الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 174864 / تحميل: 5996
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

التّفسير

أفضل الوصايا بالنسبة للوالدين :

إنّ واحدا من أهم الامتحانات الإلهية ، هي مسألة «التضاد» بين خط الإيمان والتقوى وبين علاقة العاطفية والقرابة والقرآن في هذا المجال ـ يوضح وظيفة المسلمين بجلاء!

في البداية يتحدث عن قانون كلّي يستمد من جذور العواطف الإنسانية وردّ الجميل فيقول :( وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ ) .

وبالرغم من أنّ هذا حكم تشريعي ، ولكن هذه المسألة قبل أن تكون «لازما» تشريعيا ، لها وجود في فطرة الإنسان بشكل قانون تكويني. وخاصّة أن التعبير بـ «الإنسان» هنا يلفت النظر فهذا القانون لا يختصّ بالمؤمنين ، بل كلّ من كان جديرا بأن يحمل اسم الإنسان ينبغي أن يكون عارفا بحق الأبوين وأن لا ينسى تكريمهما واحترامهما والإحسان إليهما طيلة عمره وإن كان كل ذلك لا يفي بحقوقهما!.

بعد ذلك ، ومن أجل أن لا يتبادر إلى الذهن أنّ العلاقة العاطفية بالوالدين يمكن أن تكون حاكمة على العلاقة بين الإنسان وربّه وإيمانه ، يأتي استثناء صريح ـ ليوضّح هذا الموضوع في الآية ، فيقول تعالى :( وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما ) .

والتعبير بـ( جاهَداكَ ) مفهومه بذل قصارى جهدهما وإصرارهما ومنتهى سعيهما للحيلولة بين الولد وبين الإيمان بالله.

والتعبير بـ( ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) إشارة إلى عدم منطقية الشرك ، لأنّ الشرك لو كان صحيحا واقعا لكان عليه دليل بيّن.

وبتعبير آخر : متى ما لم يعلم الإنسان بشيء فلا ينبغي أن يتبعه فكيف إذا كان يعلم ببطلانه؟

٣٤١

فهذا الاتباع هو اتّباع للجهل ، فلو أن الوالدين أمراك باتباع الجهل فلا تطعهما.

وأساسا فإنّ التقليد الأعمى خطأ حتى ولو كان في مورد الإيمان ، فكيف إذا كان هذا التقليد للكفر والشرك!.

وهذه الوصية وردت ـ أيضا ـ في سورة لقمان مع اضافة( وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً ) فمع عدم قبول دعوتهما للشرك ، ينبغي عليك احترامهما والإحسان إليهما والارفاق بهما.

ولا ينبغي أن يتصور أحد أن وجوب مخالفة الأبوين فيما لو دعوا ولديهما الى الشرك دليل على جواز الاساءة لهما ، فهذا يؤكّد منتهى تأكيد الإسلام على احترام الأبوين.

وبهذا ـ يستفاد من هذا المنطلق أصل كلي : أي إن شيئا لا يمكن أن يكون حاكما على علاقة الإنسان بالله ، لأنّها مقدمة على كل شيء ، حتى على علاقته بأبويه التي هي أقرب العلائق إليه.

والحديث المعروف «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»(١) الذي نقل عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام يعطينا معيارا واضحا لهذه المسائل!.

ثمّ يضيف تعالى في نهاية الآية( إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) وأجازيكم دون غمط ونقص في الثواب أو العقاب.

وهذه الجملة ـ في الحقيقة تهديد لأولئك الذين يسيرون في طريق الشرك ، والذين يدعون الآخرين إلى هذا الطريق لأنّها تقول بصراحة : إنّ الله يرى أعمالكم ويحفظهما ثمّ يعيدها إليكم «في معادكم».

والآية التي بعدها تؤكّد الحقيقة في أولئك المؤمنين الذين يعملون الصالحات ، وتكرر هذا المضمون أيضا( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ـ الجملة ١٦٥.

٣٤٢

لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ ) .

وأساسا فإنّ عمل الإنسان يترك في الإنسان أثره فالعمل الصالح يصبغ الإنسان بلونه ويدخله في زمرة «الصالحين».

كما أنّ العمل السيء يدخله في زمرة «الخاطئين والمسيئين».

ولكن ما الغاية من هذا التكرار؟!

قال بعضهم : في الآيات السابقة إشارة إلى أولئك الذين يسلكون طريق الحق ، أمّا هذه الآية فهي إشارة إلى أولئك الذين هم الأدلاء والهداة الى طريق التوحيد ، لأنّ التعبير بـ «الصالحين» ورد في كثير من الأنبياء ، إذ كانوا يطلبون من الله أن يدخلهم في الصالحين.

كما يحتمل أيضا ، أنّ الكلام في الآيات المتقدمة كان عن غفران الذنوب وتكفير السيئات وما يستحقه المؤمنون من الجزاء ، إلّا أنّه هنا إشارة عن مقامهم الرفيع الذي هو في نفسه ثواب آخر! فهم في صف الصالحين ، صف الأنبياء والصديقين والشهداء ، وهم جلساؤهم ورفقاؤهم في الجنان.

* * *

ملاحظة

الإحسان إلى الوالدين :

ليست هذه هي المرّة الأولى التي يشير فيها القرآن إلى هذه المسألة الإنسانية المهمّة ، فقد أشار إليها في سورة الإسراء الآية (٢٣) من قبل ، وسترد الإشارة إليها بعد في سورة لقمان الآيتين (١٤) و (١٥) وسورة الأحقاف الآية (١٥) أيضا.

وفي الحقيقة إنّ الإسلام يدعو إلى احترام الوالدين في أسمى مراتبه ، حتى مع كونهما مشركين ، أو عند دعوتهما إلى الشرك الذي هو أبغض الأشياء في نظر

٣٤٣

الإسلام ، فإنّ الإسلام يوجب احترامهما في الوقت الذي يمنع من إطاعتهما في قبول الشرك والاستجابة إلى ذلك!.

وهذا في الواقع واحد من الامتحانات الإلهية العظيمة التي أشير إليها في بداية هذه السورة ، لأنّهما قد يبلغان من العمر أحيانا يصعب معه تحمّلهما فهنا ينبغي على الأبناء أن يؤدوا امتحانهم في مجال ردّ الإحسان وإطاعة أمر الله وأن يحافظوا على والديهما بأحسن وجه!.

نقرأ في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ رجلا جاء إليه فقال : «يا رسول الله ، من أبرّ؟

قال : أمّك : قلت : ثمّ من؟ قال : أمّك. قلت : ثمّ من؟ قال : ثمّ أمّك. قلت : ثمّ من؟ قال : ثمّ أباك ثمّ الأقرب فالأقرب»(١) .

وفي حديث آخر ـ وهو وارد في كثير من الكتب ـ أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «الجنّة تحت أقدام الأمّهات»(٢) . فلا بدّ للوصول إلى الجنّة من الخضوع والتذلل في مقابلها كتراب الأقدام.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ذيل الآيات محل البحث

(٢) المصدر السابق.

٣٤٤

الآيات

( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣) )

التّفسير

شركاء في الانتصار أمّا في الشدّة فلا!

حيث أنّ الآيات المتقدمة تحدثت عن المؤمنين الصالحين والمشركين بشكل صريح ، ففي الآيات الأولى من هذا المقطع يقع الكلام على الفريق الثّالث ـ أي المنافقين ـ فيقول القرآن فيهم :( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ ) فلا يصبرون على الأذى والشدائد ،

٣٤٥

ويحسبون تعذيب المشركين لهم وأذى الناس أنّه عذاب من الله( وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ) فنحن معكم في هذا الافتخار والفتح.

ترى هل يظنون أن الله خفيّ عليه ما في أعماق قلوبهم فلا يعرف نياتهم( أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ ) .

ولعل التعبير بـ «آمنا» بصيغة الجمع ، مع أنّ الجملة التي تليه جاءت بصيغة المفرد ، هو من جهة أنّ هؤلاء المنافقين يريدون أن يقحموا أنفسهم في صف المؤمنين ، فلذلك يقولون «آمنا» أي آمنا كسائر الناس الذين آمنوا.

والتعبير بـ( أُوذِيَ فِي اللهِ ) معناه أوذي في سبيل الله ، أي إنّهم قد يتعرض لهم العدوّ ـ أحيانا ـ وهم في سبيل الله والإيمان فيؤذيهم.

الطريف هنا أنّ القرآن يعبر عن مجازاة الله بـ «العذاب» وعن إيذاء الناس بـ «الفتنة» وهذا التعبير إشارة إلى أنّ إيذاء الناس ليس عذابا ـ في حقيقة الأمر ـ بل هو امتحان وطريق إلى التكامل.

وبهذا فإنّ القرآن يعلمهم أن لا يقايسوا بين هذين النوعين «العذاب» و «الإيذاء» ولا ينبغي أن يتنصّلوا من «الإيمان» بحجّة أن المشركين والمخالفين يؤذيهم فإن هذا الإيذاء جزء من منهج الامتحان الكلي في هذه الدنيا.

وهنا ينقدح سؤال وهو : أي نصر جعله الله حليف المسلمين ونصيبهم ، ليدعي المنافقون أنّهم شركاء في هذا النصر مع المسلمين؟!

ونقول في الجواب : إنّ الجملة الآنفة الذكر جاءت بصيغة «الشرط» ونعلم أنّ الجملة الشرطية لا دليل فيها على وجود الشرط ، بل مفهومها هو أنّه لو اتفق أن كان النصر حليفكم في المستقبل ، فإنّ هؤلاء المنافقين ـ ضعاف الإيمان ـ يرون أنفسهم شركاء في هذا النصر!

إضافة إلى كل ذلك فإنّ المسلمين في مكّة كانت لهم انتصارات على المشركين غير عسكرية بل انتصارات في التبليغ و «الإعلام» ونفوذ في الأفكار

٣٤٦

العامة وتوغّل الإسلام في طبقات المجتمع

ثمّ بعد هذا كله فإنّ التعبير بالإيذاء مناسب لمحيط مكّة وإلّا فقلّ أن اتفق مثل هذا الإيذاء في محيط المدينة.

وقد تنوّر واتضح ـ ضمنا ـ هذا الموضوع الدقيق ، وهو أن التعبير بالمنافق لا يختص بمن ليس في قلبه ايمان إطلاقا ويدعي الإيمان ، بل حتى الافراد من ضعاف الإيمان الذين يتراجعون عن عقيداتهم نتيجة الضغوط والتأثير بفلان وفلان فهؤلاء أيضا يعدون من المنافقين والآية محل البحث ـ كما يظهر ـ تتحدث عن هذا النوع من المنافقين ، وتصرح بأنّ الله مطلع على نيّاتهم وعليم بسرائرهم.

وفي الآية التالية ـ لمزيد التأكيد ـ يضيف القرآن قائلا :( وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ ) .

فلو تصوروا أنّهم إذا أخفوا الحقائق فإنّهم سيكونون في منأى عن علم الله فهم في خطأ كبير جدّا.

