الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل6%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 174831 / تحميل: 5996
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

ويتّضح من هنا أن انحرافها كان من جهة العقيدة ، ولا يبعد أن يكون هذا الانحراف متأثرا بسبب محيطها وكانت في بداية الأمر مؤمنة موحدة ، وبهذا فلن يرد أي إشكال على لوطعليه‌السلام في أنّه لم تزوّج بمثل هذه المرأة؟!

وإذا كان جماعة من المؤمنين الآخرين قد آمنوا بلوط ، فمن المؤكّد أنّهم كانوا قد هاجروا عن تلك الأرض المدنّسة قبل هذا الحادث ، ما عدا لوطا وأهله ، فإنّه كان عليه أن يبقى إلى آخر ساعة هناك ، لاحتمال تأثير تبليغه وإنذاره.

هنا ينقدح هذا السؤال : ترى هل كان «إبراهيم» يحتمل أن عذاب الله سيشمل لوطا ، فأظهر تأثره أمام الملائكة ، غير أنّهم طمأنوه بنجاة لوط؟!

والجواب الواضح على هذا السؤال ، وهو أن إبراهيم كان يعرف الحقيقة ، وإنّما سأل ليطمئن قلبه ، نظير هذا السؤال ما كان من هذا النّبي العظيم في شأن المعاد وإحياء الموتى ، إذ جسد له الله ذلك في إحياء أربعة من الطير «ليطمئن قلبه».

إلّا أنّ المفسّر الكبير العلّامة الطباطبائي يعتقد أنّ المراد من سؤال إبراهيم هو أن وجود «لوط» بين هؤلاء القوم سيكون دليلا على رفع العذاب عنهم ويستعين بالآيات (٧٤) ـ (٧٦) من سورة هود على هذا المقصد ، لأنّ هذه الآيات تبيّن : أنّهعليه‌السلام كان يريد بقوله :( إِنَّ فِيها لُوطاً ) أن يصرف العذاب بأن فيها لوطا وإهلاك أهلها يشمله ، فأجابوه بأنهم لا يخفى عليهم ذلك بل معه غيره ممن لا يشملهم العذاب وهم أهله إلّا امرأته.(١)

لكننا نعتقد أنّ هذا الجواب من الملائكة ـ في صدد نجاة لوط وأهله ـ يدلّ بوضوح أن الكلام في هذه الآيات هو على لوط فحسب ، ولكن آيات سورة هود تتحدث عن موضوع منفصل ، وكما قلنا آنفا فإنّ إبراهيم كان ليطمئن قلبه أكثر

__________________

(١) الميزان ، ج ١٦ ، ص ١٢٤.

٣٨١

«فلاحظوا بدقة».

انتهى كلام الملائكة مع إبراهيم هنا ، وتوجهوا إلى ديار لوطعليه‌السلام وقومه ، يقول القرآن في هذا الشأن :( وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً ) .

وكان كلّ استيائه وعدم ارتياحه بسبب أنّه لم يعرفهم فقد جاؤوا إليه بهيئة فتيان ذي وجوه مليحة ، ومجيء أمثال هؤلاء الضيوف في مثل هذا المحيط الملوّث ، ربّما كان يجرّ على لوط الوبال ، وأن يذهب ماء وجهه أمامهم ، لذلك فكر مليّا : ما عسى أن يكون ردّ فعل هؤلاء القوم الضالين الوقحين الذين لا حياء لهم قبال هؤلاء الضيوف؟!

«سيء» مشتقّة من «ساء» ومعناه سوء الحال ، و «الذرع» معناه «القلب» «الخلق» ، فعلى هذا يكون معنى( ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً ) أي ضاق قلبه وانزعج.

وقال بعض المفسّرين : إنّ هذه الكلمة في الأصل تعني «الفاصلة بين أطراف البعير أثناء السير» وحيث أنّهم إذا وضعوا على البعير حملا ثقيلا قصّر خطاه وضيّق الفاصلة ، عبروا بجملة «ضاق ذرعا» كناية عن الحادثة الثقيلة «الصعبة» التي لا تطاق!

إلّا أنّ الضيوف حين أدركوا عدم ارتياحه كشفوا عن «هويّتهم» وعرفوا أنفسهم ورفعوا عنه الحزن :( وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ ) .

ويستفاد بالطبع من الآيات التي في سورة هود أن أولئك القوم الأراذل ، حين عرفوا بوجود الضيوف عند لوطعليه‌السلام أسرعوا إليه ، وكان في نيّتهم أن يعتدوا عليهم ، وحيث أن لوطا كان لا يزال غير عارف بحقيقة الملائكة فقد كان متأثرا جدّا ، وكان تارة ينصحهم واخرى يهدّدهم ومرّة يقول لهم :( أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ ) فيحرك ضمائرهم وتارة يقترح عليهم الزواج من بناته ، وأراد أن يمنعهم

٣٨٢

من الوصول إلى أضيافه ، لكن هؤلاء المنحرفين الذين لا حياء لهم لم يقتنعوا بأي شيء ولم يفكروا إلّا بهدفهم المخزي.

ولكن رسل الله عرفوا أنفسهم للوطعليه‌السلام ، وأعموا أبصار هؤلاء القوم الذين أرادوا الهجوم على الملائكة واثلجوا قلب ذلك النّبي العظيمعليه‌السلام .(١)

وما ينبغي الالتفات إليه أن رسل الله قالوا للوط :( لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ ) فما الفرق بين كلمتي «الخوف» و «الحزن»؟

ورد في تفسير الميزان أن الخوف يقع على الحوادث غير المستساغة احتمالا أمّا الحزن فيقع في الموارد القطعية.

وقال بعضهم : الخوف يطلق على الحوادث المستقبلية ، أمّا الحزن فعلى ما مضى! كما يرد هذا الاحتمال وهو أن الخوف في المسائل الخطرة ، أمّا الحزن فهو في المسائل الموجعة ، وإن لم يكن فيها أي خطر!

وهنا ينقدح هذا السؤال ، وهو أنّه طبقا لآيات سورة هود فإنّ لوط وخوفه لم يكن على نفسه ، بل كان يخشى أن يضايقوا «ضيفه»(٢) غير أن جواب الملائكة يتعلق بنجاة لوط وأهله ، وهذان الأمران غير منسجمين.

والجواب على هذا السؤال يستفاد إجمالا من الآية (٨١) من سورة هود ، لأنّ القوم المنحرفين حين مدّوا أيديهم إلى الضيوف قال الملائكة :( يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ ) أي مسألتنا سهلة ولن يصل إليك سوء وأذى منهم أيضا ، فعلى هذا كان الملائكة يرون النجاة بالنسبة لهم من المسلّم بها ، وإنّما ركزوا على البشارة للوط وأهله فحسب.

وبعد هذا ، ولكي تتضح خطة عملهم في شأن عاقبة هؤلاء القوم المنحرفين

__________________

(١) ذكرنا تفصيل هذا الحادث في ذيل الآيات ٧٧ ـ ٨١ من سورة هود فلا بأس بمراجعتها.

(٢) «الضيف» يطلق على المفرد والجمع ، وجمعه : ضيوف وأضياف. (المصحح).

٣٨٣

أكثر ، أضافوا :( إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ) .

والمراد بالقرية هي «سدوم» وما جاورها من القرى والمدن التي كان يسكنها قوم لوط ، وقد أوصل بعضهم عدد هؤلاء إلى سبعمائة ألف نفر(١) .

والمراد من «الرجز» هنا هو العذاب ، ومعناه الأصلي الاضطراب ، ثمّ عبروا عن كل شيء يوجب الاضطراب بالرجز ، ولذلك استعمل العرب كلمة الرجز في كثير من المعاني كالبلايا الشديدة ، والطاعون أو البرد ، والأصنام ، ووساوس الشيطان ، والعذاب الإلهي إلخ.

وجملة( بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ) هي سبب عقابهم الشديد ، لأنّهم لم يطيعوا الله ، والتعبير بالفعل المضارع «يفسقون» دليل على استمرارهم ودوامهم على العمل القبيح!.

وهذا التعبير يبيّن هذه الحقيقة ، وهي لو أن أولئك لم يستمروا على الذنب ، وكانوا يتوبون ويعودون إلى طريق الحق والتقوى ، لم يبتلوا بمثل هذا العذاب وكانت ذنوبهم الماضية مغفورة.

وهنا لم يذكر القرآن كيفية العذاب الأليم ، سوى أنّه قال :( وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) .

إلّا أنّ في سورة هود الآية (٨٢) منها ، وكذلك سورة الأعراف الآية ٨٤ منها ، تفصيلا في بيان العذاب ، وهو أنّه أصابت قراهم في البداية زلزلة شديدة فجعلت عاليها سافلها ، ثمّ أمطرت عليها حجارة من السماء بحيث توارت بيوتهم وقراهم وأجسادهم تحتها!.

