الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 174807 / تحميل: 5995
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

أمّا المعجزة الثّانية التي أمر موسى أن يظهرها ، فهي اليد البيضاء ، إذ تقول الآية :( وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ) .

والقيد( مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ) إشارة إلى أن بياض اليد ليس من برص ونحوه ، بل هو بياض نوراني يلفت النظر ، وهو بنفسه كاشف عن إعجاز وأمر خارق للعادة : ومن أجل أن يظهر الله تعالى عنايته ولطفه لموسى أكثر ، وكذلك منح الفرصة للمنحرفين للهداية أكثر ، قال لموسى بأن معاجزه ليست منحصرة بالمعجزتين الآنفتين ، بل( فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ ) (١) .

ويستفاد من ظاهر الآية أن هاتين المعجزتين من مجموع تسع معاجز «آيات» موسى المعروفة ، وقد استنتجنا ذلك من الآية (١٠١) من سورة الإسراء ، وإن المعاجز السبع الأخر هي :

١ ـ الطوفان ٢ ـ الجراد ٣ ـ كثرة الضفادع ٤ ـ تبدل لون نهر النيل كلون الدم ٥ ـ الآفات في النباتات. وكل واحدة من هذه المعاجز الخمس تعدّ إنذارا لفرعون وقومه ، فكانوا عند البلاء يلجأون إلى موسى ليرفع عنهم ذلك.

أمّا المعجزتان الأخريان فهما ٦ ـ القحط «السنين» ٧ ـ ونقص الثمرات. إذ أشارت إليهما الآية (١٣٠) من سورة الأعراف فقالت :( وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) «ولمزيد الإيضاح يراجع الجزء التاسع من التّفسير الأمثل ذيل الآية (١٠١) من سورة الإسراء».

وأخيرا تعبّأ موسى بأقوى سلاح ـ من المعاجز ـ فجاء إلى فرعون وقومه يدعوهم إلى الحق ، كما يصرح القرآن بذلك في آيته التالية( فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ ) .

ومعلوم أنّ هذا الاتّهام «بالسحر» لم يكن خاصّا بموسىعليه‌السلام ، بل اتّخذه

__________________

(١) الجار والمجرور «في تسع آيات» إمّا متعلقان بجملة (اذهب) أو بأحد أفعال العموم المقدرة وقد تكون (في) بمعنى (مع) و (إلى فرعون) متعلق بالجملة ذاتها ، أو بجملة أنت مرسل بها المفهومة من السياق تقديرا.

٢١

المعاندون ذريعة بوجه الأنبياء ، ليجعلوه سدّا في طريق الآخرين ، والاتّهام بنفسه دليل واضح على عظمة ما يصدر من الأنبياء خارقا للعادة ، بحيث اتّهموه بالسحر.

مع أنّنا نعرف أن الأنبياء كانوا رجالا صالحين صادقين طلّاب حق مخلصين ، أمّا السحرة فهم منحرفون ماديّون تتوفر فيهم جميع صفات المدلّسين «أصحاب التزوير».

وإضافة إلى ذلك فإن السحرة كانت لديهم قدرة محدودة على الأعمال الخارقة ، إلّا أنّ الأنبياء فقد كان محتوى دعوتهم ومنهاجهم وسلوكهم يكشف عن حقانيتهم ، وكانوا يقومون بأعمال غير محدودة ، بحيث كان ما يقومون به معجزا لا يشبه سحر السحرة أبدا.

وممّا يلفت النظر أنّ القرآن يضيف في آخر الآية ـ محل البحث ـ قائلا : إنّ هذا الاتهام لم يكن لأنّهم كانوا في شك من أمرهم ومترددين فعلا ، بل كذبوا معاجز أنبيائهم مع علمهم بحقانيتها( وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا ) .

ويستفاد من هذا التعبير أنّ الإيمان له حقيقة وواقعية غير العلم واليقين ، ويمكن أن يقع الكفر جحودا وإنكارا بالرغم من العلم بالشيء!.

وبعبارة أخرى : إنّ حقيقة الإيمان هي الإذعان والتسليم ـ في الباطن والظاهر ـ للحقّ ، فبناء على ذلك إذا كان الإنسان مستيقنا بشيء ما ، إلّا أنّه لا يذعن له في الباطن أو الظاهر فليس له إيمان. بل هو ذو كفر جحودي ، وهذا موضوع مفصل ، ونكتفي هنا بهذه الاشارة.

لذلك فإنّنا نقرأ حديثا عن الإمام الصادقعليه‌السلام يذكر فيه ضمن عدّه أقسام الكفر الخمسة «كفر الجحود» ويبيّن بعض شعبه بالتعبير التالي (هو أنّ يجحد الجاحد وهو يعلم أنّه حق قد استقرّ عنده).(١)

__________________

(١) الكافي ، ج ٢ ، باب وجوه الكفر ص ٢٨٧.

٢٢

وممّا ينبغي الالتفات إليه أنّ القرآن يعد الباعث على إنكار فرعون وقومه أمرين : الأوّل الظلم ، والثّاني العلوّ :( ظُلْماً وَعُلُوًّا ) .

ولعل «الظلم» إشارة إلى غصب حقوق الآخرين ، و «العلوّ» إشارة إلى طلب التفوّق على بني إسرائيل.

أي إنّهم كانوا يرون أنّهم إذا أذعنوا لموسىعليه‌السلام وآمنوا به وبآياته ، فإنّ منافعهم غير المشروعة ستكون في خطر ، كما أنّهم سيكونون مع رقيقهم «بنى إسرائيل» جنبا إلى جنب ، ولا يمكنهم تحمل ايّ من هذين الأمرين.

أو أنّ المراد من الظلم هو ظلم النفس أو الظلم بالآيات ، وأنّ المراد من العلوّ هو الظلم للآخرين ، كما جاء في الآية (٩) من سورة الأعراف( بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ ) .

وعلى كل حال ، فإنّ القرآن يذكر عاقبة فرعون وقومه على أنّه درس من دروس العبرة ، في جملة موجزة ذات معنى كبير ، مشيرا إلى هلاكهم وغرقهم فيقول :( فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ) .

والقرآن هنا لا يرفع الستار عن هذه العاقبة ، لأنّ قصّة هؤلاء الكفرة ونهايتهم الوخيمة ذكرها في آيات أخرى واكتفى هنا بالاشارة الى تلك الآيات ليفهم من يفهم.

والقرآن يعوّل ـ ضمنا على كلمة (مفسد) مكان ذكر جميع صفاتهم السيئة ، لأنّ الإفساد له مفهوم جامع يشمل الإفساد في العقيدة ، والإفساد في الأقوال والأعمال ، والإفساد على المستوى الفردي ، والمستوى الجماعي ، فجمع كلّ أعمالهم في كلمة (المفسدين).

* * *

٢٣

الآيتان

( وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦) )

التّفسير

حكومة داود وسليمانعليهما‌السلام :

بعد الكلام عن جانب من قصّة موسىعليه‌السلام في هذه السورة ، يجري الكلام عن نبيّين آخرين من الأنبياء العظام ، وهما «داود» و «سليمان» والكلام على داود لا يتجاوز الإشارة العابرة ، إلّا أنّ الكلام على سليمان أكثر استيعابا.

وذكر هذا المقطع من قصّة هذين النبيّين بعد قصّة موسىعليه‌السلام ، لأنّهما كانا من أنبياء بني إسرائيل أيضا ، وما نجده من اختلاف بين تأريخهما وتاريخ الأنبياء الآخرين ، هو أنّهما ـ ونتيجة للاستعداد الفكري وملائمة المحيط الاجتماعي في عهدهما ـ قد وفّقا إلى تأسيس حكومة عظيمة ، وأن ينشرا بالاستعانة والإفادة من حكومتهما دين الله ، لذلك لا نجد هنا أثرا أو خبرا عمّا عهدناه من أسلوب في تلك الآيات التي كانت تتكلم عن الأنبياء الآخرين ، وهم يواجهون قومهم

٢٤

المعاندين ، وربّما نالوا منهم الأذى والطرد والإخراج من مدنهم وقراهم فالتعابير هنا تختلف عن تلكم التعابير تماما.

ويدلّ هذا بوضوح أنّه لو كان المصلحون والدعاة إلى الله يوفقون إلى تشكيل حكومة لما بقيت معضلة ولغدا طريقهم معبدا سالكا.

وعلى كل حال ، فالكلام هنا عن العلم والقدرة والعظمة ، وعن طاعة الآخرين حتى الجن والشياطين لحكومة الله وعن تسليم الطير في الهواء والموجودات الأخر لحكومة الله!.

وأخيرا ، فإنّ الكلام عن مكافحة عبادة الأصنام عن طريق الدعوة المنطقية ، ثمّ الإفادة من قدرة الحكومة!.

وهذه الأمور هي التي ميّزت قصّة هذين النبيّين عن الأنبياء الآخرين.

الطريف ، أن القرآن يبدأ من مسألة «موهبة العلم» التي هي أساس الحكومة الصالحة القوية ، فيقول :( وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً ) .

وبالرغم من أن كثيرا من المفسّرين أجهدوا أنفسهم وأتعبوها ليعرفوا هذا العلم الذي أوتيه سليمان وداود ، لأنّه جاء في الآية بصورة مغلقة فقال بعضهم : هو علم القضاء ، بقرينة الآية (٢٠) من سورة ص :( وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ ) والآية (٧٩) من سورة الأنبياء( وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً ) .

