الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 174779 / تحميل: 5995
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

سورة

القصص

مكيّة

وعدد آياتها ثمان وثمانون آية

١٦١
١٦٢

«سورة القصص»

محتوى سورة القصص :

المعروف أنّ هذه السورة نزلت بمكّة ، وبإمكاننا ملاحظة أنّ محتواها الكلي وخطوطها العامّة الأساسيّة على شاكلة السور المكّية(١) غير أن بعض المفسّرين استثنوا الآية ٨٥ ، أو الآيات ٥١ ـ ٥٥ من هذه السورة معتقدين أن الآية الأولى(٨٥) نزلت بالجحفة ـ وهي منطقة بين مكّة والمدينة ـ وأمّا الآيات الأربع الأخرى فيقولون : إنّها نزلت بالمدينة. ولا يوجد دليل واضح على كلامهم

ولعل محتوى الآيات الخمس التي تتحدث عن أهل الكتاب. (وكان أكثر أهل الكتاب يقطنون في المدينة). كان سببا لمثل هذا التصور. في حين أن نزول الآيات القرآنية في مكّة لا يعني إنّها لا بدّ أن تتحد عن المشركين في مكّة فحسب ، وخاصّة أن أهالي مكّة والمدنيّة كانت لهم رحلات متقابلة وعلاقات وروابط قبلية وتجارية. وبالطبع فإن المفسّرين ذكروا سببا آخر لنزول الآيات ٥٢ ـ ٥٥ يتناسب مع كونها مدينة ، وسنتحدث ، عن ذلك في محله إن شاء الله

أمّا الآية (٨٥) التي تتحدث عن عودة النّبي إلى موطنه الأصلي ، أي «مكّة» فلا مانع من أن تكون نزلت حين خروجه وهجرته من مكّة على مقربة من هذه الأرض المقدسة لأنّ النبي كان في غاية الشوق والحنين لمكّة بلد الله الحرام الآمن ، والله سبحانه يبشره في هذه الآية بأنّه سيردّه إلى معاده «مكّة المكرمة».

__________________

(١) يراجع في هذا الشأن «تاريخ القرآن» لأبي عبد الله الزنجاني و «الفهرست» لابن النديم ، وكتب التّفسير الأخرى

١٦٣

فعلى هذا الأساس يمكن أن تكون هذه الآية ـ المشار إليها آنفا ـ مكيّة ، ولو فرضنا أنّها نزلت «بالجحفة» فهي إلى مكّة أقرب منها إلى المدينة.

وعلى هذا الأساس ـ أيضا ـ لا يمكن ـ في تقسيم الآيات إلى مكّية ومدنية ـ إلّا أنّ نعد هذه الآية (٨٥) مكّية!

أجل هذه السورة نزلت في مكّة وفي ظروف كان المؤمنون في قبضة الأعداء الأقوياء وبين مخالبهم الأعداء الذين كانوا أكثر عددا وأشدّ قدرة وقوّة ونفيرا

فهؤلاء الأقلية من المؤمنين والمسلمين كانوا يرزحون تحت وطأة هذا التصور بحيث كان جماعة من المسلمين قلقين على مستقبل الإسلام وخائفين من أجله. وبما أنّ هذه الحالة كانت كثيرة الشبه بالحالة التي كان عليها بنو إسرائيل وهم بين مخالب الفراعنة ، فإنّ قسما من محتوى هذه السورة يتحدث عن قصّة بني إسرائيل وموسىعليه‌السلام والفراعنة

ولعل هذا القسم يستوعب نصف هذه السورة تقريبا خاصة أنّها تتحدث عن فترة كان موسى طفلا ضعيفا رضيعا في قبضة الفراعنة ولكنّ تلك القدرة التي تستوعب عالم الوجود كلّه ـ ولا تقف أية قوّة أمامها ـ تكفلت هذا الطفل الضعيف ورعته وهو في أحضان أعدائه الأقوياء ، حتى منحته قدرة وقوّة قصوى قهرت سلطان الفراعنة ونكّست تيجانهم وقلبت قصورهم!!.

هكذا تتحدث هذه السورة ليطمئن المسلمون إلى لطف الله وقدرته ، ولا يرهبوا كثرة الأعداء وقوّتهم ، ولا يخافوا من الطريق ذاته!

أجل القسم الأوّل من هذه السورة يتضمن هذا التاريخ المليء بالدروس والعبر ويبشر المستضعفين في بداية السورة بحكومة الحق والعدل لهم وكسر شوكة الظالمين ، بشرى تمنحهم الاطمئنان والقدرة.

تتحدث هذه السورة عن أن بني إسرائيل كانوا مصفدين بأغلال أعدائهم ما

١٦٤

داموا بعيدين عن خيمة الإيمان والتوحيد ، وفاقدين لأي نوع من أنواع الحركة والنهوض والسعي الذي يتحدّون به أعداءهم ، لكن ما إن وجدوا قائدهم ونوّروا قلوبهم بنور العلم والتوحيد حتى أغاروا على الفراعنة وسيطروا على الحكم وحرروا أنفسهم من نير الفراعنة.

و «القسم الآخر» من هذه السورة يتحدّث عن «قارون» ، ذلك الرجل المستكبر الثري الذي كان يعتمد على علمه وثروته حتى لقي أثر غروره ما لقيه فرعون من مصير أسود!

أحدهما غريق في الماء والآخر دفين في الأرض وذلك معتمد على سلطانه وجيشه في حكمه ، وهذا معتمد على ماله وثروته! ليتّضح أنّه لا يمكن لتجار مكّة وأثريائهم ولا لأقويائهم من المشركين ، ولا سياسيّيهم في ذلك المحيط ، أن يقاوموا إرادة الله في انتصار المستضعفين على المستكبرين.

وهذا القسم جاء في أواخر السورة.

وبين هذين القسمين دروس حيّة وقيّمة من التوحيد والمعاد وأهمية القرآن ، وبيان حال المشركين في يوم القيامة ، ومسألة الهداية والضلالة ، والإجابة على حجج الأفراد الضعاف ، وهي في الحقيقة «نتيجة» الأوّل و «مقدمة» للقسم الثاني.

فضيلة تلاوة سورة القصص :

نقرأ في بعض الأحاديث الواردة عن الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «من قرأ طسم القصص أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بموسى وكذب به ، ولم يبق ملك في السماوات والأرض إلّا شهد له يوم القيامة أنّه كان صادقا»(١) .

كما ورد في حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «من قرأ سورة الطواسين الثلاث في ليلة الجمعة كان من أولياء الله ، وفي جواره وكنفه ، لم يصبه

__________________

(١) تفسير مجمع البيان في بداية سورة القصص.

١٦٥

في الدنيا بؤس أبدا ، وأعطي في الآخرة حتى يرضى وفوق رضاه ، وزوجه الله مائة زوجة من الحور العين»(١) .

وبديهي أن كلّ هذا الأجر والثواب هو لأولئك الذين يقفون جنبا إلى جنب مع أصحاب موسىعليه‌السلام والمؤمنين الصادقين ـ عند قراءة هذه السورة ـ ليبارزوا فراعنة عصرهم وقارون زمانهم ، ولا يقبعون في الأجحار أو يطأطئون رؤوسهم. عند مواجهتهم الأخطار والمشاكل والأعداء ، ولا يضيّعون مواهبهم ليستغلّها الآخرون

هذا الأجر خاص لمن يقرءون ويتفكرون ، وعلى ضوء هذه السورة يخططون لحياتهم وعملهم

* * *

__________________

(١) ثواب الأعمال طبقا لنقل تفسير نور الثقلين في بداية سورة القصص.

١٦٦

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (٦) )

التّفسير

المشيئة الالهية تقتضي انتصار :

هذه هي المرّة الرابعة عشرة التي نواجه بها بدايات السورة «بالحروف المقطعة» في القرآن ، وقد تكررت فيها( طسم ) ثلاث مرات ، وهي هنا ـ أي «طسم» ـ ثالث المرات وآخرها

وقد بيّنا مرارا وتكرارا أنّ للحروف المقطعة من القرآن تفاسير متعددة ومختلفة ، وقد ذكرناها وبحثناها بحثا وافيا في بدايات سور «البقرة» و «آل

١٦٧

عمران» و «الأعراف».

وعلاوة على ذلك كلّه فإنّه يظهر من كثير من الرّوايات في شأن( طسم ) أن هذه الحروف إشارات موجزة عن صفات الله سبحانه وتعالى ، أو أنّها أماكن مقدسّة ولكنّها في الوقت ذاته لا تمنع من ذلك التّفسير المعروف الذي أكّدنا عليه مرارا ، وهو أنّ الله تعالى يريد أن يوضح هذه الحقيقة للجميع ، وهي أنّ هذا الكتاب السماوي العظيم الذي هو أساس التغيير الكبير في تأريخ البشرية وحامل المنهج المتكامل للحياة الكريمة للإنسانيّة يتشكّل من أمور بسيطة كهذه الحروف «ألف باء ...» التي يستطيع أن يتلفظ بها كل صبّي.

