا : يخرج الله موجودا يتحرك «أو دابة من الأرض» بين يدي القيامة ، فيتكلم مع الناس ويقول : «إنّ الناس كانوا لا يؤمنون بآيات الله».

وبتعبير آخر : إنّ مهمّة هذه الدابة هي تفريق الصفوف وتمييز المنافقين والمنكرين من المؤمنين.

وبديهي أن المنكرين يرجعون إلى أنفسهم عند مشاهدة هذه الآيات ، ويندمون على ما سلف منهم وعلى أيّامهم المظلمة ، ولكن ما عسى أن ينفعهم الندم وأبواب التوبة موصدة؟!

وهناك مسائل كثيرة ومطالب وفيرة في خصوصيات «دابة الأرض» وجزئياتها وصفاتها في الرّوايات الإسلامية الواردة في كتب الفريقين ، الشيعة وأهل السنة ، وسنتعرض إليها ذيل هذه الآيات في باب البحوث إن شاء الله.

ثمّ تشير الآيات إلى علامة أخرى من علامات القيامة ، فتقول :( وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ ) .

«والحشر» معناه إخراج جماعة ما من مقرّها والسير بها نحو ميدان الحرب أو غيره! و «الفوج» ، كما يقول الراغب في المفردات : الجماعة التي تتحرك بسرعة.

وأمّا «يوزعون» فمعناه حبس الجماعة وإيقافها حتى يلحق الآخر منها بالأوّل وهذا التعبير يطلق ـ عادة ـ على الجماعات الكثيرة ، نظير ما قرأنا في

١٣٥

شأن جنود سليمان في هذه السورة ذاتها.

فبناء على هذا يستفاد من مجموع الآية أن يوما سوف سيأتي يحشر الله فيه من كل أمّة جماعة ، ويهيؤهم للحساب والجزاء على أعمالهم!.

والكثير من الأعاظم يعتقدون بأنّ هذه الآية تشير إلى مسألة الرجعة وعودة جماعة من الصالحين وجماعة من الطالحين إلى هذه الدنيا قبيل يوم القيامة لأنّ التعبير لو كان عن القيامة لم يكن قوله «نحشر من كل أمّة فوجا» صحيحا إذ في القيامة يكون الحشر عاما للجميع ، كما جاء في الآية (٤٧) من سورة الكهف قوله تعالى :( وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ) .

والشاهد الآخر على أنّ الآيات هذه تتحدث عمّا يقع قبيل القيامة ، هو أن الآيات التي قبلها كانت تتحدث عن الحوادث التي تقع قبل القيامة ، والآيات التي تلي الآيات محل البحث تتحدث عن الحوادث التي تقع قبيل القيامة أيضا فمن البعيد أن تتحدث الآيات السابقة واللاحقة عن ما يقع قبل القيامة ، وهذه الآيات محل البحث ـ فقط ـ تتحدث عن ما يقع في يوم القيامة.

وهناك روايات كثيرة في هذا الصدد عن مسألة الرجعة سنتناولها في البحوث القادمة إن شاء الله ، إلّا أن المفسّرين من أهل السنة يعتقدون أن الآية ناظرة إلى يوم القيامة ، وقالوا : إنّ المراد بالفوج هو إشارة إلى رؤساء الجماعات وأئمتهم! وأمّا عدم الانسجام بين الآيات الذي يحدثه هذا التّفسير ، فقالوا : إنّ الآيات بحكم التأخير والتقديم ، فكأن الآية (٨٣) حقّها أن تقع بعد الآية (٨٥).

إلّا أننا نعلم أن تفسير الفوج بالمعنى الآنف الذكر خلاف الظاهر ، وكذلك عدم انسجام الآيات بأنّها في حكم التأخير والتقديم هو خلاف الظاهر أيضا.

( حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (١) .

__________________

(١) جملة (أمّا ذا كنتم تعملون) جملة استفهاميّة و (أما) مركبة من (أم) التي هي حرف عطف وتأتي بعد همزة

١٣٦

وقائل هذا الكلام هو الله سبحانه ، والمراد من «الآيات» هي المعاجز التي يأتي بها الأنبياء ، أو أوامر الله ، أو الجميع!.

والمراد من جملة( وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً ) هو أنّكم بدون أن تتحققوا وتطّلعوا على حقيقة الأمر ، كذبتم الآيات ، وهذا منتهى الجهل وعدم المعرفة أن ينكر الإنسان شيئا دون أن يتحقق منه!.

وفي الحقيقة فإنّهم يسألون عن شيئين.

الأوّل : تكذيبهم دون أن يفحصوا عن الحق.

والآخر : عن أعمالهم التي كانوا يقومون بها.

وإذا كانت الآية ـ آنفة الذكر ـ تتحدث عن القيامة ، فمفهومها واضح. وأمّا إذا كانت تشير إلى مسألة الرّجعة ـ كما يقتضيه انسجام الآيات ـ فهي إشارة إلى أنّه عند ما يرجع إلى هذه الدنيا طائفة من المجرمين فولي الأمر الذي يمثل الله ، وهو خليفته في الأرض ، يتحقق منهم ويسألهم عمّا فعلوه في حياتهم ، ثمّ يجازيهم حسب ما يستحقون من الجزاء الدنيوي ، ولا يمنع هذا من عذاب الآخرة ، كما أن كثيرا من المجرمين ينالون الحدّ الشرعي في هذه الدنيا ، ويستوفون جزاءهم ، فإذا لم يتوبوا فإنّ ما يستحقون من العقاب ينتظرهم في الآخرة.

وبديهي أنّ هؤلاء المجرمين لا يستطيعون الإجابة على أيّ من هذين السؤالين ، لذلك فإنّ الآية الأخيرة من الآيات محل البحث تضيف قائلة :( وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ ) .