وقال بعضهم : إن هذا العلم هو معرفة منطق الطير بقرينة الآية( عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ ) .

وقال بعضهم : «إن المراد من هذا العلم هو صنعة الدروع ، بقرينة( صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ ) .

إلّا أن من الواضح أن العلم هنا له مفهوم واسع ، بحيث يحمل في نفسه علم التوحيد والإعتقادات المذهبية والقوانين الدينية ، وكذلك علم القضاء ، وجميع العلوم التي ينبغي توفرها لمثل هذه الحكومة الواسعة القوية لأنّ تأسيس

٢٥

حكومة إلهية على أساس العدل وحضارة عامرة حرّة دون الإفادة من علم واسع غير ممكن وهكذا فإنّ القرآن يعدّ مقام العلم لتشكيل حكومة صالحة أوّل حجر أساس لها!.

وبعد هذه الجملة ينقل القرآن ما قاله داود وسليمان من ثناء لله :( وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ) .

والذي يجلب النظر هو أنّه بعد بيان هذه الموهبة الكبيرة «العلم» يجري الكلام عن «الشكر» مباشرة ليكون واضحا أنّ كل نعمة لا بدّ لها من شكر ، وحقيقة الشكر هو أنّ يستفاد من النعمة في طريقها الذي خلقت من أجله.

وهذان النبيّان العظيمانعليهما‌السلام استفادا من نعمة علمهما الاستفادة القصوى في تنظيم حكومة إلهية.

وقد جعل داود وسليمان معيار تفضيلهما على الآخرين «العلم» لا القدرة ولا الحكومة ، وعدّا الشكر للعلم لا لغيره من المواهب ، لأنّ كلّ قيمة هي من أجل العلم ، وكلّ قدرة تعتمد أساسا على العلم.

والجدير بالذكر أنّهما يشكران الله ويحمدانه لتفضيلهما ولحكومتهما على امّة مؤمنة لأنّ الحكومة على امّة فاسدة غير مؤمنة ليست مدعاة للفخر!

وهنا ينقدح هذا السؤال ، وهو : لم قال داود وسليمان( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ) ولم يقولا على عباده المؤمنين جميعا ، مع أنّهما كانا نبيّين ، وهما أفضل أهل عصرهما؟

ولعلّ هذا التعبير رعاية لأصول الأدب والتواضع ، إذ على الإنسان أن لا يرى نفسه أفضل من الجميع في أي مقام كان!

أو لأنّهما كانا ينظران إلى جميع الأزمنة ، ولم ينظرا إلى مقطع زمنيّ خاص ، ونعرف أن على مدى التأريخ يوجد أنبياء كانوا أفضل منهما.

والآية التالية تتكلم على إرث سليمان أباه داود أولا ، فتقول :( وَوَرِثَ

٢٦

سُلَيْمانُ داوُدَ ) .

وهناك كلام بين المفسّرين في المراد من الإرث هنا ، ما هو؟

فقال بعضهم : هو ميراث العلم فحسب لأنّ في تصورهم أنّ الأنبياء لا يورثون.

وقال بعضهم : هو ميراث المال والحكومة ، لأنّ هذا المفهوم يتداعى إلى الذهن قبل أي مفهوم آخر.

وقال بعضهم : هو منطق الطير.

ولكن مع الالتفات إلى أنّ الآية مطلقة ، وقد جاء في الجمل التالية الكلام على العلم وعن جميع المواهب( أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ) فلا دليل على حصر مفهوم الآية وجعله محدودا ، فبناء على ذلك فإنّ سليمان ورث كل شيء عن أبيه.

وفي الرّوايات الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام أنّهم كانوا يستدلون بهذه الآية على عدم صحة ما نسب إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حديث «نحن معاشر الأنبياء لا نورث وما تركناه صدقة» وأنّه ساقط من الإعتبار لمخالفته كتاب الله.

وفي بعض الأحاديث عن أهل البيت أنّه لما أجمع أبو بكر على أخذ فدك من فاطمةعليها‌السلام ، محتجّا بالحديث آنف الذكر ، جاءته فاطمةعليها‌السلام فقالت : (يا أبا بكر ، أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي؟! لقد جئت شيئا فريّا ، فعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم ، إذ يقول :( وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ ) (١) .

ثمّ تضيف الآية حاكية عن لسان سليمان( وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ) .

وبالرغم من ادعاء بعضهم أن تعبير النطق والكلام في شأن غير الناس لا يمكن إلّا على نحو المجاز إلّا أنّه إذا أظهر غير الإنسان أصواتا من فمه كاشفا

__________________

(١) راجع كتاب الإحتجاج للطبرسي طبقا لما جاء في تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ٧٥.

٢٧

عن مطلب ما ، فلا دليل على عدم تسميته نطقا ، لأنّ النطق كل لفظ مبين للحقيقة والمفهوم(١) .

ولا نريد أنّ نقول أنّ ما يظهر من أصوات الحيوانات عند الغضب أو الرضا أو الألم أو إظهار الشوق لأطفالها هو نطق ، كلّا فهي أصوات تقترن بحالات الحيوان إلّا أنّنا ـ كما سيأتي في الآيات التالية ـ سنرى بتفصيل أن سليمان تكلم مع الهدهد في مسائل وحمّله رسالة وطلب منه أن يتحرّى جوابها.

وهذا الأمر يدلّ على أن الحيوانات بالإضافة إلى أصواتها الكاشفة عن حالاتها الخاصة لها القدرة على النطق في ظروف خاصة بأمر الله ، كما سيأتي الكلام في شأن تكلم النمل في الآيات المقبلة إن شاء الله.

وبالطبع فإن النطق استعمل في القرآن بمعناه الوسيع ، حيث يبيّن حقيقة النطق ونتيجته ، وهو بيان ما في الضمير ، سواء كان ذلك عن طريق الألفاظ أو عن طريق الحالات الأخر ، كما في قوله تعالى :( هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ ) (٢) إلّا أنّه لا حاجة إلى تفسير كلام سليمان ومنطق الطير بهذا المعنى بل طبقا لظاهر الآيات فإن سليمان كان بإمكانه أن يعرف ألفاظ الطير الخاصة الدالة على مسائل معيّنة فيشخّصها ، أو أنّه كان يتكلم معها فعلا

وسنتكلم في هذا الشأن في البحوث إن شاء الله تعالى.

أمّا جملة( أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ) فهي على خلاف ما حدده جماعة من المفسّرين ، لها مفهوم واسع شامل فهي تشمل جميع الأسباب اللازمة لإقامة حكومة الله في ذلك الحين وأساسا فإن الكلام سيقع ناقصا بدونها ، ولا يكون له

__________________

(١) يقول ابن منظور في لسان العرب : «النطق» هو التكلم ، ثمّ يضيف «وكلام كل شيء منطقه. ومنه قوله تعالى :( عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ ) ثمّ ينقل عن بعض علماء العرب ـ وهو ابن سيده ـ أنّه «خلافا لما قال بعضهم : إن النطق خاص بالإنسان. فقد يستعمل النطق في غير الإنسان». وينبغي الالتفات إلى أن الفلاسفة وعلماء المنطق أطلقوا النطق على القدرة على التفكير الذي يعطي الإنسان التمكن من الكلام

(٢) الجاثية ، الآية ٢٩.

٢٨

ارتباط واضح بما سبق.

وهنا يثير الفخر الرازي سؤالا فيقول : أليس التعبير بـ (علمنا) و (أوتينا) من قبيل كلام المتكبرين؟!

ثمّ يجيب على سؤاله هذا بالقول : إن المراد من ضمير الجمع هنا هو سليمان وأبوه ، أو هو ومعاونوه في الحكومة وهذا التعبير مستعمل حين يكون الشخص في رأس هيئة ما ، أن يتكلم عن نفسه بضمير الجمع!.

* * *

بحوث

١ ـ علاقة الدين بالسيّاسة

خلافا لما يتصوره أصحاب النظرة الضيقة من أن الدين مجموعة من النصائح والمواعظ ، أو المسائل الخاصة بالحياة الشخصيّة للإنسان بل هو مجموعة من القوانين والمناهج الحيوية التي تستوعب جميع مسائل حياة الإنسان وخاصة المسائل الاجتماعية.

فقد بعث الأنبياء لإقامة القسط والعدل كما في الآية (٢٥) من سورة الحديد ، إذ يقول سبحانه( لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) .

وليضع الأنبياء عن الناس( إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ ) فيتمتعوا بالحرية كما أشارت إلى ذلك الآية (١٥٧) من سورة الأعراف.

والدين رحمة ومنجاة للمستضعفين وتخليصهم من نير المتكبرين الظالمين.

والدين ـ أخيرا ـ مجموعة من التعاليم والتربية في مسير تزكية الإنسان والرقي به نحو الكمال (كما أشارت إليه الآية ٢ من سورة الجمعة).

وبديهي أن هذه الأهداف الكبرى لا يمكن أن تتحق دون إقامة الحكومة! فمن ذا يستطيع أن يقيم القسط بين الناس بمجرّد التوصيات الاخلاقيّة؟ أو أن

٢٩

يقطع أيدي الظالمين عن المستضعفين. ويضع الإصر والأغلال عن يدي الإنسان ورجليه دون الاستناد الى قدرة شاملة!!

