الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 592
المشاهدات: 165870
تحميل: 5162


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 165870 / تحميل: 5162
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 12

مؤلف:
العربية

والتعبير بعسى «من أفعال الرجاء» مع أن الذي آمن وعمل صالحا فهو من أهل الفلاح حتما ـ ربّما كان لأنّ الإيمان والعمل الصالح مشروطان بالبقاء والدوام عليهما ، وحيث أن التائبين لا يبقى جميعهم على التوبة ، بل قد يعود بعضهم لعمله السابق ، عبر القرآن بقول :( فَعَسى ) إلخ.

قال بعض المفسّرين : التعبير بـ «عسى» حين يكون من شخص كريم ، فإنّه يدل على المفهوم القطعي ، والله سبحانه أكرم الأكرمين.

والآية التي بعدها في الحقيقة دليل على نفي الشرك وبطلان عقيدة المشركين ، إذ تقول:( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) (١) .

فالخلق بيده ، والتدبير والإختيار بيده أيضا ، وهو ذو الإرادة ، وليس لأحد سواه أن يفعل ما يشاء ، فكيف بالأصنام؟!

فاختيار الخلق بيده ، والشفاعة بيده ، وإرسال الرسل بيده أيضا. والخلاصة أنّ اختيار كل شيء متعلق بمشيئته وإرادته المقدسة ، فعلى هذا لا يمكن للأصنام أن تعمل شيئا ، ولا حتى الملائكة والأنبياء ، إلّا أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى!

وعلى كل حال فإطلاق الإختيار دليل على عموميته بمعنى أن الله سبحانه صاحب الإختيار في الأمور التكوينية والأمور التشريعية أيضا فجميعها يتعلقان به.

فمع هذه الحال ، كيف يسلك هؤلاء طريق الشرك ويتجهون نحو غير الله؟ لذلك فإنّ الآية تنزه الله عن الشرك وتقول :( سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .

وفي الرّوايات الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام فسرت الآية المتقدمة باختيار الأئمّة المعصومين من قبل الله سبحانه ـ وجملة( ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) أيضا وردت في هذا المعنى ، وهي في الواقع من قبيل بيان المصداق الواضح ، لأنّ

__________________

(١) «ما» في جملة «ما كان لهم الخيرة» نافية ، ولكن البعض يحتمل أنّها موصولة ومعطوفة على المفعول المحذوف «ليختار» لكن هذا الاحتمال بعيد جدا

٢٨١

مسألة حفظ الدين والمذهب واختيار القائد المعصوم لأجل هذا الهدف ، لا تكون إلّا من قبل الله تعالى(١) .

أمّا الآية التي بعدها فتتحدث عن علم الله الواسع ، وهي في الحقيقة تأكيد أو دليل على الإختيار الواسع في الآية السابقة ، إذ تقول هذه الآية :( وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ ) .

فإحاطته بكل شيء دليل على اختياره لكل شيء ، كما هي ـ ضمنا ـ تهديد للمشركين ، لئلا يظنوا أن الله غير مطلع على سرائرهم ونيّاتهم و «مؤامراتهم».

والآية الأخيرة من هذا المقطع ـ هي نتيجة الحكم ، وتوضيح للآيات السابقة في مجال نفي الشرك ، وهي ذات أربعة أوصاف من أوصاف الله ، وجميعها فرع على خالقيته واختياره.

فالأول : أنّه( هُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) .

فكيف يمكن أن يكون معبود آخر سواه ، وهو الخالق وحده وجميع الإختيارات بأمره وبيده. فمن يتوسل بالأصنام لتشفع له عند الله فهو من المضلين الخاطئين.

والثّاني : أن جميع النعم دنيوية كانت أم أخروية هي منه ، وهي من لوازم خالقيته المطلقة ، لذلك يقول القرآن في هذا الصدد( لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ ) .

الثّالث : أنّه( وَلَهُ الْحُكْمُ ) فهو الحاكم في هذا العالم ، وفي العالم الآخر.

والرّابع :( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) للحساب والثواب والعقاب.

فالله الخالق ، وهو المطّلع ، وهو الحاكم يوم الجزاء ، وبيده الحساب والثواب والعقاب.

* * *

__________________

(١) اصول الكافي. وتفسير علي بن إبراهيم «طبقا لتفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١٣٦».

٢٨٢

الآيات

( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٧٥) )

التّفسير

نعمتا «الليل والنهار» العظيمتان :

هذه الآيات ـ محل البحث ـ تتحدث عن قسم كبير من مواهب الله سبحانه ، التي تدل على التوحيد ونفي الشرك من جهة ، كما أنّها تكمّل البحث السابق

٢٨٣

وتذكر مثلا للنعم التي تستوجب الحمد والثناء الحمد المشار إليه في الآيات المتقدمة ، كما هي في الوقت ذاته شاهد على اختيار الله وتدبيره في نظام الخلق من جهة أخرى!.