ونكرر هنا ـ مرّة اخرى أنّ التعبير بالمنافقين ليس دليلا على أنّ هذه الآيات نزلت في المدينة ، صحيح أنّ مسألة النفاق تقع عادة بعد انتصار جماعة والاستيلاء على الحكومة حيث يغير المخالفون أقنعتهم ويعملون في الخفاء حينئذ ، إلّا أن للنفاق ـ كما قلنا ـ معنى واسع ، ويشمل حتى الأفراد ضعاف الإيمان الذين يبدّلون عقيدتهم لأدنى مكروه يصيبهم.

والآية الأخرى بعدها تشير إلى منطق المشركين الخاوي والملتوي ، الذي لا يزال موجودا في طبقات المجتمع الواسعة فتقول :( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ ) (١) .

__________________

(١) جملة «ولنحمل» فعل دالّ على الأمر ، وقد ولّد هذا التعبير إشكالا عند بعض المفسّرين ، وهو : هل يمكن أن

٣٤٧

واليوم نرى كثيرا من الخبثاء يقولون للآخرين عند دعوتهم إلى أمر : إن كان فيه ذنب فعلى رقابنا!.

في حين أنّنا نعلم أنّه لا يمكن لأحد أن يتحمل وزر أحد ، وأساسا فإنّ هذا العمل ليس معقولا وليس منطقيا فالله عادل سبحانه ولا يؤاخذ أحدا بجرم الآخر.

ثمّ بعد كل ذلك فإنّ الإنسان لا تسقط عنه المسؤولية في العمل بمثل هذه الكلمات ، ولا يمكن له التنصّل منها وخلافا لما يتوهمه بعض الحمقى فإنّ مثل هذه التعبيرات لا تنقص من عقابهم حتى بمقدار رأس الإبرة.

ولذلك فلا يعتدّ بمثل هذا الكلام في أية محكمة كانت ولا يقبل من المذنب أن يقول: إن فلانا تحمّل عنّي الوزر وجعله في رقبته!.

صحيح أن ذلك الإنسان حثه على الإجرام ودفعه إلى اقترافه ، فهو شريكه ، إلّا أن هذا الاشتراك في الجريمة لا يخفّف عنه المسؤولية!

لذلك فإنّ القرآن يقول بصراحة في الجملة التالية( وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) .

هنا ينقدح السؤال التالي «إنّ الصدق والكذب هما في موارد الجمل الخبرية ، في حين أن هذه الجملة إنشائية «ولنحمل خطاياكم» وليس في الجملة الإنشائية صدق أو كذب ، فلم عبّر القرآن عنهم بأنّهم «كاذبون»؟!

والجواب على هذا السؤال يتّضح من البيان الذي ذكرناه سابقا ، وهو أن الجملة الأمرية هنا تتحول إلى جملة شرطية ، ومفهومها أنّه إن اتبعتمونا حملنا خطاياكم وآثامكم ، ومثل هذه الجملة تقبل الصدق والكذب(١) .

__________________

ـ يأمر الإنسان نفسه؟! ثمّ قالوا في رد هذا الإشكال. إنّ هذا الأمر في حكم القضية الشرطية أي «إن اتبعتمونا حملنا خطاياكم» ـ كما في تفسير الرّازي ـ إلّا أنّه في اعتقادنا لا يمنع أن يأمر الإنسان نفسه ، والآمر والمأمور شخص واحد ، إلّا أنّه ذو اعتبارين «فتأمل بدقّة».

(١) لدينا طريق آخر على الجواب على هذا السؤال ، لأنّنا نعتقد وجود الصدق والكذب في الجملة الإنشائية أيضا ،

٣٤٨

وبعد ذلك ، ومن أجل أن لا يتصور أن هؤلاء الدعاة للكفر والشرك وعبادة الأصنام والظلم ، لا شيء عليهم من العقاب لهذا العمل ، فإنّ القرآن يضيف في الآية التالية قائلا :( وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ ) .

وثقل الذنب هذا هو ثقل ذنب الإغراء والإغواء وحث الآخرين على الذنب ، وهو ثقل السنّة التي عبّر عنها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : «من سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من وزره شيء!»(١) .

المهم أنّهم شركاء في آثام الآخرين ، وإن لم ينقص من وزر الآخرين وإثمهم مقدار من رأس الإبرة.

وتختتم الآية بالقول :( وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ ) .

وينقدح هنا سؤال آخر وهو : ما المراد من هذا الافتراء الذي يسألون عنه؟! ولعل ذلك إشارة إلى الافتراءات التي نسبوها إلى الله ، وكانوا يقولون : «إن الله أمرنا أن نعبد الأصنام!».

أو أنّه إشارة إلى كلامهم الذي كانوا يقولون : «ولنحمل خطاياكم».

لأنّهم كانوا يدّعون أن مثل تلك الأعمال لا يترتب عليها إثم وإن هذا الكلام كان افتراء ، وينبغي أن يجيبوا على ما يسألون بصدده!

أو أنّه يقال لهم على نحو الحقيقة والواقع يوم القيامة : هلموا لتحملوا أثقال الآخرين ، فيمتنعون من ذلك ويظهر كذبهم وافتراءهم أو أنّ ظاهر كلامهم كان يعني أن كلّ إنسان يمكن أن يتحمل وزر الأخر ويكون مسئولا عنه ، في حين أن هذا الكلام كذب وافتراء محض أيضا ، وكل إنسان مسئول عن عمله!.

* * *

__________________

ـ ويلاحظ هذا في التعبيرات العرفية أيضا لأنّ الشخص ـ مثلا ـ إذا أمر بشيء ما فهو دليل على تعلقه به ، وحين نقول : إنّه يكذب ، فمعناه أنّه لم يطلبه «فلاحظوا بدقّة».

(١) التّفسير الكبير للرازي ، ج ٢٥ ، ص ٤٠.

٣٤٩

مسألتان

١ ـ السنن الحسنة والسنن السيئة :

التخطيط لعمل ما ـ أو لمنهج ما ـ في المنطق الإسلامي له أثره ويحمل صاحبه المسؤولية عنه ـ شاء أم أبى ـ ويكون مشاركا للآخرين الذين يعملون بما خططه وسنّه ، لأنّ أسباب العمل هي من مقدمات العمل ، ونعرف أن كل شخص يكون دخيلا في مقدمة عمل إنسان آخر فهو شريكه أيضا ، فحتى لو كانت المقدمة بسيطة ، إلّا أن ذلك الشخص شريك مع ذي المقدمة.

والشاهد على هذا الكلام حديث منقول عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو أن سائلا جاء والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في طائفة من صحابته فطلب العون فلم يجبه أحد ، ثمّ قام اليه رجل وناوله شيئا فقام : الآخرون ورغّبوا في إعانته فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «من سنّ خيرا فاستن به كان له أجره ومن أجور من تبعه غير منتقص من أجورهم شيئا ، ومن سنّ شرّا فاستن به كان عليه وزره ومن أوزار من تبعه غير منتقص من أوزارهم شيئا»(١) .

وقد ورد نظير هذا الحديث بعبارات مختلفة في مصادر الحديث عند الشيعة والسنة وهو حديث مشهور.

٢ ـ جواب على سؤال :

أثار بعضهم هنا هذا السؤال ، وهو أنّنا نلاحظ أحيانا في القوانين الإسلامية أن الدية تقع على شخص آخر فمثلا في حالة قتل «الخطأ المحض» تقع الدية على العاقلة «والمراد بالعاقلة أقارب الرجل الذكور من طرف الأب الذين تتوزع فيما بينهم دية قتل الخطأ المحض ، ويدفع كلّ منهم قسما حتى تتمّ الدية!».

أو ليست هنا منافاة بين هذه المسألة وبين الآيات المتقدمة؟

__________________

(١) تفسير الدر المنثور

٣٥٠

وفي الجواب على هذا السؤال نقول : إنّ «ضمان العاقلة» في الحقيقة نوع من التأمين الإلزامي المتقابل بين أعضاء العشيرة الواحدة.

فالإسلام ـ من أجل أن لا يتحمل الفرد الواحد العبء الثقيل للدية ـ ألزم أفراد العشيرة بأن يضمن بعضهم بعضا في ديّة قتل الخطأ ، وأن يقسموا المبلغ فيما بينهم فيدفع كل فرد منهم حصّة.

فقد يخطئ اليوم أحدهم ، وغدا قد يرتكب هذا الخطأ شخص آخر من العشيرة «لمزيد الإيضاح نوكل المراجعة إلى الكتب الفقهية ، بحث الديات».

وعلى كل حال ، فإنّ هذا المنهج نوع من التعاون في سبيل حفظ المنافع المتقابلة ، ولا يعني بأي وجه تحمل وزر الآخرين ، خاصة وأنّ دية قتل الخطأ ليست أصلا جريمة ذنب ، بل هي تعويض عن الخسارة! «فتأمل بدقّة».

* * *

٣٥١

الآيات

( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (١٥) وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١٩) )

التّفسير

إشارة لقصتي نوح وإبراهيم :

لما كان الكلام في البحوث السابقة عن الامتحانات العامّة في الناس ، فإنّ

٣٥٢

الكلام هنا ـ وفي ما بعد ـ يقع على الامتحانات الشديدة للأنبياء ، وكيف أنّهم كانوا تحت ضغط الأعداء وإيذائهم ، وكيف صبروا وكانت عاقبة صبرهم النصر! ليكون هذا الكلام تسلية لقلوب أصحاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الذين كانوا تحت وطأة التعذيب الشديد من قبل الأعداء ـ من جانب ـ وتهديدا للأعداء لينتظروا عاقبتهم الوخيمة من جانب آخر.

تبدأ الآيات أوّلا بالكلام على أوّل نبي من أولي العزم وهو «نوح»عليه‌السلام ، وتتحدث عنه بعبارات موجزة ، لتجمل قسما من حياته التي تناسب ـ كثيرا ـ الواقع الراهن للمسلمين ـ آنئذ ـ فتقول :( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً ) .

كان نوح مشغولا ليل نهار بالتبليغ ودعوة قومه إلى توحيد الله ـ فرادى ومجتمعين ، مستفيدا من جميع الفرص في هذه المدة الطويلة (أي تسعمائة وخمسين عاما) يدعوهم إلى الله ولم يشعر بالتعب والنصب من هذا السعي المتتابع ولم يظهر عليه الضعف والفتور.

ومع كل هذا الجهد الجهيد لم يؤمن به إلّا جماعة قليلة في حدود الثمانين شخصا كما تنقل التواريخ (أي بمعدّل نفر واحد لكل اثنتي عشرة سنة!).

فعلى هذا لا تظهروا الضعف والتعب في سبيل الدعوة إلى الحق ومواجهة الانحرافات ، لأنّ منهجكم أمام منهج «نوح» سهل للغاية.

لكن لاحظوا كيف كانت عاقبة قوم نوح الظالمين الألدّاء :( فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ ) .

وهكذا انطوى «طومار» حياتهم الذليلة ، وغرقت قصورهم وأجسادهم وآثارهم في الطوفان وأمواجه.

والتعبير بـ( أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً ) مع إمكان القول «تسعمائة وخمسين سنة» من البداية ، هو إشارة إلى عظمة المدة وطول الزمان ، لأنّ عدد

٣٥٣

«الألف» وأيّ ألف؟ ألف سنة! يعدّ مهما وعددا كبيرا بالنسبة لمدّة التبليغ.