والتعبير بـ «الآية البينة» أي العلامة الواضحة ، هو إشارة إلى الآثار الباقية من مدينة «سدوم» التي كانت في طريق قوافل أهل الحجاز طبقا «لآيات القرآن»

__________________

(١) روح البيان ، ج ٦ ، ص ٤٦٧.

٣٨٤

وكانت باقية حتى ظهور النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله . كما نقرأ في الآية (٧٦) من سورة الحجر( وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ ) ، وكما نقرأ في سورة الصافات الآيتين (١٣٧) و (١٣٨) :( وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) .

* * *

٣٨٥

الآيات

( وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (٣٩) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٠) )

التّفسير

تنوع العذاب للظالمين :

بعد بيان قصّة لوط وقومه يقع الكلام عن أقوام آخرين أمثال قوم شعيب وعاد وثمود ، وقارون وفرعون ، وقد أشير في هذه الآيات ـ محل البحث ـ إلى كلّ

٣٨٦

منهم إشارة موجزة «مكثفة» للاستنتاج والعبرة!

في البداية تقول الآية :( وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً ) (١) .

والتعبير بكلمة «أخاهم» كما قلنا مرارا ، هو إشارة إلى منتهى محبّة هؤلاء الأنبياء إلى أممهم ، وإلى عدم طلبهم السلطة ، وبالطبع فإنّ هؤلاء الأنبياء كانت لهم علاقة قرابة بقومهم أيضا.

و «مدين» مدينة واقعة جنوب غربي الأردن ، وتدعى اليوم بـ «معان» وهي في شرق خليج العقبة ، وكان شعيبعليه‌السلام وقومه يقطنون فيها(٢) .

وشعيب كسائر أنبياء الله العظام ، بدأ بالدعوة الى الاعتقاد بالمبدأ والمعاد ، وهما أساس كل دين وطريقة( فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ ) .

فالإيمان بالمبدأ يكون سببا لإحساس الإنسان بأن الله يراقبه مراقبة دقيقة بشكل دائم ويسجّل أعماله ؛ والإيمان بالمعاد يذكر الإنسان بمحكمة عظيمة يحاسب فيها عن كل شيء وكل عمل مهما كان تافها ومن المسلم أنّ الإعتقاد بهذين الأصلين له أثره البالغ على تربية الإنسان وإصلاحه!.

والمبدأ الثّالث هو بمثابة خطّة عمل جامعة ، تحمل بين طياتها جميع الخطط الاجتماعية ، إذ قال :( وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) .

وللفساد مفهوم واسع يشمل كل نقص انحراف ، وتدمير ، وظلم إلخ ويقابله الصلاح والإصلاح ، ومفهومهما يشمل جميع الخطط البنّاءة!.

أمّا كلمة «تعثوا» فهي من مادة «عثى» ومعناه إحداث الفساد أو الإفساد ، غاية ما في الأمر أن هذا التعبير كثيرا ما يستعمل في الموارد التي تكون فيها «مفاسد أخلاقية» ، فعلى هذا يكون ذكر كلمة «مفسدين» بعدها تأكيدا على هذا

__________________

(١) هذه الجملة معطوفة على جملة «ولقد أرسلنا نوحا».

(٢) ورد الكلام على مدين في ذيل الآية (٢٣) من سورة القصص في هذا الجزء بإسهاب.

٣٨٧

المفهوم.

إلّا أنّ تلك الجماعة بدلا من أن تصغي لمواعظه ونصائحه بآذان القلوب ، خالفته ولم تصغ إليه «فكذبوه».

وكان هذا التكذيب سببا في أن تصيبهم زلزلة شديدة( فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ ) أي مكبوبين على وجوههم ميتين.

و «الجاثم» مشتق من «جثم» على زنة «سهم» ومعناه الجلوس على الركبة والتوقف في مكان ما ولا يبعد أن يكونوا نائمين عند وقوع هذه الزلزلة الشديدة فهذا التعبير إشارة إلى أنّهم عند وقوع هذه الحادثة نهضوا وجثوا على الركب ، إلّا أنّ الحادثة لم تمهلهم حيث انهارت الجدران عليهم ونزلت عليهم الصاعقة التي تزامنت معها فماتوا(١) .

أمّا الآية التي بعده فتتحدث عن «عاد» و «ثمود» قومي (هود وصالح) ، دون أن تذكر ما قاله نبيّاهما لهما ، وما ردّ عليهما قومهما المعاندون ، لأنّهما مذكوران في آيات عديدة من القرآن ، وهما أي قوم هود وقوم صالح معروفان ، فلذلك ، تقول الآية :( وَعاداً وَثَمُودَ ) (٢) .

ثمّ تضيف الآية( وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ ) المتهدمة والتي هي على طريقكم في منطقة الحجر واليمن.

فأنتم في كل سنة تمرون في أسفاركم للتجارة بأرض «الحجر» التي تقع شمال جزيرة العرب ، وبالأحقاف التي تقع قريبا من اليمن وجنوبها ، وترون آثار المساكن المتهدمة وبقاياها من عاد وثمود ، فعلام لا تعتبرون؟!

ثمّ تشير الآية إلى السبب الأصلي لشقائهم وسوء حظّهم ، إذ تقول :( وَزَيَّنَ

__________________

(١) بيان هذه الحادثة المؤلمة فصلناه في تفسير «سورة هود» ذيل الآيات في شرح قصة «شعيب وقومه».

(٢) «وعادا وثمودا» مفعولان لفعل مقدر وهو «أهلكنا» وهو يستفاد من الآية السابقة. وقال بعضهم : فعلهما المحذوف تقديره «اذكر».

٣٨٨

لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ) .

وكانت فطرتهم على فطرة الله وتقواه ، ولم يأل الأنبياء جهدا في هدايتهم ، وبذلوا قدرا كافيا من النصح والإرشاد لهم ، لكنّهم حادوا( وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ) .

قال بعض المفسّرين : إنّ جملة( وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ) تعني أنّهم كانوا ذوي أعين بصيرة ، وعقل كاف.

وقال بعضهم : إنها تعني أنّهم كانوا على الفطرة السليمة.

كما قال آخرون : إنّها تعني هداية الأنبياء لهم.

ولا يمنع اجتماع جميع هذه المعاني في الآية الكريمة ، فهي إشارة إلى أنّهم لم يكونوا جاهلين قاصرين ، بل كانوا يعرفون الحق جيدا من قبل ، وكانت ضمائرهم حية ولديهم العقل الكافي ، وأتمّ الأنبياء عليهم الحجّة البالغة ، ولكن

مع كل ما تقدم من نداء العقل والضمير ، ودعوة الأنبياء ، فقد انحرفوا عن السبيل ووسوس لهم الشيطان ، ويوما بعد يوم يرون أعمالهم القبيحة حسنة ، وبلغوا مرحلة لا سبيل لهم إلى الرجوع منها ، فأحرق قانون الخلق والإيجاد هذه العيدان اليابسة وهي جديرة بذلك! والآية الأخرى تذكر أسماء ثلاثة من الجبابرة الذين كان كل واحد منهم بارزا للقدرة الشيطانية ، فتقول :( وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ ) (١) .

فقارون كان مظهر الثروة المقرونة بالغرور وعبادة «الذات» والأنانية والغفلة.

وفرعون كان مظهر القدرة الاستكبارية المقرونة بالشيطنة.

وأمّا هامان ، فهو مثل لمن يعين الظالمين المستكبرين!.

ثمّ يضيف القرآن( وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ) والدلائل( فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ ) فاعتمد قارون على ثروته وخزائنه وعلمه ، واعتمد فرعون وهامان على جيشهما وعلى القدرة العسكرية ، وعلى قوة إعلامهم وتضليلهم لطبقات

__________________

(١) هذه الكلمات الثلاث مفاعيل للفعل المقدر «أهلكنا» أو كما قال البعض : هي مفاعيل لفعل تقديره «اذكر»!

٣٨٩

الناس المغفّلين الجهلة.

لكن برغم كل ذلك لم يفلحوا( وَما كانُوا سابِقِينَ ) .

فأمر الله الأرض التي هي مهد الاطمئنان والدعة بابتلاع قارون.

وأمر الماء الذي هو مصدر الحياة بابتلاع فرعون وهامان.

وعبأ جنود السماوات والأرض لإهلاكهم جميعا ، بل ما كان مصدر حياتهم أمر الله أن يكون هو نفسه سببا لفنائهم(١) .

كلمة «سابقين» تعني من يتقدم ويكون أمام الآخرين ، فمفهوم قوله تعالى :

( وَما كانُوا سابِقِينَ ) أي إنّهم لم يستطيعوا أن يهربوا من سلطان الله برغم ما كان عندهم من إمكانات ، بل أهلكهم الله في اللحظة التي أراد ، وأرسلهم إلى ديار الفناء والذلة والخزي.