ومن هنا تتجلى عظمة القرآن وأهميته القصوى ، إذ يتألف من هذه الحروف البسيطة التي هي في اختيار الجميع.

ولعل هذا السبب كان داعيا لأن يكون الحديث بعد «الحروف المقطّعة» مباشرة عن عظمة القرآن ، إذ يقول :( تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ ) ، وبالرغم من أن( الْكِتابِ الْمُبِينِ ) جاء بمعنى اللوح المحفوظ كما قد ورد في الآية (٦١) من سورة يونس( وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ ) والآية السادسة من سورة هود( كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ ) ولكنّه جاء بمعنى القرآن في الآية محل البحث بقرينة ذكر «الآيات» وكذلك جملة( نَتْلُوا عَلَيْكَ ) الواردة في الآية التي بعدها

وقد وصف القرآن هنا بكونه «مبين» وكما يستفاد من اللغة فإنّ كلمة «مبين» تستعمل في المعنيين «اللازم والمتعدي» ، فهو واضح في نفسه وموضّح لغيره ، والقرآن المجيد بمحتواه المشرق يميّز الحق عن الباطل ، ويبيّن الطريق اللاحب من الطريق المعوّج(١) .

والقرآن بعد ذكر هذه المقدّمة القصيرة يحكى قصّة «فرعون» و «موسى» فيقول:( نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) .

__________________

(١) ونذكر ضمنا أنّ التعبير بـ «تلك» المستعملة للإشارة للبعيد ـ كما بيّنا سابقا ـ لبيان عظمة هذه الآيات أيضا

١٦٨

التعبير بـ «من» التي هي للتبعيض إشارة إلى هذه اللطيفة الدقيقة ، وهي أن ما ورد ـ هنا في القرآن ـ من هذه القصّة ذات الأحداث الكبيرة يتناسب وما تقتضيه الضرورة فحسب

والتعبير «بالحق» إشارة إلى أنّ ما ورد هنا خال من كل خرافة وأسطورة ، وبعيد عن الأباطيل والأكاذيب فهي إذن تلاوة مقترنة بالحق والواقعية

والتعبير بـ( لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) هو تأكيد على هذه الحقيقة ، وهي أنّ مؤمني ذلك العصر الذين كانوا يرزخون تحت ضغوط المشركين والأعداء ، عليهم أن يدركوا هذه الحقيقة ، وهي أنّ الأعداء مهما تعاظمت قواهم وتزايدوا عددا وعددا ، وأن المؤمنين مهما قلّوا وكانوا تحت ضغط أعدائهم وكانوا ضعافا بحسب الظاهر ، فلا ينبغي أن يهنوا وينكصوا عن طريق الحق ، فكل شيء عند الله سهل يسير!

الله الذي ربّى «موسى» في أحضان «فرعون» لإبادته وتدميره الله الذي أوصل العبيد والمستضعفين إلى أن يكونوا حاكمين في الأرض ، وأذل الجبابرة والمستكبرين وأبادهم.

الله الذي رعى الطفل الرضيع بين أمواج النيل فحفظه ونجاه وأغرق آلاف الفراعنة الأقوياء في تلك الأمواج هو قادر على أن ينجيكم «أيّها المؤمنون»

أجل ، إنّ الهدف الأصل من هذه الآيات هم المؤمنون وهذه التلاوة لأجلهم ، والمؤمنون الذين يستلهمون من معاني هذه الآيات ويشقّون طريقهم ـ وسط زحام المشاكل والأخطار ـ باطمئنان.

كان ذلك في الحقيقة بيانا إجماليا ، ثمّ يفصّل القرآن ما أجمله بقوله :( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ ) .

فقد كان عبدا ضعيفا ، وعلى أثر جهله وعدم معرفته أضاع شخصيته ووصل إلى مرحلة من الطغيان حتى أنّه ادّعى الرّبوبية والتعبير بـ «الأرض» إشارة إلى أرض مصر وما حولها وحيث أن القسم المهم العامر من الأرض في ذلك العصر

١٦٩

كان «مصرا» فقد جاء التعبير بالأرض بصورة مطلقة.

ويحتمل أيضا أنّ الألف واللام للعهد أي «أرض مصر».

وعلى كل حال فإنّ فرعون ـ من أجل تقوية قواعده الاستكبارية ـ قد أقدم على عدّة جرائم كبرى!

فالجريمة الأولى ، أنّه فرّق بين أهل مصر( وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً ) وهي سياسة معروفة ومتبعة على امتداد التاريخ ، وعليها يستند المستكبرون في حكمهم ، فلا يمكن أن تحكم الأقلية ـ التي لا تعدّ شيئا ـ على الأكثرية إلّا بالخطة المعروفة «فرّق تسد» فهم مستوحشون من «كلمة التوحيد» و «توحيد الكلمة» ويخافون منهما أبدا –

ويخافون من التفاف الناس بعضهم حول بعض ، ولذلك يلجأون إلى الطبقية في الحكم ، فهذه الطريقة وحدها تتكفل بقاءهم في الحكم ، كما صنعه فرعون في أهل مصر ، ويصنعه الفراعنة في كل عصر ومصر.

أجل ، إنّ فرعون قسّم أهل مصر إلى طائفتي «الأقباط» و «الأسباط».

فالأقباط هم أهل مصر «الأصليون» الذين كانوا يتمتعون بجميع وسائل الرفاه والراحة ، وكانت في أيديهم القصور ودوائر الدولة والحكومة.

و «الأسباط» هم المهاجرون إلى مصر من بني إسرائيل الذين كانوا على هيئة العبيد والخدم «في قبضة الأقباط»! وكانوا محاطين بالفقر والحرمان ، ويحملون أشدّ الأعباء دون أن ينالوا من وراء ذلك نفعا [والتعبير بالأهل في شأن الطائفتين الأقباط والأسباط هو لأنّ بني إسرائيل كانوا قد سكنوا مصر مدّة طويلة فكانوا يعدّون من أهلها حقيقة!].

وحين نسمع أن بعض الفراعنة يستعمل مائة ألف مملوك من العبيد لتشييد مقبرة خلال عشرين سنة (كما هي الحال بالنسبة إلى هرم خوفو المعروف الكائن بمقربة من القاهرة عاصمة مصر) ويموت في سبيل ذلك آلاف العبيد والمماليك

١٧٠

على أثر الضرب بالأسواط وتحت ضغط العمل الشاق ، ندرك جيدا الحالة الارهابية السائدة في ذلك المجتمع

والجريمة الثّانية هي استضعافه لجماعة من أهل مصر بشكل دموي سافر كما يعبر عن ذلك القرآن بقوله :( يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ ) .

فقد كان أصدر أمرا بأن يراقبوا الأطفال الذين يولدون من بني إسرائيل ، فإن كانوا ذكورا فإنّ حظهم الذبح ، وإن كانوا إناثا فيتركن للخدمة في المستقبل في بيوت الأقباط.

وترى ماذا كان يهدف فرعون من وراء عمله هذا؟!

المعروف أنّه رأى في منامه أن شعلة من النّار توهجت من بيت المقدس وأحرقت جميع بيوت مصر ، ولم تترك بيتا لأحد من الأقباط إلّا أحرقته ، ولكنّها لم تمسّ بيوت بني إسرائيل بسوء ، فسأل الكهنة والمعبرين للرؤيا عن تأويل ذلك ، فقالوا له : يخرج رجل من بيت المقدس يكون على يديه هلاكك وزوال حكومة الفراعنة(١) .

وأخيرا كان هذا الأمر سببا في عزم فرعون على قتل الرضّع من الأطفال الذكور من بني إسرائيل(٢) .

كما يحتمل ـ أيضا ـ أنّ الأنبياء السابقين بشّروا بظهور موسىعليه‌السلام وخصائصه ، وقد أحزن الفراعنة خبره ، فلمّا اطّلعوا على هذا الأمر أقدموا على التصدي له(٣) .

ولكون ورود جملة( يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ ) بعد جملة( يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ )

__________________

(١) راجع في ذلك مجمع البيان ، ج ٧ ، ص ٢٣٩ ، والتّفسير الكبير للفخر الرازي ذيل الآيات.

(٢) المصدر السابق.

(٣) راجع التّفسير الكبير للفخر الرازي ـ ذيل الآية محل البحث.