وهذا القول أو العذاب دنيوي ، إذا فسّرنا الآية بالرجعة ، أو هو عذاب الآخرة إذا فسّرنا الآية بيوم القيامة.

* * *

__________________

الاستفهام عادة ، وتسمّى بالمعادلة ، و (ما) الاستفهامية. ومعنى الآية : أو أيّ شيء كنتم تعملون.

١٣٧

بحوث

١ ـ ما هي دابة الأرض؟!

«الدّابة» معناها ما يدب ويتحرك ، و «الأرض» معناها واضح وخلافا لما يتصوّره بعضهم بأنّ الدّابة تطلق على غير الإنسان بل الحق أنّها ذات مفهوم واسع يشمل الإنسان أيضا ، كما نقرأ في الآية (٦) من سورة هود( وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها ) ، وفي الآية (٦١) من سورة النحل( وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ ) .

وفي الآية (٢٢) من سورة الأنفال( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ) .

إلّا أنّه ـ كما ذكرنا في تفسير الآية آنفا ـ فإنّ القرآن لا يفصّل في بيان هذه الكلمة وإنّما يذكرها على إجمالها ، فكأنّ البناء كان على الإجمال والإبهام ، والوصف الوحيد المذكور لها بأنّها تكلم الناس وتميز المؤمن من غير المؤمن إلّا أنّ هناك كلاما طويلا في الرّوايات الإسلامية وأقوال المفسّرين في الشأن ، ويمكن تلخيص مجموعها في تفسيرين :

١ ـ فطائفة تعتقد بأنّ هذه «الدابة» حيوان غير مألوف ومن غير جنس الإنسان له شكل عجيب ، ونقلوا له عجائب شبيهة بما يخرق العادات والمعاجز!.

هذه الدابة تخرج في آخر الزمان ، وتتحدث عن الإيمان والكفر ، وتفضح المنافقين وتسمهم بميسمها!

٢ ـ وطائفة تعتقد ـ حسب الرّوايات الإسلامية الواردة في هذا الشأن ـ أنّها إنسان فوق العادة ـ إنسان متحرك فعّال! وواحد من أفعاله الأصلية تمييز المؤمنين عن المنافقين ووسمهم حتى أنّه يستفاد من بعض الرّوايات أن معه عصا موسىعليه‌السلام وخاتم سليمان ونحن نعرف أن عصا موسى رمز للقدرة والإعجاز ، وخاتم سليمان رمز للحكومة والسلطة الإلهية! فإذا هذا الإنسان

١٣٨

رجل قويّ ذو سلطة وهيمنة!

وقد جاء في حديث عن «حذيفة بن اليمان» عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في وصف هذه الدابة قوله : «لا يدركها طالب ولا يفوتها هارب ، فتسم المؤمن بين عينيه ويكتب بين عينيه مؤمن ، وتسم الكافر بين عينيه ويكتب بين عينيه كافر ، ومعها عصا موسى وخاتم سليمان»(١) .

وقد طبق هذا المفهوم في روايات كثيرة على «أمير المؤمنين»عليه‌السلام ففي تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّ رجلا قال لعمار بن ياسر : في القرآن آية شغلت بالي وجعلتني في شك قال عمار : أيّة آية هي؟ قال : آية( وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ ) فيقول عمار : والله لا أجلس على الأرض ولا آكل طعاما ولا أشرب ماء حتى أريكها. ثمّ يأخذه عمار إلى الإمام علي ، وهو يأكل طعاما فلما بصر به الإمام علي ناداه فجاء عمار عنده وأكل معه!.

فتعجب الرجل ولم يصدق هذا المشهد ، إذ كان عمار قد حلف ووعده أن لا يجلس على الأرض ولا يأكل ولا يشرب حتى يريه دابة الأرض ، فكأنّه نسي وعده!.

فلمّا قام عمار وودّع عليّا قال له الرجل : عجيب منك أن تقسم بالله أن لا تأكل ولا تشرب ولا تجلس على الأرض ، حتى تريني دابة الأرض! فقال له عمار : أريتكها لو كنت تعقل(٢) .

ونظير هذا المعنى في تفسير العياشي ، إلّا أنّه ورد اسم «أبي ذر» مكان عمار(٣) .

__________________

(١) مجمع البيان ذيل الآية محل البحث.

(٢) مجمع البيان ذيل الآيات محل البحث

(٣) المصدر السابق.

١٣٩

وينقل العلّامة المجلسيرحمه‌الله في بحار أنواره بسند معتبر عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال : انتهى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام وهو نائم في المسجد قد جمع رملا ووضع رأسه عليه ، فحرّكه برجله ، ثمّ قال : قم يا دابة الله ، فقال رجل من أصحابه : يا رسول الله أنسمّي بعضنا بعضا بهذا الاسم؟

فقال لهم : «لا والله ما هو إلّا له خاصّة وهو الدابة التي ذكر الله في كتابه( وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ ) ثمّ قال : يا علي إذا كان آخر الزمان أخرجك الله في أحسن صورة ، ومعك ميسم تسم به أعداءك»(١) .

وبناء على هذه الرّواية ، فالآية تنطبق على الرجعة وتنسجم هي والآية التي تليها في الرجعة!.

ويقول المرحوم «أبو الفتوح الرازي» في تفسيره في ذيل الآية : طبقا للأخبار التي جاءتنا عن طريق أصحابنا ، فإن دابة الأرض كناية عن المهدي «صاحب الزمانعليه‌السلام »(٢) .

ومع الأخذ بنظر الإعتبار لهذا الحديث والأحاديث المتقدمة ، يمكن أن يستفاد من دابة الأرض مفهوم واسع ، ينطبق على أي إمام عظيم يخرج في آخر الزمان ويميز الحق عن الباطل.