ومن يستطيع أن ينشر الثقافة الصحيحة والمسائل التربوية في مجتمع يشرف عليه المفسدون ، فيمنح القلوب الملكات الأخلاقيّة؟

وهذا هو ما نقوله بأنّ الدين لا ينفصل عن السياسة ، فإذا انفصل الدين عن السياسة فقد فقد عضده وشلت يده ، وإذا انفصلت السياسة عن الدين تبدّلت إلى عنصر مخرب يستغله أصحاب المنافع الشخصيّة!

إن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما وفق لنشر هذا الدين القويم السماوي في أرجاء العالم بسرعة ، لأنّه أسس حكومته في أوّل فرصة واتته ، وتابع أهدافه الإلهية عن طريق الحكومة الإسلامية.

وهناك بعض الأنبياء ممن نال مثل هذا التوفيق فنشروا دعوتهم إلى الله في الأرض أفضل بشكل أمّا من لم تسمح لهم الفرصة بإقامة حكومة إلهية ، فإنّهم لم يحالفهم التوفيق كثيرا في نشر رسالتهم الالهية

٢ ـ آيات الحكومة الإلهية

ممّا يلفت النظر أنّنا نجد في قصّة سليمان وداود ـ بصورة واضحة ـ أنّهما استطاعا أن يقلعا جذور الشرك وآثاره بسرعة ، وأن يقيما نظاما إلهيا عادلا نظاما يقوم على أسس واركان ـ طبقا لما في الآيات محل البحث ـ العلم والمعرفة والاطلاع في المجالات المختلفة.

نظاما يتوج منهجه اسم الله ، فهو على رأس لوحته.

نظاما استعمل كل قواه حتى الطائر ، من أجل الوصول إلى أهدافه.

نظاما جعل الشياطين مغلولة ، والظالمين أذلاء لا يتجاوزون حدودهم.

وأخيرا فإنّ هذا النظام كانت لديه القدرة النظامية «العسكرية» الكافية ،

٣٠

والجهاز التجسس «الأمني» ، والأفراد المتخصصون في المجالات الاقتصادية والإنتاجيّة والعلمية المختلفة ، وكل ذلك كان تحت خيمة «الإيمان» ومظلّة «التوحيد».

٣ ـ منطق الطير

في الآيات المتقدمة والآيات التالية بعدها التي تذكر قصّة سليمان والهدهد ، إشارة صريحة إلى منطق الطير ، وبعض ما يتمتع به الحيوان من شؤون.

وممّا لا شك فيه أنّ الطيور كسائر الحيوانات تظهر أصواتا في حالاتها المختلفة ، بحيث يمكن معرفتها بدقة ، أن أيّ صوت يعبّر عن الجوع؟ وأيّ صوت يعبر عن الغضب؟ وأي صوت يعبر عن الرضا؟ وأي صوت يعبّر عن التمني؟ وأيّ صوت يدعوا الأفراخ إليه؟ وأي صوت يعبر عن القلق والاستيحاش والرعب؟.

فهذه الأصوات من أصوات الطيور ، لا مجال للشك والتردد فيها ، وكلّنا نعرفها مع اختلاف في كثرة الاطلاع أو قلّته! إلّا أنّ آيات هذه السورة ـ بحسب الظاهر ـ تبيّن موضوعا أوسع ممّا ذكرناه آنفا فالبحث هنا عن نطقها بنحو «معمّى خفيّ» بحيث ينطوي على مسائل دقيقة ، والبحث عن تكلمّها وتفاهمها مع الإنسان وبالرغم من أن هذا الأمر مدعاة لتعجب بعضهم ، إلّا أنّه مع الالتفات إلى المسائل المختلفة التي كتبها العلماء ومشاهداتهم الشخصية في شأن الطيور ، لا يكون الموضوع عجيبا.

فنحن نعرف عن ذكاء الطيور مسائل أعجب من هذا.

فبعضها لديها المهارة في صنع أعشاشها وبيوتها بشكل أنيق ، قد يفوق عمل مهندسينا أحيانا.

وبعض الطيور تعرف عن وضع أفراخها في المستقبل ، وحاجاتها ، وتعمل لها عملا دقيقا ، بحيث تكون مثار إعجابنا جميعا.

٣١

وتوقعها لما سيكون عليه الجوّ حتى بالنسبة لعدّة أشهر تالية ، ومعرفتها بوقوع الزلازل قبل أن تقع ، وقبل أن تسجلها مقاييس الزلازل المعروفة!.

والتعليمات التي تصدر إلى الحيوانات في «السيرك» ونشاطاتها وأعمالها الخارقة للعادة الحاكية عن ذكائها العجيب

أعمال النمل وحركاته العجيبة وتمدنه المثير.

عجائب حياة النحل ، وما تقوم به من أعمال محيرة.

معرفة الطيور المهاجرة بالطرق الجويّة ، وقد تقطع المسافة بين القطبين الشمالي والجنوبي!

خبرة الأسماك في مهاجرتها الجماعية في أعماق البحار.

كل ذلك من المسائل العلمية المسلّم بها ، كما أنّها دليل على وجود مرحلة مهمّة من الإدراك أو الغريزة ـ أو ما شئت فسمه ـ في هذه الحيوانات!.

وجود الحواس غير الطبيعية في الحيوانات ـ كالرادار للخفاش ، وحاسة الشم القوية في بعض الحشرات ، والنظر الحاد عند بعض الطيور ، وأمثالها ، دليل آخر على أنّها ليست متخلفة عنّا في كل شيء!

فمع الأخذ بنظر الإعتبار جميع ما بيّناه ، لا يبقى مجال للعجب من أن لهذه الحيوانات تكلما ونطقا خاصا ، وأنّها تستطيع أن تتكلم مع الإنسان الذي يعرف ، «ألف باءها» وقد وردت الإشارة في آيات القرآن إلى هذا المعنى ، ومنها الآية (٣٨) من سورة الأنعام( وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ) (١) .

وفي الرّوايات الإسلامية أمور كثيرة أيضا ، تكشف عن نطق الحيوانات وخاصة الطيور وحتى أنّه نقل لكلّ «منطق» هو بمثابة الشعار ، بحيث يطول

__________________

(١) كان لنا بحث آخر ذيل الآية (٣٨) من سورة الأنعام.

٣٢

المقام بنا لو تعرضنا له بالتفصيل(١) .

ففي رواية عن الإمام أبي عبد الله الصادق أنّه قال : قال أمير المؤمنين علي لابن عباس «إنّ الله علّمنا منطق الطير كما علّم سليمان بن داود ومنطق كل دابة في برّ أو بحر»(٢) .

٤ ـ رواية «نحن معاشر الأنبياء لا نورّث»

نقل أهل السنة في كتبهم المختلفة حديثا عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مضمونه أنّه قال : «نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ، ما تركناه صدقة» وربّما نقل الحديث في بعض الكتب بحذف الجملة الأولى والاكتفاء بعبارة : «ما تركناه صدقة».

وسند هذا الحديث ينتهي في كتب أهل السنة المشهورة إلى «أبي بكر» ـ غالبا ـ إذ تولّى بعد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زمام أمور المسلمين ، وحين طلبت منه سيدة النساء فاطمةعليها‌السلام أو بعض أزواج النّبيّ ميراثها منه امتنع عن دفع ميراث النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليها استنادا إلى الحديث آنف الذكر.

وقد نقل هذا الحديث «مسلم» في صحيحه «الجزء ٣ ـ كتاب الجهاد والسير ص ١٣٧٩» و «البخاري» في الجزء الثامن من كتاب الفرائض ص ١٨٥ ، وجماعة آخرون في كتبهم.

ممّا يلفت النظر أن «البخاري» نقل في صحيحه حديثا عن «عائشة» أنّها قالت : «إن فاطمة والعباسعليهما‌السلام أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله ، وهما حينئذ يطلبان أرضيهما من فدك وسهمهما من خيبر ، فقال أبو بكر : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : لا نورّث ما تركناه صدقة ، إنّما يأكل آل محمّد من هذا المال قال أبو بكر: والله لا أدع أمرا رأيت رسول الله يصنعه فيه إلّا صنعته «قال» فهجرته

__________________

(١) لمزيد الاطلاع يراجع تفسير القرطبي ذيل الآيات محل البحث وتفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ٧٧ ، فما بعد

(٢) المصدر السابق ، ص ٨١.

٣٣

فاطمة فلم تكلمه حتى ماتت(١) !.

وبالطبع فإنّ هذا الحديث فيه مجال للنقد والطعن من جهات متعددة ، إلّا أنّنا نقتصر في هذا التّفسير على ذكر ما يلي :

١ ـ إنّ هذا الحديث لا ينسجم مع نصّ القرآن ووفقا للقواعد الأصولية التي عندنا ، أن كلّ حديث لا يوافق كتاب الله ساقط عن الإعتبار ، ولا يمكن التعويل على أنّه حديث شريف من أحاديث النبي أو المعصومينعليهم‌السلام .

ففي الآيات آنفة الذكر ، ورد «وورث سليمان داود» وظاهر الآية مطلق يشمل حتى الأموال ونقرأ في شأن يحيى وزكريا( يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) «مريم الآية ٦». ولا سيما في ما يخصّ زكريا ، فإن كثيرا من المفسّرين أكّدوا على الأمور المالية!.

إضافة إلى ذلك فإنّ ظاهر آيات الإرث في القرآن المجيد عام ويشمل جميع الموارد.