وظاهر الآية الآنفة أنّ هذا المقدار لم يكن هو عمر نوحعليه‌السلام بتمامه (وإن ذكر ذلك في التوراة الحديثة ، في سفر التكوين الفصل التاسع) بل عاش بعد الطوفان فترة أخرى ، وطبقا لما قاله بعض المفسّرين فقد كانت الفترة هذه ثلاثمائة سنة!

طبعا هذا العمر الطويل بالقياس إلى أعمار زماننا كثير جدا ولا يعدّ طبيعيّا أبدا ، ويمكن أن يكون ميزان العمر في ذلك العصر متفاوتا مع عصرنا هذا وبناء على المصادر التي وصلت إلى أيدينا فإنّ قوم نوح كانوا معمرين ، وعمر نوح بينهم أيضا كان أكثر من المعتاد ، ويشير هذا الأمر ضمنا إلى هيئة تركيب أجسامهم كانت تمكّنهم من أن يعمّروا طويلا.

إنّ دراسات العلماء في العصر الحاضر تدلّ على أن عمر الإنسان ليس له حد ثابت ، وما يقوله بعضهم بأنّه محدود بمائة وعشرين سنة ، وأكثر أو أقل ، فلا أساس له بل يمكن أن يتغير بحسب اختلاف الظروف.

واليوم وبواسطة التجارب استطاع العلماء أن يضاعفوا عمر قسم من النباتات أو الموجودات الحيّة ، إلى اثني عشر ضعفا على العمر الطبيعي ، وحتى في بعض الموارد ـ ولا تتعجبوا ـ أو صلوا هذه الفترة للنباتات أو غيرها إلى تسعمائة مرّة ضعف عمرها الطبيعي وإذا حالفهم التوفيق فيمكنهم أن يضاعفوا عمر الإنسان ، فيمكن أن يعمّر الإنسان عندئذ آلاف السنين.(١)

وينبغي الالتفات ضمنا إلى أن كلمة «الطوفان» في الأصل معناها كل حادثة تحيط بالإنسان ، وهي مشتقّة من مادة «الطواف» ، ثمّ استعمل هذا التعبير للماء الغزير أو السيل الشديد الذي يستوعب مساحة كبيرة من الأرض ويغرقها ، كما يطلق على كل شيء كثير وشديد وفيه حالة الاستيعاب ، سواء كان ريحا أو نارا

__________________

(١) لمزيد التوضيح في مسألة طول العمر ، بمناسبة الأبحاث المتعلقة بطول عمر المهديعليه‌السلام ، يراجع كتاب «المهدي تحول كبير».

٣٥٤

أو ماء ، فيسمى كلّ منها طوفانا كما قد يرد بمعنى ظلمة الليل الشديدة أيضا.(١) الطريف أنّ القرآن يقول :( وَهُمْ ظالِمُونَ ) أي إنّهم حين وقوع العذاب «الطوفان» كانوا لا يزالون في ظلمهم أيضا.

وهذا إشارة إلى أنّهم لو تركوا تلك الأعمال ، وندموا على ما فعلوا ، وتوجّهوا إلى الله ، لما ابتلوا بمثل هذه العاقبة أبدا.

ويضيف القرآن الكريم في الآية الأخرى( فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ ) (٢) .

ثمّ يعقّب على قصّة نوح وقومه التي وردت بشكل مضغوط ، ويأتي بقصّة إبراهيمعليه‌السلام ، ثاني الأنبياء الكبار من أولي العزم فيقول :( وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) (٣) .

هنا بيّن القرآن منهجين مهمّين من مناهج الأنبياء العملية والاعتقادية ، وهما الدعوة إلى توحيد الله والتقوى ـ في مكان واحد ـ ثمّ يختتم القول : أن لو فكرتم جيدا لكان ذلك خيرا لكم عند اتباعكم لمذهب التوحيد والتقوى ، إذ ينجيكم من دنياكم الملوّثة بالذنوب والشقاء ، وتكون آخرتكم هي السعادة الأبديّة.

ثمّ يذكر إبراهيمعليه‌السلام أدلة بطلان عبادة الأصنام والأوثان ، ويبيّن في تعابير مختلفة يتضمّن كل منها دليلا على فساد مذهبهم وبطلانه فيقول أوّلا :( إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً ) .

هذه الأوثان هي الأصنام الخالية من الروح الأصنام التي ليس لها إرادة ،

__________________

(١) المفردات للراغب.

(٢) القول في ما هو مرجع الضمير في «جعلناها» للمفسّرين احتمالات كثيرة ، فبعضهم قال : هو إشارة إلى مجموع هذه الواقعة والحادثة ، وقال بعضهم : هي نجاة نوحعليه‌السلام فحسب ـ مع أصحابه ـ وأشار بعضهم إلى أن المراد من «جعلناها» هي السفينة ، وظاهر العبارة المتقدمة ـ أيضا ـ تؤيد هذا الاحتمال الأخير ، وحقا كانت هذه السفينة آية من آيات الله في ذلك العصر ، وفي تلك الحادثة العظيمة.

(٣) الظّاهر أنّ «إبراهيم» معطوف على كلمة «نوح» وفعله «أرسلنا» ، وبعضهم عطفه على مفعول (أنجيناه) وبعضهم جعله مفعولا لفعل محذوف تقديره «اذكر».

٣٥٥

ولا عقل ، وهي فاقدة لكل شيء ، بحيث أن شكلها بنفسه هو دليل على بطلان عقيدة «عبادة الأوثان»

(لاحظوا أن «الأوثان» هي جمع لكلمة «وثن» على زنة «صنم» ومعناها «الحجارة المنحوتة» الموضوعة للعبادة!).

ثمّ يتوسع في حديثه ويمضي إلى مدى أبعد فيقول : ليست هذه الأوثان بهيئتها تدل على أنّها لا تستحق العبادة فحسب ، بل أنتم تعلمون بأنّكم تكذبون وتضعون اسم الآلهة على هذه الأوثان :( وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً ) .

فأي دليل لديكم على هذا الكذب سوى حفنة من الأوهام والخرافات الباطلة.

وحيث أن كلمة «تخلقون» مشتقّة من الخلق ، وتعني أحيانا الصنع والإبداع ، وأحيانا تأتي بمعنى الكذب ، فإنّ بعض المفسّرين ذكر تفسيرا آخر لهذه الجملة غير ما بيّناه آنفا وقالوا إنّ المقصود من هذا التعبير هو أنّكم تنحتون هذه الأوثان المعبودات الباطلة المزوّرة بأيديكم ، وتصنعونها (فيكون المراد من الإفك هنا هو المعبودات المزورّة) والخلق هو النحت هنا(١) .

ثمّ يبيّن الدليل الثّالث وهو أن عبادتكم لهذه الأوثان إمّا لأجل المنافع المادية ، أو لعاقبتكم في «الأخرى» وكلا الهدفين باطل وذلك :( إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً ) .

وأنتم تعتقدون بأنّ هذه الأصنام لم تكن خلقتكم ، بل الخالق هو الله ، فالذي يتكفل بالرزق هو الله( فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ ) .

ولأنّه هو الذي يرزقكم فتوجهوا إليه( وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ ) .

وبتعبير آخر ، فإن واحدا من أسباب العبادة وبواعثها هو الإحساس بالشكر

__________________

(١) «الإفك» يطلق في الأصل على كل شيء مختلف عن حقيقته ، ولذلك يطلق على الكذب ـ خاصة الكذب الكبير ـ أنّه إفك ، كما تطلق هذه الكلمة على الرياح المخالفة لاتجاهها ومسيرها فيقال «رياح مؤتفكة».

٣٥٦

للمنعم الحقيقي ، وتعرفون أن المنعم الحقيقي هو الله ، فالشكر والعبادة يختصان ـ أيضا ـ بذاته المقدسة.

وإذ كنتم تبتغون الدار الأخرى فإنّه( إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) .

فالأصنام لا تصنع شيئا هنا ولا هناك!.

وبهذا الأدلّة الموجزة والواضحة ألجم منطقهم الواهي وأفحمهم.

ثمّ يلتفت إبراهيمعليه‌السلام مهدّدا لهم ومبديا عدم اكتراثه بهم قائلا :( وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ) كذبوا أنبياءهم فنالوا الخزي بتكذيبهم والعاقبة الوخيمة( وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) سواء استجاب له قومه ، أم لم يستجيبوا له دعوته وبلاغه!

والمقصود بالأمم قبل أمة إبراهيمعليه‌السلام ، أمة نوحعليه‌السلام وما بعده من الأمم وبالطبع فإنّ ارتباط هذه الآيات يوجب أن تكون هذه الجملة من كلمات إبراهيمعليه‌السلام ، وهذا ما يذهب إليه كثير من المفسّرين عند تفسيرهم للنص ، أو يحتملون ذلك!.

والاحتمال الآخر : إنّ الخطاب في هذه الآية للمشركين من أهل مكّة المعاصرين للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وجملة( كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ) فيها تتناسب أكثر مع هذا الاحتمال.

أضف إلى ذلك ، فإنّ نظير هذا التعبير الذي ورد في الآية ٢٥ من سورة الزمر ، والآية (٢٥) من سورة فاطر ، هو أيضا في شأن نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله والمشركين العرب في مكّة. ولكن ـ وعلى أي حال ـ أيّا من التّفسيرين كان ذلك ، فليس هناك تفاوت في النتيجة!.

والقرآن يترك قصّة إبراهيم هنا مؤقتا ، ويكمل البحث الذي كان لدى إبراهيم في صدد التوحيد وبيان رسالته بدليل المعاد ، فيقول :( أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) .

٣٥٧

والمراد بالرؤية هنا هي الرؤية «القلبية» والعلم ، أي كيف لا يعرف هؤلاء خلق الله؟ فالذي له القدرة على الإيجاد أولا قادر على إعادته أيضا ، فالقدرة على شيء ما هي قدرة على أمثاله وأشباهه أيضا.

كما يأتي هذا الاحتمال ، وهو أنّ الرؤية هنا هي الرؤية «البصيريّة» والمشاهدة بالعين لأنّ الإنسان يرى بعينيه كيف تحيا الأرض وتنمو النباتات ، وتتولد الدجاجة من البيض ، والأطفال من النطف فمن له القدرة على هذا الأمر قادر على أن يحيي الموتى من بعد أيضا.

ويضيف في آخر الآية على سبيل التأكيد( إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ) . لأنّ تجديد الحياة قبال الإيجاد الأوّل يعدّ أمرا بسيطا.

وطبيعي أنّ هذا التعبير يناسب منطق الناس وفهمهم ، وإلّا فإن اليسير والعسير لا مفهوم لهما عند من قدرته غير محدودة والمطلقة فهذه قدراتنا التي أوجدت مثل هذا «المفهوم» ، ومع الالتفات إلى إنجازها ظهرت لدينا أمور يسيرة وأخرى عسيرة.

* * *

٣٥٨

الآيات

( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٣) )

التّفسير

الآيسون من رحمة الله :

هذه الآيات تواصل البحث في المعاد أيضا ، على صورة جمل معترضة في قصّة إبراهيمعليه‌السلام .

