الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل6%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 174842 / تحميل: 5996
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

إضافة إلى ذلك فالتصريح في القرآن بأنّها تكلم الناس يساعد على هذا المعنى!.

ومن مجموع ما مرّ نصل هنا إلى أنّ الدّابة تطلق في الأغلب على غير الناس ، وقد استعملها القرآن في الأعم من الإنسان وغيره أو في خصوص الإنسان ، هذا من جهة. ومن جهة أخرى فالقرائن المتعددة الموجودة في الآية ذاتها ، والرّوايات الكثيرة في تفسير الآية ، تدل على أنّ المراد من «دابة الأرض» هنا إنسان نشط فعال بما ذكرنا له من خصائص آنفا ، فهو يميز الحق من الباطل والمؤمن من المنافق والكافر.

إنسان يخرج في آخر الزمان قبيل يوم القيامة ، وهو بنفسه آية من آيات عظمة الخالق!.

٢ ـ الرجعة في الكتاب والسنة!

من المسائل التي تجدر بالملاحظة ، في الآيات ـ محل البحث ـ ظهور بعض من هذه الآيات في مسألة الرجعة!.

و «الرجعة» من عقائد الشيعة المعروفة ، وتفسيرها في عبارة موجزة بهذا النحو : «بعد ظهور المهديعليه‌السلام وبين يدي القيامة ، يعود طائفة من المؤمنين الخلّص ، وطائفة من الكفار الأشرار ، إلى هذه الدنيا فالطائفة الأولى تصعد في مدارج الكمال والطائفة الثّانية تنال عقابها الشديد!.

يقول «الشريف المرتضى» الذي هو من أعاظم الشيعة : إنّ الذي تذهب الشيعة الإمامية إليه ، أن الله تعالى يعيد عند ظهور الإمام المهديعليه‌السلام أقواما ممن كان قد تقدم موته من شيعته ليفوز بثواب نصرته ومعونته ومشاهدة دولته ، ويعيد أيضا قوما من أعدائه لينتقم منهم ، فيلتذوا بما يشاهدون من ظهور الحق وعلوّ كلمة أهله!

١٤١

ثمّ يضيف السيد المرتضى قائلا : والدلالة على صحة هذا المذهب أن الذي ذهبوا إليه ممّا لا شبهة على عاقل في أنّه مقدور لله تعالى غير مستحيل في نفسه ، فإنا نرى كثيرا من مخالفينا ينكرون الرجعة إنكار من يراها مستحيلة غير مقدورة ، وإذا ثبت جواز الرجعة ودخولها تحت المقدور ، فالدليل إلى إثباتها إجماع الإمامية على وقوعها(١) .

ويظهر بالطبع ـ من كلمات بعض قدماء علماء الشيعة وكذلك من كلام العلامة «الطبرسي» في مجمع البيان ـ أن «الأقليّة» القليلة من الشيعة لا تؤمن بهذه العقيدة ، أي «الرجعة» وفسّروها بعودة حكومة أهل البيتعليهم‌السلام ، لا رجوع الأشخاص وحياتهم بعد موتهم في هذه الدنيا ، إلّا أنّ مخالفة هذه القلة لا تؤثر في الإجماع.

وعلى كل حال ، فهنا مطالب كثيرة ، ومن أجل ألّا نخرج عن أسلوب بحثنا نشير إليها بإيجاز في ما يلي :

١ ـ لا ريب أنّ إحياء جماعة من الموتى في هذه الدنيا ليس محالا! كما أن إحياء جميع البشر في يوم القيامة ممكن ، والتعجب من هذه المسألة كتعجب المشركين «من أهل الجاهلية» من مسألة المعاد ، والسخرية منها كالسخرية من المعاد! لأنّ العقل لا يحكم على مثل هذا الأمر بالاستحالة وقدرة الله واسعة بحيث أنّ هذه الأمور عندها سهلة يسيرة هيّنة!.

٢ ـ جاء ذكر الرجعة في القرآن المجيد إجمالا ، ووقوعها في خمسة مواطن في شأن الأمم السالفة.

ألف : في ما يتعلق بالنّبي الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها ، وعظام أهلها نخرة متفرقة هنا وهناك. فتساءل في نفسه وقال :( أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها ) فأماته الله مائة عام ثمّ أحياه فقال له : كم لبثت؟! قال : لبثت يوما أو

__________________

(١) سفينة البحار ، ج ١ ، ص ٥١١ ، مادة رجع.

١٤٢

بعض يوم قال : بل لبثت مائة عام «مؤدّى الآية ٢٥٩ ـ من سورة البقرة».

وسواء كان هذا النّبي عزيرا أم سواه ، فلا فرق في ذلك ، المهم أنّ القرآن صرح بحياته بعد موته في هذه الدنيا فأماته الله مائة عام ثمّ بعثه!.

ب ـ يتحدث القرآن ـ في الآية (٢٤٣) من سورة البقرة ذاتها ـ عن جماعة أخرى خرجت من ديارها خوفا من الموت ، وامتنعت من الذهاب إلى سوح القتال بحجّة مرض الطاعون ، فأماتها الله ثمّ أحياها( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ) .

وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين لم يتحملوا وقوع مثل هذه الحادثة غير المألوفة ، وعدوها مثالا فحسب ، إلّا أنّ من الواضح أنّ مثل هذه التأويلات إزاء ظهور الآية ـ بل صراحتها ـ لا يمكن المساعدة عليه!.

ج ـ وفي الآيتين ٥٥ و ٥٦ من سورة البقرة أيضا ، يتحدث القرآن عن بني إسرائيل فيقول :( وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ، ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) .

د ـ ونقرأ في الآية (١١٠) ضمن معاجز عيسى قوله تعالى :( وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي ) .

ويدل هذا التعبير على أنّ المسيحعليه‌السلام أحيا الموتى فعلا ، بل التعبير بالفعل المضارع (تخرج) يدلّ على أنّه أحيا الموتى مرارا ، وهذا الأمر بنفسه يعد نوعا من الرجعة لبعضهم!

ه ـ وأخيرا ففي الآيتين (٧٢) و (٧٣) من سورة البقرة ، إشارة إلى مقتل رجل من بني إسرائيل ووقوع الجدال والنزاع في شأن قاتله ، وما أمرهم الله أن يفعلوه بضرب القتيل ببعض البقرة ـ الواردة خصائصها في الآية ٧٢ ـ إذ يقول سبحانه :( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ، فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها

١٤٣

كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) .

وبالإضافة إلى هذه المواطن الخمسة التي أشرنا إليها ، فهناك مواطن أخر في القرآن ، منها قصّة أصحاب الكهف ، وهي قصّة تشبه الرجعة. وقصّة الأربعة من الطير التي أمر إبراهيم أن يذبحها فأتينه سعيا بعد ذبحهن وتفريقهن على رأس كل جبل جزءا منهنّ ، ليتّضح له إمكان المعاد للناس ويكون مجسدا برجوع هذه الطيور إلى الدنيا.

وعلى كل حال! كيف يمكن أن يؤمن الشخص بالقرآن وأنّه كتاب سماوي ، ثمّ ينكر هذه الآيات الواضحة في الرجعة؟ وهل الرجعة ـ أساسا ـ إلّا العودة للحياة بعد الموت؟!

أو ليست الرجعة مثلا مصغرا من القيامة في هذه الدنيا.

فمن يؤمن بالقيامة بمقياسها الواسع ، كيف يمكنه أن يعترض على مسألة الرجعة وأن يسخر منها؟! وأن يقول قائل كأحمد أمين المصري في كتابه «فجر الإسلام» اليهودية ظهرت بالتشيع بالقول بالرجعة(١) .!!

وأي فرق بين كلام أحمد أمين هذا ، وإنكار عرب الجاهلية لمسألة المعاد الجسماني؟!

٣ ـ ما ذكرناه ـ إلى هنا ـ يثبت إمكان الرجعة ، وأمّا ما يؤيد وقوعها فروايات كثيرة نقلها الثقات عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام وحيث لا يسع بحثنا نقلها والتحقيق فيها ، فيكفي أن نذكر ما عدّه المرحوم العلّامة المجلسي في بحار أنواره وما جمعه منها ، إذ يقول : وكيف يشك مؤمن بحقيّة الأئمة الأطهارعليهم‌السلام فيما تواتر عنهم في قريب من مائتي حديث صريح(٢) ، رواها نيّف وأربعون من الثقات العظام والعلماء الأعلام ، في أزيد من خمسين من مؤلفاتهم فإذا لم يكن مثل هذا

__________________

(١) انظر عقائد الإمامية ـ للشيخ محمّد رضا المظفر ص ٧١.

(٢) يعني «بالرجعة».