وهذا التعبير الوارد في الرّوايات الاسلامية بأن معه عصا موسىعليه‌السلام التي هي رمز القوة والإنتصار ، وخاتم سليمانعليه‌السلام الذي يرمز للحكومة الإلهية ، قرينة على أن دابة الأرض إنسان نشط فعال فوق العادة!.

كما أنّ ما ورد في الرّوايات الإسلامية من أنّها تسم المؤمن بين عينيه فيكتب مؤمنا ، وتسم الكافر فيكتب كافرا ينسجم والقول بأنّها إنسان!.

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٥٣ ، ص ٥٢ ، خ ٣.

(٢) تفسير الرازي ، ج ٨ ص ٤٢٣.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

الآيات

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً (٦٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (٧١) )

التّفسير

بما ذا رموا موسىعليه‌السلام واتّهموه؟

بعد البحوث التي مرّت في الآيات السابقة حول وجوب احترام مقام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وترك كلّ ما يؤذيه والابتعاد عنه ، فقد وجّهت هذه الآيات الخطاب للمؤمنين ، وقالت :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً ) .

إنّ إختيار موسىعليه‌السلام من جميع الأنبياء الذين طالما أوذوا ، بسبب أنّ المؤذين من بني إسرائيل قد آذوه أكثر من أي نبي آخر ، إضافة إلى أنّ بعض أنواع الأذى التي رآها كانت تشبه أذى المنافقين لنبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وهناك بحث بين المفسّرين في المراد من إيذاء موسىعليه‌السلام هنا؟ ولماذا ذكره

٣٦١

القرآن بشكل مبهم؟ وقد ذكروا احتمالات عديدة في تفسير الآية ، ومن جملتها :

١ ـ إنّ موسى وهارونعليهما‌السلام قد ذهبا إلى جبل ـ طبق رواية ـ وودّع هارون الحياة ، فأشاع المرجفون من بني إسرائيل أنّ موسىعليه‌السلام قد تسبّب في موته ، فأبان الله سبحانه حقيقة الأمر ، وأسقط ما في يد المرجفين.

٢ ـ كما أوردنا مفصّلا في ذيل الآيات الأخيرة من سورة القصص ، فإنّ قارون المحتال أراد أن يتملّص من قانون الزكاة ، ولا يؤدّي حقوق الضعفاء والفقراء ، فعمد إلى بغيّ واتّفق معها على أن تقوم بين الناس وتتّهم موسىعليه‌السلام بأنّه زنى بها ، إلّا أنّ هذه الخطّة قد فشلت بلطف الله سبحانه ، بل وشهدت تلك المرأة بطهارة موسىعليه‌السلام وعفته ، وبما أراده منها قارون.

٣ ـ إنّ جماعة من الأعداء اتّهموا موسىعليه‌السلام بالسحر والجنون والافتراء على الله ، ولكن الله تعالى برّأه منها بالمعجزات الباهرات.

٤ ـ إنّ جماعة من جهّال بني إسرائيل قد اتّهموه بأنّ فيه بعض العيوب الجسمية كالبرص وغيره ، لأنّه كان إذا أراد أن يغتسل ويستحمّ لا يتعرّى أمام أحد مطلقا ، فأراد أن يغتسل يوما بمنأى عن الناس ، فوضع ثيابه على حجر هناك ، فتدحرج الحجر بثيابه ، فرأى بنو إسرائيل جسمه ، فوجدوه مبرّأ من العيوب.

٥ ـ كان المعذرون من بني إسرائيل أحد عوامل إيذاء موسىعليه‌السلام ، فقد كانوا يطلبون تارة أن يريهم اللهعزوجل «جهرة» ، واخرى يقولون : إنّ نوعا واحدا من الطعام ـ وهو «المنّ والسلوى» ـ لا يناسبنا ، وثالثة يقولون : إنّنا غير مستعدّين للدخول إلى بيت المقدس ومحاربة «العمالقة». اذهب أنت وربّك فقاتلا ، وافتحاه لنا لندخله بعد ذلك!

الّا أنّ الأقرب لمعنى الآية ، هو أنّها بصدد بيان حكم كلّي عام جامع ، لأنّ بني إسرائيل قد آذوا موسىعليه‌السلام من جوانب متعدّدة ذلك الأذى الذي لم يكن يختلف عن أذى بعض أهل المدينة (لنبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله ) كإشاعة بعض الأكاذيب واتّهام زوج النّبي

٣٦٢

بتهم باطلة ، وقد مرّ تفصيلها في تفسير سورة النور ـ ذيل الآيات ١١ ـ ٢٠ ـ والاعتراضات التي اعترضوا بها على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في زواجه بزينب ، وأنواع الأذى والمضايقات التي كانوا يضايقونه بها في بيته ، أو مناداته بأسلوب خال من الأدب والأخلاق ، وغير ذلك.

وأمّا الاتّهام بالسحر والجنون وأمثال ذلك ، أو العيوب البدنية ، فإنّها وإن اتّهم موسى بها ، إلّا أنّها لا تتناسب مع( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) بالنسبة لنبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ لم يتّهم المؤمنون موسىعليه‌السلام ولا نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله بالسحر والجنون. وكذلك الاتّهام بالعيوب البدنية ، فإنّه على فرض كونه قد حدث بالنسبة لموسىعليه‌السلام ، وأنّ الله تعالى قد برّأه ، فليس له مصداق أو حادثة تؤيّده في تاريخ نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وعلى أيّة حال ، فيمكن أن يستفاد من هذه الآية أنّ من كان عند الله وجيها وذا منزلة ، فإنّ الله سبحانه يدافع عنه في مقابل من يؤذيه ويتّهمه بالأباطيل ، فكن طاهرا وعفيفا ، واحفظ وجاهتك عند الله ، فإنّه تعالى سيظهر عفّتك وطهارتك للناس ، حتّى وإن سعى الأشقياء والمسيؤون إلى اتّهامك وتحطيم منزلتك وتشويه سمعتك بين الناس.