وربّما كان لهذا السبب أن يفسر «القرطبي» ـ مضطرا ـ الحديث على أنّه غالبا ما يكون كذلك ، لا أنّه عام ، وقال : هذا مثل قولهم : إنّا ـ معشر العرب ـ أقرى الناس للضيف ، مع أن هذا الحكم غير عام(٢) .

إلّا أن من الواضح أن هذا الكلام ينفي «قيمة هذا الحديث ...» لأنّنا إذا توسّلنا بهذا العذر في شأن سليمان ويحيى ، فإنّ شموله للموارد الأخرى غير قطعي أيضا.

٢ ـ إنّ الرّواية المتقدمة تعارض رواية أخرى تدلّ على أن أبا بكر صمّم على إعادة فدك إلى فاطمةعليها‌السلام ، إلّا أن الآخرين ما نعوه ، كما نقرأ في سيرة الحلبي : إن فاطمة قالت له : من يرثك؟! قال أهلي وولدي! فقلت : فما لي لا أرث أبي؟. وفي

__________________

(١) صحيح البخاري ـ الجزء الثامن ، ص ١٨٥.

(٢) تفسير القرطبي ، ج ٧ ، ذيل الآيات محل البحث ، ص ٤٨٨٠.

٣٤

كلام سبط بن الجوزي : إنّه كتب لها بفدك ودخل عليه عمر فقال : ما هذا؟ فقال : كتاب كتبته لفاطمة بميراثها من أبيها. فقال : فما ذا تنفق على المسلمين ، وقد حاربتك العرب كما ترى؟ ثمّ أخذ عمر الكتاب فشقّه(١) .

ترى كيف يمنع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم موضوع الإرث وينهى عنه بصراحة ، ويجرأ أبو بكر على مخالفته؟! ولم استند عمر إلى المسائل العسكرية وحاجة المعارك ، ولم يستند إلى الرواية؟!

إن التحقيق الدقيق ـ في الروايات الآنفة ـ يدل على أن الموضوع لم يكن موضوع نهي النّبي عن الإرث ، كما أثاره أبو بكر ، بل المهم هنا المسائل السياسية آنئذ ، وهذه المسائل هي ما تدعونا إلى أن نتذكر مقالة ابن أبي الحديد المعتزلي إذ يقول : سألت أستاذي «علي بن الفارقي» : أكانت فاطمة ، صادقة؟ فقال : نعم.

قلت : فلم لم يدفع إليها أبو بكر فدك وهي عنده صادقة؟ يقول : المعتزلي : فتبسم أستاذي ، ثمّ قال كلاما لطيفا مستحسنا مع ناموسه وحرمته وقلّة دعابته ، قال : لو أعطاها اليوم فدكا بمجرّد دعواها ، لجاءت إليه غدا وادعت لزوجه الخلافة ولم يمكنه الاعتذار بشيء لأنّه يكون قد أسجل على نفسه أنّها صادقة فيما تدعى كائنا ما كان من غير حاجة الى بيّنة ولا شهود(٢) .

٣ ـ الرواية المعروفة عن النّبي الواردة في كثير من كتب أهل السنّة والشيعة «العلماء ورثة الأنبياء»(٣) .

وما نقل عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أيضا «إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما».

يستفاد من مجموع هذين الحديثين أن الهدف الأساس للأنبياء نشر العلم ، وهم يفخرون به ، وأهم ما يتركونه هو الهداية. ومن يحصل على الحظ الكبير من

__________________

(١) سيرة الحلبي ، ج ٣ ، ص ٤٨٨.

(٢) شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد ، ج ١٦ ، ص ٢٨٤.

(٣) صحيح الترمذي ، باب العلم ، الحديث ١٩ ، وسنن ابن ماجة مقدمة الحديث ١٧.

(،) ـ أصول الكافي ، ج ١ ، باب صفة العلم ، الحديث ٢.

٣٥

العلم والمعرفة فهو وارثهم الأصيل بصرف النظر عن الأموال التي يرثها عنهم ، ثمّ إن هذا الحديث منقول في المعنى ، وعبّر عنه تعبيرا سيئا ويحتمل أن يكون (ما تركناه صدقة) المستنبط من بعض الرّوايات مضاف عليه.

ولكي لا يطول بنا الكلام ننهي كلامنا ببحث للمفسر المعروف من أهل السنة «الفخر الرازي» الذي أورده ذيل الآية (١١) من سورة النساء إذ يقول : من تخصيصات هذه الآية «آية الإرث» ما هو مذهب أكثر المجتهدين ، أن الأنبياءعليهم‌السلام لا يورّثون ، والشيعة خالفوا فيه روي أن فاطمةعليها‌السلام لما طلبت الميراث ومنعوها منه احتجوا بقولهعليه‌السلام : «نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ما تركناه صدقة» فعند هذا احتجت فاطمةعليها‌السلام بعموم قوله :( لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) وكأنّها أشارت إلى أن عموم القرآن لا يجوز تخصيصه بخبر الواحد.

ثمّ يضيف الفخر الرازي قائلا : إنّ الشيعة قالوا : بتقدير أن يجوز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد ، إلّا أنّه غير جائز هنا وبيانه من ثلاثة أوجه :

«أحدها» : أنّه على خلاف قوله تعالى حكاية عن زكرياعليه‌السلام :( يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) وقوله تعالى :( وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ ) قالوا : ولا يمكن حمل ذلك على وراثة العلم والدين ، لأنّ ذلك لا يكون وراثة في الحقيقة ، بل يكون كسبا جديدا مبتدأ ، إنّما التوريث لا يتحقق إلّا في المال على سبيل الحقيقة.

«وثانيها» : أن المحتاج إلى معرفة هذه المسألة ما كان إلّا فاطمة وعلي والعباس ، وهؤلاء كانوا من أكابر الزهاد والعلماء وأهل الدين ، وأمّا أبو بكر فإنّه ما كان محتاجا إلى معرفة هذه المسألة البتة ، لأنّه ما كان يخطر بباله أن يرث من الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكيف يليق بالرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبلغ هذه المسألة إلى من لا حاجة به إليها؟ ولا يبلغها إلى من له إلى معرفتها أشدّ الحاجة؟!

«وثالثها» : يحتمل أن قوله : «ما تركناه صدقة» صلة «لا نورث» والتقدير (الذي تركناه صدقة) فذلك الشيء (لا يورّث).

٣٦

فإن قيل : لا يبقى للرّسول خاصية في ذلك!

قلنا : بل تبقى الخاصية ، لاحتمال أن الأنبياء إذا عزموا على التصدّق بشيء فبمجرّد العزم يخرج ذلك عن ملكهم ولا يرثه وارث عنهم ، وهذا المعنى مفقود في حق غيرهم!

والجواب : أنّ فاطمة رضيت بقول أبي بكر بعد هذه المناظرة ، وانعقد الإجماع على صحة ما ذهب إليه أبو بكر! إلخ(١) .

إلّا أن من الواضح أن جواب الفخر الرازي لا يناسب الاستدلالات السابقة ، لأنّه كما ذكرنا آنفا ونقلناه عن المصادر المعتبرة عند أهل السنة فإن فاطمة لا أنّها لم ترض بكلام أبي بكر فحسب ، بل ظلّت واجدة و «غاضبة» عليه ، فلم تكلمه حتى آخر عمرها سلام الله عليها!

ثمّ بعد هذا كلّه كيف يمكن أن يدّعي الإجماع في هذه المسألة ، مع أنّ عليّا وفاطمةعليها‌السلام والعباس وأضرابهم الذين تربّوا في مهبط الوحي ومركزه ، كانوا مخالفين لهذا الرأي.

* * *

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، ج ٩ ، ص ٢١٠.

٣٧

الآيات

( وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (١٩) )

التّفسير

سليمان في وادي النمل :

يستفاد من آيات هذه السورة ، وآيات سورة سبأ أن «حكومة سليمان» لم تكن حكومة مألوفة ، بل حكومة مقرونة بما يخرق العادات والمعاجز المختلفة ، التي ورد قسم منها في هذه السورة ، والقسم الآخر ورد في سورة «سبأ» أمّا ما ورد في هذه السورة من الأمور الخارقة للعادة «حكومة سليمان على الجن ، والطير ، وإدراكه كلام النمل ، وكلامه مع الهدهد».

وفي الحقيقة فإنّ الله أظهر قدرته في هذه الحكومة وما سخّر لها من قوى ، ونحن نعرف أن هذه الأمور عند الله ـ في نظر الإنسان الموحّد ـ يسيرة وسهلة!.

٣٨

وأوّل ما تبدأ هذه الآيات بقوله تعالى :( وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ ) .

وكانت جنوده من الكثرة بحيث كانوا عند التحرك والمسير ، ومن أجل المحافظة على النظم. يؤمرون بتوقف مقدمة الجيش لتلحق بها مؤخرتها( فَهُمْ يُوزَعُونَ ) .

«يوزعون» من مادة (وزع) على وزن (جمع) ومعناه الحبس والإيقاف ، وهذا التعبير متى أطلق على الجند أو الجيش فيعني إيقاف أوّل الجيش ليلحق به آخره ، لكي يحفظ من التشتت والتفرق.

وكلمة «وزع» معناها الحرص والعلاقة الشديدة بالشيء ، بحيث تمنع الإنسان عن الأمور الأخرى.

ويستفاد من هذا التعبير أنّ جنود سليمان كانوا كثيرين ، كما كانوا يخضعون للنظم والانضباط.

«وحشر» فعل ماض من (الحشر) على وزن (نشر) ومعناه إخراج الجمع من المقرّ ، والتحرك نحو الميدان للقتال ، وما أشبه ذلك.