١٤٤

متواترا ففي أيّ شيء يمكن دعوى التواتر(١) ؟!

٤ ـ فلسفة الرجعة!

إنّ أهم سؤال يثار في هذا الصدد ، هو : ما الهدف من الرجعة قبل يوم القيامة؟! ومع ملاحظة ما يستفاد من الرّوايات الإسلامية من أنّ هذا الموضوع ليس عامّا بل يختصّ بالمؤمنين الخلّص الذين هم في مرحلة عالية من الإيمان ، والكفار والطغاة الظلمة الذين هم في مرحلة منحطة من الكفر والظلم فيبدو أن الرجعة لهاتين الطائفتين للدنيا ثانية هي من أجل إكمال الطائفة الأولى حلقتها التكاملية ، وأن تذوق الطائفة الثّانية جزاءها الدنيوي.

وبتعبير آخر : إن الطائفة المؤمنة «خالصة الإيمان» الذين واجهوا الموانع والعوائق في مسير تكاملهم المعنوي في حياتهم ولم يتكاملوا الكمال اللائق باستعدادهم ، فإنّ حكمة الله تقتضي أن يتكاملوا عن طريق الرجعة لهذه الدنيا وأن يكونوا شهداء الحكومة العالميّة للحقّ والعدل ، وأن يساهموا في بناء هذه الحكومة ، لأنّ المساهمة في بناء مثل هذه الحكومة من أعظم الفخر!.

وعلى عكس الطائفة الآنفة الذكر ، هناك طائفة من المنافقين والجبابرة المعاندين ، ينبغي أن ينالوا جزاءهم الدنيوي بالإضافة إلى جزاءهم الأخروي ، كما ذاق ـ قوم فرعون وثمود وعاد وقوم لوط جزاءهم ـ ولا طريق لأن يذوقوا عذاب الدنيا إلّا بالرجعة!.

يقول الإمام الصادقعليه‌السلام في بعض أحاديثه «إن الرجعة ليست بعامة ، وهي خاصّة ، لا يرجع الّا من محض الإيمان محضا ، أو محض الشرك محضا»(٢) .

ولعل الآية (٩٥) من سورة الأنبياء( وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٥٣ ، ص ١٢٢.

(٢) بحار الأنوار ، ج ٥٣ ، ص ٣٩.

١٤٥

لا يَرْجِعُونَ ) تشير إلى هذا المعنى أيضا ، لأنّها تتحدث عن عدم رجوع أولئك الذين ذاقوا عذابهم الشديد في هذه الدنيا ، فيتّضح منها أن أولئك الذين لم يذوقوا مثل هذا الجزاء ينبغي أن يرجعوا ، فيذوقوا عذابهم «فلاحظوا بدقة».

كما يرد هذا الاحتمال أيضا ، وهو أنّ رجعة «الطائفتين هاتين» في ذلك المقطع الخاص من الزمان هي بمثابة درسين كبيرين وآيتين مهمتين من آيات عظمة الله ـ ومسألة القيامة و «المبدأ والمعاد» ـ للناس ، ليبلغوا أسمى درجات الكمال المعنوي بمشاهدتهما ويزداد إيمانهم ولا يكونوا مفتقرين إلى شيء أبدا.

٥ ـ ويتصور بعضهم أنّ الإعتقاد بالرجعة لا ينسجم وأصل حرية الإرادة والإختيار عند البشر!.

وممّا بيّناه آنفا يتّضح أنّ هذا اشتباه محض ، لأنّ رجوع من يرجع إلى هذه الدنيا سيكون في ظروف طبيعية ، ويتمتع بحرية كاملة.

وما يقوله بعضهم بأنّه من الممكن أن يتوب الجبابرة والكفار المعاندون بعد الرجعة ويعودوا إلى الحق ، فجوابه أنّ هؤلاء الأفراد غارقون في الظلم والفساد والكفر بحيث أن هذه الأمور مندمجة مع روحهم ونسيجهم ولا يتصور توبتهم!.

كما أنّ القرآن يحكي في ردّه على طلب أهل النّار يوم القيامة الرجوع إلى الدنيا ، ليقضوا ما فاتهم ولا يعملوا السيئات فيقول :( وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ ) .(١)

كما يتّضح الجواب على إشكال بعضهم من أنّ الرجعة لا تنسجم مع الآية (١٠٠) من سورة المؤمنون لأنّه طبقا لهذه الآية فإن المشركين يطلبون الرجوع إلى هذه الدنيا ليعملوا صالحا ، ويقول كل منهم :( رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ ) فيرد عليه بالقول :( كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها ) .

__________________

(١) الأنعام ، الآية ٢٨.

١٤٦

فالجواب على هذا الإشكال ، أن هذه الآية عامة والرجعة خاصة «فلاحظوا بدقة».

٦ ـ وآخر الكلام هنا أنّ الشيعة مع اعتقادهم بالرجعة التي أخذوها عن أهل البيتعليهم‌السلام فإنّهم لا يحكمون على منكري الرجعة بالكفر ، لأنّ الرجعة من ضروريّات المذهب الشيعي لا من ضروريات الإسلام.

فبناء على ذلك فإنّ هذه المسألة لا تقطع وشائج الأخوة الإسلامية مع الآخرين إلّا أن الشيعة تواصل دفاعها المنطقي عن عقيدتها هذه.

وينبغي الالتفات إلى أن هناك خرافات تمتزج أحيانا بالرجعة فتشوّه وجهها في نظر البعض ، فينبغي أن نعول على الأحاديث الإسلامية الصحيحة في الشأن ، وأن نتجنب الأحاديث المطعون فيها أو المشكوكة.

وما ذكرناه هنا خلاصة موجزة عمّا يتعلق بالرجعة ، وينبغي مراجعة الكتب التي تتحدث عن هذا الشأن لمن أراد أن يستزيد ويعرف خصائص أخر للرجعة أو جزئياتها.

ومع ملاحظة هذا المقدار الذي بيّناه يتّضح الجواب على الحملات المسعورة من قبل أولئك الذين لم يطّلعوا على هذا الموضوع من إخواننا أهل السنة «كما فعل «الآلوسي» في تفسيره روح المعاني ذيل الآيات محل البحث» وأن إشكالهم على مسألة الرجعة ناشئ من عدم تعقلهم لها حتى عدّوها أسطورة!.

* * *

١٤٧

الآيات

( أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨) )

التّفسير

حركة الأرض إحدى معاجز القرآن العلميّة :

مرّة أخرى تتحدث هذه الآيات عن مسألة المبدأ والمعاد ، وآثار عظمة الله ، ودلائل قدرته في عالم الوجود ، وحوادث القيامة ، فتقول :( أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً ) وفي ذلك علائم ودلائل واضحة على قدرة الله وحكمته لمن كان مستعدا للايمان( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) .

وهذه ليست أوّل مرّة يتحدث فيها القرآن عن الليل والنهار الحيويّة ، ونظامي النور والظلمة ، كما أنّها ليست آخر مرّة أيضا وذلك لأنّ القرآن كتاب تعليم وتربية ، وهو يهدف إلى بناء الشخصية الإنسانية ونحن نعرف أن أصول التعليم

١٤٨

والتربية تقتضي أحيانا أن يتكرر الموضوع في «فواصل» مختلفة ، وأن يذكّر الناس به ليبقى في الذهن كما يقال.

فالسكن أو الهدوء الذي يحصل من ظلمة الليل ، مسألة علمية وحقيقة مسلّم بها ، فسدل الليل ليست أسبابا إجبارية لتعطيل النشاطات اليومية فحسب ، بل لها أثر عميق على سلسلة الأعصاب في الإنسان وسائر الحيوانات ، ويجرها إلى الراحة والنوم العميق ، أو كما يعبر القرآن عنه بالسكون!.

وكذلك العلاقة بين ضوء النهار والسعي والحركة التي هي من خصائص النور من الناحية العلمية ـ أيضا ـ ولا مجال للتردد فيها. فنور الشمس لا يضيء محيط الحياة ليبصر الإنسان به مأربه فحسب ، بل يوقظ جميع ذرات وجود الإنسان ويوجهه إلى الحركة والنشاط!.

فهذه الآية توضح جانبا من التوحيد الرّبوبي ، ولما كان المعبود الواقعي هو ربّ «عالم الوجود» ومدبّره ، فهي تشطب بالبطلان على وجوه الأوثان! وتدعو المشركين إلى إعادة النظر في عبادتهم.

وينبغي الالتفات إلى هذه اللطيفة ، وهي أنّ على الإنسان أن يجعل نفسه منسجما مع هذا النظام ، فيستريح في الليل ويسعى في النهار ، ليبقى نشطا صحيحا دائما لا كالمنقاد لهواه الذي يطوي الليل يقظا ساهرا وينام النهار حتى الظهر!.

