الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 174897 / تحميل: 5999
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

هكذا تُبدي التوراة عَداءه تعالى مع بني الإنسان!

هذا والقرآن يحثّ الأُمَم على الاجتماع دون التفرّق، وعلى التعارف بعضهم مع بعضهم؛ ليتعاونوا في الحياة دون التباغض والتباعد والاختلاف:

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا... ) (1) .

( وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ) (2) .

الإنسان سرّ الخليقة

الإنسان - كما وصفه القرآن - صفوة الخليقة وفلذتها، وسرّها الكامن في سلسلة الوجود.

لا تجد وصفاً عن الإنسان وافياً ببيان حقيقته الذاتيّة الّتي جَبَله الله عليها - في جميع مناحيها وأبعادها المترامية - في سوى القرآن، يصفه بأجمل صفات وأفضل نُعوت، لم يَنعم بها أيّ مخلوق سواه، ومِن ثَمّ فقد حَظي بعناية الله الخاصّة، وحُبي بكرامته منذ بدء الوجود.

ولنُشِر إلى فهرسة تلكمُ الصفات والميزات، التي أهّلته لمثل هذه العناية والحِبَاء:

1 - خلقه الله بيديه: ( مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) (3) .

2 - نفخ فيه من روحه: ( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) (4) .

3 - أودعه أمانته: ( إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ ) (5) .

4 - علّمه الأسماء كلّها: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا... ) (6) .

5 - أسجد له ملائكته: ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا... ) (7) .

____________________

(1) الحجرات 49: 13.

(2) الأنفال 8: 46.

(3) ص 38: 75.

(4) الحجر 15: 29، وص 38: 72، وفي سورة السجدة 32: 9: ( ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ) .

(5) الأحزاب 33: 72.

(6) البقرة 2: 31.

(7) البقرة 2: 34.

٢١

6 - منحه الخلافة في الأرض: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) (1) .

7 - سخّر له ما في السّماوات والأرض جميعاً: ( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ) (2) .

ومِن ثَمّ بارك نفسه في هذا الخلق الممتاز: ( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) (3) .

ميزات سبع حظي بها الإنسان في أصل وجوده، فكان المخلوق المفضّل الكريم، وإليك بعض التوضيح:

مِيزات الإنسان الفطريّة

امتاز الإنسان في ذات وجوده بميزات لم يحظَ بها غيره من سائر الخلق:

فقد شرّفه الله بأن خلقه بيديه: ( مَا مَنَعَكَ - خطاباً لإبليس - أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) (4) والله خالق كلّ شيء، فلا بدّ أنْ تكون هناك خصوصيّة في خلق هذا الإنسان تستحقّ هذا التّنويه هي: خصوصيّة العناية الربّانيّة بهذا الكائن، وإبداعه نفخةً - من روح الله - دلالةً على هذه العناية.

قال العلاّمة الطباطبائي: نسبة خلقه إلى اليد تشريف بالاختصاص كما قال: ( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) (5) وتثنية اليد كناية عن الاهتمام البالغ بخلقه وصنعه؛ ذلك أنّ الإنسان إذا اهتمّ بصُنع شيء استعمل يديه معاً عناية به (6) .

وهكذا نفخة الروح الإلهيّة فيه كناية عن جانب اختصاص هذا الإنسان - في أصل فطرته - بالملأ الأعلى، حتّى ولو كان متّخذاً - في جانب جسده - من عناصر تربطه بالأرض، فهو في ذاته عنصر سماوي قبل أن يكون أرضيّاً.

ولقد خلق الإنسان من عناصر هذه الأرض، ثُمّ من النفخة العلويّة التي فرّقت بينه

____________________

(1) البقرة 2: 30.

(2) الجاثية 45: 13.

(3) المؤمنون 23: 14.

(4) ص 38: 75.

(5) الحجر 15: 29.

(6) تفسير الميزان، ج 17، ص239.

٢٢

وبين سائر الأحياء، ومنحته خصائصه الإنسانيّة الكبرى، وأَوّلها القدرة على الارتقاء في سُلَّم المدارك العُليا الخاصّة بعالم الإنسان.

هذه النفخة هي التي تصله بالملأ الأعلى، وتجعله أهلاً للاتصال بالله، وللتلقّي عنه ولتجاوز النطاق المادّي الذي تتعامل فيه العضلات والحواسّ، إلى النطاق التجريدي الذي تتعامل فيه القلوب والعقول، والتي تمنحه ذلك السرّ الخفيّ الذي يسرب به وراء الزمان والمكان، ووراء طاقة العضلات والحواسّ، إلى ألوان من المدركات وألوان من التصوّرات غير المحدودة في بعض الأحيان (1) .

وبذلك استحقّ إيداعه أمانة الله التي هي ودائع ربّانية لها صبغة ملكوتيّة رفيعة، أُودعت هذا الإنسان دون غيره من سائر المخلوق، وتتلخّص هذه الودائع في قدرات هائلة يملكها الإنسان في جبلّته الأُولى، والتي أهّلته للاستيلاء على طاقات كامنة في طبيعة الوجود وتسخيرها حيث يشاء.

إنّها القدرة على الإرادة والتصميم، القدرة على التفكير والتدبير، القدرة على الإبداع والتكوين، القدرة على الاكتشاف والتسخير، إنّها الجرأة على حمل هذا العبء الخطير، قال سيّد قطب: إنّها الإرادة والإدراك والمحاولة وحمل التبعة، هي هي ميزة هذا الإنسان على كثير من خلق الله، وهي هي مناط التكريم الذي أعلنه الله في الملأ الأعلى وهو يُسجِد الملائكة لآدم، وأعلنه في قرآنه الباقي وهو يقول: ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ) (2) .

فليعرف الإنسان مناط تكريمه عند الله، ولينهض بالأمانة التي اختارها، والتي عُرضت على السماوات والأرض والجبال فأبينَ أنْ يحملنّها وأشفقنّ منها (3) .

إنّها أمانة ضخمة حملها هذا المخلوق الصغير الحجم، الكبير القُوى، القويّ العزم.

ومِن ثَمّ كان ظلوماً لنفسه؛ حيث لم ينهض بأداء هذه الأمانة كما حملها، جهولاً لطاقاته هذه الهائلة المودعة في وجوده وهو بعد لا يعرفها.

____________________

(1) من إفادات سيد قطب، راجع: في ظِلال القرآن، ج 14، ص 17، المجلد 5، ص203.

(2) الإسراء 17: 70.

(3) في ظِلال القرآن، ج22، ص47، المجلد 6، ص 618.

٢٣

وهكذا علّمه الأسماء: القدرة على معرفة الأشياء بذواتها وخاصيّاتها وآثارها الطبيعيّة العاملة في تطوير الحياة، والتي وقعت رهن إرادة الإنسان ليُسخّرها في مآربه حيث يشاء، وبذلك يتقدّم العلم بحشده وجموعه في سبيل عمارة الأرض وازدهار معالمها، حيث أراده الله من هذا الإنسان ( هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) (1) .

وبذلك أصبح هذا الإنسان - بهذه الميزات - خليفة الله في الأرض، (2) حيث يتصرّف فيها وِفق إرادته وطاقاته المـُودعة فيه، ويعمل في عمارة الأرض وتطوير الحياة.

وإسجاد الملائكة له في عَرْصَة الوجود، كناية عن إخضاع القوى النورانيّة برمّتها للإنسان، تعمل وِفق إرادته الخاصّة من غير ما تخلّف، في مقابلة القوى الظلمانيّة (إبليس وجنوده) تعمل في معاكسة مصالحه، إلاّ مَن عَصَمه الله من شرور الشياطين ( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً ) (3) .

كما وأنّ تسخير ما في السماوات وما في الأرض جميعاً، (4) كناية عن إخضاع القوى الطبيعيّة - المودعة في أجواء السماوات والأرض - لهذا الإنسان، تعمل فور إرادته بلا فتور ولا قصور، ومعنى تسخيرها له: أنّ الإنسان فُطر على إمكان تسخيرها.

فسبحانه من خالقٍ عظيم، إذ خَلَق خَلقاً بهذه العظمة والاقتدار الفائق على كلّ مخلوق!

هذه دراستنا عن الإنسان على صفحات مُشرقة من القرآن الكريم، فيا ترى أين يوجد مثل هذه العظمة والتبجيل لمخلوقٍ هو في هندامه صغير وفي طاقاته كبير، كبرياءً ملأ الآفاق!

أتزعم أنّك جسمٌ صغير

وفيك انطوى العالم الأكبر

فتبارك الله أحسن الخالقين بخلقه أحسن المخلوقين!

____________________

(1) هود 11: 61.

(2) راجع: البقرة 2: 30.

(3) الإسراء 17: 65.

(4) راجع: الجاثية 45: 13.

٢٤

خلقتُ الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي!

حديث قدسيّ معروف (1) خطاباً مع بني آدم، حيث كانوا هم الغاية من الخليقة، كما كانت الذات المقدّسة هي الغاية من خلقة الإنسان، فكما وأنّ الأشياء برمّتها - علواً وسفلاً - سخّرها الله لهذا الإنسان ولتكون في قبضته فتَتَجلّى فيها مقدرته الهائلة، كذلك خُلق الإنسان؛ ليكون مظهراً تامّاً لكامل قدرته تعالى في الخلق والإبداع.

ما من مخلوق - صغيراً أو كبيرً - إلاّ وهو مظهر لتجلّي جانب من سِمات الصانع الحكيم (وفي كلّ شيء له آية تدلّ على أنّه واحد) أمّا الإنسان فكان المرآة الصقيلة التي تتجلّى فيها جميع صفات الجمال والجلال.

فإذا سئلت: ما هي الغاية من خلق ما في السماوات وما في الأرض جميعاً؟

قلت - حسب وصف القرآن -: هو الإنسان ذاته مُستودَع أمانات الله وليكون خليفته في الأرض!

