الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل6%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 190104 / تحميل: 6885
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

التّفسير

أفضل الوصايا بالنسبة للوالدين :

إنّ واحدا من أهم الامتحانات الإلهية ، هي مسألة «التضاد» بين خط الإيمان والتقوى وبين علاقة العاطفية والقرابة والقرآن في هذا المجال ـ يوضح وظيفة المسلمين بجلاء!

في البداية يتحدث عن قانون كلّي يستمد من جذور العواطف الإنسانية وردّ الجميل فيقول :( وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ ) .

وبالرغم من أنّ هذا حكم تشريعي ، ولكن هذه المسألة قبل أن تكون «لازما» تشريعيا ، لها وجود في فطرة الإنسان بشكل قانون تكويني. وخاصّة أن التعبير بـ «الإنسان» هنا يلفت النظر فهذا القانون لا يختصّ بالمؤمنين ، بل كلّ من كان جديرا بأن يحمل اسم الإنسان ينبغي أن يكون عارفا بحق الأبوين وأن لا ينسى تكريمهما واحترامهما والإحسان إليهما طيلة عمره وإن كان كل ذلك لا يفي بحقوقهما!.

بعد ذلك ، ومن أجل أن لا يتبادر إلى الذهن أنّ العلاقة العاطفية بالوالدين يمكن أن تكون حاكمة على العلاقة بين الإنسان وربّه وإيمانه ، يأتي استثناء صريح ـ ليوضّح هذا الموضوع في الآية ، فيقول تعالى :( وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما ) .

والتعبير بـ( جاهَداكَ ) مفهومه بذل قصارى جهدهما وإصرارهما ومنتهى سعيهما للحيلولة بين الولد وبين الإيمان بالله.

والتعبير بـ( ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) إشارة إلى عدم منطقية الشرك ، لأنّ الشرك لو كان صحيحا واقعا لكان عليه دليل بيّن.

وبتعبير آخر : متى ما لم يعلم الإنسان بشيء فلا ينبغي أن يتبعه فكيف إذا كان يعلم ببطلانه؟

٣٤١

فهذا الاتباع هو اتّباع للجهل ، فلو أن الوالدين أمراك باتباع الجهل فلا تطعهما.

وأساسا فإنّ التقليد الأعمى خطأ حتى ولو كان في مورد الإيمان ، فكيف إذا كان هذا التقليد للكفر والشرك!.

وهذه الوصية وردت ـ أيضا ـ في سورة لقمان مع اضافة( وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً ) فمع عدم قبول دعوتهما للشرك ، ينبغي عليك احترامهما والإحسان إليهما والارفاق بهما.

ولا ينبغي أن يتصور أحد أن وجوب مخالفة الأبوين فيما لو دعوا ولديهما الى الشرك دليل على جواز الاساءة لهما ، فهذا يؤكّد منتهى تأكيد الإسلام على احترام الأبوين.

وبهذا ـ يستفاد من هذا المنطلق أصل كلي : أي إن شيئا لا يمكن أن يكون حاكما على علاقة الإنسان بالله ، لأنّها مقدمة على كل شيء ، حتى على علاقته بأبويه التي هي أقرب العلائق إليه.

والحديث المعروف «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»(١) الذي نقل عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام يعطينا معيارا واضحا لهذه المسائل!.

ثمّ يضيف تعالى في نهاية الآية( إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) وأجازيكم دون غمط ونقص في الثواب أو العقاب.

وهذه الجملة ـ في الحقيقة تهديد لأولئك الذين يسيرون في طريق الشرك ، والذين يدعون الآخرين إلى هذا الطريق لأنّها تقول بصراحة : إنّ الله يرى أعمالكم ويحفظهما ثمّ يعيدها إليكم «في معادكم».

والآية التي بعدها تؤكّد الحقيقة في أولئك المؤمنين الذين يعملون الصالحات ، وتكرر هذا المضمون أيضا( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ـ الجملة ١٦٥.

٣٤٢

لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ ) .

وأساسا فإنّ عمل الإنسان يترك في الإنسان أثره فالعمل الصالح يصبغ الإنسان بلونه ويدخله في زمرة «الصالحين».

كما أنّ العمل السيء يدخله في زمرة «الخاطئين والمسيئين».

ولكن ما الغاية من هذا التكرار؟!

قال بعضهم : في الآيات السابقة إشارة إلى أولئك الذين يسلكون طريق الحق ، أمّا هذه الآية فهي إشارة إلى أولئك الذين هم الأدلاء والهداة الى طريق التوحيد ، لأنّ التعبير بـ «الصالحين» ورد في كثير من الأنبياء ، إذ كانوا يطلبون من الله أن يدخلهم في الصالحين.

كما يحتمل أيضا ، أنّ الكلام في الآيات المتقدمة كان عن غفران الذنوب وتكفير السيئات وما يستحقه المؤمنون من الجزاء ، إلّا أنّه هنا إشارة عن مقامهم الرفيع الذي هو في نفسه ثواب آخر! فهم في صف الصالحين ، صف الأنبياء والصديقين والشهداء ، وهم جلساؤهم ورفقاؤهم في الجنان.

* * *

ملاحظة

الإحسان إلى الوالدين :

ليست هذه هي المرّة الأولى التي يشير فيها القرآن إلى هذه المسألة الإنسانية المهمّة ، فقد أشار إليها في سورة الإسراء الآية (٢٣) من قبل ، وسترد الإشارة إليها بعد في سورة لقمان الآيتين (١٤) و (١٥) وسورة الأحقاف الآية (١٥) أيضا.

وفي الحقيقة إنّ الإسلام يدعو إلى احترام الوالدين في أسمى مراتبه ، حتى مع كونهما مشركين ، أو عند دعوتهما إلى الشرك الذي هو أبغض الأشياء في نظر

٣٤٣

الإسلام ، فإنّ الإسلام يوجب احترامهما في الوقت الذي يمنع من إطاعتهما في قبول الشرك والاستجابة إلى ذلك!.

وهذا في الواقع واحد من الامتحانات الإلهية العظيمة التي أشير إليها في بداية هذه السورة ، لأنّهما قد يبلغان من العمر أحيانا يصعب معه تحمّلهما فهنا ينبغي على الأبناء أن يؤدوا امتحانهم في مجال ردّ الإحسان وإطاعة أمر الله وأن يحافظوا على والديهما بأحسن وجه!.

نقرأ في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ رجلا جاء إليه فقال : «يا رسول الله ، من أبرّ؟

قال : أمّك : قلت : ثمّ من؟ قال : أمّك. قلت : ثمّ من؟ قال : ثمّ أمّك. قلت : ثمّ من؟ قال : ثمّ أباك ثمّ الأقرب فالأقرب»(١) .

وفي حديث آخر ـ وهو وارد في كثير من الكتب ـ أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «الجنّة تحت أقدام الأمّهات»(٢) . فلا بدّ للوصول إلى الجنّة من الخضوع والتذلل في مقابلها كتراب الأقدام.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ذيل الآيات محل البحث

(٢) المصدر السابق.

٣٤٤

الآيات

( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣) )

التّفسير

شركاء في الانتصار أمّا في الشدّة فلا!

حيث أنّ الآيات المتقدمة تحدثت عن المؤمنين الصالحين والمشركين بشكل صريح ، ففي الآيات الأولى من هذا المقطع يقع الكلام على الفريق الثّالث ـ أي المنافقين ـ فيقول القرآن فيهم :( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ ) فلا يصبرون على الأذى والشدائد ،

٣٤٥

ويحسبون تعذيب المشركين لهم وأذى الناس أنّه عذاب من الله( وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ) فنحن معكم في هذا الافتخار والفتح.

ترى هل يظنون أن الله خفيّ عليه ما في أعماق قلوبهم فلا يعرف نياتهم( أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ ) .

ولعل التعبير بـ «آمنا» بصيغة الجمع ، مع أنّ الجملة التي تليه جاءت بصيغة المفرد ، هو من جهة أنّ هؤلاء المنافقين يريدون أن يقحموا أنفسهم في صف المؤمنين ، فلذلك يقولون «آمنا» أي آمنا كسائر الناس الذين آمنوا.

والتعبير بـ( أُوذِيَ فِي اللهِ ) معناه أوذي في سبيل الله ، أي إنّهم قد يتعرض لهم العدوّ ـ أحيانا ـ وهم في سبيل الله والإيمان فيؤذيهم.

الطريف هنا أنّ القرآن يعبر عن مجازاة الله بـ «العذاب» وعن إيذاء الناس بـ «الفتنة» وهذا التعبير إشارة إلى أنّ إيذاء الناس ليس عذابا ـ في حقيقة الأمر ـ بل هو امتحان وطريق إلى التكامل.

وبهذا فإنّ القرآن يعلمهم أن لا يقايسوا بين هذين النوعين «العذاب» و «الإيذاء» ولا ينبغي أن يتنصّلوا من «الإيمان» بحجّة أن المشركين والمخالفين يؤذيهم فإن هذا الإيذاء جزء من منهج الامتحان الكلي في هذه الدنيا.