والطريف أن كلمة «مبصر» نسبت إلى النهار ووصف بها ، مع أنّها وصف للإنسان في النهار ، وهذا نوع من التأكيد الجميل للاهتمام بالنشاط في النهار ، كما يوصف الليل أحيانا بأنه «ليل نائم»(١) .

__________________

(١) هذا النوع من التعبير يسمّى عند البلاغيين بـ «المجاز العقلي» ، ويراد منه إسناد الفعل أو ما في معناه «كاسم الفاعل واسم المفعول» لغير ما وضع له لعلاقة ، منها العلاقة الزمانية ، فيقال مثلا : نهار الزاهد صائم وليله قائم. (المصحح)

١٤٩

وهذا التفاوت في التعبير في الآية ، هو لبيان فائدة الليل والنهار ، إذ جاء في شأن الليل( لِيَسْكُنُوا فِيهِ ) وعبر عن النهار بـ (مبصر) فلعل هذا الاختلاف في التعبير إشارة إلى أن الهدف الأصلي من وجود الليل هو السكون والهدوء ، والهدف من الضوء والنهار ليس النظر فحسب ، بل رؤية الوسائل الموصلة إلى مواهب الحياة والاستمتاع بها «فلاحظوا بدقة».

وعلى كل حال ، فهذه الآية وإن كانت تتكلم مباشرة عن التوحيد وتدبير عالم الوجود ، إلّا أنّها ربّما كانت إشارة لطيفة إلى مسألة المعاد ، لأنّ النوم بمثابة الموت ، واليقظة بمثابة الحياة بعد الموت!.

والآية التالية تتحدث عن مشاهد القيامة ومقدماتها ، فتقول : واذكر( يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ ) أي خاضعين.

ويستفاد من مجموع آيات القرآن أنّ النفخ في الصور يقع مرّتين أو ثلاث مرات.

فالمرّة الأولى يقع النفخ في الصور عند نهاية الدنيا وبين يدي القيامة! وبها يفزع من في السماوات والأرض إلّا من شاء الله!

والثّانية «عند النفخ» يموت الجميع من سماع الصيحة ، ولعل هاتين النفختين واحدة.

والمرّة الثّالثة ينفخ في الصور عند البعث وقيام القيامة إذ يحيا الموتى جميعا بهذه النفخة ، وتبدأ الحياة الجديدة معها.

وهناك كلام بين المفسّرين الى أنّ الآية محل البحث هل تشير الى النفخة الأولى أم الثّانية أم الثّالثة؟! القرائن الموجودة في الآية وما بعدها من الآيات تنطبق على النفختين ، وقيل : بل هي تشمل الجميع.

إلّا أن الظاهر من الآية يدل على أن النفخة هنا إشارة إلى النفخة الأولى التي

١٥٠

تقع في نهاية الدنيا ، لأنّ التعبير بـ (فزع) وهو يعني الخوف أو الاستيحاش الذي يستوعب جميع القلوب ، يعدّ من آثار هذه النفخة ونعلم أن الفزع في يوم القيامة هو بسبب الأعمال لا من أثر النفخة!.

وبتعبير آخر : إن ظاهر «فاء» التفريع في «ففزع» أن الفزع ناشئ من النفخة في الصور ، وهذا خاص بالنفخة الأولى ، لأنّ النفخة الأخيرة ليست لا تثير الفزع فحسب ، بل هي مدعاة للحياة والحركة ، وإذا حصلت حالة فهي من أعمال الإنسان نفسه!.

وأمّا ما المراد بالنفخ في الصور ،؟ هناك كلام طويل بين المفسّرين سنتناوله في ذيل الآية (٦٨) من سورة «الزمر» بإذن الله!.

وأمّا جملة( إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ) المذكورة للاستثناء من الفزع العام ، فهي إشارة للمؤمنين الصالحين سواء كانوا من الملائكة أو سائر المؤمنين في السماوات والأرض ، فهم في اطمئنان خاص! لا تفزعهم النفخة في الصور الأولى ولا الأخرى إذ نقرأ في الآيات التي تلي هذه الآيات قوله تعالى :( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ) .

وأمّا جملة( وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ ) فظاهرها عام وليس فيه أي استثناء ، حتى الأنبياء والأولياء يخضعون لله ويذعنون لمشيئته ، وإذا ما لاحظنا قوله تعالى في الآية (١٢٧) من سورة الصافات :( فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ) ، فلا منافاة بينها وبين عموم الآية محل البحث ، فالآية محل البحث إشارة إلى أصل الحضور في المحشر ، وأمّا الثّانية فهي إشارة إلى الحضور للمحاسبة ومشاهدة الأعمال!.

والآية التالية تشير إلى إحدى آيات عظمة الله في هذا العالم الواسع ، فتقول :( وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَ

١٥١

شَيْءٍ ) (١) .

فمن يكون قادرا على كل هذا النظم والإبداع في الخلق ، لا ريب في علمه و( إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ ) .

يعتقد كثير من المفسّرين أن هذه الآية تشير إلى الحوادث التي تقع بين يدي القيامة ، لأننا نعرف أن في نهاية هذه الدنيا تقع زلازل وانفجارات هائلة ، وتتلاشى الجبال وتنفصل بعضها عن بعض ، وقد أشير الى هذه الحقيقة في السور الأخيرة من القرآن كرارا.

ووقوع الآية في سباق آيات القيامة دليل وشاهد على هذا التّفسير.

إلّا أن قرائن كثيرة في الآية تؤيد تفسيرا آخر ، وهو أن الآية آنفة الذكر من قبيل آيات التوحيد ودلائل عظمة الله في هذه الدنيا ، وتشير إلى حركة الأرض التي لا نحس بها.

* * *

وتوضيح ذلك :

١ ـ إنّ الآية تقول : تحسب الجبال ساكنة وجامدة مع أنّها تمرّ مرّ السحاب وهذا التعبير واضح أنّه لا ينسجم مع الحوادث التي تقع بين يدي القيامة لأنّ هذه الحوادث من الوضوح بمكان بحيث يعبر عنها القرآن( يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى ) .(٢)

٢ ـ تشبيه حركة الجبال بحركة السحاب يتناسب مع الحركات المتناسقة الهادئة ، ولا يتناسب والإنفجارات العظيمة التي تصطك منها المسامع!.

__________________

(١) «صنع الله» منصوب بفعل محذوف تقدير (أنذر صنع الله) أو ما شاكله.

(٢) سورة الحج ، الآية ٢.

١٥٢

٣ ـ التعبير الآنف الذكر يدلّ على أنّه في الوقت الذي ترى الجبال بحسب الظاهر جامدة ، إلّا أنّها في الواقع تتحرك بسرعة «على حالتها التي ترى فيها جامدة» أي أن الحالتين تبينان شيئا واحدا.

٤ ـ والتعبير بـ «الإتقان» الذي يعني الإحكام والتنظيم ، يتناسب زمان استقرار نظام العالم ، ولا يتناسب وزمان انهياره وتلاشيه.

٥ ـ جملة( إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ ) مع ملاحظة أنّ «تفعلون» فعل مضارع ، تدل على أنّها تتعلق بهذه الدنيا ، لأنّها تقول : إن الله خبير بأعمالكم التي تصدر في الحال والمستقبل. ولو كانت ترتبط بانتهاء العالم ، لكان ينبغي أن يقال : إنّه خبير بما فعلتم. «فتأملوا بدقّة».

ويستفاد من مجموع هذه القرائن أنّ هذه الآية تكشف عن إحدى عجائب الخلق ، وهي في الواقع تشبه ما جاء في الآيتين آنفتي الذكر :( أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ ) .

وبناء على ذلك فالآيات محل البحث قسم منها في التوحيد ، وقسم منها في المعاد!.

وما نستنتجه من هذا التّفسير ، هو أن هذه الجبال التي نتصورها ساكنة «جامدة» هي في سرعة مطرّدة في حركتها ومن المقطوع به أنّه لا معنى لحركة الجبال من دون حركة الأرض المتصلة بها ، فيتّضح من الآية أنّ الأرض تتحرك كما يتحرك السحاب!.

ووفقا لحسابات علماء اليوم فإنّ سرعة حركة الأرض حول نفسها تقرب من (٣٠) كيلومتر في كل دقيقة ، وسرعة سيرها في حركتها الانتقالية حول الشمس أكثر من هذا المقدار

لكن علام عني بالجبال دون غيرها؟ لعل ذلك إنّما هو لأنّ الجبال يضرب بها المثل لثقلها وقرارها ، وتعدّ مثلا حسنا لبيان قدرة الله سبحانه ، فحيث أن هذه

١٥٣

الجبال على عظمتها وما فيها من ثقل ، تتحرك كالسحاب بأمر الله «مع الأرض» فقدرته على كل شيء «بينة ، وثابتة»!.