١٧١

فإنّ مسألة أخرى تتجلّى أمامنا ، وهي أنّ الفراعنة اتّخذوا خطة لاستضعاف بني إسرائيل بذبح الأبناء ، لئلا يستطيع بنوا إسرائيل أن يواجهوا الفراعنة ويحاربوهم ، وكانوا يتركون النساء اللاتي لا طاقة لهن على القتال والحرب ، ليكبرن ثمّ يخدمن في بيوتهم.

والشاهد الآخر هو الآية (٢٥) في سوره المؤمن ، إذ يستفاد منها ـ بصورة جيدة ـ أن خطة قتل الأبناء واستحياء النساء كانت موجودة حتى بعد ظهور موسىعليه‌السلام [ومجيئه إلى الفراعنة]. إذ تقول :( فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ ) .

وجملة( يَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ ) يظهر منها أنّهم كانوا يصرّون على إبقاء البنات والنساء ، إمّا لكي يخدمن في بيوت الأقباط ، أو للاستمتاع الجنسي ، أو لكلا الأمرين جميعا.

وفي آخر جملة تأتي الآية بتعبير جامع ، وفيه بيان العلة أيضا فتقول :( إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) .

وباختصار فإنّ عمل فرعون يتلخص في الفساد في الأرض ، فاستعلاؤه كان فسادا ، وإيجاد الحياة الطبقية في مصر فساد آخر ، وتعذيب بني إسرائيل واستضعافهم وذبح أبنائهم واستحياء نسائهم ليخدمن في بيوت الأقباط فساد ثالث ، وسوى هذه المفاسد كانت لديه مفاسد كثيرة أخرى أيضا.

والتعبير بـ «يذبح» المشتق من مادة «المذبح» تدل على معاملة الفراعنة لبني إسرائيل كمعاملة القصابين للأغنام والأنعام الأخرى ، إذ كانوا يذبحون هؤلاء الناس الأبرياء ويحتزون رؤوسهم!(١) .

__________________

(١) ممّا يلفت النظر أنّ مادة (ذبح) في الفعل الثلاثي مجرّدة ، وفعلها متعدّ بنفسه ، ولكنّها هنا استعملت بصيغة التفعيل لتدلّ على الكثرة ، كما تستفاد من صيغة المضارع الاستمرار على هذه الجناية [فلاحظوا بدقة].

١٧٢

وفي هذه الخطة الإجرامية من قبل الفراعنة ضد الحوامل قصص مذكورة ، إذ قال بعضهم : إنّ فرعون كان قد أمر برقابة مشددة على النساء الحوامل من بني إسرائيل ، وأن لا يلي إيلادهن إلّا قابلة من القبطيّات والفرعونيّات ، فإذا كان المولود ذكرا فإنّ جلاوزة القصر الفرعوني يأتون ليتسلموا «قربانهم»(١) .

ولا يعرف بدقّة كم بلغ عدد «ضحايا الحوامل» من أطفال بني إسرائيل على أثر هذه الخطة الإجرامية؟ قال بعضهم : كان الضحايا من الأطفال المواليد تسعين ألفا ، وأوصلها بعضهم إلى مئات الآلاف!

لقد كانوا يظنون أنّهم سيقفون بوجه إرادة الله الحتمية بهذه الجرائم الوحشية ، فلا ينهض بنوا إسرائيل ضدهم ولا يزول سلطانهم.

ثمّ تأتي الآية الأخرى لتقول : إنّ إرادتنا ومشيئتنا اقتضت احتواء المستضعفين بلطفنا وكرمنا( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ ) وأن تشملهم رعايتنا ومواهبنا تكون بيد الحكومة ومقاليد الأمور :( وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ ) .

ويكونون اولي قوّة وقدرة في الأرض( وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ )

ما أبلغ هاتان الآيتان ، وما أعظم ما فيهما من رجاء وأمل! إذ جاءتا بصورة الفعل المضارع والاستمرار ، لئلا يتصور أنّهما مختصتان بالمستضعفين من بني إسرائيل وحكومة الفراعنة ، إذ تبد آن بالقول :( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ ).

أي إنّ فرعون أراد أن يجعل بني إسرائيل شذر مذر ويكسر شوكتهم ويبير قواهم وقدرتهم ، ولكننا أردنا ـ ونريد ـ أن ينتصروا ويكونوا أقوياء!

فرعون يريد أن تكون الحكومة بيد المستكبرين إلى الأبد. ولكنّا أردنا أن تكون بيد المستضعفين ، فكان كما أردنا.

__________________

(١) التّفسير الكبير الفخر الرازي ذيل الآيات محل البحث.

١٧٣

والتعبير بـ «نمنّ» كما أشرنا إلى ذلك من قبل ، معناه منح الهبات والنعم ، وهو يختلف تمام الاختلاف مع «المنّ» المراد به عدّ النعم لتحقير الطرف المقابل ، وهو مذموم قطعا.

ويكشف الله في هاتين الآيتين الستار عن إرادته ومشيئته بشأن المستضعفين ، ويذكر في هذا المجال خمسة أمور بعضها مرتبط ببعض ومتقاربة أيضا :

الأوّل : قوله تعالى :( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ ) لنشملهم بالمواهب والنعم إلخ.

الثّاني : قوله :( وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً ) .

الثّالث : قوله :( وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ ) أي المستخلفين بعد الفراعنة والجبابرة.

الرّابع : قوله :( وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ) أي نجعلهم يحكمون في الأرض وتكون السلطة والقدرة وغيرهما لهم وتحت تصرفهم

والخامس : إن ما كان يحذره الأعداء منهم وما عبأوه لمواجهتهم يذهب أدراج الرياح ، وتكون العاقبة لهم( وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ ) .

هكذا لطف الله وعنايته في شأن المستضفين ، أمّا من هم أولئك المستضعفون؟! وما هي أوصافهم؟! فسنتحدث عن كل ذلك بعد قليل بأذن الله وكان «هامان» وزير فرعون المعروف يتمتع بنفوذ وسلطة إلى درجة أن الآية المتقدمة إذ تتحدث عن جنود مصر فإنّها تعزوهم إلى فرعون وهامان معا (وسيأتي مزيد إيضاح وشرح عن حال هامان بإذن الله في ذيل الآية (٣٨) من هذه السورة ذاتها).

* * *

١٧٤

بحوث

١ ـ حكومة المستضعفين العالمية

قلنا : إنّ الآيات المتقدمة لا تتحدث عن فترة خاصة أو معينة ، ولا تختص ببني إسرائيل فحسب ، بل توضح قانونا كليا لجميع العصور والقرون ولجميع الأمم والأقوام ، إذ تقول :( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ ) .

فهي بشارة في صدد انتصار الحق على الباطل والإيمان على الكفر.

وهي بشارة لجميع الأحرار الذين يريدون العدالة وحكومة العدل وانطواء بساط الظلم والجور.

وحكومة بني إسرائيل وزوال حكومة الفراعنة ما هي إلّا نموذج لتحقق هذه المشيئة الإلهية والمثل الأكمل هو حكومة نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه بعد ظهور الإسلام حكومة الحفاة العفاة والمؤمنين المظلومين الذين كانوا موضع تحقير فراعنة زمانهم واستهزائهم ويرزخون تحت تأثير الضغوط «الظالمة» لائمّة الكفر والشرك.

وكانت العاقبة أن الله فتح على أيدي هؤلاء المستضعفين أبواب قصور الأكاسرة والقياصرة ، وأنزل أولئك من أسرّة الحكم والقدرة وأرغم أنوفهم بالتراب.

والمثل الأكبر والأوسع هو ظهور حكومة الحق والعدالة على جميع وجه البسيطة ـ والكرة الأرضية ـ على يد «المهديّ» أرواحنا له الفداء.

فهذه الآيات هي من جملة الآيات التي تبشّر ـ بجلاء ـ بظهور مثل هذه الحكومة ، ونقرأ عن أهل البيتعليهم‌السلام في تفسير هذه الآية أنّها إشارة إلى هذا الظهور العظيم.

فقد ورد في نهج البلاغة عن عليعليه‌السلام قوله : «لتعطفن الدنيا علينا بعد شماسها

١٧٥

عطف الضروس على ولدها ، وتلا عقيب ذلك :( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ ) »(١) .

وفي حديث آخر نقرأ عنهعليه‌السلام في تفسير الآية المتقدمة قوله : «هم آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله يبعث الله مهدّيهم بعد جهدهم فيعزّهم ويذل عدوّهم»(٢) .

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام علي بن الحسين زين العابدينعليه‌السلام قوله : «والذي بعث محمّدا بالحقّ بشيرا ونذيرا ، إنّ الأبرياء منّا أهل البيت وشيعتهم بمنزلة موسى وشيعته ، وإن عدونا وأشياعهم بمنزلة فرعون وأشياعه»(٣) (أي سننتصر أخيرا وينهزم أعداؤنا وتعود حكومة العدل والحق لنا).