وهنا ينقدح سؤال وهو : أي نصر جعله الله حليف المسلمين ونصيبهم ، ليدعي المنافقون أنّهم شركاء في هذا النصر مع المسلمين؟!

ونقول في الجواب : إنّ الجملة الآنفة الذكر جاءت بصيغة «الشرط» ونعلم أنّ الجملة الشرطية لا دليل فيها على وجود الشرط ، بل مفهومها هو أنّه لو اتفق أن كان النصر حليفكم في المستقبل ، فإنّ هؤلاء المنافقين ـ ضعاف الإيمان ـ يرون أنفسهم شركاء في هذا النصر!

إضافة إلى كل ذلك فإنّ المسلمين في مكّة كانت لهم انتصارات على المشركين غير عسكرية بل انتصارات في التبليغ و «الإعلام» ونفوذ في الأفكار

٣٤٦

العامة وتوغّل الإسلام في طبقات المجتمع

ثمّ بعد هذا كله فإنّ التعبير بالإيذاء مناسب لمحيط مكّة وإلّا فقلّ أن اتفق مثل هذا الإيذاء في محيط المدينة.

وقد تنوّر واتضح ـ ضمنا ـ هذا الموضوع الدقيق ، وهو أن التعبير بالمنافق لا يختص بمن ليس في قلبه ايمان إطلاقا ويدعي الإيمان ، بل حتى الافراد من ضعاف الإيمان الذين يتراجعون عن عقيداتهم نتيجة الضغوط والتأثير بفلان وفلان فهؤلاء أيضا يعدون من المنافقين والآية محل البحث ـ كما يظهر ـ تتحدث عن هذا النوع من المنافقين ، وتصرح بأنّ الله مطلع على نيّاتهم وعليم بسرائرهم.

وفي الآية التالية ـ لمزيد التأكيد ـ يضيف القرآن قائلا :( وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ ) .

فلو تصوروا أنّهم إذا أخفوا الحقائق فإنّهم سيكونون في منأى عن علم الله فهم في خطأ كبير جدّا.

ونكرر هنا ـ مرّة اخرى أنّ التعبير بالمنافقين ليس دليلا على أنّ هذه الآيات نزلت في المدينة ، صحيح أنّ مسألة النفاق تقع عادة بعد انتصار جماعة والاستيلاء على الحكومة حيث يغير المخالفون أقنعتهم ويعملون في الخفاء حينئذ ، إلّا أن للنفاق ـ كما قلنا ـ معنى واسع ، ويشمل حتى الأفراد ضعاف الإيمان الذين يبدّلون عقيدتهم لأدنى مكروه يصيبهم.

والآية الأخرى بعدها تشير إلى منطق المشركين الخاوي والملتوي ، الذي لا يزال موجودا في طبقات المجتمع الواسعة فتقول :( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ ) (١) .

__________________

(١) جملة «ولنحمل» فعل دالّ على الأمر ، وقد ولّد هذا التعبير إشكالا عند بعض المفسّرين ، وهو : هل يمكن أن

٣٤٧

واليوم نرى كثيرا من الخبثاء يقولون للآخرين عند دعوتهم إلى أمر : إن كان فيه ذنب فعلى رقابنا!.

في حين أنّنا نعلم أنّه لا يمكن لأحد أن يتحمل وزر أحد ، وأساسا فإنّ هذا العمل ليس معقولا وليس منطقيا فالله عادل سبحانه ولا يؤاخذ أحدا بجرم الآخر.

ثمّ بعد كل ذلك فإنّ الإنسان لا تسقط عنه المسؤولية في العمل بمثل هذه الكلمات ، ولا يمكن له التنصّل منها وخلافا لما يتوهمه بعض الحمقى فإنّ مثل هذه التعبيرات لا تنقص من عقابهم حتى بمقدار رأس الإبرة.

ولذلك فلا يعتدّ بمثل هذا الكلام في أية محكمة كانت ولا يقبل من المذنب أن يقول: إن فلانا تحمّل عنّي الوزر وجعله في رقبته!.

صحيح أن ذلك الإنسان حثه على الإجرام ودفعه إلى اقترافه ، فهو شريكه ، إلّا أن هذا الاشتراك في الجريمة لا يخفّف عنه المسؤولية!

لذلك فإنّ القرآن يقول بصراحة في الجملة التالية( وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) .

هنا ينقدح السؤال التالي «إنّ الصدق والكذب هما في موارد الجمل الخبرية ، في حين أن هذه الجملة إنشائية «ولنحمل خطاياكم» وليس في الجملة الإنشائية صدق أو كذب ، فلم عبّر القرآن عنهم بأنّهم «كاذبون»؟!

والجواب على هذا السؤال يتّضح من البيان الذي ذكرناه سابقا ، وهو أن الجملة الأمرية هنا تتحول إلى جملة شرطية ، ومفهومها أنّه إن اتبعتمونا حملنا خطاياكم وآثامكم ، ومثل هذه الجملة تقبل الصدق والكذب(١) .

__________________

ـ يأمر الإنسان نفسه؟! ثمّ قالوا في رد هذا الإشكال. إنّ هذا الأمر في حكم القضية الشرطية أي «إن اتبعتمونا حملنا خطاياكم» ـ كما في تفسير الرّازي ـ إلّا أنّه في اعتقادنا لا يمنع أن يأمر الإنسان نفسه ، والآمر والمأمور شخص واحد ، إلّا أنّه ذو اعتبارين «فتأمل بدقّة».

(١) لدينا طريق آخر على الجواب على هذا السؤال ، لأنّنا نعتقد وجود الصدق والكذب في الجملة الإنشائية أيضا ،

٣٤٨

وبعد ذلك ، ومن أجل أن لا يتصور أن هؤلاء الدعاة للكفر والشرك وعبادة الأصنام والظلم ، لا شيء عليهم من العقاب لهذا العمل ، فإنّ القرآن يضيف في الآية التالية قائلا :( وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ ) .

وثقل الذنب هذا هو ثقل ذنب الإغراء والإغواء وحث الآخرين على الذنب ، وهو ثقل السنّة التي عبّر عنها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : «من سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من وزره شيء!»(١) .

المهم أنّهم شركاء في آثام الآخرين ، وإن لم ينقص من وزر الآخرين وإثمهم مقدار من رأس الإبرة.

وتختتم الآية بالقول :( وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ ) .

وينقدح هنا سؤال آخر وهو : ما المراد من هذا الافتراء الذي يسألون عنه؟! ولعل ذلك إشارة إلى الافتراءات التي نسبوها إلى الله ، وكانوا يقولون : «إن الله أمرنا أن نعبد الأصنام!».

أو أنّه إشارة إلى كلامهم الذي كانوا يقولون : «ولنحمل خطاياكم».

لأنّهم كانوا يدّعون أن مثل تلك الأعمال لا يترتب عليها إثم وإن هذا الكلام كان افتراء ، وينبغي أن يجيبوا على ما يسألون بصدده!

أو أنّه يقال لهم على نحو الحقيقة والواقع يوم القيامة : هلموا لتحملوا أثقال الآخرين ، فيمتنعون من ذلك ويظهر كذبهم وافتراءهم أو أنّ ظاهر كلامهم كان يعني أن كلّ إنسان يمكن أن يتحمل وزر الأخر ويكون مسئولا عنه ، في حين أن هذا الكلام كذب وافتراء محض أيضا ، وكل إنسان مسئول عن عمله!.

* * *

__________________

ـ ويلاحظ هذا في التعبيرات العرفية أيضا لأنّ الشخص ـ مثلا ـ إذا أمر بشيء ما فهو دليل على تعلقه به ، وحين نقول : إنّه يكذب ، فمعناه أنّه لم يطلبه «فلاحظوا بدقّة».

(١) التّفسير الكبير للرازي ، ج ٢٥ ، ص ٤٠.

٣٤٩

مسألتان

١ ـ السنن الحسنة والسنن السيئة :

التخطيط لعمل ما ـ أو لمنهج ما ـ في المنطق الإسلامي له أثره ويحمل صاحبه المسؤولية عنه ـ شاء أم أبى ـ ويكون مشاركا للآخرين الذين يعملون بما خططه وسنّه ، لأنّ أسباب العمل هي من مقدمات العمل ، ونعرف أن كل شخص يكون دخيلا في مقدمة عمل إنسان آخر فهو شريكه أيضا ، فحتى لو كانت المقدمة بسيطة ، إلّا أن ذلك الشخص شريك مع ذي المقدمة.

والشاهد على هذا الكلام حديث منقول عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو أن سائلا جاء والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في طائفة من صحابته فطلب العون فلم يجبه أحد ، ثمّ قام اليه رجل وناوله شيئا فقام : الآخرون ورغّبوا في إعانته فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «من سنّ خيرا فاستن به كان له أجره ومن أجور من تبعه غير منتقص من أجورهم شيئا ، ومن سنّ شرّا فاستن به كان عليه وزره ومن أوزار من تبعه غير منتقص من أوزارهم شيئا»(١) .