ففي الآية الأولى من هذه الآيات إشارة إلى نعمة النهار والنور الذي هو أساس لأية حركة ، فتقول الآية :( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ ) (١) .

هنا عبر عن النهار بالضياء ، لأنّ الهدف الأصلي من النهار هو الضياء والانبلاج ، ذلك الضياء الذي تتعلق به حياة كل الموجودات الحية ، فلولا ضياء الشمس لما تنسمت «زهرة» ولا نمت «شجرة» ولا طار «طائر» ولا بقي «إنسان» ولا هطل مطر.

«السرمد» معناه الدائم المتواصل ، ويرى البعض بأنه المتتابع ، وأصله «سرد» ويرون أن ميمها زائدة لكن الظاهر أنّها كلمة مستقلة تعطي معنى الدوام والاستمرار.(٢) كما تتحدث الآية الأخرى عن نعمة الظلمة فتقول :( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ ) .

أمّا الآية الثّالثة فتحكى عن نتيجة النعمة المشار إليها في الآيتين السابقتين فيقول( وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) أجل ، إنّ سعة رحمة الله تستوجب أن تضمن جميع عوامل حياتكم ، فأنتم ـ

__________________

(١) «أرأيتم» جملة تأتي بمعنى «أخبروني» عادة ، كما فسّروها ، ولكن كما قلنا سابقا تأتي أحيانا بمعنى : هل علمتم؟!

(٢) قال أهل اللغة : إن كلمة «سرمدي» تطلق على ما ليس له بداية ولا نهاية ، و «الأزلي» ما ليس له بداية ، و «الأبدي» ما ليس له نهاية

٢٨٤

من جانب ـ بحاجة إلى السعي والحركة ، وكل ذلك لا بدّ لهما من الليل!

لقد ثبت ـ في هذا العصر ـ علميّا أن جميع أجهزة البدن تكون فعالة ونشطة مع وجود النور ، إذ تنشط الحركة الدموية والجهاز التنفسي وحركة القلب وسائر الأجهزة ، وإذا استمر النور أكثر من المعتاد تعبت خلايا الجسم وتحول النشاط إلى خمول!

وبالعكس فإنّ الخلايا تهدأ في الليل وتستريح استراحة عميقة تستعيد نشاطها وقواها «شرحنا هذا المعنى في الجزء السادس ذيل الآية ٦٧ من سورة يونس والآية (١٢) من سورة الاسراء» ،

الطريف هنا أن الآية حين تتحدث عن سرمديّة الليل تخاطب الناس قائلة :( أَفَلا تَسْمَعُونَ ) وحين تتحدث عن سرمدية النهار تخاطبهم قائلة :( أَفَلا تُبْصِرُونَ ) ولعل هذا التعبير لأجل أن الحسّ المناسب لليل هو السمع والأذن ، وما يناسب النهار هو البصر والعين إلى هذه الدرجة نلاحظ الدقّة في القرآن الكريم.

كما أنّ من الجدير الالتفات إلى أنّ الآية هنا بعد ذكر مسألتي السمع والبصر أو الليل والنهار ، تختتم الحديث بالقول :( لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) الشكر إزاء النظام المحسوب النور والظلمة ، الشكر الذي يوصل الإنسان إلى معرفة المنعم والشكر الذي يكون باعثا على الإيمان في المباحث الاعتقادية!.

ومرّة أخرى ـ بعد ذكر جانب من دلائل التوحيد ونفي الشرك ـ يعود القرآن الكريم على السؤال الأوّل الذي أثير في الآيات السابقة ليقول :( وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ) .

وهذه الآية مكررة في السورة نفسها ، إذ وردت بنصّها في الآية ٦٢ ، ولعل هذا التكرار ناشئ عن السؤال مرتين في يوم القيامة ، مرّة بصورة انفرادية ليعودوا إلى وجدانهم فيخجلوا من أنفسهم ، ومرّة بصورة عامّة في محضر الشهود ، وهو ما أشير إليه في الآية التي بعدها ليخجلوا أيضا من حضورهم.

٢٨٥

لذلك تأتي الآية التي بعدها فتقول :( وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ) (١) ( فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ ) أيّها المشركون الضالون.

وحين تنكشف المسائل وتتجلى الأمور لا تبقى خافية( فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ) .

هؤلاء الشهود هم الأنبياء بقرينة الآيات الأخرى في القرآن ، إذ أن كل نبي شاهد على أمته ، ونبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي هو خاتم الأنبياء هو شهيد على جميع الأنبياء والأمم ، كما نقرأ ذلك في الآية (٤١) من سورة النساء( فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً ) .

فعلى هذا ، ينعقد يوم القيامة مجلس كبير بحضور الأنبياء ، ويؤتى بالمشركين المعاندين عمي القلوب ، وهناك يعرفون الفاجعة العظمى للشرك ، وحقانية الله ، وضلال الأصنام بجلاء.