كما يذكر في الآية التي بعدها( فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ ) .

وحيث أنّ القرآن ذكر «الطوائف الأربع» في الآيتين المتقدمتين ، ولم يبيّن عذابهم ، وهم :

١ ـ قوم هود «عاد».

٢ ـ وثمود «قوم صالح».

٣ ـ قارون.

٤ ـ فرعون وهامان.

فإنه يذكر في هذه الآية بحسب الترتيب أنواع عذابهم. فيقول :( فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً ) .

و «الحاصب» معناه الاعصار الذي يحمل حصى كثيرة معه ، و «الحصباء» «الحصى الصغيرة».

__________________

(١) شرح قصّة حياة قارون في الآيات السبع ٧٦ ـ ٨٢ سورة القصص ، وهلاك فرعون وجماعته في تفسير سورة القصص ، كما ورد في سورة الأعراف أيضا.

٣٩٠

والمقصود بـ «منهم» هنا هم «عاد» قوم هود ، وحسب ما جاء في بعض السور كالذاريات والحاقة والقمر ، أصابهم اعصار شديد مهلك خلال ثمانية أيّام وسبع ليال فدمرهم تدميرا.

يقول القرآن :( سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ ) «الحاقة».

( وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ ) وقلنا : إن الصيحة السماوية التي هي نتيجة الصاعقة التي تقترن مع الزلزلة في زمان الوقوع ، وهذا هو العذاب الذي عذب الله به ثمود «قوم هود» كما عذب آخرين ويقول القرآن في الآية (٦٧) من سورة هود في شأن ثمود( وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ ) .

( وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ ) . وهذا هو عقاب قارون الثري المغرور المستكبر من بني إسرائيل ، وقد أشير إليه في الآية (٨١) من سورة القصص.

( وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا ) ونعرف أنّ هذا الكلام إشارة إلى عقاب فرعون وهامان وجنودهما ، وقد ذكرت هذه القصّة في سور متعددة من القرآن الكريم.

وعلى كل حال ، فمع الالتفات لهذا البيان فإن أنواع العذاب الأربعة ذكرت هنا للطوائف الأربع المذكورين في الآيتين المتقدمتين. حيث اشارتا إلى ضلالهم وانحرافهم وذنوبهم دون أن تذكرا عقابهم.

ولكن من البعيد أن تشمل هذه الأنواع الأربعة من العذاب الواردة في هذه الآية أقواما آخرين ، كما يقول بعض المفسّرين. «كالغرق لقوم نوح ، وإمطار الحجارة والحصباء على قوم لوط» لأنّ عقابهم مذكور هناك وفي موارد ذكرهم ولا حاجة للتكرار هنا ، وأمّا عقاب الفئات الأربع فلم يذكر في هذه السلسلة من الآيات ، ولذا بينه الله سبحانه في الآيتين الأخيرتين.

ويبيّن في ختام الآية التأكيد على هذه الحقيقة ، وهي أنّ ما أصابهم هو بسبب أعمالهم ، وهم زرعوا فحصدوا( وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ

٣٩١

يَظْلِمُونَ ) .

أجل ، إنّ عقاب هذه الدنيا والآخرة هو تجسيد أعمالهم ، حيث يغلقون جميع طرق الإصلاح في وجوههم. فالله أكثر عدلا وأسمى من أن يظلم الإنسان أدنى ظلم!.

وهذه الآية ـ كسائر كثير من آيات القرآن ـ تثبت أصل الحرية في الإرادة والإختيار عند الإنسان ، وتقرر أن التصميم في كل مكان يصدر من الإنسان نفسه. وقد خلقه الله حرّا ويريده حرّا فعلى هذا يبطل اعتقاد أتباع مذهب «الجبر» الذين لهم وجود بين المسلمين ـ مع الأسف ـ بهذا المنطق القوي للقرآن الكريم.

* * *

٣٩٢

الآيات

( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (٤٣) خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤) )

التّفسير

دعامة واهية كبيت العنكبوت :

بيّنت الآيات السابقة ما آل إليه المشركون والمفسدون الظلمة والأنانيون من مصير وخيم وعاقبة سوداء وعذاب أليم وبهذه المناسبة ، ففي الآيات التي بين أيدينا ، يبيّن القرآن الكريم مثالا بليغا ومؤثرا يعبدون غير الله ويتخذون من دونه أولياء! وكلما أمعنا النظر في هذا المثال وفكرنا فيه مليّا انقدحت في أذهاننا منه لطائف دقيقة ، يقول تعالى :( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) .

كم هو بديع هذا المثال وطريف ، وكم هو بليغ ودقيق هذا التشبيه!.

٣٩٣

تأمّلوا بدقّة إنّ كل حيوان ـ وكل حشرة ـ له بيت أو وكر وما أشبه ذلك ، لكن ليس في هذه البيوت بيت أوهن من بيت العنكبوت! فكل بيت ـ عادة ـ يحتوي على سقف وباب وجدار ، وهو يحفظ صاحبه من الحوادث ، ويكون مكانا أمينا لإيداع الأطعمة والأشياء الأخرى وحفظها فبعض البيوت لا سقف لها إلّا أنّها على الأقل لها جدار ، كما أنّ هناك بيوتا لا جدار لها إلّا أن لها سقفا.

لكن بيت العنكبوت المنسوج من خيوط دقيقة واهية ، ليس له سقف ولا جدار ولا ساحة ولا باحة ولا باب ، هذا من جانب ومن جانب آخر فإنّ مواد بنائه واهية جدّا وسرعان ما تتلاشى إزاء أية حادثة بسيطة ، فهي لا تقدر على المقاومة.

فلو هبّ نسيم عليل لتمزق هذا النسيج.

ولو سقطت عليه قطرات المطر لتلاشى وتلف.

ولو لامسته شعلة خفيفة لاحرقته.

وحتى لو تراكم عليه الغبار لتركه أشلاء ممزقة معلقة.

فآلهة هؤلاء الجماعة ومعبوداتهم «الكاذبة» كمثل هذا البيت لا تنفع ولا تضر ولا تحلّ مشكلة ، ولا تكون ملجأ لأحد في المحنة والشدّة!.

صحيح إن هذا البيت للعنكبوت ـ مع ما لها من أرجل طويلة ـ هو محل استراحتها ، وشرك لاصطياد الحشرات والحصول على الغذاء إلّا أن هذا البيت ـ بالقياس إلى البيوت الأخرى للحيوانات والحشرات ـ في منتهى الوهن والانهيار!.

فمن يعتمد على غير الله ويتخذ من دونه وليا ، فقد اعتمد على بيت العنكبوت!!.

والذين اختاروا سوى الله ، اعتمدوا على بيوت العناكب ، كعرش فرعون وتاجه ، والأموال المتراكمة عند قارون ، وقصور الملوك وخزائنهم ، جميع هذه

٣٩٤

الأمور المذكورة كمثل بيت العنكبوت!.

فهي لا تدوم ، ولا يمكن الاعتماد عليها ، ولا أساس لها حتى تكون راسخة أمام طوفان الحوادث.

والتاريخ يدل على أنّه لا يمكن الاعتماد على أيّ من هذه الأمور حقّا.

أمّا الذين اعتمدوا على الله وتوكلوا عليه ، فقد اعتمدوا على سدّ حصين منيع.

والجدير بالذكر ، أنّ بيت العنكبوت ونسيج خيوطه المضروب به المثل ، هو نفسه من عجائب الخلق ، والتدقيق فيه يعرف الإنسان على عظمة الخالق أكثر. ، فخيوط العنكبوت «مصنوعة» ومنسوجة من مائع لزج ، هذا المائع مستقر في حفر دقيقة وصغيرة كرأس الإبرة تحت بطن العنكبوت ، ولهذا المائع خصوصية أو تركيب خاص هو أنّه متى ما لامس الهواء جهد وتصلّب.

والعنكبوت تخرج هذا المائع بواسطة آليات خاصة وتصنع خيوطها منه.

يقال : إن كلّ عنكبوت يمكن لها أن تصنع من هذا المائع القليل جدّا ما مقداره خمسمائة متر من خيطها المفتول!.

وقال بعضهم : إنّ الوهن في هذه الخيوط منشؤه دقتها القصوى ، ولولا هذه الدقة فإنها أقوى من الفولاذ «لو قدر أن تفتل بحجم الخيط الفولاذي».

العجيب أنّ هذه الخيط تنسج أحيانا من أربع جدائل كل جديلة هي أيضا منسوجة أو مصنوعة من ألف جديلة! وكل جديلة تخرج من ثقب صغير جدّا في بدن العنكبوت ، ففكروا الآن في هذه الخيوط التي تتكون منها هذه الجديلة كم هي ناعمة ودقيقة وظريفة؟!