وقد ورد نظير هذا الحديث بعبارات مختلفة في مصادر الحديث عند الشيعة والسنة وهو حديث مشهور.

٢ ـ جواب على سؤال :

أثار بعضهم هنا هذا السؤال ، وهو أنّنا نلاحظ أحيانا في القوانين الإسلامية أن الدية تقع على شخص آخر فمثلا في حالة قتل «الخطأ المحض» تقع الدية على العاقلة «والمراد بالعاقلة أقارب الرجل الذكور من طرف الأب الذين تتوزع فيما بينهم دية قتل الخطأ المحض ، ويدفع كلّ منهم قسما حتى تتمّ الدية!».

أو ليست هنا منافاة بين هذه المسألة وبين الآيات المتقدمة؟

__________________

(١) تفسير الدر المنثور

٣٥٠

وفي الجواب على هذا السؤال نقول : إنّ «ضمان العاقلة» في الحقيقة نوع من التأمين الإلزامي المتقابل بين أعضاء العشيرة الواحدة.

فالإسلام ـ من أجل أن لا يتحمل الفرد الواحد العبء الثقيل للدية ـ ألزم أفراد العشيرة بأن يضمن بعضهم بعضا في ديّة قتل الخطأ ، وأن يقسموا المبلغ فيما بينهم فيدفع كل فرد منهم حصّة.

فقد يخطئ اليوم أحدهم ، وغدا قد يرتكب هذا الخطأ شخص آخر من العشيرة «لمزيد الإيضاح نوكل المراجعة إلى الكتب الفقهية ، بحث الديات».

وعلى كل حال ، فإنّ هذا المنهج نوع من التعاون في سبيل حفظ المنافع المتقابلة ، ولا يعني بأي وجه تحمل وزر الآخرين ، خاصة وأنّ دية قتل الخطأ ليست أصلا جريمة ذنب ، بل هي تعويض عن الخسارة! «فتأمل بدقّة».

* * *

٣٥١

الآيات

( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (١٥) وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١٩) )

التّفسير

إشارة لقصتي نوح وإبراهيم :

لما كان الكلام في البحوث السابقة عن الامتحانات العامّة في الناس ، فإنّ

٣٥٢

الكلام هنا ـ وفي ما بعد ـ يقع على الامتحانات الشديدة للأنبياء ، وكيف أنّهم كانوا تحت ضغط الأعداء وإيذائهم ، وكيف صبروا وكانت عاقبة صبرهم النصر! ليكون هذا الكلام تسلية لقلوب أصحاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الذين كانوا تحت وطأة التعذيب الشديد من قبل الأعداء ـ من جانب ـ وتهديدا للأعداء لينتظروا عاقبتهم الوخيمة من جانب آخر.

تبدأ الآيات أوّلا بالكلام على أوّل نبي من أولي العزم وهو «نوح»عليه‌السلام ، وتتحدث عنه بعبارات موجزة ، لتجمل قسما من حياته التي تناسب ـ كثيرا ـ الواقع الراهن للمسلمين ـ آنئذ ـ فتقول :( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً ) .

كان نوح مشغولا ليل نهار بالتبليغ ودعوة قومه إلى توحيد الله ـ فرادى ومجتمعين ، مستفيدا من جميع الفرص في هذه المدة الطويلة (أي تسعمائة وخمسين عاما) يدعوهم إلى الله ولم يشعر بالتعب والنصب من هذا السعي المتتابع ولم يظهر عليه الضعف والفتور.

ومع كل هذا الجهد الجهيد لم يؤمن به إلّا جماعة قليلة في حدود الثمانين شخصا كما تنقل التواريخ (أي بمعدّل نفر واحد لكل اثنتي عشرة سنة!).

فعلى هذا لا تظهروا الضعف والتعب في سبيل الدعوة إلى الحق ومواجهة الانحرافات ، لأنّ منهجكم أمام منهج «نوح» سهل للغاية.

لكن لاحظوا كيف كانت عاقبة قوم نوح الظالمين الألدّاء :( فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ ) .

وهكذا انطوى «طومار» حياتهم الذليلة ، وغرقت قصورهم وأجسادهم وآثارهم في الطوفان وأمواجه.

والتعبير بـ( أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً ) مع إمكان القول «تسعمائة وخمسين سنة» من البداية ، هو إشارة إلى عظمة المدة وطول الزمان ، لأنّ عدد

٣٥٣

«الألف» وأيّ ألف؟ ألف سنة! يعدّ مهما وعددا كبيرا بالنسبة لمدّة التبليغ.

وظاهر الآية الآنفة أنّ هذا المقدار لم يكن هو عمر نوحعليه‌السلام بتمامه (وإن ذكر ذلك في التوراة الحديثة ، في سفر التكوين الفصل التاسع) بل عاش بعد الطوفان فترة أخرى ، وطبقا لما قاله بعض المفسّرين فقد كانت الفترة هذه ثلاثمائة سنة!

طبعا هذا العمر الطويل بالقياس إلى أعمار زماننا كثير جدا ولا يعدّ طبيعيّا أبدا ، ويمكن أن يكون ميزان العمر في ذلك العصر متفاوتا مع عصرنا هذا وبناء على المصادر التي وصلت إلى أيدينا فإنّ قوم نوح كانوا معمرين ، وعمر نوح بينهم أيضا كان أكثر من المعتاد ، ويشير هذا الأمر ضمنا إلى هيئة تركيب أجسامهم كانت تمكّنهم من أن يعمّروا طويلا.

إنّ دراسات العلماء في العصر الحاضر تدلّ على أن عمر الإنسان ليس له حد ثابت ، وما يقوله بعضهم بأنّه محدود بمائة وعشرين سنة ، وأكثر أو أقل ، فلا أساس له بل يمكن أن يتغير بحسب اختلاف الظروف.

واليوم وبواسطة التجارب استطاع العلماء أن يضاعفوا عمر قسم من النباتات أو الموجودات الحيّة ، إلى اثني عشر ضعفا على العمر الطبيعي ، وحتى في بعض الموارد ـ ولا تتعجبوا ـ أو صلوا هذه الفترة للنباتات أو غيرها إلى تسعمائة مرّة ضعف عمرها الطبيعي وإذا حالفهم التوفيق فيمكنهم أن يضاعفوا عمر الإنسان ، فيمكن أن يعمّر الإنسان عندئذ آلاف السنين.(١)

وينبغي الالتفات ضمنا إلى أن كلمة «الطوفان» في الأصل معناها كل حادثة تحيط بالإنسان ، وهي مشتقّة من مادة «الطواف» ، ثمّ استعمل هذا التعبير للماء الغزير أو السيل الشديد الذي يستوعب مساحة كبيرة من الأرض ويغرقها ، كما يطلق على كل شيء كثير وشديد وفيه حالة الاستيعاب ، سواء كان ريحا أو نارا

__________________

(١) لمزيد التوضيح في مسألة طول العمر ، بمناسبة الأبحاث المتعلقة بطول عمر المهديعليه‌السلام ، يراجع كتاب «المهدي تحول كبير».

٣٥٤

أو ماء ، فيسمى كلّ منها طوفانا كما قد يرد بمعنى ظلمة الليل الشديدة أيضا.(١) الطريف أنّ القرآن يقول :( وَهُمْ ظالِمُونَ ) أي إنّهم حين وقوع العذاب «الطوفان» كانوا لا يزالون في ظلمهم أيضا.

وهذا إشارة إلى أنّهم لو تركوا تلك الأعمال ، وندموا على ما فعلوا ، وتوجّهوا إلى الله ، لما ابتلوا بمثل هذه العاقبة أبدا.

ويضيف القرآن الكريم في الآية الأخرى( فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ ) (٢) .

ثمّ يعقّب على قصّة نوح وقومه التي وردت بشكل مضغوط ، ويأتي بقصّة إبراهيمعليه‌السلام ، ثاني الأنبياء الكبار من أولي العزم فيقول :( وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) (٣) .

هنا بيّن القرآن منهجين مهمّين من مناهج الأنبياء العملية والاعتقادية ، وهما الدعوة إلى توحيد الله والتقوى ـ في مكان واحد ـ ثمّ يختتم القول : أن لو فكرتم جيدا لكان ذلك خيرا لكم عند اتباعكم لمذهب التوحيد والتقوى ، إذ ينجيكم من دنياكم الملوّثة بالذنوب والشقاء ، وتكون آخرتكم هي السعادة الأبديّة.

ثمّ يذكر إبراهيمعليه‌السلام أدلة بطلان عبادة الأصنام والأوثان ، ويبيّن في تعابير مختلفة يتضمّن كل منها دليلا على فساد مذهبهم وبطلانه فيقول أوّلا :( إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً ) .

هذه الأوثان هي الأصنام الخالية من الروح الأصنام التي ليس لها إرادة ،

__________________

(١) المفردات للراغب.