وليست هذه أوّل مرّة نواجه فيها مثل هذا الأسلوب فهذه هي طريقة القرآن دائما ، فعند ما يبلغ مرحلة حساسة من ذكر قصّة ما ، يترك بقيّة القصّة مؤقتا للاستنتاج أكثر ، ثمّ يعطي النتائج اللازمة.

وعلى كل حال ، فإنّ القرآن يدعو في الآية الأولى من هذا المقطع الناس إلى

٣٥٩

«السير في الآفاق» في مسألة المعاد في حين أن الآية السابقة كانت السمة فيها «السير في الأنفس» أكثر! يقول القرآن :( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ) انظروا الى أنواع الموجودات الحية ، والأقوام والأمم المتنوعة والمختلفة ، وكيف أنّ الله تعالى خلقها أولا ، ثمّ أن الله نفسه الذي أوجدها في البداية من العدم قادر ايضا على إيجادها في الآخرة( ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ) .

ولأنّه أثبت قدرته على كل شيء حين خلق الخلق أولا ، إذن فـ( إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .

فهذه الآية والآية التي قبلها ـ أيضا ـ أثبتتا بواسطة قدرته الواسعة إمكان المعاد مع فرق أن الآية الأولى تتحدث عن الإنسان نفسه وخلقه وما حوله!

والآية الثّانية تأمر بمطالعة حالات الأمم والموجودات الأخرى ، ليروا الحياة الأولى في صور مختلفة وظروف متفاوتة تماما ، وليطّلعوا على عموميّة قدرة الله ، وليستيقنوا قدرته على إعادة هذه الحياة!.

كما أن إثبات التوحيد يتمّ ـ أحيانا ـ عن طريق مشاهدة «الآيات في الأنفس» وأحيانا عن طريق «الآيات في الآفاق» فكذلك يتمّ إثبات المعاد عن هذين الطريقين أيضا.

وفي عصرنا هذا يمكن أن تبيّن هذه الآيات للعلماء معنى أعمق وأدق ، وهو أن يمضوا ويلاحظوا الموجودات الحيّة الأولى التي هي في أعماق البحار على شكل فسائل ونباتات وغيرها ، وفي قلب الجبال ، وبين طبقات الأرض ، ويطلعوا على جانب من أسرار بداية الحياة على وجه الأرض ، ويدركوا عظمة الله وقدرته ، وليعلموا أنّه قادر على إعادة الحياة أيضا(١) .

__________________

(١) سبق أن تعرضنا إلى بحث حول «السير في الأرض» وآثاره ، غير أنّ البحث الفائت كانت فيه جوانب من دروس العبرة في مجال قصص الأمم الماضية وطغاتها. التّفسير الأمثل ذيل الآية (١٣٧) سورة آل عمران ، فلا بأس بمراجعتها.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

و قوله:( وَ لا يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً ) ظاهر السياق أنّه معطوف على موضع قوله:( يَوَدُّ الّذينَ كَفَرُوا ) و فائدته الدلالة بوجه على ما يعلّل به تمنّيهم الموت، و هو أنّهم بارزون يومئذ لله لا يخفى عليه منهم شي‏ء لظهور حالهم عليه تعالى بحضور أعمالهم، و شهادة أعضائهم و شهادة الأنبياء و الملائكة و غيرهم عليهم، و الله من ورائهم محيط فيودّون عند ذلك أن لو لم يكونوا و ليس لهم أن يكتموه تعالى حديثاً مع ما يشاهدون من ظهور مساوي أعمالهم و قبائح أفعالهم.

و أمّا قوله تعالى:( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جميعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ ) المجادلة: ١٨، فسيجي‏ء إن شاء الله تعالى أنّ ذلك إنّما هو لإيجاب ملكة الكذب الّتي حصّلوها في الدنيا لا للإخفاء و كتمان الحديث يوم لا يخفى على الله منهم شي‏ء.

( بحث روائي‏)

في تفسير العيّاشيّ، في قوله تعالى:( وَ بِالْوالِدَيْنِ إحساناً ) الآية: عن سلام الجعفيّ عن أبي جعفرعليه‌السلام و أبان بن تغلب عن أبي عبداللهعليه‌السلام : نزلت في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و في عليعليه‌السلام .

ثمّ قال: و روي مثل ذلك في حديث ابن جبلة. قال: قال: و روي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنا و عليّ أبوا هذه الاُمّة.

أقول: و قال البحرانيّ في تفسير البرهان، بعد نقل الحديث: قلت: و روى ذلك صاحب الفائق.

و روى العيّاشيّ هذا المعنى عن أبي بصير عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام ، و رواه ابن شهرآشوب عن أبان عن أبي جعفرعليه‌السلام . و الّذي تعرّض له الخبر هو من بطن القرآن بالمعنى الّذي بحثنا عنه في مبحث المحكم و المتشابه في الجزء الثالث من هذا الكتاب، إذ الأب أو الوالد هو المبدأ الإنسانيّ لوجود الإنسان و المربّي له، فمعلّم الإنسان و مربّيه للكمال أبوه فمثل النبيّ و الوليّ عليهما أفضل الصلاة أحقّ أن يكون أباً للمؤمن المهتدي به، المقتبس من أنوار علومه و معارفه من الأب الجسمانيّ الّذي

٣٨١

لا شأن له إلّا المبدئيّة و التربية في الجسم فالنبيّ و الوليّ أبوان، و الآيات القرآنيّة الّتي توصي الولد بوالديه تشملهما بحسب الباطن و إن كانت بحسب ظاهرها لا تعدو الأبوين الجسمانيّين.

و في تفسير العيّاشيّ، أيضاً عن أبي صالح عن أبي العبّاس في قول الله:( وَ الْجارِ ذِي الْقُرْبى‏ وَ الْجارِ الْجُنُبِ ) قال: الّذي ليس بينك و بينه قرابة، و الصاحب بالجنب قال: الصاحب في السفر.

أقول: قوله: الّذي ليس بينك، تفسير الجار ذي القربى و الجنب معاً و إن أمكن رجوعه إلى الجار الجنب فقط، و قوله: الصاحب في السفر لعلّه من قبيل ذكر بعض المصاديق.

و فيه، عن مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمّد عن جدّه قال: قال أميرالمؤمنينعليه‌السلام : في خطبة يصف هول يوم القيامة: ختم على الأفواه فلا تكلّم، و تكلّمت الأيدي، و شهدت الأرجل، و اُنطقت الجلود بما عملوا فلا يكتمون الله حديثاً.

و اعلم، أنّ الأخبار كثيرة من طرق أهل السنّة في أنّ الآيات نازلة في حقّ اليهود، و هي و إن كان يؤيّدها ما ينتهي إليه ذيل الآيات من التعرّض لحال أهل الكتاب من اليهود في بخلهم و ولعهم بجمع المال و ادّخاره و كذا وسوستهم للمؤمنين و ترغيبهم على الكفّ عن الإنفاق في سبيل الله و تفتينهم إيّاهم و إخزائهم لهم، و إفساد الأمر على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكن الأخبار المذكورة مع ذلك أشبه بالتطبيق النظريّ منها بنقل السبب في النزول كما هو الغالب في الأخبار الناقلة لأسباب النزول، و لذلك تركنا نقلها على كثرتها.

و اعلم أيضاً أنّ الأخبار الواردة عن النبيّ و آلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في إحسان الوالدين و ذي القربى و اليتامى و غيرهم من الطوائف المذكورة في الآية فوق حدّ الإحصاء على معروفيّتها و شهرتها، و هو الموجب للإغماض عن إيرادها ههنا على أنّ لكلّ منها وحده مواقع خاصّة في القرآن، ذكر ما يخصّها من الأخبار هناك أنسب.

٣٨٢

( سورة النساء آية ٤٣)

يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى‏ حَتّى‏ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتّى‏ تَغْتَسِلُوا وَإِن كُنتُم مَرْضَى‏ أَوْ عَلَى‏ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنكُم مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمّمُوا صَعِيداً طَيّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُور( ٤٣)

( بيان)

قد تقدّم في الكلام على قوله تعالى:( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ ) البقرة: ٢١٩، أنّ الآيات المتعرّضة لأمر الخمر خمس طوائف، و أنّ ضمّ هذه الآيات بعضها إلى بعض يفيد أنّ هذه الآية:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا ) الآية نزلت بعد قوله تعالى:( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حسناً ) النحل: ٦٧، و قوله:( قُلْ إنّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ ) الأعراف: ٣٣، و قبل قوله تعالى:( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثمّ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما ) البقرة: ٢١٩، و قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا إنّما الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ ) المائدة: ٩٠، و هذه آخر الآيات نزولاً.

و يمكن بوجه أن يتصوّر الترتيب على خلاف هذا الّذي ذكرناه فتكون النازلة أوّلاً آية النحل ثمّ الأعراف ثمّ البقرة ثمّ النساء ثمّ المائدة فيكون ما يفيده هذا الترتيب من قصّة النهي القطعيّ عن شرب الخمر على خلاف ما يفيده الترتيب السابق فيكون ما في سورة الأعراف نهياً من غير تفسير ثمّ الّذي في سورة البقرة نهياً باتّاً لكنّ المسلمين كانوا يتعلّلون في الاجتناب حتّى نهوا عنها نهياً جازماً في حال الصلاة في سورة النساء، ثمّ نهياً مطلقاً في جميع الحالات في سورة المائدة و لعلّك إن تدبّرت في مضامين الآيات رجّحت الترتيب السابق على هذا الترتيب، و لم تجوّز بعد النهي الصريح الّذي في آية البقرة

٣٨٣

النهي الّذي في آية النساء المختصّ بحال الصلاة فهذه الآية قبل آية البقرة، إلّا أن نقول إنّ النهي عن الصلاة في حال السكر كناية عن الصلاة كسلان كما ورد في بعض الروايات الآتية.

و أمّا وقوع الآية بين ما تقدّمها و ما تأخّر عنها من الآيات فهي كالمتخلّلة المعترضة إلّا أنّ ههنا احتمالاً ربّما صحّح هذا النحو من التخلّل و الاعتراض - و هو غير عزيز في القرآن - و هو جواز أن تتنزّل عدّة من الآيات ذات سياق واحد متّصل منسجم تدريجاً في خلال أيّام ثمّ تمسّ الحاجة إلى نزول آية أو آيات و لمّا تمّت الآيات النازلة على سياق واحد فتقع الآية بين الآيات كالمعترضة المتخلّلة و ليست بأجنبيّة بحسب الحقيقة و إنّما هي كالكلام بين الكلام لرفع توهّم لازم الدفع، أو مسّ حاجة إلى إيراده نظير قوله تعالى:( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَ لَوْ أَلْقى‏ مَعاذِيرَهُ لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثمّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ ) الآيات القيامة: ٢٠، انظر إلى موضع قوله:( لا تُحَرِّكْ‏ - إلى قوله -بَيانَهُ ) .