ومن الطبيعي أن حكومة المهديعليه‌السلام العالميّة في آخر الأمر لا تمنع من وجود حكومات إسلامية في معايير محدودة قبلها من قبل المستضعفين ضد المستكبرين ، ومتى ما تمّت الظروف والشروط لمثل هذه المحكومات الإسلامية فإنّ وعد الله المحتوم والمشيئة الإلهية سيتحققان في شأنها ، ولا بدّ أن يكون النصر حليفها بإذن الله.

٢ ـ من هم المستضعفون ومن هم المستكبرون؟!

كلمة «المستضعف» مشتقّة من مادة «ضعف» ، ولكنّها لما استعملت في باب «الاستفعال» دلت على من يكبّل بالقيد والغلّ ويجرّ إلى الضعف.

وبتعبير آخر : ليس المستضعف هو الضعيف والفاقد للقدرة والقوّة بل المستضعف من لديه قوى بالفعل وبالقوة ، ولكنّه واقع تحت ضغوط الظلمة والجبابرة ، وبرغم أنّه مكبل بالأغلال في يديه ورجليه فإنّه غير ساكت

__________________

(١) نهج البلاغة ـ الكلمات القصار رقم ٢٠٩.

(٢) الغيبة للشيخ الطوسي حسب نقل تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١١٠.

(٣) مجمع البيان ذيل الآية.

١٧٦

ولا يستسلم ، ويسعى دائما لتحطيم الأغلال ونيل الحرية ، والتصدي للجبابرة والمستكبرين ، ونصرة مبدأ العدل والحق.

فالله سبحانه وعد أمثال هؤلاء بالمنّ وبالحكومة على الأرض ، لا الأفراد الجبناء الذين لا يجرؤن على ادنى اعتراض فكيف إذا حمي الوطيس وحان أوان التضحية والفداء؟!

فبنوا إسرائيل استطاعوا أن يأخذوا الحكومة ويرثوها من الفراعنة لأنّهم التفوا حول موسىعليه‌السلام وعبؤوا قواهم وشكّلوا صفا واحدا ، واستكملوا بقايا إيمانهم الذي ورثوه عن جدّهم إبراهيم الخليل ، ونفضوا الخرافات عن أفكارهم ونهضوا مع موسىعليه‌السلام .

وبالطبع فإنّ المستضعفين أنواع ، فهناك مستضعف فكريّ ، وهناك مستضعف ثقافيّ ، وهناك مستضعف اقتصادي ، وآخر مستضعف سياسي ، أو أخلاقي ، وأكثر ما أكّد عليه القرآن هو الاستضعاف السياسي والأخلاقي!.

وما من شك أنّ المستكبرين الجبابرة يسعون أبدا لأن يجرّوا قرابينهم إلى الاستضعاف الفكري والثقافي ، ثمّ إلى الاستضعاف الاقتصادي ، لئلا تبقى لهم قوّة ولا قدرة ، ولئلا يفكروا بالنهوض وتولي زمام الحكومة.

وفي القرآن المجيد ورد الكلام عن المستضعفين في خمسة موارد ، وعلى العموم فإنّ هذا الكلام يدور حول المؤمنين الذين يرزخون تحت ضغوط الجبابرة.

ففي مكان من القرآن الكريم يدعو إلى الجهاد والمقاتلة في سبيل الله والمستضعفين إذ يقول :( وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ

١٧٧

أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً ) (١) .

وفي مكان واحد فقط ورد الكلام عن الذين أعانوا الكفار وظلموا أنفسهم ، وادعوا أنّهم مستضعفون ، ولم يهاجروا في سبيل الله ، فالقرآن ينفي عنهم هذا الاستضعاف فيقول :( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً ) (٢) .

وعلى كل حال فإنّه القرآن في كل مكان منه يدافع عن المستضعفين ويذكرهم بخير ، ويعبّر عنهم بالمؤمنين الذين يرزخون تحت ضغوط المستكبرين المؤمنون المجاهدون والساعون بجدّهم المشمولون بعناية الله ولطفه.

٣ ـ أسلوب المستكبرين على مدى التأريخ

لم يكن فرعون وحده يذبح أبناء بني إسرائيل ويستحيي نساءهم لا ذلالهم ، فعلى مدى التاريخ نجد أسلوب الجبابرة على هذه الشاكلة ، حيث يسعون لتعطيل القدرات والقوى بأية وسيلة كانت ، فحيث لم يستطيعوا قتل «الرجال» يلجأون إلى قتل «الرجولة» ، ويذوّبون روح الشهامة بنشر الفساد والمخدّرات والفحشاء والمنكر والانحراف الجنسي وكثرة الشراب والقمار ، ليستطيعوا براحة بال واطمئنان خاطر أن يواصلوا حكمهم وحكومتهم.

ولكنّ أنبياء الله ، وخاصّة نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله كانوا يسعون لإيقاظ قوى الفتوة النائمة ويشحنوا قدرات الشباب الهائلة ، ويحرروهم من أسر الذلة ، وكانوا

__________________

(١) النساء ، الآية ٧٥.

(٢) النساء ، الآية ٩٧.

١٧٨

يعلمون حتى النساء دروسا من الشجاعة والشهامة ، ليقفن في صفوف الرجال ضد المستكبرين.

والشواهد على هذين المنهجين في البلاد الإسلامية في التأريخ المعاصر والتأريخ القديم كثيرة وواضحة جيّدا ، فلا حاجة لسردها وذكرها بتفصيل.

* * *

١٧٩

الآيات

( وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩) )

التّفسير

في قصر فرعون!

من أجل رسم مثل حيّ لانتصار المستضعفين على المستكبرين ، يدخل القرآن المجيد في سرد قصّة موسى وفرعون ، ويتحدث بالخصوص عن مراحل يكون فيها موسى في أشدّ حالات الضعف ، أمّا فرعون فهو في أقوى الحالات وأكثرها هيمنة ليتجسّد انتصار مشيئة الله على إرادة الجبابرة في أعلى الصور وأحسن الوجوه

يقول القرآن :( وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ

١٨٠

فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) .

وهذه الآية على ايجازها تشتمل على أمرين ونهيين وبشارتين ، وهي خلاصة قصّة كبيرة وذات أحداث ومجريات ننقلها بصورة مضغوطة :

كانت سلطة فرعون وحكومته الجائرة قد خططت تخطيطا واسعا لذبح «الأطفال» من بني إسرائيل حتى أن القوابل [من آل فرعون] كن يراقبن النساء الحوامل [من بني إسرائيل].

ومن بين هؤلاء القوابل كانت قابلة لها علاقة مودّة مع أمّ موسىعليه‌السلام «وكان الحمل خفيّا لم يظهر أثره على أم موسى» وحين أحست أم موسى بأنّها مقرّب وعلى أبواب الولادة أرسلت خلف هذه القابلة وأخبرتها بالواقع ، وأنّها تحمل جنينا في بطنها وتوشك أن تضعه ، فهي بحاجة ـ هذا اليوم ـ إليها.

وحين ولد موسىعليه‌السلام سطع نور بهيّ من عينيه فاهتزّت القابلة لهذا النور وطبع حبّه في قلبها ، وأنار جميع زوايا قلبها.

فالتفتت القابلة إلى أم موسى وقالت لها : كنت أروم أن أخبر الجهاز الفرعوني بهذا الوليد ليأتي الجلاوزة فيقتلوه «وأنال بذلك جائزتي» ولكن ما عسى أن أفعل وقد وقع حبّه الشديد في قلبي ، وأنا غير مستعدة لأن تنقص ولو شعرة واحدة من رأسه ، فاهتمي بالمحافظة عليه ، وأظنّ أن عدوّنا المتوقع سيكون هذا الطفل أخيرا.

ثمّ خرجت القابلة من بيت أمّ موسى فرآها بعض الجواسيس من جلاوزة فرعون وصمموا على أن يدخلوا البيت ، فعرفت أخت موسى ما أقدموا عليه فأسرعت إلى أمّها وأخبرتها بأن تتهيأ للأمر ، فارتبكت ولم تدر ما ذا تصنع؟! وفي هذه الحالة من الارتباك وهي ذاهلة لفت وليدها «موسى» بخرقة وألقته في التنور فإذا بالمأمورين والجواسيس يقتحمون الدار ، فلم يجدوا شيئا إلّا التنور المشتعل نارا فسألوا أم موسى عن سبب دخول القابلة عليها فقالت : إنّها صديقتي وقد

١٨١

جاءت زائرة فحسب ، فخرجواءايسين.