(٢) القول في ما هو مرجع الضمير في «جعلناها» للمفسّرين احتمالات كثيرة ، فبعضهم قال : هو إشارة إلى مجموع هذه الواقعة والحادثة ، وقال بعضهم : هي نجاة نوحعليه‌السلام فحسب ـ مع أصحابه ـ وأشار بعضهم إلى أن المراد من «جعلناها» هي السفينة ، وظاهر العبارة المتقدمة ـ أيضا ـ تؤيد هذا الاحتمال الأخير ، وحقا كانت هذه السفينة آية من آيات الله في ذلك العصر ، وفي تلك الحادثة العظيمة.

(٣) الظّاهر أنّ «إبراهيم» معطوف على كلمة «نوح» وفعله «أرسلنا» ، وبعضهم عطفه على مفعول (أنجيناه) وبعضهم جعله مفعولا لفعل محذوف تقديره «اذكر».

٣٥٥

ولا عقل ، وهي فاقدة لكل شيء ، بحيث أن شكلها بنفسه هو دليل على بطلان عقيدة «عبادة الأوثان»

(لاحظوا أن «الأوثان» هي جمع لكلمة «وثن» على زنة «صنم» ومعناها «الحجارة المنحوتة» الموضوعة للعبادة!).

ثمّ يتوسع في حديثه ويمضي إلى مدى أبعد فيقول : ليست هذه الأوثان بهيئتها تدل على أنّها لا تستحق العبادة فحسب ، بل أنتم تعلمون بأنّكم تكذبون وتضعون اسم الآلهة على هذه الأوثان :( وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً ) .

فأي دليل لديكم على هذا الكذب سوى حفنة من الأوهام والخرافات الباطلة.

وحيث أن كلمة «تخلقون» مشتقّة من الخلق ، وتعني أحيانا الصنع والإبداع ، وأحيانا تأتي بمعنى الكذب ، فإنّ بعض المفسّرين ذكر تفسيرا آخر لهذه الجملة غير ما بيّناه آنفا وقالوا إنّ المقصود من هذا التعبير هو أنّكم تنحتون هذه الأوثان المعبودات الباطلة المزوّرة بأيديكم ، وتصنعونها (فيكون المراد من الإفك هنا هو المعبودات المزورّة) والخلق هو النحت هنا(١) .

ثمّ يبيّن الدليل الثّالث وهو أن عبادتكم لهذه الأوثان إمّا لأجل المنافع المادية ، أو لعاقبتكم في «الأخرى» وكلا الهدفين باطل وذلك :( إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً ) .

وأنتم تعتقدون بأنّ هذه الأصنام لم تكن خلقتكم ، بل الخالق هو الله ، فالذي يتكفل بالرزق هو الله( فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ ) .

ولأنّه هو الذي يرزقكم فتوجهوا إليه( وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ ) .

وبتعبير آخر ، فإن واحدا من أسباب العبادة وبواعثها هو الإحساس بالشكر

__________________

(١) «الإفك» يطلق في الأصل على كل شيء مختلف عن حقيقته ، ولذلك يطلق على الكذب ـ خاصة الكذب الكبير ـ أنّه إفك ، كما تطلق هذه الكلمة على الرياح المخالفة لاتجاهها ومسيرها فيقال «رياح مؤتفكة».

٣٥٦

للمنعم الحقيقي ، وتعرفون أن المنعم الحقيقي هو الله ، فالشكر والعبادة يختصان ـ أيضا ـ بذاته المقدسة.

وإذ كنتم تبتغون الدار الأخرى فإنّه( إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) .

فالأصنام لا تصنع شيئا هنا ولا هناك!.

وبهذا الأدلّة الموجزة والواضحة ألجم منطقهم الواهي وأفحمهم.

ثمّ يلتفت إبراهيمعليه‌السلام مهدّدا لهم ومبديا عدم اكتراثه بهم قائلا :( وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ) كذبوا أنبياءهم فنالوا الخزي بتكذيبهم والعاقبة الوخيمة( وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) سواء استجاب له قومه ، أم لم يستجيبوا له دعوته وبلاغه!

والمقصود بالأمم قبل أمة إبراهيمعليه‌السلام ، أمة نوحعليه‌السلام وما بعده من الأمم وبالطبع فإنّ ارتباط هذه الآيات يوجب أن تكون هذه الجملة من كلمات إبراهيمعليه‌السلام ، وهذا ما يذهب إليه كثير من المفسّرين عند تفسيرهم للنص ، أو يحتملون ذلك!.

والاحتمال الآخر : إنّ الخطاب في هذه الآية للمشركين من أهل مكّة المعاصرين للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وجملة( كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ) فيها تتناسب أكثر مع هذا الاحتمال.

أضف إلى ذلك ، فإنّ نظير هذا التعبير الذي ورد في الآية ٢٥ من سورة الزمر ، والآية (٢٥) من سورة فاطر ، هو أيضا في شأن نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله والمشركين العرب في مكّة. ولكن ـ وعلى أي حال ـ أيّا من التّفسيرين كان ذلك ، فليس هناك تفاوت في النتيجة!.

والقرآن يترك قصّة إبراهيم هنا مؤقتا ، ويكمل البحث الذي كان لدى إبراهيم في صدد التوحيد وبيان رسالته بدليل المعاد ، فيقول :( أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) .

٣٥٧

والمراد بالرؤية هنا هي الرؤية «القلبية» والعلم ، أي كيف لا يعرف هؤلاء خلق الله؟ فالذي له القدرة على الإيجاد أولا قادر على إعادته أيضا ، فالقدرة على شيء ما هي قدرة على أمثاله وأشباهه أيضا.

كما يأتي هذا الاحتمال ، وهو أنّ الرؤية هنا هي الرؤية «البصيريّة» والمشاهدة بالعين لأنّ الإنسان يرى بعينيه كيف تحيا الأرض وتنمو النباتات ، وتتولد الدجاجة من البيض ، والأطفال من النطف فمن له القدرة على هذا الأمر قادر على أن يحيي الموتى من بعد أيضا.

ويضيف في آخر الآية على سبيل التأكيد( إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ) . لأنّ تجديد الحياة قبال الإيجاد الأوّل يعدّ أمرا بسيطا.

وطبيعي أنّ هذا التعبير يناسب منطق الناس وفهمهم ، وإلّا فإن اليسير والعسير لا مفهوم لهما عند من قدرته غير محدودة والمطلقة فهذه قدراتنا التي أوجدت مثل هذا «المفهوم» ، ومع الالتفات إلى إنجازها ظهرت لدينا أمور يسيرة وأخرى عسيرة.

* * *

٣٥٨

الآيات

( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٣) )

التّفسير

الآيسون من رحمة الله :

هذه الآيات تواصل البحث في المعاد أيضا ، على صورة جمل معترضة في قصّة إبراهيمعليه‌السلام .

وليست هذه أوّل مرّة نواجه فيها مثل هذا الأسلوب فهذه هي طريقة القرآن دائما ، فعند ما يبلغ مرحلة حساسة من ذكر قصّة ما ، يترك بقيّة القصّة مؤقتا للاستنتاج أكثر ، ثمّ يعطي النتائج اللازمة.

وعلى كل حال ، فإنّ القرآن يدعو في الآية الأولى من هذا المقطع الناس إلى

٣٥٩

«السير في الآفاق» في مسألة المعاد في حين أن الآية السابقة كانت السمة فيها «السير في الأنفس» أكثر! يقول القرآن :( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ) انظروا الى أنواع الموجودات الحية ، والأقوام والأمم المتنوعة والمختلفة ، وكيف أنّ الله تعالى خلقها أولا ، ثمّ أن الله نفسه الذي أوجدها في البداية من العدم قادر ايضا على إيجادها في الآخرة( ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ) .

ولأنّه أثبت قدرته على كل شيء حين خلق الخلق أولا ، إذن فـ( إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .

فهذه الآية والآية التي قبلها ـ أيضا ـ أثبتتا بواسطة قدرته الواسعة إمكان المعاد مع فرق أن الآية الأولى تتحدث عن الإنسان نفسه وخلقه وما حوله!

والآية الثّانية تأمر بمطالعة حالات الأمم والموجودات الأخرى ، ليروا الحياة الأولى في صور مختلفة وظروف متفاوتة تماما ، وليطّلعوا على عموميّة قدرة الله ، وليستيقنوا قدرته على إعادة هذه الحياة!.

كما أن إثبات التوحيد يتمّ ـ أحيانا ـ عن طريق مشاهدة «الآيات في الأنفس» وأحيانا عن طريق «الآيات في الآفاق» فكذلك يتمّ إثبات المعاد عن هذين الطريقين أيضا.

وفي عصرنا هذا يمكن أن تبيّن هذه الآيات للعلماء معنى أعمق وأدق ، وهو أن يمضوا ويلاحظوا الموجودات الحيّة الأولى التي هي في أعماق البحار على شكل فسائل ونباتات وغيرها ، وفي قلب الجبال ، وبين طبقات الأرض ، ويطلعوا على جانب من أسرار بداية الحياة على وجه الأرض ، ويدركوا عظمة الله وقدرته ، وليعلموا أنّه قادر على إعادة الحياة أيضا(١) .