وعلى كل حال ، فالآية آنفة الذكر تعدّ من معاجز القرآن العلمية لأننا نعلم أن أوّل العلماء الذين اكتشفوا حركة كرة الأرض هو «غاليو» الإيطالي و «كبرنيك» اللذين أظهرا هذه الحقيقة للملأ في أواخر القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر! بالرغم من أن رجال الكنيسة حكموا عليهما حكما صارما ، وتعرضا لمضايقات كثيرة

إلّا أنّ القرآن كشف الستار عن وجه هذه الحقيقة قبل ذلك بألف عام تقريبا وبيّن حركة الأرض بالأسلوب الآنف الذكر على أنّها بعض أدلة التوحيد!

ويرى بعض فلاسفة الإسلام ، في الوقت الذي يقبلون فيه التّفسير الثاني ، وهو الإشارة إلى حركة الجبال في هذا العالم ، أن الآية ناظرة إلى «الحركة الجوهرية» في الأشياء ، واعتقدوا أنّ الآية منسجمة والنظرية المعروفة بالحركة الجوهرية ومؤيدة لها(١)

* * *

__________________

(١) المراد من «الحركة الجوهرية» هو أنّ أشياء عالم المادة بالإضافة إلى ما يحصل فيها من تغييرات مختلفة في الكيفية والكمية والمكان وما أشبه ذلك! فيها حركة في داخلها «وجوهرها» أي أنّها وجود سيال ومتحرك ، والتغييرات الظاهرية هي انعكاس عن التغييرات الداخلية لها وبتعبير آخر : إن لدينا وجودين مختلفين ذاتا الوجود الثابت «الوجود ما وراء المادي» ، ووجود سيال ومتحرك «الوجود المادي» وأهم دليل على إثبات هذه النظرية مسألة وجود الزمان للموجودات المادية وعدم انفصال التغييرات الظاهرية عن التغييرات الباطنية ، ويطول بنا البحث في هذا الصدد وهو خارج عن موضوعنا هنا.

١٥٤

الآيات

( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠) إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٣) )

التّفسير

آخر ما أمر به النّبي!

كان الكلام في الآيات السابقة عن أعمال العباد وعلم الله بها أمّا الآيات محل البحث فيقع الكلام في مستهلّها عن جزائهم وثواب أعمالهم وأمنهم من فزع يوم القيامة ، إذ يقول سبحانه :( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ) .

وهناك اختلاف بين تعبيرات المفسّرين في المراد من «الحسنة» في هذه الآية :

١٥٥

ففسّرها بعضهم بكلمة التوحيد «لا إله إلّا الله» والإيمان بالله.

وفسّرها بعضهم بولاية أمير المؤمنينعليه‌السلام والأئمّة من أهل البيتعليهم‌السلام ، وقد ورد التأكيد على هذا المعنى في الرّوايات المتعددة عن أهل البيت ، ومن جملتها ما جاء في رواية عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه دخل أبو عبد الله الجدلي على أمير المؤمنينعليه‌السلام فقال : يا أبا عبد الله ألا أخبرك بقول اللهعزوجل :( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) قال : بلى يا أمير المؤمنين جعلت فداك ، فقال : «الحسنة معرفة الولاية حبّنا أهل البيت ، والسيئة إنكار الولاية وبغضنا أهل البيت ثمّ قرأعليه‌السلام الآية»(١) .

وبالطبع فإنّ معنى الآية واسع ـ وقد أشرنا إلى ذلك مرارا ـ كما أنّ الحسنة هنا معناها واسع أيضا فهي تشمل الصالحات والأعمال الخالصة ، ومن ضمنها الإيمان بالله وبرسوله وولاية الأئمّة من أهل البيتعليهم‌السلام ، التي تعدّ في طليعة الأعمال الحسنة ، ولا يمنع أن تكون هناك أعمال صالحة أخرى تشملها الآية.

أمّا ما أورده بعضهم بأنّه : على فرض العموم في «الحسنة» فسوف تشمل الإيمان بالله وهل هناك خير من الإيمان حتى يقول سبحانه : من جاء بالحسنة فله خير منها؟

فالجواب على هذا الإشكال واضح لأنّ رضا الله خير من الإيمان. وبتعبير آخر: جميع هذه الأمور مقدمة له وذو المقدمة خير من المقدمة!.

وهناك سؤال آخر يثار هنا ، وهو أن ظاهر بعض الآيات ـ كالآية ٢ من سورة الحج ـ أنّ الفزع يعمّ الجميع في يوم القيامة ، فكيف أستثني أصحاب الحسنات منه؟.

فالآية (١٠٣) من سورة الأنبياء توضح الجواب على هذا السؤال فتقول :

__________________

(١) اصول الكافي ، وفقا لما جاء في تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١٠٤.

١٥٦

( لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) .

و «الفزع الأكبر» ـ هو كما نعلم ـ فزع يوم القيامة ، وفزع الدخول في نار جهنّم ـ أعاذنا الله منها ـ لا الفزع الحاصل من النفخة في الصور «فلاحظوا بدقّة».

ثمّ يتحدث القرآن عن الطائفة الأخرى التي تقابل أصحاب الحسنات فتقول :( وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ) .

وليس لهذه الطائفة أيّ توقع غيرها( هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

و «كبّت» مأخوذ من «كبّ» على وزن «جدّ» ومعناه في الأصل إلقاء الشيء على وجهه على الأرض ، فبناء على هذا فإنّ ذكر «وجوههم» في الآية هو من باب التوكيد!.

وإلقاء هذه الطائفة على وجوهها في النّار من أسوأ أنواع العذاب. إضافة إلى ذلك ، فإنّ أولئك حين كانوا يواجهون الحقّ يلوون وجوههم ورؤوسهم ، وكانوا يواجهون الذنوب بتلك الوجوه فرحين فالآن لا بدّ أن ـ يبتلوا بمثل هذا العذاب.

وجملة( هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) لعلها جواب على سؤال يلقى هنا ، وهو ما لو قيل : إنّ هذا الجزاء «العقاب» شديد ، فيجاب : بأنّ هذا الجزاء إن هو إلّا عملك في الدنيا ، فهل تجزون إلّا ما كنتم تعلمون «فلاحظوا بدقة».

ثمّ يوجه الخطاب للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الآيات الثلاث من آخر هذه السورة ، ويؤكّد له هذه الحقيقة وهي أن يخبر أولئك المشركين بأن عليه أن يؤدي رسالته ووظيفته سواء آمنتم أم لم تؤمنوا؟!

فتقول الآية الأولى من هذه الآيات :( إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ ) .

هذه البلدة المقدسة التي يتلخّص كل وجودكم وشرفكم بها البلدة المقدسة التي كرمها الله وكرّمكم بما أنزل فيها من البركات إلّا أنّكم بدل أن تشكروا نعمة الله كفرتم بها!

البلدة المقدسة التي هي حرم أمن الله ، وأشرف بقعة على وجه الأرض ، وأقدم معبد للتوحيد!

١٥٧

أجل أعبد ربّ هذه البلدة المقدسة( الَّذِي حَرَّمَها ) وجعل لها خصائص وأحكاما وحرمة ، وأمورا أخر لا تتمتع بها أية بلدة أخرى في الأرض!.

لكن لا تتصوروا أن هذه البلدة وحدها لله ، بل له كل شي في عالم الوجود( وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ ) .

والأمر الثّاني الذي أمرت به هو أن أسلم وجهي له( وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) .

وهكذا فإن الآية بيّنت وظيفتين أساسيتين على النّبي وهما (عبادة الواحد الأحد ، والتسليم المطلق لأمره).

والآية التالية تبيّن أسباب الوصول إلى هذين الهدفين فتقول :( وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ ) .

أتلوه فأستضيء بنوره ، وأنتهل من عذب معينه الذي يهب الحياة! وأن أعول في جميع مناهجي على هديه. أجل فالقرآن وسيلتي للوصول إلى هذين الهدفين المقدسين ، والمواجهة لكل أنواع الشرك والانحراف والضلال ومكافحتها ، ثمّ تعقب الآية لتحكي عن لسان الرسول وهو يخاطب قومه : لا تتصوروا أنّكم إذا آمنتم انتفعت من وراء ذلك لنفسي ، كما أن الله غني عنكم ، بل( فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ) .

وكل ما يترتب على الهداية من منافع دنيوية ، كانت أم أخروية فهي عائدة للمهتدي نفسه والعكس صحيح( وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ ) .

وعواقبه الوخيمة لا تصيبني فوظيفتي البلاغ والإنذار وإراءة سبيل الحق ، والإصرار على أن تسلكوا سبيل الحق ، إلّا أنّ من أراد أن يبقى في طريق الضلال ، فإنّما يشقى وحده ، فيكون من الخاسرين.