وإذا سئلت: ما هي الغاية من خلقة الإنسان ذاته؟

قلت: هو الله الصانع الحكيم؛ حيث الإنسان بقدرته على الخلق والإبداع أصبح مظهراً تامّاً لكامل الأسماء والصفات، فكان وجه الله الأكمل وعين الله الأتمّ.

فكان الإنسان غاية الخليقة، وكان الله الغاية من خلق الإنسان، فالله هو غاية الغايات وبذلك ورد: (كنتُ كنزاً مخفيّاً فأحببت أن أُعرف، فخلقت الخلق لكي أُعرف) (2) .

حيث الإفاضة - وهي تجلّي الذات المقدّسة - كانت بالخلق والإبداع ومظهره الأتمّ هو الإنسان.

الحفاظ على كرامة الأنبياء

يمتاز القرآن بالحفاظ على كرامة الأنبياء، بينما التوراة تحطّ من كرامتهم.

____________________

(1) راجع: علم اليقين للفيض الكاشاني، ج 1، ص 381.

(2) حديث قُدسي معروف، راجع: البحار، ج84، ص 199، وهامش عوالي اللآلئ، ج 1، ص 55، وكتاب كشف الخفاء للعجاوني، ج 2، ص 132.

٢٥

لم يأتِ ذِكر نبيّ من الأنبياء في القرآن إلاّ وقد أحاط بهم هالةً من التبجيل والإكرام، كما ونزّهَهم عن الأدناس على وجه الإطلاق.

خُذ مثلاً سورة الصافّات جاء فيها ذكر أنبياءٍ عِظام مُرفَقاً بعظيم الاحترام.

( وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) (1) .

( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) وينتهي إلى قوله : ( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشـَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ... ) (2) .

( وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ * وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ * وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) (3) .

( وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ) إلى قوله: ( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) (4) وهكذا كلّما يُمرّ ذِكرُ نبيّ تَصحبه لمـّة مِن الإجلال والتكريم.

وأمّا التوراة فلا تمرّ فيها بقصّةٍ من قصص الأنبياء إلاّ وملؤها الإهانة والتحقير، وربّما بلغ إلى حدّ الابتذال والتعبير ممّا لا يليق بشأن عباد الله المخلصين، هذا نوح شيخ الأنبياء تصفه التوراة: رجلاً سكّيراً مستهتراً لا يرعوي شناعةَ حال ولا فضاعة بال.

تقول عنه التوراة: إنّه بعد ما نَزل من السفينة هو ومَن معه، غرس كَرماً وصنع خمراً وشربها، حتّى إذا سكر وتعرّى داخل خبائه إذ دخل عليه ابنه الصغير حام فرأى أباه

____________________

(1) الصافات: 75 - 81.

(2) الصافات: 83 - 113.

(3) الصافات: 114 - 122.

(4) الصافات : 123 - 132.

٢٦

مكشوفاً عورته، فاستحى ورجع ليُخبر إخوته بذلك، ولمـّا صحا نوح وعَلِم بفضيع أمره دعا على ابنه هذا، ولعنه هو وذرّيته في الآخرين. فكان مِن أثر دعائه عليه أن كانت ذرّيته عبيداً لذرّية أخويه سام ويافث أبد الآبدين! (1) .

يا لها من مهزلة نسجتها ذهنيّة الحاقدين على أهل الدين، فما شأن التوراة وثَبتُ هكذا سفاسف حمقانيّة تمسّ بكرامة شيخ الأنبياء؟!

وهذا إبراهيم خليل الرحمان وأبو الأنبياء وصاحب الشريعة الحنيفة والتي أورثها الأنبياء من بعده، نَجده في التوراة رجلاً أرضيّاً يُتاجر بزوجه الحسناء (سارة) ليَفتدي بها لا لشيءٍ؛ إلاّ ليَحظى بالحياة الدنيا على غِرار سائر المـُرابين، يفعلون الفُجور للحصول على القليل من حطام الدنيا الدنيّة! (2) .

وما هي إلاّ فِرية فاضحة يُكذّبها تأريخ حياة إبراهيم (عليه السلام):

كانت سارة عندما صَحِبت زوجها إبراهيم في سفره إلى أرض مصر قد طَعنت في السنّ من السبعينيّات، وكان الدهر قد وَسَم على وجهها آثار الكُهولة والهرم، ولم يَعهد من عادة الملوك الجبابرة وأصحاب الترف والبذخ أن يطمعوا في هكذا نساء عجوزات!

كان إبراهيم عندما غادر (حاران) موطن أبيه (تارَح) قاصداً بلاد كنعان قد بلغ الخامسة والسبعين من عمره، واجتاز أرض (شكيم) ليبني هناك مَذبحاً (معبداً)، وارتحل إلى الجبل: شرقي (بيت إيل)، وهكذا تَداوم في رحلته يجوب البلاد ويبني مذابح، إلى أنْ حدث جَدْبٌ عمَّ البلاد، فانحدر إلى أرض مصر لينتجع هناك.

ولم يأتِ في التوراة مدّة هذا التَجوال والرحلات، لكن جاء فيها: أنّ سارة لمـّا وَهبت جاريتها (هاجر) لإبراهيم كان قد مضى من مغادرتهم أرض مصر عشر سنين (3) ، فحبلت هاجر وولدت إسماعيل بعد ما انقضى مِن عُمر إبراهيم ستٌ وثمانون عاماً (4) ، فكان إبراهيم عند مَقدمه مصر قد تجاوز الستّ والسبعين، وبما أنّ سارة كانت أصغر من إبراهيم

____________________

(1) سِفر التكوين، إصحاح 9/18 - 24.

(2) المصدر: 12/11 - 20.

(3) المصدر: 16/3.

(4) المصدر: 16/16.

٢٧

بعشر سنين فقد كانت عند قدومها مصر قد ناهزت الستّ والستين وهو سنّ العجائز! (1) .

إبراهيم، لم يَكذب قطّ!

جاء في أحاديث العامّة برواية أبي هريرة - وهي أشبه بالإسرائيليّات - (أنّ إبراهيم (عليه السلام) كَذَب ثلاث كِذبات: ثنتين في ذات الله: قوله: ( إِنِّي سَقِيمٌ ) (2) وقوله: ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ) (3) ، والثالثة بشأن سارة: أنّها أُخته) (4)

وفي حديث الشفاعة برواية أبي هريرة أيضاً: (أنّ أهل الموقف يأتون الأنبياء واحداً بعد واحد يستشفعون منهم، حتّى يأتوا إبراهيم فيأبى معتذراً: إنّي كذبت ثلاث كذبات ولستُ هناكم) (5) .

وقد وصفت لجنة مشايخ الأزهر هذه الروايات بالصِحاح، وعارضت الأستاذ عبد الوهاب النجّار استنكاره لهذه المفتريات (6) .

قلت: وحاشا إبراهيم الخليل - الداعي إلى الحنيفيّة البيضاء - أنْ ينطق بكذب، وإنّما كُذِبَ عليه بلا ريب، والرواية عامّية الإسناد لا اعتداد بها في هكذا مجالات.

ولقد أجاد الإمام الرازي حيث قال: فلأنْ يُضاف الكَذِب إلى رواة هذا الخبر أَولى من أنْ يُضاف إلى الأنبياء، وأخذ في تأويل الموارد الثلاثة، وأضافَ قائلاً: وإذا أمكن حَمل الكلام على ظاهره من غير نسبة الكَذِب إلى الأنبياء فحينئذٍ لا يحكم بنسبة الكذب إليهم إلاّ زنديق (7) .

أمّا قوله: ( إِنّي سَقِيمٌ ) فلعلّه أراد وهن حالته الجسديّة ممّا كان يرى قومه على عَمَه الغباء، وقد أحسّ ألماً شديداً انتاب قلبه المرهف تجاه تلكمُ الجهالات العارمة.

وأمّا قوله ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذَا فَسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ ) فقولة قالها مستهزئاً بهم

____________________

(1) المصدر: 17/17.

(2) الصافّات 37: 89.

(3) الأنبياء 21: 63.

(4) صحيح ا لبخاري، ج4، ص171 و ج7، ص7: وصحيح مسلم، ج7، ص98: ومسند أحمد، ج2، ص403 - 404.

(5) جامع الترمذي، ج4، ص623 وج5، ص321.

(6) راجع: هامش قصص الأنبياء للنجّار، ص86.

(7) التفسير الكبير، ج22، ص185 وج26، ص148.

٢٨

مستخفّاً عقليّتهم الكاسدة.

والكَذِب لا يكون إلاّ لغرض التمويه، أمّا إذا كان السامعون عارفين بواقع الأمر، وأنّ إبراهيم لم يقصد الحقيقة وإنّما أراد التسفيه من عقولهم محضاً فهذا لا يُعدّ كَذِباً؛ لأنّ الكَذِب إخبار في ظاهر غير مطابق للواقع، وهذا إنشاء لمحض التسفيه والهزء بهم، والإنشاء لا يَحتمل الصدق والكَذِب فتدبّر.

وأمّا الثالثة - بشأن سارة أنّها أُخته - فحديث خُرافة يا أُمّ عمرو!

قصّة الطوفان في التوراة

جاءت قصّة الطوفان في سِفر التكوين (1) بصورة تفصيليّة، تشبه أن تكون أساطيريّة، وفيها ما ترفضه العقول وتأباه واقعيّة الحياة، فضلاً عن منافاتها لأُصول الحكمة المهيمنة على مظاهر الوجود.

جاء فيه: أنّ قوم نوح فسدوا وأفسدوا في الأرض، فغضب اللّهُ عليهم وأنذرهم على لسان نوح بعذاب الاستئصال بإرسال الطوفان العارم، فلم يعبأوا بذلك وظلّوا يعبثون ويَعثون في البلاد.

ولمـّا بلغ نوح من العمر ستمِئة سنة أمره الله بصنع الفلك (في 300 ذراع طولاً و50 ذراعاً عرضاً و30 في الارتفاع).