ومن الطريف أن القرآن يعبر بـ( ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ) أي إن تصوراتهم واعتقاداتهم في الأصنام تمحى عنهم يوم القيامة ، لأنّ عرصة القيامة عرصة الحق ، ولا مكان للباطل هناك ، فالباطل يضل هناك ويمحى من الوجود!.

فإذا كان الباطل يغطي وجهه هنا (في هذا العالم) بستار من الحق ليخدع الناس أيّاما ، فهناك تنكشف الحجب ولا يبقى سوى الحق.

نقرأ في رواية عن الإمام الباقرعليه‌السلام في تفسير( وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً )

قوله : «ومن هذه الأمة إمامها»(٢) .

وهذا الكلام إشارة إلى أنّه لا بدّ في كل عصر وزمان من شاهد معصوم للأمة ، والحديث آنف الذكر من قبيل بيان مصداق هذا المفهوم القرآني.

* * *

__________________

(١) التعبير بـ «نزعنا» التي تعني جذب الشيء من مقرّه ، هي إشارة إلى إحضار الشهود من بين كل جماعة وأمة

(٢) تفسير الميزان ، ج ١٦ ، ص ٢٠.

٢٨٦

الآيات

( إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨) )

التّفسير

الثّري الاسرائيلي البخيل :

جاء تفصيل قصّة موسىعليه‌السلام العجيبة ومواجهاته ومواقفه مع فرعون في قسم كبير من الآيات السابقة في هذه السورة وذكرنا الأقوال فيها ، وكان الكلام إلى حد ما كافيا عليها.

وفي القسم الآخر من آيات هذه السورة ، وقع الكلام على مواجهة بني

٢٨٧

إسرائيل مع رجل ثري منهم يدعى «قارون».

قارون هذا كان مظهرا للثراء المقرون بالكبر والغرور والطغيان.

وأساسا ، فإنّ موسىعليه‌السلام واجه في طول حياته ثلث قوى استكبارية طاغوتية :

١ ـ «فرعون» الذي كان مظهرا للقوّة «والقدرة في الحكومة».

٢ ـ «قارون» الذي كان مظهرا للثروة والمال!

٣ ـ «السامري» الذي كان مظهرا للنفاق والصناعة.

وبالرغم من أنّ أهم مواجهات موسىعليه‌السلام هي مواجهته لفرعون و «حكومته» إلّا أنّ مواجهتيه الأخيرتين لهما أهميّة كبيرة أيضا ، وفيهما دروس ذات عبر ومحتوى كبير!.

المعروف أن «قارون» كان من أرحام موسى وأقاربه «ابن عمه أو ابن خالته» وكان عارفا بالتوراة ، وكان في بداية أمره مع المؤمنين ، إلّا أنّ غرور الثروة جرّه إلى الكفر ودعاه إلى أن يقف بوجه موسىعليه‌السلام وأماته ميتة ذات عبرة للجميع ، حيث نقرأ شرح ذلك في الآيات التالية :

يقول القرآن في شأنه أوّلا :( إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ ) وسبب بغيه وظلمه إنّه كان ذا ثروة عظيمة ، ولأنّه لم يكن يتمتع بإيمان قوي وشخصية متينة فقد غرّته هذه الثروة الكبيرة وجرّته إلى الانحراف والاستكبار.

يصف القرآن ما عنده من ثروة فيقول :( وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ) .

«المفاتح» جمع «مفتح» على زنة «مكتب» معناه المكان الذي يدخّر فيه الشيء ، كالصندوق الذي يحفظ فيه المال ، وهو ما يسميه بعض التجار بـ «القاصة».

فيكون المعنى : إنّ قارون كان ذا مال كثير ووفير من الذهب والفضّة ، بحيث

٢٨٨

كان يصعب حمل صناديقها على الرجال الأشداء( أُولِي الْقُوَّةِ ) .

ومع ملاحظة كلمة «عصبة» التي تعني الجماعة المتآزرة يدا بيد على الأمر المهم ، يتّضح حجم الذهب والفضة والمعادن الثمينة التي كانت عند قارون ، قال بعضهم : العصبة هي من عشرة رجال إلى أربعين رجلا.

وكلمة «تنوء» مشتقّة من «النوء» ومعناه القيام بمشقّة وثقل ، وتستعمل في حمل الأثقال التي لها ثقل ووزن كبير ، بحيث لو حملها الإنسان لمال إلى أحد جانبيه!.

وهذا الذي بيّناه في «المفتاح» اتفق عليه جماعة من المفسّرين.

في حين أنّ بعضهم يرى أنّها جمع «مفتح» على زنة «منبر» وهو المفتاح الذي تفتح به الخزائن ، يقولون : إن خزائن قارون كانت من الكثرة إلى درجة إن مفاتيحها ينوء بحملها الرجال الأشداء.