و على هذا فلا حاجة إلى التكلّف في بيان وجه ارتباط الآية بما قبلها، و ارتباط ما بعدها بها، على أنّ القرآن إنّما نزل نجوماً، و لا موجب لهذا الارتباط إلّا في السور النازلة دفعة أو الآيات الواضحة الاتّصال الكاشف ذلك عن الارتباط بينها.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا - إلى قوله -ما تَقُولُونَ ) المراد بالصلاة المسجد، و الدليل عليه قوله:( وَ لا جُنُباً إلّا عابِرِي سَبِيلٍ ) ، و المقتضي لهذا التجوّز قوله حتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ إذ لو قيل: لا تقربوا المسجد و أنتم سكارى لم يستقم تعليله بقوله:( حتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) أو أفاد التعليل معنى آخر غير مقصود مع أنّ المقصود إفادة أنّكم في حال الصلاة تواجهون مقام العظمة و الكبرياء و تخاطبون ربّ العالمين فلا يصلح لكم أن تسكروا و تبطلوا عقولكم برجس الخمر فلا تعلموا ما تقولون، و هذا المعنى - كما ترى - يناسب النهي عن اقتراب الصلاة لكنّ الصلاة لمّا كانت أكثر ما تقع تقع في المسجد جماعة - على السنة - و كان من القصد أن تذكر أحكام الجنب في دخوله المسجد أوجز في المقال و سبك الكلام على ما ترى.

٣٨٤

و على هذا فقوله:( حتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) في مقام التعليل للنهي عن شرب الخمر بحيث يبقى سكرها إلى حال دخول الصلاة أي نهيناكم عنه لغاية أن تعلموا ما تقولون و ليس غاية للحكم بمعنى أن لا تقربوا إلى أن تعلموا ما تقولون فإذا علمتم ما تقولون فلا بأس.

قوله تعالى: ( وَ لا جُنُباً إلّا عابِرِي سَبِيلٍ ) إلى آخر الآية سيأتي الكلام في الآية في تفسير قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ) المائدة: ٦.

( بحث روائي‏)

في تفسير العيّاشيّ، عن محمّد بن الفضل عن أبي الحسنعليه‌السلام في قول الله:( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى‏ حتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) قال: هذا قبل أن تحرّم الخمر.

أقول: ينبغي أن تحمّل الرواية على أنّ المراد بتحريم الخمر توضيح تحريمها، و إلّا فهي مخالفة للكتاب فإنّ آية الأعراف تحرّم الخمر بعنوان أنّه إثم صريحاً، و آية البقرة تصرّح بأنّ في الخمر إثماً كبيراً فقد حرّمت الخمر في مكّة قبل الهجرة لكون سورة الأعراف مكّيّة و لم يختلف أحد في أنّ هذه الآية ( آية النساء ) مدنيّة، و مثل هذه الرواية عدّة روايات من طرق أهل السنّة تصرّح بكون الآية نازلة قبل تحريم الخمر، و يمكن أن تكون الرواية ناظرة إلى كون المراد بالآية عن الصلاة كسلان.

و فيه، عن زرارة عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: لا تقم إلى الصلاة متكاسلاً و لا متناعساً و لا متثاقلاً فإنّها من خلل النفاق فإنّ الله نهى المؤمنين أن يقوموا إلى الصلاة و هم سكارى يعني من النوم.

أقول: قوله: فإنّها من خلل النفاق استفادعليه‌السلام ذلك من قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا ) ، فالمتمرّد عن هذا الخطاب منافق غير مؤمن، و قوله: يعني من النوم يحتمل أن يكون من كلام الراوي و يحتمل أن يكون من كلامهعليه‌السلام و يكون تفسيراً للآية من قبيل بطن القرآن، و يمكن أن يكون من الظهر.

و قد وردت روايات اُخر في تفسيره بالنوم رواها العيّاشيّ في تفسيره عن الحلبيّ في روايتين، و الكلينيّ في الكافي بإسناده عن زيد الشحّام عن الصادقعليه‌السلام ، و بإسناده عن زرارة عن الباقرعليه‌السلام ، و روى هذا المعنى أيضاً البخاريّ في صحيحة عن أنس عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٣٨٥

( سورة النساء الآيات ٤٤ - ٥٨)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلّوا السّبِيلَ( ٤٤) وَاللّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى‏ بِاللّهِ وَلِيّاً وَكَفَى‏ بِاللّهِ نَصِير( ٤٥) مِنَ الّذِينَ هَادُوا يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدّينِ وَلَوْ أَنّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِن لَعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلّا قَلِيل( ٤٦) يَا أَيّهَا الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزّلْنَا مُصَدّقاً لِمَا مَعَكُم مِن قَبْلِ أَن نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدّهَا عَلَى‏ أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنّا أَصْحَابَ السّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُول( ٤٧) إِنّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى‏ إِثْماً عَظِيم( ٤٨) أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ يُزَكّونَ أَنْفُسَهُم بَلِ اللّهُ يُزَكّيْ مَن يَشَاءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيل( ٤٩) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى‏ بِهِ إِثْماً مُبِين( ٥٠) أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاَءِ أَهْدَى‏ مِنَ الّذِينَ آمَنُوا سَبِيل( ٥١) أُولئِكَ الّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِير( ٥٢) أَم لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَ يُؤْتُونَ النّاسَ نَقِير( ٥٣) أَمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلَى‏ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُلْكاً عَظِيم( ٥٤) فَمِنْهُم مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَن صَدّ عَنْهُ وَكَفَى‏ بِجَهَنّمَ سَعِير( ٥٥) إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنّ اللّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيم( ٥٦) وَالّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلّا ظَلِيل( ٥٧) إِنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى‏ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنّ اللّهَ نِعِمّا يَعِظُكُم بِهِ إِنّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِير( ٥٨)

٣٨٦

( بيان)

آيات متعرّضة لحال أهل الكتاب، و تفصيل لمظالمهم و خياناتهم في دين الله، و أوضح ما تنطبق على اليهود، و هي ذات سياق واحد متّصل، و الآية الأخيرة:( إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى‏ أَهْلِها ) الآية، و إن ذكر بعضهم أنّها مكّيّة، و استثناها في آيتين من سورة النساء المدنيّة، و هي هذه الآية، و قوله تعالى:( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ) الآية: النساء: ١٧٦، على ما في المجمع لكنّ الآية ظاهرة الارتباط بما قبلها من الآيات، و كذا آية الاستفتاء فإنّها في الإرث، و قد شرع في المدينة.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الّذينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ ) الآية، قد تقدّم في الكلام على الآيات (٣٦ - ٤٢) أنّها مرتبطة بعض الارتباط بهذه الآيات، و قد سمعت القول في نزول تلك الآيات في حقّ اليهود.

و بالجملة يلوح من هذه الآيات أنّ اليهود كانوا يلقون إلى المؤمنين المودّة و يظهرون لهم النصح فيفتّنونهم بذلك، و يأمرونهم بالبخل و الإمساك عن الإنفاق ليمنعوا بذلك سعيهم عن النجاح، و جدّهم في التقدّم و التعالي، و هذا لازم كون تلك الآيات نازلة في حقّ اليهود أو في حقّ من كان يسار اليهود و يصادقهم ثمّ تنحرف عن الحقّ بتحريفهم، و يميل إلى حيث يميلونه فيبخل ثمّ يأمر بالبخل.

و هذا هو الّذي يستفاد من قوله:( وَ يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ وَ الله أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ ) إلى آخر الآية.

فمعنى الآيتين - و الله أعلم - أنّ ما نبيّنه لكم تصديق ما بيّناه لكم من حال الممسك عن الإنفاق في سبيل الله بالاختيال و الفخر و البخل و الرئاء أنّك ترى اليهود الّذين اُوتوا نصيباً من الكتاب أي حظّاً منه لا جميعه كما يدّعون لأنفسهم يشترون الضلالة و يختارونها على الهدى، و يريدون أن تضلّوا السبيل فإنّهم و إن لقوكم ببشر الوجه،

٣٨٧

و ظهروا لكم في زيّ الصلاح، و اتّصلوا بكم اتّصال الأولياء الناصرين فذكروا لكم ما ربّما استحسنته طباعكم، و استصوبته قلوبكم لكنّهم ما يريدون إلّا ضلالكم عن السبيل كما اختاروا لأنفسهم الضلالة، و الله أعلم منكم بأعدائكم، و هم أعداؤكم فلا يغرّنّكم ظاهر ما تشاهدون من حالهم فإيّاكم أن تطيعوا أمرهم أو تصغوا إلى أقوالهم المزوّقة و إلقاءآتهم المزخرفة و أنتم تقدّرون أنّهم أولياؤكم و أنصاركم، فأنتم لا تحتاجون إلى ولايتهم الكاذبة، و نصرتهم المرجوّة و كفى بالله وليّاً، و كفى بالله نصيراً، فأيّ حاجة مع ولايته و نصرته إلى ولايتهم و نصرتهم.

قوله تعالى: ( مِنَ الّذينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ - إلى قوله -فِي الدِّينِ ) ( من ) في قوله:( مِنَ الّذينَ ) ، بيانيّة، و هو بيان لقوله في الآية السابقة:( الّذينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ ) ، أو لقوله:( بِأَعْدائِكُمْ ) ، و ربّما قيل: إنّ قوله: مِنَ الّذينَ هادُوا خبر لمبتدإ محذوف و هو الموصوف المحذوف لقوله يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ، و التقدير: من الّذين هادوا قوم يحرّفون، أو من الّذين هادوا من يحرّفون، قالوا: و حذف الموصوف شائع كقول ذي الرمّة:

فظلوا و منهم دمعه سابق له

و آخر يشني دمعة العين بالمهل

يريد: و منهم قوم دمعه أو و منهم من دمعه و قد وصف الله تعالى هذه الطائفة بتحريف الكلم عن مواضعه، و ذلك إمّا بتغيير مواضع الألفاظ بالتقديم و التأخير و الإسقاط و الزيادة كما ينسب إلى التوراة الموجودة، و إمّا بتفسير ما ورد عن موسىعليه‌السلام في التوراة و عن سائر الأنبياء بغير ما قصد منه من المعنى الحقّ كما أوّلوا ما ورد في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بشارات التوراة، و من قبل أوّلوا ما ورد في المسيحعليه‌السلام من البشارة، و قالوا: إنّ الموعود لم يجي‏ء بعد، و هم ينتظرون قدومه إلى اليوم.

و من الممكن أن يكون المراد بتحريف الكلم عن مواضعه ما سيذكره تعالى بقوله:( وَ يَقُولُونَ سَمِعْنا وَ عَصَيْنا ) ، فتكون هذه الجمل معطوفة على قوله:( يُحَرِّفُونَ ) ، و يكون المراد حينئذ من تحريف الكلم عن مواضعه استعمال القول بوضعه في غير

٣٨٨

المحلّ الّذي ينبغي أن يوضع فيه، فقول القائل: سمعنا من حقّه أن يوضع في موضع الطاعة فيقال:( سَمِعْنا وَ أَطَعْنا ) لا أن يقال: سمعنا و عصينا، أو يوضع: سمعنا موضع التهكّم و الاستهزاء، و كذا قول القائل: اسمع ينبغي أن يقال فيه: اسمع أسمعك الله لا أن يقال:( اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ ) أي لا أسمعك الله و راعنا، و هو يفيد في لغة اليهود معنى اسمع غير مسمع.