__________________

(١) سبق أن تعرضنا إلى بحث حول «السير في الأرض» وآثاره ، غير أنّ البحث الفائت كانت فيه جوانب من دروس العبرة في مجال قصص الأمم الماضية وطغاتها. التّفسير الأمثل ذيل الآية (١٣٧) سورة آل عمران ، فلا بأس بمراجعتها.

٣٦٠

هذا وإن كلمة «النشأة» في الأصل ، تعني إيجاد الشيء وتربيته ، وقد يعبر أحيانا عن الدنيا بالنشأة الأولى ، كما يعبر عن الأخرى بالنشأة الآخرة!.

وهذه اللطيفة جديرة بالملاحظة ، وهي أنّ في ذيل الآيات السابقة ورد التعبير «إن ذلك على الله يسير» وورد التعبير هنا( إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .

ولعل منشأ التفاوت والاختلاف هو أن الآية الأولى تعالج مطالعة محدودة ، أمّا الثّانية فتعالج وتبيّن مطالعة وسيعة جدّا.

ثمّ يتعرض القرآن الكريم إلى إحدى المسائل المتعلقة بالمعاد ، وهي مسألة الرحمة والعذاب ، فيقول :( يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ) .

ومع أنّ رحمة الله مقدمة على غضبه ، إلّا أن الآية هنا تبدأ أولا بذكر العذاب ثمّ الرحمة ، لأنّها في مقام التهديد ، وما يناسب مقام التهديد هو هذا الأسلوب!.

هنا ينقدح السؤال التالي :

كيف يتحدث القرآن أوّلا عن العذاب والرحمة ، ثمّ يتحدث عن معاد الناس إليه( وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ) ؟ في حين أن القضية على العكس من ذلك ، ففي البداية يحضر الناس عند ساحته ، ثمّ يشملهم العذاب أو الرحمة وربّما كان هذا هو السبب في أن يعتقد بعضهم أن العذاب والرحمة المذكورين هنا هما في هذه الدنيا.

ونقول جوابا على مثل هذا السؤال : إن العذاب والرحمة ـ بقرينة الآيات السابقة واللاحقة ـ هما عذاب القيامة ورحمتها ، وجملة( وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ) إشارة إلى الدليل على ذلك : أي : بما أنّ معادكم إليه وكتابكم وحسابكم لديه ، فالعذاب والرحمة ـ أيضا ـ بإرادته وتحت أمره!.

ولا يبعد أن يكون العذاب والرحمة في هذه الآية لهما معنى واسع ، بحيث

٣٦١

يشمل العذاب والرحمة في الدارين.

كما يتّضح أنّ المراد بقول :( مَنْ يَشاءُ ) هو المشيئة الإلهية المقرونة بحكمته ، أي كل من كان جديرا ومستحقا لذلك فإن مشيئة الله ليست عبثا ، بل منسجمة مع الاستحقاق والجدارة!.

وجملة «تنقلبون» من مادة «القلب» ومعناها في الأصل : تغيير الشيء من صورة إلى صورة أخرى ، وحيث أن الإنسان في يوم القيامة يعود إلى هيئة الموجود الحي الكامل بعد أن كان ترابا لا روح فيه ، فقد ورد هذا التعبير في إيجاده ثانية أيضا.

ويمكن أن يكون هذا التعبير إشارة إلى هذه اللطيفة الدقيقة ـ أيضا ـ وهي أن الإنسان يتبدل في الدار الأخرى ويتغيّر تغيرا ينكشف باطنه به وتتجلى أسراره الخفية ، وبهذا فهي تنسجم مع الآية (٩) من سورة الطارق( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) .

وإكمالا لهذا البحث الذي يبيّن أن الرحمة والعذاب هما بيد الله والمعاد إليه ، يضيف القرآن : إذا كنتم تتصورون أنّكم تستطيعون أن تهربوا من سلطان الله وحكومته ولا يمسّكم عذابه ، فأنتم في خطأ كبير فليس الأمر كذلك!( وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ ) (١) .

وإذا كنتم تتصورون أنّكم تجدون من يدافع عنكم وينصركم هناك ، فهذا خطأ محض أيضا( وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) .

وفي الحقيقة ، فإنّ الفرار من قبضة الله وعذابه ، إمّا بأن تخرجوا من حكومته ، وإمّا بأن تعتمدوا مع بقائكم في حكومته على قدرة الآخرين لتدافعوا عن أنفسكم ، فلا الخروج ممكن ، لأنّ البلاد كلّها له وعالم الوجود كلّه ملكه الواسع ،

__________________

(١) كلمة «معجزين» مشتقّة من مادة «عجز» ، ومعناها في الأصل التخلّف والتأخر عن الشيء ، ولذلك تستعمل هذه الكلمة في الضعف الباعث على التخلف والتأخر ، «المعجزة» معناه الذي يجعل الآخر عاجزا ، وحيث أن الأفراد الذين يفرون من سلطان أحد وقدرته ، يعجزونه عن ملاحقتهم ، لذلك استعملت كلمة «معجز» في هذا الصدد أيضا

٣٦٢

ولا يوجد أحد يستطيع أن يقف أمام قدرته وينهض للدفاع عنكم.

يبقى هنا سؤالان : ـ

أوّلا : مع الالتفات إلى هذه الحقيقة ، وهي أن مقصود الآية هو في الكفار والمشركين ، وهم سكنة الأرض ، فما معنى قوله تعالى :( وَلا فِي السَّماءِ ) وأي مفهوم له هنا؟!

وينبغي أن يقال في الجواب ، أن هذا التعبير هو نوع من التأكيد والمبالغة ، أي إنكم لا تستطيعون أن تخرجوا من قدرة الله وسلطانه في هذه الأرض ، ولا في السماوات ، إذ حتى لو فرضنا أنّكم تستطيعون أن تصعدوا في السماء ، فما زلتم تحت قدرته وسلطانه.

أو إنّه : لا تستطيعون أن تعجزوا الله في مشيئته بواسطة من في الأرض ، ولا بواسطة من تعبدون في السماوات ، من أمثال الملائكة والجن (والتّفسير الأوّل أكثر مناسبة ـ طبعا ـ)

ثانيا : ما الفرق بين الولي والنصير؟!

يرى العلامة «الطبرسي» في «مجمع البيان» وقيل : إن الولي الذي يتولى المعونة بنفسه والنصير يتولى النصرة تارة بنفسه بأن يأمره غيره به»(١) .

بل يمكن القول مع ملاحظة الكلمتين هاتين ، أن الولي إشارة إلى من يعيّن دون طلب (من عليه الولاية) ، والنصير هو المستصرخ الذي يأتي لإعانة الإنسان بعد استصراخه.

وهكذا يغلق القرآن جميع أبواب الفرار بوجه هؤلاء المجرمين

لذلك يقول في الآية التي بعدها بشكل قاطع :( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي )

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ، ص ٣٥٢.

٣٦٣

ثمّ يضيف مؤكدا :( وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) .

هذا «العذاب الأليم» هو لزم اليأس من رحمة الله.

والمراد بـ «ايات الله» إمّا هي «الآيات التكوينية» أي آثار عظمة الله في نظام خلقه وإيجاده ، وفي هذه الصورة فهي إشارة إلى مسألة التوحيد ، في حين أن كلمة «لقائه» إشارة إلى مسألة المعاد ، أي إنّهم منكرون للمبدأ وللمعاد كليهما.

أو أنّ المراد من آيات الله هي «الآيات التشريعية» أي هي الآيات التي أنزلها الله على أنبيائه ، التي تتحدث عن المبدأ وعن النبوة وعن المعاد ، وفي هذه الحال يكون التعبير بـ «لقائه» من قبيل ذكر الخاص بعد العام.

كما يمكن أن يكون المقصود من آيات الله هي جميع الآيات في عالم الوجود والتشريع.

وينبغي ذكر هذه المسألة ـ أيضا ـ وهي أن «يئسوا» فعل ماض والهدف منه هو الاستقبال ـ أي في يوم القيامة ـ والعرب عادة إذا تحدثوا عن أمر مستقبلي بصورة التأكيد عبروا عنه بصيغة الماضي ، للدلالة على تحققه قطعا وحتما.

* * *

٣٦٤

الآيات

( فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٥) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) )

التّفسير

أسلوب المستكبرين في جوابهم لإبراهيم :

والآن علينا أن نعرف ماذا قال هؤلاء القوم الضّالون لإبراهيمعليه‌السلام ردّا على أدلته الثّلاثة في مجال التوحيد والنّبوة والمعاد؟!

إنّهم ـ قطعا ـ لم يكن لديهم جواب منطقي وكجميع الأقوياء المستكبرين فقد توسّلوا بقدراتهم الشيطانية وأصدروا أمرا بقتله ، حيث يصرّح بذلك القرآن الكريم فيقول :( فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ! ) .