ثمّ عادت أمّ موسى إلى رشدها وصوابها وسألت «أخت موسى» عن أخيها فأظهرت عدم معرفتها بمكانه ، وإذا البكاء يعلو من داخل التنور ، فركضت إلى التنور فرأت موسى مسالما وقد جعل الله النّار عليه بردا وسلاما «الله الذي نجّى إبراهيم الخليل من نار النمرود» فأخرجت وليدها سالما من التنور.

لكن الأمّ لم تهدأ إذ أن الجواسيس يمضون هنا وهناك ويفتشون البيوت يمنة ويسرة ، وكان الخطر سيقع لو سمعوا صوت هذا الطفل الرضيع.

وفي هذه الحال اهتدت أم موسى بإلهام جديد ، إلهام ظاهره أنّه مدعاة للخطر ، ولكن مع ذلك أحسّت بالاطمئنان أيضا.

كان ذلك من الله ولا بدّ أن يتحقق ، فلبست ثياب عملها وصممت على أن تلقي وليدها في النيل.

فجاءت إلى نجّار مصري «وكان النجار من الأقباط والفراعنة أيضا» فطلبت منه أن يصنع صندوقا صغيرا.

فسألها النجار قائلا : ما تصنعين بهذا الصندوق مع هذه الأوصاف؟ ولكن الأمّ لما كانت غير متعودة على الكذب لم تستطع دون أن تقول الحق والواقع ، وأنّها من بني إسرائيل ولديها طفل تريد إخفاءه في الصندوق.

فلمّا سمع النجّار القبطي هذا الخبر صمم على أن يخبر الجلاوزة والجلّادين ، فمضى نحوهم لكن الرعب سيطر على قلبه فارتج على لسانه وكلّما حاول أن يفهمهم ولو كلمة واحدة لم يستطع ، فأخذ يشير إليهم إشارات مبهمة ، فظن أولئك أنّه يستهزئ بهم فضربوه وطردوه ، ولما عاد إلى محله عاد عليه وضعه الطبيعي ، فرجع ثانية إليهم ليخبرهم فعادت عليه الحالة الأولى من الارتجاج والعيّ ، وأخيرا فقد فهم أن هذا أمر إلهي وسرّ خفي ، فصنع الصندوق وأعطاه لأم موسى.

ولعلّ الوقت كان فجرا والناس ـ بعد ـ نيام ، وفي هذه الحال خرجت أم

١٨٢

موسى وفي يديها الصندوق الذي أخفت فيه ولدها موسى ، فاتجهت نحو النيل وأرضعت موسى حتى ارتوى ، ثمّ ألقت الصندوق في النيل فتلقفته الأمواج وأخذت تسير به مبتعدة عن الساحل ، وكانت أم موسى تشاهد هذا المنظر وهي على الساحل وفي لحظة أحست أن قلبها انفصل عنها ومضى مع الأمواج ، فلو لا لطف الله الذي شملها وربط على قلبها لصرخت ولانكشف الأمر واتضح كل شيء.

ولا أحد يستطيع أن يصور ـ في تلك اللحظات الحساسة ـ قلب الأم بدقّة.

لا يستطيع أيّ أحد أن يصور حال أم موسى وما أصابها من الهلع والفزع ساعة ألقت طفلها في النيل ولكنّ هذه الأبيات المترجمة عن الشاعرة «پروين اعتصامي» ـ بتصرف ـ تحكي صورة «تقريبية» عن ذلك الموقف :

أمّ موسى حين ألقت طفلها

للذي رب السما أوحى لها

نظرت للنيل يمضي مسرعا

آه لو تعرف حقا حالها

ودوي الموج فيه صاخب

وفتاها شاغل بلبالها

* * *

وتناغيه بصمت : ولدي

كيف يمضي بك هذا الزورق

دون ربان ، وإن ينسك من

هو ذو لطف فمن ذا يشفق

فأتاها الوحي : مهلا ، ودعي

باطل الفكر ووهما يزهق

* * *

إن موسى قد مضى للمنزل

فاتق الله ولا تستعجلي

قد تلقينا الذي ألقيته

بيد ترعى الفتى لا تجهلي

وخرير الماء أضحى مهده

في اهتزاز مؤنس إن تسألي

* * *

وله الموج رؤوما حدبا

فاق من يحدب أمّا وأبا

١٨٣

كل نهر ليس يطغى عبثا

إن أمر الله كان السببا

* * *

يأمر البحر فيغدو هائجا

وله الطوفان طوعا مائجا

عالم الإيجاد من آثاره

كل شيء لعلاه عارجا

* * *

أين تمضين دعيه فله

خير ربّ يرتضيه لا هجا

كل هذا من جهة!

ولكن تعالوا لنرى ما يجري في قصر فرعون؟!

ورد في الأخبار أنّ فرعون كانت له بنت مريضة ، ولم يكن له من الأبناء سواها ، وكانت هذه البنت تعاني من آلام شديدة لم ينفعها علاج الأطباء ، فلجأ إلى الكهنة فقالوا له : نتكهّن ونتوقع أن إنسانا يخرج من البحر يكون شفاؤها من لعاب فمه حين يدهن به جسدها ، وكان فرعون وزوجه «آسية» في انتظار هذا «الحادث» وفي يوم من الأيّام فجأة لاح لعيونهما صندوق تتلاطمه أمواج النيل فلفت الأنظار ، فأمر فرعون عمّاله أن يأتوا به ليعرفوا ما به؟!

ومثل الصندوق «المجهول» الخفيّ أمام فرعون ، ولم يتمكن أحد أن يفتحه.

بلى كان على فرعون أن يفتحه لينجو موسى على يد فرعون نفسه ، وفتح الصندوق على يده فعلا!.

فلمّا وقعت عين آسية عليه سطع منه نور فأضاء قلبها ، ودخل حبّه في قلوب الجميع ، ولا سيما قلب امرأة فرعون «آسية» وحين شفيت بنت فرعون من لعاب فمه زادت محبّته أكثر فأكثر(١) .

ولنعد الآن إلى القرآن الكريم لنسمع خلاصة القصّة من لسانه! يقول القرآن

__________________

(١) ورد هذا القسم من الرّواية عن ابن عباس في تفسير الفخر الرازي كما هناك روايات آخرها في تفسير «أبو الفتوح» و «مجمع البيان».

١٨٤

في هذا الصدد :( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً ) .

كلمة «التقط» مأخوذة من مادة «التقاط» ومعناها في الأصل الوصول إلى الشيء دون جهد وسعي ، وإنّما سميت الأشياء التي يعثر عليها «لقطة» للسبب نفسه أيضا

وبديهي أنّ الفراعنة لم يجلبوا الصندوق الذي فيه الطفل الرضيع من الماء ليربوه في أحظانهم فيكون لهم عدوا لدودا ، بل أرادوه ـ كما قالت امرأة فرعون ـ قرة عين لهم.

ولكن النتيجة والعاقبة كان ما كان وحدث ما حدث وكما يقول علماء الأدب : إنّ اللام في الآية هنا( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ ) هي «لا العاقبة» ليست «لام العلة» ولطافة التعبير كامنة في أنّ الله سبحانه يريد أن يبيّن قدرته ، وكيف أن هذه الجماعة «الفراعنة» عبّأت جميع قواها لقتل بني إسرائيل ، وإذا الذي أرادوا قتله ـ وكانت كل هذه المقدمات من أجله ـ يتربى في أحضانهم كأعزّ أبنائهم.

والتعبير ـ ضمنا ـ بآل فرعون يدل على أنّ الملتقط لم يكن واحدا ، بل اشترك في التقاط الصندوق جماعة من آل فرعون ، وهذا بنفسه شاهد على أنّهم كانوا ينتظرون مثل هذا الحدث!.

ثمّ تختتم الآية بالقول :( إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ ) .

كانوا خاطئين في كل شيء ، وأي خطأ أعظم من أن يحيدوا عن طريق العدل والحقّ ، وأن يبنوا قواعد حكمهم على الظلم والجور والشرك!.

وأي خطأ أعظم أن يذبحوا آلاف الأطفال ليقتلوا موسىعليه‌السلام ، ولكن الله سبحانه أودعه في أيديهم وقال لهم : خذوا عدوّكم هذا وربّوه ليكبر عندكم؟!(١)

__________________

(١) يقول الراغب في مفرداته : إن الفرق بين «الخاطئ» «والمخطئ» هو أنّ الخاطئ هو من يقدم على عمل لا يخرج من عهدته ويطوي طريق الخطأ بنفسه أمّا المخطي فيقال في من يقدم على عمل ويخرج من عهدته ، إلّا أنّه يخطئ في الأثناء صدفة ، فيتلف العمل.

١٨٥

ويستفاد من الآية التالية أن شجارا حدث ما بين فرعون وامرأته ، ويحتمل أن بعض أتباعه كانوا قد وقفوا عند رأس الطفل ليقتلوه ، لأنّ القرآن الكريم يقول في هذا الصدد :( وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ) .