وإضافة إلى العجائب الكامنة في بناء بيت العنكبوت ونسجه ، فإنّ شكل بنائه وهندسته طريف أيضا ، فلو دققنا النظر في بيوت العنكبوت لرأينا منظرا طريفا مثل الشمس وأشعتها مستقرة على قواعد هذا «البناء النسيجي» ، وبالطبع فإن هذا البيت مناسب للعنكبوت وكاف ، ولكنّه في المجموع لا يمكن تصور بيت

٣٩٥

أوهن منه ، وهكذا بالنسبة إلى آلهة الضالين ومعبوديهم ، إذ تركوا عبادة الله والتجأوا إلى الأصنام والأحجار والأوثان!!.

ومع الالتفات إلى أن العناكب ليست نوعا واحدا ، بل ـ كما يدعي بعض العلماء ـ عرف منها حتى الآن عشرون ألف نوع ، وكل نوع له خصوصياته التي تبين عظمة الخالق وقدرته في خلق هذا الموجود الصغير بوضوح وجلاء.

التعبير بـ «الأولياء» جمع ولي مكان التعبير بالأصنام ، ربّما كان إشارة ضمنية إلى هذه اللطيفة ، وهي أنّه ليس الحكم مختصا بالأصنام والآلهة المزعومة ، بل حتى الأئمة والقادة الارضيين مشمولون بهذا الحكم أيضا.

وجملة( لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) تتعلق بالأصنام والمعبودين من دون الله ولا ترتبط بوهن بيت العنكبوت لأنّ وهن بيت العنكبوت معلوم عند الجميع ، فعلى هذا يكون مفهوم الجملة كالتالي : لو كانوا يعلمون وهن المعبودين من دون الله وما ركنوا إليه من دونه واختاروه ، لعلموا أنّهم في الوهن والضعف كما هي الحال في بيت العنكبوت من الوهن!.

أمّا الآية التالية ففيها تهديد لهؤلاء المشركين الغفلة الجهلة إذ تقول :( إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ! ) ولا يخفى على الله شركهم الظاهر ولا شركهم الخفي( وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) على الإطلاق!

وإذا أمهلهم ، فليس بسبب العجز والضعف ، أو عدم العلم ، أو أن قدرته محدودة ، بل كل ذلك من حكمته التي توجب أن يمنحوا الفرصة الكافية لتتم الحجة البالغة لله عليهم ، فيهتدي من هو جدير بالهدى!.

قال بعض المفسّرين : إن هذه الجملة إشارة إلى حجج المشركين وإلى ادّعائهم أنّهم في عبادتهم للأصنام لا يريدون بها الأصنام ذاتها ، بل إنّ الأصنام عندهم مطهر ورمز للنجوم السماوية والأنبياء والملائكة ، فهم ـ كما يزعمون ـ يسجدون لأولئك لا للأصنام وخيرهم وشرهم ونفعهم وضررهم بيدها أيضا.

٣٩٦

فالقرآن يبيّن أن الله يعلم الأشياء التي تدعونها ـ كائنا من كان ، وأي شيء كان ـ فكل أولئك المعبودين إزاء قدرته كمثل بيت العنكبوت ، ولا يملكون لأنفسهم شيئا كي يعطوه لكم. ،

والآية الثّالثة ـ من الآيات محل البحث ـ لعلها تشير إلى ما استشكله أعداء الإسلام على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في هذه الأمثلة التي ضربها الله ، وكانوا يقولون : الله الذي خلق السماوات والأرض كيف يضرب الأمثال بالعنكبوت والذباب والحشرات وما شاكلها؟

فيردّ القرآن بقوله :( وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ ) .

إنّ أهميّة المثال وظرافته لا تكمن في كبره وصغره ، بل تظهر أهميته في انطباق المثال على المقصود ، فقد يكون صغر الشيء الممثل به أكبر نقطة في قوته.

قالوا في ضرب الأمثال : ينبغي عند الكلام عن الأشياء الضعيفة والتي فيها وهن أن يمثل لها في ما لو اعتمد عليها ببيت العنكبوت ، فهو أحسن شيء ينتخب لهذا الوهن وعدم الثبات ، فهذا المثال هو الفصاحة بعينها والبلاغة ذاتها ، ولذا قيل : إنّه لا يعلم دقائق أمثلة القرآن ولا يدركها إلّا العلماء!.

وفي آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ يضيف القرآن الكريم :( خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ) . ليس في عمل الله باطل أو عبث فإذا التشبيه بالعنكبوت وبيته الخاوي هو أمر محسوب بدقّة. وإذا ما اختار موجودا صغيرا للتمثيل به فهو لبيان الحقّ ، وإلّا فهو خالق أعظم المجرّات والمنظومات الشمسيّة وغيرها.

ومن الطريف ـ هنا ـ أن نهاية هذه الآيات تنتهي بالعلم والإيمان ، ففي مكان يقول القرآن :( لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) وفي مكان آخر يقول :( وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ ) وفي الآية التي نحن في صددها يقول :( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ) .

٣٩٧

وهي إشارة إلى أن وجه الحق مشرق جلي دائما ولكنّه يثمر في الموارد المستعدة في قلب مطّلع باحث ، وعقل يقظ مذعن للحق وإذا كان هؤلاء الذين عميت قلوبهم لا يرون جمال الحق ، فليس ذلك لخفائه ، بل لعماهم! وضلالهم!.

* * *

٣٩٨

الآية

( اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (٤٥) )

التّفسير

إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر :

بعد الفراغ من بيان أقسام مختلفة من قصص الأمم السابقة وأنبيائهم العظام وما عاملهم به قومهم من معاملة سيئة مذمومة ، وبيان نهاية هؤلاء الظالمين الاليمة ، يتوجه الخطاب ـ على سبيل تسلية الخاطر ، وتقوية الروحية ، وإراءة الخط الكلّي أو الخطوط العامة ـ للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ويأمره بما ينبغي عليه أن يفعل.

فيبدأ أوّلا بقوله :( اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ ) أي اقرأ هذه الآيات فسوف تجد فيها ما تبتغيه وتطلبه من العلم والحكمة والنصح ، ومعيار معرفة الحق من الباطل ، وسبل تنوير القلب والروح ، ومسير حركة كل طائفة ، أو مجموعة واتجاهها!.

اقرأ وامض على نهجها في حياتك ، اقرأها واستلهم منها اقرأها ونوّر قلبك بتلاوتها.

وبعد بيان هذا الأمر الذي يحمل ـ في الحقيقة ـ طابعا تعليميا ، يأتي الأمر

٣٩٩

الثّاني الذي هو محور أصيل للتربية فيقول تعالى :( وَأَقِمِ الصَّلاةَ )

ثمّ يبيّن فلسفة الصلاة الكبرى فيقول :( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ) (١) .

طبيعة الصلاة ـ حيث أنّها تذكر بأقوى رادع للنفس ، وهو الاعتقاد بالمبدأ والمعاد ـ فإنّها تردع عن الفحشاء والمنكر ، فالإنسان الذي يقف للصلاة ، ويكبّر ، يرى الله أعلى من كل شيء وأسمى من كل شيء ، ويتذكر نعمه فيحمده ويشكره ، ويثني عليه وينعته بأنّه رحمان رحيم ، ويذكر يوم الجزاء «يوم الدين» ويعترف بالعبودية له ، ويطلب منه العون ، ويستهديه الصراط المستقيم ، ويتعوذ به من طريق المغضوب عليهم ، ويلتجئ إليه (مضمون سورة الحمد).

فلا شك أنّ قلب مثل هذا الإنسان وروحه سوف تدبّ فيها حركة نحو الحقّ ، واندفاع نحو الطهارة ، ونهوض نحو التقوى.

يركع لله ويضع جبهته على الأرض ساجدا لحضرته ، ويغرق في عظمته ، وينسى أنانيته وذاتيّاته جميعا.

ويشهد بوحدانيته وبرسالة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ويصلي ويسلم على نبيّه ، ويرفع يديه متضرعا بالدعاء ليجعله في زمرة عباده الصالحين.

جميع هذه الأمور تمنح وجوده موجا من المعنوية ، وتكون سدا منيعا بوجه الذنوب.

ويتكرر هذا العمل عدة مرّات «ليل نهار» فحين ينهض صباحا يقف بين يدي ربّه وخالقه ليناجيه

__________________

(١) بيّنا الفرق بين الفحشاء والمنكر في تفسير الآية (٩٠) من سورة النحل في عبارة موجزة ، وقلنا : إنّه يمكن التفريق بينهما بأن الفحشاء هي إشارة للذنوب الكبيرة الخفية ، وأمّا المنكر فهو الذنوب الكبيرة الظاهرة ، أو أن الفحشاء هي الذنوب التي تنتج بغلبة القوى الشهوانية ، والمنكر من أثر القوى الغضبية.