١٥٨

الطريف أنّ القرآن يقول في شأن الهداية :( فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ) ولكنّه لا يقول في شأن الضلال : ومن ضل فضرره عليه ، بل يقول :( فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ ) .

وهذا الاختلاف في التعبير لعله إشارة إلى أنّ النّبيعليه‌السلام يقول : إنّي لا أسكت بوجه الضالين أبدا ، ولا أتركهم على حالهم ، بل أظلّ أنذرهم وأواصل الإنذار ولا أعيا عن ذلك ، لأنني من المنذرين (بالطبع هناك آيات وردت في القرآن في شأن الهداية والضلالة ، وفيها التعبير «لنفسه وعليها» للموضوعين كقوله تعالى :( فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَ ) فعليها لكننا نعلم أنّ هذا الاختلاف في التعبيرات منسجم مع اختلاف المقامات ، وربّما جاء لإلقاء المعاني المختلفة والمتفاوتة)!

والجدير بالذكر أنّ هذه السورة شرعت ببيان أهمية القرآن ، وانتهت بالأمر بتلاوته ، فبدايتها ونهايتها عن القرآن.

والأمر الأخير ـ في آخر آية من هذه السورة ـ موجه للنبيّ أن يحمد الله على هذه النعم الكبرى ، ولا سيما نعمة الهداية فيقول :( وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ) هذا الحمد أو الثناء يعود لنعمة القرآن ، كما يعود للهداية أيضا ، ويمكن أن يكون مقدمة للجملة التالية( سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها ) .

وهذا التعبير إشارة إلى أنّه مع مرور الزمان وتقدم العلم والمعرفة ، سينكشف كل يوم بعض أسرار عالم الوجود ، ويرفع ستار جديد عنها وستعرفون نعم الله وعظمة قدرته وعمق حكمته يوما بعد يوم وإراءة الآيات هذه مستمرّة دائما ولا تنقطع مدى عمر البشر.

إلّا أنّكم إذا واصلتم طريق الخلاف والانحراف ، فلن يترككم الله سدى وما ربك بغافل عما يعمل الظالمون.

١٥٩

ولا تتصوروا بأنّ الله إذا أخر عقابكم بلطفه ، فهو غير مطلع على أعمالكم ، وأنّها لا تسجل في اللوح المحفوظ.

وجملة( وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) الواردة بنفسها أو مع شيء من التفاوت اليسير في تسع آيات من القرآن جملة موجزة ، وهي تهديد ذو معنى عميق ، وإنذار لجميع الناس.

والحمد لله رب العالمين

نهاية سورة النمل

* * *

١٦٠

سورة

القصص

مكيّة

وعدد آياتها ثمان وثمانون آية

١٦١
١٦٢

«سورة القصص»

محتوى سورة القصص :

المعروف أنّ هذه السورة نزلت بمكّة ، وبإمكاننا ملاحظة أنّ محتواها الكلي وخطوطها العامّة الأساسيّة على شاكلة السور المكّية(١) غير أن بعض المفسّرين استثنوا الآية ٨٥ ، أو الآيات ٥١ ـ ٥٥ من هذه السورة معتقدين أن الآية الأولى(٨٥) نزلت بالجحفة ـ وهي منطقة بين مكّة والمدينة ـ وأمّا الآيات الأربع الأخرى فيقولون : إنّها نزلت بالمدينة. ولا يوجد دليل واضح على كلامهم

ولعل محتوى الآيات الخمس التي تتحدث عن أهل الكتاب. (وكان أكثر أهل الكتاب يقطنون في المدينة). كان سببا لمثل هذا التصور. في حين أن نزول الآيات القرآنية في مكّة لا يعني إنّها لا بدّ أن تتحد عن المشركين في مكّة فحسب ، وخاصّة أن أهالي مكّة والمدنيّة كانت لهم رحلات متقابلة وعلاقات وروابط قبلية وتجارية. وبالطبع فإن المفسّرين ذكروا سببا آخر لنزول الآيات ٥٢ ـ ٥٥ يتناسب مع كونها مدينة ، وسنتحدث ، عن ذلك في محله إن شاء الله

أمّا الآية (٨٥) التي تتحدث عن عودة النّبي إلى موطنه الأصلي ، أي «مكّة» فلا مانع من أن تكون نزلت حين خروجه وهجرته من مكّة على مقربة من هذه الأرض المقدسة لأنّ النبي كان في غاية الشوق والحنين لمكّة بلد الله الحرام الآمن ، والله سبحانه يبشره في هذه الآية بأنّه سيردّه إلى معاده «مكّة المكرمة».

__________________

(١) يراجع في هذا الشأن «تاريخ القرآن» لأبي عبد الله الزنجاني و «الفهرست» لابن النديم ، وكتب التّفسير الأخرى

١٦٣

فعلى هذا الأساس يمكن أن تكون هذه الآية ـ المشار إليها آنفا ـ مكيّة ، ولو فرضنا أنّها نزلت «بالجحفة» فهي إلى مكّة أقرب منها إلى المدينة.

وعلى هذا الأساس ـ أيضا ـ لا يمكن ـ في تقسيم الآيات إلى مكّية ومدنية ـ إلّا أنّ نعد هذه الآية (٨٥) مكّية!

أجل هذه السورة نزلت في مكّة وفي ظروف كان المؤمنون في قبضة الأعداء الأقوياء وبين مخالبهم الأعداء الذين كانوا أكثر عددا وأشدّ قدرة وقوّة ونفيرا

فهؤلاء الأقلية من المؤمنين والمسلمين كانوا يرزحون تحت وطأة هذا التصور بحيث كان جماعة من المسلمين قلقين على مستقبل الإسلام وخائفين من أجله. وبما أنّ هذه الحالة كانت كثيرة الشبه بالحالة التي كان عليها بنو إسرائيل وهم بين مخالب الفراعنة ، فإنّ قسما من محتوى هذه السورة يتحدث عن قصّة بني إسرائيل وموسىعليه‌السلام والفراعنة

ولعل هذا القسم يستوعب نصف هذه السورة تقريبا خاصة أنّها تتحدث عن فترة كان موسى طفلا ضعيفا رضيعا في قبضة الفراعنة ولكنّ تلك القدرة التي تستوعب عالم الوجود كلّه ـ ولا تقف أية قوّة أمامها ـ تكفلت هذا الطفل الضعيف ورعته وهو في أحضان أعدائه الأقوياء ، حتى منحته قدرة وقوّة قصوى قهرت سلطان الفراعنة ونكّست تيجانهم وقلبت قصورهم!!.

هكذا تتحدث هذه السورة ليطمئن المسلمون إلى لطف الله وقدرته ، ولا يرهبوا كثرة الأعداء وقوّتهم ، ولا يخافوا من الطريق ذاته!

أجل القسم الأوّل من هذه السورة يتضمن هذا التاريخ المليء بالدروس والعبر ويبشر المستضعفين في بداية السورة بحكومة الحق والعدل لهم وكسر شوكة الظالمين ، بشرى تمنحهم الاطمئنان والقدرة.

تتحدث هذه السورة عن أن بني إسرائيل كانوا مصفدين بأغلال أعدائهم ما

١٦٤

داموا بعيدين عن خيمة الإيمان والتوحيد ، وفاقدين لأي نوع من أنواع الحركة والنهوض والسعي الذي يتحدّون به أعداءهم ، لكن ما إن وجدوا قائدهم ونوّروا قلوبهم بنور العلم والتوحيد حتى أغاروا على الفراعنة وسيطروا على الحكم وحرروا أنفسهم من نير الفراعنة.

و «القسم الآخر» من هذه السورة يتحدّث عن «قارون» ، ذلك الرجل المستكبر الثري الذي كان يعتمد على علمه وثروته حتى لقي أثر غروره ما لقيه فرعون من مصير أسود!

أحدهما غريق في الماء والآخر دفين في الأرض وذلك معتمد على سلطانه وجيشه في حكمه ، وهذا معتمد على ماله وثروته! ليتّضح أنّه لا يمكن لتجار مكّة وأثريائهم ولا لأقويائهم من المشركين ، ولا سياسيّيهم في ذلك المحيط ، أن يقاوموا إرادة الله في انتصار المستضعفين على المستكبرين.

وهذا القسم جاء في أواخر السورة.

وبين هذين القسمين دروس حيّة وقيّمة من التوحيد والمعاد وأهمية القرآن ، وبيان حال المشركين في يوم القيامة ، ومسألة الهداية والضلالة ، والإجابة على حجج الأفراد الضعاف ، وهي في الحقيقة «نتيجة» الأوّل و «مقدمة» للقسم الثاني.