٣٦٥

ويستفاد من هذا التعبير أن جماعة كانوا يميلون إلى حرق إبراهيم بالنّار ، في حين كانت جماعة أخرى تقترح أن يقتل بالسيف أو ما شاكله!

وأخيرا رجح الرأى الأوّل ، لأنّهم كانوا يعتقدون أنّ أشدّ حالات الإعدام هو الإحراق بالنّار.

كما ويحتمل أيضا أنّهم جميعا كانوا يفكرون في قتله بالوسائل الطبيعية ، غير أنّهم اتفقوا أخيرا على إحراقه بالنّار ، وأن يبذلوا قصارى جهدهم في هذا الأمر.

وفي هذه الآية الكريمة لم يرد كلام عن كيفية إحراق إبراهيمعليه‌السلام بالنّار سوى هذا المقدار الذي استكملت به الآية الكريمة ، وهو( فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ ) .

غير أن تفصيل ما جرى عليه من الإحراق ورد في سورة الأنبياء (الآيات ٦٨ ـ ٧٠) وقد بيّنا ذلك هناك ، فلا بأس بمراجعته!

ويضيف القرآن في الختام( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) .

ولم تكن علامة وآية واحدة في هذا الصدد وفي هذه الحادثة ، بل علائم وآيات فمن جانب فإنّ عدم تأثير النّار في جسد إبراهيم بنفسه معجزة واضحة ، وتبدل النّار إلى روضة و «سلام» على إبراهيم كما هو معروف معجزة أخرى ، وعدم استطاعة هذه الجماعة القوية التغلب على شخص واحد ـ وهو أعزل من كل وسيلة بحسب الظاهر ـ كان معجزة ثالثة أيضا.

كما أنّ عدم تأثير هذا الحادث العجيب الخارق للعادة في أولئك المظلمة قلوبهم ، آية من آيات الله ، إذ يسلب التوفيق من أمثال هؤلاء الأفراد المعاندين الألدّاء ، بحيث لا تؤثر فيهم أعظم الآيات!.

وقد ورد في بعض الرّوايات أنّه لما القي بإبراهيم الخليل مكتوف اليدين والرجلين في النّار ، فإن الشيء الوحيد الذي احترق منه هو الحبل الذي كان مشدودا وموثقا به(١) .

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، ج ٢٠ ، ص ١٣٠.

٣٦٦

أجل ، إنّ نار الجهل وجناية المنحرفين إنّما أحرقت وسائل الأسر ، فتحرر إبراهيمعليه‌السلام منها وهذه بنفسها تعدّ آية أخرى.

وربّما كان ـ لهذه الأسباب ـ أن عبّر القرآن عن قصّة نوح وسفينته بقوله :( جَعَلْناها آيَةً ) بصيغة الإفراد ، ولكنّه عبّر هنا بقوله :( لَآياتٍ ) بصيغة الجمع!.

وعلى كل حال فإنّ ابراهيمعليه‌السلام نجّي من النّار بصورة خارقة للعادة وبلطف الله سبحانه ، غير أنّه لم يترك أهدافه بل نهض بالأمر وازداد همّة وأعطى لأهدافه حرارة أكثر.

ثمّ توجه إبراهيم إلى المشركين( وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) ولكن هذه المودّة والمحبّة تتلاشى في الآخرة( ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ ) .

كيف تكون الأوثان أساسا للمودّة بين عبدة الأوثان؟!

هذا السؤال يمكن الإجابة عليه من عدّة طرق :

الأوّل : أن عبادة الصنم أو الوثن كانت رمزا للوحدة لكل قوم ولكل قبيلة ، لأنّ كل جماعة اختارت لنفسها وثنا ، كما ذكروا في شأن أصنام الجاهلية ، إذ كان كل صنم يعود لقبيلة من القبائل العربية ، فصنم «العزّى» كان لقريش ، و «اللّات» كان خاصا بثقيف ، أمّا «منات» فكان خاصا بالأوس والخزرج!.

الثّاني : أن عبادة الأوثان تربط بينهم وبين أسلافهم وغالبا ما كانوا يعتذرون بمثل هذا العذر ويقولون : إنّ هذه الأوثان كان عليها السلف ونحن نتبع السلف ونمضي على دين آبائنا.

ثمّ بعد هذا كلّه فإنّ سراة(١) الكفار كانوا يدعون أتباعهم إلى عبادة الأوثان ، وكان هذا الأمر بمثابة «حلقة الاتصال» بين السراة والأتباع.

__________________

(١) «السراة» جمع مفردها سريّ ـ كبير القوم. (المصحح)

٣٦٧

ولكن هذه العلائق والوشائج والارتباطات الخاوية تتقطع جميعها يوم القيامة ، وكل فرد يلقي التبعة والذنب على رقبة الآخر ، ويلعنه ويتبرأ منه ومن عمله ، حتى المعبودات التي كانوا يتصورون أنّها الوسيلة إلى الله ، وكانوا يقولون في شأنها( ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى ) ،(١) ـ تتبرأ منهم.

وكما يصوّر القرآن هذه الحالة في سورة مريم الآية ٨٢ يقول :( كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ) .

فعلى هذا ، يكون المراد من قوله تعالى :( يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ) هو أنّهم يتبرأ بعضهم من بعض في ذلك اليوم ، وما كان أساسا لعلاقة المودة الكاذبة في الدنيا يكون مدعاة للعداوة والبغضاء في الآخرة كما يعبّر القرآن عن ذلك في الآية (٦٧) من سورة الزخرف فيقول :( الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ) .

ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ هذا الحكم غير مختص بعبدة أوثان ، بل هو لجميع أولئك الذين اختاروا «إماما باطلا» لأنفسهم ، فاتبعوه وتعاهدوا معه على المودة ، ففي يوم القيامة يكونون أعداء فيما بينهم ، ويتبرأ بعضهم من بعض ويلعن بعضهم بعضا.(٢) في حين أنّ علاقة المحبّة بين المؤمنين قائمة على أساس التوحيد وعبادة الله وإطاعة أمر الحق في هذه الدنيا وهذه العلاقة سيكتب لها الدوام ، وفي الآخرة تكون أكثر تماسكا حين إنّه يستفاد من بعض الروايات أنّ المؤمنين يستغفر بعضهم لبعض ويتشفع بعضهم لبعض في يوم القيامة في وقت يتبرأ فيه المشركون بعضهم من بعض ويلعن بعضهم بعضا(٣) .

وفي الآية التي بعد تلك الآية إشارة إلى إيمان لوط وهجرة إبراهيم ، إذ تقول :

__________________

(١) سورة الزمر ، الآية ٣.

(٢) أصول الكافي ، طبقا لما ورد في تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١٥٤.

(٣) كتاب الصدوق ، طبقا لما ورد في تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١٥٤.

٣٦٨

( فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ) .

«لوط» نفسه من الأنبياء العظام ، وكانت له مع إبراهيم علاقة قربى «يقال إنّه كان ابن أخت ابراهيمعليه‌السلام » وحيث أن اتّباع شخص عظيم ـ لإبراهيم ـ بمنزلة أفراد امّة كاملة فقد تحدث سبحانه ـ خاصة ـ عن إيمان «لوط» وشخصيته الكبرى المعاصرة لإبراهيمعليه‌السلام ، ليتّضح أنّه إذ لم يؤمن الآخرون ، فإنّ ذلك ليس مهمّا.

ويبدوا أنّه كانت في أرض بابل قلوب مهيأة لقبول دعوة إبراهيم الخليلعليه‌السلام ، وقد التفوا حوله بعد مشاهدة تلك المعجزة العظيمة ، غير أنّه من المسلّم به أنّهم كانوا «أقليّة».

ثمّ تضيف الآية عن هجرة إبراهيمعليه‌السلام فتقول :( وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .

ومن الوضوح بمكان أنّه حين يؤدي القادة الإلهيون رسالتهم في محيط ما ، ويكون هذا المحيط ملوّثا وتحت تأثير الجبابرة ، بحيث لا تتقدّم دعوتهم أكثر ، فينبغي أن يهاجروا إلى منطقة أخرى لتتسع دعوة الله في الأرض!.

فلذلك تحرك ابراهيمعليه‌السلام وزوجه سارة ـ بمعيّة لوط ـ من بابل إلى أرض الشام مهد الأنبياء والتوحيد ، ليستطيع أن يكتسب جماعة هناك ويوسع دعوة التوحيد!.

من الطريف أنّ إبراهيمعليه‌السلام يقول في هذا الصدد :( إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي ) لأنّ ذلك الطريق كان طريق الله ، طريق رضاه ، وطريق دينه ومنهاجه.

وبالطبع فإنّ بعض المفسّرين احتمل أن يكون الضمير في قوله تعالى :( وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ ) عائد على لوطعليه‌السلام ، أي إنّ لوطا قال : إنّي مهاجر إلى ربّي ، وظاهر الجملة منسجم مع هذا المعنى أيضا ، إلّا أن الشواهد التاريخية تدلّ على أن الضمير يعود على إبراهيمعليه‌السلام ، وكانت هجرة لوط بمعية إبراهيم.