٤٠٠

وعند منتصف النهار وبينما هو غارق في حياته المادية يفاجأ بصوت تكبير المؤذن ، فيقطع عمله ويسرع إلى حضرته ، بل في آخر النهار بداية الليل أيضا وقبل أن يدلف إلى فراش الدعة والراحة ، يدعوه ويطلب منه حاجته ، ويجعل قلبه مركز أنواره.

وبغض النظر عن كل ما تقدم فإنّ الإنسان حين يتهيأ لمقدمات الصلاة ، يطهّر بدنه ويبعد عنه مسائل الحرام والغصب ، ويتجه إلى الحبيب ، فكلّ هذه الأمور لها تأثير رادع لنوازع الفحشاء والمنكر.

غاية ما في الأمر أنّ كل صلاة ـ بحسب شروط الكمال وروح العبادة لها ـ أثر رادع ناه عن الفحشاء والمنكر ، فتارة تنهى نهيا كليّا وأخرى جزئيا ومحدودا.

ولا يمكن لأحد أن يصلي ولا تدع الصلاة فيه أثرا حتى لو كانت الصلاة صورية ، وحتى لو كان ملوّثا بالذنب! وبالطبع فإنّ مثل هذه الصلاة قليلة الفائدة ومثل هؤلاء الأفراد لو لم يصلّوا صلاة كهذه لكانوا أسوأ ممّا هم عليه.

ولنوضّح أكثر فنقول : النهي عن الفحشاء والمنكر له سلسلة درجات ومراتب كثيرة ، وكل صلاة مع رعاية الشروط لها نسبة من هذه الدرجات.

وممّا بيّناه آنفا يتّضح أن تخبط بعض المفسّرين في تفسير هذه الآية ، وانتخاب تفسيرات غير مناسبة لا وجه له! وربّما فسّروها بتفسير غير مناسب ، لأنّهم رأوا بعض الناس يصلون ويرتكبون الذنوب ، ففسّروا الآية في معناها المطلق دون سلسلة المراتب ، وأخذوا يشكّون ويترددون ، فاختاروا طرقا أخرى في تفسير الآية.

فمنها ما قاله بعضهم : من أنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ما دام الإنسان مشغولا بها. وهذا كلام عجيب ، إذ لا تتميز الصلاة بهذا وحدها ، فكثير من الأعمال على هذه الشاكلة.

٤٠١

وقال بعضهم : إنّ أعمال الصلاة وأذكارها بمثابة عبارات وجمل ، كل جملة تنهى الإنسان عن الفحشاء والمنكر ، فمثلا كل من التكبير والتهليل والتسبيح كلّ منها يقول للإنسان : لا تذنب ولكن هل أنّ هذا الإنسان يصغي لهذا النهي أم لا فهذا أمر آخر.

ولكن من ذهب الى هذا التّفسير ، غفل عن هذه الحقيقة ، وهي أن النهي هنا ليس نهيا تشريعيا فحسب ، بل هو نهي تكويني ، فظاهر الآية أنّ الصلاة لها أثر ناه ، والتّفسير الأصيل هو ما قدمناه ذكره وبيانه آنفا.

وبالطبع فلا مانع من القول أنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر نهيا تكوينيا ونهيا تشريعيا أيضا.

«أحاديث» ينبغي الالتفات إليها

١ ـ في حديث عن النّبي الأكرم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ورد أنّه قال : «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلّا بعدا».(١)

٢ – وفي حديث آخر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أيضا : «لا صلاة لمن لم يطع الصلاة ، وطاعة الصلاة أن ينتهي عن الفحشاء والمنكر»(٢) .

٣ ـ كما نقرأ في حديث ثالث عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ شابا من الأنصار أدّى الصلاة معه ، ولكنّه كان ملوثا بالذنوب القبيحة ، فأخبروا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : «إن صلاته تنهاه يوما»(٣) .

٤ ـ هذا الأثر للصلاة له أهمية قصوى إلى درجة أنّنا نجده في الرّوايات الإسلامية معيارا لقبول الصلاة وعدمها ، إذ ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال :

__________________

(١) مجمع البيان ذيل الآية مح البحث «والحديث الثّاني يشعر بالنهي التشريعي».

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق.

٤٠٢

«من أحبّ أن يعلم أقبلت صلاته أم لم تقبل ، فلينظر هل منعت صلاته عن الفحشاء والمنكر؟! فبقدر ما منعته قبلت منه!»(١) .

ويقول القرآن تعقيبا على ما ذكره ومن شأن الصلاة( وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ ) .

وظاهر الجملة هو بيان غاية وحكمة أخرى في الصلاة ، أي أن أثرا آخر من آثار الصلاة وبركاتها أهم من كونها تنهى عن الفحشاء والمنكر هو تذكير الإنسان بربّه ، هذا الذكر هو أساس السعادة والخير ، بل العامل الأصلي للنهي عن الفحشاء والمنكر أيضا هو ذكر الله ، وكونه أكبر لأنّه العلّة والأساس للصلاة!.

وأساسا فإنّ ذكر الله فيه حياة القلوب ودعتها ، ولا شيء يبلغ مبلغه( أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) (٢) .

ولا ريب أنّ روح العبادة بجميع أقسامها ـ صلاة كانت أم غيرها ـ هو ذكر الله ، فأذكار الصلاة ، وأفعالها ومقدماتها ، جميعها في الواقع تحيي ذكر الله في قلب الإنسان.!

وممّا يلفت النظر أن في الآية (١٤) من سورة طه إشارة إلى هذه الحكمة الأساسية من الصلاة ، إذ نلاحظ فيها الخطاب لموسى قائلا :( وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ) .

إلّا أنّ المفسّرين الكبار ذكروا للجملة المتقدمة تفسيرات أخرى ، وقد ورد في الرّوايات الإسلامية إشارة إليها أيضا من ضمنها : إنّ المراد من الجملة المتقدمة ، أن ذكر الله لكم برحمته أكبر من ذكركم لله بطاعته(٣) .

ومنها : إنّ ذكر الله أكبر من الصلاة وأعلى ، لأنّ روح كل عبادة «ذكر الله».

وهذا التّفاسير التي ورد بعضها في الرّوايات الإسلامية ، ربّما كانت إشارة إلى

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) الرعد ، الآية ٢٨.

(٣) على ضوء هذا التّفسير يكون لفظ الجلالة «الله» فاعلا في المعنى ، وعلى التّفسير السابق يكون مفعولا.

٤٠٣

بطون الآية ، وإلّا فإنّ ظاهرها منسجم مع المعنى الأوّل ، لأنّه في أغلب الموارد التي يرد التعبير فيها بـ «ذكر الله» أو «ذكروا الله» أو «اذكروا الله» إلخ ، يقصد بها ذكر الناس لله!

والآية المذكورة آنفا ، يتداعى لها هذا المعنى ، إلّا أنّ ذكر الله لعباده يمكن أن يكون نتيجة مباشرة لذكر العباد لله ، وبهذا يرتفع التضاد بين المعنيين.

في حديث عن معاذ بن جبل أنّه قال : لا شيء من أعمال ابن آدم لنجاته من عذاب الله أكبر من ذكر الله ، فسألوه : حتى الجهاد في سبيل الله؟! فقال : أجل ، فالله يقول :( وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ ) .

والظاهر أنّ «معاذ بن جبل» سمع هذا الكلام من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : لأنّه نفسه ينقل إنّه سأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أيّ الأعمال أفضل؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله».

وحيث أنّ نيّات الناس ، وميزان حضور القلب منهم في الصلاة وسائر العبادات ، كل ذلك متفاوت جدّا ، فإنّ الآية تختتم بالقول :( وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ ) .

أي يعلم ما تصنعون من أعمال في الخفاء أو العلن ، والنيّات التي في قلوبكم أو الكلمات التي تجري على ألسنتكم!.

* * *

بحث

تأثير الصلاة في تربية الفرد والمجتمع :

بالرغم من أن فائدة الصلاة لا تخفى على أحد ، لكن التدقيق في متون الروايات الإسلامية يدلنا على لطائف ودقائق أكثر في هذا المجال!.

١ ـ إنّ روح الصلاة وأساسها وهدفها ومقدمتها ونتيجتها وأخيرا حكمتها

٤٠٤

وفلسفتها(١) ، هي ذكر الله ، كما بيّنت في الآية على أنّها أكبر النتائج.

وبالطبع فإنّ الذكر المراد هنا ، هو الذكر الذي يكون مقدمة للفكر ، والفكر الذي يكون باعثا على العمل ، كما ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام في تفسير جملة( وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ ) قال : «ذكر الله عند ما أحلّ وحرّم» أي على أن يتذكر الله فيتبع الحلال ويغضي أجفانه عن الحرام «بحار الأنوار ، ج ٨٢ ، ص ٢٠٠».

