الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 174968 / تحميل: 6009
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

بين يدي محاوراته مع عثمان

لقد قرأنا في الجزء الثاني من الحلقة الأولى من هذه الموسوعة كثيراً من أخبار ابن عباس في أيام عثمان ، ولمّا كان حال عثمان غير خفيّ في التاريخ ، بالرغم من موضوعات زادت في تشويهه بأكاذيب أموية ، لكنها لم تصنع شيئاً ، فبقيت حال عثمان كما هي معلومة نسباً وحسباً وصحبةً ومصاهرةً وحكومةً وممارسةً وضلوعاً وإنصياعاً لبني أمية ، ما سببّت نقمة الناس عليه ، لأمور صدرت منه ومنهم ما كان ينبغى لمثله في سنّه وشأنه أن تنسب إليه فيؤاخذ عليها حتى أودت بحياته ، فكان كما قال عنه الدكتور طه حسين في كتابه ( الفتنة الكبرى ) :

( فأمّا عثمان فمهما يكن إعتذار أهل السنة والمعتزلة عنه ، فإنّه قد أسرف وترك عمّاله يسرفون في العُنف بالرعية ، ضرباً ونفياً وحبساً ، وهو نفسه قد ضرب أو أمر بضرب رجلين من أعلام أصحاب النبيّ ، فضرب عمار بن ياسر حتى أصابه الفتق ، وأمر من أخرج عبد الله بن مسعود من مسجد النبيّ إخراجاً عنيفاً ، حتى كسر بعض أضلاعه ).

وقال أيضاً : ( فهذه السياسة العنيفة التي تسلط الخليفة وعماله على أبشار الناس وأشعارهم وعلى أمنهم وحريتهم ليست من سيرة النبيّ ولا من سيرة الشيخين في شيء ).

١٤١

وقال أيضاً : ( والسياسة المالية التي أصطنعها عثمان منذ نهض بالخلافة كلّها موضوع النقمة والإنكار من أكثر الذين عاصروا عثمان ، ومن أكثر الرواة والمؤرخين ).

وقال أيضاً : ( ولو سار عثمان في الأموال العامّة سيرة عمر فلم ينفق المال إلاّ بحقه ، لجنّب نفسه وجنّب المسلمين شراً عظيماً ، ولكان من الممكن أن ينشئ الإسلام للإنسانية نظاماً سياسياً وإجتماعياً صالحاً يجنبّها كثيراً من الإضطراب الذي اضطرت إليه ، والفساد الذي تورطت فيه )(1) .

أقول : وعلى نحو ما مرّ من أقوال طه حسين نجد أقوال آخرين من الباحثين المحدثين ، ولا بدع لو التقت أراؤهم في نقد أفعاله وأختلفت أقوالهم في توجيه سياسته والتي رأوها جميعاً سياسية أموية رعناء جلبت له وللأمة كثيراً من الشر ، وكثرّت عليه أسباب النقمة ، بداية من المسلمين الصحابة في المدينة ، وسرعان ما أستطار شررها إلى بقية الأمصار ، فكثرت وفود الساخطين من العراق ومصر وغيرهما والتقوا بالصحابة فتفاقم الخطب.

وكانت شدّة المحنة والمعاناة عندما فزع الثوار إلى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يشكون حالهم ، فيسارع هو إلى عثمان ناصحاً في محاولات إصلاح بين الطرفين ، لكن عثمان لم يستجب للنصح ، بل وزاد في تعقيد الأمور إتهامه الإمام عليه السلام ما دام كثير من الثوار اتخذوه لجأً ، يرجون إغاثتهم

____________________

(1) الفتنة الكبرى 1 / 190 ـ 198.

١٤٢

من سوء أفعال عثمان وبطانته ، وكلّما دافع الإمام عليه السلام عن عثمان بالحسنى إزداد تصلّب الساخطين ، فآثر الإعتزال ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ، غير أنّ عثمان وبتحريض من بني أمية كان يزداد غضباً وحنقاً عليه ، ممّا أضطر العباس بن عبد المطلب ومن بعده ابنه عبد الله حبر الأمة القيام بمحاولات إصلاحية أيضاً ولتهدئة الخواطر ، عسى أن تهدأ الفورة وتسكن الثورة ، ولم تنجح تلك المساعي ، لأنّ عثمان كان إذن شرّ يسمع لما يقوله له مروان وبني أمية.

ومع كثرة الشواهد على المساعي الإصلاحية التي بذلها الإمام عليه السلام وعمه العباس وابنه عبد الله ، كان عثمان يتهمهم في النصح ، مع أنّه لو أنصفهم لوجدهم أحرص الناس عليه وأرعى ذماماً له للقرابة النسبية منه ، وهذا ما سنقرأ بعضاً منه في مواقف العباس وابنه عبد الله بن عباس في إصلاح ذات البين ، لكن عثمان ـ كما قلناـ كان مغلوباً على أمره من قبل بني أمية ، وفي قلوبهم جميعاً من الحقد والشنآن على بني هاشم عموماً وعلى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام خصوصاً ، ممّا طغى على لسان عثمان ، فأظهرته فلتات اللسان عن بعض ما يضمره الجنان من الحقد والشنآن ، فيقول للإمام عليه السلام مغاضباً وعاتباً : ( ما ذنبي إليك إذا لم تحبّك قريش وقد قتلت منهم سبعين ترد آنافهم الماء قبل شفاهم ) ، وفي لفظ آخر : ( كأن أعناقهم أباريق فضة ) ، ونحو هذا. ولقد همّ مرّة ـ وربما أكثر ـ بأن ينفي الإمام عليه السلام من المدينة كما صنع مع أبي ذر ، كما ستأتي الإشارة إليه في مواقف العباس الإصلاحية والإستصلاحية.

١٤٣

وإلآن إلى قراءة بعضها ، ولنبدأ بما رواه الطبري في تاريخه :

( بسند عن حمران بن أبان ، قال : أرسلني عثمان إلى العباس بعدما بويع فدعوته له ، فقال : مالك تعبدتني ـ ( تبعّدتني ظ )؟ قال : لم أكن قط أحوج إليك مني اليوم. قال ـ العباس ـ : الزم خمساً لا تنازعك الأمة خزائمها ما لزمتها. قال : وما هي؟ قال : الصبر عن القتل ، والتحبب ، والصفح ، والمدارات ، وكتمان السر )(1) .

ولكن عثمان لم يلتزم بنصيحة العباس ، بل استمر على حاله ، فاتسع الخرق على الراقع ، حتى عجز العباس من رأب الصدع ، مع ما كان فيه من حنكة رأي وجودة تدبير ، حتى قيل له داهية قريش ، ولمّا رأى تسافل الحال ونذر الشر بدت تلوح في الأفق ، فصار يدعو ربّه أن يسبق به أجله قبل وقوع الكارثة التي بدت بوادرها تنذر بشر مستطير فإستجاب له ربّه ، فما كانت إلاّ جمعة حتى لقي ربّه.

أمّا عن مواقفه في نصيحة عثمان في كفّ أذاه عن الإمام عليه السلام وعن الأمّة فهي متعددة ، أذكر بعضها :

فمنها ما ذكر ابن أبي الحديد في شرح النهج ، قال :

( روى الزبير بن بكار في كتابه الموفقيات ، عن عبد الله بن عباس ، قال : ما سمعت من أبي شيئاً قط في أمر عثمان يلومه فيه ولا يعذره ، ولا سألته عن شيء من ذلك مخافة أن أهجم منه على ما لا يوافقه ، فأنا عنده

____________________

(1) تاريخ الطبري 4 / 400 ط دار المعارف بمصر.

١٤٤

ليلة ونحن نتعشى إذ قيل هذا أمير المؤمنين عثمان بالباب ، فقال : أئذنوا له ، فدخل فأوسع له على فراشه وأصاب من العشاء معه ، فلمّا رفع قام من كان هناك وثبتّ أنا.

فحمد الله عثمان وأثنى عليه ، ثمّ قال : أمّا بعد يا خال فإنّي قد جئتك أستعذرك من ابن أخيك عليّ سبّني ، وشهر أمري ، وقطع رحمي ، وطعن في ديني ، وإنّي أعوذ بالله منكم يا بني عبد المطلب ، إن كان لكم حقّ تزعمون أنّكم غُلبتم عليه فقد تركتموه في يدي مَن فعل ذلك بكم ، وأنا أقرب إليكم رحماً منه ، وما لمت منكم أحداً إلاّ عليّاً ، ولقد دعيت أن أبسط عليه فتركته لله والرحم وأنا أخاف أن لا يتركني فلا أتركه.