فجاء الطوفان، وجُعلت ينابيع الأرض تتفجّر، والسماء تمطر بغزارة أربعين صباحاً، والماء يرتفع شيئاً فشيئاً على وجه الأرض كلّها، حتّى بلغ قِمم الجبال الشامخة في كل جوانب الأرض، وارتفع على أشمخ قمّة من الجبال بخمس عشرة ذراعاً؛ وبذلك هلك الحرث والنسل، ومات كلّ ذي حياة على وجه الأرض من الدوابّ والبهائم والدبّابات والزحّافات، وحتّى الطير في السماء.

ودام الطوفان مئة وخمسين صباحاً، يحوم نوح بأهله وذويه وما حمله معه في الفلك على وجه الماء، حتّى أخذ الماء ينحطّ ويغور فاستقرّت

____________________

(1) سِفر التكوين، إصحاح 9 - 6.

٢٩

سفينته على جبل (آرارات) بأرمينيّة، فنزلوا من السفينة وعاش نوح بعد ذلك ثلاثمئة وخمسين عاماً، فكان كلّ أيّام نوح تسعمِئة وخمسين سنة، على ما جاء في الإصحاح التاسع عدد 28.

وكان الذي حمله نوح معه في السفينة - غير أهله وذويه - أزواجاً (ذكراً وأُنثى) من كلّ أنواع الحيوانات؛ لئلاّ ينقرض نسلها وتبيد من الوجود (من جميع البهائم والطيور ذكراً وأُنثى، لاستبقاء نسلها على وجه كلّ الأرض) (1) .

وهذا يعنى: أنّ جميع الأحياء هلكوا على أثر الغَرَق (فما كلّ ذي جسد كان يدبّ على الأرض من الطيور والبهائم والوحوش، وكلّ الزحّافات التي كانت تزحف على الأرض وجميع الناس، كلّ ما في أنفه نسمة روح الحياة فيما في اليابسة مات) (2) ؛ وذلك أنّ الماء غمر وجه الأرض كلّها، وطغى على أعالي الجبال الشامخة في كلّ أكناف الأرض (وتعاظمت المياه كثيراً جدّاً على الأرض، فتغطّت جميعُ الجبال الشامخة التي تحت كلّ السماء خمس عشرة ذراعاً في الارتفاع فتغطّت كلّ الجبال) (3) .

حادث الطوفان في القرآن

وحاشا القرآن أنْ يساير التوراة (المـُتداولة) في سرد أقاصيص أسطوريّة واهية، وإنّما هي الواقعيّة ينتقيها ويَنبذ الأوهام الخرافيّة والتي أحدقت بها على أثر طول العهد.

وإليك الحادث على ما جاء في سورة هود:

( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ (4) قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاّ قَلِيلٌ * وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاّ

____________________

(1) المصدر: 7/4.

(2) المصدر: 7/21.

(3) المصدر: 7/19.

(4) كلمة أعجميّة وتطلق في كلام العرب على مفجر المياه، جاء في القاموس: التنّور كل ّمفجر الماء.

٣٠

مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ * وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ (1) وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ * قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (2) .

مواضع عِبر أغفلتها التوراة

جاءت القصّة في التوراة كسائر الأحداث التاريخيّة القديمة مشوّهةً في خِضمٍّ من خرافات بائدة، ومن غير أن تتأكّد على مواضع العِبر منها، بل وأغفلتها في الأكثر، أمّا القرآن؛ فبما أنّه كتاب هداية وعِبر نراهُ يقتطف من أحداث التأريخ عِبرها، ويَجتني من شجرة حياة الإنسان السالفة يانع ثمرها، فليتمتّع الإنسان بها في حياته الحاضرة في شغفٍ وهناء.

وقد أغفلت التوراة جانب زوجة نوح وابنه اللذَينِ شَملهما العذاب بسوء اختيارهما، إنّها عِبرةٌ كبرى، كيف يغفل الإنسان أوفر إمكانيّات الهداية والصلاح؟ وينجرف بسوء اختياره مع تيّار الضلالة والفساد، وفي النهاية الدمار والهلاك!!

ذكر السيّد ابن طاووس: أنّه كان لنوح زوجان إحداهما وفيّة وأخرى غبيّة، فركبت الصالحة مع أبنائها السفينة، وهلكت الأخرى الطالحة مع الآثمين (3) .

قال اللّه تعالى عنها وعن زوج لوط: ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) (4) .

____________________

(1) قال أبو مسلم الإصبهاني: الجودي كلّ جبلٍ وأرضٍ صلبة.

(2) هود 11: 40 - 48.

(3) راجع: سعد السعود لابن طاووس، ص239، وبحار الأنوار، ج11، 342.

(4) التحريم 66: 10.

٣١

وكانت خيانَتُهما هي المـُسايرة مع الكافرين، ونبذ معالم الهداية التي كانت في متناولهما القريب.

وابن نوح يقول عنه تعالى: إنّه ليس من أهله، لا يصلح للانتساب إليه بهذا العنوان الفخيم (أهل نوح)؛ لأنّه عملٌ غير صالح، إنّه حصيلة أعماله غير الصالحة، ومن ثَمَّ فإنّه كان يعيش خارج الإطار الذي كان يعيشه نوح وأهله.

وهذا أيضاً من أعظم العِبر، كيف ينحدر الإنسان من أعلى قِمم الهداية والتوفيق لينخرط مع البائسين الحيارى لا يهتدون سبيلاً؟!

أمّا وكيف ابتغى نوح نجاة ابنه هذا وهو يعلم ما به من غَواية الضلال؟ فهذا يعود إلى حنان الأُبوّة ورحمة العُطوفة التي كان يحملها نوح (عليه السلام) لا سيّما مع ما وعده الله بنجاة أهله، فلعلّه شملته العناية الربّانيّة وأصبح من المرحومين ومِن ثَمّ جاءته الإجابة باليأس، وأنّه لا يصلح أن يكون أهلاً له وكان محتّماً عليه أن يمسي من المرجومين.

هل عمّ الطوفان وجه الأرض؟

صريح التوراة أنّ الطوفان عمّ وجه الأرض، وأهلك الحرث والنسل وحتّى الطير في السماء.

وليس في القرآن دلالةٌ ولا إشارةٌ إلى ذلك، بل على العكس أدلّ، وأنّ الطوفان إنّما عمّ المنطقة التي كان يعيشها قوم نوح ولم يتجاوزها.

جاء في سورة الأعراف: ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) إلى قوله ( فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً عَمِينَ ) (1) .

فالذين كان يخاف عليهم عذاب يومٍ عظيم ممّن كذّبوه وكانوا قوماً عمين، كانوا هم المغرقين.

____________________

(1) الأعراف 7: 59 - 64.

٣٢

ولا دلالة فيها على غرق آخرين من أقوامٍ لو كانوا مُبعثرين عائشين في سائر أقطار الأرض ممّن لم تبلغهم دعوة نوح، ولم يكن مرسلاً إليهم.

هذا فضلاً عن سائر الحيوان من الزحّافات والدبّابات المنتشرة في وجه الأرض، وكذا الطير في الهواء، ممّا لا شأن لها ورسالات الأنبياء، ولا وجه لأنْ يعمّها العذاب، وهو عقاب على معصية لا مساس لها بغير الإنسان.

الأمر الذي يؤخذ على التوراة أشدّ الأخذ! ولا سيّما بذاك الوصف الذي وصفته: غمر الماء وجه الأرض كلها وارتفع حتّى غمر قمم الجبال الشامخات وعلاهنّ بخمس عشرة ذراعاً (سبعة أمتار)!

نقض فرضية الشمول

يقول (ولتر) - الكاتب الناقد الفرنسي (1694 - 1778 م) بصدد تسخيف أُسطورة الطوفان على ما وصفته التوراة -: كان يجب لمثل هذا التضخّم من الماء المتراكم على وجه الأرض أنْ تضمّ اثنا عشر بحراً، كلّ في سعة البحر الأطلانتي المحيط، بعضها فوق بعض ليكون الأعلى في حجم أكبر بأربع وعشرين ضعفاً، وهكذا حتّى تجتمع في مثل هذا الماء المتراكم ليغمر شامخات الجبال!

ويزيد - مستخفّاً عقليّة مسطّر هذه الأساطير وناقماً على الذين اعتنقوها باعتبارها وحياً من السماء (وحاشاه) -: يكفي بذلك معجزة خالدة لا حاجة معها إلى سائر المعاجز، حيث لا مثيل لها في خرق نواميس الكون!!.

ويقول آخر: إنّ المحاسبات العلميّة الدقيقة تُعطينا: أنّ الأبخرة المنبثّة في أجواء الأرض لو تكثّفت جميعاً وهطلت أمطاراً لما كانت تكفي لأنْ تغمر وتعلو عن وجه الأرض بأكثر من بضع سانتي مترات، فكيف بجبال شامخات؟!

يقول الدكتور (شفا): لو كانت السماء تهطل بأمطارها أربعين صباحاً - كما هو نصّ التوراة - لما كاد أنْ يغمر هضبة ما بين النهرين - على صغرها - فكيف بغمر وجه الأرض

٣٣

وأنْ يعلو قمم الجبال؟! وجبل (آرارات) يرتفع عن سطح البحر بأكثر من خمس كيلو مترات ما يكاد أن يغمره، فكيف بسائر الجبال الشامخة؟! (1) .

الطوفان ظاهرة طبيعيّة حيث أرادها الله

نعم، كان حادث الطوفان ظاهرة طبيعيّة وعلى ما وصفه القرآن ممّا لا يكاد الغمز فيه.

كان قد مرّ على حياة الأرض في أدوارها الأولى كثير من تغيّرات جوّية مفاجئة، كان وجه الأرض مسرحاً لتناوب هطول أمطار غزيرة، وسيول هائلة منحدرة من أعالي الجبال كادت تغمّ الهضاب والوديان والمناطق المنخفضة من سطح الأرض.