٢ ـ إنّ الصلاة وسيلة لغسل الذنوب والتطهر منها ، وذريعة إلى مغفرة الله ، لأنّ الصلاة ـ كيف ما كانت ـ تدعوا الإنسان إلى التوبة وإصلاح الماضي ، ولذلك فإننا نقرأ في حديث عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ سأل بعض أصحابه : «لو كان على باب دار أحدكم نهر واغتسل في كل يوم منه خمس مرات أكان يبقي في جسده من الدرن شيء؟! قلت لا ، قال : فإنّ مثل الصلاة كمثل النهر الجاري كلما صلّى كفرت ما بينهما من الذنوب»(٢) .

وعلى هذا فإنّ الجراح التي تخلفها الذنوب في روح الإنسان ، وتكون غشاوة على قلبه ، تلتئم بضماد الصلاة وينجلي بها صدأ القلوب!

٣ ـ إنّ الصلوات سدّ أمام الذنوب المقبلة ، لأنّ الصلاة تقوي روح الإيمان في الإنسان ، وتربّي شجيرة التقوى في قلب الإنسان ، ونحن نعرف أن الإيمان والتقوى هما أقوى سدّ أمام الذنوب ، وهذا هو ما بيّنته الآية المتقدمة عنوان «النهي عن الفحشاء والمنكر» ، وما نقرؤه في أحاديث متعددة من أن أفرادا كانوا مذنبين ، فذكر حالهم لأئمّة الإسلام فقالوا : لا تكترثوا فإنّ الصلاة تصلح شأنهم وقد أصلحتهم.

٤ ـ إن الصلاة توقظ الإنسان من الغفلة ، وأعظم مصيبة على السائرين في طريق الحقّ أن ينسوا الهدف من إيجادهم وخلقهم ، ويغرقوا في الحياة المادية

__________________

(١) «الفلسفة» كلمة يونانية معناها «الحكمة» فهي ليست عربية لكنّها شاعت في العربية أيضا.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ٣ ، ص ٧ (الباب الثّاني من أبواب أعداد الفرائض الحديث ٣).

٤٠٥

ولذائذها العابرة!

إلّا أنّ الصلاة بما أنّها تؤدى في أوقات مختلفة ، وفي كل يوم وليلة خمس مرات ، فإنّها تخطر الإنسان وتنذره ، وتبيّن له الهدف من خلقه ، وتنبهه إلى مكانته وموقعه في العالم بشكل رتيب ، وهذه نعمة كبرى للإنسان بحيث أنّها في كل يوم وليلة تحثه وتقول له : كن يقظا.

٥ ـ إنّ الصلاة تحطّم الأنانية والكبر ، لأنّ الإنسان في كلّ يوم وليلة يصلي سبع عشرة ركعة ، وفي كل ركعة يضع جبهته على التراب تواضعا لله ، ويرى نفسه ذرة صغيرة أمام عظمة الخالق ، بل يرى نفسه صفرا بالنسبة إلى ما لا نهاية له!.

ولأمير المؤمنين عليعليه‌السلام كلام معروف تتجسد فيه ، فلسفة العبادات الإسلامية بعد الإيمان بالله ، فبيّن أوّل العبادات وهي الصلاة مقرونة بهذا الهدف إذ قال : «فرض الله الإيمان تطهيرا من الشرك ، والصلاة تنزيها عن الكبر»(١) .

٦ ـ الصلاة وسيلة لتربية الفضائل الخلقية والتكامل المعنوي للإنسان ، لأنّها تخرج الإنسان عن العالم المحدود وتدعوه إلى ملكوت السماوات ، وتجعله مشاركا للملائكة بصوته ودعائه وابتهاله ، فيرى نفسه غير محتاج إلى واسطة إلى الله أو أن هناك «حاجبا» يمنعه فيتحدث مع ربّه ويناجيه!.

إن تكرار هذا العمل في اليوم والليلة ـ وبالاعتماد على صفات الله الرحمن الرحيم العظيم ، خاصة بالاستعانة بسور القرآن المختلفة بعد سورة الحمد التي هي خير محفّز للصالحات ، والطهارة ـ له الأثر في تربية الفضائل الخلقية في وجود الإنسان!

لذلك نقرأ في تعبير الإمام علي أمير المؤمنينعليه‌السلام عن حكمتها قوله : «الصلاة قربان كل تقيّ!»(٢) .

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ٢٥٢.

(٢) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الجملة ١٣٦.

٤٠٦

٧ ـ إن الصلاة تعطي القيمة والروح لسائر أعمال الإنسان ؛ لأنّ الصلاة توقظ في الإنسان روح الإخلاص فهي مجموعة من النية الخالصة والكلام الطاهر «الطيب» والأعمال الخالصة وتكرار هذه المجموعة في اليوم والليلة ينثر في روح الإنسان بذور سائر الأعمال الصالحة ويقوّي فيه روح الإخلاص.

لذلك فإنّنا نقرأ في بعض ما روي عن أمير المؤمنينعليه‌السلام في ضمن وصاياه المعروفة بعد أن ضربه ابن ملجم بالسيف ففلق هامته ، أنّه قال : «الله الله في صلاتكم فإنها عمود دينكم»(١) .

ونعرف أنّ عمود الخيمة إذا انكسر أو هوى ، فلا أثر للأوتاد والطنب مهما كانت محكمة فكذلك ارتباط عباد الله به عن طريق الصلاة ، فلو ذهبت لم يبق لأي عمل آخر أثر.

ونقرأ عن الإمام الصادقعليه‌السلام قوله : «أوّل ما يحاسب به العبد الصلاة ، فإن قبلت قبل سائر عمله ، وإن ردّت ردّ سائر عمله!».

ولعل الدليل على هذا الحديث هو أن الصلاة رمز للعلاقة والارتباط بين الخالق والمخلوق! فإذا ما أدّيت بشكل صحيح ، وكان فيها قصد القربة والإخلاص «حيّا» كان وسيلة القبول لسائر الأعمال ، وإلّا فإنّ بقية أعماله تكون مشوبة وملوّثة وساقطة من درجة الاعتبار.

٨ ـ إنّ الصلاة ـ بقطع النظر ـ عن محتواها ، ومع الالتفات إلى شرائط صحتها ، فإنّها تدعوا إلى تطهير الحياة! لأنّنا نعلم أن مكان المصلي ، ولباس المصلي ، وبساطه الذي يصلي عليه ، والماء الذي يتوضأ به أو يغتسل منه ، والمكان الذي يتطهر فيه «وضوء أو غسلا» ينبغي أن يكون طاهرا من كل أنواع الغصب والتجاوز على حقوق الآخرين. فإنّ من كان ملوّثا بالظلم والغصب والبخس في الميزان والبيع وآكلا للرشوة ويكتسب أمواله من الحرام كيف يمكن له أن يهيء

__________________

(١) نهج البلاغة ، ومن كتاب له «وصية له» ٤٧.

٤٠٧

مقدمات الصلاة!؟ فعلى هذا فإنّ تكرار الصلاة خمس مرات في اليوم والليلة ـ هو نفسه ـ دعوة إلى رعاية حقوق الآخرين!

٩ ـ إنّ للصلاة ـ بالإضافة إلى شرائط صحتها ـ شرائط لقبولها ، أو بتعبير آخر :

شرائط لكمالها ، ورعايتها ـ أيضا ـ عامل مؤثر ومهم لترك كثير من الذنوب!.

وقد ورد في كتب الفقه ومصادر الحديث روايات كثيرة تحت عنوان موانع قبول الصلاة ، ومنها «شرب الخمر» إذ جاء في بعض الرّوايات : لا تقبل صلاة شارب الخمر أربعين يوما إلّا أن يتوب(١) .

كما نقرأ في روايات متعددة أنّ من جملة «من لا تقبل صلاته «الإمام الظالم»(٢) .

كما صرّح في بعض الرّوايات بأنّ الصلاة لا تقبل من «مانع الزكاة».

كما أنّ هناك بعض الرّوايات تقول : «إنّ الصلاة لا تقبل ممن يأكل السحت والحرام ، ولا ممن يأخذه العجب والغرور» وهكذا تتّضح الحكمة والفائدة الكبيرة من وجود هذه الشروط.

١٠ ـ إنّ الصلاة تقوي في الإنسان روح الانضباط والالتزام ، لأنّها ينبغي أن تؤدى في أوقات معينة ، لأنّ تأخيرها عن وقتها أو تقديمها عليه موجب لبطلانها.

وكذلك الآداب والأحكام الأخرى في موارد النية والقيام والركوع والسجود وما شابهها ، إذ أن رعايتها تجعل الاستجابة للالتزام في مناهج الحياة ممكنا وسهلا.