قال ابن عباس : فحمد أبي الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : أمّا بعد يا بن أختي فإن كنت لا تحمد عليّاً لنفسك فإنّي لا أحمدك لعليّ ، وما عليّ وحده قال فيك ، بل غيره ، فلو أنّك اتهمت نفسك للناس أتهم الناس أنفسهم لك ، ولو أنّك نزلت ممّا رقيت وأرتقوا ممّا نزلوا فأخذت منهم وأخذوا منك ما كان بذلك بأس.

قال عثمان : فذلك إليك يا خال وأنت بيني وبينهم.

قال : أفأذكر لهم ذلك عنك؟

قال : نعم ، وأنصرف.

فما لبثنا أن قيل : هذا أمير المؤمنين قد رجع بالباب ، قال أبي : أئذنوا له ، فدخل فقام قائماً ولم يجلس وقال : لا تعجل يا خال حتى أوذنك. فنظرنا فإذا مروان بن الحكم كان جالساً بالباب ينتظره حتى خرج فهو

١٤٥

الذي ثناه عن رأيه الأوّل.

فأقبل عليَّ أبي وقال : يا بني ما إلى هذا من أمره شيء. ثمّ قال : يا بني أملك عليك لسانك حتى ترى ما لابدّ منه. ثمّ رفع يديه فقال : اللّهمّ اسبق بي ما لا خير لي في إدراكه ، فما مرّت جمعة حتى مات رحمه الله )(1) .

ومنها ما رواه البلاذري في ( أنساب الأشراف ) ، بإسناده عن صهيب مولى العباس ، قال :

( إنّ العباس قال لعثمان : أذكرّك الله في أمر ابن عمك وابن خالك وصهرك ، وصاحبك مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقد بلغني أنّك تريد أن تقوم به وبأصحابه.

فقال : أوّل ما أجيبك به أنّي قد شفعتك ، إنّ عليّاً لو شاء لم يكن أحد عندي إلاّ دونه ، ولكن أبى إلاّ رأيه. ثم قال لعليّ مثل قوله لعثمان.

فقال عليّ : لو أمرني عثمان أن أخرج من داري لخرجت )(2) .

وهذا رواه ابن عساكر أيضاً في ( تاريخ مدينة دمشق ) ، بسنده عن صهيب مولى العباس ، وجاء في آخر قول الإمام عليه السلام : ( فأمّا أداهن أن لا

____________________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 2 / 397.

وهذه الواقعة غير التي سبقتها وان عاصرتها زماناً ففي الاُولى كانت الشكوى في دار عثمان والعباس حاضر عنده. أمّا هذه فهي في دار العباس وعثمان حاضر عنده ، ولا مانع من تعدّدهما إذا عرفنا تخبّط السياسة يومئذ في معالجة مشاكل الناس وأستحواذ مروان على عثمان في تدبير أُموره.

(2) أنساب الأشراف 1 / 498 ـ 499.

١٤٦

يقام بكتاب الله فلم أكن لأفعل )(1) .

وجاء الخبر في ( التعديل والتجريح ) مسنداً عن سهيل مولى العباس يقول : ( أرسلني العباس إلى عثمان أدعوه ، فأتاه فقال : أفلح الوجه أبا الفضل ، قال : ووجهك يا أمير المؤمنين. قال : عليّ ابن عمك وابن عمتك وصهرك وأخوك في دينك وصاحبك مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبلغني أنّك تريد أن تقوم به وبأصحابه. فقال : لو شاء عليّ ما كان دونه أحد ، ثم أرسلني إلى عليّ ، فقال : إنّ عثمان ابن عمك وابن عمتك وأخوك في دينك وصاحبك مع رسول صلى الله عليه وآله وسلم وولي بيعتك ، فقال : لو أمرتني أن أخرج من داري لفعلت )(2) .

ومنها ما رواه البلاذري وغيره ، واللفظ له قال :

( حدثني عباس بن هشام ، عن أبيه ، عمّن حدثه ، عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عباس : إنّ عثمان شكا عليّاً إلى العباس فقال له : يا خال إنّ عليّاً قد قطع رحمي ، وألّب الناس عليَّ ، والله لئن كنتم يا بني عبد المطلب أقررتم هذا الأمر في أيدي بني تيمّ وعدي ، فبنو عبد مناف أحق أن لا تنازعوهم فيه ولا تحسدوهم عليه.

قال عبد الله بن العباس : فأطرق أبي طويلاً ، ثم قال : يا بن أخت لئن كنت لا تحمد عليّاً فما نحمدك له ، وأن حقك في القرابة والإمامة للحق الذي لا يُدفع ولا يجحد ، فلو رقيت فيما تطأطأ ، أو تطأطأت فيما رقي ،

____________________

(1) تاريخ مدينة دمشق 39 / 264 ط دار الفكر بيروت.

(2) التعديل والتجريح 3 / 1007.

١٤٧

تقاربتهما ، وكان ذلك أوصل وأجمل.

قال : قد صيّرت الأمر عن ذلك إليك ، فقرّب الأمر بيننا.

قال : فلمّا خرجنا من عنده دخل عليه مروان فأزاله عن رأيه ، فما لبثنا أن جاء أبي رسول عثمان بالرجوع إليه ، فلمّا رجع ، قال : يا خال أحبّ أن تؤخر النظر في الأمر الذي ألقيت إليك حتى أرى من رأي.

فخرج أبي من عنده ثم التفت إلى فقال : يا بني ليس إلى هذا الرجل من أمره شيء ، ثم قال : اللهم أسبق بي الفتن ، ولا تبقني إلى ما لا خير لي في البقاء إليه ، فما كانت جمعة حتى هلك )(1) .

ويبدو لي تعدّد الوقائع مع تقارب الزمان بينهما ، ففي الرواية الأولى كانت الشكاة في دار العباس وقد أتاه عثمان بنفسه ليلة وأصاب معه من عشائه ثم نفث شكاته ، وفي الرواية الثانية التي رواها البلاذري بسنده عن ابن عباس أنّ التشاكي كان في دار عثمان ، وفي خبر التعديل والتجريح أنّ العباس أرسل مولاه سهيل فاستدعى عثمان إلى بيته ونصحه باستعمال الرفق واللين مع عليّ عليه السلام ، وفي كلّ الروايات قرأنا طرحاً إستصلاحياً يكاد النجاح حليفه ، لكن صراحة استحواذ مروان على عثمان في تخبطه السياسي فلم يدع مجالاً للعباس ولا لغيره أن يصلح بينه وبين الناس لمعالجة المشاكل العالقة يومئذ.

ويبدو لي أنّ العباس يأس من إصلاح ما أفسده بنو أمية من أمر

____________________

(1) أنساب الأشراف 1 / ق4 / 498 ـ 499.

١٤٨

عثمان ، وتوقع المزيد من طوارق الحدثان تجتاح المجتمع الإسلامي في المدينة وغيرها ، ولذلك دعا أن يسبقها أجله ، فمرض فكان العوّاد يعودونه ، فكان آخر نصائحه لعثمان حين دخل عليه في مرضه الذي مات فيه :

( فقال ـ عثمان ـ : أوصني بما ينفعني ( الله ) به.

فقال : إلزم ثلاث خصال خواص تصيب بها ثلاث عوام ، فالخواص : ترك مصانعة الناس في الحق ، وسلامة القلب ، وحفظ اللسان ، تُصب بها سُرور الرعية ، وسلامة الدين ، ورضا الربّ )(1) .

ولشدّة اهتمامه بوحدة كلمة المسلمين وصلاح ذات البين كانت وصاياه لعثمان ، وكذلك كانت وصيته للإمام أمير المؤمنين عليه السلام أيضاً ، وهي آخر وصية صدرت منه ، تكشف عن بُعد نظر في قراءة المستقبل المظلم الذي ستنتصر فيه قوى الشر على وحدة الخير ، ويكون عليّ عليه السلام ضحيتها ، لذلك كانت نظرة العباس تفيض بالألم على ما أصاب بني هاشم من تحديات وإحباطات سابقاً ، مضافاً إلى ما سيلاقونه لاحقاً من عقبات ومعادات من أعدائهم مع خذلان من أنصارهم ، إلاّ من رحم الله فحفظ فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقليلٌ ما هم.