ويلوح للنظر أنّ فرعون وجد في مخايل الطفل والعلائم الأخرى ومن جملتها إيداعه في التابوت «الصندوق» وإلقاءه بين أمواج النيل ، وما إلى ذلك ـ أن هذا الطفل من بني إسرائيل ، وأن زوال ملكه على يده ، فجثم كابوس ثقيل على صدره من الهم وألقى على روحه ظلّة ، فأراد أن يجري قانون إجرامه عليه.

فأيده أطرافه وأتباعه المتملّقون على هذه الخطة ، وقالوا : ينبغي أن يذبح هذا الطفل ، ولا دليل على أن لا يجري هذا القانون عليه.

ولكن آسية امرأة فرعون التي لم ترزق ولدا ذكرا ، ولم يكن قلبها منسوجا من قماش عمال قصر فرعون ، وقفت بوجه فرعون وأعوانه ومنعتهم من قتله.

وإذا أضفنا قصّة شفاء بنت فرعون بلعاب فم موسى ـ على ما قدمناه ـ فسيكون دليلا آخر يوضح كيفية انتصار آسية في هذه الازمة.

ولكن القرآن ـ بجملة مقتضية وذات مغزى كبير ـ ختم الآية قائلا :( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ! ) .

أجل ، إنّهم لم يشعروا أنّ أمر الله النافذ ومشيئته التي لا تقهر ، اقتضت أن يتربى هذا الطفل في أهم المراكز خطرا ولا أحد يستطيع أن يردّ هذه المشيئة ، ولا يمكن مخالفتها أبدا

* * *

١٨٦

ملاحظة

تخطيط الله العجيب

إظهار القدرة ليس معناه أن الله إذا أراد أن يهلك قوما جبارين ، يرسل عليهم جنود السماوات والأرض ، فيهلكهم ويدمرهم تدميرا.

إظهار القدرة هو أن يجعل الجبابرة والمستكبرين يدمرون أنفسهم بأيديهم ، يلهم قلوبهم بالإلقاء أنفسهم في البئر التي حفروها لغيرهم ، وأن يصنعوا لأنفسهم سجنا يموتون فيه! وأن يرفعوا أعواد المشانق ليعدموا عليها!

وفي قضية الفراعنة الجبابرة المعاندين حدث مثل هذا ، وتمّت تربية موسى ونجاته في جميع المراحل على أيديهم.

فالقابلة التي أولدت موسى كانت من الأقباط.

والنجار الذي صنع الصندوق الذي أخفي فيه موسى كان قبطيّا.

والذين التقطوا الصندوق كانوا من آل فرعون!.

والذي فتح باب الصندوق كان فرعون بنفسه أو امرأته آسية.

وأخيرا فإن المكان الآمن والهادىء الذي تربّى فيه موسى ـ البطل الذي قهر فرعون ـ هو قصر فرعون ذاته.

وبهذا الشكل يظهر الله تعالى قدرته.

* * *

١٨٧

الآيات

( وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) )

التّفسير

عودة موسى إلى حضن أمّه :

في هذه الآيات تتجسد مشاهد جديدة فأمّ موسى التي قلنا عنها : إنّها ألقت ولدها في أمواج النيل ، بحسب ما فصّلنا آنفا اقتحم قلبها طوفان شديد من الهمّ على فراق ولدها ، فقد أصبح مكان ولدها الذي كان يملأ قلبها خاليا وفارغا منه.

فأوشكت أن تصرخ من أعماقها وتذيع جميع أسرارها ، لكن لطف الله تداركها ، وكما يعبّر القرآن الكريم( وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) .

١٨٨

«الفارغ» معناه الخالي ، والمقصود به هنا أن قلب أم موسى أصبح خاليا من كل شيء إلّا من ذكر موسى وإن كان بعض المفسّرين يرون أن المقصود به هو خلوّ القلب من الهمّ والغمّ ، أو أنّه خال من الإلهام والبشائر التي بشرت بها أم موسى من قبل ، ولكن مع الالتفات لهذه الجمل والتدقيق فيها يبدوا هذا التّفسير غير صحيح.

وطبيعيّ تماما أنّ أمّا تفارق ولدها بهذه الصورة يمكن أن تنسى كل شيء إلّا ولدها الرضيع ، ويبلغ بها الذهول درجة لا تلتفت معها إلى ما سيصيبها وولدها من الخطر لو صرخت من أعماقها وأذاعت أسرارها.

ولكن الله الذي حمّل أم موسى هذا العبء الثقيل ربط على قلبها لتؤمن بوعد الله ، ولتعلم أنّه بعين الله ، وأنّه سيعود إليها وسيكون نبيّا.

كلمة «ربطنا» من مادة «ربط» ومعناها في الأصل شدّ وثاق الحيوان أو ما أشبهه بمكان ما ليكون محفوظا في مكانه ، ولذلك يدعى هذا المحلّ الذي تربط فيه الحيوانات بـ «الرباط» ثمّ توسعوا في اللغة فصار معنى الربط : الحفظ والتقوية والاستحكام ، والمقصود من «ربط القلب» هنا تقويته أي تثبيت قلب أم موسى ، لتؤمن بوعد الله وتتحمل هذا الحادث الكبير.

وعلى أثر لطف الله أحست أم موسى بالاطمئنان ، ولكنّها أحبت أن تعرف مصير ولدها ، ولذلك أمرت أخته أن تتبع أثره وتعرف خبره( وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ ) .

كلمة «قصّيه» مأخوذة من مادة «قصّ» على زنة «نصّ» ومعناها البحث عن آثار الشيء ، وإنّما سميّت القصّة قصّة لأنّها تحمل في طياتها أخبارا مختلفة يتبع بعضها بعضا.

فاستجابت «أخت موسى» لأمر أمّها ، وأخذت تبحث عنه بشكل لا يثير الشبهة ، حتى بصرت به من مكان بعيد ، ورأت صندوقه الذي كان في الماء يتلقفه

١٨٩

آل فرعون ويقول القرآن في هذا الصدد :( فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ ) .

ولكن أولئك لم يلتفتوا إلى أن أخته تتعقبه( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) .

قال البعض : إن خدم فرعون كانوا قد خرجوا بالطفل من القصر بحثا عن مرضعة له ، فرأتهم أخت موسى.

ويبدوا أنّ التّفسير الأوّل أقرب للنظر ، فعلى هذا بعد رجوع أم موسى إلى بيتها أرسلت أخته للبحث عنه ، فرأت ـ من فاصلة بعيدة ـ كيف استخرجه آل فرعون من النيل لينجو من الخطر المحدق.

هناك تفاسير أخرى لجملة( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) أيضا.

فالعلامة «الطبرسي» لا يستعبد أن يكون تكرار هذه الجملة في الآية السابقة والآيات اللاحقة إشارة إلى هذه الحقيقة ، وهي أن فرعون جاهل بالأمور الى هذه الدرجة فكيف يدعي الرّبوبية؟ وكيف يريد أن يحارب مشيئة الله التي لا تقهر!؟.

وعلى كل حال ، فقد اقتضت مشيئة الله أن يعود هذا الطفل إلى أمّه عاجلا ليطمئن قلبها ، لذلك يقول القرآن الكريم :( وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ ) (١) .

وطبيعي أن الطفل الرضيع حين تمر عليه عده ساعات فإنه يجوع ويبكي ولا يطيق تحمل الجوع ، فيجب البحث عن مرضع له ، ولا سيما أن ملكة مصر «امرأة فرعون» تعلق قلبها به بشدّة ، وأحبّته كروحها العزيزة.

كان عمال القصر يركضون من بيت لآخر بحثا عن مرضع له ، والعجيب في الأمر أنّه كان يأبى أثداء المرضعات.

لعل ذلك آت من استيحاشه من وجوه المرضعات ، أو أنّه لم يكن يتذوق

__________________

(١) «المراضع» جمع «مرضع» على زنة «مخبر» ومعناها المرأة التي تسقي الطفل لبنها من ثديها ، وقال البعض : (المراضع) جمع (مرضع) على زنة (مكتب) أي مكان الإرضاع ، أي ، «الأثداء» وقال البعض : يحتمل أن تكون الكلمة جمعا للمصدر الميمي «مرضع» بمعنى الرضاع ، ولكن المعنى الأوّل أنسب كما يبدو

١٩٠

ألبانهن ، إذ يبدو لبن كلّ منهن مرّا في فمه ، فكأنّه يريد أن يقفز من أحضان المراضع ، وهذا هو التحريم التكويني من قبل الله تعالى إذ حرّم عليه المراضع جميعا.