وكان طوفان نوح إحدى تلكم الظواهر الكونيّة حدثت بإذن الله ( فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ) (2) ، فانحدرت سيول هائلة على سفوح الجبال، وتفجّر ينابيع الأرض المـُشبعة بالأمطار، وهكذا أحاط الماء الهائم بقوم نوح وسدّ عليهم طرق النجاة، وحتّى ابن نوح حاول اللجوء إلى أعالي المرتفعات لولا أنْ جابهته سيول هائجة لتصرعه إلى حيث مَهوى الهلاك، بل وحتّى لم يجد فرصة التريّث فيما كان ينصحه أبوه، وحال بينهما الموج فكان من المغرقين.

وفي تواريخ الأُمم ما يُسجّل حدوث طوفانات هائلة جرفت بقسط من الحياة؛ ولعلّه لتراكم الفساد والشرّ في تلكم البقاع، فمِن قدماء الفرس: أنّ طوفاناً هائلاً غمّ أرض العراق إلى حدود كردستان، وهكذا رُوي عن قدماء اليونان، والهنود أثبتوا وقوع الطوفان سبع مرّات شمل شبه الجزيرة الهنديّة، ويُروى تعدّد الطوفان عن اليابان والصين والبرازيل والمكسيك وغيرهم، ويُروى عن الكلدانييّن - وهم الذين وقع طوفان نوح في بلادهم -:

أنّ المياه طغت على البلاد وجرفت بالحرث والنسل. فقد نقل عنهم (برهوشع) و

____________________

(1) راجع: ما كتبه الدكتور شجاع الدين شفا في كتابه (تولّدي ديكر)، ص 285 منتقداً قصّة الطوفان على ما وردت في الكتب الدينيّة.

(2) القمر 54: 11 و 12.

٣٤

(يوسيفوس): أنّ (زيزستروس) رأى في الحُلم بعد موت أبيه (أوتيرت) أنّ المياه ستطغى وتُغرق الناس كلّهم - ممّن كان يعيش هناك طبعاً - فأُمر بصنع سفينة يعتصم فيها هو وذووه ففعل، وقد كان هناك جبابرة طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد فعاقبهم الله بالطوفان والاستئصال.

وقد عَثر بعض الإنجليز على ألواح من الآجر نُقشت فيها هذه الرواية بالحروف المسماريّة في عصر (آشور بانيبال) من نحو (660) سنة قبل ميلاد المسيح، وأنّها منقولة من كتابة قديمة من القرن السابع عشر قبل الميلاد أو قبل ذلك، ومِن ثَمّ فهي أقدم من كتابة سِفر التكوين (يرجع تدوينه إلى عام 536 قبل الميلاد بعد الرجوع من سبي بابل).

ويروي اليونان خبراً عن الطوفان أورده (أفلاطون) وهو: أنّ كَهَنة مصر قالوا للحكيم اليوناني (سولون) أنّ السماء أرسلت طوفاناً غيّر وجه الأرض مراراً، فهلك الناس - ممّن عمروا البلاد في المنطقة - وانمحت آثارهم ولم يبق للجيل الجديد شيء من تلكمُ الآثار والمعارف.

وأورد (مانيتيون) خبر طوفان حدث بعد (هرمس) الأَوّل - الذي كان بعد (ميناس) الأَوّل -، وهو أقدم من تأريخ التوراة أيضاً (1) .

وهكذا جاء خبر الطوفان في (اُوستا) كتاب المجوس (2) .

وجاء في كتاب (تأريخ الأدب الهندي) الجزء الأوّل المختصّ بالثقافة الوثنيّة الهنديّة، للسيّد أبي نصر أحمد الحسيني البهوبالي الهندي (مخطوط) ص 42 و 43، في الباب الخامس، وعنوانه (برهمانا وأوبانبشاء):

وممّا يلفت النظر في (ساتا بانا برهمانا) قصّة الطوفان، التي بُيّنت في ضمن الضحايا، والقصّة وإنْ اختلفت من وجوه كثيرة عمّا في القرآن والتوراة، وإن لم توجد شواهد قاطعة تربط القصّة الهنديّة مع الساميّة، توجب الاهتمام..

ففي هذه القصّة البرهمانيّة يقوم (مانو) بدور نبيّ الله نوح (عليه السلام) في القرآن وفي

____________________

(1) راجع: تفسير المنار لمـُحمّد عبده، ج 12، ص 105.

(2) في ترجمتها الفرنسيّة. راجع: الميزان للطباطبائي، ح 10، ص 267.

٣٥

التوراة، و (مانو) اسم نال التقديس والاحترام في أدب الثقافة بأسره من الوثنيّين، فهو: ابن الله، ومصدر جميع الناس وجدّهم الأسطوري.

وخلاصة القصّة: أنّه بينما كان (مانو) يغسل يديه إذ جاءت في يده سَمكة، وممّا اندهش به (مانو) أنّ السمكة كلّمته وطلبت إنقاذها من الهلاك، ووَعَدته جزاءً عليه أنّها ستنقذه في المستقبل من خطر عظيم، والخطر العظيم المـُحدق الذي أنبأت به السمكة كان طوفاناً سيجرف جميع المخلوقات؛ وعلى ذلك حَفَظ (مانو) السمكة في (المرتبان)، فلمـّا كَبُرت السمكة أخبرت (مانو) عن السنة التي سيأتي فيها الطوفان، ثمّ أشارت عليه أن يصنع سفينة كبيرة، ويدخل فيها عند طغيان الماء، قائلةً: أنا أُنقذك من الطوفان، فمانو صنع السفينة، والسمكة كبُرت أكثر من سعة (المرتبان)؛ لذلك ألقاها (مانو) في البحر. ثمّ جاء الطوفان كما أنبأت السمكة، وحين دخل (مانو) السفينة، عامت السمكة إليه، فربط السفينة بقرن على رأس السمكة، فجرّتها إلى الجبال الشماليّة، وهنا ربط (مانو) السفينة بشجرة، وعندما تراجع الماء وخفّ بقي (مانو) بوحدته (1) .

فذلكة الكلام: إنّ فيما أنبأت به الأُمم وحدّثت به الأجيال من حوادث جوّية خطيرة، داهمت الحياة البشريّة الأُولى وكان فيها الهلاك والدمار ومنها حادث الطوفان في كرّات ومرّات، ليُشْرف بالاطمئنان على تحقّق الحادث إجماليّاً، ولو لم يكن بذلك الشكل الأساطيري المنقول، شأن سائر القصص البائدة حِيكت حولها مخاريف، الأمر الذي لا يوجب إنكارها من رأس، ولا سيّما أنّ مثل حادث الطوفان كان طبيعيّاً أنْ يهاجم حياة الإنسان، ويواجهه بالنكبات في الأيام الأُولى بكثرة، ولا يزال ينتاب وجه الأرض بعد حينٍ وآخر.

وربما كان من أعظمها وأشملها طوفان نوح، عمّ المنطقة ودمّر وأباد، هذا شيء لا مساغ لإنكاره، بعد كونه طبيعيّاً وأخبر به الصادق الأمين.

____________________

(1) راجع: قصص الأنبياء للنجّار، ص 46 - 47.

٣٦

أمّا الزيادات التي جاءت في الأساطير القديمة ونقلتها التوراة على عِلاّتها فهذا شيءٌ نستخلص منه وننبذه، كما نبذه القرآن واستخلص الحادث صافياً جليّاً، الأمر الذي اختصّ به القرآن وكان نبأً غيبيّاً لا يعلمه أيّ إنسان ذلك الحين ( تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا ) (1) .

أي لا تعلمها بهذا الخلوص والجلاء، أمّا صورتها المشوّهة فكان يتداول بها أقوام جاهلون بحقيقة الأمر.

لا شاهد على شمول الطوفان

لا شكّ أنّ شواهد الطبيعة لا تدع مَجالاً لاحتمال شمول الطوفان، ولا سيّما بذلك الارتفاع الهائل! كما لا موجب لتناول الإعجاز لمثل هذا الحدّ غير الضروري قطعيّاً.

بقي ظاهر النصّ (التعابير الواردة في القرآن الكريم) ممّا حسبه البعض ذا دلالة أو إشارة إلى ذلك، فضلاً عن قرائن أخرى:

قال الشيخ مُحمّد عبده: وأمّا مسألة عموم الطوفان في نفسها فهي موضوع نزاع بين أهل الأديان، وأهل النظر في طبقات الأرض، وموضوع خلاف بين مؤرّخي الأُمم.

أمّا أهل الكتاب وعلماء الأمّة الإسلاميّة فعلى أنّ الطوفان كان عامّاً لكلّ الأرض، ووافقهم على ذلك كثير من أهل النظر، واحتجّوا على رأيهم بوجود بعض الأصداف والأسماك المتحجّرة في أعالي الجبال؛ لأنّ هذه الأشياء ممّا لا تتكّون إلاّ في البحر، فظهورها في رؤوس الجبال دليلٌ على أنّ الماء صعد إليها مرّةً من المرّات، ولن يكون ذلك حتّى يكون قد عمّ الأرض (2) .

وقال السيّد الطباطبائي: الحقّ، أنّ ظاهر القرآن الكريم - ظهوراً لا ينكر - أنّ الطوفان كان عامّاً للأرض، وأنّ من كان عليها من البشر أغرقوا جميعاً...

ومن شواهد الآيات التي استند إليها قوله تعالى - حكايةً عن نوح - ( رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى

____________________

(1) هود 11: 49.

(2) تفسير المنار، ج 12، ص1 08.

٣٧

الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً ) (1) وقوله: ( لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ) (2) وقوله: ( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) (3) .

قال: ومن الشواهد من كلامه تعالى على عموم الطوفان ما ذكر في موضعين من الأمر بأنْ يَحمل من كلٍّ زوجين اثنين، (4) ومن الواضح أنّه لو كان الطوفان خاصّاً بالمنطقة - أرض العراق كما هو معروف - لم تكن حاجة إلى ذلك (5) ؛ نظراً لإمكان تداوم النسل بسائر أفراد النوع المنبّثة في أقطار الأرض حينذاك.