كلّ هذا كان عند العباس بثاقب نظره رؤيا العين ، فهو إذ يوصي الإمام عليه السلام بتجنب المواجهة مع عثمان خشية عليه من أن يعصب به كلّ

____________________

(1) أخبار الدولة العباسية / 21.

١٤٩

الإضطغان القرشي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للدماء التي أُريقت في سبيل الإسلام ، من قريش وغيرهم ، والعباس كان يعرف كراهية قريش لبني هاشم منذ عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد مرّت بنا شواهد على ذلك.

والآن إلى قراءة وصيته لابن أخيه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام :

وصية العباس للإمام عليه السلام :

لقد سبق ذكر الوصية عند ذكر وفاة العباس ، إلاّ أنّ ثمة تفاوت وتعقيب وتذنيب اقتضى ذكرها ثانياً.

قال ابن أبي الحديد : ( قرأت في كتاب صنفه أبو حيان التوحيدي في تقريظ الجاحظ ، قال : نقلت من خط الصولي : قال الجاحظ : إنّ العباس بن عبد المطلب أوصى عليّ بن أبي طالب عليه السلام في علته التي مات فيها ، فقال : أي بُنيّ إنّي مشفٍ على الظعن عن الدنيا إلى الله الذي فاقتي إلى عفوه وتجاوزه أكثر من حاجتي إلى ما أنصحك فيه وأشير عليك به ، ولكن العِرق نبوض ، والرحم عروض ، وإذا قضيت حق العمومة فلا أبالي بعد ، إنّ هذا الرجل ـ يعني عثمان ـ قد جاءني مراراً بحديثك ، وناظرني ملايناً ومخاشناً في أمرك ، ولم أجد عليك إلاّ مثل ما أجد منك عليه ، ولا رأيت منه لك إلاّ مثل ما أجد منك له ، ولست تؤتى من قلّة علم ولكن من قلّة قبول ، ومع هذا كلّه فالرأي الذي أودّعك به أن تمسك عنه لسانك ويدك ، وهمزك وغمزك ، فإنّه لا يبدؤك ما لم تبدؤه ، ولا يجيبك عما لم يبلغه ،

١٥٠

وأنت المتجني وهو المتأني ، وأنت العائب وهو الصامت ، فإن قلت : كيف هذا وقد جلس مجلساً أنا به أحق ، فقد قاربت ولكن ذاك بما كسبت يداك ، ونكص عنه عقباك ، لأنّك بالأمس الأدنى هرولتَ إليهم ، تظن أنّهم يُحلّون جيدك ويُختمّون أصبعك ، ويطأون عقبك ، ويرون الرشد بك ، ويقولون لا بد لنا منك ، ولا معدل لنا عنك ، وكان هذا من هفواتك الكُبر ، وهناتك التي ليس لك منها عذر ، والآن بعد ما ثللت عرشك بيدك ، ونبذت رأي عمك في البيداء ، يتدهده(1) في السافياء(2) ، خذ بأحزم ممّا يتوضح به وجه الأمر ، لا تشارّ هذا الرجل ولا تماره ، ولا يبلغه عنك ما يحنقه عليك ، فإنّه إن كاشفك أصاب أنصاراً ، وإن كاشفته لم تر إلا ضِراراً ، ولم تستلج إلاّ عثاراً ، واعرف مَن هو بالشام له ، وَمَن ههنا حوله ، ومن يطيع أمره ويمتثل قوله ، ولا تغترر بناس يطيفون بك ، ويدّعون الحنوّ عليك والحبّ لك ، فإنّهم بين مولى جاهل ، وصاحب متمنّ ، وجليس يرعى العين ويبتدر المحضر ، ولو ظن الناس بك ما تظن بنفسك لكان الأمر لك والزمام في يدك ، ولكن هذا حديث يوم مرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فات ، ثم حرم الكلام فيه حين مات ، فعليك الآن بالعزوف عن شيء عرضك له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يتم ، وتصدّيت له مرّة بعد مرّة فلم يستقم ، ومن ساور الدهر غُلِب ، ومن حرص على ممنوع تعب ، فعلى ذلك فقد أوصيت عبد الله بطاعتك ، وبعثته على متابعتك ، وأوجرته محبتك ، ووجدت عنده من ذلك ظني به لك ، لا

____________________

(1) يتدهده : يتدحرج.

(2) السافياء : الريح التي تحمل التراب.

١٥١

توتر قوسك إلاّ بعد الثقة بها ، وإذا أعجبتك فأنظر إلى سيتها ، ثم لا تفوّق إلاّ بعد العلم ، ولا تغرق في النزع إلاّ لتصيب ، وأنظر لا تطرف يمينك عينَك ، ولا تجنِ شمالك شينك ، ودّعني بآيات من آخر سورة الكهف(1) ، وقم إذا بدا لك )(2) .

تعقيب ابن أبي الحديد على الوصية :

قال ابن أبي الحديد بعد ذكره الوصية المتقدمة : ( قلت : الناس يستحسنون رأي العباس لعليّ عليه السلام في أن لا يدخل في أصحاب الشورى ، وأمّا أنّا فانّي أستحسنه إن قصد به معنى ، ولا أستحسنه إن قصد به معنى آخر ، وذلك لأنّه إن أجري بهذا الرأي إلى ترفّعه عليهم وعلوّ قدره عن أن يكون مماثلاً لهم ، أو أجري به إلى زهده في الإمارة ورغبته عن الولاية ، فكلّ هذا رأي حسن وصوابه ، وإن كان منزعه في ذلك إلى أنّك إن تركت الدخول معهم وانفردت بنفسك في دارك أو خرجت عن المدينة إلى بعض أموالك فإنّهم يطلبونك ويضربون إليك آباط الإبل حتى يولّوك الخلافة ، وهذا هو الظاهر من كلامه ، فليس هذا الرأي عندي بمستحسن ،

____________________

(1) هي قوله تعالى :( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً _ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً _ قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً _ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدا ً) الكهف / 107 ـ 110.

(2) شرح النهج لابن أبي الحديد 3 / 282 ط مصر الاُولى.

١٥٢

لأنّه لو فعل لولّوا عثمان أو واحداً منهم غيره ، ولم يكن عندهم من الرغبة إليه عليه السلام ما يبعثهم على طلبه ، بل كان تأخره عنهم قرّة أعينهم ، وواقعاً بإيثارهم ، فإنّ قريشاً كلّها كانت تبغضه أشد البغض ، ولو عمّر عمر نوح وتوصل إلى الخلافة بجميع أنواع التوصل كالزهد فيها تارة ، والمناشدة بفضائله تارة ، وبما فعله في ابتداء الأمر من إخراج زوجته وأطفاله ليلاً إلى بيوت الأنصار ، وبما اعتمده إذ ذاك من تخلّفه في بيته واظهار أنّه قد عكف على جمع القرآن ، وبسائر أنواع الحيل فيها لم تحصل له إلاّ بتجريد السيف كما فعله في آخر الأمر.

ولست ألوم العرب لا سيما قريشاً في بغضها له وانحرافها عنه ، فإنّه وترها وسفك دماءها ، وكشف القناع في منابذتها ، ونفوس العرب وأكبادها كما تعلم ، وليس الإسلام بمانع من بقاء الأحقاد في النفوس ، كما نشاهد اليوم عياناً ، والناس كالناس الأول ، والطبائع واحدة ، فأحسب أنّك كنت من سنتين أو ثلاث جاهلياً أو من بعض الروم وقد قتل واحد من المسلمين ابنك أو أخاك ثم أسلمت ، أكان اسلامك يُذهب عنك ما تجده من بغض ذلك القاتل وشنآنه ، كلا إنّ ذلك لغير ذاهب ، هذا إذا كان الإسلام صحيحاً والعقيدة محققة لا كإسلام كثير من العرب ، فبعضهم تقليداً ، وبعضهم للطمع والكسب ، وبعضهم خوفاً من السيف ، وبعضهم على طريق الحمية والإنتصار ، أو لعداوة قوم آخرين من أضداد الإسلام وأعدائه.