والذين ذهبوا إلى هذا المعنى أتعبوا أنفسهم كثيرا في توجيهه ، إذ كيف يمكن تصور عدد هذه «المفتاح» بشكل هائل حتى لا يمكن حملها إلّا بمشقّة وعناء بالغين وعلى كل حال فإنّ التّفسير الأوّل أقرب للنظر وأوضح بيانا. لأنّنا وإن سلّمنا على أن «مفتح ، بكسر الميم» تعني آلة الفتح أي «المفتاح» فإنّ أهل اللغة ذكروا لهذا الوزن (مفتح) معاني أخرى منها «الخزانة» التي يجمع فيها المال ، فالمعنى الأوّل أقرب للواقع وبعيد عن المبالغة. فلا ينبغي الخلط بين «المفاتح» التي تعني الخزائن. و «المفاتيح» التي تعني آلات الفتح ، وهي جمع «مفتاح»(١) .

فلنتجاوز هذا البحث لنرى ما قال بنوا إسرائيل لقارون ، يقول القرآن في هذا الصدد:( إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ) (٢) .

__________________

(١) فسّر بعضهم «المفتاح» تفسيرا آخر ، وهو أنّ الإتيان بالمفتاح لحفظ الأموال وجمعها كان صعبا على الرجال الأشداء ، ولكن هذا التفسير بعيد جدّا «فلا بأس بمراجعة لسان العرب لزيادة الإيضاح».

(٢) كلمة «الفرحين» جمع الفرح ، وتعني من يكون مغرورا على أثر تملكه الشيء ومتكبرا بطرا منتشيا من ريح النّصر.

٢٨٩

ثمّ يقدمون له أربع نصائح قيّمة أخرى ذات تأثير مهم على مصير الإنسان ، بحيث تتكامل لديه حلقة خماسية من النصائح مع ما تقدم من قولهم له :( لا تَفْرَحْ )

فالنصيحة الأولى قولهم له :( وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ) وهذا إشارة إلى أن المال والثروة ليس أمرا سيئا كما يتصوره بعض المتوهّمين ، المهم أن تعرف فيم يستعمل المال ، وفي أي طريق ينفق ، فإذا ابتغي به الدار الآخرة فما أحسنه! أو كان وسيلة للعب والهوى والظلم والتجاوز ، فلا شيء أسوأ منه!

وهذا هو المنطق الذي ورد على لسان أمير المؤمنينعليه‌السلام في كلام معروف «من أبصر بها بصّرته ومن أبصر إليها أعمته»(١) .

وكان قارون رجلا ذا قدرة على الأعمال الاجتماعية الكبيرة بسبب أمواله الطائلة ، ولكن ما الفائدة منها وقد أعماه غروره عن النظر إلى الحقائق.

والنصيحة الثّانية قولهم له :( وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا ) والآية تشير إلى مسألة واقعيّة ، وهي أنّ لكل فرد منّا نصيبا من الدنيا ، فالأموال التي يصرفها على بدنه وثيابه ليظهر بمظهر لائق هي أموال محدودة ، وما زاد عليها لا تزيد مظهره شيئا ، وعلى الإنسان أن لا ينسى هذه الحقيقة! فالإنسان كم يستطيع أن يأكل من الطعام؟ ولم يستطيع أن يلبس من الثياب؟ وكم يمكن أن يحوز من المساكن والمراكب؟! وإذا مات وكم يستطيع أن يأخذ معه من الأكفان؟!

فالباقي ـ إذن ـ رضي أم أبى هو من نصيب الآخرين.

وما أجمل قول الإمام عليعليه‌السلام : «يا ابن آدم ما كسبت فوق قوتك فأنت فيه خازن لغيرك»(٢) .

وهناك تفسير آخر لهذه الجملة في الرّوايات الإسلامية وكلمات المفسّرين ،

__________________

(١) نهج البلاغة ، خطبة ٨٢.

(٢) نهج البلاغة ، الكلمات القصار جملة ١٩٢.

٢٩٠

ويمكن التوفيق بين هذا التّفسير والتّفسير السابق (لأنّ استعمال اللفظ في أكثر من معنى جائز).

إذ ورد في تفسير( وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا ) عن الإمام علي ابن أبي طالبعليه‌السلام أنّه قال : «لا تنس صحتك وقدرتك وفراغك وشبابك ونشاطك أن تطلب بها الآخرة»(١) .

وطبقا لهذا التّفسير فالعبارة المتقدمة بمثابة التنبيه لجميع الناس ، لئلا يضيعوا أوقاتهم وفرصهم فإنّها تمر مرّ السحاب.

والنصيحة الثّالثة هي( وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ ) .

وهذه حقيقة أخرى ، وهي أن الإنسان يرجو دائما نعم الله وإحسانه وخيره ولطفه ، وينتظر منه كل شيء. فبمثل هذه الحال كيف يمكن له التغاضي عن طلب الآخرين الصريح أو لسان حالهم وكيف لا يلتفت إليهم!.

وبتعبير آخر : كما أنّ الله تفضل عليك وأحسن ، فأحسن أنت إلى الناس.