فضيلة تلاوة سورة القصص :

نقرأ في بعض الأحاديث الواردة عن الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «من قرأ طسم القصص أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بموسى وكذب به ، ولم يبق ملك في السماوات والأرض إلّا شهد له يوم القيامة أنّه كان صادقا»(١) .

كما ورد في حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «من قرأ سورة الطواسين الثلاث في ليلة الجمعة كان من أولياء الله ، وفي جواره وكنفه ، لم يصبه

__________________

(١) تفسير مجمع البيان في بداية سورة القصص.

١٦٥

في الدنيا بؤس أبدا ، وأعطي في الآخرة حتى يرضى وفوق رضاه ، وزوجه الله مائة زوجة من الحور العين»(١) .

وبديهي أن كلّ هذا الأجر والثواب هو لأولئك الذين يقفون جنبا إلى جنب مع أصحاب موسىعليه‌السلام والمؤمنين الصادقين ـ عند قراءة هذه السورة ـ ليبارزوا فراعنة عصرهم وقارون زمانهم ، ولا يقبعون في الأجحار أو يطأطئون رؤوسهم. عند مواجهتهم الأخطار والمشاكل والأعداء ، ولا يضيّعون مواهبهم ليستغلّها الآخرون

هذا الأجر خاص لمن يقرءون ويتفكرون ، وعلى ضوء هذه السورة يخططون لحياتهم وعملهم

* * *

__________________

(١) ثواب الأعمال طبقا لنقل تفسير نور الثقلين في بداية سورة القصص.

١٦٦

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (٦) )

التّفسير

المشيئة الالهية تقتضي انتصار :

هذه هي المرّة الرابعة عشرة التي نواجه بها بدايات السورة «بالحروف المقطعة» في القرآن ، وقد تكررت فيها( طسم ) ثلاث مرات ، وهي هنا ـ أي «طسم» ـ ثالث المرات وآخرها

وقد بيّنا مرارا وتكرارا أنّ للحروف المقطعة من القرآن تفاسير متعددة ومختلفة ، وقد ذكرناها وبحثناها بحثا وافيا في بدايات سور «البقرة» و «آل

١٦٧

عمران» و «الأعراف».

وعلاوة على ذلك كلّه فإنّه يظهر من كثير من الرّوايات في شأن( طسم ) أن هذه الحروف إشارات موجزة عن صفات الله سبحانه وتعالى ، أو أنّها أماكن مقدسّة ولكنّها في الوقت ذاته لا تمنع من ذلك التّفسير المعروف الذي أكّدنا عليه مرارا ، وهو أنّ الله تعالى يريد أن يوضح هذه الحقيقة للجميع ، وهي أنّ هذا الكتاب السماوي العظيم الذي هو أساس التغيير الكبير في تأريخ البشرية وحامل المنهج المتكامل للحياة الكريمة للإنسانيّة يتشكّل من أمور بسيطة كهذه الحروف «ألف باء ...» التي يستطيع أن يتلفظ بها كل صبّي.

ومن هنا تتجلى عظمة القرآن وأهميته القصوى ، إذ يتألف من هذه الحروف البسيطة التي هي في اختيار الجميع.

ولعل هذا السبب كان داعيا لأن يكون الحديث بعد «الحروف المقطّعة» مباشرة عن عظمة القرآن ، إذ يقول :( تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ ) ، وبالرغم من أن( الْكِتابِ الْمُبِينِ ) جاء بمعنى اللوح المحفوظ كما قد ورد في الآية (٦١) من سورة يونس( وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ ) والآية السادسة من سورة هود( كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ ) ولكنّه جاء بمعنى القرآن في الآية محل البحث بقرينة ذكر «الآيات» وكذلك جملة( نَتْلُوا عَلَيْكَ ) الواردة في الآية التي بعدها

وقد وصف القرآن هنا بكونه «مبين» وكما يستفاد من اللغة فإنّ كلمة «مبين» تستعمل في المعنيين «اللازم والمتعدي» ، فهو واضح في نفسه وموضّح لغيره ، والقرآن المجيد بمحتواه المشرق يميّز الحق عن الباطل ، ويبيّن الطريق اللاحب من الطريق المعوّج(١) .

والقرآن بعد ذكر هذه المقدّمة القصيرة يحكى قصّة «فرعون» و «موسى» فيقول:( نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) .

__________________

(١) ونذكر ضمنا أنّ التعبير بـ «تلك» المستعملة للإشارة للبعيد ـ كما بيّنا سابقا ـ لبيان عظمة هذه الآيات أيضا

١٦٨

التعبير بـ «من» التي هي للتبعيض إشارة إلى هذه اللطيفة الدقيقة ، وهي أن ما ورد ـ هنا في القرآن ـ من هذه القصّة ذات الأحداث الكبيرة يتناسب وما تقتضيه الضرورة فحسب

والتعبير «بالحق» إشارة إلى أنّ ما ورد هنا خال من كل خرافة وأسطورة ، وبعيد عن الأباطيل والأكاذيب فهي إذن تلاوة مقترنة بالحق والواقعية

والتعبير بـ( لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) هو تأكيد على هذه الحقيقة ، وهي أنّ مؤمني ذلك العصر الذين كانوا يرزخون تحت ضغوط المشركين والأعداء ، عليهم أن يدركوا هذه الحقيقة ، وهي أنّ الأعداء مهما تعاظمت قواهم وتزايدوا عددا وعددا ، وأن المؤمنين مهما قلّوا وكانوا تحت ضغط أعدائهم وكانوا ضعافا بحسب الظاهر ، فلا ينبغي أن يهنوا وينكصوا عن طريق الحق ، فكل شيء عند الله سهل يسير!

الله الذي ربّى «موسى» في أحضان «فرعون» لإبادته وتدميره الله الذي أوصل العبيد والمستضعفين إلى أن يكونوا حاكمين في الأرض ، وأذل الجبابرة والمستكبرين وأبادهم.

الله الذي رعى الطفل الرضيع بين أمواج النيل فحفظه ونجاه وأغرق آلاف الفراعنة الأقوياء في تلك الأمواج هو قادر على أن ينجيكم «أيّها المؤمنون»

أجل ، إنّ الهدف الأصل من هذه الآيات هم المؤمنون وهذه التلاوة لأجلهم ، والمؤمنون الذين يستلهمون من معاني هذه الآيات ويشقّون طريقهم ـ وسط زحام المشاكل والأخطار ـ باطمئنان.

كان ذلك في الحقيقة بيانا إجماليا ، ثمّ يفصّل القرآن ما أجمله بقوله :( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ ) .

فقد كان عبدا ضعيفا ، وعلى أثر جهله وعدم معرفته أضاع شخصيته ووصل إلى مرحلة من الطغيان حتى أنّه ادّعى الرّبوبية والتعبير بـ «الأرض» إشارة إلى أرض مصر وما حولها وحيث أن القسم المهم العامر من الأرض في ذلك العصر

١٦٩

كان «مصرا» فقد جاء التعبير بالأرض بصورة مطلقة.

ويحتمل أيضا أنّ الألف واللام للعهد أي «أرض مصر».

وعلى كل حال فإنّ فرعون ـ من أجل تقوية قواعده الاستكبارية ـ قد أقدم على عدّة جرائم كبرى!

فالجريمة الأولى ، أنّه فرّق بين أهل مصر( وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً ) وهي سياسة معروفة ومتبعة على امتداد التاريخ ، وعليها يستند المستكبرون في حكمهم ، فلا يمكن أن تحكم الأقلية ـ التي لا تعدّ شيئا ـ على الأكثرية إلّا بالخطة المعروفة «فرّق تسد» فهم مستوحشون من «كلمة التوحيد» و «توحيد الكلمة» ويخافون منهما أبدا –

ويخافون من التفاف الناس بعضهم حول بعض ، ولذلك يلجأون إلى الطبقية في الحكم ، فهذه الطريقة وحدها تتكفل بقاءهم في الحكم ، كما صنعه فرعون في أهل مصر ، ويصنعه الفراعنة في كل عصر ومصر.

أجل ، إنّ فرعون قسّم أهل مصر إلى طائفتي «الأقباط» و «الأسباط».

فالأقباط هم أهل مصر «الأصليون» الذين كانوا يتمتعون بجميع وسائل الرفاه والراحة ، وكانت في أيديهم القصور ودوائر الدولة والحكومة.

و «الأسباط» هم المهاجرون إلى مصر من بني إسرائيل الذين كانوا على هيئة العبيد والخدم «في قبضة الأقباط»! وكانوا محاطين بالفقر والحرمان ، ويحملون أشدّ الأعباء دون أن ينالوا من وراء ذلك نفعا [والتعبير بالأهل في شأن الطائفتين الأقباط والأسباط هو لأنّ بني إسرائيل كانوا قد سكنوا مصر مدّة طويلة فكانوا يعدّون من أهلها حقيقة!].