١٥٣

واعلم أنّ كلّ دم أراقه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسيف عليّ عليه السلام وبسيف غيره ، فإنّ العرب بعد وفاته عليه السلام عصبت تلك الدماء بعليّ بن أبي طالب عليه السلام وحده ، لأنّه لم يكن في رهطه مَن يستحق في شرعهم وسنتهم وعادتهم أن يعصب به تلك الدماء إلاّ بعليّ وحده ، وهذه عادة العرب إذا قتل منها قتلى طالبت بتلك الدماء القاتل ، فإن مات أو تعذرت عليها مطالبته طالبت بها أمثل الناس من أهله. لمّا قتل قوم من بني تميم أخاً لعمرو بن هند ، قال بعض أعدائه يحرض عمراً عليهم :

من مبلغ عمراً بأن المرء لم يخلق صُباره

وحوادث الأيام لايبقى لها إلاّ لحجاره

ها إنّ عجزة أمه بالسفح أسفل من أواره

تسفي الرياح خلال كشيحه وقد سلبوا أزاره

فاقتل زرارة لا أرى في القوم أمثل من زرارة

أن يقتل زرارة بن عدس رئيس بني تميم ، ولم يكن قاتلاً أخا الملك ولا حاضراً قتله. ومن نظر في أيام العرب ووقائعها ومقاتلها عرف ما ذكرناه )(1) .

____________________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 3 / 283 ط الأولى بمصر.

١٥٤

محاورات ابن عباس مع عثمان

بين يدي المحاورة الأولى :

نذكر ما روى الواقدي في كتاب ( الشورى ) عن ابن عباس رحمه الله قال :

( شهدت عتاب عثمان لعليّ عليه السلام يوماً فقال له في بعض ما قاله : نشدتك الله أن تفتح للفرقة باباً ، فلعهدي بك وأنت تطيع عتيقاً وابن الخطاب طاعتك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولستُ بدون واحد منهما ، وأنا أمسّ بك رحماً وأقرب إليك صهراً ، فإن كنت تزعم أنّ هذا الأمر جعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لك ، فقد رأيناك حين توفي نازعت ثمّ أقررت ، فإن كانا لم يركبا من الأمر جَداً فكيف أذعنت لهما بالبيعة وبخعت بالطاعة ، وإن كانا أحسنا فيما وليّا ولم أقصر عنهما في ديني وحسبي وقرابتي فكن لي كما كنت لهما.

فقال عليّ عليه السلام : أمّا الفرقة ، فمعاذ الله أن أفتح لها باباً وأسهّل إليها سبيلاً ، ولكني أنهاك عمّا ينهاك الله ورسوله عنه ، وأهديك إلى رشدك.

وأمّا عتيق وابن الخطاب ، فإن كانا أخذا ما جعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لي فأنت أعلم بذلك والمسلمون ، وما لي ولهذا الأمر وقد تركته منذ حين. فأمّا أن لا يكون حقي بل المسلمون فيه شرع ، فقد أصاب السهم الثغرة ،

١٥٥

وأمّا أن يكون حقي دونهم ، فقد تركته لهم طبت به نفساً ، ونفضت يدي عنه استصلاحاً.

وأمّا التسوية بينك وبينهما ، فلست كأحدهما ، إنّهما وليا هذا الأمر فطلقا أنفسهما وأهلهما عنه ، وعُمتَ فيه وقومك عوم السابح في اللجة ، فارجع إلى الله أبا عمرو وأنظر هل بقي من عمرك إلاّ كظمء الحمار ، فحتى متى وإلى متى؟ ألا تنهى سفهاء بني أمية عن أعراض المسلمين وأبشارهم وأموالهم؟ والله لو ظلم عامل من عمالك حيث تغرب الشمس لكان أثمه مشتركاً بينه وبينك.

قال ابن عباس : فقال عثمان : لك العتبى ، وافعل وأعزل من عمالي كلّ من تكرهه ويكرهه المسلمون.

ثمّ أفترقا ، فصدّه مروان بن الحكم عن ذلك ، وقال : يجتريء عليك الناس فلا تعزل أحداً منهم )(1) .

المحاورة الثانية :

روى الزبير بن بكار في كتاب ( الموفقيات ) بسنده عن ابن عباس S قال : ( صليت العصر يوماً ثمّ خرجت ، فإذا أنا بعثمان في أيام خلافته في بعض أزقة المدينة وحده ، فأتيته إجلالاً وتوقيراً لمكانه ، فقال لي : هل رأيت عليّاً؟

____________________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 2 / 398 ط مصر الأولى.

١٥٦

قلت : خلّفته في المسجد ، فإن لم يكن الآن فيه فهو في منزله.

قال : أمّا منزله فليس فيه ، فابغه لنا في المسجد ، فتوجهنا إلى المسجد ، وإذا عليّ عليه السلام يخرج منه.

ـ قال ابن عباس : وقد كنت أمس ذلك اليوم عند عليّ فذكر عثمان وتجرّمه عليه ، وقال : أما والله يا بن عباس إنّ من دوائه لقطع كلامه وترك لقائه. فقلت له : يرحمك الله كيف لك بهذا ، فإن تركته ثمّ أرسل إليك فما أنت صانع؟ قال : أعتلّ وأعتلّ فمن يضرّني؟ قال : لا أحدـ

قال ابن عباس : فلمّا تراءينا له وهو خارج من المسجد ظهر منه من الالتفات والطلب للإنصراف ما أستبان لعثمان ، فنظر إليّ عثمان ، وقال : يا ابن عباس أما ترى ابن خالنا يكره لقاءنا؟

فقلت : ولِمَ وحقك ألزم وهو بالفضل أعلم.

فلمّا تقاربا رماه عثمان بالسلام فردّ عليه. فقال عثمان : إن تدخل فإياك أردنا ، وإن تمض فإياك طلبنا. فقال عليّ : أيّ ذلك أحببت. قال : تدخل ، فدخلا وأخذ عثمان بيده فأهوى به إلى القبلة فقصر عنها وجلس قبالتها ، فجلس عثمان إلى جانبه ، فنكصت عنهما ، فدعواني جميعاً فأتيتهما.

فحمد الله عثمان وأثنى عليه وصلّى على رسوله ، ثمّ قال : أمّا بعد يا ابنّي خاليّ وابنيّ عمّي فإذ جمعتكما في النداء فأستجمعكما في الشكاية على رضائي عن أحدكما ووجدي على الآخر ، إنّي أستعذركما من أنفسكما وأسألكما فياتكما وأستوهبكما رجعتكما ، فوالله لو غالبني الناس

١٥٧

ما أنتصرت إلاّ بكما ، ولو تهضّموني ما تعززت إلاّ بعزّكما ، ولقد طال هذا الأمر بيننا حتى تخوّفت أن يجوز قدره ويعظم الخطر فيه. ولقد هاجني العدو عليكما وأغراني بكما ، فمنعني الله والرحم ممّا أراد ، وقد خلونا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإلى جانب قبره ، وقد أحببت أن تظهرا لي رأيكما وما تنطويان لي عليه وتصدقا ، فإنّ الصدق أنجى وأسلم ، وأستغفر الله لي ولكما.

قال ابن عباس : فأطرق عليّ عليه السلام وأطرقت معه طويلاً. أمّا أنا فأجللته أن أتكلّم قبله ، وأمّا هو فأراد أن أجيب عنّي وعنه ؛ ثمّ قلت له : أتتكلم أم أتكلم أنا عنك؟ قال : بل تكلم عني وعنك.

فحمدت الله وأثنيت عليه ، وصلّيت على رسوله ، ثمّ قلت : أمّا بعد يا ابن عمنا وعمتنا ، فقد سمعنا كلامك لنا وخلطك في الشكاية بيننا على رضاك ـ زعمت ـ عن أحدنا ووجدك على الآخر ، وسنفعل في ذلك فنذمّك ونحمدك ، اقتداء منك بفعلك فينا ، فإنا نذمّ مثل تهمتك إيانا على ما اتهمتنا عليه بلا ثقة إلاّ ظنّاً ، ونحمد منك غير ذلك من مخالفتك عشيرتك ، ثمّ نستعذرك من نفسك استعذارك إيانا من أنفسنا ، ونستوهبك فياتك استيهابك إيانا فيأتنا ، ونسألك رجعتك مسألتك إيانا رجعتنا ، فإنّا معاً أيّما حمدت وذممت منّا كمثلك في أمر نفسك ، ليس بيننا فرق ولا إختلاف ، بل كلانا شريك صاحبه في رأيه وقوله ، فوالله ما تعلمنا غير معذّرين فيما بيننا وبينك ، ولا تعرفنا غير قانتين عليك ولا تجدنا غير راجعين إليك ،

١٥٨

فنحن نسألك من نفسك مثل ما سألتنا من أنفسنا.