وشبيه هذا الكلام نجده في الآية (٢٢) من سورة النور في شأن العفو والصفح ، إذ تقول الآية :( وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ ) .

ويمكن تفسير هذه الجملة بتعبير آخر ، وهو أنّ الله قد يهب الإنسان مواهب عظيمة لا يحتاج إليها جميعا في حياته الشخصيّة فقد وهبه العقل والقدرة التي لا تدير فردا واحدا فحسب ، بل تكفي لإدارة بلد أيضا ووهبه علما لا يستفيد منه إنسان واحد فقط ، بل ينتفع به مجتمع كامل.

أعطاه مالا وثروة لتنفيذ المناهج الاجتماعية.

فهذه المواهب الإلهية مفهومها الضمني أنّها لا تتعلق بك وحدك ـ أيّها الإنسان ـ بل أنت وكيل مخوّل من قبل الله لنقلها إلى الآخرين ، أعطاك الله هذه المواهب لتدير بها عباده!.

__________________

(١) معاني الأخبار ، مطابق تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١٣٩.

٢٩١

والنصيحة الرابعة والأخيرة أن لا تغرنّك هذه الأموال والامكانات المادية فتجرّك الى الفساد.( وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ) .

وهذا أيضا حقيقة واقعية أخرى ، إنّ كثيرا من الأثرياء وعلى أثر جنون زيادة المال ـ أحيانا ـ أو طلبا للاستعلاء ، يفسدون في المجتمع ، فيجرّون إلى الفقر والحرمان ، ويحتكرون جميع الأشياء في أيديهم ، ويتصورون أنّ الناس عبيدهم ومماليكهم ، ومن يعترض عليهم فمصيره الموت ، وإذا لم يستطيعوا اتهامه أو الإساءة إليه بشكل صريح ، فإنّهم يجعلونه معزولا عن المجتمع بأساليبهم وطرائقهم الخاصة

والخلاصة : إنّهم يجرون المجتمع إلى الفساد والانحراف.

وفي كلام جامع موجز نصل إلى أن هؤلاء الناصحين سعوا أولا إلى أن يكبحوا غرور قارون!.

ثمّ نبهوه أن الدنيا إنّما هي وسيلة ـ لا هدف ـ في مرحلتهم الثّانية.

وفي المرحلة الثّالثة أنذروه بأن ما عندك تستفيد من قسم قليل منه ، والباقي لغيرك.

وفي المرحلة الرابعة أفهموه هذه الحقيقة ، وهي أن لا ينسى الله الذي أحسن إليه فعليه أن يحسن إلى الآخرين وإلّا فإنّه يسلب مواهبه منك.

وفي المرحلة الخامسة حذروه من أن مغبة الفساد في الأرض الذي يقع نتيجة نسيان الأصول الأربعه آنفة الذكر.

وليس من المعلوم بدقّة من هم الناصحون لقارون يومئذ ولكن القدر المسلم به أنّهم رجال علماء متقون ، أذكياء ، ذوو نجدة وشهامة ، عارفون للمسائل الدقيقة الغامضة!.

ولكن الاعتقاد بأنّ الناصح لقارون هو موسىعليه‌السلام نفسه بعيد جدّا ، لأنّ القرآن يعبّر عن من قدم النصح بصيغة الجماعة( إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ ) .

٢٩٢

والآن لنلاحظ ما كان جواب هذا الإنسان الباغي والظالم الإسرائيلي لجماعته الواعظين له!.

فأجابهم قارون بتلك الحالة من الغرور والتكبر الناشئة من ثروته الكبيرة ، و( قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي ) .

هذا لا يتعلق بكم ، وليس لكم حق أن ترشدوني إلى كيفية التصرف بمالي ، فقد أوجدته بعلمي واطلاعي.

ثمّ إنّ الله يعرف حالي ويعلم أنّي جدير بهذا المال الذي أعطانيه ، وعلمني كيف أتصرف به ، فلا حاجة إلى تدخلكم!.

وبعد هذا كله فقد تعبت وبذلت جهودا كبيرة في سبيل جمع هذا المال ، فإذا كان الآخرون جديرين بالمال ، فلم لا يتعبون ويجهدون أنفسهم؟ فلست مضايقا لهم ، وإذا لم يكونوا جديرين ، فليجوعوا وليموتوا فهو أفضل لهم(١) .

هذا المنطق العفن المفضوح طالما يردده الأثرياء الذين لا حظّ لهم من الإيمان أمام من ينصحهم.

وهذه اللطيفة جديرة بالالتفات وهي أن القرآن لم يصرّح بالعلم الذي كان عند قارون وأبقاه مبهما ، ولم يذكر أي علم كان عند قارون حتى استطاع بسببه على هذه الثروة الطائلة!.

أهو علم الكيمياء ، كما فسّره بعضهم.

أم هو علم التجارة والصناعة والزراعة.