و قوله:( لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَ طَعْناً فِي الدِّينِ ) أصل اللّيّ الفتل أي يميلون بألسنتهم فيظهرون الباطل من كلامهم في صورة الحقّ، و الإزراء و الإهانة في صور التأدّب و الاحترام فإنّ المؤمنين كانوا يخاطبون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين ما كانوا يكلّمونه بقولهم: راعنا يا رسول الله، و معناه: أنظرنا و اسمع منّا حتّى نوفي غرضنا من كلامنا، فاغتنمت اليهود ذلك فكانوا يخاطبون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقولهم: راعنا و هم يريدون به ما عندهم من المعنى المستهجن غير الحريّ بمقامهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذمّوا به في هذه الآية، و هو قوله تعالى:( يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ ) ثمّ فسّره بقوله:( وَ يَقُولُونَ سَمِعْنا وَ عَصَيْنا وَ اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ ) ثمّ عطف عليه كعطف التفسير قوله:( وَ راعِنا ) ثمّ ذكر أنّ هذا الفعال المذموم منهم ليّ بالألسن، و طعن في الدين فقال:( لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَ طَعْناً فِي الدِّينِ ) و المصدران في موضع الحال و التقدير: لاوين بألسنتهم، و طاعنين في الدين.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ أنّهم قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَقْوَمَ ) كون هذا القول منهم و هو مشتمل على أدب الدين، و الخضوع للحقّ خيراً و أقوم ممّا قالوه (مع اشتماله على اللّيّ و الطعن المذمومين و لا خير فيه و لا قوام) مبنيّ على مقايسة الأثر الحقّ الّذي في هذا الكلام الحقّ على ما يظنّونه من الأثر في كلامهم و إن لم يكن له ذلك بحسب الحقيقة، فالمقايسة بين الأثر الحقّ و بين الأثر المظنون حقّاً، و المعنى: أنّهم لو قالوا: سمعنا و أطعنا، لكان فيه من الخير و القوام أكثر ممّا يقدّرون في أنفسهم لهذا اللّيّ و الطعن فالكلام يجري مجرى قوله تعالى:( وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَ تَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ الله خَيْرٌ مِنَ اللهوِ وَ مِنَ التِّجارَةِ وَ الله خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) الجمعة: ١١.

قوله تعالى: ( وَ لكِنْ لَعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إلّا قَلِيلًا ) تأييس للسامعين

٣٨٩

من أن تقول اليهود سمعنا و أطعنا فإنّه كلمة إيمان و هؤلاء ملعونون لا يوفّقون للإيمان، و لذلك قيل: لو أنّهم قالوا، الدالّ على التمنّي المشعر بالاستحالة.

و الظاهر أنّ الباء في قوله:( بِكُفْرِهِمْ ) للسببيّة دون الآية، فإنّ الكفر يمكن أن يزاح بالإيمان فهو لا يوجب بما هو كفر لعنة تمنع عن الإيمان منعاً قاطعاً لكنّهم لمّا كفروا (و سيشرح الله تعالى في آخر السورة حال كفرهم) لعنهم الله بسبب ذلك لعناً ألزم الكفر عليهم إلزاماً لا يؤمنون بذلك إلّا قليلاً فافهم ذلك.

و أمّا قوله:( فَلا يُؤْمِنُونَ إلّا قَلِيلًا ) فقد قيل: إنّ( قَلِيلًا ) حال، و التقدير: إلّا و هم قليل أي لا يؤمنون إلّا في حال هم قليل، و ربّما قيل: إنّ( قَلِيلًا ) صفة لموصوف محذوف، و التقدير: فلا يؤمنون إلّا إيماناً قليلاً، و هذا الوجه كسابقه لا بأس به لكن يجب أن يزاد فيه أنّ اتّصاف الإيمان بالقلّة إنّما هو من قبيل الوصف بحال المتعلّق أي إيماناً المؤمن به قليل.

و أمّا ما ذكره بعض المفسّرين أنّ المراد به قليل الإيمان في مقابل كاملة، و ذكر أنّ المعنى: فلا يؤمنون إلّا قليلاً من الإيمان لا يعتدّ به إذ لا يصلح عمل صاحبه، و لا يزكّي نفسه، و لا يرقّي عقله فقد أخطأ، فإنّ الإيمان إنّما يتّصف بالمستقرّ و المستودع، و الكامل و الناقص في درجات و مراتب مختلفة، و أمّا القلّة و تقابلها الكثرة فلا يتّصف بهما، و خاصّة في مثل القرآن الّذي هو أبلغ الكلام.

على أنّ المراد بالإيمان المذكور في الآية أمّا حقيقة الإيمان القلبيّ في مقابل النفاق أو صورة الإيمان الّتي ربّما يطلق عليها الإسلام، و اعتباره على أيّ معنى من معانيه، و الاعتناء به في الإسلام ممّا لا ريب فيه، و الآيات القرآنيّة ناصّة فيه، قال تعالى:( وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى‏ إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً ) النساء: ٩٤، مع أنّ الّذي يستثني الله تعالى منه قوله:( وَ لكِنْ لَعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ ) ، كان يكفي فيه أقلّ درجات الإيمان أو الإسلام الظاهريّ بحفظهم الظاهر بقولهم: سمعنا و أطعنا كسائر المسلمين.

و الّذي أوقعه في هذا الخطأ ما توهّمه أنّ لعنه تعالى إيّاهم بكفرهم لا يجوز

٣٩٠

أن يتخلّف عن التأثير بإيمان بعضهم فقدّر أنّ القلّة وصف الإيمان و هي ما لا يعتدّ به من الإيمان حتّى يستقيم قوله:( لَعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ ) ، و قد غفل عن أنّ هذه الخطابات و ما تشتمل عليه من صفات الذمّ و المؤاخذات و التوبيخات كلّ ذلك متوجّهة إلى المجتمعات من حيث الاجتماع، فالّذي لحقه اللّعن و الغضب و المؤاخذات العامّة الاُخرى إنّما هو المجتمع اليهوديّ من حيث أنّه مجتمع مكوّن فلا يؤمنون و لا يسعدون و لا يفلحون، و هو كذلك إلى هذا اليوم و هم على ذلك إلى يوم القيامة.

و أمّا الاستثناء فإنّما هو بالنسبة إلى الأفراد، و خروج بعض الأفراد من الحكم المحتوم على المجتمع ليس نقضاً لذلك الحكم، و المحوج إلى هذا الاستثناء أنّ الأفراد بوجه هم المجتمع فقوله:( فَلا يُؤْمِنُونَ ) حيث نفي فيه الإيمان عن الأفراد - و إن كان ذلك نفياً عنهم من حيث جهة الاجتماع - و كان يمكن فيه أن يتوهّم أنّ الحكم شامل لكلّ واحد واحد منهم بحيث لا يتخلّص منه أحد استثني فقيل:( إلّا قَلِيلًا ) فالآية تجري مجرى قوله تعالى:( وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إلّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ ) النساء: ٦٦.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الّذينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا ) إلخ الطمس محو أثر الشي‏ء، و الوجه ما يستقبلك من الشي‏ء و يظهر منه، و هو من الإنسان الجانب المقدّم الظاهر من الرأس و ما يستقبلك منه، و يستعمل في الاُمور المعنويّة كما يستعمل في الاُمور الحسّيّة، و الأدبار جمع دبر بضمّتين و هو القفا، و المراد بأصحاب السبت قوم من اليهود كانوا يعدون في السبت فلعنهم الله و مسخهم، قال تعالى:( وَ سْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الّتي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَ يَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ ) الأعراف: ١٦٣، و قال تعالى:( وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ الّذينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ فَجَعَلْناها نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها وَ ما خَلْفَها ) البقرة: ٦٦.

و قد كانت الآيات السابقة - كما عرفت - متعرّضة لحال اليهود أو لحال طائفة من اليهود، و انجرّ القول إلى أنّهم بإزاء ما خانوا الله و رسوله، و أفسدوا صالح دينهم ابتلوا بلعنة من الله لحق جمعهم، و سلبهم التوفيق للإيمان إلّا قليلاً فعمّ الخطاب لجميع

٣٩١

أهل الكتاب - على ما يفيده قوله:( يا أَيُّهَا الّذينَ أُوتُوا الْكِتابَ ) و دعاهم إلى الإيمان بالكتاب الّذي نزّله مصدّقاً لما معهم، و أوعدهم بالسخط الّذي يلحقهم لو تمرّدوا و استكبروا من غير عذر من طمس أو لعن يتّبعانهم اتّباعاً لا ريب فيه.

و ذلك ما ذكره بقوله:( مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى‏ أَدْبارِها ) ، فطمس الوجوه محو هذه الوجوه الّتي يتوجّه بها البشر نحو مقاصدها الحيويّة ممّا فيه سعادة الإنسان المترقّبة و المرجوّة لكن لا المحو الّذي يوجب فناء الوجوه و زوالها و بطلان آثارها بل محواً يوجب ارتداد تلك الوجوه على أدبارها فهي تقصد مقاصدها على الفطرة الّتي فطر عليها لكن لمّا كانت منصوبة إلى الأقفية و مردودة على الأدبار لا تقصد إلّا ما خلّفته وراءها، و لا تمشي إليه إلّا القهقرى.

و هذا الإنسان - و هو بالطبع و الفطرة متوجّه نحو ما يراه خيراً و سعادة لنفسه - كلّما توجّه إلى ما يراه خيراً لنفسه، و صلاحاً لدينه أو لدنياه لم ينل إلّا شرّاً و فساداً، و كلّما بالغ في التقدّم زاد في التأخّر، و ليس يفلح أبداً.

و أمّا لعنهم كلعن أصحاب السبت فظاهره المسخ على ما تقدّم من آيات أصحاب السبت الّتي تخبر عن مسخهم قردة.

و على هذا فلفظة( أَوْ ) في قوله:( أَوْ نَلْعَنَهُمْ ) ، على ظاهرها من إفادة الترديد، و الفرق بين الوعيدين أنّ الأوّل أعني الطمس يوجب تغيير مقاصد المغضوب عليهم من غير تغيير الخلقة إلّا في بعض كيفيّاتها، و الثاني أعني اللّعن كلعن أصحاب السبت يوجب تغيير المقصد بتغيير الخلقة الإنسانيّة إلى خلقة حيوانيّة كالقردة.

فهؤلاء إن تمرّدوا عن الامتثال - و سوف يتمرّدون على ما تفيده خاتمة الآية - كان لهم إحدى سخطتين: إمّا طمس الوجوه، و إمّا اللّعن كلعن أصحاب السبت لكنّ الآية تدلّ على أنّ هذه السخطة لا تعمّهم جميعهم حيث قال:( وُجُوهاً ) فأتى بالجمع المنكّر، و لو كان المراد هو الجميع لم ينكّر، و لتنكير الوجوه و عدم تعيينه نكتة اُخرى هي أنّ المقام لمّا كان مقام الإيعاد و التهديد، و هو إيعاد للجماعة بشرّ لا يحلق إلّا ببعضهم كان إبهام الأفراد الّذين يقع عليهم السخط الإلهيّ أوقع في الإنذار و التخويف لأنّ

٣٩٢

وصفهم على إبهامه يقبل الانطباق على كلّ واحد واحد من القوم فلا يأمن أحدهم أن يمسّه هذا العذاب البئيس، و هذه الصناعة شائعة في اللّسان في مقام التهديد و التخويف.