وأمّا قولك : لو غالبني الناس ما أنتصرت إلاّ بكما ، أو تهضّموني ما تعزّزت إلاّ بعزّكما ، فأين بنا وبك عن ذلك ونحن وأنت كما قال أخو كنانة :

بدا بحتر ما رام نال وإن يرم

نخض دونه غمرا من الغر رائمه

لنا ولهم منا ومنهم على العدى

مراتب عزّ مصعدات سلالمه

وأمّا قولك في هيج العدو إياك وإغرائه لك بنا ، فوالله ما أتاك العدو من ذلك شيئاً إلاّ وقد أتانا بأعظم منه ، فمنعناه ما أراد ما منعك من مراقبة الله والرحم ، وما أبقيت أنت ونحن إلاّ على أدياننا وأعراضنا ومروآتنا ، ولقد لعمري طال بنا وبك هذا الأمر حتى تخوّفنا منه على أنفسنا وراقبنا منه ما راقبت.

وأمّا مساءلتك إيانا عن رأينا فيك وما ننطوي عليه لك ، فإنّا نخبرك أنّ ذلك إلى ما تحبّ لا يعلم واحد منّا من صاحبه إلاّ ذلك ، ولا يقبل منه غيره ، وكلانا ضامن على صاحبه ذلك وكفيل به ، وقد برّأت أحدنا وزكّيته وأنطقت الآخر وأسكته ، وليس السقيم منّا ممّا كرهت بأنطق من البري فيما ذكرت ، ولا البري منّا ممّا سخطت بأظهر من السقيم فيما وصفت ، فإمّا جمعتنا في الرضا وإمّا جمعتنا في السخط ، لنجازيك بمثل ما تفعل بنا في ذلك مكايلة الصاع بالصاع ، فقد أعلمناك رأينا وأظهرنا لك ذات أنفسنا

١٥٩

وصدقناك ، والصدق ـ كما ذكرت ـ أنجى وأسلم ، فأجب إلى ما دعوت إليه ، وأجلل عن النقص والغدر مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وموضع قبره ، وأصدق تنج وتسلم ، ونستغفر الله لنا ولك.

قال ابن عباس : فنظر إليّ عليّ عليه السلام نظر هيبة ، وقال : دعه حتى يبلغ رضاه فيما هو فيه. فوالله لو ظهرت له قلوبنا وبدت له سرائرنا حتى رآها بعينه كما يسمع الخبر عنها بإذنه ما زال متجرّماً منتقماً ، والله ما أنا ملقى على وضمة ، وإنّي لمانع ما وراء ظهري ، وانّ هذا الكلام لمخالفة منه وسوء عشرة.

فقال عثمان : مهلاً أبا حسن فوالله إنّك لتعلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصفني بغير ذلك يوم يقول وأنت عنده : إنّ من أصحابي لقوماً سالمين لهم وانّ عثمان لمنهم ، إنّه لأحسنهم بهم ظنّاً ، وأنصحهم لهم حبّاً.

فقال عليّ عليه السلام : فصدّق قوله صلى الله عليه وآله وسلم بفعلك ، وخالف ما أنت الآن عليه ، فقد قيل لك ما سمعت وهو كاف إن قبلت.

قال عثمان : تثق يا أبا الحسن؟

قال : نعم أثق ولا أظنك فاعلاً.

قال عثمان : قد وثقت وأنت ممن لا يخفر صاحبه ولا يكذّب لقيله.

قال ابن عباس : فأخذت بأيديهما حتى تصافحا وتصالحا وتمازحا ، ونهضت عنهما فتشاورا وتآمرا وتذاكرا ، ثمّ افترقا ، فوالله ما مرّت ثالثة حتى

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

كما جاء التعبير عن الجنّة( أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ) أو ما شابه ذلك ، وهي إشارة لخلق الجنّة وأنّها مهيأة للمتقين وقد ورد هذا التعبير في موضعين من آيات القرآن «الآية ١٢٣ من سورة آل عمران والآية ٢١ من سورة الحديد».

كما ورد التعبير عن النّار بـ( أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ ) في موضعين من القرآن أيضا «البقرة الآية ٢٤ وآل عمران الآية ١٣١».

فهل ستفنى الجنّة والنار في انتهاء العالم؟!

ثمّ بعد هذا كلّه فنحن نعتقد بالحياة البرزخية للإنسان ، ونستفيد ذلك من آيات القرآن في شأن الأرواح ، فهل ستفنى تلك أيضا؟!

والجواب على جميع الأسئلة يتّضح بما يلي :

إنّ كثيرا ما يتفق أن يكون المراد من الهلاك والعدم هو تخلخل النظام ودماره ، لا تلاشيه وفنائه فلو أن عمارة مثلا تهدمت بسبب الزلزلة فهنا يصدق عليها الفناء والهلاك ، في حين أنّ مواد العمارة لا تزال موجودة ، غير أن نظامها قد أختل وانعدم فحسب!.

ونعرف أن في نهاية هذا العالم ستنطفئ الشمس ، ويظلم القمر ، وتندك الجبال ، وتموت الموجودات الحيّة ، فهذا معنى هلاكها! هذا من جهة!.

ومن جهة أخرى فإنّ الفناء متعلق بهذه الدنيا ، وما في هذه الدنيا أمّا الجنّة والنّار فسواء كانتا داخل هذا العالم أو خارجه ، فليستا جزءا من هذه الدنيا ليشملهما حكم الفناء والعدم لنظامهما ، فهما متعلقتان بالآخرة لا بالدنيا!

ومن جهة ثالثة ، فإنّا ذكرنا آنفا أنّ الهلاك ـ أو الفناء ـ بالنسبة للموجودات الممكنة غير منحصر بانتهاء هذا العالم فهي هالكة وفانية الآن أيضا ، لأنّها لا تملك شيئا في داخل ذاتها ، وكل ما عندها فمن غيرها ، فهي متغيرة ودائمة الحركة ، ومعنى ذلك الفناء التدريجي والمركب من الوجود والعدم!

ومع بيان ما تقدم يتّضح الجواب على الأسئلة السابقة تماما!

٣٢١

٢ ـ التّفسير المنحرف لجملة( وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ! )

يستدل جماعة من الوهّابيين أحيانا على أن مسألة «التوسل والشفاعة» لا تنسجم مع حقيقة التوحيد ، بالآية الآنفة وآيات أخرى مشابهة لها.

إذ يقول أولئك : إنّ القرآن نهى عن عبادة غير الله بصريح العبارة ، كما نهى أن ندعو أسماء سوى الله ، إذ قال :( فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً ) .(١)

والحال أنّ المقصود من هذه الآيات ليس هو أن لا ندعو أشخاصا آخرين ، بل المقصود كما هو مستفاد من الآية( مَعَ اللهِ ) أي أن من يعتقد أن ما كان لله يمكن طلبه من غير الله ويراه مستقلا في إنجازه ، فإنه مشرك.

ولكننا إذا اعتقدنا بأن جميع القدرات هي خاصة بالله ، ولا نعتقد بأن أحدا معه يكون مبدأ الأثر ونعتقد بأن لله أولياء يشفعون بإذنه وأمره ، فنتوسل بهم إلى الله ليشفعوا لنا عند الله ، فهذا هو التوحيد بعينه ، وهذا هو ما أشارت إليه آيات القرآن مرارا.

ترى هل كان قول إخوة يوسف لأبيهم :( يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ) شركا؟! (سورة يوسف الآية ٩٧).

وهل ـ حين يقول القرآن :( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً ) ،(٢) يكون قول القرآن هذا دعوة نحو الشرك؟!!

إنّ حقيقة الشفاعة والتوسل ـ أيضا ـ ليس شيئا سوى ما أشرنا إليه آنفا(٣) ! ربّنا ألهم قلوبنا نور التوحيد والمعرفة ، لئلا نرى سواك ، ولا نطلب سواك ، ولا نرجو سواك!