٣٦٩

والشاهد على هذا الكلام قول إبراهيمعليه‌السلام في الآية (٩٩) من سورة الصافات( إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ ) .(١) وفي آخر آية من هذا المقطع يقع الكلام على المواهب الأربع التي منحها الله لإبراهيمعليه‌السلام بعد الهجرة العظيمة :

الموهبة الأولى : الأبناء الصالحون ، من أمثال إسحاق ويعقوب ، ليسرجوا مصباح الإيمان والنّبوة في بيته وأسرته ويحافظوا عليه ، إذ يقول القرآن :( وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ) وهما نبيّان كبيران واصل كلّ منهما السير على منهاج إبراهيمعليه‌السلام محطم الأصنام.

الموهبة الثّانية :( وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ ) ولم تكن النّبوة في إسحاق بن إبراهيم ويعقوب حفيده فحسب ، بل استمر خط النّبوة في ذريّة إبراهيمعليه‌السلام وأسرته حتى نبوّة خاتم الأنبياء محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متعاقبون من ذرية إبراهيم ، نوّروا العالم بضياء التوحيد.

الموهبة الثّالثة :( وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا ) فما هو هذا الأجر الذي لم يوجهه القرآن؟ لعله إشارة إلى أمور مختلفة مثل الاسم الحسن ، ولسان الصدق والثناء بين جميع الأمم ، لأنّ الأمم كلها تحترم ابراهيمعليه‌السلام على أنّه نبي عظيم الشأن ، ويفتخرون بوجوده ويسمونه «شيخ الأنبياء».

عمارة أرض مكّة كانت بدعائه ، وجذب قلوب الناس جميعا نحوه ، لتتذكر ذكريات التجلي والإيمان كل سنة في مناسك الحج ، كل ذلك من هذا الأجر المشار اليه في القرآن.

الموهبة الرّابعة : هي( إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) وهكذا تشكّل هذه

__________________

(١) هناك بحث مفصل في هجرة إبراهيمعليه‌السلام من بابل إلى الشام في ذيل الآية (٧١) من سورة الأنبياء من التّفسير الأمثل ، فلا بأس بمراجعته.

٣٧٠

المواهب مجموعة كاملة من المفاخر.

* * *

ملاحظتان

١ ـ أكبر الفخر!

«الدخول في الصالحين» بالشكل الذي يستنتج من كثير من آيات القرآن هو أوج الفخر ، وقد يحظى به انسان معين فيكون من نصيبه. ولذلك فإنّ كثيرا من الأنبياء كانوا يسألون الله أن يدخلهم في زمرة عباده الصالحين.

فيوسفعليه‌السلام بعد وصوله إلى أبرز الانتصارات الظاهرية يسأل الله فيقول :( تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) .(١)

وكذلك نبيّ الله سليمانعليه‌السلام مع ما لديه من جاه وحشمة وجلالة ، يطلب من الله( أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ ) (٢)

وشعيبعليه‌السلام ، ذلك النّبي العظيم ، حين وقع العقد على استئجار موسى قال له :

( سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ) .(٣)

وإبراهيمعليه‌السلام أيضا يطلب لنفسه من الله أن يكون في زمرة الصالحين( رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) .(٤) كما يطلب من الله أن يرزقه أبناء صالحين فيقول :( رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ) .(٥)

__________________

(١) سورة يوسف ، الآية ١٠١.

(٢) سورة النمل ، الآية ١٩.

(٣) سورة القصص ، الآية ٣٧.

(٤) سورة الشعراء ، الآية ٨٣.

(٥) سورة الصافات ، الآية ١٠٠.

٣٧١

كما نلاحظ في كثير من الآيات أن الله سبحانه حين يمدح أنبياءه العظام في كتابه ، يصفهم بأنّهم «من عباده الصالحين».

ويستفاد من مجموع هذه الآيات ـ بصورة جيدة ـ أن أسمى مراحل تكامل الإنسان هو أن يكون عبدا صالحا.

ما معنى الصلاح؟! وبعبارة أجلى : ما معنى أن يكون الإنسان صالحا؟!

معناه : أن يكون جديرا بالاعتقاد والإيمان ، جديرا بالعمل ، جديرا بالقول ، جديرا بالأخلاق!

أمّا ما يقابل الصالح فهو الفاسد ، ونعرف أن «الفساد في الأرض» تعبير يشمل جميع أنواع الظلم والأعمال السيئة.

وفي القرآن الكريم يستعمل الصلاح ـ أحيانا ـ في مقابل الفساد ، ويستعمل ـ أحيانا ـ في مقابل السيئة ، وتعني «الذنب» وما لا يليق.

٢ ـ مواهب إبراهيم العظيمة

قال بعض المفسّرين : إنّ في الآية الآنفة لطيفة دقيقة هي أنّ الله بدل جميع الأمور والأحوال التي تؤدي بإبراهيم إلى الاستياء ، إلى الضدّ.

فعبدة الأوثان في بابل أرادوا إحراقه بالنّار ، فتبدلت روضة وسلاما.

وأرادوه أن يبقى منفردا معزولا عن الناس ، فوهب الله له أمّة عظيمة وجعل النّبوة في ذراريه.

وكان بعض أقاربه ضالا وعابدا للصنم كما هي الحال في «آزر» فأعطاه الله مكانه أبناء مهتدين وهادين للآخرين.

ولم يكن لإبراهيمعليه‌السلام في بداية حياته مال ولا جاه ، فوهب له الله مالا وجاها عظيما.

٣٧٢

وكان إبراهيمعليه‌السلام في بداية أمره مجهولا لا يعرفه الناس حتى أن عبدة الأوثان في بابل حين أرادوا تعريفه( قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ ) .

لكن الله سبحانه رفع مقامه وأعلى صيته ، حتى أنّه إذا ذكر قيل في حقّه «شيخ الأنبياء» أو «شيخ المرسلين»(١) .

* * *

__________________

(١) تفسير الرازي ، بشيء من التصرف.

٣٧٣

الآيات

( وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠) )

التّفسير

المنحرفون جنسيا :

بعد بيان جانب ممّا جرى لإبراهيمعليه‌السلام يتحدث القرآن عن قسم من قصّة حياة النّبي المعاصر لإبراهيم «لوط»عليه‌السلام فيقول :( وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ ) .(١)

«الفاحشة» كما بيناها من قبل ، مشتقّة من مادة «فحش» وهي في الأصل تعني كل فعل أو كلام سيء للغاية ، والمراد بها هنا الانحراف الجنسي. (اللواط).

ويستفاد من جملة( ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ ) بصورة جليّة أن

__________________

(١) يمكن أن تكون كلمة «لوطا» عطفا على كلمة (نوحا) فتكون بمنزلة المفعول «لأرسلنا» ويمكن أن يكون مفعولا لفعل محذوف تقديره «واذكر لوطا».

٣٧٤

هذا العمل السيء والمخزي لم يسبق له ـ على الأقل بشكل عام وجماعي ـ أن يقع في أية أمة أو قوم كما وقع في قوم لوط.

ذكروا في أحوال قوم لوط أن واحدا من عوامل تلوثهم بهذا الذنب هو أنّهم كانوا قوما بخلاء جدا ، ولمّا كانت مدنهم على قارعة الطريق التي تمرّ بها قوافل الشام ، فقد كانوا يظهرون هذا العمل «الانحراف» لبعض ضيوفهم أو العابرين لينفروهم وكي لا يضيفوهم ، إلّا أنّهم تعودوا على هذا العمل القبيح ، وقويت فيهم رغبة اللواط ، فسقطوا في الوحل المخزي شيئا فشيئا.

على كل حال ، سينؤون بحمل ذنوبهم وذنوب من يعمل عملهم ، دون أن ينقص من ذنوب الآخرين شيء أبدا وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم!.

لأنّهم كانوا مؤسسي هذه السنة المشؤومة ، ونحن نعرف أن من سنّ سنة ما فهو شريك في عمل من يعمل بها أيضا.

لوطعليه‌السلام هذا النّبي العظيم ، كشف أخيرا ما في نفسه وقال لقومه( أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ ) أفتريدون أن تقطعوا النسل( وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ ) (١) .

ولا ترعوون عن الأعمال المخزية في مجالسكم العامة( وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ) .

«النادي» مشتق من «النداء» وهو يعني المجلس العام ، كما يأتي أحيانا بمعنى مكان التنزّه ، لأنّ الأفراد هناك ينادي بعضهم بعضا وترتفع أصواتهم.