و في قوله تعالى:( أَوْ نَلْعَنَهُمْ ) ، حيث أرجع فيه ضمير( هم ) الموضوع لاُولي العقل إلى قوله:( وُجُوهاً ) كما هو الظاهر تلويحاً أو تصريحاً بأنّ المراد بالوجوه الأشخاص من حيث استقبالهم مقاصدهم، و بذلك يضعف احتمال أن يكون المراد بطمس الوجوه و ردّها على أدبارها تحويل وجوه الأبدان إلى الأقفية كما قال به بعضهم، و يقوى بذلك احتمال أنّ المراد من تحويل الوجوه إلى الأدبار تحويل النفوس من حال استقامة الفكر، و إدراك الواقعيّات على واقعيّتها إلى حال الاعوجاج و الانحطاط الفكريّ بحيث لا يشاهد حقّاً إلّا أعرض عنه و اشمأزّ منه، و لا باطلاً إلّا مال إليه و تولّع به.

و هذا نوع من التصرّف الإلهيّ مقتاً و نقمة نظير ما يدلّ عليه قوله تعالى:( وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَ أَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مرّة وَ نَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) الأنعام: ١١٠.

فتبيّن ممّا مرّ أنّ المراد بطمس الوجوه في الآية نوع تصرّف إلهيّ في النفوس يوجب تغيير طباعها من مطاوعة الحقّ و تجنّب الباطل إلى اتّباع الباطل و الاحتراز عن الحقّ في باب الإيمان بالله و آياته كما يؤيّده صدر الآية:( آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ ) إلخ، و كذا تبيّن أنّ المراد باللّعن المذكور فيها المسخ.

و ربّما قيل: إنّ المراد بالطمس تحويل وجوه قوم إلى أقفيتهم و يكون ذلك في آخر الزمان أو يوم القيامة، و فيه: أنّ قوله:( أَوْ نَلْعَنَهُمْ ) ينافي ذلك كما تقدّم بيانه.

و ربّما قيل: إنّ المراد بالطمس الخذلان الدنيويّ فلا يزالون على ذلّة و نكبة لا يقصدون غاية ذات سعادة إلّا بدّلها الله عليهم سراباً لا خير فيه، و فيه: أنّه و إن كان لا يبعد كلّ البعد لكنّ صدر الآية - كما تقدّم - ينافيه.

و ربّما قيل: إنّ المراد به إجلاؤهم و ردّهم ثانياً إلى حيث خرجوا منه، و قد

٣٩٣

اُخرجوا من الحجاز إلى أرض الشام و فلسطين، و قد جاؤوا منهما، و فيه أنّ صدر الآية بسياقه يؤيّد غير ذلك كما عرفته.

نعم من الممكن أن يقال: إنّ المراد به تقليب أفئدتهم، و طمس وجوه باطنهم من الحقّ إلى نحو الباطل فلا يفلحون بالإيمان بالله و آياته، ثمّ إنّ الدين الحقّ لمّا كان هو الصراط الّذي لا ينجح إنسان في سعادة حياته الدنيا إلّا بركوبه و الاستواء عليه، و ليس للناكب عنه إلّا الوقوع في كانون الفساد، و السقوط في مهابط الهلاك، قال تعالى:( ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الّذي عَمِلُوا ) الروم: ٤١، و قال تعالى:( وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى‏ آمَنُوا وَ اتّقوا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ ) الأعراف: ٩٦، و لازم هذه الحقيقة أنّ طمس الوجوه عن المعارف الحقّة الدينيّة طمس لها عن حقائق سعادة الحياة الدنيا بجميع أقسامها فالمحروم من سعادة الدين محروم من سعادة الدنيا من استقرار الحال و تمهّد الأمن و سؤدد الاستقلال و الملك، و كلّ ما يطيب به العيش، و يدرّ به ضرع العمل اللّهمّ إلّا على قدر ما نسرّب الموادّ الدينيّة في مجتمعهم و على هذا فلا بأس بالجمع بين الوجوه المذكورة جلّها أو كلّها.

قوله تعالى: ( وَ كانَ أَمْرُ الله مَفْعُولًا ) إشارة إلى أنّ الأمر لا محالة واقع، و قد وقع على ما ذكره الله في كتابه من لعنهم و إنزال السخط عليهم، و إلقاء العداوة و البغضاء بينهم إلى يوم القيامة، و غير ذلك في آيات كثيرة.

قوله تعالى: ( إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) ظاهر السياق أنّ الآية في مقام التعليل للحكم المذكور في الآية السابقة أعني قوله:( آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ ) إلخ، فيعود المعنى إلى مثل قولنا: فإنّكم إن لم تؤمنوا به كنتم بذلك مشركين، و الله لا يغفر أن يشرك به فيحلّ عليكم غضبه و عقوبته فيطمس وجوهكم بردّها على أدبارها أو يلعنكم فنتيجة عدم المغفرة هذه ترتّب آثار الشرك الدنيويّة من طمس أو لعن عليه.

و هذا هو الفرق بين مضمون هذه الآية، و قوله تعالى:( إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ

٣٩٤

بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِالله فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً ) النساء: ١١٦، فإنّ هذه الآية (آية ٤٨)، تهدّد بآثار الشرك الدنيويّة، و تلك (آية ١١٦)، تهدّد بآثاره الاُخرويّة، و ذلك بحسب الانطباق على المورد و إن كانتا بحسب الإطلاق كلتاهما شاملتين لجميع الآثار.

و مغفرته سبحانه و عدم مغفرته لا يقع شي‏ء منهما وقوعاً جزافيّاً بل على وفق الحكمة، و هو العزيز الحكيم، فأمّا عدم مغفرته للشرك فإنّ الخلقة إنّما تثبت على ما فيها من الرحمة على أساس العبوديّة و الربوبيّة، قال تعالى:( وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إلّا لِيَعْبُدُونِ ) الذاريات: ٥٦، و لا عبوديّة مع شرك، و أمّا مغفرته لسائر المعاصي و الذنوب الّتي دون الشرك فلشفاعة من جعل له الشفاعة من الأنبياء و الأولياء و الملائكة و الأعمال الصالحة على ما مرّ تفصيله في بحث الشفاعة في الجزء الأوّل من هذا الكتاب.

و أمّا التوبة فالآية غير متعرّضة لشأنها من حيث خصوص مورد الآية لأنّ موردها عدم الإيمان و لا توبة معه، على أنّ التوبة يغفر معها جميع الذنوب حتّى الشرك، قال تعالى:( قُلْ يا عِبادِيَ الّذينَ أَسْرَفُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جميعاً أنّه هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَ أَنِيبُوا إِلى‏ ربّكمْ ) الزمر: ٥٤.

و المراد بالشرك في الآية ما يعمّ الكفر لا محالة فإنّ الكافر أيضاً لا يغفر له البتّة و إن لم يصدق عليه المشرك بعنوان التسمية بناءً على أنّ أهل الكتاب لا يسمّون في القرآن مشركين و إن كان كفرهم بالقرآن و بما جاء به النبيّ شركاً منهم أشركوا به (راجع تفسير آية ٢٢١ من البقرة)، و إذا لم يؤمن أهل الكتاب بما نزّل الله مصدّقاً لما معهم فقد كفروا به، و أشركوا ما في أيديهم بالله سبحانه فإنّه شي‏ء لا يريده الله على الصفة الّتي أخذوه بها فالمؤمن بموسىعليه‌السلام إذا كفر بالمسيحعليه‌السلام فقد كفر بالله و أشرك به موسى، و لعلّ ما ذكرناه هو النكتة لقوله تعالى:( أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ) دون أن يقول: المشرك أو المشركين.

و قوله تعالى:( لِمَنْ يَشاءُ ) تقييد للكلام لدفع توهّم أنّ لأحد من الناس تأثيراً

٣٩٥

فيه تعالى يوجب به عليه المغفرة فيحكم عليه تعالى حاكم أو يقهره قاهر، و تعليق الاُمور الثابتة في القرآن على المشيئة كثير و الوجه في كلّها أو جلّها دفع ما ذكرناه من التوهّم كقوله تعالى:( خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إلّا ما شاءَ ربّك عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) هود: ١٠٨.

على أنّ من الحكمة إلّا يغفر لكلّ مذنب ذنبه و إلّا لغا الأمر و النهي، و بطل التشريع، و فسد أمر التربية الإلهيّة، و إليه الإشارة بقوله:( لِمَنْ يَشاءُ ) ، و من هنا يظهر أن كلّ واحد من المعاصي لا بدّ أن لا يغفر بعض أفراده و إلّا لغي النهي عنه، و هذا لا ينافي عموم لسان آيات أسباب المغفرة فإنّ الكلام في الوقوع دون الوعد على وجه الإطلاق، و من المعاصي ما يصدر عمّن لا يغفر له بشرك و نحوه.

فمعنى الآية أنّه تعالى لا يغفر الشرك من كافر و لا مشرك، و يغفر سائر الذنوب دون الشرك بشفاعة شافع من عباده أو عمل صالح، و ليس هو تعالى مقهوراً أن يغفر كلّ ذنب من هذه الذنوب لكلّ مذنب بل له أن يغفر و له أن لا يغفر، كلّ ذلك لحكمة.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الّذينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ ) قال الراغب: أصل الزكاة النموّ الحاصل من بركة الله تعالى - إلى أن قال -: و تزكية الإنسان نفسه ضربان: أحدهما: بالفعل و هو محمود، و إليه قصد بقوله:( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ) ، و الثاني بالقول كتزكيته لعدل غيره، و ذلك مذموم أن يفعل الإنسان بنفسه، و قد نهى الله تعالى عنه فقال:( فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ) ، و نهيه عن ذلك تأديب لقبح مدح الإنسان نفسه عقلاً و شرعاً، و لهذا قيل لحكيم: ما الّذي لا يحسن و إن كان حقّاً؟ فقال: مدح الرجل نفسه، انتهى كلامه.

و لمّا كانت الآية في ضمن الآيات المسرودة للتعرّض لحال أهل الكتاب كان الظاهر أنّ هؤلاء المزكّين لأنفسهم هم أهل الكتاب أو بعضهم، و لم يوصفوا بأهل الكتاب لأنّ العلماء بالله و آياته لا ينبغي لهم أن يتلبّسوا بأمثال هذه الرذائل فالإصرار عليها انسلاخ عن الكتاب و علمه.

و يؤيّده ما حكاه الله تعالى عن اليهود من قولهم:( نَحْنُ أَبْناءُ الله وَ أَحِبَّاؤُهُ ) المائدة: ١٨،

٣٩٦

و قولهم:( لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إلّا أيّاماً مَعْدُودَةً ) البقرة: ٨٠، و زعمهم الولاية كما في قوله تعالى:( قُلْ يا أَيُّهَا الّذينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لله مِنْ دُونِ النَّاسِ ) الجمعة: ٦، فالآية تكنّي عن اليهود، و فيها استشهاد لما تقدّم ذكره في الآيات السابقة من استكبارهم عن الخضوع للحقّ و اتّباعه، و الإيمان بآيات الله سبحانه، و استقرار اللّعن الإلهيّ فيهم، و أنّ ذلك من لوازم إعجابهم بأنفسهم و تزكيتهم لها.