__________________

(١) سورة الجن ، الآية ١٨.

(٢) سورة النساء ، الآية ٦٤.

(٣) لمزيد التوضيح يراجع تفسير الآية ٣٥ المائدة ، وتفسير ذيل الآية (٤٨) من سورة البقرة!

٣٢٢

اللهم وثّق ارتباطنا بذاتك المقدسة يوما بعد يوم أرواحنا تحظى بقبس من بقاء وخلود ذاتك الخالدة!

اللهم أبعد حبّ الدنيا والاستعلاء والفساد في الأرض عن أرواحنا ، واجعلنا في صفوف المتقين ،( وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) .

آمين ربّ العالمين

انتهاء سورة القصص

* * *

٣٢٣
٣٢٤

سورة

العنكبوت

مكيّة

وعدد آياتها تسع وستون آية

٣٢٥
٣٢٦

«سورة العنكبوت»

محتوى سورة العنكبوت!

المشهور بين جمع من المحققين أنّ جميع آيات هذه السورة نازلة بمكّة ، فيكون محتواها منسجما مع محتوى السور المكية.

إذ ورد فيها الكلام على المبدأ والمعاد ، وقيام الأنبياء السابقين العظام ، ووقوفهم بوجه المشركين وعبدة الأصنام والجبابرة والظالمين ، وانتصارهم وانهزام هذه الجماعة الظالمة! وكذلك تتحدث هذه السورة عن الدعوة الى الحق والامتحان الالهي للبشر ، وذرائع الكفار في مجالات مختلفة.

غير أنّ جماعة من المفسّرين يرون بأن إحدى عشرة آية منها نازلة بالمدينة ، وهي الآيات الأولى من السورة ، ولعلّ ذلك ـ كما سنرى ـ ناتج عن سبب نزول بعض الآيات التي تتحدث عن الجهاد ، والإشارة إلى موضوع المنافقين ، وهذا ما يناسب السور المدنية!.

ولكن سنرى بعدئذ أنّ هذه الأمور لا تنافي كون السورة مكيّة.

وعلى كل حال ، فتسمية السورة هذه بـ «العنكبوت» مأخوذة من الآية (٤١) من هذه السورة ، التي تشبّه عبدة الأوثان من دون الله بالعنكبوت ، التي تبني بيتها من نسيجها ، وهو أوهن البيوت!!.

وبصورة إجمالية ، يمكن أن يقال : إن أبحاث هذه السورة تتلخص في أربعة أقسام :

١ ـ فالقسم الأوّل من السورة يتحدث عن مسألة «الامتحان» ، وموضوع

٣٢٧

«المنافقين» ، وهذان الأمران متلازمان لا يقبلان الانفكاك!! لأنّ معرفة المنافقين غير ممكنة إلّا في طوفان الامتحانات.

٢ ـ والقسم الثّاني من هذه السورة ـ في الحقيقة ـ هو لتسلية قلب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين القلّة الأوائل ، عن طريق بيان جوانب من حياة الأنبياء العظام السابقين ، أمثال نوح وإبراهيم ولوط وشعيبعليهم‌السلام وعواقبهم!. إذ واجهوا أعداء ألدّاء أمثال نمرود وطواغيت المال البخلاء.

وقد بيّن هذا القسم من السورة كيفية المواجهة ، وعدّتها ، وعاقبتها للمؤمنين لتطمئن قلوبهم ، ولتكون هذه الآيات إنذارا للمشركين وعبدة الأوثان ، الذين لهم قلوب كالحجارة أو أشدّ قسوة ، والظالمين الذين عاصروا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

٣ ـ والقسم الثّالث من هذه السورة ، وهو ما ورد في نهاية السورة بوجه خاص ، يتحدث عن التوحيد ودلائل الله في عالم خلقه ، والمواجهة مع المشركين ، ويدعوا الفطرة والوجدان إلى الاحتكام والقضاء الحق!.

٤ ـ أمّا القسم الرّابع من هذه السورة ، ففيه مباحث متنوعة عن عجز الأصنام المصنوعة التي تعبد من دون الله ، وعبادها الذين مثلهم كمثل العنكبوت ، وبيان عظمة القرآن ، ودلائل حقانية نبيّ الإسلام ، ولجاجة المخالفين ، كما تتعرض لسلسلة من المسائل التربوية أمثال : الصلاة ، والعمل الصالح ، والإحسان إلى الوالدين ، وأسلوب مناقشة المخالفين ، وما إلى ذلك.

فضيلة هذه السورة!

ورد في تفسير مجمع البيان عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله في فضيلة هذه السورة ما يلي : «من قرأ سورة العنكبوت كان له عشر حسنات بعدد كل المؤمنين والمنافقين».

ولتلاوة سورتي العنكبوت والروم في شهر رمضان في الليلة الثّالثة

٣٢٨

والعشرين منه فضيلة قصوى ، حتى أنّنا نقرأ في هذا الصدد حديثا للإمام الصادقعليه‌السلام يقول : «من قرأ سورة العنكبوت والروم في شهر رمضان ليلة ثلاث وعشرين فهو والله من أهل الجنّة ، لا استثنى فيه أبدا ولا أخاف أن يكتب الله علي في يميني إثما ، وإن لهاتين السورتين من الله مكانا».(١)

ولا شك أن محتوى هاتين السورتين الغزير ، والدروس العملية المهمّة منها في التوحيد ، وما إلى ذلك ، كلّه كاف لأن يسوق أيّ إنسان ذي لب وفكر وعمل إلى الجنّة والخلود فيها.

بل لو استلهمنا من بداية سورة العنكبوت وآياتها الأولى العظة فلعلنا نكون مشمولين في قسم الإمام الصادقعليه‌السلام تلك الآية التي تعرض الامتحان لعامّة الناس دون استثناء ليفتضح المبطلون والكاذبون فكيف يمكن أن يصدّق الإنسان بهذا الامتحان العظيم وهو لم يهيء نفسه له!؟. ولم يكن من أهل التقوى والورع!

* * *

__________________

(١) «ثواب الأعمال» «طبقا لتفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١٤٧» من الجدير بالذكر أنّنا نكتب هذا القسم من هذا التّفسير في بداية ليلة ٢٣ من شهر رمضان لسنة ١٤٠٣ هجرية

٣٢٩

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣) )

سبب النّزول

طبقا لما نقل بعض المفسّرين ، أنّ الآيات الإحدى عشرة الأولى من بداية سورة العنكبوت نزلت في المدينة في شأن المسلمين الذين كانوا في مكّة وغير راغبين بالهجرة إلى المدينة وكانوا قد تلقوا رسائل من إخوة لهم في المدينة جاء فيها : «إن الله لا يقبل إقراركم بالإيمان حتى تهاجروا إلى المدينة» فصمموا على الهجرة وخرجوا من مكّة ، فتبعهم جماعة من المشركين والتحموا بالقتال فقتل منهم جماعة وجرح آخرون «وربّما سلّم بعضهم نفسه ورجعوا إلى مكّة».

وقال بعض : إنّ الآية الثّانية من هذه السورة في شأن «عمار بن ياسر» وجماعة من المسلمين الأوائل ، الذين آمنوا برسالة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ولاقوا صنوف التعذيب من الأعداء.

كما قال بعضهم : إنّ الآية الثامنة نزلت في إسلام «سعد بن أبي وقاص»!

غير أنّ التدقيق في الآيات يكشف عن أنّه لا دليل على ارتباط الآيات مع

٣٣٠

هجرة أولئك ، سوى أنّ الآيات تبيّن الضغوط على المؤمنين في ذلك الوقت من قبل أعدائهم وأحيانا من الآباء المشركين والأمهات المشركات ضدّ أبنائهم المؤمنين.

فهذه الآيات تشجّع المسلمين على الثبات والرجولة والاستقامة أمام أمواج الضغوط من قبل الأعداء وإذا ورد الحديث فيها على الجهاد فالمراد منه ـ أيضا ـ الجهاد في هذا المجال ، لا الجهاد المسلّح الذي تقوم به الجماعة ، فذلك شرّع في المدينة.

وإذا ورد الحديث عن المنافقين في هذه الآيات ، فلعلّه إشارة إلى المسلمين الضعاف في إيمانهم ، الذي كان يتفق وجودهم بين المسلمين في مكّة أحيانا فتارة هم مع المسلمين وتارة مع المشركين ، وكانوا يميلون مع الكفة الراجحة منهما.