والقرآن لم يبيّن هنا بتفصيل أية منكرات كانوا يأتونها في مجالسهم ونواديهم لكنّها قطعا كانت متناسبة مع عملهم السيء المخزي وكما ورد في

__________________

(١) يرى جماعة من المفسّرين وجوها واحتمالات أخرى لجملة «وتقطعون السبيل» منها ما فسّروه بقطع الطريق على الناس في سفرهم مع الالتفات إلى ماضيهم وتأريخهم المعروف ، لأنّ القوافل تضطر أن تأخذ طريقا غير مطروق من أجل أن تسلم من شرّ هؤلاء ولئلا تبتلي بهم ، كما فسّره بعضهم بسرقة أموال المسافرين في القافلة ولكن التّفسير الأوّل المشار إليه في المتن أنسب للآية كما يبدوا للنظر ، لأنّ واحدا من أسرار تحريم اللواط وفلسفته هو خطر قطع النسل كما صرحت به الرّوايات.

٣٧٥

بعض التواريخ ، فإنّهم كانوا يتسابون بكلمات الفحش والابتذال ، أو يضرب أحدهم الأخر على ظهره. أو يلعبون القمار ، وأو يعبثون كالأطفال وخاصة الترامي بالحجارة الصغيرة فيما بينهم أو على العابرين ، ويستعملون أنواع الآلات الموسيقية ، ويكشفون عوراتهم في مجتمعهم ويغدون عراة إلخ(١) .

في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كما تنقله «أم هاني» أنّه قال مفسرا لمعنى :( وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ) أنّهم «كانوا يخذفون من يمرّ بهم ويسخرون منه»(٢) أي يرمون من يمرّ بهم بالحجارة ويسخرون منه.

والآن فلنلاحظ ما ذا كان جواب هؤلاء القوم الضالين المنحرفين ، على كلمات النّبي لوطعليه‌السلام المنطقية.

يقول القرآن :( فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) .

أجل هكذا ، كان جواب هؤلاء المفتونين فاقدي العقل والدراية إذ أجابوا به من منطلق السخرية والاستهزاء إزاء دعوة لوطعليه‌السلام المنطقية والمعقولة.

كما يستفاد جيدا من هذا الجواب أنّ لوطاعليه‌السلام كان قد هدّدهم بعذاب الله ، بالإضافة إلى كلامه البيّن ذي الدليل الواضح في ما لو استمروا بهذا العمل القبيح ، إلّا أنّهم تركوا جميع مواعظه وتمسكوا بتهديده بالعذاب ، فقالوا :( ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ ) على سبيل الاستهزاء والسخرية!! كما أشير إلى هذا الموضوع في سورة القمر الآية (٣٦) بقوله تعالى :( وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ ) .

ويستشف ـ ضمنا ـ من تعبير هؤلاء القوم أنّهم كانوا يريدن أن يستنتجوا من عدم نزول العذاب على كذب لوطعليه‌السلام ، في حين أن رحمة الله هي التي تمهلهم وتعطيهم الفرصة لمراجعة أنفسهم وإعادة النظر!

__________________

(١) سفينة البحار ، ج ٢ ، ص ٥١٧.

(٢) تفسير القرطبي ذيل الآيات محل البحث.

٣٧٦

وهنا لم يكن للوطعليه‌السلام بدّ إلّا أن يلتفت إلى الله بقلب حزين مهموم و( قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ ) .

القوم المنحرفين ، المتمادين في الأرض فسادا ، والذين تركوا تقواهم وأخلاقهم الإنسانية وألقوا العفة والطهارة خلف ظهورهم ، وسحقوا العدل الاجتماعي تحت أقدامهم ، ومزجوا عبادة الأوثان بفساد الأخلاق والظلم ، وهددوا نسل الإنسان بالفناء والزوال ، فيا ربّ انصرني على هؤلاء القوم المفسدين.

* * *

ملاحظة

بلاء الانحراف الجنسي :

الانحراف الجنسي ـ سواء كان في أوساط الرجال «اللواط» أم في أوساط النساء «المساحقة» ـ لهو من أسوأ الانحرافات الأخلاقية ، ومصدر المفاسد الكثيرة في المجتمع.

وأساسا فإنّ طبيعة «كلّ من الرجل والمرأة» مخلوقة بشكل يمنح الهدوء والإشباع الصحيح السالم في العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة «عن طريق الزواج المشروع» وأي نوع من الميول الجنسية في غير هذه الصورة هو انحراف عن طبع الإنسان الصحيح ، وهو نوع من الأمراض النفسيّة الذي لو قدّر له أن يستمرّ لاشتد خطره يوما بعد يوم ، وتكون نتيجته البرود الجنسي بالنسبة ما بين الرجل والمرأة ، والإشباع غير الصحيح من «الجنس المماثل» أي «اللواط» أو «السحاق».

ولهذا النوع من العلائق غير المشروعة أثر مدمّر في جهاز البدن ، بل حتى في سلسلة الأعصاب والروح. إذ يسقط الرجل من رجولته والمرأة من أنوثتها!

٣٧٧

بحيث أن أمثال هؤلاء الرجال والنساء المنحرفين جنسيا يبتلون بضعف جنسي شديد ، ولا يستطيعون أن يكونوا آباء وأمهات صالحين لأبنائهم في المستقبل ، وربّما كانوا غير قادرين حتى على الإنجاب بصورة كلية «بسبب هذا الانحراف».

إن المنحرفين جنسيا يغدون بالتدريج منزوين منعزلين عن المجتمع ، ويحسون بالغربة في مجتمعهم وفي أنفسهم أيضا ، كما يبتلون بنفصام الشخصية ، وإذا لم يهتموا بإصلاح أنفسهم ، فمن الممكن أن يبتلوا بأمراض جسمية ونفسية مختلفة.

ولهذا السبب ـ ولأسباب أخلاقية واجتماعية أخرى ـ حرّم الإسلام الانحراف الجنسي تحريما شديدا بأي شكل كان وفي أية صورة ، كما قرر للذي يقوم بهذا العمل عقابا صارما يبلغ أحيانا إلى درجة الإعدام والقتل!.

والموضوع المهم هو أن الانفلات الاخلاقي والتميّع الجنسي والابتذال للعالم المتمدن والحضارة المادية قد جرّت كثيرا من الفتيان والفتيات إلى الانحراف الكبير.

في البداية يرغّبون الفتيان في أن يلبسوا ثياب النساء وأن يظهروا بمظهر خاص ، ويدعون النساء أن يلبسن ثياب الرجال ، وتبدأ من هنا قضية الانحراف الجنسي حتى تصل إلى أقبح الأعمال الوقحة في هذا المجال ، وتأخذ شكلا قانونيا بحيث يعدون هذا الأمر عاديا لا يستحق أي نوع من العقاب أو التبعة ، ولا يسع القلم إلّا أن يستحي ويخجل من وصف ذلك(١) .

* * *

__________________

(١) كان لنا في صدد الانحراف الجنسي بحث مفصل في ذيل الآية (٨١) سورة هود

٣٧٨

الآيات

( وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٢) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥) )

التّفسير

وهذه هي عاقبة المنحرفين :

لقد أستجيب دعاء لوط أخيرا ، وصدر الأمر من الله تعالى بالعقاب الصارم والشديد لهؤلاء القوم المنحرفين والمفسدين ، فمرّ الملائكة المأمورون بعذاب قوم لوط بالأرض التي فيها إبراهيمعليه‌السلام لأداء رسالة أخرى قبل أن ينزلوا العقاب بقوم لوط ، وهذه الرسالة التي سبقت العذاب ، هي بشارتهم لإبراهيمعليه‌السلام بالولد : «بشروه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب».

٣٧٩

والآيات المتقدمة تذكر أوّلا قصّة مرورهم بإبراهيمعليه‌السلام فتقول :( وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ ) .

والتعبير بـ «هذه القرية» يدل على أن مدن قوم لوط كانت قريبة من أرض إبراهيمعليه‌السلام

والتعبير بالظالمين هو لأجل كونهم يظلمون أنفسهم باتخاذهم سبيل الشرك والفساد الأخلاقي وعدم العفة ، وظلمهم الآخرين حتى شمل العابرين والقوافل التي كانت تمرّ على طريقهم.

فلمّا سمع «إبراهيم» هذا النبأ حزن على لوط النّبي العظيم و( قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً ) .

فما عسى أن تكون عاقبته؟!

إلّا أنّهم أجابوه على الفور ،( قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها ) فلا تحزن عليه ، لأننا لا نحرق «الأخضر واليابس» معا ، وخطتنا دقيقة ومحسوبة تماما ثمّ أضافوا( لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ ) .

ويستفاد من هذه الآية جيدا أنّ أسرة واحدة فقط في جميع تلك المدن والقرى كانت مؤمنة وغير مدنّسة ، وقد نجاها الله في ذلك الحين أيضا كما نقرأ مثل ذلك في الآية (٣٦) من سورة الذاريات :( فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) ومع ذلك فإنّ امرأة لوط كانت خارجة عن جماعة المؤمنين ، فشملها العذاب.

والتعبير بـ «الغابرين» جمع «غابر» ومعناه المتخلف عن جماعته الماضين في الطريق ، فالمرأة التي كانت في عائلة النبوّة لا ينبغي لها أن تنفصل عن المؤمنين والمسلمين غير أنّ الكفر والشرك وعبادة الأوثان ـ كل ذلك ـ دعاها إلى الانفصال!.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592