كل هذه من فوائد الصلاة ـ بغض النظر عن صلاة الجماعة ـ وإذا أضفنا إليها خصوصية الجماعة ، حيث أنّ روح الصلاة هي الجماعة ، ففيها بركات لا تحصى ولا تعدّ ، ولا مجال هنا لشرحها وبيانها ، مضافا الى أن الجميع يدرك خيراتها وفوائدها على الإجمال.

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٨٤ ، ص ٣١٧ و ٣٢٠.

(٢) بحار الأنوار ، ج ٨٤ ص ٣١٨.

٤٠٨

ونختم كلامنا في مجال حكمة الصلاة وفلسفتها وأسرارها بحديث جامع منقول عن الإمام الرضاعليه‌السلام إذ سئل عنها فأجاب بما يلي : «إن علة الصلاة أنّها إقرار بالربوبية للهعزوجل ، وخلع الأنداد ، وقيام بين يدي الجبار جل جلاله بالذل والمسكنة والخضوع والاعتراف ، والطلب للإقالة من سالف الذنوب ، ووضع الوجه على الأرض كل يوم إعظاما للهعزوجل وأن يكون ذاكرا غير ناس ولا بطر ، ويكون خاشعا متذللا ، راغبا طالبا للزيادة في الدين والدنيا مع ما فيه من الإيجاب والمداومة على ذكر اللهعزوجل بالليل والنهار ، لئلا ينسى العبد سيده ومديره وخالقه فيبطر ويطغى ، ويكون في ذكره لربّه وقيامه بين يديه زاجرا له عن المعاصي ومانعا له عن أنواع الفساد».(١)

* * *

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٣ ، ص ٤.

٤٠٩
٤١٠

بداية الجزء الحادي والعشرون

من

القرآن الكريم

ويبدأ من بداية الآية ست وأربعون

سورة العنكبوت

٤١١
٤١٢

الآيات

( وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (٤٧) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (٤٩) )

التّفسير

اتّبعوا أحسن الأساليب في البحث والجدال :

كان أكثر الكلام في الآيات المتقدمة في كيفية التعامل مع المشركين المعاندين وكان مقتضى الحال أن يكون الكلام شديد اللهجة حادّا ، وأن يعدّ ما يعبدون من دون الله أوهى من بيت العنكبوت ، أمّا في هذه الآيات ـ محل البحث ـ فيقع الكلام في شأن مجادلة أهل الكتاب الذين ينبغي أن يكون الكلام معهم لطيفا ، إذ أنّهم ـ على الأقل ـ قد سمعوا قسما ممّا جاء به الأنبياء والكتب

٤١٣

السماوية ، ولديهم استعداد أكثر للتعامل المنطقي ، إذ ينبغي أن يكلم كل شخص بمقدار علمه وعقله وأخلاقه.

فيقول القرآن في هذا الصدد :( لا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (١) .

«تجادلوا» مشتق من «جدال» ومعناه في الأصل فتل الحبل وإحكامه ، كما تستعمل هذه المفردة في البناء المحكم وما أشبهه ، وحين يتناقش اثنان في بحث معين فكل واحد منهما ـ في الحقيقة ـ يريد أن يلوي صاحبه عن عقيدته وفكرته لذا فقد سمّي هذا النقاش جدالا. كما يرد هذا التعبير في النزاع أيضا ، وعلى كل حال فإنّه المراد من قوله( وَلا تُجادِلُوا ) المناقشات المنطقية.

والتعبير بـ( بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) تعبير جامع يشمل الأساليب والطرق الصحيحة والمناسبة للتباحث أجمع ، سواء كان ذلك في الألفاظ أو المحتوى ، وسواء كان في طريقة الكلام ، أو الحركات والإشارات المصاحبة له.

فعلى هذا يكون مفهوم الجملة المتقدمة : إنّ ألفاظكم ينبغي أن تكون بطريقة مؤدبة ، والكلام ذا مودّة ، والمحتوى مستدلا ، وصوتكم هادئا غير خشن ، ولا متجاوزا لحدود الأخلاق أو لهتك الحرمة ، وكذلك بالنسبة لحركات الأيدي والعيون والحواجب التي تكمل البيان ، ينبغي أن تكون هذه الحركات ضمن هذه الطريقة المؤدبة وكم هو جميل هذا التعبير القرآني ، إذ أوجز عالما من المعاني الدقيقة في جملة قصيرة.

كل هذه الأمور لأجل أن الهدف من وراء النقاش والبحث ليس هو طلب التفوق ودحر الطرف الآخر ، بل الهدف أن يكون الكلام حتى ينفذ في القلب وفي أعماق الطرف الآخر وخير السبل للوصول إلى هذا الهدف هو هذا الأسلوب القرآني.

__________________

(١) «التي» هنا صفة لموصوف محذوف تقديره الطريقة أو ما شاكلها

٤١٤

وكثيرا ما يتفق أنّه لو استطاع الإنسان أن يبيّن قول الحق بصورة يراه الطرف الآخر متطابقا لفكره ورأيه ، فسرعان ما ينعطف إليه وينسجم معه ، لأنّ الإنسان ذو علاقة بفكره كعلاقته بأبنائه.

وهكذا فإنّ القرآن الكريم يثير الكثير من المسائل على صورة «السؤال والاستفهام» لينتزع جوابه من داخل فكر المخاطب فيراه منه!

وبالطبع فإنّ لكل قانون استثناء ، ومنها هذا القانون أو الأصل الكلي في البحث والمجادلة الإسلامية ، فقد يعدّ في بعض الموارد ضعفا ، أو يكون الطرف الآخر مغرورا الى درجة أن هذا التعامل الإنساني يزيده جرأة وعدوانا وتكبرا ، لذلك فإنّ القرآن يضيف مستثنيا :( إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ) .

وهم الذين ظلموا أنفسهم وظلموا الآخرين ، وكتموا كثيرا من الآيات ، لئلا يطلع الناس على أوصاف النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

الظالمون الذين جعلوا أوامر الله التي لا تنسجم مع منافعهم الشخصية تحت أقدامهم.

الظالمون الذين آمنوا بالخرافات فكانوا كالمشركين في عقيدتهم إذ قالوا : إن المسيح ابن الله ، أو العزير ابن الله.

وأخيرا فهم أولئك الذين ظلموا وتذرعوا بالسيف والقوّة بدلا من البحث المنطقي ، وتوسّلوا بالشيطنة والتآمر على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى الإسلام.

ويختتم الآية بمصداق بارز من «المجادلة بالتي هي أحسن» ويمكنه أن يكون قدوة لأي بحث ؛ فيقول القرآن الكريم :( وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) .

كم هو جميل هذا التعبير! وكم هو رائع هذا النغم واللهجة! لهجة الوحدة والإيمان بكل ما أنزل الله الواحد ، وحذف جميع العصبيّات ، ونحن وأنتم جميعا موحدون لله مسلمون له.

٤١٥

وهذا مثل واحد من المجادلة بالتي هي أحسن التي ينجذب إليها كل من يسمعها ، ويدلّ على أن الإنسان يجب أن يكون بعيدا عن التحزب أو طلب التفرقة ، فنداء الإسلام هو نداء الوحدة والتسليم لكل كلام حق.

وأمثلة هذا البحث كثيرة في القرآن ، ومن ضمنها ما أشار إليه الإمام الصادقعليه‌السلام إذ قال : «أمّا الجدال بالتي هي أحسن فهو ما أمر الله تعالى نبيّه أن يجادل به من جحد البعث بعد الموت وإحياءه له ، فقال الله حاكيا عنه : قل (يا محمّد)»( يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ) (١) .

والآية الأخرى تؤكّد على الأصول الأربعة التي سبق ذكرها في الآية المتقدمة ، فتقول :( وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ ) أي القرآن.

أجل نزل هذا القرآن على أساس توحيد المعبود ، وتوحيد دعوة جميع الأنبياء إلى الحق ، والتسليم دون قيد أو شرط لأمر الله ؛ والمجادلة بالتي هي أحسن!.

قال بعض المفسّرين : إنّ المراد من جملة( وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ ) هو تشبيه نزول القرآن على النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله أي كما أنزلنا كتبا من السماء على الأنبياء الماضين ، فكذلك أنزلنا إليك الكتاب!.

إلّا أنّ التّفسير السابق يبدو أكثر دقّة ، وإن كان الجمع بين التّفسيرين ممكنا أيضا.

ثمّ يضيف القرآن الكريم :( فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ) ويعتقدون بصدقه إذ أنّهم وجدوا علائمه في كتبهم ، كما أن محتواه من حيث الأصول العامّة والكلية منسجم مع كتبهم!.

ومن المعلوم أن جميع أهل الكتاب (اليهود والنصارى) لم يؤمنوا بنبوّة

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١٦٣.

٤١٦

محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله «نبي الإسلام» فتكون هذه الجملة في خصوص تلك الجماعة المؤمنة منهم ، والتي تبتغي الحق دون تعصب ، فتكون جديرة أن يطلق عليها «أهل الكتاب».