ويستفاد من هذا التعبير ـ والتعبير التالي في الآية الأخرى أنّ سليمانعليه‌السلام كان قد جمع جنوده وحرّكهم نحو نقطة ما ، لكن هذه النقطة أية نقطة هي؟ وأين كان يتجه سليمان؟ ليس ذلك معلوما على وجه الدقّة.

واستفاد بعضهم من الآية التالية التي تتحدث عن وصول سليمان إلى وادي النمل ، أنّها منطقة على مقربة من الطائف. وقال بعضهم : بل هي منطقة على مقربة من «الشام».

وحيث أنّ هذا الموضوع لا تأثير له في الأمور الأخلاقية والتربوية «للآية» لذلك لم تتطرق له الآية الكريمة.

وهناك ـ ضمنا ـ جدل بين كثير من المفسّرين في أن الإنس والجن والطير ،

٣٩

هل كانوا جميعا من جنود سليمان؟ فتكون (من) في الآية بيانية ، أو أن قسما منهم كان يؤلف جيشه وجنوده فتكون (من) تبعيضية ويبدو أن هذا بحث لا طائل تحته لأنّ سليمان ـ دون أدنى شك ـ لم يكن حاكما على وجه البسيطة كلها ، بل كانت منطقة نفوذه وحكومته منطقة الشام وبيت المقدس ، وقد يدخل بعض ما حولهما تحت سلطته وحكومته!.

كما يستفاد من الآيات التالية أنّه لم تكن له بعد سلطة على اليمن أيضا وإنّما صارت اليمن تحت نفوذه بعد قصّة الهدهد و «تسليم ملكة سبأ» وإذعانها له.

وجملة( وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ ) في الآيات التالية ، تدلّ على أن هدهدا واحدا كان ضمن الطير التي كانت تحت أمر سليمان ، بحيث أنّه لما افتقده سأل عنه ، فلو كانت الطيور جميعها تحت أمره وفيها آلاف الهداهد ، لكان هذا التعبير غير صحيح «فتأمّلوا بدقة».

وعلى كل حال ، فإنّ سليمان تحرك بهذا الجيش العظيم( حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ ) .

فخاطبت نملة من النمل أصحابها محذرة ، كما تقول الآية :( قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) (١) .

ولنا كلام سيأتي ـ إن شاء الله ـ في كيفية اطّلاع النملة ومعرفتها بحضور سليمان وجنوده في تلك المنطقة ، وكيف أوصلت صوتها إلى بقية النمل؟.

ويستفاد ضمنا من جملة( لا يَشْعُرُونَ ) أن عدل سليمان كان ظاهرا وواضحا حتى عند النمل ، لأنّ مفهوم الجملة أن سليمان وجنوده لو شعروا والتفتوا إلى النملة الضعيفة لما وطأوها بالأقدام ، وإذا وطئوها فإنّما ذلك لعدم توجههم والتفاتهم.( فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها ) .

هناك كلمات مختلفة عند المفسّرين في الشيء الذي أضحك سليمان ،

__________________

(١) قال بعض المفسّرين : إن (التاء) في النملة للوحدة ، وتأنيث الفعل مراعاة لظاهر الكلمة!

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

كلّ مؤمن ، ولا يكترثون بكل شيء ولا يرعون حرمة ولا عهدا ، فهم في الحقيقة أعداء الإيمان والحقّ ، وهم مصداق ما ذكره القرآن في شأن أقوام سابقين أيضا حيث يقول :( وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) (1) .

* * *

ملاحظتان

1 ـ من هم المستثنون في هذه الآية؟

جرى الكلام بين المفسّرين في الطائفة المستثناة من الحكم :( إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) فمن هؤلاء المستثنون في هذه الآية؟!

إلّا أنّه بملاحظة الآيات السابقة ، يظهر أن المراد من هذه الجملة هم أولئك الذين بقوا على عهدهم ووفائهم ، أي القبائل التي هي من بني ضمرة وبني كنانة وبني خزيمة وأضرابهم.

وفي الحقيقة فإنّ هذه الجملة بمنزلة التأكيد للآيات السابقة ، فإنّ على المسلمين أن يكونوا حذرين واعين ، وأن يعرفوا هؤلاء الأوفياء بالعهد ويميزوهم عن سواهم الناكثين للعهد.

وما قوله تعالى :( عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) فلعل هذا التعبير يشير إلى ما كان من معاهدة بين المسلمين والمشركين في السنة السادسة للهجرة ، عند صلح الحديبية على بعد خمسة عشر ميلا عن مكّة ، فقد التحق جماعة آخرون من مشركي العرب كالقبائل المشار إليها آنفا بهذه المعاهدة حيث عاهدوا المسلمين عن ترك الخصام ، إلّا أن مشركي قريش نقضوا عهدهم ، ثمّ أسلموا في السنة الثامنة عند فتح مكّة ، أمّا الجماعة التي التحقت حينئذ من المشركين بمن عاهد المسلمين ، فلم يسلموا ولم ينقضوا عهدهم.

__________________

(1) سورة البروج ، الآية 8.

٥٤١

ولمّا كانت أرض مكّة تستوعب منطقة واسعة «حولي 48 ميلا» فقد عدّت المنطقة كلها جزءا من المسجد الحرام ، كما نقرأ عن ذلك في الآية (196) من سورة البقرة ، إذ تذكر موضوع حج التمتع وأحكامه فتقول :( ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) .

والمعروف عند الفقهاء وفتاواهم أن أحكام حج التمتع إنما تجب على من تبعد داره «أو دار أهله» أكثر من 48 ميلا عن مكّة.

فبناء على ذلك لا مانع أبدا من أن يطلق على الحديبية ، التي تبعد 15 ميلا عن مكّة ، تعبير : عند المسجد الحرام.

وأمّا قول بعضهم : إن الاستثناء الوارد في الآية إنما هو في شأن مشركي قريش ، الذين عدّ القرآن الكريم عهدهم الذي عقدوه في صلح الحديبية محترما ، فهذا القول يبدو بعيدا ، بل هو غير صحيحى ، لأنّه.

أوّلا : من المعلوم أنّ مشركي قريش نقضوا العهد ، فنقضهم مقطوع به ، ولا مراء فيه ، فإن لم يكونوا قد نقضوا العهد ، فمن الذين لم ينقضوا عهدهم إذا؟!

ثانيا : إن صلح الحديبية إنّما كان في السنة السادسة للهجرة ، بينما أسلم مشركو قريش في السنة الثامنة للهجرة بعد فتح مكّة ، فبناء على ذلك فالآيات هذه النازلة في السنة التاسعة للهجرة ، لا يمكن أن تكون ناظرة إليهم.

2 ـ متى يجوز الغاء المعاهدة؟

كما قلنا ذيل الآيات المتقدمة ، فإنّ المراد من الآيات محل البحث لا يعني جواز الغاء العهد بمجرّد تصميم المشركين وعزمهم على نقض العهد عند بلوغهم القدرة ، بل إنّهم أبدوا هذا الأسلوب وطريقة تفكيرهم عمليّا مرارا ، فمتى استطاعوا أن يوجهوا ضربتهم إلى الإسلام دون الالتفات إلى المعاهدة وجهوها. وهذا المقدار من عملهم كاف لإلغاء عهدهم.

* * *

٥٤٢

الآيات

( فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) )

التّفسير

لم تخشون مقاتلة العدوّ؟!

إنّ أحد أساليب الفصاحة والبلاغة أن يكرر المتحدّث المطلب المهم بتعابير مختلفة للتأكيد على أهمية ، وليكون له أثر في النفوس. ولما كانت مسألة تطهير

٥٤٣

المحيط الإسلامي من الوثنية وعبادة الأصنام وإزالة آثارها ، من المسائل ذات الأهميّة القصوى ، فإنّ القرآن يكرر هذه المطالب بعبارات جديدة ـ في الآيات محل البحث ـ ويورد القرآن كذلك لطائف تخرج المطلب ـ عن صورة التكرار ، ولو التكرار المجازي.

فتقول الآية الأولى من هذا الآيات محل البحث :( فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ ) .

وتضيف معقبة( وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) .

وكان التعبير في الآيات المتقدمة أنّهم إذا أدّوا وظيفتهم الإسلامية ، أي تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزّكاة( فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ) أمّا التعبير في هذه الآية( فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ ) أي لا فارق بينهم وبين أحد من المسلمين من حيث الاحترام والمحبّة ، كما لا فارق بين الإخوان.

وهذه التعابير تؤثر من الناحية النفسية في أفكار المشركين وعواطفهم لتقبل الإسلام ، إذ تقول في حقّهم تارة( فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ) وتارة( فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ ) إلخ

ولكن لو استمر المشركون في نقض العهود ، فتقول الآية التالية :( وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ ) .

صحيح أنّهم عاهدوكم على عدم المخاصمة والمقاتلة ، إلّا أن هذه المعاهدة ـ بنقضها مرارا ، وكونها قابلة للنقض في المستقبل ـ لا اعتبار لها أصلا ولا قيمة لها.

وتعقّب الآية مضيفة( لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ) .

وفي الآية الأخرى خطاب للمسلمين لإثارة هممهم ، وإبعاد روح الضعف والخوف والتردد عنهم في هذا الأمر الخطير ، إذ تقول الآية :( أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ ) .