أم علم الإدارة الخاص به ، الذي استطاع بواسطته أن يجمع هذه الثروة العظيمة.

أم جميع هذه العلوم!

__________________

(١) جملة( إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي ) تصلح للمعاني الثلاثة المتقدمة جميعا ، كما أنّها تصلح لاي واحد منها كما فسروا (فتأملوا بدقّة).

٢٩٣

لا يبعد أن يكون مفهوم الآية واسعا وشاملا لجميع هذه العلوم «بالطبع بصرف النظر عن أن علم الكيمياء علم يستطاع بواسطته قلب النحاس وأمثاله ذهبا ، وهل هو خرافة أم حقيقة واقعية»؟

وهنا يجيب القرآن على قول قارون وأمثاله من المتكبرين الضالين ، فيقول :( أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً ) .

أتقول :( إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي ) ونسيت من كان أكثر منك علما وأشدّ قوّة وأثرى مالا ، فهل استطاعوا أن يفروا من قبضة العذاب الإلهي؟!

لقد عبّر أولو الألباب والضمائر الحيّة عن المال بقولهم لقارون :( فِيما آتاكَ اللهُ ) ، ولكن هذا الغافل غير المؤدّب ردّ على قولهم بأنّ ما عنده من مال فهو بواسطة علمه!!

لكن الله سبحانه عبّر عن حقارة قوّته وقدرته أمام إرادته ومشيئته جلّ وعلا بالعبارة المتقدمة آنفا.

وفي ختام الآية إنذار ذو معنى كبير آخر لقارون ، جاء في غاية الإيجاز :( وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ) .

فلا مجال للسؤال والجواب ، فالعذاب واقع ـ لا محالة ـ بصورة قطعيّة ومؤلمة ، وهو عذاب فجائي مدمّر!.

وبعبارة أخرى أن العلماء من بني إسرائيل نصحوا قارون هذا اليوم وكان لديه مجال والجواب ، لكن بعد إتمام الحجة ونزول العذاب الإلهي ، عندئذ لا مجال للتفكير والجواب ، فإذا حلّ العذاب الالهي بساحته فهو الهلاك الحتمي.

هنا يرد سؤال حول الآية التي تقول :( وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ) أي سؤال هذا الذي نفاه الله أهو في الدنيا أم في الآخرة؟!

قال بعض المفسّرين : إنّ المقصود بعدم السؤال هو في الدنيا ، وقال بعضهم :

٢٩٤

بل المقصود أنّه في الآخرة! لكن لا مانع من أن يكون عدم السؤال في الدارين «الدنيا والآخرة».

أي لا يسألون حال نزول العذاب في الدنيا ، لئلا يدافعوا عن أنفسهم ويبرئوا ساحتهم ، ويظهروا الأعذار تلوا الأعذار. ولا يسألون يوم القيامة ـ أيضا ـ لأنّ يوم القيامة لا يبقى فيه شيء خافيا ، فكل شيء واضح ، وكما يعبّر القرآن تعبيرا دقيقا في هذا الصدد( يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ ) .(١)

وكذلك فإنّ الآية ـ محل البحث ـ( وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ) منسجمة تمام الانسجام مع الآية من سورة الرحمن إذ تقول :( فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ ) .

هنا ينقدح سؤال آخر ، وهو كيف ينسجم هذا التعبير في القرآن مع قوله تعالى :( فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) .(٢) ويمكن الإجابة على هذا السؤال عن طريقين :

الأوّل : إنّ المواقف في يوم القيامة متعددة ، ففي بعضها يقع السؤال والجواب وفي بعض المواقف لا حاجة للسؤال ، لأنّ الحجب مكشوفة ، وكل شيء واضح هناك.

الثّاني : إنّ السؤال عادة نوعان «سؤال تحقيق» و «سؤال توبيخ» فليس في يوم القيامة سؤال للتحقيق ، لأنّ كل شيء هناك مكشوف عيانا وواضح دون لبس.

ولكن يوجد هناك سؤال توبيخ وهو بنفسه نوع من العذاب النفسي للمجرمين.

وينطبق هذا تماما في ما لو سأل الأب ابنه غير المؤدب : ألم أقدم لك كل هذه الخدمات أهذا جزاء ما قدمت؟! في حين أن كلا من الأب والابن يعرفان الحقيقة ، وأن قصد الأب من سؤاله لابنه هو التوبيخ لا غير!.

* * *

__________________

(١) سورة الرحمن ، الآية ٤١.

(٢) سورة الحجر ، الآية ٩٢.