وقد قرأنا نظير هذا المعنى في قصّة «يوسف» الصدّيق الطاهر ، وكيف برّأه الله سبحانه من تهمة امرأة عزيز مصر الكبيرة والخطيرة.

وكذلك في شأن «مريم» بنت عمران أمّ عيسىعليه‌السلام ، حيث شهد وليدها الرضيع بطهارتها وعفّتها ، وقطع بذلك ألسن المتربّصين بها من بني إسرائيل ، والذين كانوا يسعون لاتّهامها وتلويث سمعتها.

والجدير بالذكر أنّ هذا الخطاب لم يكن مختّصا بالمؤمنين في زمان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل من الممكن أن تشمل الآية حتّى أولئك الذين سيولدون بعده ويقومون بعمل يؤذون روحه الطاهرة به ، فيحتقرون دينه ويستصغرون شأنه ، وينسون مواريثه ، ولذلك

جاء في بعض الرّوايات الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام : «يا أيّها الذين آمنوا لا

٣٦٣

تؤذوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في علي والأئمّة صلوات الله عليهم ...»(١) .

وآخر كلام في تفسير هذه الآية هو : أنّه بعد ملاحظة أحوال الأنبياء العظام الذين لم يكونوا بمأمن من جراحات ألسن الجاهلين والمنافقين ، يجب أن لا نتوقّع أن لا يبتلى المؤمنون والطاهرون بمثل هؤلاء الأفراد ، فإنّ الإمام الصادقعليه‌السلام يقول : «إنّ رضى الناس لا يملك وألسنتهم لا تضبط ..» ثمّ يضيف الإمام في نهاية هذا الحديث : «ألم ينسبوا إلى موسى أنّه عنين وآذوه حتّى برّأه الله ممّا قالوا ، وكان عند الله وجيها»(٢) .

قولوا الحقّ لتصلح أعمالكم :

بعد البحوث السابقة حول ناشري الإشاعات والذين يؤذون النّبي ، تصدر الآية التالية أمرا هو في الحقيقة علاج لهذا المرض الاجتماعي الخطير ، فتقول :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ) .

«القول السديد» من مادّة (سد) أي المحكم المنيع الذي لا يعتريه الخلل ، والموافق للحقّ والواقع ، ويعني القول الذي يقف كالسدّ المنيع أمام أمواج الفساد والباطل. وإذا ما فسّره بعض المفسّرين بالصواب ، والبعض الآخر بكونه خالصا من الكذب واللغو وخاليا منه ، أو تساوي الظاهر والباطن ووحدتهما ، أو الصلاح والرشاد ، وأمثال ذلك ، فإنّها في الواقع تفاسير ترجع إلى المعنى الجامع أعلاه.

ثمّ تبيّن الآية التالية نتيجة القول السديد ، فتقول :( يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) .

إنّ التقوى في الواقع هي دعامة إصلاح اللسان وأساسه ، ومنبع قول الحقّ ، والقول الحقّ أحد العوامل المؤثّرة في إصلاح الأعمال ، وإصلاح الأعمال سبب

__________________

(١) نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، ص ٣٠٨.

(٢) نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، ص ٣٠٩.

٣٦٤

مغفرة الذنوب ، وذلك لـ( إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ) .(١)

يقول علماء الأخلاق : إنّ اللسان أكثر أعضاء البدن بركة ، وأكثر الوسائل تأثيرا في الطاعة والهداية والصلاح ، وهو في الوقت نفسه يعدّ أخطر أعضاء البدن وأكثرها معصية وذنبا ، حتّى أنّ ما يقرب من الثلاثين كبيرة تصدر من هذا العضو الصغير(٢) .

وفي حديث عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا يستقيم إيمان عبد حتّى يستقيم قلبه ، ولا يستقيم قلبه حتّى يستقيم لسانه»(٣) .

ومن الرائع جدّا ما ورد في حديث آخر عن الإمام السجّادعليه‌السلام : «إنّ لسان ابن آدم يشرف كلّ يوم على جوارحه فيقول : كيف أصبحتم؟ فيقولون : بخير إن تركتنا. ويقولون : الله الله فينا ، ويناشدونه ويقولون : إنّما نثاب بك ونعاقب بك»(٤) .

هناك روايات كثيرة في هذا الباب تحكي جميعا عن الأهميّة الفائقة للّسان ودوره في إصلاح الأخلاق وتهذيب النفوس الإنسانية ، ولذلك نقرأ في حديث : «ما جلس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على هذا المنبر قطّ إلّا تلا هذه الآية :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

__________________

(١) سورة هود ، الآية ١١٤.

(٢) عد الغزالي في إحياء العلوم عشرين كبيرة أو معصية تصدر عن اللسان ، وهي : ١ ـ الكذب ٢ ـ الغيبة ٣ ـ النميمة ٤ ـ النفاق في الكلام ، أي كون الإنسان ذا لسانين ووجهين ٥ ـ المدح في غير موضعه ٦ ـ بذاءة الكلام ٧ ـ الغناء والأشعار غير المرضية ٨ ـ الإفراط في المزاح ٩ ـ السخرية والاستهزاء ١٠ ـ إفشاء أسرار الآخرين ١١ ـ الوعد الكاذب ١٢ ـ اللعن في غير موضعه ١٣ ـ التخاصم والنزاع ١٤ ـ الجدال والمراء ١٥ ـ البحث في امور الباطل ١٦ ـ الثرثرة ١٧ ـ البحث في الأمور التي لا تعني الإنسان ١٨ ـ وصف مجالس الشراب والقمار والمعصية ١٩ ـ السؤال عن المسائل الخارجة عن إدراك الإنسان والبحث فيها ٢٠ ـ التصنع والتكلف في الكلام. ونزيد عليها عشرة مواضيع مهمة اخرى ، وهي : ١ ـ الاتهام ٢ ـ شهادة الزور ٣ ـ إشاعة الفحشاء ، ونشر الإشاعات التي لا أساس لها ٤ ـ مدح الإنسان نفسه ٥ ـ الإصرار في غير محله ٦ ـ الغلظة والخشونة في الكلام ٧ ـ الأذى باللسان ٨ ـ ذم من لا يستحق الذم ٩ ـ كفران النعمة اللسان ١٠ ـ الإعلام الباطل.