فعلام تقلقون وأنتم لم تبدأوهم بالقتال وإلغاء العهد من قبلكم( وَهُمْ بَدَؤُكُمْ

٥٤٤

أَوَّلَ مَرَّةٍ ) ؟

وإذا كان بعضكم يتردد في مقاتلتهم خشية ، منهم ، فإنّ هذه الخشية لا محل لها( أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) .

وفي الآية التالية وعد بالنصر الحاسم للمسلمين ، إذ تقول( قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ ) .

وليس ذلك فحسب ، بل ،( وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ ) .

وبهذا يشعر المؤمنون بالراحة والطمأنينة بعد أن كانوا يقاسون الألم والعذاب تحت وطأة هؤلاء المجرمين ، ويزيل الله تعالى عن قلوبهم آلام المحنة بهذا النصر( وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ) .

قال بعض المفسّرين : إنّ المراد من( قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ) هم جماعة المؤمنين من بني خزاعة ، وقد استغفلهم عبدة الأوثان من بني بكر فهجموا عليهم غدرا.

وقال بعض المفسّرين : إنّ المراد من هذا التعبير هم جماعة من أهل اليمن استجابوا لدعوة الإسلام ، ولما وصلوا مكّة عذّبوا وأوذوا من قبل عبدة الأصنام.

إلّا أنّه لا يبعد أن تشمل هذه العبارة جميع أولئك الذين تعرّضوا لأذى المشركين وعبدة الأصنام وتعذيبهم فكانت قلوبهم تغلي دما منهم.

أمّا الآية التالية فتضيف : إنّ في انتصار المؤمنين وهزيمة الكافرين سرورا للمؤمنين ، وإنّ الله يسدّدهم( وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ) .

ويحتمل أن تكون هذه الجملة تأكيدا للجملة السابقة( وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ) كما يحتمل أن تكون مستقلة عنها. وأن تكون الجملة السابقة إشارة إلى أنّ القلوب التي مرضت وتألمت سنين طوالا من أجل الإسلام والنّبي الكريم ، شفيت بانتصار الإسلام.

وأمّا الجملة الثّانية( وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ) فهي إشارة أن أولئك الذين فقدوا أعزّتهم وأحبّتهم بما لا قوه من تعذيب وحشي من قبل المشركين

٥٤٥

فأغاظوهم ، سيقّر الله عيونهم بهلاك المشركين( وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ) .

وتختتم الآية بالقول :( وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) .

كما تشير العبارة الأخيرة ضمنا إلى امكانية أن يلج بعضهم باب التوبة ، فينبغي على المسلمين أن يعرفوا أن الله يقبل توبتهم ، فلا يعاملوهم بشدة وقسوة فلا يجوز ذلك. كما أن الجمل بنفسها تحمل البشرى بأنّ مثل هؤلاء سيميلون نحو الإسلام ويشملهم توفيق الله ، لما لديهم من التهيؤ الروحي والقابليّة.

وقد ذهب بعض المفسّرين أنّ الآيات الأخيرة ـ بصورة عامّة من قبيل الإخبار القراني بالمغيبات ، وهي من دلائل صدق دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّ ما أخبر عنه القرآن قد تحقق فعلا.

* * *

ملاحظات

1 ـ هناك كلام بين المفسّرين في الجماعة الذين عنتهم الآية( قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ ) من هم؟!

قال بعضهم : إنّ الآية تشير إلى اليهود ، وإلى بعض الأقوام الذين نازلوا المسلمين وقاتلوهم بعد حين كالفرس والرّوم.

وقال بعضهم : هي إشارة إلى كفّار قريش.

وقال بعضهم : بل هي إشارة إلى المرتدين بعد إسلامهم.

إلّا أنّ ظاهر الآيات يدلّ ـ بوضوح ـ على أن موضوعها هو جماعة المشركين وعبدة الأصنام الذين عاهدوا المسلمين على عدم القتال والمخاصمة ، إلّا أنّهم نقضوا عهدهم.

وكان هؤلاء المشركون في أطراف مكّة أو سائر نقاط الحجاز.

كما أنّه لا يمكن القبول بأنّ الآية ناظرة إلى قريش ، لأنّ قريشا

٥٤٦

ورئيسها ـ أبا سفيان ـ أعلنوا إسلامهم ـ ظاهرا ـ في السنة الثامنة بعد فتح مكّة ، والسورة محل البحث نزلت في السنة التاسعة للهجرة.

كما أنّ الاحتمال بأنّ المراد من الآية هو الفرس أو الروم بعيد جدّا عن مفهوم الآية ، لأنّ الآية ـ أو الآيات محل البحث ـ تتكلم عن مواجهة فعلية ، لا على مواجهات مستقبلية أضف إلى ذلك فإنّ الفرس أو الروم لم يهمّوا بإخراج الرّسول من وطنه.

كما أنّ الاحتمال بأنّ المراد هم المرتدون بعد الإسلام ، بعيد غاية البعد ، لإن التأريخ لم يتحدث عن مرتدين أقوياء واجهوا الرّسول ذلك الحين ليقاتلهم بمن معه من المسلمين.

ثمّ إنّ كلمة «أيمان» جمع «يمين» وكلمة «عهد» يشيران إلى المعاهدة بين المشركين والرّسول على عدم المخاصمة ، لا إلى قبول الإسلام. فلاحظوا بدقة.

وإذا وجدنا في بعض الرّوايات الإسلامية أنّ هذه الآية طبّقت على «النّاكثين» في «معركة الجمل» وأمثالها ، فلا يعني ذلك أن الآيات نزلت في شأنهم فحسب ، بل الهدف من ذلك أنّ روح الآية وحكمها يصدقان في شأن الناكثين ومن هم على شاكلتهم ممن سيأتون في المستقبل.

والسؤال الوحيد الذي يفرض نفسه ويطلب الإجابة ، هو : إذا كان المراد جماعة المشركين الذين نقضوا عهودهم ، وقد جرى الكلام عليهم في الآيات المتقدمة ، فعلام تعبّر الآية هنا عنهم بالقول :( وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ ) مع أنّهم قد نكثوها فعلا.

والجواب : إنّ المراد من هذه الجملة ـ المذكورة آنفا ـ أنّهم لو واصلوا نقضهم أو نكثهم للأيمان ، ولم يثوبوا إلى رشدهم ، فينبغي مقاتلتهم. ونظير ذلك ما جاء في قوله تعالى :( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ) ومفهومها أنّنا نطلب من الله أن يوفقنا لأنّ نسير على الصراط المستقيم وأن تستمرّ هدايته إيانا.

٥٤٧

والشاهد على هذا الكلام أنّ جملة( وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ ) جاءت في مقابل( فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ ) أي لا يخلو الأمر من أحد وجهين ، فإمّا أن يتوبوا ويعرضوا عن الشرك ويتجهوا نحو الله ، وإمّا أن يستمرا على طريقهم ونكث أيمانهم. ففي الصورة الأولى هم إخوانكم في الدين ، وفي الصورة الثّانية ينبغي مقاتلتهم.

2 ـ ممّا يسترعي الانتباه أنّ الآيات محل البحث لا تقول : قاتلوا الكفار ، بل تقول :( فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ) وهي إشارة إلى أن (القاعدة الجماهيرية) وعامّة الناس تبع لزعمائهم ورؤسائهم ، فينبغي أن يكون الهدف القضاء على رؤسائهم وأئمتهم ، لأنّهم أساس الضلال والتضليل والظلم والفساد ، فاستأصلوا شجرة الكفر من جذورها وأحرقوها. فمواجهة الكفار لا تجدي نفعا ما دام أئمتهم في الوجود ، أضف إلى ذلك فإنّ هذا التعبير يعدّ ضربا من ضروب النظرة البعيدة المدى وعلو الهمة وتشجيع المسلمين ، إذ عدّ أئمّة الكفر في مقابل المسلمين ، فليواجهوهم فذلك أجدر من مواجهة من دونهم من الكفّار.

والعجيب أنّ بعض المفسّرين يرى أنّ هذا التعبير يعني أبا سفيان وأمثاله من زعماء قريش ، مع أنّ جماعة منهم قتلوا في معركة بدر ، وأسلم الباقي منهم كأبي سفيان بعد فتح مكّة ـ بحسب الظاهر ـ وكانوا عند نزول الآية في صفوف المسلمين ، فمقاتلتهم لا مفهوم لها.

واليوم ما يزال هذا الدستور القرآني المهم باقيا على قوته «ساري المفعول» فالكي نزيل الاستعمار والفساد والظلم ، لا بدّ من مواجهة رؤوساء والأكابر وأئمّة المنحرفين ، وإلّا فلا جدوى من مواجهة من دونهم من الأفراد ، فلاحظوا بدقة.

3 ـ إنّ التّعبير بـ( فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ ) الوارد في الآيات المتقدمة ، من ألطف التعابير التي يمكن أن يعبّر بها في شأن المساواة بين أفراد المجتمع ، وبيان أوثق العلائق العاطفية ، لأنّ أجلى العلائق العاطفية وأقربها في الناس التي تمثل

٥٤٨

المساواة الكاملة هي العلاقة ما بين الأخوين.

إلّا أنّ من المؤسف أن الانقسامات الطبقية والنداءات القومية سحقت هذه الأخوة الإسلامية التي كان الأعداء يغبطوننا عليها ، ووقف الإخوان في مواجهة إخوانهم متراصين بشكل لا يصدق ، وقد يقاتل كلّ منهما الآخر قتالا لا يقاتل العدوّ عدوه بمثل هذا القتال ، وهذا واحد من أسرار تأخرنا في عصرنا هذا.