قوله تعالى: ( بَلِ الله يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ) إضراب عن تزكيتهم لأنفسهم، و ردّ لهم فيما زكّوه، و بيان أنّ ذلك من شؤون الربوبيّة يختصّ به تعالى فإنّ الإنسان و إن أمكن أن يتّصف بفضائل، و يتلبّس بأنواع الشرف و السؤدد المعنويّ غير أنّ اعتناءه بذلك و اعتماده عليه لا يتمّ إلّا بإعطائه لنفسه استغناء و استقلالاً و هو في معنى دعوى الاُلوهيّة و الشركة مع ربّ العالمين، و أين الإنسان الفقير الّذي لا يملك لنفسه ضرّاً و لا نفعاً و لا موتاً و لا حياةً و الاستغناء عن الله سبحانه في خير أو فضيلة؟ و الإنسان في نفسه و في جميع شؤون نفسه، و الخير الّذي يزعم أنّه يملكه، و جميع أسباب ذلك الخير، مملوك لله سبحانه محضاً من غير استثناء، فما ذا يبقى للإنسان؟.

و هذا الغرور و الإعجاب الّذي يبعث الإنسان إلى تزكية نفسه هو العجب الّذي هو من اُمّهات الرذائل، ثمّ لا يلبث هذا الإنسان المغرور المعتمد على نفسه دون أن يمسّ غيره فيتولّد من رذيلته هذه رذيلة اُخرى، و هي رذيلة التكبّر و يتمّ تكبّره في صورة الاستعلاء على غيره من عباد الله فيستعبد به عباد الله سبحانه، و يجري به كلّ ظلم و بغي بغير حقّ و هتك محارم الله و بسط السلطة على دماء الناس و أعراضهم و أموالهم.

و هذا كلّه إذا كان الوصف وصفاً فرديّاً و أمّا إذا تعدّى الفرد و صار خلقاً اجتماعيّاً و سيرة قوميّة فهو الخطر الّذي فيه هلاك النوع و فساد الأرض، و هو الّذي يحكيه تعالى عن اليهود إذ قالوا:( لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ) آل عمران: ٧٥.

فما كان لبشر أن يذكر لنفسه من الفضيلة ما يمدحها به سواء كان صادقاً فيما يقول أو كاذباً لأنّه لا يملك ذلك لنفسه لكنّ الله سبحانه لمّا كان هو المالك لما ملّكه، و المعطي

٣٩٧

الفضل لمن يشاء و كيف يشاء كان له أن يزكّي من شاء تزكية عمليّةً بإعطاء الفضل و إفاضة النعمة، و أن يزكّي من يشاء تزكية قوليّة يذكره بما يمتدح به، و يشرّفه بصفات الكمال كقوله في آدم و نوح:( إِنَّ الله اصْطَفى‏ آدَمَ وَ نُوحاً ) آل عمران: ٣٣، و قوله في إبراهيم و إدريس:( أنّه كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا ) مريم: ٤١، ٥٦، و قوله في يعقوب:( وَ أنّه لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ ) يوسف: ٦٨، و قوله في يوسف:( أنّه مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) يوسف: ٢٤، و قوله في حقّ موسى:( أنّه كانَ مُخْلَصاً وَ كانَ رَسُولًا نَبِيًّا ) مريم: ٥١، و قوله في حقّ عيسى:( وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) آل عمران: ٤٥، و قوله في سليمان و أيّوب:( نِعْمَ الْعَبْدُ أنّه أَوَّابٌ ) ص: ٣٠، ٤٤، و قوله في محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إِنَّ وَلِيِّيَ الله الّذي نَزَّلَ الْكِتابَ وَ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ) الأعراف: ١٩٦، و قوله:( وَ إِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) القلم: ٤، و كذا قوله تعالى في حقّ عدّة من الأنبياء ذكرهم في سور الأنعام و مريم و الأنبياء و الصافّات و ص و غيرها.

و بالجملة فالتزكية لله سبحانه حقّ لا يشاركه فيه غيره إذ لا يصدر عن غيره إلّا من ظلم و إلى ظلم، و لا يصدر عنه تعالى إلّا حقّاً و عدلاً يقدّر بقدره لا يفرط و لا يفرّط، و لذا ذيّل قوله: بل الله يزكّي من يشاء بقوله - و هو في معنى التعليل -:( وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ) .

و قد تبيّن ممّا مرّ أنّ تزكيته تعالى و إن كانت مطلقة تشمل التزكية العمليّة و التزكية القوليّة لكنّها تنطبق بحسب مورد الكلام على التزكية القوليّة.

قوله تعالى: ( وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ) الفتيل فعيل بمعنى المفعول من الفتل و هو اللّيّ قيل: المراد به ما يكون في شقّ النواة، و قيل: هو ما في بطن النواة، و قد ورد في روايات عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام : أنّه النقطة الّتي على النواة، و النقير ما في ظهرها، و القطمير قشرها، و قيل: هو ما فتلته بين إصبعيك من الوسخ، و كيف كان هو كناية عن الشي‏ء الحقير الّذي لا يعتدّ به.

و قد بان بالآية الشريفة أمران: أحدهما: أن ليس لصاحب الفضل أن يعجبه فضله و يمدح نفسه بل هو ممّا يختصّ به تعالى فإنّ ظاهر الآية أنّ الله يختصّ به أن يزكّي كلّ من جاز أن يتلبّس بالتزكية فليس لغير صاحب الفضل أيضاً أن يزكّيه إلّا بما زكّاه

٣٩٨

الله به، و ينتج ذلك أنّ الفضائل هي الّتي مدحها الله و زكّاها فلا قدر لفضل لا يعرفه الدين و لا يسمّيه فضلاً، و لا يستلزم ذلك أن تبطل آثار الفضائل عند الناس فلا يعرفوا لصاحب الفضل فضله، و لا يعظّموا قدره بل هي شعائر الله و علائمه، و قد قال تعالى:( وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ الله فإنّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) الحجّ: ٣٢، فعلى الجاهل أن يخضع للعالم و يعرف له قدره فإنّه من اتّباع الحقّ و قد قال تعالى:( هَلْ يَسْتَوِي الّذينَ يَعْلَمُونَ وَ الّذينَ لا يَعْلَمُونَ ) الزمر: ٩، و إن لم يكن للعالم أن يتبجّح بعلمه و يمدح نفسه، و الأمر في جميع الفضائل الحقيقيّة الإنسانيّة على هذا الحال.

و ثانيهما: أنّ ما ذكره بعض باحثينا، و اتّبعوا في ذلك ما ذكره المغاربة أنّ من الفضائل الإنسانيّة الاعتماد بالنفس أمر لا يعرفه الدين، و لا يوافق مذاق القرآن، و الّذي يراه القرآن في ذلك هو الاعتماد بالله و التعزّز بالله قال تعالى:( الّذينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَ قالُوا حسبنَا الله وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ ) آل عمران: ١٧٣، و قال:( أَنَّ الْقوّة لله جميعاً ) البقرة: ١٦٥، و قال:( إِنَّ الْعزّة لله جميعاً ) يونس: ٦٥، إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى: ( انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى الله الْكَذِبَ ) فتزكيتهم أنفسهم ببنوّة الله و حبّه و ولايته و نحو ذلك افتراء على الله إذ لم يجعل الله لهم ذلك، على أنّ أصل التزكية افتراء و إن كانت عن صدق فإنّه - كما تقدّم بيانه - إسناد شريك إلى الله و ليس له في ملكه شريك قال تعالى:( وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ) الإسراء: ١١١.

و قوله:( وَ كَفى‏ بِهِ إِثْماً مُبِيناً ) أي لو لم يكن في التزكية إلّا أنّه افتراء على الله لكفى في كونه إثماً مبيناً، و التعبير بالإثم - و هو الفعل المذموم الّذي يمنع الإنسان من نيل الخيرات و يبطئها - هو المناسب لهذه المعصية لكونه من أشراك الشرك و فروعه، يمنع نزول الرحمة، و كذا في شرك الكفر الّذي يمنع المغفرة كما وقع في الآية السابقة:( وَ مَنْ يُشْرِكْ بِالله فَقَدِ افْتَرى‏ إِثْماً عَظِيماً - بعد قوله -إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ) .

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الّذينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ الطَّاغُوتِ ) ، الجبت و الجبس كلّ ما لا خير فيه، و قيل: و كلّ ما يعبد من دون الله سبحانه،

٣٩٩

و الطاغوت مصدر في الأصل كالطغيان يستعمل كثيراً بمعنى الفاعل، و قيل: هو كلّ معبود من دون الله، و الآية تكشف عن وقوع واقعة قضى فيها بعض أهل الكتاب للّذين كفروا على الّذين آمنوا بأنّ سبيل المشركين أهدى من سبيل المؤمنين، و ليس عند المؤمنين إلّا دين التوحيد المنزّل في القرآن المصدّق لما عندهم، و لا عند المشركين إلّا الإيمان بالجبت و الطاغوت فهذا القضاء اعتراف منهم بأنّ للمشركين نصيباً من الحقّ، و هو الإيمان بالجبت و الطاغوت الّذي نسبه الله تعالى إليهم ثمّ لعنهم الله بقوله:( أُولئِكَ الّذينَ لَعَنَهُمُ الله ) الآية.

و هذا يؤيّد ما ورد في أسباب النزول أنّ مشركي مكّة طلبوا من أهل الكتاب أن يحكموا بينهم و بين المؤمنين فيما ينتحلونه من الدين فقضوا لهم على المؤمنين، و سيأتي الرواية في ذلك في البحث الروائيّ الآتي.

و قد ذكر كونهم ذوي نصيب من الكتاب ليكون أوقع في وقوع الذمّ و اللّوم عليهم فإنّ إيمان علماء الكتاب بالجبت و الطاغوت و قد بيّن لهم الكتاب أمرهما أشنع و أفظع.

قوله تعالى: ( أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ - إلى قوله -نَقِيراً ) النقير فعيل بمعنى المفعول و هو المقدار اليسير الّذي يأخذه الطير من الأرض بنقر منقاره، و قد مرّ له معنى آخر في قوله:( وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ) الآية.

و قد ذكروا أنّ( أَمْ ) في قوله:( أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ ) ، منقطعة و المعنى: بل أ لهم نصيب من الملك، و الاستفهام إنكاريّ أي ليس لهم ذلك.

و قد جوّز بعضهم أن تكون( أم ) متّصلة، و قال: إنّ التقدير: أ هم أولى بالنبوّة أم لهم نصيب من الملك؟ و ردّ بأنّ حذف الهمزة إنّما يجوز في ضرورة الشعر، و لا ضرورة في القرآن، و الظاهر أنّ أم متّصلة و أنّ الشقّ المحذوف ما يدلّ عليه الآية السابقة:( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الّذينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ ) الآية، و التقدير: أ لهم كلّ ما حكموا به من حكم أم لهم نصيب من الملك أم يحسدون الناس؟ و على هذا تستقيم الشقوق و تترتّب، و يتّصل الكلام في سوقه.

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592