(٣) بحار الأنوار ، المجلد ٧١ ، صفحة ٧٨.

(٤) بحار الأنوار ، المجلد ٧١ ، صفحة ٢٧٨.

٣٦٥

اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ) (١).

ثمّ تضيف الآية في النهاية :( وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً ) وأي فوز وظفر أسمى من أن تكون أعمال الإنسان صالحة ، وذنوبه مغفورة ، وهو عند الله من المبيضة وجوههم الذينرضي‌الله‌عنهم ؟!

* * *

__________________

(١) الدرّ المنثور ، طبقا لنقل تفسير الميزان ، الجزء ١٦ ، صفحة ٣٧٦.

٣٦٦

الآيتان

( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٧٢) لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٣) )

التّفسير

حمل الأمانة الإلهية أعظم افتخارات البشر :

تكمل هاتان الآيتان ـ اللتان هما آخر آيات سورة الأحزاب ـ المسائل المهمّة التي وردت في هذه السورة في مجالات الإيمان ، والعمل الصالح ، والجهاد ، والإيثار ، والعفّة والأدب والأخلاق ، وتبيّن كيف أنّ الإنسان يحتل موقعا ساميا جدّا بحيث يستطيع أن يكون حامل رسالة الله العظيمة ، وكيف أنّه إذا ما جهل قيمه الحياتية والوجودية سيظلم نفسه غاية الظلم ، وينحدر إلى أسفل سافلين!

تبيّن الآية أوّلا أعظم امتيازات الإنسان وأهمّها في كلّ عالم الخلقة ، فتقول :( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ

٣٦٧

مِنْها ) .

ممّا لا شكّ فيه أنّ إباءها تحمل المسؤولية وامتناعها عن ذلك لم يكن استكبارا منها ، كما كان ذلك من الشيطان ، حيث تقول الآية (٢٤) من سورة البقرة :( أَبى وَاسْتَكْبَرَ ) ، بل إنّ إياءها كان مقترنا بالإشفاق ، أي الخوف الممتزج بالتوجّه والخضوع.

إلّا أنّ الإنسان ، اعجوبة عالم الخلقة ، قد تقدّم( وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً ) .

لقد تحدّث كبار مفسّري الإسلام حول هذه الآية كثيرا ، وسعوا كثيرا من أجل الوصول إلى حقيقة معنى «الأمانة» ، وأبدوا وجهات نظر مختلفة ، نختار أفضلها بتقصّي القرائن الموجودة في طيّات الآية.

ويجب التأكيد في هذه الآية العميقة المحتوى على خمس موارد :

١ ـ ما هو المراد من الأمانة؟

٢ ـ ما معنى عرضها على السماوات والأرض والجبال؟

٣ ـ لماذا وكيف أبت هذه الموجودات حمل هذه الأمانة؟

٤ ـ كيف حمل الإنسان ثقل الأمانة هذا؟

٥ ـ لماذا وكيف كان ظلوما جهولا؟

لقد ذكرت تفاسير مختلفة للأمانة ومن جملتها :

أنّ المراد من الأمانة : هي الولاية الإلهية ، وكمال صفة العبودية ، والذي يحصل عن طريق المعرفة والعمل الصالح.

أنّ المراد : صفة الإختيار والحرية والإرادة التي تميّز الإنسان عن سائر الموجودات.

أنّ المراد : العقل الذي هو ملاك التكليف ، ومناط الثواب والعقاب.

أنّ المراد : أعضاء جسم الإنسان ، فالعين أمانة الله ، ويجب الحفاظ عليها وعدم

٣٦٨

استعمالها في طريق المعصية ، والاذن واليد والرجل واللسان كلّها أمانات يجب حفظها.

أنّ المراد : الأمانات التي يأخذها الناس بعضهم من بعض ، والوفاء بالعهود.

أنّ المراد : معرفة الله سبحانه.

أنّ المراد : الواجبات والتكاليف الإلهيّة كالصلاة والصوم والحجّ.

لكن يتّضح من خلال أدنى دقّة أن هذه التفاسير لا تتناقض مع بعضها ، بل يمكن إدغام بعضها في البعض الآخر ، فبعضها أخذت جانبا من الموضوع ، وبعضها الآخر كلّه.

ومن أجل الحصول على جواب جامع كاف ، يجب أن نلقي نظرة على الإنسان لنرى أي شيء يمتلكه وتفتقده السماوات والأرضون والجبال؟

إنّ الإنسان موجود له استعدادات وقابليات يستطيع من خلال استغلالها أن يكون أتمّ مصداق لخليفة الله ، ويستطيع أن يصل إلى قمّة العظمة والشرف باكتساب المعرفة وتهذيب النفس وتحصيل الكمالات ، وأن يسمو حتّى على الملائكة.

إنّ هذا الاستعداد المقترن بالحرية والإرادة والإختيار يعني أنّ الإنسان يطوي هذا الطريق بإرادته وإختياره ، ويبدأ فيه من الصفر ويسير إلى ما لا نهاية.