آثار جيولوجيّة

لكن وجود الفسايل وبقايا متحجّرة لحيوانات مائيّة وهكذا آثار الردم المـُشاهد في أعالي بعض الجبال لا يَصلح شاهداً لصعود الماء إليها؛ إذ لا يكفي لحدوث هذه الآثار ووجود هذه البقايا صعود الماء أيّاماً معدودة ولفترة قصيرة، بل ومن المحتمل القريب أنّها من بقايا رسوبيّة كانت يوماً ما تحت البحر وعلى ضفافه، غير أنّ التغيّرات الجيولوجيّة والتمعّجات الحاصلة على قشرة الأرض على أثر الزلازل وغيرها هي التي أوجبت تغيّراً في وجه الأرض، فمنها ما ارتفع بعدما كان مغموراً، أو انغمر بعد ما كان عالياً، وهكذا تعرجّات حدثت على الأرض ولا سيّما في الفترات الأُولى على أثر انخفاض حرارة سطح الأرض.

قال الشيخ محمّد عبده: إنّ وجود الأصداف والحيوانات البحريّة المتحجّرة في قُلل الجبال لا يدلّ على أنّها من أثر ذلك الطوفان؛ بل الأقرب أنّه كان من أثر تكوّن الجبال وغيرها من اليابسة في الماء. فإنّ صعود الماء إلى الجبال أيّاماً معدودة لا يكفي لحدوث ما ذكر فيها (6) .

____________________

(1) نوح 71: 26.

(2) هود 11: 43.

(3) الصافّات 37: 77.

(4) راجع: سورة هود 11: 40 والمؤمنون 23: 27.

(5) راجع: تفسير الميزان، ج 10، ص 272 و 274 ووافقه على ذلك الدكتور مُحمّد الصادقي في تفسيره الفرقان، ج 12، ص 316 - 317.

(6) تفسير المنار، ج 12، ص 108.

٣٨

( رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرضِ) (1) .

أخذوا من هذه الآية دليلاً على عموم الطوفان وشموله لوجه الأرض كلّها.

قال الشيخ محمّد عبده: ليست الآية نصّاً في أنّ المراد بالأرض هذه الكُرة كلّها، فإنّ المعروف في كلام الأنبياء والأقوام وفي أخبارهم أنْ تُذكر الأَرض ويراد بها أرضهم ووطنهم، كقوله تعالى حكايةً عن خطاب فرعون لموسى وهارون: ( وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ ) (2) يعني أرض مصر، وقوله: ( وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا ) (3) فالمراد بها مكّة، وقوله: ( وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ) (4) والمراد ديار فلسطين، والشواهد على ذلك كثيرة.

قال: وظواهر الآيات تدلّ بمعونة القرائن والتقاليد المـُوروثة عن أهل الكتاب على أنّه لم يكن في الأرض كلّها في زمن نوح إلاّ قومه - (وهو في أوّليات حياة البشر) - وأنّهم هلكوا كلّهم بالطوفان، ولم يبقَ بعده فيها غير ذرّيته، وهذا يقتضي أنْ يكون الطوفان في البقعة التي كانوا فيها من الأرض سَهلها وجبالها لا في الأرض كلّها، إلاّ إذا كانت اليابسة منها في ذلك الزمن صغيرة؛ لقرب العهد بالتكوين وبوجود البشر عليها.

فإنّ علماء التكوين وطبقات الأرض (الجيولوجيّة) يقولون: إنّ الأرض كانت عند انفصالها من الشمس كرة ناريّة ملتهبة ثمّ صارت كرة مائيّة، ثُمّ ظهرت فيها اليابسة بالتدريج (5) .

وبذلك ظهر عدم دلالة الآية ( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) (6) على شمول الطوفان لعامّة وجه الأرض، بعد فرض محدوديّة نطاق النسل البشري آنذاك (في عهدٍ بعيد جدّاً) وعدم الانتشار في أقطار الأرض، ولا نُسلّم بما حدّدته التوراة من التأريخ القريب ولا مستند لها.

( لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)

شاهد آخر التمسوه دليلاً على عموم الطوفان.

قال تعالى: ( وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ

____________________

(1) نوح 71: 26،

(2) يونس 10: 87.

(3) الإسراء 17: 76.

(4) الإسراء 17: 4.

(5) تفسير المنار، ج 12، ص 106.

(6) الصافّات 37: 77.

٣٩

ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاّ مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ) (1) .

في هذه الآية موضعان يمكن الاستناد إليهما تدليلاً على شمول الطوفان:

1 - التعبير بالموج الهائل كالجبال، ممّا لا يحدث إلاّ في متّسع من خِضَمّ الماء المتراكم.

2 - محاولة ابن نوح للصعود إلى جبلٍ يَعصمه من الماء، ولكنّ نوحاً أنذره أنْ لا عاصم اليوم، ومعنى ذلك: أنّ الماء سيغطّي الجبال أيضاً ولا يَذر موضعاً يأوي إليه، وهكذا ابتلعه الموج الهائم فكان من المغرقين.

لكن لا شكّ أنّ هضبةً كبيرةً واسعةَ الأرجاء إذا ازدحمت عليها المياه، واكتنفتها السيول العارمة من كلّ جانب، وفاضت ينابيع الأرض فإنّ الماء ليجول ويصول في ساحتها، وربّما ارتفعت إلى عشرات الأمتار، وفي مثل هذا الخِضمّ من الماء الهائم - والذي في عرضة الطوفان - وهبوب رياح عاصف لابدّ أنّ تحصل أمواج عالية وعاتية تلوي على كلٍّ شيء.

ولابدّ أنّ ابن نوح كان واقفاً على مرتفع من الأرض ليرى تجوال السفينة على وجه الماء، وحينما كلّمه أبوه - وهو راكبٌ في السفينة - لمْ يعبأ بنُصح أبيه، وأنّه سوف يأوي إلى أعالي الجبال، لكنّه غافلٌ أنّ السيول الهائمة المـُنحدرة على سفوح الجبال سوف تلوي به إلى أعماق الغَرق، وبالفعل نزلت به النازلة وحال بينه وبين أبيه الموج فكان من الهالكين.

وليس في ذلك دلالة على أنّ الماء سوف يرتفع على قِمم الجبال الشامخة في كلّ مناحي الأرض.

وهكذا رجّح العلاّمة الشعراني أنّ الماء لم يرتفع في أرض الطوفان (هضبة ما بين النهرين) أكثر من عشرين أو ثلاثين متراً، ممّا لا يمكن غشيانه قُلَل جبال رفيعة كقُلّةِ آرارات من سلسلة جبال جودي (2) .

____________________

(1) هود 11: 42 و 43.

(2) معجم لغات القرآن للعلاّمة أبي الحسن الشعراني (ملحق تفسير أبي الفتوح الرازي، ج 11، ص 144).

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) .(١)

وسواء كان «الرّكون» هنا بمعنى الميل القلبي ، أو بمعنى الإعانة الظاهرية ، أو إظهار الرضا والمحبّة ، أو طلب الخير لهم هذه المعاني التي ذكرها المفسّرين «للركون» يجمعها مفهوم جامع لها ، وهو الاتكاء والاعتماد والتعلق وما إلى ذلك ، وهذا المفهوم شاهد حي على مقصودنا.

ونقرأ في هذا الصدد حديثا للإمام على بن الحسينعليه‌السلام مع «محمّد بن مسلم الزهري» الذي كان رجلا عالما ، إلّا أنّه كان يتعاطف ويتعاون مع الجهاز الأموي ولا سيما مع هشام بن عبد الملك ، يحذّره الإمام في حديثه هذا من إعانة الظالمين والركون إليهم ، وهو حديث مثير جدّا وقد جاء فيه : «أو ليس بدعائهم إيّاك حين دعوك جعلوك قطبا أداروا بك رحى مظالمهم ، وجسرا يعبرون عليك إلى بلاياهم ، سلّما إلى ظلالتهم ، داعيا إلى عينهم سالكا سبيلهم ، يدخلون بك الشك على العلماء ويقتادون بك قلوب الجهال إليهم ، فما أقل ما أعطوك في قدر ما أخذوا منك ، وما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خرّبوا عليك! فانظر لنفسك فإنّه لا ينظر إليها غيرك ، وحاسبها حساب رجل مسئول»(٢) .

والحقّ أنّ هذا المنطق البليغ المؤثر للإمامعليه‌السلام لكل عالم من وعّاظ السلاطين مرتبط بالظالمين راكن إليهم ، يمكن أن يبصّره بمصيره المشؤوم عاقبته المخزية.

ويذكر ابن عباس أن آية( رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ) من جملة الآيات التي تؤكّد على أن الركون للمجرمين ذنب عظيم ، وإعانة المؤمنين إطاعة لأمر الله سبحانه.

__________________

(١) سورة هود ، الآية ١١٤.

(٢) تحف العقول ، ص ٦٦.

٢٠١

قالوا لبعض العلماء : إنّ فلانا أصبح كاتبا للظالم الفلاني ، ولا يكتب له إلّا الدخل والخرج. وحياته وحياة عائلته مرهونة بما يحصل عليه من مال لقاء هذا العمل ، وإلّا فسيقع هو وأسرته في فقر مدقع.

فكان جواب هذا العالم : أمّا سمع قول العبد الصالح «موسى»( رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ) (١) .

* * *

__________________

(١) كان لنا بحثان مستوفيان في مجال إعانة الظالمين في ذيل الآية (٢) من سورة المائدة وذيل الآية (١١٢) من سورة هود ، فلا بأس بمراجعتهما.

٢٠٢

الآيات

( فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩) وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢) )

التّفسير

موسى يتوجّه إلى مدين خفية :

نواجه في هذه الآيات المقطع الرّابع من هذه القصّة ذات المحتوى الكبير.