4 ـ يستفاد ـ إجمالا ـ من جملة «أتخشونهم» أنّه كان بين المسلمين جماعة يخافون من الاستجابة للأمر بالجهاد ، إمّا لقوّة العدوّ وقدرته ، أو لأنّهم كانوا يعدو نقض العهد ذنبا.

فالقرآن يخاطبهم بصراحة أن لا تخافوا من هؤلاء الضعاف ، بل ينبغي أن تخافوا من عصيان أمر الله. ثمّ إن خشيتكم من نكث الإيمان ونقض العهد ليست في محلها ، فهم الذين نكثوا أيمانهم وهم بدأوكم أوّل مرّة!

5 ـ يبدو أنّ جملة( هَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ ) إشارة إلى مسألة عزمهم على إخراج الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكّة (عند هجرته إلى المدينة) بادئ الأمر ، إلّا أن نياتهم تغيرت وتبدلت إلى الإقدام على قتله ، إلّا أنّ النّبي غادر مكّة في تلك الليلة بأمر الله.

وعلى كل حال ، فإنّ ذكر هذا الموضوع ليس على سبيل أنّهم نقضوا عهدهم ، بل هو بيان ذكرى مؤلمة من جنايات عبدة الأصنام ، حيث اشتركت قريش والقبائل الأخرى في هذا الأمر. أمّا نقض العهد من قبل عبدة الأصنام المشركين فكان واضحا من طرق أخرى.

6 ـ ممّا يثير الدهشة والتعجب أنّ بعض أتباع مذهب الجبر يستدل على مذهبه بالآية( قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ ) مع أنّنا لو تجردنا عن التعصب لما وجدنا في الآية أدنى دليل على مرادهم ، وهذا يشبه تماما لو أردنا أن ننجز

٥٤٩

عملا ـ مثلا ـ فنمضي إلى بعض أصدقائنا ونقول له : نأمل أن يصلح الله هذا الأمر على يدك ، فإنّ مفهوم كلامنا هذا لا يعني بأنّك مجبور على أداء هذا الأمر ، بل المراد أنّ الله منحك قدرة ونية طاهرة ، وبالإفادة منهما استطعت أن تؤدي عملك باختيارك وبحرية تامّة.

* * *

٥٥٠

الآية

( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (16) )

التّفسير

في هذه الآية ترغيب للمسلمين في الجهاد عن طريق آخر ، حيث تحمّل الآية المسلمين مسئولية ذات عبء كبير ، وهي أنّه لا ينبغي أن تتصوروا أن كلّ شيء سيكون تامّا بادعائكم الإيمان فحسب ، بل يتجلى صدق النيّة وصدق القول والإيمان الواقعي في قتالكم الأعداء قتالا خالصا من أي نوع من أنواع النفاق.

فتقول الآية أوّلا :( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ) (1) .

و «الوليجة» مشتقة من «الولوج» ومعناه الدخول ، وتطلق الوليجة على من

__________________

(1) «أم» حرف عطف ويعطف بها جملة استفهامية على جملة استفهامية أخرى ، ولهذا فهي تعطي معنى الاستفهام ، غاية ما في الأمر أنّها تأتي بعد جملة استفهامية دائما ، وفي الآية محل البحث عطفت على الجملة «ألا تقاتلون» التي بدئت بها الآية (13).

٥٥١

يعتمد عليه في الأسرار ومعناها يشبه معنى البطانة تقريبا.

وفي الحقيقة فإنّ الجملة المتقدمة تنّبه المسلمين إلى أنّ الأعمال لا تكمل بإظهار الإيمان فحسب ، ولا تتجلى شخصية الأشخاص بذلك ، بل يعرف الناس باختبارهم عن طريقين :

الأوّل : الجهاد في سبيل الله لغرض محو آثار الشرك والوثنية.

الثاني : ترك أية علاقة أو أي تعاون مع المنافقين والأعداء.

فالأوّل لدفع العدو الخارجي ، والثّاني يحصّن المجتمع من خطر العدو الداخلي.

وجملة( لَمَّا يَعْلَمِ اللهُ ) التي قد يلاحظ نظيرها في بعض آيات القرآن الأخر ، تعني أن أمركم لم يتحقق بعد ، وبتعبير آخر : إنّ نفي العلم هنا معناه نفي المعلوم ، ويستعمل مثل هذا التعبير في مواطن التأكيد. وإلّا فإنّ الله ـ طبقا للأدلة العقلية وصحيح آيات القرآن الكثيرة ـ كان عالما بكل شيء ، وسيبقى عالما بكل شيء.

وهذه الآية تشبه الآية الأولى من سورة العنكبوت ، إذ تقول :( الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ) .

وكما ذكرنا آنفا في تفسيرنا لسورة آل عمران أنّ اختبار الله لعباده ليس لكشف أمر مجهول عنده ، بل هو لتربيتهم ولأجل إنّما الاستعدادات وتجلّي الأسرار الداخلية في الناس.

وتختتم الآية بما يدلّ على الإخطار والتأكيد( وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ) .

فلا ينبغي أن يتصور أحدّ أنّ الله لا يعرف العلائق السرّية بين بعض الأفراد وبين المنافقين ، بل يعرف كل شيء جيدا وهو خبير بالأعمال كلها.

ويستفاد من سياق الآية أن بين المسلمين يؤمئذ من كان حديث العهد بالإسلام ولم يكن على استعداد للجهاد ، فيشمله هذا الكلام أمّا المجاهدون الصادقون فقد بيّنوا مواقفهم في سوح الجهاد مرارا.

* * *

٥٥٢

الآيتان

( ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (17) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) )

التّفسير

من يعمر مساجد الله؟

من جملة المسائل التي يمكن أن تخالط أذهان البعض بعد إلغاء عهد المشركين وحكم الجهاد ، هو : لم نبعد هذه الجماعة العظيمة من المشركين عن المسجد الحرام لأداء مناسك الحج ، مع أنّ مساهمتهم في هذه المراسم عمارة للمسجد من جميع الوجوه «المادية والمعنوية» إذ يستفاد من إعاناتهم المهمّة لبناء المسجد الحرام ، كما يكون لوجودهم أثر معنوي في زيادة الحاجّ والطائفين حول الكعبة المشرفة وبيت الله.

فالآيتان ـ محل البحث ـ تردّان على مثل هذه الأفكار الواهية التي لا أساس

٥٥٣

لها ، وتصرّح الآية الأولى منهما بالقول :( ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ ) .

وشهادتهم على كفرهم جلية من خلال أحاديثهم وو أعمالهم ، بل هي واضحة في طريقة عبادتهم ومراسم حجّهم.

ثمّ تشير الآية إلى فلسفة هذا الحكم فتقول :( أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ ) .

ولذلك فهي لا تجديهم نفعا :( وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ ) .

فمع هذه الحال لا خير في مساعيهم لعمارة المسجد الحرام وبنائه وما إلى ذلك ، كما لا فائدة من كثرتهم واحتشادهم حول الكعبة.

فالله طاهر منزّه ، وينبغي أن يكون بيته طاهرا منزّها كذلك ، فلا يصح أن تمسه الأيدي الملوثة بالشرك.

أمّا الآية التّالية فتذكر شروط عمارة المسجد الحرام ـ إكمالا للحديث آنف الذكر ـ فتبيّن خمسة شروط مهمّة في هذا الصدد ، فتقول ،( إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) .

وهذا النص إشارة إلى الشرطين الأوّل والثّاني ، اللذين يمثلان الأساس العقائدي ، فما لم يتوفر هذان الشرطان لا يصدر من الإنسان أي عمل خالص نزيه ، بل لو كان عمله في الظاهر سليما فهو في الباطن ملّوث بأنواع الأغراض غير المشروعة.

ثمّ تشير الآية إلى الشرطين الثّالث والرّابع فتقول :( وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ ) .

أي أن الإيمان بالله واليوم الآخر لا يكفي أن يكون مجرّد ادعاء فحسب ، بل تؤيده الأعمال الكريمة ، فعلاقة الإنسان بالله ينبغي أن تكون قوية محكمة ، وأن يؤدي صلاته بإخلاص ، كما ينبغي أن تكون علاقته بعباد الله وخلقه قوية ، فيؤدي الزكاة إليهم.

٥٥٤

وتشير الآية إلى الشرط الخامس والأخير فتقول :( وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ ) .

فقلبه مليء بعشق الله ، ولا يحسّ إلّا بالمسؤولية في امتثال أمره ولا يرى لأحد من عبيده أثرا في مصيره ومصير مجتمعه وتقدمه ، هم أقل من أن يكون لهم أثر في عمارة محل للعبادة.

ثمّ تضيف الآية معقبة بالقول :( فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ) فيبلغون أهدافهم ويسعون لعمارة المسجد.

* * *

ملاحظات

1 ـ ما المراد من العمارة

هل تعني عمارة المسجد بناءه وتأسيسه وترميمه ، أو تعني الاجتماع فيه والمساهمة في الحضور عنده؟!

اختار بعض المفسّرين أحد هذين المعنيين في تفسير «عمارة المسجد» في الآية ـ محل البحث ـ غير أنّ الآية ذات مفهوم واسع يشمل هذه الأمور وما شاكلّها جميعا. فليس للمشركين أن يحضروا في المساجد ، وليس لهم أن يبنوا مسجدا ـ وما إلى ذلك ـ بل على المسلمين أن يقوموا بكل ذلك.