إنّ السماء والأرض والجبال تمتلك نوعا من المعرفة الإلهية ، وهي تذكر الله سبحانه وتسبّحه ، وتخضع لعظمته وتخشع لها وتسجد ، إلّا أنّ كلّ ذلك ذاتي وتكويني وإجباري ، ولذلك ليس فيه تكامل ورقي ، والموجود الوحيد الذي لا ينتهي منحني صعوده ونزوله ، وهو قادر على ارتقاء قمّة التكامل بصورة لا تعرف الحدود ، ويقوم بكلّ هذه الأعمال بإرادته وإختياره ، هو الإنسان ، وهذه هي «الأمانة الإلهيّة» التي امتنعت من حملها كلّ الموجودات ، وحملها الإنسان! ولذلك نرى الآية التالية قسّمت البشر إلى ثلاث فئات : «المؤمنين» و «الكفّار» و

٣٦٩

«المنافقين».

بناء على هذا يجب القول في عبارة مختصرة أنّ الأمانة الإلهية هي قابلية التكامل غير المحدودة والممتزجة بالإرادة والإختيار ، والوصول إلى مقام الإنسان الكامل ، وعبودية الله الخاصّة وتقبّل ولاية الله.

لكن لماذا عبّر عن هذا الأمر بالأمانة ، مع أنّ كلّ وجودنا وكلّ ما لدينا أمانة الله؟

لقد عبّر بهذا التعبير لأهميّة امتياز البشر العظيم هذا ، وإلّا فإنّ بقية المواهب أمانات الله أيضا ، غير أنّ أهميّتها تقلّ أمام هذا الامتياز.

ويمكن أن نعبّر هنا عن هذه الأمانة بتعبير آخر ونقول : إنّها التعهّد والالتزام وقبول المسؤولية.

بناء على هذا فإنّ أولئك الذين فسّروا الأمانة بصفة الإختيار والحرية في الإرادة ، قد أشاروا إلى جانب من هذه الأمانة العظمى ، كما أنّ أولئك الذين فسّروها بالعقل ، أو أعضاء البدن ، أو أمانات الناس لدى بعضهم البعض ، أو الفرائض والواجبات ، أو التكاليف بصورة عامّة ، قد أشار كلّ منهم إلى غصن من أغصان هذه الشجرة العظيمة المثمرة ، واقتطف منها ثمرة.

لكن ما هو المراد من عرض هذه الأمانة على السموات والأرض؟

هل المراد : أنّ الله سبحانه قد منح هذه الموجودات شيئا من العقل والشعور ثمّ عرض عليها حمل هذه الأمانة؟

أو أنّ المراد من العرض هو المقارنة؟ أي أنّها عند ما قارنت حجم هذه الأمانة مع ما لديها من القابليات والاستعدادات أعلنت عدم لياقتها واستعدادها عن تحمّل هذه الأمانة العظيمة.

طبعا ، يبدو أنّ المعنى الثّاني هو الأنسب ، وبهذا فإنّ السماوات والأرض والجبال قد صرخت جميعا بأنّا لا طاقة لنا بحمل هذه الأمانة.

٣٧٠

ومن هنا يتّضح جواب السؤال الثالث أيضا ، بأنّ هذه الموجودات لما ذا وكيف رفضت وأبت حمل هذه الأمانة العظمى ، وأظهرت إشفاقها من ذلك؟

ومن هنا تتّضح كيفية حمل الإنسان لهذه الأمانة الإلهية ، لأنّ الإنسان كان قد خلق بشكل يستطيع معه تحمّل المسؤولية والقيام بها ، وأن يتقبّل ولاية الله ، ويسير في طريق العبودية والكمال ويتّجه نحو المعبود الدائم ، وأن يطوي هذا الطريق بقدمه وإرادته ، وبالاستعانة بربّه.

أمّا ما ورد في روايات عديدة وردت عن أهل البيتعليهم‌السلام من تفسير هذه الأمانة بقبول ولاية أمير المؤمنين عليعليه‌السلام وولده ، فمن أجل أنّ ولاية الأنبياء والأئمّة نور ساطع من تلك الولاية الإلهية الكليّة ، والوصول إلى مقام العبودية ، وطي طريق التكامل لا يمكن أن يتمّ من دون قبول ولاية أولياء الله.

جاء في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام أنّه سئل عن تفسير آية عرض الأمانة ، فقال : «الأمانة الولاية ، من ادّعاها بغير حقّ كفر»(١) .

وفي حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال عند ما سئل عن تفسير هذه الآية : «الأمانة الولاية ، والإنسان هو أبو الشرور المنافق»(٢) .

والمسألة الاخرى التي يلزم ذكرها هنا ، هي أنّنا قلنا في ذيل الآية (١٧٢) من سورة الأعراف فيما يتعلّق بعالم الذرّ بأن أخذ ميثاق الله على التوحيد كان عن طريق الفطرة ، واستعداد وطبيعة الآدمي ، وإنّ عالم الذرّ هو عالم الاستعداد والفطرة.

وفي مورد قبول الأمانة الإلهيّة يجب القول بأنّ هذا القبول لم يكن قبول اتّفاق وعقد ، بل كان قبولا تكوينيا حسب عالم الاستعداد.

السؤال الوحيد الذي يبقى هو مسألة كون الإنسان «ظلوما جهولا» ، فهل أنّ

__________________

(١) تفسير البرهان ، المجلّد ٣ ، صفحة ٣٤١ ذيل الآية مورد البحث.

(٢) المصدر السابق.

٣٧١

وصف الإنسان بهاتين الصفتين ـ وظاهرهما ذمّه وتوبيخه ـ كان نتيجة قبوله لهذه الأمانة؟

من المسلّم أنّ النفي هو جواب هذا السؤال ، لأنّ قبول هذه الأمانة أعظم فخر وميزة للإنسان ، فكيف يمكن أن يذمّ على قبوله مثل هذا المقام السامي؟

أم أنّ هذا الوصف بسبب نسيان غالب البشر وظلمهم أنفسهم ، وعدم العلم بقدر الإنسان ومنزلته وبسبب الفعل الذي بدأ منذ ابتداء نسل آدم من قبل قابيل وأتباعه ، ولا يزال إلى اليوم.