حيث أن مقتل الفرعوني في مصر انتشر بسرعة ، والقرائن المتعددة تدلّ على

٢٠٣

أن القاتل من بني إسرائيل ، ولعل اسم موسىعليه‌السلام كان مذكورا من بين بني إسرائيل المشتبه فيهم.

وبالطبع فإنّ هذا القتل لم يكن قتلا عاديا ، بل كان يعد شرارة لانفجار ثورة مقدمة للثورة ولا شك أن جهاز الحكومة لا يستطيع تجاوز هذه الحالة ببساطة ليعرّض أرواح الفرعونيين للقتل على أيدي عبيدهم من بني إسرائيل.

لذلك يقول القرآن في بداية هذا المقطع( فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ ) (١) .

وهو على حال من الترقب والحذر ، فوجئ في اليوم التالي بالرجل الإسرائيلي الذي آزره موسى بالأمس يتنازع مع قبطي آخر وطلب من موسى أن ينصره( فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ ) (٢) .

ولكن موسى تعجب منه واستنكر فعله و( قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ ) إذ تحدث كل يوم نزاعا ومشادة مع الآخرين ، وتخلق مشاكل ليس أوانها الآن ، إذ نحن نتوقع أن تصيبنا تبعات ما جرى بالأمس ، وأنت اليوم في صراع جديد أيضا!!

ولكنّه كان على كل حال مظلوما في قبضة الظالمين (وسواء كان مقصرا في المقدمات أم لا) فعلى موسىعليه‌السلام أنّ يعينه وينصره ولا يتركه وحيدا في الميدان ،( فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما ) ج صاح ذلك القبطي :( قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ ) ويبدو من عملك هذا أنّك لست إنسانا منصفا( إِنْ

__________________

(١) كلمة «يترقب» مأخوذة من «الترقب» ، ومعناه الانتظار ، وموسى هنا في انتظار نتائج هذه الحادثة ، ومحل الجملة إعرابا ـ خبر بعد خبر ، وإن قيل أنها حال ، إلا أن هذا القول ضعيف.

(٢) كلمة «يستصرخ» مشتقة من مادة «الاستصراخ» ، ومعناها الإستغاثة ، ولكنها في الأصل تعني الصياح أو طلب الصياح من الآخر ، وهذا عادة ملازم للإعانة

٢٠٤

تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ) (١) .

وهذه العبارة تدلّ بوضوح على أن موسىعليه‌السلام كان في نيّته الإصلاح من قبل ، سواء في قصر فرعون أو خارجه ، ونقرأ في بعض الرّوايات أن موسىعليه‌السلام كانت له مشادات كلامية مع فرعون في هذا الصدد ، لذا فإن القبطي يقول لموسى : أنت كل يوم تريد أن تقتل إنسانا ، فأيّ إصلاح هذا الذي تريده أنت؟! في حين أن موسىعليه‌السلام لو كان يقتل هذا الجبار ، لكان يخطو خطوة أخرى في طريق الإصلاح

وعلى كل حال فإنّ موسى التفت إلى أن ما حدث بالأمس قد انتشر خبره ، ومن أجل أن لا تتسع دائرة المشاكل لموسى فإنّه أمسك عن قتل الفرعوني في هذا اليوم.

ومن جهة أخرى فإنّ الأخبار وصلت إلى قصر فرعون فأحسّ فرعون ومن معه في القصر أن تكرار مثل هذه الحوادث ينذره بالخطر ، فعقد جلسة شورى مع وزرائه وانتهى «مؤتمرهم» إلى أن يقتلوا موسى ، وكان في القصر رجل له علاقة بموسى فمضى إليه وأخبره بالمؤامرة وكما يقول القرآن الكريم :( وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ) .

ويبدو أنّ هذا الرجل هو «مؤمن آل فرعون» الذي كان يكتم إيمانه ويدعى «حزقيل» وكان من أسرة فرعون ، وكانت علاقته بفرعون وثيقة بحيث يشترك معه في مثل هذه الجلسات.

وكان هذا الرجل متألما من جرائم فرعون ، وينتظر أن تقوم ثورة «إلهية»

__________________

(١) يعتقد جماعة من المفسّرين أن هذه الجملة قالها الإسرائيلي لموسى ، لأنّه ظن أن موسى يريد قتله ، ولكن القرائن الكثيرة في الآية تنفي هذا الاحتمال!

٢٠٥

ضده فيشترك معها.

ويبدو أنّه كان له أمل كبير بموسىعليه‌السلام إذ كان يتوسم في وجهه رجلا ربّانيا صالحا ثوريّا ، ولذلك فحين أحسّ بأن الخطر محدق بموسى أوصل نفسه بسرعة إليه وأنقذه من مخالب الخطر ، وسنرى بعدئذ أن هذا الرجل لم يكن في هذا الموقف فحسب سندا وظهيرا لموسى ، بل كان يعدّ عينا لبني إسرائيل في قصر فرعون في كثير من المواقف والأحداث.

أمّا موسىعليه‌السلام فقد تلقى الخبر من هذا الرجل بجدّية وقبل نصحه ووصيته في مغادرة المدينة( فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ ) .

وتضرع إلى الله بإخلاص وصفاء قلب ليدفع عنه شرّ القوم و( قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) .

فأنا أعلم يا ربّ أنّهم ظلمة ولا يرحمون ، وقد نهضت ـ دفاعا عن المحرومين ـ بوجه الظالمين ، ولم آل جهدا ووسعا في ردع الأشرار عن الإضرار بالطيبين ، فأسألك ـ يا ربّي العظيم ـ أن تدفع عنّي أذاهم وشرّهم.

ثمّ قرر موسىعليه‌السلام أن يتوجه إلى مدينة «مدين» التي كانت تقع جنوب الشام وشمال الحجاز ، وكانت بعيدة عن سيطرة مصر والفراعنة ولكنه شاب تربّى في نعمة ورفاه ويتجه إلى سفر لم يسبق له في عمره أن يسافر إليه ، فلا زاد ولا متاع ولا صديق ولا راحلة ولا دليل ، وكان قلقا خائفا على نفسه ، فلعل أصحاب فرعون سيدركونه قبل أن يصل إلى هدفه «مدين» ويأسرونه ثمّ يقتلونه فلا عجب أن يظل مضطرب البال!

أجل ، إن على موسىعليه‌السلام أن يجتاز مرحلة صعبة جدّا ، وأن يتخلص من الفخ الذي ضربه فرعون وجماعته حوله ليصطادوه ، ليستقرّ أخيرا إلى جانب المستضعفين ويشاطرهم آلامهم بأحاسيسه وعواطفه ، وأن يتهيأ لنهضة إلهية

٢٠٦

لصالحهم وضد المستكبرين.

إلّا أنّه كان لديه في هذا الطريق وعواطفه رأس مال كبير وكثير لا ينفد أبدا ، وهو الإيمان بالله والتوكل عليه ، لذا لم يكترث بأي شيء وواصل السير( وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ ) (١) .

* * *

__________________

(١) «تلقاء» مصدر أو اسم مكان ، ومعناه هنا : الجهة والصوب الذي قصده.

٢٠٧

الآيات

( وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥) )

التّفسير

عمل صالح يفتح لموسى أبواب الخير :

نواجه هنا المقطع الخامس من هذه القصّة ، وهي قضيّة ورود موسىعليه‌السلام إلى مدينة مدين.

هذا الشاب الطاهر الذي لا يغش أحدا أمضى عدّة أيّام في الطريق ، الطريق التي لم يتعود المسير فيها من قبل أبدا ، ولم يكن له بها معرفة ، وكما يقول بعضهم : اضطر موسى إلى أن يمشي في هذا الطريق حافيا ، وقيل : إنّه قطع الطريق في

٢٠٨

ثمانية أيّام ، حتى لقي ما لقي من النصب والتعب ، وورمت قدماه من كثرة المشي.

وكان يقتات من نبات الأرض وأوراق الشجر دفعا لجوعه ، وليس له أمام مشاكل الطريق وأتعابه إلّا قلبه المطمئن بلطف الله الذي خلّصه من مخالب الفراعنة.

وبدأت معالم «مدين» تلوح له من بعيد شيئا فشيئا ، وأخذ قلبه يهدأ ويأنس لاقترابه من المدينة ، ولما اقترب ثمّ عرف بسرعة أنّهم أصحاب أغنام وأنعام يجتمعون حول الآبار ليسقوا أنعامهم وأغنامهم.

يقول القرآن في هذا الصدد :( وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ ) (١) .

فحركه هذا المشهد حفنة من الشبان الغلاظ يملأون الماء ويسقون الأغنام ، ولا يفسحون المجال لأحد حتى يفرغوا من أمرهم بينما هناك امرأتان تجلسان في زاوية بعيدة عنهم ، وعليهم آثار العفّة والشرف ، جاء إليهما موسىعليه‌السلام ليسألهما عن سبب جلوسهما هناك و( قالَ ما خَطْبُكُما ) (٢) .

ولم لا تتقدمان وتسقيان الأغنام؟!

لم يرق لموسىعليه‌السلام أن يرى هذا الظلم ، وعدم العدالة وعدم رعاية المظلومين ، وهو يريد أن يدخل مدينة مدين ، فلم يتحمل ذلك كله ، فهو المدافع عن المحرومين ومن أجلهم ضرب قصر فرعون ونعمته عرض الحائط وخرج من وطنه ، فهو لا يستطيع أن يترك طريقته وسيرته وأن يسكت أمام الجائرين الذين لا ينصفون المظلوم!

فقالت البنتان : إنّهما تنتظران تفرق الناس وأن يسقي هؤلاء الرعاة اغنامهم :

__________________

(١) «تذودان» مشتقة من «ذود» على زنة «زرد» ومعناها المنع ، فهما إذا كانتا تذودان أغنامهما لئلا تختلط بالأغنام الأخرى.

(٢) ما خطبكما : أي ما شأنكما وما شغلكما هنا؟!