ويضيف القرآن بعدئذ :( وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ ) (١) أي أهل مكّة والمشركون العرب.

ثمّ يقول القرآن في كفر الطائفتين من اليهود والنصارى( وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ ) .

ومع الالتفات إلى أنّ مفهوم الجحود ، هو أن يعتقد الإنسان بشيء بقلبه وينكره بلسانه ، فإنّ مفهوم الجملة المتقدمة أن الكفار يعترفون في قلوبهم بعظمة هذه الآيات ، ويرون علامات الصدق عليها ، ومنهج النّبي وطريقته وحياته النقية ، وأن أتباعه هم المخلصون ، ويعدّون كل ذلك دليلا على أصالته ، إلّا أنّهم ينكرون ذلك عنادا وتعصبا ، وتقليدا أعمى لأسلافهم ولآبائهم ، ولحفظ منافعهم الشخصية.

وعلى هذا فإنّ القرآن يحدد مواقف الأمم المختلفة إزاء هذا الكتاب ويصنفهم إلى قسمين :

فقسم هم أهل الإيمان ، سواء من علماء اليهود والنصارى ، أو المؤمنين بصدق ، أو المشركين العطاشى إلى الحقّ الذين عرفوا الحق فتعلقت قلوبهم به.

وقسم آخر هم المنكرون المعاندون ، الذين رأوا الحق إلّا أنّهم أنكروه وأخفوا أنفسهم عنه كالخفاش ، لأنّ ظلمة الكفر كانت جزءا من نسيج وجودهم ، فهم يستوحشون من نور الإيمان.

__________________

(١) قال بعض المفسّرين : إنّ جملة «الذين آتيناهم الكتاب» إشارة إلى المسلمين ، وجملة «مِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ » إشارة إلى أهل الكتاب ، إلّا أنّ هذا التّفسر بعيد ـ كما يبدو ـ جدّا لأنّ التعبير بـ( فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ ) وما شابهه لم يأت في القرآن ـ بحسب الظاهر ـ إلّا في خصوص اليهود والنصارى.

٤١٧

وممّا ينبغي الالتفات إليه أنّ هذا القسم ـ أو هذا الطائفة ـ كانوا كفرة من قبل ، ولكن التأكيد على كفرهم ممكن أيضا ، وذلك لأنّهم لم تتمّ الحجّة عليهم من قبل ، ولكنّهم بعد أن تمّت عليهم الحجّة ، فقد أصبحوا كافرين كفرا حقيقتا ، وحادوا بعلمهم واطلاعهم عن الصراط المستقيم ، وخطوا في دروب الضلال!.

ثمّ يضيف القرآن مشيرا إلى علامة أخرى من علائم حقانية دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الجلية والواضحة ، وهي تأكيد على محتوى الآية السابقة ، فيقول :( وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ ) وقالوا إنّ ما جاءنا به هذا النّبي هو حصيلة مطالعاته لكتب الماضين.

ومعنى هذه الآية أنّك لم تذهب إلى مدرسة قط ، ولم تكتب من قبل كتابا قط ، لكنّك باشارة من وحي السماء أصبحت تعرف المسائل أفضل من مائة مدرس!.

كيف يمكن أن يصدق أن شخصا لم يقرأ كتابا ولم ير أستاذا ولا مدرسة ، أن يأتي بكتاب يتحدى به جميع البشر أن يأتوا بمثله ، فيعجز جميعهم عن الإتيان بما طلب.

أليس هذا دليلا على أن قوّتك تستمدّ من قوة الخالق غير المحدودة ، وأن كتابك وحي السماء ألقاه الله إليك؟!

وينبغي الإشارة إلى أنّه لو سأل سائل : من أين نعرف أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يذهب إلى مدرسة قط؟!.

فنجيب أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد عاش في بيئة المثقفون والمتعلمون فيها معدودون ومحدودون حتى قيل أن ليس في مكّة أكثر من سبعة عشر رجلا يجيدون القراءة والكتابة ، ففي مثل هذا المحيط وهذه البيئة ، لو قدّر لأحد أن يمضي إلى المدرسة فيتعلم القراءة والكتابة ، فمن المستحيل أن يكون مجهولا ، بل يكون معروفا في كل مكان. كما يعرف الناس أستاذه ودرسه أيضا.

فكيف يمكن لمثل هذا الشخص أن يدعي أنّه نبيّ صادق ومع ذلك يكذب

٤١٨

هذه الكذبة المفضوحة والمكشوفة؟ خاصة أن هذه الآيات نزلت في مكّة ، مهد نشأة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وكذلك في قبال الأعداء الألدّاء الذين لا تخفى عليهم أقل نقطة ضعف!!.

وفي الآية التالية علامة أخرى أيضا على حقانية القرآن ، إذ تقول :( بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) .

والتعبير بـ «الآيات البينات» كاشف عن هذه الحقيقة وهي أن دلائل حقانية القرآن تتجلى بنفسها عيانا ، وتشرق في أرجائه ، فدليلها معها.

وفي الحقيقة ، إنّها مثل الآيات التكوينية التي تجعل الإنسان يذعن بحقيقتها عند مطالعتها دون حاجة إلى شيء آخر ، هذه الآيات التشريعية ـ أيضا ـ من حيث ظاهرها ومحتواها كذلك ، إذ هي دليل على صدقها.

ثمّ بعد هذا كلّه ، فإنّ أتباع هذه الآيات وطلابها المشدودة قلوبهم إليها هم أولوا العلم والاطلاع ، بالرغم من أن أيديهم خالية وأرجلهم حافية!.

وبتعبير أوضح : إنّ واحدا من طرق معرفة أصالة مذهب ما دراسة حال المؤمنين به ، فإذا كان الجهال المحتالون قد التفوا حول الشخص ، فهو أيضا من نسيجهم ، ولكن إذا كان من التفّ حول الشخص هم الذين امتلأت صدورهم بأسرار العلوم وهم أوفياء له ، فيكون هذا الأمر دليلا على حقانية ذلك الشخص ، ونحن نرى أن جماعة من علماء أهل الكتاب ، ورجالا متقين أمثال أبي ذر وسلمان والمقداد وعمار بن ياسر ، وشخصية كبيرة كعلي بن أبي طالبعليه‌السلام ، هم حماة هذا المبدأ.

وفي روايات كثيرة منقولة عن أهل البيتعليهم‌السلام ، إنّ المراد بالذين أوتوا العلم هم الأئمّة من أهل البيتعليهم‌السلام وطبعا فليس هذا المعنى منحصرا فيهم ، بل هم المصداق الجلي لهذه الآية(١) .

__________________

(١) هذه الرّوايات وردت في تفسير البرهان الجزء الثالث ، ص ٢٥٤ فما بعد بشكل مفصل.

٤١٩

وإذا ما لاحظنا أن بعض الرّوايات تصرّح أنّ المراد من هذه العبارة المتقدمة هم الأئمّةعليهم‌السلام ، فإنّ ذلك في الحقيقة إشارة إلى المرحلة الكاملة لعلم القرآن الذي عندهم ، ولا يمنع أن يكون للعلماء بل لعامّة الناس الذين لهم نصيب من الفهم ، أن يحظوا بقسط من علوم القرآن أيضا.

كما أنّ هذه الآية تدلّ ضمنا على أن العلم ليس منحصرا بالكتاب ، أو بما يلقيه الأستاذ على تلاميذه لأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ طبقا لصريح الآيات المتقدمة ـ لم يدرس في مدرسة ولم يكتب من قبل كتابا إلّا أنّه كان خير مصداق للذين «أوتوا العلم».

فإذا فما وراء العلم «الرسمي» الذي نعهده ، علم أوسع وأعظم ، وهو علم يأتي من قبل الله تعالى على شكل نور يقذف في قلب الإنسان ، كما ورد في الحديث «العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء». وهذا هو جوهر العلم ، أمّا ما سواه فهو الصدف والقشر!

وتختتم الآية بقوله تعالى :( وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ ) لأنّ دليلها واضح ، فالنّبي الأمّيّ الذي لم يقرأ ولم يكتب ، هو الذي جاء بها والعلماء المطلعون هم المؤمنون بها.

ثمّ بعد هذا كلّه ، فإنّ الآيات نفسها مجموعة من الآيات البينات «كلمات ذوات محتوى جلي مشرق».

وقد وردت علائمها في الكتب المتقدمة.

ومع كل هذا ترى هل ينكر هذه الآيات إلّا الذين ظلموا أنفسهم وظلموا مجتمعهم «ونكرر أن التعبير بـ «بالجحد» يكون في مورد ما لو أن الإنسان يعتقد بالشيء وينكره على خلاف ما يعلمه»!.

* * *

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592