إنّ الإنسان الذي ينادى من العرش ، وبني آدم الذين وضع على رؤوسهم تاج (كرّمنا بني آدم) والبشر الذين هم وكلاء الله في الأرض بمقتضى قوله سبحانه :( إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) والإنسان الذي كان معلّما للملائكة وسجدت له ، كم يجب أن يكون ظلوما جهولا لينسى كلّ هذه القيم السامية الرفيعة ، ويجعل نفسه أسيرة هذه الدنيا ، وتابعا لهذا التراب ، ويكون في مصاف الشياطين ، فينحدر إلى أسفل سافلين؟!

أجل إنّ قبول هذا الخطّ المنحرف ـ والذي كان ولا يزال له أتباع وسالكون كثيرون جدّا ـ خير دليل على كون الإنسان ظلوما جهولا ، ولذلك نرى أنّه حتّى آدم نفسه ، والذي كان رأس السلسلة ومتمتّعا بالعصمة ، يعترف بأنّه قد ظلم نفسه( رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ) .(١)

لقد كان «ترك الأولى» الذي صدر منه ناشئا في الحقيقة عن نسيان جزء من عظمة هذه الأمانة الكبرى!

وعلى أي حال ، فيجب الاعتراف بأنّ الإنسان الضعيف والصغير في الظاهر ، هو اعجوبة علم الخلقة ، حيث استطاع أن يتحمّل أعباء الأمانة التي عجزت السماوات

__________________

(١) الأعراف ، ٢٣.

٣٧٢

والأرضون عن حملها إذا لم ينس مقامه ومنزلته(١) .

وتبيّن الآية التالية علّة عرض هذه الأمانة على الإنسان ، وبيان حقيقة أنّ أفراد البشر قد انقسموا بعد حمل هذه الأمانة إلى ثلاث فئات : المنافقين والمشركين والمؤمنين ، فتقول :( لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً ) .

يوجد هناك احتمالان في معنى «اللام» في( لِيُعَذِّبَ ) :

الأوّل : أنّها «لام الغاية» التي تذكر لبيان عاقبة الشيء ونهايته ، وبناء على هذا يكون معنى الآية : كانت عاقبة حمل هذه الأمانة أن سلك جماعة طريق النفاق ، وجماعة سبيل الشرك ، وهؤلاء سيبتلون بعذاب الله لخيانتهم أمانته ، وجماعة هم أهل الإيمان الذين ستشملهم رحمته لأدائهم هذه الأمانة والقيام بواجباتهم.

والثاني : أنّها «لام العلّة» ، فتكون هناك جملة مقدرة ، وعلى هذا يكون تفسير الآية : كان الهدف من عرض الأمانة أن يوضع كلّ البشر في بوتقة الاختبار ، ليظهر كلّ إنسان باطنه فيرى من الثواب والعقاب ما يستحقّه.

وهنا امور ينبغي الالتفات إليها :

١ ـ إنّ سبب تقديم أهل النفاق على المشركين هو أنّ المنافق يتظاهر بأنّه أمين في حين أنّه خائن ، إلّا أنّ خيانة المشرك ظاهرة مكشوفة ، ولذلك فإنّ المنافق يستحقّ حظّا أكبر من العذاب.

٢ ـ يمكن أن يكون سبب تقديم هاتين الفئتين على المؤمنين هو أنّ الآية

__________________

(١) اتّضح ممّا قلناه في تفسير الآية أن لا حاجة مطلقا إلى أن نقدر شيئا في الآية ، كما قال ذلك جمع من المفسّرين ، ففسّروا الآية بأنّ المراد من عرض أمانة الله على السماء والأرض والجبال هو عرضها على أهلها ، أي الملائكة! ولذلك قالوا بأنّ أولئك الذين أبوا أن يحملوها قد أدّوها ، وأولئك الذين حملوها خانوها. إنّ هذا التّفسير ليس مخالفا لظاهر الآية من ناحية الاحتياج إلى التقدير وحسب ، بل يمكن أن يناقش ويورد على اعتقاده بأنّ على الملائكة نوع تكليف ، وأنّها حاملة لجزء من هذه الأمانة. وبغضّ النظر عن كلّ ذلك فإنّ تفسير أهل الجبال بالملائكة لا يخلو من غرابة ، دقّقوا ذلك.

٣٧٣

السابقة قد ختمت بـ( ظَلُوماً جَهُولاً ) وهاتان الصفتان تناسبان المنافق والمشرك ، فالمنافق ظالم ، والمشرك جهول.

٣ ـ لقد وردت كلمة (الله) مرّة واحدة في شأن المنافقين والمشركين ، ومرّة في شأن المؤمنين ، وذلك لأنّ مصير الفئتين الاوّليين واحد ، وحساب المؤمنين يختلف عنهما.

٤ ـ يمكن أن يكون التعبير بالتوبة بدل الجزاء والثواب في شأن المؤمنين بسبب أنّ أكثر خوف المؤمنين من الذنوب والمعاصي التي تصدر عنهم أحيانا ، ولذا فإنّ الآية تطمئنهم وتمنحهم السكينة بأنّ ذنوبهم ستغفر.

أو لأنّ توبة الله على عباده تعني رجوعه عليهم بالرحمة ، ونعلم أنّ كلّ الهبات والعطايا والمكافآت قد أخفيت في كلمة «الرحمة».

٥ ـ إنّ وصف الله بالغفور والرحيم ربّما كان في مقابل الظلوم والجهول. أو لمناسبته ذكر التوبة بالنسبة للمؤمنين والمؤمنات.