وعلى كل حال ، فارتباط الآيات بعضها ببعض وانسجامها توجب أن تكون هذه السورة «جميعها» مكية ، وما ذكرناه من الرّوايات المتقدمة المتناقضة في ما بينها ، لا يمكن أن تقطع هذا الارتباط!

* * *

التّفسير

الامتحان الإلهي سنة خالدة :

نواجه في بداية هذه السورة الحروف المقطعة [ألف ـ لام ـ ميم] أيضا وقد بيّنا تفسيرها عدة مرات من وجوه مختلفة(١) .

وبعد هذه الحروف المقطعة يشير القرآن إلى واحدة من أهم مسائل الحياة البشرية ، وهي مسألة الشدائد والضغوط والامتحان الإلهي.

__________________

(١) يراجع بداية تفسير سورة البقرة وبداية سورة آل عمران وبداية تفسير سورة الأعراف من التّفسير الأمثل.

٣٣١

فيقول أوّلا :( أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ) .(١) ثمّ يذكر القرآن هذه الحقيقة ـ بعد الآية المتقدمة مباشرة ، وهي أن الامتحان سنة الهية دائمية ، فالامتحان لا يختص بكم ـ أيّها المسلمين ـ بل هو سنة جارية في جميع الأمم المتقدمة ، إذ يقول :( وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) .

وهكذا ألقينا بهم أيضا في أفران الامتحانية الشديدة الصعبة ووقعوا أيضا ـ تحت تأثير ضغوط الأعداء القساة والجهلة المعاندين فساحة الامتحان كانت مفتوحة دائما ، واشترك فيها جماعة كثيرون.

وينبغي أن يكون الأمر كذلك ، لأنّه في مقام الادعاء يمكن لكل أحد أن يذكر عن نفسه أنّه أشرف مجاهد وأفضل مؤمن وأكثر الناس تضحية فلا بدّ من معرفة قيمة هذه الادعاءات بالامتحان ، وينبغي أن تعرف النيات والسرائر إلى أي مدى تنسجم مع هذه الادعاءات.؟!

أجل( فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ ) .

من البديهي أنّ الله يعرف جميع هذه الأمور جيدا ـ قبل أن يخلق الإنسان ـ إلّا أنّ المراد من العلم هنا هو التحقق العيني للمسائل ووجودها الخارجي ، وبتعبير آخر : ظهور الآثار والشواهد العملية ومعناه أنّه ينبغي أن يرى علم الله في هذه المجموعة عمليا في الخارج ، وأن يكون لها تحقق عيني ، وأن يكشف كلّ عمّا في نفسه وداخله هذا هو العلم حين يطلق على مثل هذه المسائل وينسب إلى الله!.

والدليل على هذه المسألة واضح ـ أيضا ـ لإنّ النيّات والصفات الباطنية إذا لم تحقق في عمل الإنسان وتكون عينيّة ، فلا مفهوم للثواب والجزاء والعقاب!.

وبعبارة أخرى : فإنّ هذا العالم مثله كمثل «المدرسة» أو «المزرعة»

__________________

(١) «يفتنون» مشتق من «الفتنة» وهي في الأصل وضع الذهب في النّار لمعرفة مقدار خلوصه ، ثمّ أطلق هذا التعبير على كل امتحان ظاهري ومعنوي «لمزيد الإيضاح يراجع تفسير الآية (١٩٣) من سورة البقرة».

٣٣٢

(والتشبيهات هذه واردة في متون الأحاديث الإسلامية) والمنهج هو أن تتفتح الاستعدادات وتربّى القابليات وتكون فعلية بعد ما كانت بالقوّة.

وينبغي أن تنمو البذور في هذه المدرسة وأن تطلع البراعم من تحت الأرض فتحاط بالرعاية والعناية لتكون شجيرات صغيرة ، ثمّ تكون أشجارا ذوات أصول قوية وأغصان ومثمرّة على تعاقب الزمن وهذه الأمور لا تكون إلّا بالامتحان والاختبار.

ومن هنا نعرف أن الامتحانات الإلهية ليست لمعرفة الأفراد ، بل هي من أجل تربية الاستعدادات ورعايتها ، لتتفتح وتكون بصورة أحسن.

فعلى هذا لو أردنا نحن أن نمتحن شيئا ، فهو لأجل كشف المجهول ، لكنّ امتحان الله ليس لكشف المجهول ، لأنّه أحاط بكل شيء علما بل هو لتربية الاستعدادات وإيصال مرتبة «القوة» إلى «الفعل»(١) .

* * *

بحث

الامتحانات في وجوه مختلفة :

وبالرّغم من أن بيان عمومية الامتحان لجميع الأمم والأقوام كان له أثر كبير فعّال بالنسبة لمؤمني مكّة ، الذين كانوا يمثلون الأقلية في ذلك العصر ، وكان التفاتهم إلى هذه الحقيقة سببا في وقوفهم بوجه الأعداء بصبر واستقامة إلّا أن ذلك لم يكن منحصرا في مؤمني مكّة ، بل إن كل جماعة وطائفة لها نصيب من هذه السنة الإلهية فهم شركاء فيها ، إلّا أن الامتحانات الإلهية لهم تأتي بصور مختلفة.

__________________

(١) لمزيد الإيضاح في مسألة الامتحان الإلهي وجوانبها المختلفة ، يراجع التّفسير الأمثل ذيل الآية (١٥٧) من سورة البقرة حيث بيّناه بتفصيل!

٣٣٣

فالجماعة الذين يعيشون في محيط ملوث بالمفاسد والوساوس تحيط بهم من كل جانب ، فإن امتحانهم الكبير في مثل هذا الجو والظروف ، هو أن لا يتأثروا بلون المحيط وأن يحفظوا أصالتهم ونقاءهم.

والجماعة الذين يعيشون تحت ضغط الحرمان والفقر ، يرون بأنّهم لو صمموا على ترك رأس مالهم الأصيل «الإيمان» فإنّهم سرعان ما يتخلصوا من الفقر والحرمان لكن ثمن ذلك هو فقدانهم للإيمان والتقوى والكرامة والحرية والشرف ، فهنا يكمن امتحانهم

وجماعة آخرون على عكس أولئك غرقى في اللذائذ والنعم ، والإمكانات المادية متوفرة لديهم من جميع الوجوه ترى هل يؤدون في مثل هذه الظروف الشكر على النعم أم سيبقون غرقى في اللذائذ والغفلة وحب الذات والأنانية غرقى الشهوات والاغتراب عن المجتمع وعن أنفسهم!

وجماعة منهم كالمتغربين في عصرنا ، يرون بعض الدول بعيدة عن الله والفضيلة والأخلاق حقّا ، ولكنّها تتمتع بالتمدن المادي المذهل والرفاه الاجتماعي. هنا تجذب هؤلاء المتغرّبين قوّة خفية إلى سلوك هذا النوع من الحياة أو سحق جميع القيم والأصول والأعراف التي يعتقدون بها ، ويبيعون أنفسهم أذلاء عملاء لتلك الدول ، ليوفروا لهم ولمجتمعهم مثل هذه الحياة وهذا نوع آخر من الامتحان.

المصائب ، والآلام والهموم ، والحروب والنزاعات ، والقحط والغلاء ، وما تثيره الحكومات الأنانية لتجذبهم إليها وتستعبدهم به وأخيرا الأمواج النفسية القوية والشهوات ، كلّ منها وسيلة للامتحان في طريق عباد الله ، والسائرين في الميادين التي تتميز فيها شخصية الأفراد وتقواهم وإيمانهم وطهارتهم وأمانتهم وحريتهم إلخ.

ولكن لا طريق للانتصار في هذه الامتحانات الصعبة لاجتيازها إلّا الجدّ

٣٣٤

السعي المستمر ، والاعتماد على لطف الله سبحانه.

ومن الطريف أنّنا نقرأ حديثا عن أحد المعصومين في أصول الكافي في تفسير الآية( أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ) يقول فيه : «يفتنون كما يفتن الذهب ، ثمّ قال يخلصون كما يخلص الذهب»(١) .