وحين نسمع أن بعض الفراعنة يستعمل مائة ألف مملوك من العبيد لتشييد مقبرة خلال عشرين سنة (كما هي الحال بالنسبة إلى هرم خوفو المعروف الكائن بمقربة من القاهرة عاصمة مصر) ويموت في سبيل ذلك آلاف العبيد والمماليك

١٧٠

على أثر الضرب بالأسواط وتحت ضغط العمل الشاق ، ندرك جيدا الحالة الارهابية السائدة في ذلك المجتمع

والجريمة الثّانية هي استضعافه لجماعة من أهل مصر بشكل دموي سافر كما يعبر عن ذلك القرآن بقوله :( يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ ) .

فقد كان أصدر أمرا بأن يراقبوا الأطفال الذين يولدون من بني إسرائيل ، فإن كانوا ذكورا فإنّ حظهم الذبح ، وإن كانوا إناثا فيتركن للخدمة في المستقبل في بيوت الأقباط.

وترى ماذا كان يهدف فرعون من وراء عمله هذا؟!

المعروف أنّه رأى في منامه أن شعلة من النّار توهجت من بيت المقدس وأحرقت جميع بيوت مصر ، ولم تترك بيتا لأحد من الأقباط إلّا أحرقته ، ولكنّها لم تمسّ بيوت بني إسرائيل بسوء ، فسأل الكهنة والمعبرين للرؤيا عن تأويل ذلك ، فقالوا له : يخرج رجل من بيت المقدس يكون على يديه هلاكك وزوال حكومة الفراعنة(١) .

وأخيرا كان هذا الأمر سببا في عزم فرعون على قتل الرضّع من الأطفال الذكور من بني إسرائيل(٢) .

كما يحتمل ـ أيضا ـ أنّ الأنبياء السابقين بشّروا بظهور موسىعليه‌السلام وخصائصه ، وقد أحزن الفراعنة خبره ، فلمّا اطّلعوا على هذا الأمر أقدموا على التصدي له(٣) .

ولكون ورود جملة( يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ ) بعد جملة( يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ )

__________________

(١) راجع في ذلك مجمع البيان ، ج ٧ ، ص ٢٣٩ ، والتّفسير الكبير للفخر الرازي ذيل الآيات.

(٢) المصدر السابق.

(٣) راجع التّفسير الكبير للفخر الرازي ـ ذيل الآية محل البحث.

١٧١

فإنّ مسألة أخرى تتجلّى أمامنا ، وهي أنّ الفراعنة اتّخذوا خطة لاستضعاف بني إسرائيل بذبح الأبناء ، لئلا يستطيع بنوا إسرائيل أن يواجهوا الفراعنة ويحاربوهم ، وكانوا يتركون النساء اللاتي لا طاقة لهن على القتال والحرب ، ليكبرن ثمّ يخدمن في بيوتهم.

والشاهد الآخر هو الآية (٢٥) في سوره المؤمن ، إذ يستفاد منها ـ بصورة جيدة ـ أن خطة قتل الأبناء واستحياء النساء كانت موجودة حتى بعد ظهور موسىعليه‌السلام [ومجيئه إلى الفراعنة]. إذ تقول :( فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ ) .

وجملة( يَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ ) يظهر منها أنّهم كانوا يصرّون على إبقاء البنات والنساء ، إمّا لكي يخدمن في بيوت الأقباط ، أو للاستمتاع الجنسي ، أو لكلا الأمرين جميعا.

وفي آخر جملة تأتي الآية بتعبير جامع ، وفيه بيان العلة أيضا فتقول :( إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) .

وباختصار فإنّ عمل فرعون يتلخص في الفساد في الأرض ، فاستعلاؤه كان فسادا ، وإيجاد الحياة الطبقية في مصر فساد آخر ، وتعذيب بني إسرائيل واستضعافهم وذبح أبنائهم واستحياء نسائهم ليخدمن في بيوت الأقباط فساد ثالث ، وسوى هذه المفاسد كانت لديه مفاسد كثيرة أخرى أيضا.

والتعبير بـ «يذبح» المشتق من مادة «المذبح» تدل على معاملة الفراعنة لبني إسرائيل كمعاملة القصابين للأغنام والأنعام الأخرى ، إذ كانوا يذبحون هؤلاء الناس الأبرياء ويحتزون رؤوسهم!(١) .

__________________

(١) ممّا يلفت النظر أنّ مادة (ذبح) في الفعل الثلاثي مجرّدة ، وفعلها متعدّ بنفسه ، ولكنّها هنا استعملت بصيغة التفعيل لتدلّ على الكثرة ، كما تستفاد من صيغة المضارع الاستمرار على هذه الجناية [فلاحظوا بدقة].

١٧٢

وفي هذه الخطة الإجرامية من قبل الفراعنة ضد الحوامل قصص مذكورة ، إذ قال بعضهم : إنّ فرعون كان قد أمر برقابة مشددة على النساء الحوامل من بني إسرائيل ، وأن لا يلي إيلادهن إلّا قابلة من القبطيّات والفرعونيّات ، فإذا كان المولود ذكرا فإنّ جلاوزة القصر الفرعوني يأتون ليتسلموا «قربانهم»(١) .

ولا يعرف بدقّة كم بلغ عدد «ضحايا الحوامل» من أطفال بني إسرائيل على أثر هذه الخطة الإجرامية؟ قال بعضهم : كان الضحايا من الأطفال المواليد تسعين ألفا ، وأوصلها بعضهم إلى مئات الآلاف!

لقد كانوا يظنون أنّهم سيقفون بوجه إرادة الله الحتمية بهذه الجرائم الوحشية ، فلا ينهض بنوا إسرائيل ضدهم ولا يزول سلطانهم.

ثمّ تأتي الآية الأخرى لتقول : إنّ إرادتنا ومشيئتنا اقتضت احتواء المستضعفين بلطفنا وكرمنا( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ ) وأن تشملهم رعايتنا ومواهبنا تكون بيد الحكومة ومقاليد الأمور :( وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ ) .

ويكونون اولي قوّة وقدرة في الأرض( وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ )

ما أبلغ هاتان الآيتان ، وما أعظم ما فيهما من رجاء وأمل! إذ جاءتا بصورة الفعل المضارع والاستمرار ، لئلا يتصور أنّهما مختصتان بالمستضعفين من بني إسرائيل وحكومة الفراعنة ، إذ تبد آن بالقول :( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ ).

أي إنّ فرعون أراد أن يجعل بني إسرائيل شذر مذر ويكسر شوكتهم ويبير قواهم وقدرتهم ، ولكننا أردنا ـ ونريد ـ أن ينتصروا ويكونوا أقوياء!

فرعون يريد أن تكون الحكومة بيد المستكبرين إلى الأبد. ولكنّا أردنا أن تكون بيد المستضعفين ، فكان كما أردنا.

__________________

(١) التّفسير الكبير الفخر الرازي ذيل الآيات محل البحث.

١٧٣

والتعبير بـ «نمنّ» كما أشرنا إلى ذلك من قبل ، معناه منح الهبات والنعم ، وهو يختلف تمام الاختلاف مع «المنّ» المراد به عدّ النعم لتحقير الطرف المقابل ، وهو مذموم قطعا.

ويكشف الله في هاتين الآيتين الستار عن إرادته ومشيئته بشأن المستضعفين ، ويذكر في هذا المجال خمسة أمور بعضها مرتبط ببعض ومتقاربة أيضا :

الأوّل : قوله تعالى :( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ ) لنشملهم بالمواهب والنعم إلخ.

الثّاني : قوله :( وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً ) .

الثّالث : قوله :( وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ ) أي المستخلفين بعد الفراعنة والجبابرة.

الرّابع : قوله :( وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ) أي نجعلهم يحكمون في الأرض وتكون السلطة والقدرة وغيرهما لهم وتحت تصرفهم

والخامس : إن ما كان يحذره الأعداء منهم وما عبأوه لمواجهتهم يذهب أدراج الرياح ، وتكون العاقبة لهم( وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ ) .

هكذا لطف الله وعنايته في شأن المستضفين ، أمّا من هم أولئك المستضعفون؟! وما هي أوصافهم؟! فسنتحدث عن كل ذلك بعد قليل بأذن الله وكان «هامان» وزير فرعون المعروف يتمتع بنفوذ وسلطة إلى درجة أن الآية المتقدمة إذ تتحدث عن جنود مصر فإنّها تعزوهم إلى فرعون وهامان معا (وسيأتي مزيد إيضاح وشرح عن حال هامان بإذن الله في ذيل الآية (٣٨) من هذه السورة ذاتها).