ولم يزل الطفل لحظة بعد أخرى يجوع أكثر فأكثر وهو يبكي وعمال فرعون يدورون به بحثا عن مرضع بعد أن ملأ قصر فرعون بكاء وضجيجا ، وما زال العمال في مثل هذه الحال حتى صادفوا بنتا أظهرت نفسها بأنّها لا تعرف الطفل ، فقالت :( هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ ) .

إنّني أعرف امرأة من بني إسرائيل لها ثديان مملوءان لبنا ، وقلب طافح بالمحبّة ، وقد فقدت وليدها ، وهي مستعدة أن تتعهد الطفل الذي عندكم برعايتها.

فسّر بها هؤلاء وجاءوا بأمّ موسى إلى قصر فرعون ، فلمّا شمّ الطفل رائحة أمّه التقم ثديها بشغف كبير ، وأشرقت عيناه سرورا ، كما أن عمّال القصر سرّوا كذلك لأنّ البحث عن مربية له أعياهم ، وامرأة فرعون هي الأخرى لم تكتم سرورها للحصول على هذه المرضع أيضا.

ولعلهم قالوا للمرضع : أين كنت حتى الآن ، إذ نحن نبحث عن مثلك منذ مدّة فليتك جئت قبل الآن ، فمرحبا بك وبلبنك الذي حلّ هذه المشكلة.

تقول بعض الرّوايات : حين استقبل موسى ثدي أمّه ، قال هامان وزير فرعون لأم موسى : لعلك أمّه الحقيقية ، إذ كيف أبى جميع هذه المراضع ورضي بك ، فقالت : أيّها الملك ، لأنّي امرأة ذات عطر طيب ولبني عذب ، لم يأتي طفل رضيع إلّا قبل بي ، فصدّقها الحاضرون وقدموا لها هدايا ثمينة(١) .

ونقرأ في هذا الصدد حديثا قال الراوي : فقلت للإمام الباقرعليه‌السلام ؛ فكم مكث موسى غائبا من أمّه حتى ردّه الله؟ قال «ثلاثة أيّام»(٢) .

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، ج ٢٤ ، ص ٢٣١.

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١١٦.

١٩١

وقال بعضهم : هذا التحريم التكويني لأنّ الله لم يرد لموسى أن يرتضع من الألبان الملوثة بالحرام الملوّثة بأموال السرقة ، أو الملوّثة بالإجرام والرشوة وغصب حقوق الآخرين ، وإنّما أراد لموسى أن يرتضع من لبن طاهر كلبن أمّه ليستطيع أن ينهض بوجه الأرجاس ويحارب الآثمين.

وتم كل شيء بأمر الله( فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (١) .

هنا ينقدح سؤال مهم وهو : هل أودع آل فرعون الطفل «موسى» عند أمّه لترضعه وتأتي به كل حين ـ أو كل يوم ـ إلى قصر فرعون لتراه امرأة فرعون؟!

أم أنّهم أودعوا موسى في القصر وطلبوا من المرضع «أم موسى» أن تأتي بين فترات متناسبة إلى القصر لترضعه؟!

لا يوجد دليل قوي لأيّ من الاحتمالين ، إلّا أن الاحتمال الأوّل أقرب للنظر كما يبدو!

وهناك سؤال آخر أيضا ، وهو : هل انتقل موسى إلى قصر فرعون بعد إكماله فترة الرضاعة ، أم أنّه حافظ على علاقته بأمّه وعائلته وكان يتردد ما بين القصر وبيته؟!

قال بعضهم : أودع موسى بعد فترة الرضاعة عند فرعون وامرأته ، وتربى موسى عندهما ، تنقل في هذا الصدد قصص عريضة حول موسى وفرعون ، ولكن هذه العبارة التي قالها فرعون لموسىعليه‌السلام بعد بعثته( أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ؟! ) (٢) ، تدل بوضوح على أن موسى عاش في قصر فرعون مدة ، بل مكث هناك سنين طويلة.

ويستفاد من تفسير علي بن إبراهيم أن موسىعليه‌السلام بقي مع كمال الاحترام في

__________________

(١) تحدثنا عن الجذر اللغوي لمادة «تقرّ عينها» في ذيل الآية «٧٤» من سورة الفرقان ـ فيراجع هناك.

(٢) الشعراء ، الآية ١٨.

١٩٢

قصر فرعون حتى مرحلة البلوغ ، إلّا أنّ كلامه عن توحيد الله أزعج فرعون بشدة إلى درجة أنّه صمّم على قتله ، فترك موسى القصر ودخل المدينة فوجد فيها رجلين يقتتلان ، أحدهما من الأقباط والآخر من الأسباط ، فواجه النزاع بنفسه «وسيأتي تفصيل ذلك في شرح الآيات المقبلة إن شاء الله»(١) .

* * *

__________________

(١) لاحظ تفسير علي بن إبراهيم طبقا لما ورد في نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١١٧.

١٩٣

الآيات

( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧) )

التّفسير

موسىعليه‌السلام وحماية المظلومين :

في هذه الآيات نواجه المرحلة الثّالثة من قصّة موسىعليه‌السلام وما جرى له مع فرعون ، وفيها مسائل تتعلق ببلوغه ، وبعض الأحداث التي شاهدها وهو في مصر قبل أن يتوجه إلى «مدين» ثمّ سبب هجرته إلى مدين.

تقول الآيات في البداية( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً

١٩٤

وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) .

كلمة «أشدّ» مشتقّة من مادة «الشدّة» وهي القوّة.

وكلمة «استوى» مشتقة من «الاستواء» ومعناها كمال الخلقة واعتدالها.

وهناك كلام بين المفسّرين في الفرق بين المعنيين :

فقال بعض المفسّرين : المقصود من بلوغ الأشد هو أن يصل الإنسان الكمال من حيث القوى الجسمانية ، وغالبا ما يكون في السنة الثامنة عشرة من العمر أمّا الإستواء فهو الاستقرار والاعتدال في أمر الحياة ، وغالبا ما يحصل ذلك بعد الكمال الجسماني.

وقال بعضهم : إنّ المقصود من بلوغ الأشد هو الكمال الجسماني ، وأمّا الاستواء فهو الكمال العقلي والفكري.

ونقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام في كتاب معاني الأخبار قال : فلمّا بلغ أشدّه واستوى قال : «أشدّه ثمان عشر سنة واستوى ، التحى»(١) .

وليس بين هذه التعابير فرق كبير ، ومن مجموعها ـ مع ملاحظة المعنى اللغوي للكلمتين «الأشدّ والاستواء» ـ يستفاد منهما أنّهما يدلان على التكامل في القوى الجسمية والعقلية والروحية.

ولعل الفرق بين «الحكم» و «العلم» هو أنّ الحكم يراد منه العقل والفهم والقدرة على القضاء الصحيح ، والعلم يراد به العرفان الذي لا يصحبه الجهل.

أمّا التعبير( كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) فيدل بصورة جليّة على أن موسىعليه‌السلام كان جديرا بهذه المنزلة ، نظرا لتقواه وطهارته وأعماله الصالحة ، إذ جازاه الله «بالعلم والحكم» وواضح أنّ المراد بالحكم والعلم هنا ليس النبوّة والوحي وما إليهما لأنّ موسىعليه‌السلام يومئذ لم يبعث بعد ، وبقي مدّة بعد ذلك حتى بعث نبيّا.

بل المقصود والمراد من الحكم والعلم هما المعرفة والنظرة الثاقبة والقدرة

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١١٧.

١٩٥

على القضاء الصحيح وما شابه ذلك ، وقد منح الله هذه الأمور لموسىعليه‌السلام لطهارته وصدقه وأعماله الصالحة كما ذكرنا آنفا.

ويفهم من هذا التعبير ـ إجمالا ـ أنّ موسىعليه‌السلام لم يتأثر بلون المحيط الذي عاشه في قصر فرعون ، وكان يسعى إلى تحقيق العدل والحق ما استطاع إلى ذلك سبيلا رغم أنّ جزئيات تلك الأعوام غير واضحة.

وعلى كل حال فإن موسى( دَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها ) .

فما هي المدينة المذكورة في الآية المتقدمة؟ لا نعرفها على وجه التحقيق لكن الاحتمال القوي أنّها عاصمة مصر وكما يقول بعض المفسّرين فإنّ موسىعليه‌السلام على أثر المشاجرات بينه وبين فرعون ، ومخالفاته له ولسلطته التي كانت تشتدّ يوما بعد يوم حتى بلغت أوجها ، حكم عليه بالتبعيد عن العاصمة لكنّه برغم ذلك فقد سنحت له فرصة خاصّة والناس غافلون عنه أن يعود إلى المدينة ويدخلها.