الآن وقد بلغنا نهاية سورة الأحزاب بفضل الله سبحانه ، نرى لزاما ذكر هذه المسألة ، وهي : أنّ انسجام بداية هذه السورة مع نهايتها يستحقّ الدقّة والانتباه ، لأنّ هذه السورة ـ سورة الأحزاب ـ قد بدأت بخطاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأمره بتقوى الله ، ونهيه عن طاعة الكافرين والمنافقين ، والتأكيد على كون الله عليما حكيما ، وانتهت بذكر أعظم مسألة في حياة البشر ، أي حمل أمانة الله. ثمّ بتقسيم البشر إلى ثلاث فئات : المنافقين ، والكافرين ، والمؤمنين ، والتأكيد على كون الله غفورا رحيما.

وبين هذين البحثين طرحت بحوثا كثيرة حول هذه الفئات الثلاثة ، وأسلوب تعاملهم مع هذه الأمانة الإلهية ، وكلّ هذه البحوث يكمل بعضها بعضا ، ويوضّح بعضها بعضا.

اللهمّ اجعلنا ممّن قبلوا أمانتك بإخلاص ، وحملوها بعشق ولذّة ، وقاموا

٣٧٤

بواجباتهم تجاهها.

اللهمّ اجعلنا من المؤمنين الذين وسعتهم رحمتك ، لا من المنافقين والمشركين الذين استحقّوا العذاب لكونهم ظلومين جهولين.

اللهمّ انزل غضبك وسخطك على أحزاب الكفر التي اتّحدت مرّة اخرى ، واحتّلت مدينة الإسلام في عصرنا الحاضر ، واهدم قصورهم على رؤوسهم. اللهمّ وهب لنا من الثبات والاستقامة ما نقف به كالجبل لندافع عن مدينة الإسلام ونحرسها في هذه اللحظات الحسّاسة.

آمين يا ربّ العالمين.

* * *

نهاية سورة الأحزاب

٣٧٥
٣٧٦

سورة

سبأ

مكيّة

وعدد آياتها أربع وخمسون آية

٣٧٧
٣٧٨

«سورة سبأ»

محتوى سورة سبأ :

سمّيت السورة بهذا الاسم (سبأ) لذكرها قصّة قوم سبأ ، وهي من السور المكيّة ، التي تشتمل عادة على بحوث المعارف الإسلامية واصول الإعتقادات ، خصوصا «المبدأ» و «المعاد» و «النبوّة». فأغلب بحوثها تحوم حول تلكم الموضوعات ، لحاجة المسلمين لبلورة امور العقيدة في مكّة ، وإعدادهم للانتقال إلى فروع الدين ، وتشكيل الحكومة ، وتطبيق كافّة البرامج الإسلامية.

وبشكل إجمالي يمكن القول بأنّ محتوى هذه السورة يندرج في خمسة مواضيع :

١ ـ «التوحيد» ، وبعض الآثار الدالّة عليه في عالم الوجود ، وبعض صفات الله المقدّسة كالوحدانية ، والربوبية ، والالوهية.

٢ ـ قضيّة المعاد التي نالت النصيب الأوفى من العرض في هذه السورة ، باستعراضها ضمن بحوث منوّعة ومن زوايا مختلفة.

٣ ـ نبوّة الأنبياء السابقين وبالأخص رسول الإسلام الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله والردّ على تخرصات أعدائه حوله ، وذكر جانب من معجزات من سبقه من الأنبياء.

٤ ـ التعرّض لذكر بعض النعم الإلهية العظيمة ، ومصير الشاكرين والجاحدين من خلال استعراض جانب من حياة النّبي سليمانعليه‌السلام وحياة قوم سبأ.

٥ ـ الدعوة إلى التفكّر والتأمّل والإيمان والعمل الصالح ، وبيان تأثير هذه

٣٧٩

العوامل في سعادة وموفقية البشر.

وعلى كلّ حال ، فانّها تشكّل برنامجا تربويا شاملا لتربية الباحثين عن الحقّ.

فضيلة هذه السورة :

يلاحظ في الروايات تعبيرات ملفتة حول أهميّة هذه السورة وأهميّة قراءتها. من جملتها ما ورد في حديث عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «من قرأ سورة سبأ لم يبق نبيّ ولا رسول إلّا كان له يوم القيامة رفيقا ومصافحا»(١) .

وفي حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «من قرأ الحمدين جميعا ، سبأ وفاطر ، في ليلة لم يزل ليلته في حفظ الله تعالى وكلاءته ، فإن قرأهما في نهاره لم يصبه في نهاره مكروه ، واعطي من خير الدنيا وخير الآخرة ما لم يخطر على قلبه ولم يبلغ مناه»(٢) .

ونذكّر ـ كما في بداية كلّ سورة ـ بأنّ من الطبيعي أنّ هذا الثواب العظيم لا يكون نصيب من يكتفي من قراءته بلقلقة اللسان وحسب ، بل يجب أن تكون القراءة مقدّمة للتفكير الذي يكون بدوره باعثا على العمل الصالح.

فإنّ من يقرأ هذه السورة مثلا ، سيعلم بأنّ الدمار الذي حلّ بقوم سبأ وجعل من مصرعهم عبرة للعالمين ، ومصيرهم مضربا للأمثال ، إنّما كان لكفرانهم النعم الإلهية الوافرة.

ومن يطّلع على ذلك فسيؤدّي شكر النعمة بطريقة عملية. والشاكر بنعمة الله سيكون في حفظه وأمانه تعالى.

وقد ذكرنا شرحا أوفى حول هذا الموضوع في أوّل تفسيرنا لسورة النور.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، بداية سورة سبأ ، المجلّد ٨ ، صفحة ٣٧٥.

(٢) المصدر السابق.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592