٢٠٩

( قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ ) (١) .

ومن أجل أن لا يسأل موسى : أليس لكما أب؟ ولماذا رضي بإرسال بناته للسقي مكانه ، أضافتا مكملتين كلامهما( وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ ) فلا هو يستطيع أن يسقي الأغنام ، وليس عندنا أخ يعينه على الأمر فلا حيلة لنا إلّا أن نؤدي نحن هذا الدور.

فتأثر موسىعليه‌السلام من سماعه حديثهما بشدة. فأي أناس هؤلاء لا ينصفون المظلوم ، ولا هم لهم غير أنفسهم.

فتقدم وأخذ الدلو وألقاها في البئر يقال : إن هذه الدلو كان يجتمع عليها عدّة نفر ليخرجوها بعد امتلائها من الماء ، إلّا أن موسىعليه‌السلام استخرجها بقوته وشكيمته وهمّته بنفسه دون أن يعينه أحد( فَسَقى لَهُما ) أغنامهما.

ويقال : إنّ موسىعليه‌السلام حين اقترب من البئر لام الرعاء ، قال : أي أناس أنتم لا همّ لكم إلّا أنفسكم! وهاتان البنتان جالستان؟! ففسحوا له المجال وقالوا له : هلمّ واملأ الدلو ، وكانوا يعلمون أن هذه الدلو حين تمتلئ لا يستخرجها إلّا عشرة أنفار من البئر.

ولكن موسىعليه‌السلام بالرغم من تعب السير في الطريق والجوع ملأ الدلو وسحبها بنفسه وسقى أغنام المرأتان جميعها( ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) .

أجل إنّه متعب وجائع ، ولا أحد يعرفه في هذه المدينة ، فهو غريب ، وفي الوقت ذاته كان مؤدبا وإذا دعا الله فلا يقول : ربّ إنّي أريد كذا وكذا ، بل يقول :( رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) أي إنّه يكشف عن حاجته فحسب ، ويترك الباقي إلى لطف الله سبحانه.

لكن هلمّ إلى العمل الصالح ، فكم له من أثر محمود! وكم له من بركات

__________________

(١) «يصدر» مأخوذ من مادة «صدر» ومعناه الخروج من الماء ، «والرعاء» جمع راع ، وهو سائس الغنم.

٢١٠

عجيبة! خطوة نحو الله ملء دلو من أجل إنصاف المظلومين ، فتح لموسى فصلا جديدا ، وهيأ له. من عالم عجيب من البركات المادية والمعنوية ووجد ضالته التي ينبغي أن يبحث عنها سنين طوالا.

وبداية هذا الفصل عند ما جاءته احدى البنتين تخطو بخطوات ملؤها الحياء والعفة ويظهر منها أنّها تستحي من الكلام مع شاب غريب : رجوعهما إليه بهذه السرعة على غير ما اعتادتا عليه ، فقصتا عليه الخبر ، فأرسل خلفه( فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ ) فلم تزد على أن( قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا ) .

فلمع في قلبه إشراق من الأمل ، وكأنّه أحس بأنّ واقعة مهمّة تنتظره وسيواجه رجلا كبيرا! رجلا عارفا بالحق وغير مستعد أن يترك أي عمل حتى لو كان ملء الدلو أن يجزيه عليه ، هذا الرجل ينبغي أن يكون إنسانا نموذجيا ورجلا سماويا وإلهيّا ربّاه ما أروعها من فرصة.

أجل ، لم يكن ذلك الشخص الكبير سوى «شعيب» النّبي الذي كان يدعو الناس لسنين طوال نحو الله ، كان مثلا لمن يعرف الحق ويطلب الحق ، واليوم إذ تعود بنتاه بسرعة يبحث عن السبب ، وحين يعرف الأمر يقرر أن يؤدي ما عليه من الحق لهذا الشاب كائنا من كان.

تحرك موسىعليه‌السلام ووصل منزل شعيب ، وطبقا لبعض الروايات ، فإنّ البنت كانت تسير أمام موسى لتدله على الطريق ، إلّا أن الهواء كان يحرّك ثيابها وربّما انكشف ثوبها عنها ، ولكن موسى لما عنده من عفة وحياء طلب منها أن تمشي خلفه وأن يسير أمامها ، فإذا ما وصلا إلى مفترق طرق تدله وتخبره من أي طريق يمضي إلى دار أبيها شعيب :(١)

دخل موسىعليه‌السلام منزل شعيبعليه‌السلام ، المنزل الذي يسطع منه نور النبوّة وتشع

__________________

(١) انظر : أبو الفتوح الرازي ـ ذيل الآيات.

٢١١

فيه الروحانية من كل مكان وإذا شيخ وقور يجلس ناحية من المنزل يرحب بقدوم موسىعليه‌السلام ، ويسأله :

من أين جئت؟! وما عملك؟! وما تصنع في هذه المدينة. وما مرادك وهدفك هنا؟!

ولم أراك وحيدا؟!

وأسئلة من هذا القبيل

يقول القرآن في هذا الصدد :( فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) فأرضنا بعيدة عن سيطرتهم وسطوتهم ولا تصل أيديهم إلينا ، فلا تقلق ولا تشعر نفسك الوحشة ، فأنت في مكان آمن ولا تفكر بالغربة ، فكل شيء بلطف الله سيتيسر لك!

فالتفت موسى إلى أنّه وجد استاذا عظيما تنبع من جوانبه عيون العلم والمعرفة والتقوى ، وتغمر وجوده الروحانيّة ويمكن أن يروي ظمأه منه.

كما أحسّ شعيب أنّه عثر على تلميذ جدير ولائق ، وفيه استعداد لأن يتلقى علومه وينقل إليه تجارب العمر!

أجل كما أن موسى شعر باللذة حين وجد أستاذا عظيما كذلك أحس شعيب بالفرح والسرور حين عثر على تلميذ مثل موسى.

* * *

مسألتان

١ ـ أين كانت مدين؟!

«مدين» : اسم مدينة كان يقطنها «شعيب» وقبيلته ، هذه المدينة كانت تقع في شرق خليج العقبة [وشمال الحجاز وجنوب الشامات] وأهلها من أبناء إسماعيل

٢١٢

«الذبيح» ابن إبراهيم الخليلعليهما‌السلام ، وكانت لهم تجارة مع مصر وفلسطين ولبنان.

أمّا اليوم فيطلق على «مدين» اسم «معان».

كما أن بعضا من المفسّرين يعتقدون أن مدين اسم لجماعة كانت تعيش ما بين خليج العقبة وجبل سينا المعروف بطور سيناء ، وجاء اسمها في التوراة بـ «مديان» أيضا(١) .

كما يرى البعض : إنّ أساس تسمية هذه المدينة «بمدين» هو لأنّ أحد أبناء إبراهيم الخليل واسمه «مدين» كان يعيش في هذه المدينة(٢) .

وفي الوقت الحاضر يبدو في الخرائط الجغرافية للأردن أن إحدى مدنها في الجنوب الغربي منها ، واسمها «معان» تحمل الأوصاف ذاتها التي كانت في مدين وتنطبق عليها تماما.

٢ ـ دروس كثيرة توحي بالعبر :

في هذا القسم من قصّة موسىعليه‌السلام دروس كثيرة توحي بالعبر :

أـ إنّ أنبياء الله هم حماة المظلومين دائما ، فموسى سواء كان في مصر أو كان في مدين كان يسيئه أن يرى ظلما وتجاوزا على حقوق الآخرين ، وكان ينهض لنصرة المظلوم ولم لا يكون كذلك ، وأحد أهداف بعثة الأنبياء نصرة المظلوم.

ب ـ أداء عمل صغير لله له بركات كثيرة!

لم يفعل موسى سوى أنّه جلب دلوا من الماء وسقى الأغنام للبنتين ، ولم يكن له هدف سوى مرضاة الله الخالق سبحانه!

ولكن كم كان لهذا العمل الصغير من خير وبركة؟! لأنّه صار سببا لأن يصل

__________________

(١) راجع أعلام القرآن ، ص ٥٧٢.

(٢) راجع روح المعاني ، ج ٢٠ ، ص ٥١.

٢١٣

إلى منزل شعيب نبي الله ، وأن يتخلّص من الغربة ، وأن يجد مأوى يطمئن إليه ، وصار من نصيبه الأكل الهنيء والثياب والزوجة الصالحة ، وأهم من كل ذلك إنّه وصل إلى شعيب ، ذلك الشيخ الكبير الذي يتمتع بضمير حي وله دين سماوي ، فعاش معه عشر سنين وأصبح مهيأ لقيادة الأمة في ذلك الوقت

ج ـ إنّ رجال الله لا يتركون أي عمل سدى ـ وخاصّة ما يعمله المخلصون ـ دون أن يؤدوا أجره ولهذه السبب فإنّ شعيبا حين بلغه ما قدمه موسىعليه‌السلام من عمل ـ وهو شاب لم يكن معروفا لم يكن معروفا هناك ـ لم يقرّ حتى أرسل خلفه ليعطيه أجره.

د ـ وهذه المسألة تثير الانتباه ، وهي أن موسى كان يذكر الله دائما ، ويطلب منه العون في كل أمر ، يوكل حل مشاكله إليه.

فحين قتل القبطي وعرف أنّه «ترك الأولى» استغفر ربّه فورا و( قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ) .

وحين خرج من مصر سأل الله أن يحفظه و( قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) .

وحين وصل أرض مدين( قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ! ) .

وحين سقى أغنام «شعيب» وتولى إلى الظل دعا ربّه( فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) .

وهذا الدعاء الأخير ـ خاصة ـ الذي دعا به في وقت تحوط فيه الأزمات وهو في أشدّ الحاجات ، دعا به وهو في غاية التأدب والخشوع ، ولم يسأل الله أن يحقق له ما يحتاج ، بل سأل المزيد وقال :( رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) .