٢٩٥

الآيات

( فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (٨٠) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (٨١) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (٨٢) )

التّفسير

جنون الثّروة :

المعروف أن أصحاب الثروة يبتلون بأنواع الجنون وواحد منها «جنون عرض الثروة وإظهارها» فهؤلاء يشعرون باللذة عند ما يعرضون ثروتهم على الآخرين ، وحين يعبرون على مركب غال وثير ويمرّون بين حفاة الأقدام فيتصاعد الغبار والاتربة لينتشر على وجوههم ، ويحقّرونهم بذلك ، فحينئذ

٢٩٦

يشعرون بالراحة النفسية والنشوة تدغدغ قلوبهم

وبالرغم من أن عرض الثروة هذا غالبا ما يكون سببا للبلاء عليهم ، لأنّه يربي الأحقاد في الصدور ويعبئ الحساسيّات ضده ، وكثيرا ما ينهي هذا العمل الرديء حياة الإنسان ، أو يزيل ثروته مع الريح!.

ولعل هذا الجنون يحمل هدفا من قبيل إغراء الطامعين وتسليم الأفراد المعاندين ولكن الأثرياء غالبا ما يقومون بهذا العمل دون هدف ، لأنّه نوع من الهوى والهوس وليس خطة أو برنامجا معينا.

وعلى كل حال فإن قارون لم يكن مستثنى من هذا القانون ، بل كان يعدّ مثلا بارزا له ، والقرآن يتحدث عنه في جملة موجزة في بعض آياته فيقول :( فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ) . امام قومه من بني إسرائيل.

والتعبير بـ «في زينته» ناطق عن هذه الحقيقة ، وهي أنّه أظهر جميع قدرته وقوته ليبدي ما لديه من زينة وثروة.

ومعلوم طبعا إنّ رجلا بهذه المثابة من الثروة ما ذا يستطيع أن يفعل!؟

وينقل في التاريخ ـ في هذا الصدد قصص كثيرة ـ مقرونة بالأساطير أحيانا ، فإنّ بعضهم يكتب أنّ قارون خرج في استعراض كبير ، وقد أركب أربعة آلاف نفر على أربعة آلاف فرس حمر «غالية القيمة» مغطاة بالقماش الفاخر ، وقد ملأها زينة من الذهب والجواهر الأخرى ، فمرّ بهذا الاستعراض على بني إسرائيل وقد أثار هذا المنظر الناس ، إذ رأوا أربعة آلاف من الخدم ابيض يلبسون ثيابا حمرا مع زينتهم.

وقال بعضهم : بل بلغ عدد هؤلاء «الخدم والحشم» سبعة آلاف نفر ، وذكروا أخبارا أخرى في هذا الصدد.

ولو فرضنا أن كل ذلك مبالغ فيه ، إلّا أنّه لا يمكن إنكار هذه الحقيقة ، وهي أن قارون لديه ثروات مهمّة أظهرها في زينته!

٢٩٧

هنا أصبح الناس طائفتين ـ بحسب العادة فطائفة وهم الأكثرية ـ من عبدة الدنيا ـ أثارهم هذا المشهد ، فاهتزت قلوبهم وتأوهوا بالحسرات وتمنوا لو كانوا مكان قارون ولو يوما واحدا ولو ساعة واحدة وحتى ولو لحظة! واحدة

فأيّة حياة عذبة جميلة هذه الحياة التي تهب اللذات والنشاط( ... قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) .

هنيئا لقارون ولثروته العظيمة! وما أعظم جلاله وعزّته ولا نظن في التاريخ أحدا أعطاه الله ما أعطى قارون وما إلى ذلك من الكلمات.

وهنا جاء دور الامتحان الالهي العظيم فمن جانب نجد قارون عليه أن يؤدي امتحانه في غروره وطيشه! ومن جانب آخر من بهرهم مشهده الذين أحاطوا به ـ من بني إسرائيل ـ.

وبالطبع فإنّ العقاب الأليم هو العقاب الذي سيقع بعد هذا العرض المثير ، وهو أن يهوي قارون من أوج العظمة إلى قعر الأرض إذ تنخسف به الأرض على حين غرّة!.

لكن أمام هذه الطائفة التي ذكرناها آنفا طائفة أخرى من العلماء والمتقين الورعين ، سمت آفاقهم عن مثل هذه المسائل ، وكانوا حاضرين حينئذ و «المشهد» يمرّ من أمامهم.

هؤلاء الرجال لا يقوّمون الشخصية بالذهب والقوّة ، ولا يبحثون عن القيم في الأمور الماديّة. لا تبهرهم هذه المظاهر ، بل يسخرون منها ويتبسمون تبسم استهزاء وازدراء! ويحقّرون هذه الرؤوس الفارغة.

فهؤلاء كانوا هناك ، وكان لهم موقف آخر من قارون ، وكما يعبر عنهم القرآن( وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ) ثمّ أردفوا مؤكّدين( وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ ) .

أولئك الذين لا تهزّهم زخارف الدنيا وزبارجها ، ويقفون في استقامة ـ

٢٩٨

برجولة وشهامة ـ امام الحرمان ، ولا يطأطئون رؤوسهم للأراذل ويقفون كالجبال الرواسي في الامتحان الإلهي ـ امتحان الثروة والمال والخوف والمصيبة وهؤلاء هم الجديرون بثواب الله سبحانه!.