ويستفاد من الآية ـ ضمنا ـ أنّه لا ينبغي للمسلمين أن يقبلوا من المشركين ـ بل جميع الفرق غير الإسلامية ـ هدايا أو إعانات للمساجد وبنائها ، لأنّ الآية الأولى وإن كانت تتكلم على المشركين ، لكنّ الآية الثّانية بدأت بكلمة «إنما» لتدل على أن عمارة مساجد الله خاصّة بالمسلمين.

ومن هنا يتّضح أيضا أنّ متولي المساجد ومسئوليها ينبغي أن يكونوا من أنزه الناس ، ولا ينتخب لهذه المهمّة من لا حريجة له في الدين طمعا في ماله وثروته ، أو مقامه الاجتماعي كما هو الحال في كثير من البلاد ، إذ تولّى مساجدها

٥٥٥

من ليس لها أهلا.

بل يجب ابعاد جميع الأيدي الملوثة عن هذه الأماكن المقدسة.

ومنذ أن تدخل في أمور المساجد والمراكز الإسلامية أو أشرف عليها حكام الجور ، أو الأثرياء المذنبون ، فقدت تلك المساجد والمراكز الإسلامية «حيثيتها» ومكانتها ومسخت مناهجها البنّاءة ، ولذا فنحن نرى كثيرا من هذه المساجد على شاكلة مسجد ضرار.

2 ـ العمل الخالص ينبع من الإيمان فحسب

قد يتساءل بعضنا قائلا : ما يمنع أن نستعين بأموال غير المسلمين لبناء المساجد وعمارتها؟!

لكن من يسأل مثل هذا السؤال لم يلتفت إلى أنّ الإسلام يعد العمل الصالح ثمرة شجرة الإيمان في كل مكان ، فالعمل ثمرة نيّة الإنسان وعقيدته دائما وهو انعكاس لها ويتخذ شكلهما ولونهما دائما ، فالنيات غير الخالصة لا تنتج عملا خالصا.

3 ـ الحماة الشجعان

تدل عبارة( وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ ) على أنّ عمارة المسجد المحافظة عليها لا تكون إلّا في ظل الشهامة والشجاعة ، فلا تكون هذه المراكز المقدسة مراكز لبناء شخصية الإنسان وذات منهج تربوي عال إلّا إذا كان بانوها وحماتها رجالا شجعانا لا يخشون أحدا سوى الله ، ولا يتأثرون بأي مقام ، ولا يطبقون منهجا غير المنهج الإلهي.

4 ـ هل المراد من الآية هو المسجد الحرام فحسب؟!

يعتقد بعض المفسّرين أنّ الآية محل البحث تختص بالمسجد الحرام ، مع أنّ

٥٥٦

ألفاظ الآية عامّة ، ولا دليل على هذا التخصيص ، وإن كان المسجد الحرام الذي هو أعظم المساجد الإسلامية في مقدمتها ، ويوم نزول الآية كان المسجد الحرام هو محل إشارة الآية ، إلّا أنّ ذلك لا يدلّ على تخصيص مفهوم الآية.

5 ـ أهمية بناء المساجد

وردت أحاديث كثيرة في أهمية بناء المساجد عن طرق أهل البيت وأهل السنة ، تدلّ على ما لهذا العمل من الشأن الكبير.

فقد ورد عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من بنى مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنّة»(1) .

كما ورد عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «من أسرج في مسجد سراجا لم تزل الملائكة وحملة العرش يستغفرون له ما دام في ذلك المسجد ضوؤه»(2) .

إلّا أنّ ما هو أكثر أهمية هذا اليوم هو عمارة المسجد المعنوية ، وبتعبير آخر ينبغي أن نهتم بعمارة شخصية الذين يرتادون المسجد وأهله وحفظته اهتمامنا بعمارة المسجد ذاته.

فالمسجد ينبغي أن يكون مركزا لكل تحرك إسلامي فاعل يؤدي إلى إيقاظ الناس ، وتطهير البيئة والمحيط ، وحثّ المسلمين للدفاع عن ميراث الإسلام.

وينبغي الالتفات إلى أن المسجد جدير بأن يكون مركزا للشباب المؤمن ، لا محلا للعجزة والكسالى والمقعدين ، فالمسجد مجال للنشاط الاجتماعي الفعال ، لا مجال العاطلين والبطّالين والمرضى.

* * *

__________________

(1) ورد هذا الحديث في كتاب وسائل الشيعة ، الباب 8 من أبواب أحكام المساجد كما ورد عن ابن عباس في تفسير المنار ، ج 1 ، ص 213.

(2) كتاب المحاسن ، ص 57 حسب نقل كنز العرفان ، ج 1 ، ص 108.

٥٥٧

الآيات

( أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) )

سبب النّزول

هناك روايات مختلفة في سبب نزول الآيات ـ محل البحث ـ منقولة في كتب أهل السنة والشيعة ، ونورد هنا ما يبدو أكثر صحة.

يروي «أبو القاسم الحسكاني» عالم أهل السنة المعروف ، عن بريدة ، أن «شيبة» و «العباس» كان يفتخر كلّ منهما على صاحبه ، وبينما هما يتفاخران إذ مرّ عليهما علي بن أبي طالبعليه‌السلام فقال : فيم تتفاخران؟

فقال العباس : حبيت بما لم يحب به أحد وهو سقاية الحاج.

٥٥٨

فقال شيبة : إني أعمر المسجد الحرام ، وأنا سادن الكعبة.

فقال عليعليه‌السلام : على أنّي مستحي منكما ، فلي مع صغر سني ما ليس عندكما. فقالا : وما ذاك؟!

فقال : جاهدت بسيفي حتى آمنتما بالله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فخرج العباس مغضبا إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شاكيا عليّا فقال : ألا ترى ما يقول؟

فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أدعو لي عليّا فلمّا جاءه علي قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لم كلّمت عمّك العباس بمثل هذا الكلام؟ فقالعليه‌السلام : إذا كنت أغضبته ، فلما بيّنت من الحق ، فمن شاء فليرض بالقول الحق ومن شاء فليغضب.

فنزل جبرئيلعليه‌السلام وقال : يا محمّد ، إنّ ربّك يقرؤك السلام ويقول : اتل هذه الآيات :( أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ ) (1) .

وقد وردت هذه الرواية بالمضمون ذاته مع اختلاف يسير في التعابير في كتب كثيرة لأهل السنة ، كتفسير الطبري والثعلبي ، وأسباب النّزول للواحدي وتفسير الخازن البغدادي ، ومعالم التنزيل للعلّامة البغوي ، والمناقب لابن المغازلي ، وجامع الأصول لابن الأثير ، وتفسير الفخر الرازي ، وكتب أخرى.(2)

وعلى كل حال ، فالحديث آنف الذكر من الأحاديث المعروفة والمشهورة ، التي يقرّبها حتى المتعصبون ، وسنتكلم عنه مرّة أخرى بعد تفسير الآيات.

التّفسير

مقياس الفخر والفضل :

مع أنّ للآيات ـ محل البحث ـ شأنا في نزولها ، إلّا أنّها في الوقت ذاته

__________________

(1) تفسير مجمع البيان ، ذيل الآيات محل البحث.

(2) لمزيد الإيضاح يراجع كتاب إحقاق الحق ، ج 3 ، ص 122 ـ 127.

٥٥٩

تستكمل البحث الذي تناولته الآيات المتقدمة ، ونظير ذلك كثير في القرآن.

فالآية الأولى من هذه الآيات تقول :( أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) .

«السقاية» لها معنى مصدري وهو إيصال الماء للآخرين ، وكما تعني المكيال ، كما جاء في الآية 70 من سورة يوسف( فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ) وتعني الإناء الكبير أو الحوض الذي يصب فيه الماء.

وكان في المسجد الحرام بين بئر زمزم والكعبة محل يوضع فيه الماء يدعى بـ «سقاية العباس» وكان معروفا آنئذ ، ويبدو أنّ هناك إناء كبيرا فيه ماء يستقى منه الحاج يومئذ.

ويحدثنا التأريخ أنّ منصب «سقاية الحاج» قبل الإسلام كان من أهل المناصب ، وكان يضاهي منصب سدانة الكعبة ، وكانت حاجة الحاج الماسة في أيّام الحج إلى الماء في تلك الأرض القاحلة اليابسة المرمضة(1) التي يقل فيها الماء ، وجوّها حار أغلب أيّام السنة ، وكانت هذه الحاجة الماسة تولي موضوع «سقاية الحاج» أهميّة خاصّة ، ومن كان مشرفا على السقاية كان يتمتع بمنزلة اجتماعية نادرة ، لأنّه كان يقدم للحاج خدمة حياتية.

وكذلك «عمارة المسجد الحرام» أو سدانته ورعايته ، كان لها أهميته الخاصّة ، لأنّ المسجد الحرام حتى في زمن الجاهلية كان يعدّ مركزا دينيا ، فكان المتصدي لعمارة المسجد أو سدانته محترما.

ومع كل ذلك فإنّ القرآن يصّرح بأنّ الإيمان بالله وباليوم الآخر والجهاد في سبيل الله أفضل من جميع تلك الأعمال وأشرف.

__________________

(1) «المرمضة» مشتقة من «الإرماض» أي شديدة الحر ، والأرض الرمضاء كذلك : شدية الحر.

٥٦٠

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592