ه ـ لا ينبغي التصور أن موسىعليه‌السلام إنّما كان يذكر الله في الشدائد فحسب ، فهو لم ينس ذكر الله حتى حين كان في نعمة ورفاهية من العيش ، إذ كان يعيش في

٢١٤

قصر فرعون ـ لذلك ورد في الرّوايات «درج موسى كان يوما عند فرعون فعطس موسى فقال : الحمد لله ربّ العالمين. فأنكر فرعون ذلك عليه ولطمه وقال : ما هذا الذي تقول؟ فوثب موسى على لحيته ـ وكان طويل اللحية ـ فهلبها أي قلعها ، فآلمه ألما شديدا ، فهم فرعون بقتله فقالت له امرأته ، هذا غلام حدث لا يدري ما يقول وقد لطمته بلطمه إيّاك. فقال فرعون : بلى يدري ...» إلخ(١) .

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١١٧.

٢١٥

الآيات

( قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٢٨) )

التّفسير

موسى في دار شعيب :

هذا هو المقطع السادس من قصّة حياة موسىعليه‌السلام المثيرة ، جاء موسى إلى منزل شعيب ، منزل قرويّ بسيط ، منزل نظيف ومليء بالروحيّة العالية ، وبعد أن قصّ عليه قصّته ، بادرت إحدى بنتي شعيب بالقول ـ وبعبارة موجزة ـ : إنّني أقترح أن تستأجره لحفظ الأغنام ورعايتها : وقالت( يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ) .

هذه البنت التي تربّت في حجر النّبي الكبير ، ينبغي أن تتحدث بمثل هذا

٢١٦

الحديث الوجيز الكريم ، وأن تؤدي الكلام حقّه بأقلّ العبارات.

ترى من أين عرفت هذه البنت أنّ هذا الشاب قويّ وأمين أيضا؟ مع أنّها لم تره الّا لأوّل مرّة على البئر ، ولم تتّضح لها سوابق حياته!

والجواب على هذا السؤال واضح وجليّ إذ لاحظت قوته وهو ينحيّ الرعاء عن البئر ويملأ القربة الثقيلة لوحده ويطالب بحق المظلوم ، وأمّا أمانته وصدقه فقد اتّضحا لها منذ أن سارت أمامه إلى بيت أبيها ، فطلب منها أن تتأخر ويتقدمها ، لئلا تضرب الريح ثيابها!.

أضف إلى ذلك من خلال نقله قصته لشعيب فقد اتّضحت قوته في دفعه القبطي عن الإسرائيلي وقتله إيّاه بضربة واحدة وأمانته وصدقه في عدم مساومته الجبابرة.

فرضي شعيبعليه‌السلام باقتراح ابنته ، وتوجه إلى موسى و( قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ ) ثمّ أضاف قائلا :( فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ ) (١) .

وعلى كل حال ، فلا أريد إيذاءك( وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ) .

فأنّا ألتزم بالعهد والميثاق وأفي بما نتعاقد عليه ، ولا أشدّد عليك في الأمور ، وأتعامل معك معاملة حسنة وصالحة إن شاء الله.

ومن خلال هذا الاقتراح هناك أسئلة كثيرة حول الزواج من ابنة شعيب والمهر وسائر الخصوصيات ، وسنبحث عنها في البحوث القادمة إن شاء الله.

واستجابة لهذا القرار والعقد الذي أنشأه شعيب مع موسى وافق موسى

__________________

(١) هذا المضمون نفسه ورد في رواية منقولة في تفسير علي بن إبراهيم ، فقال لها شعيب : أمّا قوته فقد عرفتنيه إنّه يستقى الدلو وحده ، فبم عرفت أمانته؟ فقالت : «إنّه لمّا قال لي تأخري عنّي ودليني على الطريق فإنّا من قوم لا ينظرون في أدبار النساء عرفت أنّه ليس من الذين ينظرون أعجاز النساء فهذه أمانته».

٢١٧

و( قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ )

ثمّ أردف مضيفا بالقول :( أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَ ) أي سواء قضيت عشر سنين أو ثماني سنين «حجج» فلا عدوان علي

ومن أجل استحكام العقد بينهما جعل موسىعليه‌السلام الله كفيلا وقال :( وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ! ) .

وبهذه البساطة أصبح موسى صهرا لشعيب على ابنته.

* * *

بحوث

١ ـ شرطان أساسيان للإدارة الصحيحة

في العبارة القصيرة التي وردت في الآيات المتقدمة على لسان بنت شعيب في شأن استئجار موسى ، كان من أهم الشروط وأكثرها أصالة شرطان لخّصا في «القوّة» و «الأمانة».

ومن البديهي أنّ القوّة المذكورة ـ آنفا ـ ليس المراد منها قوّة الجسم فحسب ، بل القدرة على تحمّل المسؤولية أيضا.

فالطبيب «القوي الأمين» هو الطبيب الذي له معرفة جيدة وكافية في عمله ، وله تسلّط عليه أيضا.

والمدير القوى هو الذي يعرف «أصول الإدارة» ويعرف الأهداف المطلوبة وله تسلط في وضع الخطط و «البرامج» ، وله سهم وافر في الابتكار وتنظيم الأعمال ويعبئ القوى في سبيل الوصول للهدف المعين.

وفي الوقت ذاته يكون مشفقا وناصحا وأمينا وصادقا في العمل.

والأشخاص الذين يقنعون في تحمل المسؤولية وجود الأمانة والطهارة فحسب ، هم مخطئون بمقدار خطأ من يعتمد على سمة التخصص والعلم فحسب.

٢١٨

فالمتخصصون الخونة والعلماء المنحرفون يضربون ضربتهم كما يضربها المخلصون الذين لا حظ لهم من الاطلاع والمهارة في العمل.

وإذا أردنا أن نخرّب دولة ما فينبغي أن نوكل الأمور إلى إحدى هاتين الطائفتين إلى مدراء خائنين لـ «الأمانة» ، إلى المخلصين الذين لاحظ لهم من العلم والإدارة والنتيجة واحدة.

إنّ منطق الإسلام هو أن يوكل كل عمل إلى شخص قوي أمين مقتدر ، ليصل نظام المجتمع إلى الكمال ، وإذا ما تأمّلنا في سبب زوال الحكومات في طول التأريخ ، وفكّرنا في الأمر ، وجدنا العامل الأصلي هو إيكال الأمر إلى إحدى هاتين الطائفتين اللتين تكلمنا عنهما آنفا.

ومن الطريف أنّ منهج الإسلام في جميع الأمور أنّه يقرن «العلم مع التقوى» جنبا إلى جنب.

فمرجع التقليد لا بدّ أن يكون «مجتهدا عادلا» والقاضي وكذلك القائد يجب أن يكون «مجتهدا عادلا» وبالطبع فإن شروطا أخرى ينبغي توفرها أيضا ، ولكن أساس هذه الشروط جميعا شرطان هما «العلم المقترن بالتقوى والعدل».

٢ ـ اسئلة عن زواج موسى من بنت شعيب!

ذكرنا ـ آنفا ـ أنّ الآيات المتقدمة تحمل بين ثنايها أسئلة متعددة ، وعلينا أن نجيب عليها ولو باختصار :

أـ هل يجوز من الناحية الشرعية والفقهية ، أن تكون الزوجة غير معلومة ، بل يقال عند إجراء صيغة العقد «أزوّجك إحدى البنتين مثلا»؟

والجواب : ليس من المعلوم أن العبارة السابقة( أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ ) ذكرت عند إجراء صيغة العقد بل الظاهر أنّه جرى كلام ومقدمات للعقد والزواج ، وبعد موافقة موسى على الزواج ، ثمّ تجري صيغة العقد على واحدة

٢١٩

بعينها.

ب ـ هل يمكن أن يكون المهر مجهولا ، أو مرددا بين النقصان والتمام؟!

والجواب : يفهم من لغة الآية أن المهر الواقعي كان ثماني سنوات خدمة أمّا السنتان الأخريان فموكلتان لرغبة موسى ، إن شاء أدّاهما ، وإلّا فلا!

ج ـ وهل يجوز أساسا أن يكون المهر «خدمة وعملا»؟!

وكيف يمكن الزواج من امرأة على هذا المهر والدخول بها ، والمهر بعد لم يتمّ ، ولا يمكن إتمامه في مكان واحد!

والجواب : إنّه لا دليل على عدم جواز مثل هذا المهر ، بل إطلاقات الأدلة على المهر في شريعتنا ـ أيضا ـ تشمل كل شيء ذي قيمة!

كما أنّه لا يلزم أداء المهر في مكان واحد ، بل يكفي أن يكون في ذمّة الرجل ، والمرأة مالكة له.

وأصل السلامة والاستصحاب يقضيان أنّ هذا الرجل يحيا مدّة ويستطيع أداء هذا المهر.

د ـ أساسا كيف يمكن جعل الخدمة للأب مهرا للبنت؟! فهل المرأة بضاعة تباع في مقابل الخدمة(١) ؟!

والجواب : لا شكّ أن شعيبا كان يحرز رضا ابنته على مثل هذا المهر ، ولديه وكالة منها على هذا العقد ، وبتعبير آخر : إن المالك الأصلي لما في ذمّة موسى ، هي زوجته «بنت شعيب».

ولكن حيث أنّهم كانوا يعيشون في بيت واحد وفي غاية الصفاء والنقاء ، ولم تكن بينهم فرقة وانفصال «كما هي الحال بالنسبة إلى كثير من الأسر القروية

__________________

(١) قال المحقق الحلي في الشرائع «يصح العقد على منفعة كتعليم الصنعة والسورة من القرآن وكل عمل محلل ، وعلى إجارة الزوج نفسه مدّة معينة» ويضيف الفقيه الكبير الشيخ محمّد حسن صاحب الجواهر بعد ذكر تلك العبارة قوله : «وفاقا للمشهور» (جواهر الكلام ، ج ٣١ ، ص ٤).

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592