ومن المسلم به أنّه المقصود بجملة( الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) هم علماء بني إسرائيل ، ومن بينهم «يوشع» وهو من كبار رجالهم.

غير أنّ الطريف في الأمر أن القرآن عبّر عن الطائفة الأولى بجملة( الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا ) لكنّه لم يعبر عن الطائفة الثّانية بأنّهم «الذين يريدون الحياة الاخرة» بل عبر عنهم بـ( الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) فحسب ، لأنّ العلم هو أساس كل شيء وجذر الإيمان والاستقامة والعشق للثواب الإلهي والدار الآخرة

كما أن التعبير بـ( الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) هو جواب دامغ ـ ضمنا ـ لقارون الذي يدّعي العلم ، فالقرآن يريد أن يبيّن أن العلماء هم هؤلاء الذين لا يريدون الحياة الدنيا ، أمّا أنت يا قارون فمغرور وطائش!.

وهكذا نرى مرّة أخرى أنّ أساس البركات والخيرات هو العلم الحقيقي.

لقد أوصل قارون بعمله هذا طغيانه وعناده إلى الدرجة القصوى غير أن ما ورد في التواريخ حكاية منقولة عن قارون تدل على منتهى الخسة وعدم الحياء! ننقلها هنا حسب تفصيلها!.

فقال له موسىعليه‌السلام إنّ الله أمرني أن آخذ الزكاة فأبى فقال : إنّ موسى يريد أن يأكل أموالكم جاءكم بالصلاة وجاءكم بأشياء فاحتملتموها فتحتملوه أن تعطوه أموالكم؟ قالوا : لا نحتمل فما ترى؟ فقال لهم : أرى أن أرسل إلى بغي من بغايا بني إسرائيل فنرسلها اليه فترميه بأنّه أرادها على نفسها فأرسلوا إليها فقالوا لها : نعطيك حكمك على أن تشهدي على موسى أنّه فجر بك قالت نعم.

فجاء قارون إلى موسىعليه‌السلام قال : اجمع بني إسرائيل فأخبرهم بما أمرك ربّك قال : نعم ، فجمعهم فقالوا له : بم أمرك ربّك؟ قال : أمرني أن تعبدوا الله ولا تشركوا

٢٩٩

به شيئا وأن تصلوا الرحم وكذا وكذا وقد أمرني في الزاني إذا زنى وقد أحصن أن يرجم. قالوا : وإن كنت أنت؟ قال : نعم. قالوا : فإنّك قد زنيت ، قال : أنا؟

فأرسلوا إلى المرأة فجاءت فقالوا : ما تشهدين على موسى؟ فقال لها موسىعليه‌السلام أنشدتك بالله إلّا ما صدقت. قالت : أمّا إذا نشدتني فإنّهم دعوني وجعلوا لي جعلا على أن أقذفك بنفسي وأنا أشهد أنّك بريء وأنّك رسول الله.

فخرّ موسىعليه‌السلام ساجدا يبكي فأوحى الله إليه : ما يبكيك؟ قد سلطناك على الأرض فمرها فتطيعك ، فرفع رأسه فقال : خذيهم فأخذتهم إلى أعقابهم فجعلوا يقولون : يا موسى يا موسى فقال : خذيهم فأخذتهم إلى أعناقهم فجعلوا يقولون : يا موسى يا موسى فقال : خذيهم فغيّبتهم فأوحى الله : «يا موسى سألك عبادي وتضرّعوا إليك فلم تجبهم فوعزّتي لو أنّهم دعوني لأجبتهم».

يقول القرآن الكريم في هذا الصدد( فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ ) .

أجل حين يبلغ الطغيان والغرور وتحقير المؤمنين الأبرياء والمؤامرّة ضد نبي الله أوجها ، تتجلى قدرة الله تعالى وتطوي حياة الطغاة وتدمرهم تدميرا يكون عبرة للآخرين.

مسألة «الخسف» هنا التي تعني انشقاق الأرض وابتلاع ما عليها ، حدثت على مدى التاريخ عدّة مرات إذ تتزلزل الأرض ثمّ تنشقّ وتبتلع مدينة كاملة أو عمارات سكنية داخلها ، لكن هذا الخسف الذي حدث لقارون يختلف عن تلك الموارد هذا الخسف كان طعمته قارون وخزائنه فحسب!.

يا للعجب! ففرعون يهوي في ماء النيل! وقارون في أعماق الأرض!.

الماء الذي هو سرّ الحياة وأساسها يكون مأمورا بهلاك فرعون.

والأرض التي هي مهاد الاطمئنان والدعة تنقلب قبرا لقارون واتباعه! ومن البديهي أنّ قارون لم يكن لوحده في ذلك البيت فقد كان معه أعوانه وندماءه ومن أعانه على ظلمه وطغيانه ، وهكذا توغلوا في اعماق الأرض جميعا.

٣٠٠