وعلى كل حال ، فإن طالبي العافية الذين يظنون أنّ إظهار الإيمان كاف بهذا المقدار ليكونوا في صفوف المؤمنين وفي أعلى عليين في الجنّة مع النّبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، فهم في خطأ كبير.

وعلى حدّ تعبير أمير المؤمنينعليه‌السلام في نهج البلاغة : «والذي بعثه بالحق لتبلبلن بلبلة ولتغربلن غربلة ، ولتساطن سوط القدر حتى يعود أسفلكم أعلاكم وأعلاكم أسفلكم»(٢) .

قالعليه‌السلام : هذا الكلام والناس جديد وعهد ببيعته ، وينتظرون ما سيفعل ببيت المال ، أيقسمه حسب الجاه والمقامات بحسب المعايير السابقة ، فيبعّض في المال ، فيعطى الكثير لبعضهم بحسب المقام ، والقليل للبعض الآخر! أم سيسير معهم بالعدل المحمّدي؟

* * *

__________________

(١) أصول الكافي ، طبقا لما نقل في تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١٤٨.

(٢) نهج البلاغة ، خطبة ١٦.

٣٣٥

الآيات

( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٧) )

التّفسير

لا مهرب من سلطان الله :

كان الكلام في الآيات السابقة عن امتحان المؤمنين الشامل ، والآية الأولى من الآيات أعلاه تهديد شديد للكفار والمذنبين ، لئلا يتصوروا أنّهم حين يضيّقون على المؤمنين ويضغطون عليهم ولا يعاقبهم الله فورا ، فإنّ الله غافل عنهم أو عاجز عن عذابهم ، تقول الآية هذه :( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ ) .

فلا ينبغي أن يغرّهم إمهال الله إيّاهم فهو امتحان لهم ، كما أنّه فرصة للتوبة

٣٣٦

والعودة إلى ساحة الله تعالى.

وما ذهب إليه بعض المفسّرين من أنّ هذه الآية هي إشارة إلى المؤمنين المذنبين ، فلا يناسب هذا التّفسير سياق الآيات بأي وجه ، بل جميع القرائن تدل على أنّ المقصود بالآية هم المشركون والكفار.

ثمّ يتحدث القرآن مرّة أخرى عن سير المؤمنين ومناهجهم ، ويقدم النصح لهم ، فيقول:( مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ ) فعليه أن يعمل ما في وسعه على امتثال الأوامر الإلهية والأحكام الشرعية ، لأنّ الوقت المعيّن سيأتي حتما( فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ ) (١) .

أجل ، إنّ وعد الله هذا لا يقبل التخلّف ، هو طريق لا بدّ من اجتيازه ، ثمّ إنّ الله سبحانه يسمع أحاديثكم ، وهو مطلع على أعمالكم ونيّاتكم لأنّه( هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) .

وفي معنى قوله تعالى :( لِقاءَ اللهِ ) وما المقصود منه؟ فسّره بعض المفسّرين بملاقاة الملائكة ، كما فسّره البعض بملاقاة الحساب والجزاء وبعض بملاقاة الحكم وأمر الحق وآخرون بأنّه كناية عن يوم القيامة في حين أنّه لا دليل على أن تفسّر هذه الآية بهذه المعاني المجازية.

وينبغي القول أن «لقاء الله» في يوم القيامة ليس لقاء حسيّا بل نوعا من الشهود الباطني ، لأنّ الستائر الضخمة لعالم المادة تنكشف عن عين روح الإنسان ، وتبدو في حالة الشهود للإنسان!

وكما يقول العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان : إنّ المقصود من لقاء الله ، هو أنّ العباد يكونون في موقف لا يكون بينهم وبين الله حجاب ، لأنّ طبيعة يوم القيامة هي ظهور الحقائق كما يقول القرآن :( وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ )

__________________

(١) هذه الجملة ـ في الحقيقة ـ فيها حذف ، والتقدير «من كان يرجو لقاء الله فيبادر بالطاعة قبل أن يلحقه الأجل» أو «من كان يرجو لقاء الله ويقول آمنت بالله فليقله مستقيما صابرا عليه فإنّ أجل الله لآت».

٣٣٧

سورة النور الآية ٢٥(١) .

أمّا الآية التي تليها ، فهي ـ في الحقيقة ـ تعليل لما سبق بيانه في الآية الآنفة ، إذ تقول : إن على المؤمنين الذين يرغبون في لقاء الله السعي بما أوتوا من قدرة وقابلية من أجل ذلك فإن نتيجة كل ذلك السعي والجهاد وتحمل الشدائد ترجع ثمارها للعامل نفسه :( وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ ) .

إن خطة الامتحان الالهي هي الجهاد ، جهاد النفس وهواها ، وجهاد الأعداء الألداء ، لحفظ الإيمان والتقوى والطهارة ، ونفع ذلك يعود للإنسان وإلّا فإنّ الله وجود غير متناه من جميع الوجوه ، وغير مفتقر لأي شيء حتى يتم بواسطة طاعة الناس أو عبادتهم جبرانه ، ولا ينقصه شيء حتى يكمله الآخرون ، فكل ما عندهم فمنه ، وليس لهم شيء من أنفسهم!.

ويتّضح هنا من هذا البيان أن الجهاد لا يعني بالضرورة جهاد العدوّ المسلّح ، بل يحمل معناه اللغوي الذي يشمل كل أنواع السعي والجد لحفظ الإيمان والتقوى ، وتحمل أنواع الشدائد ، والمواجهات «الموضعية» للأعداء الألدّاء والحاقدين.

والخلاصة أنّ جميع منافع هذا الجهاد ترجع للشخص المجاهد نفسه ، وهو الذي يفوز بخير الدنيا والآخرة في جهاده ، وحتى إذا كان المجتمع يستفيد من بركات هذا الجهاد ، فهو في مرحلة أخرى بعده.

فعلى هذا ، متى ما وفّق أي إنسان إلى الجهاد فنال نصيب منه ، فعليه أن يشكر الله على هذه النعمة!.

وآخر آية ـ محل البحث ـ توضيح لما تقدم ذكره في الآية السابقة بشكل مبهم تحت عنوان الجهاد ، فهنا يكشف القرآن حقيقة الجهاد فيقول :( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ ) .

__________________

(١) بحثنا المراد من لقاء الله في الجزء الأوّل ذيل الآية (٤٦) من سورة البقرة فليراجع هناك أيضا.

٣٣٨

إذن أوّل فائدة كبيرة لهذا الجهاد الكبير وهو الإيمان والعمل الصالح هي تكفير الذنوب وسترها على الإنسان ، كما أن الثواب سيكون من نصيبهم ، كما يقول القرآن في نهاية هذه الآية أيضا :( وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

كلمة «نكفّر» مشتقة من مادة «تكفير» ومعناها في الأصل التغطية والستر ، والمقصود بتغطية الذنوب هنا عفو الله وصفحه!

والتعبير بـ( أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ ) مع أن الله يجزي على الأعمال الصالحة ـ حسنة كانت أم أحسن لعله إشارة إلى أنّنا نجازي جميع أعمالهم الصالحة والحسنة بأحسن الجزاء ، أي إذا كانت بعض أعمالهم أحسن وبعضها حسنا ، فنحاسب الجميع بالأحسن ، وهذا هو معنى تفضل الله سبحانه.

وفي آيات أخرى من القرآن ، كالآية (٣٨) من سورة النور وردت الإشارة إلى ذلك أيضا( لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) .

* * *

٣٣٩

الآيتان

( وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩) )

سبب النّزول

وردت روايات مختلفة في شأن نزول الآية الآنفة الذكر ، ومضمون الجميع واحد وهي أنّ بعض الرجال الذين كانوا في مكّة وأسلموا(١) ، حين سمعت أمهاتهم بذلك صممن على أن لا يتناولن طعاما ولا يشربن ماء حتى يرجع أبناؤهن عن الإسلام ، وبالرغم من أن أية واحدة من هؤلاء الأمهات لم تف بقولها ، ورجعت عن إضرابها عن الطعام ، إلّا أنّ الآية المتقدمة نزلت لتوضح للجميع أسلوب المعاملة بين الأبناء والآباء والأمهات ، في مجال الكفر والإيمان.

__________________

(١) ورد في بعض الروايات اسم (سعد بن أبي وقاص) وفي بعضها اسم (عياش بن أبي ربيعة المخزومي).

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592