ويحتمل أيضا ، أنّ المقصود دخوله المدينة من جهة قصر فرعون لأنّ القصور يومئذ كانت تشاد على أطراف المدينة ليعرف الداخل إليها والخارج منها.

والمقصود من جملة( عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها ) هو الزمن الذي يستريح الناس فيه من أعمالهم ، ولا تراقب المدينة في ذلك الحين بدقّة ، ولكن أي حين وأي زمن هو؟!

قال بعضهم : هو أوّل الليل ، لأنّ الناس يتركون أعمالهم ويعطلون دكاكينهم ومحلاتهم ابتغاء الراحة والنوم ، وجماعة يذهبون للتنزه ، وآخرون لأماكن أخرى هذه الساعة هي المعبر عنها بساعة الغفلة في بعض الرّوايات الإسلامية.

وهناك حديث شريف عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا الشأن يقول : «تنفّلوا في ساعة الغفلة ولو بركعتين خفيفتين».

١٩٦

وقد ورد في ذيل هذا الحديث الشريف هذه العبارة «وساعة الغفلة ما بين المغرب والعشاء»(١) .

والحق أنّ هذه الساعة ساعة غفلة وكثيرا ما تحدث الجنايات والفساد والانحرافات الأخلاقية في مثل هذه لساعة من أوّل الليل فلا الناس مشغولون بالكسب والعمل ، ولا هم نائمون ، بل هي حالة غفلة عمومية تغشى المدينة عادة ، وتنشط مراكز الفساد أيضا في هذه الساعة.

واحتمل البعض أن ساعة الغفلة هي ما بعد نصف النهار ، حيث يستريح الناس من أعمالهم استراحة مؤقتة ، ولكن التّفسير الأوّل أقرب للنظر كما يبدو.

وعلى كل حال ، موسى دخل المدينة ، وهنالك واجه مشادّة ونزاعا ، فاقترب من منطقة النزاع( فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ ) .

والتعبير بـ «شيعته» يدل على أن موسى قبل أن يبعث كان له أتباع وأنصار وشيعة من بني إسرائيل ، وربّما كان قد اختارهم لمواجهة فرعون وحكومته كنواة اساسية.

فلمّا بصر الإسرائيلي بموسى استصرخه( فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ) .

فجاءه موسىعليه‌السلام لاستنصاره وتخليصه من عدوّه الظالم الذي يقال عنه أنّه كان طباخا في قصر فرعون ، وكان يريد من الإسرائيلي أن يحمل معه الحطب إلى القصر ، فضرب موسى هذا العدو بقبضة يده القوية على صدره ، فهوى إلى الأرض ميتا في الحال تقول الآية :( فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ ) (٢) .

وممّا لا شك فيه ، فإنّ موسى لم يقصد أن يقتل الفرعوني ، ويتّضح ذلك من خلال الآيات التالية أيضا ولا يعني ذلك أن الفراعنة لم يكونوا يستحقون القتل ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٥ ، ص ٢٤٩ [باب ٢٠ من أبواب الصلوات المندوبة].

(٢) «وكز» مأخوذ من «الوكز» على زنة «رمز» ومعناه الضرب بقبضة اليد ، وهناك معان اخرى لا تناسب المقام

١٩٧

ولكن لاحتمال وقوع المشاكل والتبعات المستقبلية على موسى وجماعته.

لذلك فإنّ موسىعليه‌السلام أسف على هذا الأمر( قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ) .

وبتعبير آخر : فإنّ موسىعليه‌السلام كان يريد أن يبعد الفرعوني عن الرجل الإسرائيلي ، وإن كان الفرعونيون يستحقون أكثر من ذلك. لكن ظروف ذلك الوقت لم تكن تساعد على مثل هذا العمل ، وكما سنرى فإن ذلك الأمر دعا موسىعليه‌السلام إلى أن يخرج من مصر إلى أرض مدين وحرمه من البقاء في مصر.

ثمّ يتحدث القرآن عن موسىعليه‌السلام فيقول :( قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) .

ومن المسلم به أنّ موسىعليه‌السلام لم يصدر منه ذنب هنا ، بل ترك الأولى ، فكان ينبغي عليه أن يحتاط لئلا يقع في مشكلة ، ولذلك فإنّه استغفر ربّه وطلب منه العون ، فشمله اللطيف الخبير بلطفه.

لذلك فإنّ موسىعليه‌السلام حين نجا بلطف الله من هذا المأزق( قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَ ) من عفوك عني وانقاذي من يد الأعداء وجميع ما أنعمت علي منذ بداية حياتي لحدّ الآن( فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ) . ومعينا للظالمين.

بل سأنصر المؤمنين المظلومين ، ويريد موسىعليه‌السلام أن يقول : إنّه لا يكون بعد هذا مع فرعون وجماعته أبدا بل سيكون إلى جانب الإسرائيليين المضطهدين ..».

واحتمل بعضهم أن يكون المقصود بـ «المجرمين» هو هذا الإسرائيلي الذي نصره موسى ، إلّا أن هذا الاحتمال بعيد جدّا ، حسب الظاهر.

* * *

١٩٨

مسألتان

١ ـ ألم يكن عمل موسى هذا مخالفا للعصمة!

للمفسّرين أبحاث مذيّلة وطويلة في شأن المشاجرة التي حدثت بين القبطي والإسرائيلي وقتل موسى للقبطي.

وبالطبع فإنّ أصل هذا العمل ليس مسألة مهمّة لأنّ الظلمة الأقباط والفراعنة المفسدين الذين قتلوا آلاف الأطفال من بني إسرائيل ولم يتأبّوا يحجموا عن أية جريمة ضد بني إسرائيل ، لم تكن لهم حرمة عند بني إسرائيل.

إنّما المهم عند علماء التّفسير هو تعبيرات موسىعليه‌السلام التي ولّدت إشكالات عندهم.

فهو تارة يقول :( هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ) .

وفي مكان آخر يقول :( رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ) .

فكيف تنسجم أمثال هذه التعابير مع عصمة الأنبياء حتى قبل بعثتهم ورسالتهم.

ولكن هذه الإشكالات تزول بالتوضيح المتقدم في تفسير الآية الآنفة ، وهو أن ما صدر من موسىعليه‌السلام هو من قبيل «ترك الأولى» لا أكثر ، إذ كان عليه أن يحتاط قبل أن يضرب القبطي ، فلم يحتط ، فأوقع نفسه في مشاكل جانبية ، لأنّ قتل القبطي لم يكن أمرا هينا حتى يعفو عنه الفراعنة.

ونعرف أن ترك الأولى لا يعني أنّه عمل حرام ذاتا ، بل يؤدي الى ترك عمل أهم وأفضل ، دون أن يصدر منه عمل مخالف ومناف لذلك العمل!.

ونظير هذه التعابير ما ورد في بعض قصص الأنبياء من جملتهم أبو البشر آدمعليه‌السلام التي تقدم شرحه في ذيل الآية (١٩) من سورة الأعراف.

ونقرأ في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام في تفسير الآيات

١٩٩

المتقدمة :

«قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ » يعنى الاقتتال الذي وقع بين الرجل لا ما فعله موسىعليه‌السلام من قتله «إنه» يعنى الشيطان «عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ » ـ وأمّا المراد من جملة ـ «رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي » يعنى ان موسى يريد أن يقول وضعت نفسي غير موضعها بدخول هذه المدينة «فَاغْفِرْ لِي » أي استرني من أعدائك لئلا يظفروا بي فيقتلوني ...».(١)

٢ ـ دعم المجرمين وإسنادهم من أعظم الآثام :

هناك باب مفصل في الفقه الإسلامي فيه أحاديث وافرة تتحدث حول «الإعانة على الإثم» و «معاونة الظلمة» وتدل على أن واحدا من أسوأ الآثام إعانة الظالمين والمجرمين ، وتكون سببا لأن يشترك المعين في مصيرهم الأسود.

وأساسا فإنّ الظلمة والمجرمين ـ أمثال فرعون ـ في المجتمع أيّا كان هم أفراد معدودون ، وإذا لم يساعد المجتمع هؤلاء لم يكونوا فراعنة ، فهؤلاء القلّة المتفرعنون إنّما يعتمدون على الناس الضعاف أو الانتهازيين وعبدة الدنيا ، الذين يلتفّون حولهم ويكونون لهم أجنحة وأذرعا ، أو على الأقل يكثّرون السواد ليوفروا لهم القدرة الشيطانية.

وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تشير إلى هذا الأصل الإسلامي ، فنحن نقرأ في الآية الثّانية من سورة المائدة قوله تعالى :( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ) .

كما أنّ القرآن يصرّح في بعض آياته بالقول :( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا

__________________

(١) عيون أخبار الرضا طبقا لما ورد في تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١١٩.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592