* * *

١٧٤

بحوث

١ ـ حكومة المستضعفين العالمية

قلنا : إنّ الآيات المتقدمة لا تتحدث عن فترة خاصة أو معينة ، ولا تختص ببني إسرائيل فحسب ، بل توضح قانونا كليا لجميع العصور والقرون ولجميع الأمم والأقوام ، إذ تقول :( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ ) .

فهي بشارة في صدد انتصار الحق على الباطل والإيمان على الكفر.

وهي بشارة لجميع الأحرار الذين يريدون العدالة وحكومة العدل وانطواء بساط الظلم والجور.

وحكومة بني إسرائيل وزوال حكومة الفراعنة ما هي إلّا نموذج لتحقق هذه المشيئة الإلهية والمثل الأكمل هو حكومة نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه بعد ظهور الإسلام حكومة الحفاة العفاة والمؤمنين المظلومين الذين كانوا موضع تحقير فراعنة زمانهم واستهزائهم ويرزخون تحت تأثير الضغوط «الظالمة» لائمّة الكفر والشرك.

وكانت العاقبة أن الله فتح على أيدي هؤلاء المستضعفين أبواب قصور الأكاسرة والقياصرة ، وأنزل أولئك من أسرّة الحكم والقدرة وأرغم أنوفهم بالتراب.

والمثل الأكبر والأوسع هو ظهور حكومة الحق والعدالة على جميع وجه البسيطة ـ والكرة الأرضية ـ على يد «المهديّ» أرواحنا له الفداء.

فهذه الآيات هي من جملة الآيات التي تبشّر ـ بجلاء ـ بظهور مثل هذه الحكومة ، ونقرأ عن أهل البيتعليهم‌السلام في تفسير هذه الآية أنّها إشارة إلى هذا الظهور العظيم.

فقد ورد في نهج البلاغة عن عليعليه‌السلام قوله : «لتعطفن الدنيا علينا بعد شماسها

١٧٥

عطف الضروس على ولدها ، وتلا عقيب ذلك :( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ ) »(١) .

وفي حديث آخر نقرأ عنهعليه‌السلام في تفسير الآية المتقدمة قوله : «هم آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله يبعث الله مهدّيهم بعد جهدهم فيعزّهم ويذل عدوّهم»(٢) .

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام علي بن الحسين زين العابدينعليه‌السلام قوله : «والذي بعث محمّدا بالحقّ بشيرا ونذيرا ، إنّ الأبرياء منّا أهل البيت وشيعتهم بمنزلة موسى وشيعته ، وإن عدونا وأشياعهم بمنزلة فرعون وأشياعه»(٣) (أي سننتصر أخيرا وينهزم أعداؤنا وتعود حكومة العدل والحق لنا).

ومن الطبيعي أن حكومة المهديعليه‌السلام العالميّة في آخر الأمر لا تمنع من وجود حكومات إسلامية في معايير محدودة قبلها من قبل المستضعفين ضد المستكبرين ، ومتى ما تمّت الظروف والشروط لمثل هذه المحكومات الإسلامية فإنّ وعد الله المحتوم والمشيئة الإلهية سيتحققان في شأنها ، ولا بدّ أن يكون النصر حليفها بإذن الله.

٢ ـ من هم المستضعفون ومن هم المستكبرون؟!

كلمة «المستضعف» مشتقّة من مادة «ضعف» ، ولكنّها لما استعملت في باب «الاستفعال» دلت على من يكبّل بالقيد والغلّ ويجرّ إلى الضعف.

وبتعبير آخر : ليس المستضعف هو الضعيف والفاقد للقدرة والقوّة بل المستضعف من لديه قوى بالفعل وبالقوة ، ولكنّه واقع تحت ضغوط الظلمة والجبابرة ، وبرغم أنّه مكبل بالأغلال في يديه ورجليه فإنّه غير ساكت

__________________

(١) نهج البلاغة ـ الكلمات القصار رقم ٢٠٩.

(٢) الغيبة للشيخ الطوسي حسب نقل تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١١٠.

(٣) مجمع البيان ذيل الآية.

١٧٦

ولا يستسلم ، ويسعى دائما لتحطيم الأغلال ونيل الحرية ، والتصدي للجبابرة والمستكبرين ، ونصرة مبدأ العدل والحق.

فالله سبحانه وعد أمثال هؤلاء بالمنّ وبالحكومة على الأرض ، لا الأفراد الجبناء الذين لا يجرؤن على ادنى اعتراض فكيف إذا حمي الوطيس وحان أوان التضحية والفداء؟!

فبنوا إسرائيل استطاعوا أن يأخذوا الحكومة ويرثوها من الفراعنة لأنّهم التفوا حول موسىعليه‌السلام وعبؤوا قواهم وشكّلوا صفا واحدا ، واستكملوا بقايا إيمانهم الذي ورثوه عن جدّهم إبراهيم الخليل ، ونفضوا الخرافات عن أفكارهم ونهضوا مع موسىعليه‌السلام .

وبالطبع فإنّ المستضعفين أنواع ، فهناك مستضعف فكريّ ، وهناك مستضعف ثقافيّ ، وهناك مستضعف اقتصادي ، وآخر مستضعف سياسي ، أو أخلاقي ، وأكثر ما أكّد عليه القرآن هو الاستضعاف السياسي والأخلاقي!.

وما من شك أنّ المستكبرين الجبابرة يسعون أبدا لأن يجرّوا قرابينهم إلى الاستضعاف الفكري والثقافي ، ثمّ إلى الاستضعاف الاقتصادي ، لئلا تبقى لهم قوّة ولا قدرة ، ولئلا يفكروا بالنهوض وتولي زمام الحكومة.

وفي القرآن المجيد ورد الكلام عن المستضعفين في خمسة موارد ، وعلى العموم فإنّ هذا الكلام يدور حول المؤمنين الذين يرزخون تحت ضغوط الجبابرة.

ففي مكان من القرآن الكريم يدعو إلى الجهاد والمقاتلة في سبيل الله والمستضعفين إذ يقول :( وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ

١٧٧

أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً ) (١) .

وفي مكان واحد فقط ورد الكلام عن الذين أعانوا الكفار وظلموا أنفسهم ، وادعوا أنّهم مستضعفون ، ولم يهاجروا في سبيل الله ، فالقرآن ينفي عنهم هذا الاستضعاف فيقول :( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً ) (٢) .

وعلى كل حال فإنّه القرآن في كل مكان منه يدافع عن المستضعفين ويذكرهم بخير ، ويعبّر عنهم بالمؤمنين الذين يرزخون تحت ضغوط المستكبرين المؤمنون المجاهدون والساعون بجدّهم المشمولون بعناية الله ولطفه.

٣ ـ أسلوب المستكبرين على مدى التأريخ

لم يكن فرعون وحده يذبح أبناء بني إسرائيل ويستحيي نساءهم لا ذلالهم ، فعلى مدى التاريخ نجد أسلوب الجبابرة على هذه الشاكلة ، حيث يسعون لتعطيل القدرات والقوى بأية وسيلة كانت ، فحيث لم يستطيعوا قتل «الرجال» يلجأون إلى قتل «الرجولة» ، ويذوّبون روح الشهامة بنشر الفساد والمخدّرات والفحشاء والمنكر والانحراف الجنسي وكثرة الشراب والقمار ، ليستطيعوا براحة بال واطمئنان خاطر أن يواصلوا حكمهم وحكومتهم.

ولكنّ أنبياء الله ، وخاصّة نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله كانوا يسعون لإيقاظ قوى الفتوة النائمة ويشحنوا قدرات الشباب الهائلة ، ويحرروهم من أسر الذلة ، وكانوا

__________________

(١) النساء ، الآية ٧٥.

(٢) النساء ، الآية ٩٧.

١٧٨

يعلمون حتى النساء دروسا من الشجاعة والشهامة ، ليقفن في صفوف الرجال ضد المستكبرين.

والشواهد على هذين المنهجين في البلاد الإسلامية في التأريخ المعاصر والتأريخ القديم كثيرة وواضحة جيّدا ، فلا حاجة لسردها وذكرها بتفصيل.

* * *

١٧٩

الآيات

( وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩) )

التّفسير

في قصر فرعون!

من أجل رسم مثل حيّ لانتصار المستضعفين على المستكبرين ، يدخل القرآن المجيد في سرد قصّة موسى وفرعون ، ويتحدث بالخصوص عن مراحل يكون فيها موسى في أشدّ حالات الضعف ، أمّا فرعون فهو في أقوى الحالات وأكثرها هيمنة ليتجسّد انتصار مشيئة الله على إرادة الجبابرة في أعلى الصور وأحسن الوجوه

يقول القرآن :( وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592